أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى14%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65738 / تحميل: 9813
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) (١) .

«يطبع» من مادّة«طبع» وتأتي في هذه الموارد بمعنى الختم ، وتشير إلى عمل تم في الماضي والحال ويراد به الشيء الّذي يُراد بقائه دون استخدام وتصرف فيغلق عليه ويُسد بابه ويوضع عليها مادّة لاصقة إما من الطين أو الشمع أو ما شابه ذلك ويختم عليها بختم معين بحيث إذا أراد شخص فتحه سيضطر إلى كسر هذا الختم وبالتالي سيتّضح ويتبين أنّه تصرّف فيه فيحال إلى المحكمة.

وعلى هذا الأساس فإنّ عملية الطبع والختم على قلوب المتكبرين يشير إلى أن عناد هؤلاء وعدائهم للحقّ قد أسدل على قلوبهم وأفكارهم حجاباً ظلمانياً بحيث لا يقدرون معه على إدراك حقائق عالم الوجود ، ولا يرون سوى أنفسهم ومصالحهم وأهوائهم النفسية ونوازعهم الدنيوية ، فكانت أذهانهم وعقولهم بمثابة ظروف مغلقة لا يمكن معها من إفراغ محتواها الفاسد ولا ملئها بالمحتوى السليم والفكر الصحيح ، وهذا في الواقع هو نتيجة التكبّر وحالة الجبارية الّتي يعيشها هؤلاء الاشخاص ، وفي الواقع فإنّ الصفة الثانية متولدة من الصفة الاولى لأنّ (جبار) تأتي في هذه الموارد بمعنى الشخص الّذي يعاقب وينتقم من مخالفيه من موقع الغضب الشديد والنقمة لا من موقع العقل والحكمة ، وبعبارة اخرى : أنّ الجبّار هو الشخص الّذي لا يرى إلّا نفسه وأهوائه ولا يرى للآخرين محلاً من الإعراب سوى أنّهم اتباع له.

وبالطبع فإنّ هذه المفردة«الجبّار» تطلق أحياناً على الله تعالى أيضاً ويراد بها مفهومٌ خاص وهو الشخص الّذي يُجبر نقائص الآخرين ويصلحها.

وتنطلق«الآية العاشرة» لتشير إلى أصل كلي لا يختصّ بطائفة معيّنة ، وهو أنّ الكافرين عند ما يقتربون من حافة جهنم يُقال لهم إنّ هذا العذاب هو بسبب أنّكم تتصفون بصفة التكبّر

__________________

١ ـ سورة المؤمن ، الآية ٣٥.

٢١

فتقول الآية :( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) (١) .

وشبيه هذا المعنى قد ورد في آيات متعددة اخرى من القرآن الكريم منها ما ورد في الآية ٦٠ من سورة الزمر :( أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ ) .

ومن الملفت للنظر أنّ من بين جميع الصفات الأخلاقية الذميمة لأصحاب النار قد أكدت الآية على مسألة التكبّر ممّا يقرر هذه الحقيقة ، وهي أنّ هذه الصفة الذميمة هي الأساس في سقوط هؤلاء في هذا المصير المؤلم بحيث تكون جهنم هي مقرّهم النهائي ومصيرهم الخالد.

وممّا يلاحظ في هذه الآية أنّ كلمة«مثوى» من مادّة«ثوى» تعني المحل الدائم والمقر الّذي يستقر فيه الإنسان في نهاية المطاف ، وهو إشارة إلى أنّ هؤلاء لا نجاة لهم من العذاب الأليم في الآخرة.

«الآية الحادية عشر» تتحدّث أيضاً عن المتكبّرين بشكل عام وتقول :( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ ) (٢) .

هذه العبارات المثيرة الواردة في هذه الآية الكريمة تخبر عن عمق المصيبة الّتي يبتلي بها هؤلاء المتكبرون ، فإنّ الله تعالى سيجازي هؤلاء الأشخاص ويعاقبهم من موقع أنّهم لا يجدون في أنفسهم قبولاً للحقّ بحيث إنّهم لو رأوا جميع آيات الله ومعجزاته المتنوعة فإنّهم لا ينفتحون على الإيمان ولا يسلكون خط الصلاح والهدى ، ولو أنّهم وجدوا الصراط المستقيم مفتوحاً أمامهم فإنّهم لا يسلكونه بل إذا وجدوا طريق الغي والضلال فإنّهم يسلكونه من فورهم ويتحركون في خط الضلالة والباطل والانحراف.

وعبارة«بغير الحقّ» هي في الواقع قيد توضيحي لأنّ العظمة والكبرياء مختصان

__________________

١ ـ سورة الزمر ، الآية ٧٢.

٢ ـ سورة الأعراف ، الآية ١٤٦.

٢٢

بالله تعالى وقدرته المطلقة ، وأمّا بالنسبة للإنسان الّذي ليس سوى ذرّة صغيرة من ذرات عالم الوجود الواسع ، فإنّ رداء العظمة والكبرياء بالنسبة له ليس حقّاً وليس من حقّه أن يرتدي هذا الرداء.

بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ هذا القيد هو قيدٌ احترازي وقالوا : إنّ التكبّر على قسمين : تكبّر في مقابل أولياء الله فهو (بغير الحقّ) وفي مقابل ذلك التكبّر في مقابل أعداء الله وهو (بالحقّ) ولكن مع الالتفات إلى جملة( يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ ) يتّضح جيداً أنّ هذا التفسير غير منسجم مع سياق الآية لأنّ التكبّر في الأرض وفي مقابل البشر جميعاً هو خلقٌ مذموم وقبيح بصورة مطلقة.

وعلى أيّة حال فإنّ الآية الشريفة تشير في سياقها إلى أهم آثار وعواقب التكبّر الوخيمة ، وهي أنّ مثل هذا الإنسان لا يذعن أمام آيات الحقّ ولا يؤمن بها بل على العكس من ذلك ، فإنّه وبسبب هذه الصفة الذميمة سيدخل أبواب الضلالة ، ويسلك سبيل الغي لدى مشاهدته فوراً.

أجل فإنّ صفة الكبر والغرور تمثل حجاباً على قلب الإنسان وروحه ممّا يتسبّب أن يرى الحقّ باطلاً والباطل حقّاً ، وبذلك يحجب عن الإنسان أبواب السعادة والنجاة ويفتح له أبواب الضلالة وعلى أساس أنّها أبواب السعادة ، فما أعظم شقاء الإنسان الّذي لا يرى علائم الحقّ ويتغافل عنها ويسلك طريق الضلالة والزيغ والانحراف ويتصور أنّ هذا المسير هو الّذي يؤدي به إلى السعادة والنجاة!!

«الآية الثانية عشر» تقول :( لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) (١) .

وقد ورد ما يشبه هذا المعنى في القرآن الكريم مرّات عديدة من قبيل قوله :

__________________

١ ـ سورة النحل ، الآية ٢٣.

٢٣

( وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) (١) .

( وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) (٢)

( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (٣)

( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (٤)

( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) (٥)

( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ) (٦)

ويقول في الآية محل البحث :( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) .

إنّ التدقيق في مثل هذه العبارات يوضح وجود رابطه خاصة بين هذه الامور المذكورة في هذه الآيات ، بحيث يمكن القول أنّ القدر المشترك بين الصفات الرذيلة في هذه الآيات السبعة المذكورة آنفاً هو حبّ الذات والغرور والعجب أو التكبّر الّذي يعد منبعاً للظلم والفساد والإسراف والفخر على الآخرين.

وهنا تقول الآية : إنّ الله تعالى لا يحب أيّاً من هذه الطوائف السبعة ، ومفهومها أنّ من يتصف بهذه الصفات ويكون مصداقاً لأحد هذه الطوائف فإنّه مطرود من ساحة الربوبية والرحمة الإلهية الواسعة ، لأنّه متصف بأخطر الرذائل الأخلاقية ، وهي التكبّر المانع من القرب إلى الله تعالى.

«الآية الثالثة عشر» من الآيات محل البحث وكما ورد في الروايات في شأن نزولها أنّها تتحدّث عن طائفة من نصارى نجران وتقول : «لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ

__________________

١ ـ سورة آل عمران ، الآية ١٤٠.

٢ ـ سورة المائدة ، الآية ٦٤.

٣ ـ سورة المائدة ، الآية ٨٧.

٤ ـ سورة الأنعام ، الآية ١٤١.

٥ ـ سورة الأنفال ، الآية ٥٨.

