أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى9%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65917 / تحميل: 9856
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وليس الّذي استبعدوه وأنكروه ببعيد ولا منكر، لأن النسيان قد يخص شيئا دون شيء، ويتعلّق بجهة دون جهة، وهذا أمر متعارف، فلا ينكر أن ينسى الإنسان شيئا قصده وعزم على الكلام فيه، ويكون مع ذلك ذاكرا لغيره، متكلّما فيه بأبلغ الكلام وأحسنه، بل ربما كان الحصر والذّهاب عن القصد يحميان القريحة، ويوقدان الفكرة، ويبعثان على أحسن الكلام وأبرعه، ليكون ذلك هربا من العي وانتفاء من اللّكنة.

ومن أحسن ما روي من الكلام وأبرعه في حال الحصر والانقطاع عن المقصود من الكلام ما أخبرني به أبو عبيد الله المرزباني قال حدثنا ابن دريد قال حدثنا أبو حاتم.

قال المرزباني: وأخبرنا ابن دريد مرة أخرى قال حدثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي قالا: صعد خالد بن عبد الله القسري(١) يوما المنبر بالبصرة فأرتج عليه، فقال: (أيها الناس، إن الكلام - وقال أبو حاتم: إن هذا القول - يجيء أحيانا، ويذهب أحيانا، فيتسبب عند مجيئه سببه، ويعزّ عند عز وبه طلبه، وربما كوبر فأتى، وعولج فأبطأ وقال ابن الكلبي: ربما طلب فأبى، وعولج فقسا - فالتّأتي لمجيئه أصوب من التعاطي لأبيّه). ثم نزل. فما رؤي حصر أبلغ منه.

وقال أبو حاتم: (والتّرك لأبيّه أفضل من التعاطي لمجيئه، وتجاوزه عند تعززه أولى من طلبه عند تنزّحه؛ وقد يختلج من الجريء جنانه، ويرتج على البليغ لسانه)، ثم نزل.

وأخبرنا بهذا الخبر أبو عبيد الله المرزباني على وجه آخر قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة الواسطي قال: كان خالد بن عبد الله القسري حين ولاّه هشام بن عبد الملك يكثر الخطب والتبالغ، فقدم واسطا، فصعد المنبر فحاول الخطبة فأرتج عليه، فقال: (أيها الناس، إن هذا الكلام يجيء أحيانا ويعزب أحيانا، فيعز عند عزوبه طلبه؛ ويتسبب عند مجيئه سببه، وربما كوثر فأبى، وعوسر فقسا، والتأتّي لمجيئه أسهل من التعاطي لأبيه؛ وتركه عند تعزّزه(٢) أحمد من طلبه

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (القسري: منسوب إلى قسر، وهي قرية من قرى العرب).

(٢) ف: (تعذره).

١٠١

عند تنكّره، فقد يرتج على اللسن لسانه، فلا ينظره القول إذا اتسع، ولا ينشأ إذا امتنع، ومن لم تمكن له الخطوة، فخليق أن تعنّ له النّبوة).

وأخبرنا المرزباني قال أخبرنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة قال حدثني أبو العباس المنصوري قال: صعد أبو العباس السفّاح المنبر فأرتج عليه فقال: (أيها الناس، إنما اللسان بضعة من الإنسان، يكلّ إذا كلّ، وينفسح بانفساحه إذا انفسح، ونحن أمراء الكلام، منّا تفرعت فروعه، وعلينا تهدّلت غصونه، ألا وإنّا لا نتكلم هذرا؛ ولا نسكت إلا معتبرين).

ثم نزل.

فبلغ ذلك أبا جعفر فقال: للّه هو! لو خطب بمثل ما اعتذر لكان من أخطب الناس.

وهذا الكلام يروى لداود بن علي.

وبهذا الإسناد عن محمد بن الصباح عن قثم بن جعفر بن سليمان عن أبيه قال: أراد أبو العباس السفّاح يوما أن يتكلم في أمر من الأمور بعد ما أفضت الخلافة إليه، وكان فيه حياء مفرط فأرتج عليه، فقال داود بن عليّ بعد أن حمد الله وأثنى عليه:

إن أمير المؤمنين، الّذي قلّده الله سياسة رعيته عقل من لسانه عند ما تعهّد من بيانه، ولكل مرتق بهر، حتى تنفّسه العادات، فأبشروا بنعمة الله في صلاح دينكم، ورغد عيشكم).

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال حدثنا عبد الله بن إسحاق بن سلاّم قال: صعد عثمان بن عفان المنبر فأرتج عليه فقال: (أيها الناس، سيجعل الله بعد عسر يسرا، وبعد عي نطقا، وإنكم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال).

وروى محمد بن يزيد النحوي هذا الكلام بعينه عن زياد بن يزيد بن أبي سفيان(١) وقد

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (يزيد بن أبي سفيان) ؛ وفيهما أيضا. (يزيد بن أبي سفيان يقال له: يزيد الخير؛ واستعمله أبو بكر على الشام، ثم أقره عمر بعده؛ ومات بالشام وهو عامل عمر في طاعون عمواس في سنة ثماني عشرة؛ فولى عمر أخاه معاوية ما كان يليه، ولا عقب له).

١٠٢

خطب على بعض منابر الشام وإن عمرو بن العاص لما بلغه كلامه قال: هنّ مخرجاتي من الشام؛ استحسانا لكلامه.

وروى محمد بن يزيد النحوي قال: بلغني أن رجلا صعد المنبر أيام يزيد - وكان واليا على قوم - فقال لهم: (أيها الناس، إني إلاّ أكن فارسا طبّا بهذا القرآن فإن معي من أشعار العرب ما أرجو أن يكون خلفا منه، وما أساء القائل أخو البراجم(١) حيث يقول:

وما عاجلات الطّير يدنين للفتى

رشادا، ولا من ريثهنّ يخيب(٢)

وربّ أمور لا تضيرك ضيرة

وللقلب من مخشاتهنّ وجيب(٣)

ولا خير فيمن لا يوطّن نفسه

على حادثات الدّهر حين تنوب(٤)

وفي الشّكّ تفريط، وفي الحزم قوّة

ويخطي الفتى في حدسه ويصيب(٥)

فقال له رجل من كلب: إنّ هذا المنبر لم ينصب للشعر، بل ليحمد الله عليه ويصلّي على النبي صلّى الله عليه وآله وللقرآن، فقال: أما لو أنشدتكم شعر رجل من كلب لسرّكم، فكتب إلى يزيد بذلك فعزله، وقال: قد كنت أرى أنك جاهل، ولم أحسب أنّ الحمق بلغ بك هذا كلّه، فقال له: أحمق منّي من ولاّني.

____________________

(١) الأبيات في الكامل ٣: ٢٠١ - بشرح المرصفي؛ ونسبها إلى ضابئ بن الحارث البرجمى؛ وقبلها:

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيار بها لغريب

(٢) رواية الكامل:

وما عاجلات الطّير تدنين من الفتى

نجاحا ولا عن ريبهنّ يخيب

قال المبرد في شرح البيت:" يقول: إذا لم تعجل له طير سانحة فليس ذلك بمبعد خيرا عنه، ولا إذا أبطأت خاب؛ فعاجلها لا يأتيه بخير، وآجلها لا يدفعه عنه إنما له ما قدّر له؛ والعرب تزجر على السانح وتتبرك به، وتكره البارح وتتشاءم به؛ والسانح ما أراك ميامنه فأمكن الصائد، والبارح ما أراك مياسره فلم يمكن الصائد إلا أن ينحرف له".

(٣) المخشاة كالمخشية: مصدر خشية يخشاه، ووجيب القلب:

خفقانه واضطرابه.

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (حيث تنوب).

(٥) وبعده:

ولست بمستبق صديقا ولا أخا

إذا لم تعدّ الشيء وهو يريب

١٠٣

وكان يزيد بن المهلب(١) ولى ثابت قطنة بعض قرى خراسان، فصعد المنبر فحصر فنزل وهو يقول:

فإلاّ أكن فيكم خطيبا فإنني

بسيفي إذا جدّ الوغى لخطيب

فقيل: لو قلت هذا على المنبر لكنت أخطب الناس؛ فبلغ ذلك حاجب(٢) الفيل فقال:

أبا العلاء لقد لاقيت معضلة

يوم العروبة من كرب وتحنيق

أما القران فلا تهدى لمحكمه

ولم تسدّد من الدّنيا بتوفيق

لمّا رمتك عيون النّاس هبتهم

وكدت تشرق لمّا قمت بالريق

تلوى اللّسان إذا رمت الكلام به

كما هوى زلق من حالق نيق(٣)

وروي أن بعض خلفاء بني العباس - وأظنه الرشيد - صعد المنبر ليخطب، فسقطت ذبابة على وجهه فطردها، فعادت فحصر وأرتج عليه، فقال: أعوذ بالله السميع العليم:( ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) [الحج: ٧٣]، ثم نزل، فاستحسن ذلك منه.

ومما يشاكل هذه الحكاية ما حكاه عمرو بن بحر الجاحظ قال:" كان(٤) لنا بالبصرة قاض يقال له عبد الله بن سوّار لم ير الناس حاكما قطّ [و لا زمّيتا](٥) ، ولا ركينا(٦) ، ولا وقورا، ضبط من نفسه، وملك من حركته مثل الّذي ضبط وملك؛ وكان يصلي الغداة

____________________

(١) الخبر في الأغاني ١٣: ٤٧ - ٤٨.

(٢) اسمه حاجب بن دينار المازني؛ ذكره الجاحظ في الحيوان ١: ١٩١، والبيتان ٢: ١٨٣.

(٣) د، ف، حاشية الأصل (من نسخة): (من جانبي نيق). ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف أيضا: (من جانب النيق)، والنيق: أعلى الجبل.

(٤) الحيوان ٣: ٣٤٣، ونقله الثعالبي في ثمار القلوب ٣٩٦ - ٣٩٧.

(٥) زيادة من م؛ وهي توافق ما في الحيوان والزميت، كسكيت العظيم الوقار.

(٦) الركين: الرزين.