٦ ـ سورة القصص ، الآية ٧٦.

٢٤

الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً »(١) .

وتقول الآية الّتي تليها مؤكدة على أصل مهم ومصيري في حياة الإنسان والمجتمع البشري :( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ) (٢) .

هذه الآيات ناظرة إلى دعوى واهية لطائفة من النصارى الّذين ذهبوا إلى إلوهية المسيح وتصوّروا أنّهم لو أنزلوا المسيح من هذا المقام وأنّه عبد الله فإنّ ذلك سيكون هتكاً لحرمته وإهانة لساحته ومقامه السامي.

وأمّا القرآن فيقول لهم أنّه ليس المسيح ولا أي واحد من الملائكة أو من المقرّبين له هذا المقام ، ولا يتصوّر أحد منهم ذلك بل يرون أنفسهم عباد الله ويذعنون أمام هذه الحقيقة الناصعة ، ويأتون بطقوس العبودية له ، ثمّ يذكر القرآن أصلاً كليّاً ويقول : إذا تحرّك أي واحد من المخلوقين حتّى الأنبياء الإلهيين أو الملائكة المقرّبين مبتعداً عن خط العبودية ومتلبساً بلباس الاستكبار أمام الحقّ تعالى واستنكف عن عبادته وتكبر فإنّه سوف لا يستطيع انقاذ نفسه من العذاب الإلهي ولا يستطيع أحد انقاذه من خالق العقاب الأليم المقرّر له.

والملفت للنظر أنّ الآية الأخيرة تقرّر أنّ الإيمان والعمل الصالح يقعان في النقطة المقابلة ، للاستكبار والأنانية ورؤية الذات أعلى من الواقع ، وبالتالي يمكننا أن نستوحي منها هذه النتيجة ، وهي أنّ من يسلك طريق الاستكبار وينطلق في فكره وسلوكه من موقع التكبّر فليس له إيمان حقيقي ولا عمل صالح.

«الاستنكاف» في الأصل من مادّة«نكف» على وزن«نصر» وهي في الأصل بمعنى مسح قطرات الدموع على الوجه بالأصابع ، وعليه فيكون الاستنكاف من عبودية الله تعالى

__________________

١ ـ سورة النساء ، الآية ١٧٢.

٢ ـ سورة النساء ، الآية ١٧٣.

٢٥

يعني الابتعاد عنه وذلك بسبب أحد العوامل المختلفة من قبيل الجهل أو الكسل وحب الراحة وغير ذلك ، ولكن عند ما وردت جملة( اسْتَكْبَرُوا ) بعد هذه العبارة فإنّ ذلك يشير إلى الاستنكاف الّذي يقع من موقع الكبر والغرور ويكون معلولاً لهما ، وبذلك يكون ذكر هذه الجملة بعد تلك العبارة في الواقع إشارة إلى هذه النكتة الدقيقة.

وعلى أيّة حال فإنّ التعبيرات المثيرة في هذه الآيات تدلّ على أهمية هذه المسألة وأنّ هذه الصفة الذميمة وهي الاستكبار تنتج هذه العواقب الوخيمة لدى كلّ إنسان يتصف بها.

وفي«الآية الرابعة عشر» والأخيرة من الآيات محل البحث نقرأ نتيجة اخرى من النتائج الخطيرة والأليمة المترتبة على حالة الاستكبار حيث تقول الآية :( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) (١) .

ففي هذه الآية الشريفة ورد أوّلاً (التكذيب بآيات الله) إلى جانب (الاستكبار) وكما ذكرنا سابقاً أنّ أحد العلل المهمّة لإنكار آيات الله والتصدي لدعوة الأنبياء هي حالة الاستكبار الّتي يعيشها الأقوام البشرية ، فأحياناً كانوا يقولون : ما هو امتياز هذا النبي عنا؟ ولما ذا نزلت عليه آيات الله دوننا؟ ويقولون أحياناً اخرى : إن الاراذل والفقراء من الناس إلتفّوا حوله ونحن أعلى شاناً من أن نكون كأحدهم ، ولو أنّ هذا النبي قد طرد هؤلاء المؤمنين به من حوله فسوف يفسح لنا المجال للدخول في مجلسه والمشاركة في الاستماع لكلماته ومواعظه ، وهكذا من خلال هذه التبريرات والذرائع الواهية كانوا يعرضون عن الإيمان بالله والتحرّك في خط المسؤولية.

عبارة :( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) والّتي وردت في القرآن الكريم في هذه الآية فقط هي تأكيد واضح على عظمة هذه الخطيئة وهذا الاتصاف السلبي والخطير في حركة الإنسان في الحياة ، أي كما أنّ عبور الجمل (أو طبقاً لتفسير آخر : الحبل الضخم) غير ممكن ومستحيل من ثقب أبرة فإنّ دخول المتكبّرين إلى الجنّة والنعيم الإلهي

__________________

١ ـ سورة الأعراف ، الآية ٤٠.

٢٦

محال أيضاً ، ولعلّ ذلك يشير إلى أنّ طريق الجنّة إلى درجة من الدقّة بحيث يشبه ثقب الأبرة ولا يمر من خلاله إلّا من تحلّى بصفة التواضع ورأى نفسه من واقع حاله.

وجملة :( لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ ) هي إشارة إلى ما ورد في الأحاديث الإسلامية أيضاً ، وهو أنّ المؤمنين عند ما ينتقلون من هذه الحياة الدنيا إلى الحياة الاخرى أنّ روحهم وأعمالهم تصعد إلى السماء وتفتح لهم أبواب السماء ويستقبلهم الملائكة ، ولكن عند ما يصعد بروح الكفّار والمتكبّرين وأعمالهم إلى السماء فسوف توصد أبواب السماء أمامهم ويناد المنادي أنّه أذهبوا بها إلى جهنم وبئس المصير.

النتيجة النهائية :

ونستنتج من مفهوم الآيات المذكورة آنفاً أنّ القرآن الكريم يعتبر(التكبّر والاستكبار) من أقبح الصفات والأعمال على مستوى السلوك البشري ، وأنّ هذه الصفة الذميمة يمكنها أن تكون مصدراً للكثير من الذنوب العظيمة وحتّى أنّها قد تورث الإنسان حالة الكفر بالله تعالى ، والأشخاص الّذين يعيشون هذه الحالة لا يتسنّى لهم إدراك معنى السعادة الحقيقية والطريق إلى مرتبة القرب الإلهي موصد أمامهم ، وعليه فإنّ على السالكين طريق الحقّ لا بدّ لهم قبل كلّ شيء من تطهير أنفسهم وقلوبهم من تلوثات هذه الصفة الأخلاقية القبيحة بأن لا يروا لأنفسهم تفوّقاً في وجودهم على الآخرين ولا ينطلقوا في تعاملهم مع الناس من موقع التكبّر والأنانية ، فإنّ هذه الحالة من أكبر موانع الوصول إلى الله تعالى والقرب المعنوي من الكمال المطلق.

٢٧

التكبّر في الروايات الإسلامية :

وقد ورد في المصادر الروائية أحاديث كثيرة على مستوى ذمّ التكبّر وبيان حقيقته ونتائجه الوخيمة على الفرد في حركة الحياة والواقع وطرق علاجها ولا يسعنا ذكر هذه الروايات بأجمعها في هذا المختصر ، ولكننا نكتفي منها بما يلي :

١ ـ ورد في الحديث الشريف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :«ايَّاكُمْ وَالْكِبْرَ فَانَّ ابْلِيسَ حَمَلَهُ الْكِبْرُ عَلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ لِآدَمَ» (١) .

٢ ـ وهذا المعنى نفسه ورد بتعبير آخر في خطب نهج البلاغة حيث نقرأ في الخطبة القاصعة كلاماً كثيراً عن(تكبّر إبليس) والنتائج المترتبة على ذلك حيث يقول :فاعتبروا بما كان من فعل الله بابليس اذ احبط عمله الطويل وجهده الجهيد عن كبر ساعة واحدة فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته (٢) .

إنّ العبارات المثيرة أعلاه تبين جيداً أنّ التكبّر والأنانية وحالة الفوقية الّتي يعيشها إبليس والإنسان بإمكانها أن تفضي ، ولو في لحظات قليلة ، إلى أخطر العواقب الوخيمة وكيف أنّها كالنار المحرقة الّتي تأتي على الأخضر واليابس من الأعمال الصالحة فتحرقها وتجعلها رماداً منثوراً وتتسبب في الشقاء الأبدي والعذاب الخالد لصاحبها.

٣ ـ وفي حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال :إحذر الكبر فانه رأس الطغيان ومعصية الرحمن (٣) .

وهذا الحديث الشريف يبين هذه الحقيقة ، وهي أن مصدر الكثير من الذنوب والخطايا هي حالة الكبر والفوقية الّتي يعيشها الإنسان بالنسبة إلى الآخرين.

٤ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال :ما دخل قلب امرء شىء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخله من ذلك! قل ذلك أو كثر (٤) .

٥ ـ وفي اصول الكافي ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال :«اصُولُ الْكُفْرِ ثَلَاثَةٌ ،

__________________

١ ـ كنز العمال ، الحديث ٧٧٣٤.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢ (الخطبة القاصعة).

٣ ـ غرر الحكم ، الحديث ٢٦٠٩.

٤ ـ بحارالأنوار ، ج ٧٥ ، ص ١٨٦.

٢٨

الْحِرْصُ وَالْاسْتِكْبَارُ وَالْحَسَدُ ، فَامَّا الْحِرْصُ فَانَّ آدَمَ حِينَ نُهِىَ عَنِ الشَّجَرَةِ حَمَلَهُ الْحِرْصُ عَلَى أنْ اكَلَ مِنْهَا ، وَامَّا الْاسْتِكْبَارُ فَابْلِيسُ حَيْثُ امِرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَابى ، وَامَّا الْحَسَدُ فَابْنَا آدَمَ ، حَيْثُ قَتَلَ احَدُهُمَا صَاحِبَهُ» (١) .

وعليه فإنّ أوّل الذنوب الّتي نشأت على الأرض كان مصدرها هذه الثلاثة من الصفات الأخلاقية الذميمة.

٦ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الباقر والإمام الصادقعليهما‌السلام قالا :«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» (٢) .

٧ ـ وفي حديث آخر عن الإمام عليعليه‌السلام أنّه قال :«اقْبَحُ الْخُلْقِ التَّكَبُّرُ» (٣) .

إنّ الأحاديث الإسلامية الواردة في المصادر الروائية كثيرة في هذا الباب ولكن هذا المقدار المعدود من هذه الأحاديث يكفي لبيان شدّة قبح هذه الرذيلة.

فقد قرأنا في الأحاديث المذكورة آنفاً أنّ الكبر هو مصدر الذنوب الاخرى ، وعلامة على نقصان العقل ، وسبباً لإهدار طاقات الإنسان وقواه المعنوية ، ويعتبر من أقبح الرذائل الأخلاقية بحيث إنّه يتسبب في حرمان الإنسان من دخول الجنة في نهاية المطاف ، وكلّ واحد من هذه الامور بحدّ ذاته يمكن أن يكون عاملاً مؤثراً في ردع الإنسان عن التحرّك في هذا الاتجاه وسلوك طريق التكبّر ، فكيف بأن يتصف بمثل هذه الصفة الذميمة الّتي تؤدي إلى سقوطه من مقام الإنسانية ومرتبة الإيمان في حركة التكامل المعنوي؟

__________________

١ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٢٨٩ ، ح ١.

٢ ـ اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣١٠.

٣ ـ غرر الحكم ، الحديث ٢٨٩٨.

٢٩

التكبّر في منطق العقل :

ومضافاً إلى الآيات والروايات الشريفة فإنّ(التكبّر والاستكبار) يُعتبر مذموماً في منطق العقل بشدّة ، لأنّ العقل يرى أنّ جميع أفراد البشر هُم عباد الله تعالى وكلّ إنسان يجد في نفسه نقاط إيجابية وقابليات وملكات في طريق الكمال ، وكلّهم من أب واحد وامّ واحدة ، فهم سواسية في ميزان الخلق ، فلا دليل على أن يرى أي إنسان نفسه أعلى من الآخرين ويفتخر على غيره ويسعى لتحقيره ، وحتّى لو رأى في نفسه موهبة من الله تعالى لم تكن لدى الآخرين ، فمثل هذه الموهبة يجب أن تكون سبباً ليتحرك في خط الشكر لله تعالى والتواضع لا في خط الكبر والغرور.

إنّ قباحة هذه الصفة الذميمة يعد من البديهيات الّتي يشعر بها كلّ إنسان في وجدانه ويعترف بها ، ولهذا فإنّ الأشخاص الّذين لا يعتنقون أي دين ومذهب يذمون حالة التكبّر والأنانية أيضاً ويرون أنّها من أقبح الصفات والسلوكيات في دائرة السلوك الإنساني.

وفي الواقع فإنّ قسماً مهماً من مسألة (حقوق الإنسان) الّتي تم تدوينها من قِبل مجموعة من المفكّرين غير المؤمنين ناظرة إلى مسألة التصدي لحالة الاستكابر الدولي ، ومع أننا قد نرى من الناحية العملية نتائج معكوسة على هذا القرار الدولي بحيث أصبح أداة طيّعة بيد المستكبرين للتحرك من موقع إدانة الآخرين لا العمل على تطبيق هذه المقررات الأخلاقية بإنصاف على جميع الدول والمجتمعات البشرية المعاصرة.

وأساساً كيف يرتدي الإنسان رداء التكبّر في حين إنه وكما يقول أمير المؤمنينعليه‌السلام كان في البدايه نطفة حقيرة ، ثمّ جيفة نتنة ، ثمّ هو فيما بينهما يحمل العذرة؟

الإنسان ضعيف وعاجز إلى درجة أنّ البعوضة تؤذيه وحتّى أقل من البعوضة ، أي المكروب والفيروس الّذي لا يُرى بالعين المجرّدة قد يوقعه في حبال المرض الشديد ويؤدي به إلى أن يرقد على سرير المرضى لمدّة طويلة ، والإنسان الّذي يتالم من حرارة الهواء أو برودته ولو انقطع المطر مدّة عنه لشعر بالهلاك والتلف ولو أنّ المطر زاد قليلاً عن المألوف لوقع في مصيبة أدهى ، ولو أنّه قد ارتفع ضغطه قليلاً لوقع في خطر الموت وكذلك لو انخفض ضغطه أيضاً ، وهو لا يعلم مصيره ومستقبله حتّى لمدى ساعة من المستقبل

٣٠

القريب ولا يعلم متى يحين أجله وقد يكون أقرب الناس إليه هو الّذي يقتله ويذهب بحياته ، وقد يكون الماء الّذي يروي حياته موجباً لموته أيضاً ، وكذلك الهواء الّذي يتنسّمه ويستنشقه قد يتحول إلى إعصار مدمر في حركة سريعة فيتحول بيته ومأواه إلى خرائب وبذلك يفقد كلّ شيء لأتفه الأسباب.

ومن الامور الّتي تمثل علامة من علامات عجز الإنسان هي الأمراض الّتي تأخذ بحياة الإنسان وسعادته وسلامته والّتي غالباً ما تكون بسبب المكروبات والفيروسات الصغيرة جداً بحيث لا ترى إلّا بأقوى المجاهر والمكرسكوبات وبإمكانها أن تصرع أقوى الناس واغناهم وأشدّهم قوّة وقدرة.

إنّ مرض السرطان الموحش الّذي يُعدّ مرض العصر في هذا الزمان ويحصد أكثر الضحايا على الرغم من سعي آلاف الأطباء والعلماء في كلّ يوم وصرف مليارات من الأموال لعلاجه وايقافه عند حدّه هذا المرض كيف يحدث؟ أنّه يحدث بسبب طغيان واستكبار وتضخم خلية واحدة من خلايا البدن الّتي لا تُرى إلّا بالمجهر العظيم حيث تشرع هذه الخلية بالتكثّر من دون وازع أو نظم معين ، وهكذا تتضخّم هذه الخلايا وتصبح على شكل غدّة سرطانية في زمن قليل.

إنّ الكثير من القادة العسكريين ورؤساء العالم الّذين يقودون الجيوش العظيمة قد صُرعوا بهذا الداء الوبيل ، أي أنّ جيوشهم العظيمة لم تقدر على التصدي لخليّة صغيرة جداً من خلايا الجسد.

أجل فمثل هذا الضعف والعجز الذاتي للإنسان كيف يسوغ له إدّعاء العظمة والكبرياء بحيث يرتدي لباس العزة والعظمة على المخلوقين في حين أنّ العظمة والكبرياء مختصّتان بالله تعالى وليس لسواه من المخلوقات سوى العجز والفاقة والفقر.