١٠٤

في منزله وهو قريب الدار من مسجده، فيأتي مجلسه، فيحتبي ولا يتّكئ، ولا يزال منتصبا لا يتحرّك له عضو، ولا يلتفت، ولا تحلّ حبوته(١) ، ولا يحوّل رجلا عن رجل، ولا يعتمد على أحد شقّيه، حتى كأنه بناء مبني أو صخرة منصوبة؛ فلا يزال كذلك؛ حتى يقوم لصلاة الظهر، ثم يعود إلى مجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة العصر، ثم يرجع إلى مجلسه(٢) ، فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثم ربما عاد إلى مجلسه(٣) ، بل كثيرا ما يكون ذلك إذا بقي عليه من قراءة العهد والشروط والوثائق، ثم يصلي العشاء(٤) وينصرف، لم يقم في تلك الولاية مرة واحدة إلى الوضوء، ولا احتاج إليه، ولا شرب ماء ولا غيره من الشراب، وكذلك كان شأنه في طوال الأيام وفي قصارها، وفي صيفها وشتائها، وكان مع ذلك لا يحرّك يدا(٥) ، ولا يشير برأسه؛ وليس إلا أن يتكلم ثم يوجز؛ ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة.

فبينما هو ذات يوم كذلك، وأصحابه حوله(٦) وفي السّماطين(٧) بين يديه إذ سقط على أنفه ذباب، فأطال السكوت والمكث، ثم تحوّل إلى مؤق(٨) عينه؛ فرام الصبر في سقوطه على المؤق وعلى عضّته، ونفاذ خرطومه؛ كما رام الصبر على سقوطه على أنفه، من غير أن يحرّك أرنبته، أو يغضّن وجهه؛ أو يذبّ بإصبعه؛ فلما طال عليه ذلك من الذباب وأوجعه وأحرقه وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل عنه أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح؛ فتنحى ريثما سكن جفنه.

ثم عاد إلى موقفه(٩) ثانيا، أشد من مرته الأولى، فغمس خرطومه في مكان قد كان أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزه عن الصبر في الثانية أقوى، فحرّك أجفانه، وزاد

____________________

(١) الحبوة، بالفتح وتضم: أن يجمع الرجل بين ظهره وساقيه بعمامة ونحوها.

(٢) الحيوان: (لمجلسه).

(٣) الحيوان: (إلى محله).

(٤) في ثمار القلوب: (العشاء الأخيرة).

(٥) الحيوان: (يده).

(٦) م: (حواليه) ؛ وهي رواية الحيوان.

(٧) السماط: الصف.

(٨) المؤق: طرف العين مما يلي الأنف.

(٩) د، ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (موقه)

١٠٥

في شدة الحركة(١) في تتابع الفتح والإطباق، فتنحّى عنه بقدر ما سكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، فما زال يلحّ عليه حتى استفرغ جهده(٢) ، وبلغ مجهوده، فلم يجد بدّا من أن يذبّ عنه بيده، ففعل ذلك وعيون القوم إليه يرمقونه، كأنهم لا يرونه، فتنحى عنه بمقدار ما ردّ يده، وسكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه؛ فألجأه إلى أن ذبّ عن وجهه بطرف كمه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك، وعلم أن ذلك كلّه بعين من حضر من أمنائه وجلسائه، فلما نظروا إليه قال: أشهد أن الذباب ألجّ(٣) من الخنفساء، وأزهى من الغراب، وأستغفر الله فما أكثر من أعجبته نفسه، فأراد الله أن يعرّفه من ضعفه ما كان عنه مستورا. وقد علمت أني كنت عند الناس من أرصن الناس، وقد غلبني وفضحني أضعف خلق الله، ثم تلا قول الله تعالى:( ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) ".

____________________

(١) الحيوان: (في فتح العين وتتابع الفتح).

(٢) م: (صبره). وهي رواية الحيوان وثمار القلوب.

(٣) في الثمار: (ألح)، بالحاء.

١٠٦

مجلس آخر

[٥٩]

تأويل آية :( وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) ؛ [البقرة: ٤٩].

فقال: ما تنكرون أن يكون في هذه الآية دلالة على إضافة الأفعال التي تظهر من العباد إليه تعالى، من وجهين: أحدهما أنه قال بعد ما تقدم من أفعالهم ومعاصيهم:( وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) فأضافها إلى نفسه، والثاني أنه أضاف نجاتهم من آل فرعون إليه فقال:( وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ ) ، ومعلوم أنهم هم الذين ساروا حتى نجوا؛ فيجب أن يكون ذلك السير من فعله على الحقيقة حتى تصح الإضافة.

الجواب، قلنا: أما قوله تعالى:( وَفِي ذلِكُمْ ) فهو إشارة إلى ما تقدّم ذكره من إنجائه لهم من المكروه والعذاب: وقد قال قوم: إنه معطوف على ما تقدّم من قوله تعالى:

( يابَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) ؛ [البقرة: ٤٧]، والبلاء هاهنا الإحسان والنعمة.

ولا شك في أن تخليصه لهم من ضروب المكاره التي عددها الله نعمة عليهم وإحسان إليهم؛ والبلاء عند العرب قد يكون حسنا، ويكون شيئا، قال الله تعالى:( وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً ) [الأنفال: ١٧]؛ ويقول الناس في الرجل إذا أحسن القتال والثبات في الحرب: قد أبلى فلان، ولفلان بلاء؛ والبلوى أيضا قد يستعمل في الخير والشر؛ إلا أن أكثر ما يستعملون البلاء الممدود في الجميل والخير، والبلوى المقصور في السوء

١٠٧

والشر، وقال قوم: أصل البلاء في كلام العرب الاختبار والامتحان، ثم يستعمل في الخير والشر؛ لأن الاختبار والامتحان قد يكون في الخير والشر جميعا، كما قال تعالى:

( وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ ) ؛ [الأعراف: ١٦٨]، يعني اختبرناهم، وكما قال تعالى:

( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) ؛ [الأنبياء: ٣٥]، فالخير يسمى بلاء، والشر يسمى بلاء؛ غير أن الأكثر في الشر أن يقال: بلوته أبلوه بلاء، وفي الخير: أبليته أبليه إبلاء وبلاء؛ وقال زهير في البلاء الّذي هو الخير:

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم

وأبلاهما خير البلاء الّذي يبلو(١)

فجمع بين اللغتين، لأنه أراد: فأنعم الله عليهما خير النعمة التي يختبر بها عباده. وكيف يجوز أن يضيف تعالى ما ذكره عن آل فرعون من ذبح الأبناء وغيره إلى نفسه، وهو قد ذمّهم عليه، ووبّخهم! وكيف يكون ذلك من فعله؛ وهو تعالى قد عدّ تخليصهم منه نعمة عليهم! وكان يجب على هذا أن يكون إنما نجاهم من فعله تعالى بفعله، وهذا مستحيل لا يعقل ولا يحصل؛ على أنّه يمكن أن ترد قوله: ذلِكُمْ إلى ما حكاه عن آل فرعون من الأفعال القبيحة؛ ويكون المعنى: في تخليته بين هؤلاء وبينكم، وتركه منعهم من إيقاع هذه الأفعال بكم بلاء من ربّكم عظيم؛ أي محنة واختبار لكم.

والوجه الأول أقوى وأولى، وعليه جماعة من المفسرين.

وروى أبو بكر الهذلي عن الحسن في قوله تعالى:( وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) ، قال: نعمة عظيمة؛ إذ أنجاكم من ذلك؛ وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس والسّدّيّ ومجاهد وغيرهم.

فأما إضافة النّجاة إليه وإن كانت واقعة بسيرهم وفعلهم؛ فلو دلّ على ما ظنّوه لوجب إذا قلنا: إنّ الرسول أنقذنا من الشّكّ، وأخرجنا من الضلالة إلى الهدى، ونجّانا من الكفر أن يكون فاعلا لأفعالنا.

وكذلك قد يقول أحدنا لغيره: أنا نجيتك من كذا وكذا، واستنقذتك وخلصتك،

____________________

(١) ديوانه: ١٠٩؛ والرواية فيه: (رأى الله بالإحسان.. )، وهي رواية الأصمعي.

١٠٨

ولا يريد أنّه فعل بنفسه فعله. والمعنى في ذلك ظاهر؛ لأن ما وقع بتوفيق الله تعالى ودلالته وهدايته ومعونته وألطافه قد يصح إضافته إليه فعلى هذا صحت إضافة النجاة إليه تعالى.

ويمكن أيضا أن يكون مضيفا لها من حيث ثبّط عنهم الأعداء، وشغلهم عن طلبهم؛ وكل هذا يرجع إلى المعونة؛ فتارة تكون بأمر يرجع إليهم، وتارة بأمر يرجع إلى أعدائهم.

فإن قيل: كيف يصحّ أن يقول:( وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ ) فيخاطب بذلك من لم يدرك فرعون ولا نجا من شره؟

قلنا: ذلك معروف مشهور في كلام العرب؛ وله نظائر؛ لأن العربي قد يقول مفتخرا على غيره: قتلناكم يوم عكاظ(١) وهزمناكم؛ وإنما يريد أنّ قومي فعلوا ذلك بقومك.

قال الأخطل يهجو جرير بن عطية:

ولقد سما لكم الهذيل فنالكم

بإراب حيث يقسّم الأنفالا(٢)

في فيلق يدعو الأراقم لم تكن

فرسانه عزلا ولا أكفالا(٣)

ولم يلحق جرير الهذيل؛ ولا أدرك اليوم الّذي ذكره؛ غير أنّه لما كان يوم من أيام قوم الأخطل على قوم جرير، أضاف الخطاب إليه وإلى قومه؛ فكذلك خطاب الله تعالى بالآية إنما توجّه إلى أبناء من نجّى من آل فرعون وأحلافهم. والمعنى: وإذ نجينا آباءكم وأسلافكم؛ والنعمة على السلف نعمة على الخلف.

***

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (عكاظ: سوق للعرب معروفة كانوا يجتمعون فيها فيتفاخرون).

(٢) ديوانه ٤٨ وفي حاشيتي الأصل، ف: (الهذيل بن هبيرة التغلبي، وكان غزا بني رباح يوم إراب؛ وإراب اسم ماء).

(٣) الأراقم: قبائل معروفة، والعزل: الضعفاء والأكفال: جمع كفل، وهو الّذي لا يثبت على ظهور الخيل؛ ومثله قول الشاعر:

ما كنت تلقى في الحروب فوارسي

ميلا إذا ركبوا ولا أكفالا

١٠٩

قال سيدنا أدام الله تمكينه: ومن أحسن الشعر في تعوّد الضيافة والأنس بها والاستمرار عليها قول حاتم بن عبد الله الطائي:

إذا ما بخيل القوم هرّت كلابه

وشقّ على الضّيف الغريب عقورها(١)

فإني جبان الكلب، بيتي موطّا

جواد إذا ما النّفس شحّ ضميرها

وإنّ كلابي مذ أقرّت(٢) وعوّدت

قليل على من يعترينا هريرها

أراد بقوله:

* قليل على من يعترينا هريرها*

أنها لا تهرّ جملة؛ ولذلك نظائر كثيرة، ومثله قوله تعالى:( فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ ) ؛ [البقرة: ٨٨] ومثل قوله: (فإني جبان الكلب) معنى ولفظا قول الشاعر:

وما يك في من عيب فإني

جبان الكلب مهزول الفصيل(٣)

وإنما أراد أني أوثر الضيف بالألبان ففصالي مهازيل.