ونختم هذا البحث بحديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام يبين فيه خلاصة لهذا البحث المنطقي ببيان جميل حيث يقول :«مِسْكِينُ بْنُ آدَمَ مَكْتُومُ الْاجَلِ ، مَكْنُونُ الْعِلَلِ ، مَحْفُوظُ الْعَمَلِ ،

٣١

تُؤْلِمُهُ الْبَقَّةُ وَتَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ ، وتُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ» (١) .

فهل مع هذا الحال يليق بالإنسان أن يرى لنفسه تفوقاً وتكبّراً على الآخرين ويفتخر عليهم من موقع رؤية العظمة للذات والأنا؟

ملاحظات :

وقد بقيت هنا مسائل وامور مهمّة لا بدّ من بيانها وهي كما يلي :

١ ـ تعريف التكبّر وحقيقته

قال علماء الأخلاق : إنّ أساس التكبّر وتعريفه هو أن يرى الإنسان علوّاً وتفوقاً على غيره ، وعليه فالتكبّر يتكون من ثلاثة أركان :الأوّل أن يرى لنفسه مقاماً ومرتبة معيّنة ،الثاني أن يرى لغيره أيضاً مقاماً معيّناً ،والركن الثالث أن يرى مقامه أعلى من مقام الآخر ويشعر بالراحة والفرح لأجل ذلك.

وعلى هذا الأساس قالوا : إنّ التكبّر يختلف عن العُجب ، ففي العجب لا توجد مقارنة مع الآخر ، بل إنّ الإنسان يتملّكه حالة من رؤية العظمة في نفسه بسبب العلم أو الثروة أو القدرة أو حتّى العبادة حتّى لو لم يكن إنسان آخر على وجه الأرض ، ولكن في حالة التكبّر هناك مقارنة مع الآخرين حتماً بحيث يرى نفسه أعلى منهم.

إنّ مفردة«الكبر والتكبّر» تارة تطلق على الحالة النفسية الّتي ذكرناها آنفاً ، وتارة اخرى تطلق على العمل أو الحركة الناشئة من تلك الحالة النفسانية ، مثلاً أن يجلس الإنسان أو يسير بخطوات أو يتحدّث بحديث يظهر منه انه يرى لنفسه تفوقاً على أقرانه وجلسائه ، فمثل هذه الأعمال والسلوكيات تسمّى بالتكبّر أيضاً والّتي تمتد في جذورها وأصلها إلى تلك الحالة الباطنية والنفسانية الذميمة.

إنّ علائم التكبّر كثيرة ، منها أنّ المتكبر يتوقع اموراً كثيرةً من الناس مثل أن يتوقع منهم

__________________

١ ـ نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، ٤١٩.

٣٢

أن يسلموا عليه ، وأن لا يدخل أحداً إلى المجلس قبله ، وأن يجلس في صدر المجلس دائماً ، والناس لا يرون لأنفسهم شخصية أمامه ولا يتكلمون معه من موقع الانتقاد والنقد بل حتّى من موقع النصيحة والموعظة فيحفظون احترامه وحرمته دائماً ويقفون أمامه موقف الخاضع الخاشع ويتحدثون بعظمته ومقامه السامي دائماً.

ومن البديهي أنّ ظهور وبروز هذه الحالات في ممارسات الإنسان وسلوكياته تابع لدرجة شدّة وضعف حالة التكبّر في واقعه النفساني ، ففي بعض الموارد تتجلّى هذه العلامات جميعاً ، وفي بعضها الآخر يتجلّى قسم منها.

هذه الحالات والسلوكيات في الواقع الخارجي لها جذور باطنية وأحياناً تكون ضعيفة وخفيّة إلى درجة إن الإنسان نفسه لا يشعر بوجودها بل قد يتصور هذه الصفة الذميمة من موقع نقطة القوّة (من قبيل الاعتماد على النفس وتوكيد الذات والشخصية) فتختلط عليه الحالة ، وأحياناً تكون ظاهرة إلى درجة أنّ الآخرين أيضاً يدركون وجودها في هذا الإنسان.

٢ ـ أقسام التكبّر

هناك مفاهيم متعددة تحكي عن هذه الحالة النفسانية حيث يتصور البعض أنّها مترادفة وبمعنى واحد ، والحال أنّ هناك اختلاف دقيق فيما بينها رغم أنّها تمتد جميعاً إلى أصل«التكبّر» ولكنها تتجلّى في زوايا ووجوه مختلفة.

(حالة الفوقية) ، (الأنانية) ، (الذاتية) ، (عظمة الشخصية) ، (التفاخر) ، كلّ هذه المفاهيم تمد جذورها إلى أصل«التكبر» رغم أنّها تعني مفاهيم مختلفة وناظرة إلى سلوكيات متنوعة في حركة الإنسان الإجتماعية والنفسية.

فقد تحكي الكلمة عن رؤية الذات أعلى من الآخرين وهي(النظرة الفوقية).

وقد يرى الإنسان نفسه هو الأجدر بسبب هذه الفوقية فيتحرّك ليستلم زمام الامور في جميع المناحي الإجتماعية والمناصب السياسية فهي(النظرة الأنانية).

٣٣

والشخص الّذي يسعى في المسائل الإجتماعية وخاصة عند بروز المشكلات والأزمات أن يؤمّن منافعه الشخصية ولا يهتم بمصالح الآخرين ومنافعهم فهي(الأنانية).

والشخص الّذي يسعى إلى تحكيم سلطته على الآخرين وجعل الآخرين طوع إرادته فهو مبتلى بحالة (السلطوية) ، وأخيراً فإنّ الشخص الّذي يسعى لاظهار ما لديه من مقام أو ثروة أمام الآخرين ويتعزّز بها فهي حالة (التفاخر).

وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الصفات والحالات تشترك جميعاً في أصل«التكبّر» رغم أنّها تظهر وتتجلى بأشكال مختلفة.

٣ ـ التكبّر على مَنْ؟

يقسّم علماء الأخلاق التكبّر إلى ثلاث أقسام :

١ ـ التكبّر أمام الله.

٢ ـ التكبّر مقابل الأنبياء.

٣ ـ التكبّر على خلق الله.

والمراد من التكبّر مقابل الله تعالى والّذي يُعد من أسوأ أنواع التكبّر وناشئاً من غاية الجهل هو أنّ الإنسان الضعيف يدّعي الإلوهية ، وليس فقط أنّه لا يرى نفسه عبداً لله بل يسعى إلى دعوة الناس لعبادته أيضاً ، أو يقول كما قال فرعون( .... أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ) (١) أو يقول( ... ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ) (٢) .

ومن البعيد جداً أن يرى الإنسان مثل«فرعون» الّذي حكم أرض مصر سنين متمادية أنه واقعاً«الربّ الأعلى» للناس وأنّه معبود الناس جميعاً حتّى لو كان على درجة شديدة من قلّة العقل وقلّة الذكاء ، إذن فالمراد حسب الظاهر أنّ فرعون وأمثاله ولغرض تحميق عامّة الناس واستحمار السُذّج منهم أن يدعوا هذا الأدّعاء لتثبيت أركان حكومتهم وسيطرتهم.

__________________

١ ـ سورة النازعات ، الآية ٢٤.

٢ ـ سورة القصص ، الآية ٣٨.

٣٤

الشكل الآخر من التكبّر إمام الله هو ما نجده من تكبّر إبليس وأتباعه حيث استكبروا ورفضوا إطاعة الله تعالى من موقع الأفضلية لأنفسهم والاعتراض على الحكم الإلهي وأمره حيث قالوا : إنّ إبليس الّذي خلق من النار لا ينبغي له السجود لمخلوق من تراب كما تقول الآية على لسان إبليس :( ... لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) (١) ، أو تقول الآية :( ... قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (٢) .

أجل فإنّ الحجاب العظيم للكبر والغرور قد يصل إلى درجة أن يحجب عقل الإنسان وبصيرته عن رؤية حقائق الامور وأنّه موجود ضعيف فيرى انه أعلم من الله تعالى.

القسم الآخر للتكبّر هو التكبّر في مقابل الأنبياء والمرسلين الّذين أرسلهم الله تعالى إلى أقوامهم كما نرى هذه الحالة في طوائف المستكبرين من الأقوام السالفة أمام أنبيائهم اذ رفضوا طاعة الأنبياء من موقع التكبّر والغرور وقالوا :( ... أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا ) (٣) أي موسى وهارون ، وتارة كانوا يقولون مثل مقولة قوم نوحعليه‌السلام :( وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ) (٤) .