ومثل اللفظ والمعنى(٤) قول أبي وجزة:

وآل الزّبير بنو حرّة

مروا بالسّيوف الصّدور الجنافا(٥)

____________________

(١) ديوانه: ١١٠؛ والفاضل والمفضول ٤٠ - ٤١، وفي د، ونسخة بحاشيتي الأصل، ف: (بخيل الناس) ؛ وهي راية الديوان.

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أقرت) ؛ بالفتح.

(٣) كتاب الصناعتين ٣٥١. والحيوان ١: ٣٨٤، والحماسة بشرح المرزوقي ١٦٥٠ من غير عزو.

(٤) من أبيات ستة مذكورة في الأغاني ١٢: ٢٥٢ (طبع دار الكتب المصرية)؛ وكان أبو وجزة متقطعا إلى آل الزبير؛ وإلى عبد الله بن عروة بن الزبير خاصة، وكان يفضل عليه ويقوم بأمره؛ ثم بلغه أن أبا وجزة أتى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب فمدحه ووصله؛ فاطرحه عبد الله بن عروة، وأمسك يده عنه؛ فلم يزل أبو وجزة يمدح آل الزبير ويستعطف ابن عروة؛ وهو يشيح عنه إلى أن قال فيه هذه الأبيات، فرضي عنه وعاد إلى صلته.

(٥) بعده.

سل الجرد عنهم وأيامها

إذا امتعطوا المرهفات الخفافا

امتعطوا: سلوا؛ ومنه ذئب أمعط، منسل من شعره -.

١١٠

يموتون والقتل من دأبهم

ويغشون يوم السّيوف السّيافا(١)

وأجبن من صافر كلبهم

وإن قذفته حصاة أضافا

يقول: أدركوا بسيوفهم ثاراتهم؛ فكأنهم شفوا وغر قلوبهم، وأزالوا ما كان فيها من الأحقاد.

ومعنى (مروا) استخرجوا كما ترى الناقة إذا أردت أن تحلبها لتدرّ. والجانف: المائل.

ثم قال: وإن مات بعضهم على فراشه فإن أكثرهم يموت مقتولا؛ لشجاعتهم وإقدامهم، فلذلك قال: (والقتل من دأبهم).

وجعل كلبهم جبانا لكثرة من يغشاهم ويطرقهم من النّزّال والأضياف فقد ألفتهم كلابهم وأنست بهم؛ فهي لا تنبحهم. وقيل أيضا: إنها لا تهرّ عليهم؛ لأنها تصيب مما ينحر لهم وتشاركهم فيه. ومعنى:

* وإن قذفته حصاة أضافا*

أي أشفق؛ وهذا تأكيد لجبنه؛ ويقال: أضاف الرجل من الأمر إذا أشفق منه.

ومعنى (وأجبن من صافر كلبهم) قد تقدم ذكره في الأمالي.

ومثله في المعنى:

يغشون حتى ما تهرّ كلابهم

لا يسألون عن السّواد المقبل(٢)

وقال المرار بن المنقذ العدوي:

أعرف الحقّ ولا أنكره

وكلابي أنس غير عقر(٣)

____________________

(١) رواية الأغاني:

يموتون والقتل داء لهم

ويصلون يوم السّياف السّيافا

وبعده:

إذا فرج القتل عن عيصهم

أبى ذلك العيص إلا التفافا

مطاعيم تحمد أبياتهم

إذا قنّع الشاهقات الطّخافا

قنعت: غطى رأسها. والطخاف: السحاب المرتفع.

(٢) البيت لحسان؛ ديوانه ٨٠.

(٣) من قصيدة مفضلية (٨٢ - ٩٣، طبعة المعارف).

١١١

لا ترى كلبي إلاّ آنسا

إن أتى خابط ليل لم يهرّ(١)

كثر النّاس فما ينكرهم

من أسيف يبتغي الخير وحرّ

الأسيف: العبد هاهنا -

وقال آخر:

إلى ماجد لا ينبح الكلب ضيفه

ولا يتأدّاه احتمال المغارم(٢)

معنى (يتأداه) يثقله؛ وأراد أن يقول: يتأوّده؛ فقلب.

وقال ابن هرمة:

وإذا أتانا طارق متنوّر

نبحت فدلّته عليّ كلابي(٣)

وفرحن إذ أبصرنه فلقينه

يضربنه بشراشر الأذناب(٤)

وإنما تفرح به، لأنها قد تعودت إذا نزلت الضيوف أن ينحر لهم فتصيب من قراهم.

ومثله له:

ومستنبح تستكشط الرّيح ثوبه

ليسقط عنه، وهو بالثّوب معصم(٥)

عوى في سواد اللّيل بعد اعتسافه

لينبح كلب، أو ليفزع نوّم(٦)

فجاوبه مستسمع الصّوت للقرى

له مع إتيان المهبّين مطعم

____________________

(١) خابط ليل: ضيف يسير على غير هدى.

(٢) البيت في اللسان (أود) من غير نسبة.

(٣) البيتان في الخزانة ٤: ٥٨٤.

(٤) حاشية الأصل: (شراشر الذنب: ذباذبه؛ وهي ما تدلى من شعر ذنبه)، ويقال: شرشر الكلب؛ إذا ضرب بذنبه.

(٥) حماسة أبي تمام - بشرح التبريزي ٤ - ١٣٦ - ١٣٧، والحيوان ١: ٣٧٧، والفاضل للمبرد ٣٧ - ٣٨، من غير عزو، والخزانة ٤: ٥٨٤. وكشط واستكشط بمعنى، والمعصم: المستمسك بالشيء.

(٦) الاعتساف: السير على غير هدى.

١١٢

يكاد إذا ما أبصر الضّيف مقبلا

يكلّمه من حبّه، وهو أعجم

أراد بقوله: (فجاوبه مستسمع الصوت) أنه جاوبه كلب. والمهبّون: الموقظون له ولأهله وهم الأضياف؛ وإنما كان له معهم مطعم، لأنه ينحر لهم ما يصيب منه.

وأراد بقوله:

* يكلّمه من حبّه وهو أعجم*

بصبصته وتحريكه ذنبه.

وأما قوله: (ليفزع نوّم) فإنما أراد ليعين(١) نوم، يقال: فزعت لفلان إذا أعنته(٢) .

ومعنى (عوى في سواد الليل) أنّ العرب تزعم أنّ ساري الليل إذا أظلم عليه وادلهمّ فلم يستبن محجة، ولم يدر أين الحلّة وضع وجهه على(٣) الأرض، وعوى عواء الكلب لتسمع(٤) ذلك الصوت الكلاب إن كان الحي قريبا منه فتجيبه، فيقصد الأبيات. وهذا معنى قوله أيضا: (ومستنبح)، أي ينبح نبح الكلاب(٥) .

____________________

(١) حاشية الأصل، ف (من نسخة): (ليغيث).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أغثته).

(٣) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (مع الأرض).

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (لتستمع).

(٥) حاشية الأصل: (مما يناسب هذا الفن قول امرأة من بني عامر ترثي رجلا:

أيا شجرات الواد من يضمن القرى

إذا لم يكن بالواد عمرو بن عامر

فتى جعفري كان غير ميامن

طريق الندى عنه وغير مياسر

ولكن إليه قصد كلّ محصّب

صبور على مستصعبات الجرائر

ومستنبح تزهى الصّبا عنه ثوبه

تقلّبه الأرواح بين الدياجر

يجاوبه كلبان، والليل مسدف

يكادان يبتدّانه بالشراشر

يكادان من وجد به وتملق

يقولان: أهلا بالمكلّ المسافر

قولها (يبتدانه)، أي يأتيانه من جانبيه يتبصبصان ويقال: السبعان يبتدان الرجل ابتدادا، أي يأتيانه، والرضيعان يبتدان أمهما، ولا تقل: فلانة يبتدها ابنها حتى يكونا اثنين).

١١٣

وقال الفرزدق:

وداع بلحن الكلب يدعو ودونه

من اللّيل سجفا ظلمة وغيومها(١)

دعا وهو يرجو أن ينبّه إذ دعا

فتى كابن ليلى حين غارت نجومها

ابن ليلى، يعني أباه غالبا -

بعثت له دهماء ليست بلقحة(٢)

تدرّ إذا ما هبّ نحسا عقيمها

معنى (بعثت له دهماء) أي رفعتها على أثافيّها؛ ويعني بالدهماء القدر. واللّقحة: الناقة؛ وأراد أن قدره تدرّ إذا هبت الريح عقيما لا مطر فيها -

كأنّ المحال(٣) الغرّ في حجراتها

عذارى بدت لمّا أصيب حميمها

أراد أن قطع اللحم لا تستتر منها(٤) بشيء؛ كما لا تستتر العذارى اللواتي أصيب حميمهنّ فيظهرن حواسر -

غضوبا كحيزوم النعامة أحمشت

بأجواز خشب زال عنها هشيمها(٥)

الأجواز: الأوساط، وأوسط الخشب أصلبه وأبقى نارا -

محضرة لا يجعل السّتر دونها

إذا المرضع العوجاء جال يريمها

البريم: الحقاب(٦) ؛ وإنما يجول من الهزال والجهد والطوى. والعوجاء: التي قد اعوجّت من الطوى.

وقال الأخطل في الضيف:

دعاني بصوت واحد فأجابه

مناد بلا صوت، وآخر صيّت(٧)

____________________

(١) ديوانه: ٨٠٣؛ والرواية فيه:

وداع بنبح الكلب يدعو ودونه

غياطل من دهماء داج بهيمها

(٢) الديوان: (بناقة).

(٣) المحال: القطع.

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (فيها).

(٥) هذا البيت والّذي يليه لم يذكرا في الديوان.

(٦) الحقاب: شيء محلى تشده المرأة على وسطها.

(٧) الخزانة ٤: ٥٨٤.

١١٤

ذكر ضيفا عوى بالليل والصّدى من الجبل يجيبه؛ فذلك معنى قوله: (بصوت واحد)، وقوله: (فأجابه مناد بلا صوت)، يعني نارا رفعها له فرأى سناها فقصدها، والآخر الصيّت الكلب، لأنه أجاب دعواه.