وتارة اخرى يتذرعون بذرائع طفولية ويقولون من موقع العناد واللجاجة :( وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا ) (٥) .

القرآن الكريم يقول في سياق هذه الآيات الشريفة :( لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً ) (٦) .

القسم الثالث من أقسام التكبّر هو التكبر في مقابل عباد الله بحيث يرى نفسه أعلى منهم ويرى الآخرين من موقع الحقارة والدناءة وأنّهم لا قيمة لهم أمامه وبالتالي فلا يرى

__________________

١ ـ سورة الحجر ، الآية ٣٣.

٢ ـ سورة الأعراف ، الآية ١٢.

٣ ـ سورة المؤمنون ، الآية ٤٧.

٤ ـ سورة المؤمنون ، الآية ٣٤.

٥ ـ سورة الفرقان ، الآية ٢١.

٦ ـ المصدر السابق.

٣٥

للآخرين حقّاً عليه بل يتوقع من الآخرين أن يحترمونه ويعترفون بعظمته ويذعنون لأوامره ومطاليبه.

وهذا النوع من التكبّر له نماذج كثيرة في حياتنا الإجتماعية فلا حاجة للإطالة في شرحه وبيان مصاديقه وموارده ، وقد يمتد هذا النوع من التكبّر ويصل إلى درجة في أعماق النفس إلى التكبّر في مقابل الأنبياء ثمّ التكبّر أمام الله تعالى.

أجل فإنّ نار التكبّر والغرور تنشأ من التكبّر في مقابل عباد الله عادة ثمّ يتدرج الإنسان ويتمادى في هذه الحالة حتّى يتكبّر أمام دعوة الأنبياء ويرفض إطاعتهم وبالتالي يصل به الأمر إلى التكبّر أمام الله تعالى.

٤ ـ دوافع التكبّر

للتكبّر أسباب ودوافع كثيرة تعود كلّها إلى أنّ الإنسان يتصور لنفسه كمالاً معيناً ، وبسبب حبّه لذاته فإنه يرى نفسه أكبر من واقعها ويحتقر الآخرين كذلك.

بعض علماء الأخلاق مثل المرحوم(الفيض الكاشاني ) في كتابه المحجّة البيضاء يذكرون في مسألة دوافع الكِبر وأسبابه سبعة أسباب :

الأوّل : الأسباب الدينية من العلم والعمل ،والاخرى الأسباب الدنيوية من النسب والجمال والقوّة والثروة وكثرة الأعوان والأصحاب ، ثمّ ذكر الفيض الكاشاني لكلّ واحدة من هذه الأسباب شرحاً وافياً نذكره بشكل مختصر ، حيث يقول :

الأوّل : العلم ، وما اسرع الكبر إلى العلماء ولذلك قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«آفة العلم الخيلاء» فلا يلبث أن يتعزّز بعزّ العلم ، ويستشعر في نفسه جمال العلم وكماله ويستعظم نفسه ويستحقر الناس وينظر إليهم نظره إلى البهائم ويتوقع أن يبدؤوه بالسلام.

العلم الحقيقي هو الّذي يعرف الإنسان به نفسه وربّه وخطر الخاتمة وحجة الله على العلماء وعظم خطر العلم فيه ، كما سيأتي في طريق معالجة الكبر بالعلم وهذه العلوم تزيد خوفاً وتواضعاً وتخشعاً ويقتضي أن يرى أنّ كلّ الناس خير منه لعظم حجة الله تعالى عليه

٣٦

بالعلم وتقصيره في القيام بشكر نعمة العلم ولهذا قال أبو الدرداء : «من إزداد علماً إزداد خوفاً» وهو كما قال.

الثاني : العمل والعبادة وليس يخلو عن رذيلة الغرور والكبر واستمالة قلوب الناس الزهّاد والعبّاد ويترشح الكبر منهم في الدنيا والدين. أما الدنيا فهو أنّهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى من أنفسهم بزيارة غيرهم ويتوقعون قيام الناس بقضاء حوائجهم وتوقيرهم والتوسع لهم في المجالس وذكرهم بالورع والتقوى وتقديمهم على سائر الناس من الحظوظ إلى جميع ما ذكرناه في حقّ العلماء وكأنهم يرون عبادتهم منّة على الخلق ، وأما فى الدين فهو أن يرى الناس هالكين ويرى نفسه ناجياً وهو الهالك تحقيقاً مهما رأى ذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم» ، وإنما قال ذلك لأن هذا القول يدل على أنّه لخلق الله ، مغتر بالله ، آمن من مكره ، غير خائف من سطوته ، وكيف لا يخاف ويكفيه شراً احتقاره لغيره ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :«كفى بالمرء شراً أن يحقر أخاه المسلم» وكم من الفرق بينه وبين من يحبّه لله ويعظمه لعبادته ويستعظمه ويرجو له ما لا يرجو لنفسه فالخلق يدركون النجاة بتعظيمهم إياه لله فهم يتقربون إلى الله بالدنو منه وهو يتمقت إلى الله بالتنزه والتباعد منهم كأنه مرتفع عن مجالستهم ، فما أجدرهم إذا أحبّوه لصلاحه أن ينقلهم الله الى درجته في العمل وما أجدر إذا ازدراهم بعينه أن ينقله الله الى حدّ الإهمال.

وهذه الآفة أيضاً قلما ينفك عنها العباد وهو أنّه لو استخف به مستخف أو آذاه مؤذ استبعد أن يغفر الله له ولا يشك في أنّه صار ممقوتاً عند الله ولو آذى مسلما آخر لم يستنكر ذلك الاستنكار وذلك لعظم قدر نفسه عنده وهو جهل وجمع بين العجب والكبر والاغترار بالله وقد ينتهي الحمق والغباوة لبعضهم إلى أن يتحدّى ويقول سترون ما يجري عليه ، وإذا اصيب بنكبة زعم أنّ ذلك من كراماته وأنّ الله ما أراد به إلّا شفاء علته والانتقام له.

فما أعظم الفرق بين مثل هذا الجاهل وبين بعض ما ورد عن أحد العباد الّذي قال بعد انصرافه من عرفات : كنت أرجو الرحمة لجميعهم لو لا كوني فيهم ، فانظر إلى الفرق بين

٣٧

الرجلين.

ونختم هذا البحث بحديث شريف عن النبي الأكرم حيث ورد في الروايات أنّه تحدث بعض الأصحاب عن رجل وذكروه بخير للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأقبل ذات يوم فقالوا : يا رسول الله هذا الّذي ذكرناه لك ، فقال : إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان فسلم ووقف على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«أسألك بالله حدّثتك نفسك أن ليس في القوم أفضل منك؟ فقال : اللهم نعم» (١) ، فرأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بنور النبوة ما استكن في قلبه سفعة في وجهه.

الثالث : التكبر بالنسب والحسب فالّذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملاً وعلماً وقد يتكبر بعضهم فيرى أنّ الناس له موالٍ وعبيد ويأنف من مجالستهم ومخالطتهم ، والحال أنّ الإسلام ليس فيه تفاضل بالحسب والنسب ، كما روي عن أبي ذر أنّه قال : قاولت رجلاً عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت له : يا ابن السوداء فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«يا أبا ذر طف الصّاع ليس لابن بيضاء على ابن سوداء فضل».

قال أبو ذر فاضطجعت وقلت للرجل : قم فطأ على خدي» فانظر كيف نبهه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه رأى لنفسه فضلاً بكونه ابن بيضاء وإن ذلك خطأ وجهل فانظر كيف تاب وكيف قلع من نفسه شجرة الكبرياء خمص قدم من تكبر عليه إذ عرف أنّ العزّ لا يقمعه إلّا الذلّ(٢) .

وعلى أى حال فقد قرأنا كثيراً من النصوص الشريفة في القرآن والروايات تؤكد لنا أن لا فضل لإنسان على آخر بالنسب والعرق وأمثال ذلك ، فهذه كلها امور اعتبارية تعرض على الإنسان من الخارج ، بينما تتقوم شخصية الإنسان وقيمته بما يتضمنه من امتيازات معنوية في محتواه الباطني ، وعلى فرض أنّ ارتباطه مع بعض العظماء بالنسب يوجب له فضيلةً وامتيازاً على غيره ، فلا ينبغي أن يكون ذلك سبباً للاحساس بالغرور والتكبّر والتفاخر على الآخرين.

وعند ما نرى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في نهج البلاغة ، أو الإمام زين العابدينعليه‌السلام في

__________________

١ ـ المحجّة البييضاء ، ج ٦ ، ص ٢٤٠.

٢ ـ المحجة البيضاء ، ج ٦ ، ص ٢٤٣.

٣٨

خطبته المعروفة في الشام يفتخران بنسبهما فذلك ليس من قبيل حبّ التفوق والتفاخر ، بل بدافع آخر ، حيث أرادا إظهار إمامتهما ورسالتهما الدينية الإلهية لبعض المغفلين والجهلاء ، مثل ما يقوم به قائد الجيش من تعريف نفسه للجنود وبيان مكانته ومقامه بهدف دعوتهم الى اطاعته وامتثال أوامره.

الرابع : التفاخر بالجمال وذلك يجري أكثره بين النساء ويدعو ذلك التنقّص والثلب والغيبة وذكر عيوب الناس ، ومن ذلك ما روي عن عائشة أنّها قالت : دخلت امرأة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فلما خرجت فقلت بيدي ـ هكذا ـ أي أنّها قصيرة ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :«قد اغتبتها» وهذا منشؤه خفي الكبر لأنها لو كانت أيضاً قصيرة لما ذكرتها بالقصر فكأنها أعجبت بقامتها واستقصرت المرأة في جنب نفسها فقالت ما قالت.

الخامس : الكبر بالمال وذلك يجري بين الملوك في الخزائن ، وبين التجار في بضائعهم ، وبين الدهاقين في أراضيهم ، وبين المتجملين في لباسهم وخيولهم ومراكبهم فيستحقر الغني الفقير ويقول له أنت مكدّ ومسكين وأنا لو أردت لاشتريت مثلك واستخدمت من هو فوقك ومن أنت وما معك وأثاث بيتي يساوي أكثر من جميع مالك.

ومن ذلك تكبر قارون اذ قال تعالى :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (١) وقد ورد في التواريخ أنّه كان يخرج على قومه من بنى إسرائيل بجميع خدمه وحشمه البالغ عددهم أربعة آلاف نفر وهم يركبون الجياد المزينة بالحلي وملابس الزينة ويصحبون معهم الجواري الجميلات وهنّ في كامل الزينة من الجواهر والذهب ، ولكن كل ذلك ينتهي في لحظة حيث خسفت به الأرض بأمر الله وابتلعت ما كان له من ثروات وقصور ودفن قارون معها أيضاً وصار عبرة لمن اعتبر(٢) .

السادس : القوة والقدرة البدنية وشدة البطش أو الموقع السياسي أو الاجتماعي ، والتكبر

__________________

١ ـ سورة القصص ، الآية ٧٩.

٢ ـ للاطلاع على قصة قارون بالتفصيل راجع تفسير الأمثل ، ذيل الآية أعلاه.

٣٩

به على أهل الضعف ، وغالباً ما يتوفر هذا الحال لدى الامراء والأقوياء وأصحاب السلطة من الناس حيث يرون أنفسهم «ظل الله في الأرضين» ويتوقعون من الآخرين أن يتعاملوا معهم من موقع التعظيم والتكريم كما يفعل الغلمان والعبيد. ولو صدرت منهم أقل حركة أو كلمة خاطئة لا تتفق ومقامهم العالي وشأنهم الكبير فسوف لا ينجو صاحبها من العقاب.

وقد ذكر في بعض حالات السلاطين القدماء أنّه كلما أراد الناس الدخول عليه في مجلسه فيجب عليهم تكميم أفواههم بمنديل أو أي شيء آخر لئلّا يتلوث معطف السلطان ببخار أفواه الرعايا ورائحة فمهم الكريهة ، وهذا هو السبب في تفعيل عنصر الكبر والغرور في نفوس هؤلاء وما يتولد منه من أخطاء كبيرة ومآثم شنيعة تؤدي إلى الإسراع في زوال حكمهم وانهيار دولتهم.

السابع : التكبر بالأتباع والأنصار والتلامذة والعلماء والعشيرة والأقارب والبنين ويجري ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود وبين العلماء بالمكاثرة بالمتنفذين ، وبالجملة فكلّ ما هو نعمة وأمكن أن يعتقد كمالاً وإن لم يكن في نفسه كمالاً أمكن أن يتكبر به ، حتّى أنّ المخنث يتكبر على أقرانه بزيادة قدرته ومعرفته في صنعة المخنثين لأنّه يرى ذلك كمالاً فيفتخر به وإن لم يكن فعله إلّا نكالاً وكذلك الفاسق قد يفتخر بكثرة الشرب وكثرة الفجور بالنسوان والغلمان ويتكبر به لظنه أنّ ذلك كمال وإن كان مخطأً فيه(١) .

هذه الامور السبعة هي امور قد يصاب الأشخاص بجميعها أو ببعض منها ويتطاولون على الآخرين بالفخر والتكبّر ، وبالطبع لا تنحصر الدوافع بهذه السبعة ، فإنّ كلّ صفة كمال أو نقطة قوّة معنوية أو مادية سواءً واقعية أو خيالية يمكن أن تسبب الغرور وتدفع بصاحبها إلى التكبّر على الآخرين.

وهذا الكلام لا يعني أنّ الإنسان يجب عليه للتوقي من التكبّر والغرور أن يبتعد عن أسباب الكمال ولا يتحرّك باتجاه المعنويات والكمالات الإنسانية ويقتل في نفسه عناصر الخير والصلاح لكي لا تكون منشئاً للغرور والفخر ، بل الغرض من ذلك إن الإنسان كلّما

__________________

١ ـ المحجّة البيضاء ، ج ٦ ، ص ٢٤٠ ـ ٢٤٤.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وأشبههما : المنع ؛ لأنّ الأرض هنا تابعة ، والمتبوع منقول(١) .

وعندنا أنّ قبل القسمة تثبت الشفعة ، وإلّا فلا.

مسالة ٧٠٤ : لو باع شقصاً فيه زرع لا يجزّ مراراً وأدخله في البيع‌ ، أخذ الشفيع الشقص بحصّته من الثمن دون الزرع ، وبه قال الشافعي(٢) ، خلافاً لأبي حنيفة ومالك(٣) ، وقد سبق(٤) .

وإن كان ممّا يجزّ مراراً ، فالجزّة الظاهرة التي لا تدخل في البيع المطلق كالثمار المؤبَّرة ، والاُصول كالأشجار ، قاله الشافعي(٥) .

وعندنا أنّه لا يدخل في الشفعة أيضاً ولا في البيع على ما تقدّم(٦) .

أمّا ما يدخل تحت مطلق بيع الدار من الأبواب والرفوف والمسامير فالأقرب : أنّه يؤخذ بالشفعة تبعاً ، كالأبنية.

ولو باع شقصاً من طاحونة ، لم يدخل شي‌ء من الأحجار فيها على ما تقدّم(٧) .

وقال الشافعي : يؤخذ التحتاني(٨) إن قلنا بدخوله في البيع ، وفي الفوقاني وجهان(٩) .

____________________

(١) الوسيط ٤ : ٧٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٥.

(٤) في ص ١٩٧ - ١٩٨ ، المسألة ٧٠٢.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦.

(٦) في ص ٤٧ ، المسألة ٥٧٢.

(٧) في ص ٥٩ ، ضمن المسألة ٥٧٦ ، القسم الثالث.

(٨) أي : الحجر التحتاني.

(٩) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٥ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٧.

٢٠١

مسالة ٧٠٥ : شرطنا في محلّ الشفعة من العقار كونه ثابتاً. واحترزنا بالثابت عمّا إذا كان بين اثنين غرفةٌ عالية أو حجرة معلّقة على سقف لأحدهما أو لغيرهما ، فإذا باع [ أحدهما ](١) نصيبه ، فلا شفعة لشريكه ؛ لأنّه لا أرض لها ولا ثبات فأشبهت المنقولات.

ولو كان السقف لهما وبِيع معها ، فالأقرب : أنّه لا شفعة لشريكه أيضاً ؛ لأنّ الأرض التي لهما لا ثبات لها ، وما لا ثبات له في نفسه لا يعدّ(٢) ثباتاً لما هو عليه ، وهو أحد وجهي الشافعيّة(٣) .

والثاني : أنّ الشفعة تثبت ؛ للاشتراك بينهما أرضاً وجدراناً(٤) .