ومثله:

وساري ظلام مقفعلّ وهبوة

دعوت بضوء ساطع فاهتدى ليا

يعني نارا رفعها ليقصده طرّاق الليل. والمقفعلّ: المنتفض(١) من شدة البرد.

وأنشد محمد بن يزيد:

ومستنبح تهوى مساقط رأسه

إلى كلّ شخص فهو للصّوت أصور(٢)

حبيب إلى كلب الكرام مناخه

بغيض إلى الكوماء، والكلب أعذر(٣)

دعته بغير اسم: هلمّ إلى القرى

فأسرى يبوع الأرض شقراء تزهر

معنى (أصور) مائل؛ أراد أنه يميل رأسه إلى كلّ شخص يتخيل له يظنه إنسانا.

ومعنى: (حبيب إلى قلب الكرام) المعنى الّذي تقدم

ومعنى: (بغيض إلى الكوماء) إلى الناقة لأنها تنحر له.

وقوله: (دعته شقراء بغير اسم) يعني نارا رأى ضوءها فقصدها؛ فكأنها دعته.

وقال ابن هرمة وقد نزل به ضيف:

فقلت لقيني ارفعاها وحرّقا

لعلّ سنا ناري بآخر تهتف(٤)

وفي معنى قوله: (بغيض إلى الكوماء) قول بعض الشعراء يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله:

وأبيك حيرا إنّ إبل محمّد

عزل تناوح أن تهبّ شمال

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (المتقبض).

(٢) حماسة أبي تمام - بشرح المرزوقي ١٦٤٥.

(٣) ف: (أبصر) ؛ وهي رواية الحماسة. وفي حاشية الأصل: (أعذر، أي أمعن في كونه معذورا في الحب).

(٤) القين: الخادم.

١١٥

وإذا رأين لدى الفناء غريبة

ذرفت لهنّ من الدّموع سجال

وترى لها زمن الشّتاء على الثّرى

رخما، وما تحيا لهنّ فصال

أراد أبيك الخير، فلما طرح الألف واللام نصب. والعزل: التى لا سلاح معها؛ وسلاح الإبل سنامها(١) وأولادها؛ وإنما جعلوا ذلك كالسلاح لها من حيث كان صاحبها إذا رأى سمنها وحسن أجسامها، ورأى أولادها تتبعها نفس بها على الأضياف فامتنع من نحرها، فلما كان ذلك صادّا عن الذبح، ومانعا منه جرى مجرى السلاح لها؛ فكأنه يقول: هذه الإبل وإن كانت ذوات سلاح؛ من حيث كانت شحيمة سمينة فهي كالعزل إذ كان سلاحها لا يغني عنها شيئا، ولا يمنع من عقرها.

ومعنى: (تناوح) يقابل بعضها بعضا، أي هنّ مدفآت بأسنمتها وأوبارها لا تبالي بهبوب الشمال، ولا يدخل بعضها في بعض من البرد.

وقوله:

* وإذا رأين لدى الفناء غريبة*

أي إذا نزل ضيف فعقل ناقته التي جاء عليها وهي الغريبة علمن أنه سينحر بعضهم لا محالة؛ فلذلك تذرف دموعهن.

وقوله:

وترى لها زمن الشّتاء على الثرى

رخما .....

فقد قيل فيه: إنه أراد به أن يهب فصالهن فتبقى ألبانهن على الأرض كهيئة الرّخم.

وحكي عن ابن عباس أنه قال: الرّخم: قطع العلق من الدم.

وعندي أن المعنى غير هذين جميعا؛ وإنما أراد أنها تنحر وتعقر فتسقط الرّخم على موضع عقرها وبقايا دمائها وأشلائها؛ فهذا معنى قوله، لا ما تقدّم.

____________________

(١) د، ف: (سمنها).

١١٦

وقال آخر في معنى سلاح الإبل يمدح بني عوذ بن غالب من عبس(١) ؛

جزى الله عني غالبا خير ما جزى

إذا حدثان الدّهر نابت نوائبه(٢)

إذا أخذت بزل المخاض سلاحها

تجرّد فيها متلف المال كاسبه(٣)

أراد أن سمنها وحسنها وتمامها لا يمنعني(٤) من عقرها للأضياف.

ومثله:

إذا البقل في أصلاب شول ابن مسهر

نما لم يزده البقل إلاّ تكرّما

إذا أخذت شول البخيل رماحها

دحا برماح الشّول حتّى تحطّما

وقوله: (أخذت رماحها) من المعنى المتقدم.

وقال مسكين الدارمي:

فقمت ولم تأخذ إلى رماحها

عشاري، ولم أرجب(٥) عراقبها عقرا

لم أرجب: لم أكبر ذلك ولم يعظم عليّ، وسمّي رجب رجبا من ذلك؛ لأنه شهر معظّم.

وقالت ليلى الأخيلية:

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (قيس).

(٢) من أبيات أربعة في حماسة أبي تمام - بشرح المرزوقي ١٦٦٦ - ١٦٦٧؛ وبعده:

فكم دافعوا من كربة قد تلاحمت

عليّ، وموج قد علتني غواربه

إذا قلت عودوا عاد كلّ شمردل

أشمّ من الفتيان جزل مواهبه

إذا أخذت ...

(٣) البزل: جمع بازل؛ وهو المتناهي قوة وشبابا. والمخاض: النوق الحوامل.

(٤) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (يمنعه).

(٥) في حاشيتي الأصل، ف: (ولم أحفل).

١١٧

ولا تأخذ الكوم الحياد سلاحها

لتوبة في قرّ الشّتاء الصنابر(١)

لا أخون الصّديق ما حفظ العه

د، ولا تأخذ السّلاح لقاحي

ومثله:

وقال النمر بن تولب:

أزمان لم تأخذ إلى سلاحها

إبلي بجلّتها ولا أبكارها(٢)

ابتزّها ألبانها ولحومها

فأهين ذاك لضيفها ولجارها

وقال مضرّس بن ربعي الأسدي:

وما نلعن الأضياف إن نزلوا بنا

ولا يمنع الكوماء منّا نصيرها

ومعنى: (لا نلعنهم)، أي لا نبعدهم، واللعين: البعيد. ونصيرها هاهنا:

ما يمنع من عقرها من حسن وتمام وولد وما جرى مجرى ذلك. والنصير والسلاح في المعنى واحد.

____________________

(١) حماسة ابن الشجري: ٨٤؛ من أبيات ترثي فيها توبة بن الحمير الخفاجي، ورواية البيت هناك:

ولا تأخذ الكوم المخاض سلاحها

لتوبة في صرّ الشتاء الصّنابر

والصنابر: جمع صنبر؛ وهو البرد الشديد.

(٢) البيت في اللآلي ٦٣٢. والجلة: المسان.

١١٨

مجلس آخر

[٦٠]

تأويل آية :( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلاّ أَنْ يَشاءَ الله ) ؛ [الكهف: ٢٣].

فقال: ما تنكرون أن يكون ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون جميع ما نفعله يشاؤه ويريده؟

لأنه لم يخصّ شيئا من شيء؛ وهذا بخلاف مذهبكم. وليس لكم أن تقولوا: إنه خطاب للرسول عليه وآله السلام خاصة؛ وهو لا يفعل إلا ما يشاؤه الله؛ لأنه قد يفعل المباح بلا خلاف؛ ويفعل الصغائر عند أكثركم؛ فلا بد من أن يكون في أفعاله تعالى ما لا يشاؤه عندكم، ولأنه أيضا تأديب لنا، كما أنه تعليم له عليه السلام؛ ولذلك يحسن منا أن نقول ذلك فيما يفعله.

الجواب، قلنا: تأويل هذه الآية مبني على وجهين:

أحدهما أن نجعل حرف الشرط الّذي هو (إن) متعلقا بما يليه وبما هو متعلّق به في الظاهر من غير تقدير محذوف؛ ويكون التقدير: ولا تقولن إنك تفعل إلا ما يريد الله.

وهذا الجواب ذكره الفراء، وما رأيته إلا له. ومن العجب تغلغله إلى مثل هذا؛ مع مع أنه لم يكن متظاهرا بالقول بالعدل. وعلى هذا الجواب لا شبهة في الآية، ولا سؤال للقوم علينا.

وفي هذا الوجه ترجيح(١) لغيره من حيث اتبعنا فيه الظاهر، ولم نقدّر محذوفا، وكلّ جواب مطابق الظاهر ولم يبن على محذوف كان أولى.

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (المعنى أن الله تعالى ينهى أن يقول أحد إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله؛ لأن الله تعالى لا يشاء جميع ما يفعلونه؛ وكأنه تعالى نهاهم عن تعليق أفعالهم بمشيئة الله عز وجل. وهو حسن).

١١٩

والجواب الآخر أن نجعل (أن) متعلقة بمحذوف؛ ويكون التقدير: ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول: (إن شاء الله) ؛ لأن من عاداتهم إضمار القول في مثل هذا الموضع، واختصار الكلام إذا طال وكان في الموجود منه دلالة على المفقود.

وعلى هذا الجواب يحتاج إلى الجواب عما سئلنا عنه، فنقول: هذا تأديب من الله تعالى لعباده، وتعليم لهم أن يعلّقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة؛ حتى يخرج من حد القطع.

ولا شبهة في أن ذلك مختصّ بالطاعات، وأنّ الأفعال القبيحة خارجة عنه؛ لأن أحدا من المسلمين لا يستحسن أن يقول: إني أزني غدا إن شاء الله، أو أقتل مؤمنا، وكلهم يمنع من ذلك أشدّ المنع؛ فعلم سقوط شبهة من ظن أن الآية عامّة في جميع الأفعال.

وأما أبو عليّ محمد بن عبد الوهاب فإنه ذكر في تأويل هذه الآية ما نحن ذاكروه بعينه، قال" إنما عنى بذلك أنّ من كان لا يعلم أنه يبقى إلى غد حيا فلا يجوز أن يقول: إني سأفعل غدا كذا وكذا، فيطلق الخبر بذلك وهو لا يدري، لعله سيموت ولا يفعل ما أخبر به؛ لأن هذا الخبر إذا(١) لم يوجد مخبره على ما أخبر به(١) فهو كذب؛ وإذا كان المخبر لا يأمن أن لا يوجد مخبره لحدوث أمر من فعل الله نحو الموت أو العجز أو بعض الأمراض، أو لا يحدث(٢) ذلك بأن يبدو له هو في ذلك، فلا يأمن أن يكون خبره كذبا في معلوم الله عز وجل؛ وإذا لم يأمن ذلك لم يجز أن يخبر به؛ ولا يسلم خبره هذا من الكذب إلا بالاستثناء الّذي ذكره الله تعالى؛ فإذا قال: إني صائر غدا إلى المسجد إن شاء الله، فاستثنى في مصيره مشيئة الله أمن أن يكون خبره في هذا كذبا؛ لأن الله إن شاء أن يلجئه إلى المصير إلى المسجد غدا ألجأه إلى ذلك؛ وكان المصير منه لا محالة؛ فإذا كان ذلك على ما وصفنا لم يكن خبره هذا كذبا؛ وإن لم يوجد منه المصير إلى المسجد؛ لأنه لم يوجد ما استثناه في ذلك من مشيئة الله تعالى".

____________________

(١ - ١) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (إذا لم يوجد مخبر على ما أخبر به المخبر).

(٢) م: (لا يوجد ذلك).

١٢٠

قال:" وينبغي ألا يستثني مشيئة دون مشيئة، لأنه إن استثنى في ذلك مشيئة الله لمصيره إلى المسجد على وجه التعبد، فهو أيضا لا يأمن أن يكون خبره كذبا؛ لأن الإنسان قد يترك كثيرا مما يشاؤه الله تعالى منه ويتعبده به، ولو كان استثناء مشيئة الله لأن يبقيه ويقدره ويرفع عنه الموانع كان أيضا لا يأمن أن يكون خبره كذبا؛ لأنه قد يجوز ألاّ يصير إلى المسجد مع تبقية الله تعالى له قادرا مختارا، فلا يأمن من الكذب في هذا الخبر دون أن يستثني المشيئة العامة التي ذكرناها، فإذا دخلت هذه المشيئة في الاستثناء فقد أمن أن يكون خبره كذبا إذا كانت هذه المشيئة متى وجدت وجب أن يدخل المسجد لا محالة".

قال:" وبمثل هذا الاستثناء يزول الحنث عمن حلف فقال: والله لأصيرنّ غدا إلى المسجد إن شاء الله، لأنه إن استثنى على سبيل ما بيّنا لم يجز أن يحنث في يمينه، ولو خص استثناءه بمشيئة بعينها ثم كانت ولم يدخل معها المسجد حنث في يمينه".

وقال غير أبي عليّ: إن المشيئة المستثناة هاهنا هي مشيئة المنع والحيلولة؛ فكأنه قال:

إن شاء الله يخليني ولا يمنعني.

وفي الناس من قال: القصد بذلك أن يقف الكلام على جهة القطع وإن لم يلزم به ما كان يلزم لولا الاستثناء، ولا ينوي في ذلك إلجاء ولا غيره؛ وهذا الوجه يحكى عن الحسن البصري.

واعلم إن في الاستثناء(١) الداخل على الكلام وجوها مختلفة؛ فقد يدخل على الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار؛ فإذا دخل ذلك اقتضى التوقيف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به إزالته عن الوجه الّذي وضع له؛ ولذلك يصير ما تكلّم به كأنه لا حكم له؛ ولذلك يصح على هذا الوجه أن يستثني في الماضي فيقول: قد

____________________

(١) د، ف: (للاستثناء).

١٢١

دخلت الدار إن شاء الله، ليخرج بهذا الاستثناء من أن يكون كلامه خبرا قاطعا أو يلزمه حكم.

وإنما لم يصحّ دخوله فى المعاصي على هذا الوجه؛ لأن فيه إظهار الانقطاع(١) إلى الله تعالى؛ والمعاصي لا يصح ذلك فيها؛ وهذا الوجه أحد(٢) ما يحتمله تأويل الآية.

وقد يدخل الاستثناء في الكلام فيراد به اللطف والتسهيل. وهذا الوجه يخصّ الطاعات، ولهذا الوجه جرى قول القائل: لأقضينّ غدا ما عليّ من الدين، ولأصلّينّ غدا إن شاء الله مجرى أن يقول: إني أفعل ذلك إن لطف الله تعالى فيه وسهّله؛ فعلم أن المقصد واحد، وأنه متى قصد الحالف فيه هذا الوجه لم يجب إذا لم يقع(٣) منه هذا الفعل أن يكون حانثا وكاذبا، لأنه إن لم يقع علمنا أنه لم يلطف له(٤) ، لأنه لا لطف له.

وليس لأحد أن يعترض هذا بأن يقول: الطاعات لا بدّ فيها من لطف؛ وذلك لأنّ فيها ما لا لطف فيه جملة، فارتفاع ما هذه سبيله يكشف عن أنه لا لطف فيه، وهذا الوجه لا يصح أن يقال في الآية أنه يخص الطاعات؛ والآية تتناول كلّ ما لم يكن قبيحا؛ بدلالة إجماع(٥) المسلمين على حسن الاستثناء ما تضمنته في فعل ما لم يكن قبيحا.

وقد يدخل الاستثناء في الكلام ويراد به التسهيل والإقدار والتخلية والبقاء على ما هي عليه من الأحوال؛ وهذا هو المراد به إذا دخل في المباحات.

وهذا الوجه يمكن في الآية إلا أنه يعترضه ما ذكره أبو علي مما حكيناه من كلامه.

وقد يذكر استثناء المشيئة أيضا في الكلام وإن لم يرد به في شيء مما تقدم؛ بل يكون الغرض إظهار الانقطاع إلى الله تعالى من غير أن يقصد إلى شيء من الوجوه المتقدمة.

وقد يكون هذا الاستثناء غير معتدّ به في كونه كاذبا أو صادقا؛ لأنه في الحكم كأنه

____________________

(١) م: (إظهارا للانقطاع).

(٢) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أجود).

(٣) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وإن لم يقع منه).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (لم يلطف فيه).

(٥) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (اجتماع).

١٢٢

قال: لأفعلنّ كذا إذا وصلت إلى مرادي مع انقطاعي إلى الله تعالى وإظهاري الحاجة إليه؛ وهذا الوجه أيضا مما يمكن في تأويل الآية.

ومن تأمل جملة ما ذكرناه من الكلام عرف منه الجواب عن المسألة التي لا يزال يسأل عنها المخالفون من قولهم: لو كان الله تعالى إنما يريد العبادات من الأفعال دون المعاصي لوجب إذا قال من لغيره عليه دين طالبه به: والله لأعطينّك حقّك غدا إن شاء الله أن يكون كاذبا أو حانثا إذا لم يفعل؛ لأن الله تعالى قد شاء ذلك منه عندكم، وإن كان لم يقع؛ فكان يجب أن تلزمه الكفارة؛ وألا يؤثر هذا الاستثناء في يمينه، ولا يخرجه عن كونه حانثا؛ كما أنه لو قال: والله لأعطينّك حقك غدا إن قدم زيد فقدم ولم يعطه يكون حانثا؛ وفي إلزام هذا الحنث خروج عن إجماع المسلمين، فصار ما أوردناه جامعا لبيان تأويل الآية، وللجواب عن هذه المسألة ونظائرها من المسائل، والحمد للّه وحده.

***

قال سيدنا أدام الله تمكينه: تأمّلت ما اشتملت عليه تشبيهات الشعراء فوجدت أكثر ما شبهوا فيه الشيء بالشيء الواحد، أو الشيئين بالشيئين؛ وقد تجاوزوا ذلك إلى تشبيه ثلاثة بثلاثة، وأربعة بأربعة، وهو قليل؛ ولم أجد من تجاوز هذا القدر إلا قطعة مرّت بي لابن المعتز، فإنها تضمنت تشبيه ستة أشياء بستة أشياء.

فأما تشبيه الواحد بالواحد فمثل قول عنترة في وصف الذباب:

هزجا يحكّ ذراعه بذراعه

قدح المكبّ على الزّناد الأجذم(١)

ومثله قول عدي بن الرّقاع:

____________________

(١) من المعلقة، ص ١٨٢ - بشرح التبريزي. الهزج: السريع الصوت.

١٢٣

تزجي أغنّ كأنّ إبرة روقه

قلم أصاب من الدّواة مدادها(١)

ومثله قول امرئ القيس:

كأنّ عيون الوحش حول قبابنا

وأرحلنا الجزع الّذي لم يثقّب(٢)

وقوله:

إذا ما الثّريّا في السّماء تعرّضت

تعرّض أثناء الوشاح المفصّل(٣)

ولذي الرّمة:

وردت اعتسافا والثّريّا كأنّها

على قمّة الرّأس ابن ماء محلّق(٤)

وهذا الباب أكثر من أن يحصى.

فأما تشبيه شيئين بشيئين فمثل قول امرئ القيس يصف عقابا:

كأنّ قلوب الطّير رطبا ويابسا

لدى وكرها العنّاب والحشف البالي(٥)

وقوله:

وكشح لطيف كالجديل مخصّر

وساق كأنبوب السّقي المذلّل(٦)

____________________

(١) الطرائف الأدبية: ٨٨. وفي حاشية الأصل: (أي تزجي البقرة ولدا في صوته غنة؛ كأن رأس قرنه قلم قد سود بمداد).

(٢) ديوانه ٨٨. الجزع، بالفتح ويكسر: الخرز اليماني.

(٣) ديوانه: ٢٧. تعرضت: أبدت عرضها، والأثناء: جمع ثني؛ وهو ما انثنى من الوشاح، والوشاح: قلائد يضم بعضها إلى بعض؛ تكون من لؤلؤ وجوهر منظومين مخالف بينهما، معطوف أحدهما على الآخر، وتتوشح به المرأة فتشده بين عاتقها وكشحها، والمفصل: المرصع ما بين كل خرزتين منه بلؤلؤة أو ذهب، وتعرض الثريا يكون عند انصبابها للمغيب. وفي طبقات الشعراء: ٧٣:" أنكر قوم قوله: (إذا ما الثريا في السماء تعرضت)، وقالوا: الثريا لا تتعرض". وقال بعض العلماء: عنى الجوزاء، وقد تفعل العرب بعض ذلك؛ قال زهير:

فتنتج لكم غلمان أشأم، كلّهم

كأحمر عاد، ثم، ترضع فتفطم

يريد أحمر ثمود.

(٤) ديوانه: ٤٠١.

(٥) ديوانه: ٧٠. العناب: ثمر أحمر، والحشف: ما يبس من التمر.