وليس بجيّد ؛ لأنّ ما هو أرضهما لا ثبات له.

ولو كان السفل بين اثنين والعلوُّ لأحدهما فباع صاحب العلوِّ العلوَّ ونصيبَه من السفل ، كان للشفيع أخذ السفل لا غير ؛ لأنّ الشفعة لا تثبت في الأرض إلّا إذا كانت مشتركةً ، فكذلك ما فيها من الأبنية ، ولا شركة بينهما في العلوّ ، وهو قول بعض الشافعيّة(٥) .

وقال بعضهم : إنّ الشريك يأخذ السفل ونصف العلوّ بالشفعة ، لأنّ الأرض مشتركة بينهما ، وما فيها تابع لها ، ألا ترى أنّه يتبعها في بيع الأرض عند الإطلاق ، فكذلك في الشفعة(٦) . وليس بشي‌ء.

ولو كانت بينهما أرض مشتركة ، وفيها أشجار لأحدهما ، فباع صاحب الأشجارِ الأشجارَ ونصيبَه من الأرض ، ففيه الخلاف المذكور.

مسالة ٧٠٦ : يشترط كون المبيع مشتركاً بين اثنين لا أزيد‌ ، فلو تعدّد‌

____________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٢) كذا ، والظاهر : « لا يفيد » بدل « لا يعدّ ».

(٦-٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٦ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٧.

٢٠٢

الشركاء وزادوا على اثنين ، فلا شفعة عند أكثر علمائنا(١) ، خلافاً للعامّة.

لنا : الأصل عدم الشفعة ، أثبتناها في الاثنين ؛ دفعاً لضرورة الشركة ، وهذا المعنى منتفٍ في حقّ الزائد على الاثنين ، فيبقى على أصالة العدم.

وما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله « أنّه قضى بالشفعة في كلّ مشترك(٢) لم يقسم رَبْع أو حائط لا يحلّ له أن يبيعه حتى يؤذنَ شريكه ، فإن شاء أخذ ، وإن شاء ترك ، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحقّ به »(٣) وهو يدلّ على الاقتصار على الواحد.

ومن طريق الخاصّة : رواية عبد الله بن سنان - الصحيحة - عن الصادقعليه‌السلام قال : « لا تكون الشفعة إلّا لشريكين ما لم يتقاسما ، فإذا صاروا ثلاثةً ، فليس لواحدٍ منهم شفعة »(٤) .

وفي رواية يونس - السابقة(٥) - عن الصادقعليه‌السلام : « وإن زاد على الاثنين فلا شفعة لأحدٍ منهم ».

وقال بعض(٦) علمائنا - وهو قول الجمهور كافّة - : إنّها تثبت مع الكثرة ، لما رواه السكوني عن الصادق عن الباقر عن آبائه عن عليّ : قال : « الشفعة على عدد الرجال »(٧) .

____________________

(١) منهم : الشيخ المفيد في المقنعة : ٦١٨ ، والشيخ الطوسي في النهاية : ٤٢٤ ، وسلّار في المراسم : ١٨٣ ، وأبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه : ٣٦١.

(٢) كذا في « س ، ي » والطبعة الحجريّة ، وفي المصدر : « شركة » بدل « مشترك ».

(٣) صحيح مسلم ٣ : ١٢٢٩ / ١٣٤ ، سنن النسائي ٧ : ٣٢٠.

(٤) الكافي ٥ : ٢٨١ / ٧ ، التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٩ ، الاستبصار ٣ : ١١٦ / ٤١٢.

(٥) في ص ١٩٥ - ١٩٦.

(٦) الشيخ الصدوق في الفقيه ٣ : ٤٦ ، ذيل الحديث ١٦٢.

(٧) التهذيب ٧ : ١٦٦ / ٧٣٦ ، الاستبصار ٣ : ١١٦ - ١١٧ / ٤١٦.

٢٠٣

والطريق ضعيف لا يعوّل عليه.

إذا ثبت هذا ، فالقائلون بثبوت الشفعة مع الكثرة اختلفوا ، فقال بعضهم : إنّها على عدد الرؤوس(١) . وقال بعضهم : إنّها على عدد الأنصباء(٢) .

مسالة ٧٠٧ : شرطنا في المأخوذ أن كان ممّا يقبل القسمة‌ ، كالبساتين والدور المتّسعة وغيرها ؛ لأنّ ما لا يقبل القسمة - كالحمّام والدار الضيّقة والعضائد الضيّقة وما أشبه ذلك - لا تثبت فيه الشفعة عند أكثر علمائنا(٣) - وبه قال عثمان وربيعة والشافعي ومالك في إحدى الروايتين(٤) - لأنّ الشفعة تضرّ بالبائع ؛ لأنّه لا يمكنه أن يخلص نصيبه بالقسمة ، وقد يمتنع المشتري لأجل الشفيع ، ولا يمكنه القسمة ، فيسقط حقّ الشفعة ، فلهذا لم تجب الشفعة.

____________________

(١) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٢٥ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٨ / ١٩٦٥ ، الوسيط ٤ : ٩٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٨٢ ، المغني ٥ : ٥٢٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٩٠.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٢٥ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٨ / ١٩٦٥ ، الوسيط ٤ : ٩٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٩٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٥٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ١٨٢ ، المغني ٥ : ٥٢٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٩٠.

(٣) منهم : الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٤٤١ ، المسألة ١٦ ، وسلاّر في المراسم : ١٨٣ ، والمحقّق الحلّي في المختصر النافع : ٢٥٧.

(٤) المغني ٥ : ٤٦٥ و ٤٦٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٦٨ و ٤٦٩ ، معالم السنن - للخطّابي - ٥ : ١٧٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٤ ، الوجيز ١ : ٢١٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٧ و ١٥٨ ، وفي الخلاف - للشيخ الطوسي - ٣ : ٤٤١ ، المسألة ١٦ حكاية قول عثمان أيضاً.

٢٠٤

ولما رواه السكوني عن الصادق ٧ قال : « قال رسول الله ٦ : لا شفعة في سفينة ولا في نهر ولا في طريق »(١) .

وقال بعض(٢) علمائنا : تثبت فيه الشفعة - وبه قال الثوري ومالك في الرواية الاُخرى ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وأبو العباس بن سريج من الشافعيّة ، ونقله قولاً آخَر للشافعي(٣) - لعموم قول الصادقعليه‌السلام : « الشفعة جائزة في كلّ شي‌ء »(٤) .

ولأنّ الشفعة تثبت لأجل الضرر بالمشاركة ، والضرر في هذا النوع أكثر ، لأنّه يتأبّد ضرره.

والرواية مقطوعة السند.

وأصل اختلاف الشافعيّة هنا مبنيّ على علّة ثبوت الشفعة في المنقسم(٥) إن قلنا : إنّها تثبت لدفع ضرر الشركة فيما يتأبّد ويدوم ، كتضيّق المداخل ، والتأذّي بحرفة(٦) الشريك أو أخلاقه(٧) أو كثرة الداخلين عليه ، وما أشبه ذلك.

____________________

(١) الكافي ٥ : ٢٨٢ / ١١ ، التهذيب ٧ : ١٦٦ / ٧٣٨ ، الاستبصار ٣ : ١١٨ / ٤٢٠.

(٢) كالسيّد المرتضى في الانتصار : ٢١٥ ، وابن إدريس في السرائر ٢ : ٣٨٩.

(٣) المغني ٥ : ٤٦٥ - ٤٦٦ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٦٩ ، معالم السنن - للخطّابي - ٥ : ١٧٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ٣٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٧.

(٤) الكافي ٥ : ٢٨١ / ٨ ، التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٣٠ ، الاستبصار ٣ : ١١٦ / ٤١٣.

(٥) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « التقسيم » بدل « المنقسم ». والصحيح ما أثبتناه.

(٦) في الطبعة الحجريّة : « بخراءة » بدل « بحرفة » ولها وجه ، وفي « س ، ي » بدلهما : « بجزية ». وهي تصحيف ما أثبتناه من المصدر.

(٧) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « اختلافه » بدل « أخلاقه ». وما أثبتناه من المصدر.