(٦) ديوانه: ٣٢. الجديل: زمام يتخذ من سيور فيجيء حسنا لينا يتثنى. والأنبوب البردي؛ وهو الّذي ينبت وسط النخل؛ يشبه به لبياضه. والسقي: النخل المسقى؛ كأنه قال كأنبوب النخل السقي، والمذلل: الّذي سقي وذلل بالماء

١٢٤

ولبشار:

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسهم

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه(١)

ولآخر:

كأنّ سموّ النّقع والبيض حوله

سماوة ليل أسفرت عن كواكب

وقول أبي نواس:

كأنّ صغرى وكبرى من فقاقعها

حصباء درّ على أرض من الذّهب(٢)

ولآخر:

إنّ الشّمول هي التي

جمعت لأهل الودّ شملا(٣)

شبّهتها وحبابها

بشقائق يحملن طلاّ(٤)

ولآخر:

أبصرته والكأس بين فم

منه وبين أنامل خمس

فكأنّها وكأنّ شاربها(٥)

قمر يقبّل عارض الشّمس

ولآخر:

حتى إذا جليت في الكأس خلت بها

عقيقة جليت في قشر بلّور(٦)

تعلى إذا مزجت في كأسها حببا

كأنّه عرق في خدّ مخمور

____________________

(١) ديوانه ١: ٣١٨. النقع: غبار الحرب.

(٢) حاشية الأصل: (أصل السماوة المفازة الواسعة؛ ويعني به الهواء.).

(٣) ديوانه: ٢٤٣. وفي حاشيتي الأصل، ف: (أخذ على أبي نواس استعماله (فعلى) هذه بلا ألف ولام).

(٤) الشمول: الخمر. قال في اللسان:" لأنها تشمل بريحها الناس؛ وقيل: سمعت بذلك لأن لها عصفة كعصفة الشمال".

(٥) الطل: أخف المطر وأضعفه.

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف:

* فكأنّه والكأس في يده*

جليت، من الجلوة، وبها أي مكانها؛ وفي حاشية الأصل: بلور كتنور، وبلور كسنور، كلاهما صحيح).

١٢٥

وقال البحتري:

شقائق يحملن النّدى فكأنّه

دموع التّصابي في خدود الخرائد(١)

وقال آخر:

فكأنّ الرّبيع يجلو عروسا

وكأنّا من قطره في نثار(٢)

ولأبي العباس الناشئ:

كأنّ الدّموع على خدّها

بقيّة طلّ على جلّنار

وقال ابن الرومي وأحسن:

لو كنت يوم الفراق حاضرنا

وهنّ يطفئن غلّة الوجد(٣)

لم تر إلا الدّموع سافحة

تسفح من مقلة على خدّ

كأنّ تلك الدّموع قطر ندى

يقطر من نرجس على ورد(٤)

وقال جران العود:

أبيت كأنّ اللّيل أفنان سدرة

عليها سقيط من ندى الطّلّ ينطف(٥)

أراقب لمحا من سهيل كأنّه

إذا ما بدا في آخر اللّيل يطرف

ولابن المعتز:

سقتني في ليل شبيه بشعرها

شبيهة خدّيها بغير رقيب

فأمسيت في ليلين بالشّعر والدّجى

وشمسين من خمر ووجه حبيب(٦)

____________________

(١) ديوانه ١: ١٣٦.

(٢) في حاشيتي الأصل، ف: (شبه ما تناثر عليهم من قطر المطر بالنثار).

(٣) ديوانه ورقة ٩٤ (مخطوطة دار الكتب المصرية).

(٤) في ف: (كأن العين) وهو رواية.

(٥) ديوانه: ١٣ - ١٤.

(٦) شرح ديوان المتنبي للعكبري ١: ٢٦٠.

١٢٦

وقال المتنبي:

نشرت ثلاث ذوائب من شعرها

في ليلة فأرت ليالي أربعا(١)

واستقبلت قمر السماء بوجهها

فأرتني القمرين في وقت معا(٢)

فأما تشبيه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء فمثل قول ماني الموسوس:

نشرت غدائر شعرها لتظلّني

خوف العيون من الوشاة الرّمق

فكأنّه وكأنّها(٣) وكأنّني

صبحان باتا تحت ليل مطبق

ولبعضهم:

روض ورد خلاله نرجس غـ

ضّ يحفّان أقحوانا نضيرا

ذا يباهي لنا خدودا، وذا يحـ

كي عيونا، وذا يضاهي ثغورا

ولآخر في النرجس:

مداهن تبر بين أوراق فضّة

لها عمد مخروطة من زبرجد

وللبحتري في وصف ضمر المطايا ونحولها:

كالقسي المعطّفات بل الأسـ

هم مبريّة بل الأوتار(٤)

ولبعض الطالبيين:

وأنا ابن معترلج البطاح إذا غدا

غيري وراح على متون ضوامر(٥)

____________________

(١) ديوانه ١: ٢٦٠.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (في ليل معا).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (فكأنها وكأنه).

(٤) ديوانه ٢: ٢٤.

(٥) حاشية الأصل: (المعتلج: المكان الّذي تختلف فيه الأباطح؛ وأصله من اعتلجت الأمواج إذا التطمت). والبطاح: جمع بطحاء؛ وهي بطاح مكة. وعن ابن الأعرابي: قريش البطاح الذين ينزلون الشعب بين أخشبي مكة.

١٢٧

يفترّ عنّي ركنها وحطيمها

كالجفن يفتح عن سواد النّاظر

كجبالها شرفي، ومثل سهولها

خلقي، ومثل ظبائهنّ مجاوري

وأما تشبيه أربعة بأربعة فمثل قول امرئ القيس:

له أيطلا ظبي، وساقا نعامة

وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل(١)

ولآخر:

كفّ تناول راحها بزجاجة(٢)

خضراء تقذف بالحباب وتزبد

فالكفّ عاج، والحباب لآلئ،

والرّاح تبر، والإناء زبرجد

ولبعضهم وقد أهدى إليه نرجس وأقحوان وشقائق وآس، فكتب إلى المهدي:

للّه ما أظرف أخ

لاقك يابدر الكرم

أهديت ما ناسبنها

حسنا وظرفا ومشمّ

فما رأينا مهديا

قبلك في كلّ الأمم

أهدى العيون والخدو

د والثّغور واللّمم

ولآخر:

أفدي حبيبا له بدائع أو

صاف تعالت عن كلّ ما أصف

كالبدر يعلو، والشّمس تشرق، والغزال يعطو، والغصن ينعطف(٣)

وللمتنبي:

بدت قمرا، وماست خوط بان،

وفاحت عنبرا، ورنت غزالا(٤)

____________________

(١) ديوانه: ٣٩. أيطلا الظبي: خاصرتاه؛ وخص الظبي لأنه ضامر. والسرحان: الذئب؛ والإرخاء: نوع من الجري فيه سهولة. والتتفل: ولد الثعلب. والتقريب: أن يرفع يديه معا ويضعهما معا.

(٢) حاشية الأصل: (بزجاجة، الباء للآلة؛ أي بواسطة زجاجة، ويجوز أن تكون الباء للاستصحاب).

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (يعطو، أي يتناول ورق الشجر، ويكون الظبي في تلك الحال أحسن).

(٤) ديوانه ٣: ٢٢٤. الخوط: القضيب.

١٢٨

ولآخر:

سفرن بدورا، وانتقبن أهلّة،

ومسن غصونا، والتفتن جآذرا(١)

وأما تشبيه خمسة بخمسة فقول الوأواء الدمشقي، وهو أبو الفرج:

وأسبلت لؤلؤا من نرجس، وسقت

وردا، وعضّت على العنّاب بالبرد(٢)

وأما تشبيه ستة بستة فلم أجده إلا لابن المعتز في قوله:

بدر وليل وغصن

وجه وشعر وقدّ(٣)

خمر وورد ودرّ

ريق وثغر وخدّ

____________________

(١) شرح العكبري للمتنبي ٢: ٢٢٤، من غير نسبة.

(٢) ديوانه: ٨٤؛ وروايته: (وأمطرت). وقبله:

قالت، وقد فتكت فينا لواحظها

كم ذا؟ أما لقتيل الحب من قود!

(٣) حاشية الأصل: (تشبيهات ابن المعتز وإن كانت ستة بستة فإنها في بيتين؛ وأعجب من ذلك وأحسن قول المخزومي:

نقا الرّدف، غصن المنثني، حيّة الحشا

دجى اللّيل، بدر الوجه، ظبي المقلّد

١٢٩

مجلس آخر

[٦١]

تأويل آية :( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ) ؛ [البقرة: ٢٨٦].

فقال: كيف يجوز أن يأمرنا على سبيل العبادة بالدّعاء بذلك، وعندكم أن النسيان من فعله تعالى؟ ولا تكليف على الناسي في حال نسيانه؛ وهذا يقتضي أحد أمرين: إما أن يكون النسيان من فعل العباد على ما يقوله كثير من الناس، أو نكون متعبدين بمسألته تعالى ما نعلم أنه واقع حاصل؛ لأن مؤاخذة الناسي مأمونة منه تعالى، والقول في الخطأ إذا أريد به ما وقع سهوا أو عن غير عمد يجري هذا المجرى.

الجواب، قلنا: قد قيل في تأويل هذه الآية: إنّ المراد بنسياننا تركنا.

قال أبو عليّ قطرب بن المستنير: معنى النسيان هاهنا الترك؛ كما قال تعالى:( وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) ؛ [طه: ١١٥]، فنسي أي ترك؛ ولولا ذلك لم يكن فعله معصية، وكقوله تعالى:( نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ ) ؛ [التوبة: ٦٧]، أي تركوا طاعته فتركهم من ثوابه ورحمته. وقد يقول الرجل لصاحبه: لا تنسني من عطيتك، أي لا تتركني منها، وأنشد ابن عرفة(١) :

ولم أك عند الجود للجود قاليا

ولا كنت يوم الرّوع للطّعن ناسيا

أي تاركا.

ومما يمكن أن يكون على ذلك شاهدا قوله تعالى:( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) ؛ [البقرة: ٤٤]، أي تتركون أنفسكم.

____________________

(١) حاشية الأصل: (هو نفطويه).

١٣٠

ويمكن في الآية وجه آخر على أن يحمل النسيان على السّهو وفقد المعلوم؛ ويكون وجه الدعاء بذلك ما قد بيناه فيما تقدم من الأمالي؛ من أنه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى، وإظهار الفقر إلى مسألته والاستعانة به؛ وان كان مأمونا منه المؤاخذة بمثله؛ ويجري مجرى قوله تعالى في تعليمنا وتأديبنا:( لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ) ؛ [البقرة: ٢٨٦]، ومجرى قوله تعالى:

( قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ ) ، [الأنبياء: ١١٢]؛ وقوله( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ) ؛ [الشعراء: ٨٧]؛ وقوله تعالى حاكيا عن الملائكة:( فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ) ؛ [غافر: ٧].

وهذا الوجه يمكن أيضا في قوله تعالى:( أَوْ أَخْطَأْنا ) إذا كان الخطأ ما وقع سهوا أو عن غير عمد.

فأما على ما يطابق الوجه الأول فقد يجوز أن يريد تعالى بالخطإ ما يفعل من المعاصي بالتأويل السيّئ وعن جهل بأنها معاص، لأن من قصد شيئا على اعتقاد أنه بصفة، فوقع ما هو بخلاف معتقده يقال: قد أخطأ، فكأنه أمرهم بأن يستغفروا مما تركوه متعمدين من غير سهو ولا تأويل، ومما أقدموا عليه مخطئين متأولين.

ويمكن أيضا أن يريد ب أَخْطَأْنا هاهنا أذنبنا وفعلنا قبيحا؛ وإن كانوا له متعمدين وبه عالمين، لأن جميع معاصينا للّه تعالى قد توصف بأنها خطأ من حيث فارقت الصواب؛ وإن كان فاعلها متعمدا؛ وكأنه تعالى أمرهم بأن يستغفروا مما تركوه من الواجبات؛ ومما فعلوه من المقبّحات، ليشتمل الكلام على جهتي الذنوب؛ والله أعلم بمراده.

***

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني محمد بن العباس قال: قال رجل يوما لأبي العباس

١٣١

محمد بن يزيد النحوي: ما أعرف ضادية أحسن من ضادية أبي الشّيص(١) فقال له: كم ضادية حسنة لا تعرفها! ثم أنشده لبشار:

غمض الجديد بصاحبيك فغمّضا

وبقيت تطلب في الحبالة منهضا(٢)

وكأنّ قلبي عند كلّ مصيبة

عظم تكرّر صدعه فتهيّضا

وأخ سلوت له، فأذكره أخ

فمضى، وتذكرك الحوادث ما مضى(٣)

فاشرب على تلف الأحبّة إنّنا

جزر المنيّة، ظاعنين وخفّضا(٤)

ولقد جريت مع الصّبا طلق الصّبا

ثمّ ارعويت فلم أجد لي مركضا(٥)

وعلمت ما علم امرؤ في دهره

فأطعت عذّالي، وأعطيت الرّضا

وصحوت من سكر وكنت موكّلا

أرعى الحمامة والغراب الأبيضا

الحمامة: المرآة، والغراب الأبيض: الشعر الشائب؛ فيقول: كنت كثيرا أتعهد نفسي بالنظر في المرآة وترطيل(٦) الشعر.

وقوله: (والغراب الأبيض) لأن الشعر كان غربيبا أسود؛ من حيث كان شابا ثم ابيض بالشيب -

ما كلّ بارقة تجود بمائها

وكذاك لو صدق الرّبيع لروّضا(٧)

____________________

(١) مطلعها:

لا تنكري صدّي ولا إعراضي

ليس المقلّ عن الزّمان براض

وأبيات منها في حماسة ابن الشجري ٢٠٠، ٢٤٠، واللآلي ٣٣٨، ونكت الهميان ٢٥٨، وعيون الأخبار ٤: ٥٢.

(٢) المختار من شعر بشار ص ٢٥ مع اختلاف في الرواية وعدد الأبيات. والجديد: الزمان.

(٣) رواية المختار:

* وأخ فجعت به وكان مؤمّلا*

(٤) حاشية الأصل: (أي راحلين ومقيمين).

(٥) الطلق والشأو والشوط بمعنى؛ يقال:

أجريت الفرس شأوا وطلقا وشوطا؛ إذا أجريته مرة واحدة، وارعويت: أقصرت وأفلعت عما كنت عليه.

(٦) ترطيل الشعر: تدهينه وتكسيره.

(٧) ف: (فروضا) ويقال: روض الربيع؛ إذا أنبت رياضا.

١٣٢

هكذا أنشده المبرّد، ويحيى بن عليّ، وأنشده ابن الأعرابي:

ما كلّ(١) بارقة تجود بمائها

ولربما صدق الرّبيع فروّضا(٢)

قد ذقت ألفته، وذقت فراقه

فوجدت ذا عسلا، وذا جمر الغضا

ياليت شعري! فيم كان صدوده

أأسأت أم رعد السّحاب وأومضا!

وغير من ذكرنا يرويه: (أم أجم الخلال فأحمضا) -(٣) .

ويلي عليه، وويلتي من بينه!

كان الّذي قد كان حلما فانقضى

سبحان من كتب الشقاء لذي الهوى

ما كان إلاّ كالخضاب فقد نضا

قال المبرّد: وهي طويلة.

وذكر يوسف بن يحيى بن عليّ عن أبيه أنّ أبا نواس أخذ قوله:

جريت مع الصّبا طلق الجموح(٤) من قول بشار:

ولقد جريت مع الصّبا طلق الصّبا

قال سيدنا الشريف المرتضى ذو المجدين أدام الله علوّه: ولأبي تمام والبحتري على هذا الوزن والقافية وحركة القافية قصيدتان، إن لم يزيدا على ضادية بشار التي استحسنها المبرّد لم يقصرا(٥) عنها؛ وأول قصيدة أبي تمام:

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (من كل بارقة).

(٢) بين هذا البيت والّذي يليه وردت في المختار الأبيات التالية؛ وبها يتم المعنى:

ومنيفة شرفا جعلت لها الهوى

إما مكافأة وإما مقرضا

حتى إذا شربت بماء مودّتي

وشربت برد رضابها متبرّضا

قالت لتربيها: اذهبا فتحسّسا

ما باله ترك السلام وأعرضا!

(٣) أجم: كره، وفي حاشية الأصل: (الحلة: ما حلا من النبت، والحمض: ما حمض؛ ولذلك يقال:

الحلة خبز الإبل، والحمض: فاكهتها؛ يقول: لا أعلم سبب فراقه، أإساءة صدرت مني إليه أو ملال بدا له ففارقني. وضرب الخلة والحمض مثلا لذلك).

(٤) ديوانه: ٢٥٧، وبقيته:

* وهان عليّ مأثور القبيح*

(٥) حاشية الأصل: (نسخة س): (تقصّرا)

١٣٣

أهلوك أضحوا شاخصا(١) ومقوّضا

ومزمّما يصف النّوى ومغرّضا(٢)

إن يدج عيشك أنهم أمّوا اللّوى

فبما إضاؤهم على ذات الأضا(٣)

بدّلت من برق الثّغور وبردها

برقا إذا ظعن الأحبة أومضا(٤)

يقول فيها:

ما أنصف الشّرخ الّذي بعث الهوى

فقضى عليك بلوعة ثمّ انقضى(٥)

عندي من الأيام ما لو أنّه

أضحى بشارب مرقد ما غمّضا(٦)

لا تطلبنّ الرّزق بعد شماسه

فترومه سبعا إذا ما غيّضا(٧)

ما عوّض الصّبر امرؤ إلاّ رأى

ما فاته دون الّذي قد عوّضا

ياأحمد بن أبي دؤاد دعوة

ذلّت بذكرك لي وكانت ريّضا(٨)

لمّا انتضيتك للخطوب كفيتها

والسّيف لا يرضيك حتى ينتضى

يقول فيها:

قد كان صوّح نبت كلّ قرارة(٩)

حتى تروّح في نداك فروّضا

أوردتني العدّ الخسيف وقد أرى

أتبرّض الثّمد البكي تبرّضا(١٠)

وأما قصيدة البحتري فأوّلها:

ترك السّواد للابسيه وبيّضا

ونضا من السّتين عنه ما نضا(١١)

وشآه(١٢) أغيد في تصرّف لحظه

مرض أعلّ به القلوب وأمرضا

____________________

(١) حاشية الأصل: في شعره: (راحلا).

(٢) ديوانه: ١٨٥، وفي حاشية الأصل: (التقويض: هدم الخيمة، والتغريض: شد الغرضة؛ وهي التصدير، وهو للرحل بمنزلة الحزام للسرج).

(٣) إن يدج: إن يظلم، وفي الديوان: (إن يدج ليلك).

(٤) حاشية الأصل: (أي صرت أشيم البرق من ناحيتهم وأتذكرهم).

(٥) الشرخ: غرة الشباب، وفي الديوان: (الزمن).                                (٦) المرقد: دواء إذا شربه الإنسان نام.

(٧) شماسه: عصيانه، وغيض السبع: مكث في الغيضة.

(٨) في الديوان: (بشكرك لي)، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (ببرّك).     (٩) القرارة: الروضة المنخفضة.

(١٠) العدّ: الماء الدائم الّذي لا انقطاع لمادته، والخسيف: البئر التي حفرت في حجارة فخرج منها ماء كثير. وأتبرض: آخذ قليلا. والثمد والبكي: الماء القليل.                                             (١١) ديوانه ٢: ٧٠.

(١٢) شآه: سبقه، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (وسباه).

١٣٤

وكأنّه وجد الصّبا وجديده

دينا دنا ميقاته أن يقتضي

أسيان أثرى من جوى وصبابة

وأساف من وصل الحسان وأنفضا(١)

كلف يكفكف عبرة مهراقة

أسفا على عهد الشّباب وما انقضى

عدد تكامل للشّباب مجيئه

وإذا مضي الشّيء حان فقد مضى

يقول فيها:

قعقعت للبخلاء أذعر جأشهم

ونذيرة من قاصل أن ينتضى(٢)

وكفاك من حنش الصّريم تهدّدا

أن مدّ فضل لسانه أو نضنضا(٣)

وفيها:

لا تنكرن من جار بيتك أن طوى

أطناب جانب بيته أو قوّضا(٤)

فالأرض واسعة لنقلة راغب

عمّن تنقّل ودّه وتنقّضا

لا تهتبل إغضاءتي، إما كنت قد(٥)

أغضيت مشتملا على جمر الغضا

لست الّذي إن عارضته ملمّة

أصغي إلى حكم الزّمان وفوّضا

لا يستفزّني الطّفيف ولا أرى

تبعا لبارق خلّب إن أومضا(٦)

أنا من أحبّ تحرّيا وكأنني

فيما أعاين منك(٧) ممّن أبغضا

أغببت سيبك كي يجمّ وإنّما

غمد الحسام المشرفي لينتضى(٨)

____________________

(١) الأسيان هنا: الحزين، وأساف الرجل: ذهب ماله، وكذلك أنفض، والمراد هنا أنه ذهب من يده وصل الحسان وميلهن إليه.

(٢) القعقعة: صوت السلاح، ونذيرة: إنذار، والقاصل: السيف.

وفي حاشية الأصل (من نسخة): (من نابل أن ينبضا)، أي يحرك وتر قوسه.

(٣) حنش الصريم: حية الرمل.

(٤) أي ارتحل عنك وسافر.

(٥) حاشية الأصل (من نسخة):

* لا تهتبل إغضاءتي إن كنت قد*

وهي رواية الديوان.

(٦) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (لبارق خلة).

(٧) حاشية الأصل (من نسخة): (فيما أعاني).

(٨) أغبيت، أخرت، ومنه إغباب الزيارة، وهو أن يزور يوما وبترك يوما. والسيب: العطية، ويجم: يكثر ويجتمع.

١٣٥

وسكتّ إلاّ أن أعرّض قائلا

نزرا، وصرّح جهده من عرّضا

***

وأخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدّثني يوسف بن يحيى عن أبيه قال: من مختار شعر بشار قوله في وصف الزمان:

عتبت على الزّمان وأي حي

من الأحياء أعتبه الزّمان!(١)

وآمنة من الحدثان تزري

عليّ، وليس من حدث أمان

وليس بزائل يرمي ويرمى

معان مرّة أو مستعان(٢)

متى تأب الكرامة من كريم

فمالك عنده إلاّ الهوان

وله في نحوه:

ياخليلي أصيبا أو ذرا

ليس كلّ البرق يهدي المطرا

لا تكونا كامرئ صاحبته

يترك العين ويبغي الأثرا

ذهب المعروف إلاّ ذكره

ربّما أبكى الفتى ما ذكرا

وبقينا في زمان معضل

يشرب الصّفو، ويبقي الكدرا(٣)

قال: وله:

قد أدرك الحاجة ممنوعة

وتولع النّفس بما لا تنال

والهمّ ما امسكته في الحشا

داء، وبعض الدّاء لا يستقال

فاحتمل الهمّ على عاتق

إن لم تساعفك العلندي الجلال(٤)

____________________

(١) أعتبه: أرضاه.

(٢) حاشية الأصل: (يقول: لا يزال الحي يرمي ويرمى؛ فهو معان ضعيف مرة؛ ومستعان قوي أخرى).

(٣) حاشية الأصل: (أي يذهب الدهر الكرام ويبقى اللئام).

(٤) العلندي: الجمل القوي، والجلال: العظيم.

١٣٦

قال يحيى: قوله: (عاتق) يعني الخمر، وهذا مثل قوله:

رحلت عنسا من شراب بابل

فبتّ من عقلي على مراحل(١)

قال سيدنا أدام الله تمكينه: هذا الّذي ذكره يحتمله البيت على استكراه، ويحتمل أيضا أن يريد بالعاتق العضو، ويكون المعنى: إن لم تجد من يحمل عنك همومك ويقوم بأثقالك، ويخفف عنك، فتحمّل ذلك أنت بنفسك، واصبر عليه؛ فكأنّه يأمر نفسه بالتجلّد والتصبر على البأس، وهذا البيت له نظائر كثيرة في الشعر.

***

وأخبرنا المرزباني قال حدثنا علي بن هارون قال حدثني أبي قال: من بارع شعر بشار قوله يصف جارية مغنية. قال علي: وما في الدنيا شيء لقديم ولا محدث من منثور ولا منظوم في صفة الغناء واستحسانه مثل هذه الأبيات:

ورائحة، للعين فيها مخيلة

إذا برقت لم تسق بطن صعيد(٢)

من المستهلاّت الهموم على الفتى

خفا برقها في عصفر وعقود(٣)

حسدت عليها كلّ شيء يمسّها

وما كنت لولا حبّها بحسود

وأصفر مثل الزّعفران شربته

على صوت صفراء التّرائب رود(٤)

كأنّ أميرا جالسا في ثيابها

تؤمّل رؤياه عيون وفود

من البيض لم تسرح على أهل ثلّة

سواما، ولم ترفع حداج قعود(٥)

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (أوله:

لمّا رأيت الحظّ حظّ الجاهل

ولم أر المغبون غير العاقل

والعنس: الجمل القوي.

(٢) المختار من شعر بشار ٣٠٩، والأغاني ٣: ١٨٩ (طبع دار الكتب المصرية). الرائحة: السحابة تروح؛ والمخيلة: علامة المطر.

(٣) استهل السحاب:

إذا أمطر، وفي الأغاني: (المستهلات السرور)، وخفى البرق: ظهر ولمع، وأراد بالعصفر: الثياب المعصفرة.

(٤) رود: ناعمة.

(٥) النلة: قطعة من الغنم، والسوام: الإبل السائمة، والحداج: جمع حدج؛ وهو مركب من مراكب النساء.

١٣٧

تميت به ألبابنا وقلوبنا

مرارا، وتحييهنّ بعد همود

إذا نطقت صحنا، وصاح لنا الصّدى

صياح جنود وجّهت لجنود

ظللنا بذاك الدّيدن اليوم كلّه

كأنا من الفردوس تحت خلود(١)

ولا بأس إلاّ أنّنا عند أهلنا

شهود، وما ألبابنا بشهود

قال: وأنشدني أبي له في وصف مغنية:

لعمرو أبى زوّارها الصّيد إنّهم

لفي منظر منها وحسن سماع(٢)

تصلّي لها آذاننا وعيوننا

إذا ما التقينا والقلوب دواع

وصفراء مثل الخيزرانة لم تعش

ببؤس ولم تركب مطيّة راع

جرى اللؤلؤ المكنون فوق لسانها

لزوّارها من مزهر ويراع(٣)

إذا قلّدت أطرافها(٤) العود زلزلت

قلوبا دعاها للوساوس داع

كأنّهم في جنّة قد تلاحقت

محاسنها من روضة ويفاع(٥)

يروحون من تغريدها وحديثها

نشاوى، وما تسقيهم بصواع

لعوب بألباب الرّجال، وإن دنت

أطيع التقى، والغي غير مطاع

قال علي بن هارون: الصّواع: المكيال؛ يقول: إذا غنّت شربوا جزافا بلا كيل ولا مقدار من حسن ما يسمعون.

قال سيدنا أدام الله علوه: هذا خطأ منه؛ وإنما المراد أن غناءها لفرط حسنه(٦) وشدة(٧) إطرابه ينسيان شرّة الخمر(٨) ؛ وإن لم يكن هناك شرب بصواع، وهذا يجري مجرى قول الشاعر:

____________________

(١) الديدن: العادة.

(٢) المختار من شعر بشار: ٣١٤.

(٣) هذا البيت ساقط من م. المزهر: العود، واليراع: القصب؛ وأراد به هاهنا المزمار. وفي حاشية الأصل: (هذا البيت يفيد أنها تغني وتضرب بالمزهر، وقوله: (من مزهر ويراع) إشارة إلى أن كلامهما مختلط الجرس بنقر المزهر واليراع).

(٤) رواية المختار: (إذا قلبت أطرافها).

(٥) اليفاع: المرتفع من الأرض.

(٦) حاشية الأصل (من نسخة): (حسنها).

(٧) حاشية الأصل (من نسخة): (سورة إطرابه).

(٨) حاشية الأصل: (في نسخة الشجري: الهم).

١٣٨

ويوم ظللنا عند أمّ محلّم

نشاوى، ولم نشرب طلاء ولا خمرا

وما كان عندي أن أحدا يتوهم في معنى هذا البيت ما ظنه هذا الرجل.

وأما قوله في القطعة الأولى:

وأصفر مثل الزّعفران شربته

على صوت صفراء الترائب رود

فيحتمل وجوها ثلاثة:

أولها أن يكون أراد بصفرة ترائبها الكناية عن كثرة تطيّبها وتضمّخها، وأن ترائبها تصفرّ لذلك، كما قال الأعشى:

بيضاء ضحوتها، وصف

راء العشيّة كالعرارة(١)

والعرار: بهار البرّ؛ وإنما أراد أنها تتضمّخ بالعشي بالطيب فيصفّرها؛ ومثله لذي الرّمة:

بيضاء في دعج، كحلاء في برج،

كأنّها فضّة قد مسّها ذهب(٢)

وقيل في بيت قيس بن الخطيم:

فرأيت مثل الشّمس عند طلوعها

في الحسن، أو كدنوّها لغروب(٣)

وجهان:

أحدهما أنه أراد أنها تتطيّب بالعشي فتصفرّ؛ لأن الشمس تغيب صفراء الوجه.

والآخر أراد المبالغة في الحسن، لأن الشمس أحسن ما تكون في وقتيها هذين؛ ومن ذلك أيضا قول قيس بن الخطيم:

____________________

(١) ديوانه: ١١١.

(٢) ديوانه: ٥، والدعج: سواد الحدقة، والبرج: سعة في بياض العين؛ ورواية الديوان:

* كحلاء في برج صفراء في نعج*

(٣) ديوانه ٥، وفي حاشيتي الأصل، ف (بعده:

صفراء أعجلها الشباب لداتها

موسومة بالحسن غير قطوب

أي أنها سبقت أقرانها، ومثله قول ابن قيس الرقيات:

لم تلتفت للداتها

فمضت على غلوائها

١٣٩

* صفراء أعجلها الشّباب لداتها*

ومثله للأعشى:

إذا جرّدت يوما حسبت خميصة

عليها وجريال النّضير الدّلامصا(١)

الخميصة: ثوب ناعم لين؛ شبه به نعمة جسمها. والنّضير: الذهب. والجريال: كلّ صبغ أحمر، وإنما يعني لون الطّيب عليها. والدّلامص: البرّاق، فهذا وجه.

والوجه الثاني أن يكون أراد بوصفها بالصفرة رقّة لونها؛ فعندهم أنّ المرأة إذا كانت صافية اللون رقيقة ضرب لونها بالعشي إلى الصفرة.

قال مهدي بن عليّ الأصفهاني: قال لي أبي قال لي الجاحظ: زعموا أن المرأة إذا كانت صافية اللون رقيقة يضرب لونها بالغداة إلى البياض وبالعشي إلى الصفرة، واحتجّ في ذلك بقول الراجز:

* قد علمت بيضاء صفراء الأصل*

وزعم أن بيت ذي الرمة الّذي أنشدناه من هذا المعنى، وكذلك بيت الأعشى الّذي أنشدناه؛ والأبيات محتملة للأمرين.

فأما الّذي لا يحتمل إلا وجها واحدا فهو قول الشاعر:

وقد خنقتها عبرة فدموعها

على خدّها حمر وفي نحرها صفر

لأنها لا تكون صفرا في نحرها إلا لأجل الطيب.

فأما قوله (على خدها حمر) فإنما أراد أنها تنصبغ بلون خدّها.

والوجه الثالث أن تكون المرأة كانت صفراء على الحقيقة؛ فإن بشارا كثيرا ما يشبّب بامرأة صفراء، كقوله:

____________________

(١) ديوانه: ١٠٨.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403