٢٠٥

وأصحّهما : أنّها تثبت لدفع الضرر الذي ينشأ من القسمة من بذل مئونتها ، والحاجة إلى أفراد الحصّة الصائرة إليه بالمرافق الواقعة في حصّة صاحبه ، كالمِصْعَد والمبرز والبالوعة ونحوها ، وكلّ واحد من الضررين وإن كان حاصلاً قبل البيع لكن مَنْ رغب من الشريكين في البيع كان من حقّه أن يخلص الشريك ممّا هو فيه ببيعه منه ، فإذا لم يفعل ، سلّطه الشرع على أخذه. فإن قلنا بالأصحّ ، لم تثبت الشفعة فيما لا ينقسم ؛ لأنّه يؤمن فيه من ضرر القسمة. وإن قلنا بالأوّل ، ثبتت الشفعة فيه(١) .

مسالة ٧٠٨ : المراد من المنقسم ما يتجزّأ ويكون كلّ واحد من جزءيه منتفعاً به من الوجه الذي كان ينتفع به قبل القسمة دون غيره ، ولا عبرة بإمكان الانتفاع به من وجوه اُخر ؛ للتفاوت العظيم بين أجناس المنافع.

وقيل : المنقسم ما لا تنقص قيمته نقصاناً فاحشاً ، فلو كانت قيمة الدار مائةً ولو قُسّمت عادت قيمة كلّ نصف إلى ثلاثين ، لم تقسّم ، لما فيها من الضرر(٢) .

وقيل : إنّه الذي يبقى منتفعاً به بعد القسمة بوجه ما ، أمّا إذا خرج عن حدّ الانتفاع بالكلّيّة - أمّا لضيق الخطّة وقلّة النصيب ، أو لأنّ أجزاءه غير منتفع بها وحدها ، كشرب القنا(٣) ، ومصراعي الباب - فلا ينقسم(٤) .

مسالة ٧٠٩ : إذا كانت الطاحونة أو الحمّام كبيرين يمكن إفراد حصّة‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٧.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٧.

(٣) في « العزيز شرح الوجيز » بدل « كشرب القنا » : « كماء سراب القنا ». ولعلّها : « كأسراب القنا ». والسرب : القناة الجوفاء التي يدخل منها الماءُ الحائطَ. لسان العرب ١ : ٤٦٦ « سرب ».

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٠ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٧ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٧ - ١٥٨.

٢٠٦

كلٍّ منهما عن صاحبه من غير تضرّر ، أو كان مع البئر أرض تسلم البئر لأحدهما ، أو كان في الرحى أربعة أحجار دائرة يمكن أن ينفرد كلٌّ منهما بحجرين ، أو كان الطريق واسعاً لا تبطل منفعته بالقسمة ، أو كان الحمّام كثير البيوت يمكن جَعْله حمّامين ، أو متّسع البيوت يمكن جعل كلّ بيت بيتين ، أو كانت البئر واسعة يمكن أن يبنى فيها فتجعل بئرين لكلّ واحدة بياض يقف فيه المستقي ويُلقي فيه ما يخرج منها ، تثبت الشفعة في ذلك كلّه.

ولو كان بين اثنين دار ضيّقة لأحدهما عُشْرها ، فإن قلنا بثبوت الشفعة فيما لا يقسم ، فأيّهما باع نصيبه فلصاحبه الشفعة. وإن حكمنا بمنعها ، فإن باع صاحب العُشْر نصيبه ، لم تثبت لصاحبه الشفعة ؛ لأنّه آمنٌ من أن يطلب مشتريه القسمة ؛ لانتفاء فائدته فيها ، ولو طلب لم يُجِبْ إليه ؛ لأنّه متعنّت مضيّع لماله ، وإذا كان كذلك ، فلا يلحقه ضرر القسمة.

فإن باع الآخَر ، ففي ثبوت الشفعة لصاحب العُشْر وجهان بناءً على أنّ صاحب الأزيد هل يُجاب إذا طلب القسمة ؛ لأنّه منتفع بالقسمة؟ والظاهر عند الشافعي أنّه يجاب(١) . ونحن نقول بخلافه.

ولو كان حول البئر بياض وأمكنت القسمة بأن تُجعل البئر لواحدٍ والبياض لآخَر ، أو كان موضع الحجر والرحى واحداً وله بيت ينتفع به وأمكنت القسمة بأن يجعل موضع الحجر لواحدٍ والبيت لآخَر ، تثبت الشفعة - وهو أحد قولي الشافعي(٢) - وهو مبنيّ على أنّه لا يشترط فيما يصير لكلّ واحدٍ منهما أن يمكن الانتفاع به من الوجه الذي كان ينتفع به قبل القسمة.

ولو كان لاثنين مزرعة يمكن قسمتها وبئر يستقى منها باع أحدهما‌

____________________

(١و٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٨ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٨.

٢٠٧

نصيبه منهما ، تثبت للآخَر الشفعة فيهما إن انقسمت البئر ، أو قلنا بثبوت الشفعة فيما لا ينقسم ، وإلّا ثبتت في المزرعة.

وهل تثبت في البئر؟ الأقوى : أنّها تثبت ؛ لأنّها تابعة ، كالأشجار ، وهو أحد قولي الشافعي(١) .

وأصحّهما : المنع ، والفرق بين البئر والأشجار ظاهر ؛ فإنّ الأشجار ثابتة في محلّ الشفعة ، والبئر مباينة عنه(٢) .

والفرق لا يُخرج البئر عن التبعيّة ، ويُذكر غيره(٣) ، كالحائط.

البحث الثاني : في الآخذ.

مسالة ٧١٠ : أخذ الشفعة يشترط أن يكون شريكاً في المشفوع‌ ، فلا تثبت الشفعة بالجوار ، وإنّما تثبت بالخلطة إمّا في الملك أو في طريقه أو نهره أو ساقيته ، وبه قال عبيد الله بن الحسن العنبري وسوار القاضي(٤) .

ووافقنا الشافعي على أنّ الشفعة لا تثبت للجار - وبه قال عمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار وسعيد بن المسيّب ويحيى ابن سعد الأنصاري ، ومن الفقهاء : ربيعة ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور(٥) - لما رواه العامّة عن النبيّ ٦ أنّه قال : « الشفعة فيما‌

____________________

(١و٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٨.

(٣) أي : أنّ الذي يُذكر في البيع غير البئر.

(٤) المغني ٥ : ٤٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٦٦ - ٤٦٧ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٧.

(٥) المغني ٥ : ٤٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٦٦ ، الوجيز ١ : ٢١٥ ، الوسيط ٤ : ٧٢ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٩ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٩ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٥٦.

٢٠٨

لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصُرّفت(١) الطرق فلا شفعة »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الباقرعليه‌السلام : « إذا وقعت السهام ارتفعت الشفعة »(٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « الشفعة لا تكون إلّا لشريك »(٤) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إذا رفّت الأرف(٥) وحدّت الحدود فلا شفعة »(٦) .

وقال أبو حنيفة والثوري وابن شبرمة وابن أبي ليلى : إنّ الشفعة تثبت بالشركة ثمّ بالشركة في الطريق ثمّ بالجوار(٧) .

وفصّل أبو حنيفة ، فقال : يقدّم الشريك ، فإن لم يكن شركة وكان الطريق مشتركاً كدربٍ لا ينفذ ، فإنّه تثبت الشفعة لجميع أهل الدرب الأقرب فالأقرب ، ولو لم يأخذ هؤلاء ، تثبت للملاصق من درب آخَر خاصّةً ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « الجار أحقّ بسَقَبه(٨) »(٩) وقالعليه‌السلام : « جار‌

____________________

(١) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « ضربت » بدل « صُرّفت ». وما أثبتناه من المصادر. اُنظر : الهامش التالي.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ١١٤ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٨٣٥ / ٢٤٩٩ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٥ / ٣٥١٤ ، سنن البيهقي ٦ : ١٠٢.

(٣) الكافي ٥ : ٢٨٠ / ٣ ، الفقيه ٣ : ٤٦ / ١٦١ ، التهذيب ٧ : ١٦٣ / ٧٢٤.

(٤) التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٥.

(٥) الاُرفة : الحدّ ومعالم الحدود بين الأرضين. الصحاح ٤ : ١٣٣١ « أرف ».

(٦) الكافي ٥ : ٢٨٠ / ٤ ، التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٧.

(٧) حلية العلماء ٥ : ٢٦٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٩ ، المغني ٥ : ٤٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٦٦.

(٨) السَّقَب : القرب. النهاية - لابن الأثير - ٢ : ٣٧٧ « سقب ».

(٩) صحيح البخاري ٣ : ١١٥ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٦ / ٣٥١٦ ، سنن الترمذي ٣ : ٦٥٣ ، ذيل الحديث ١٣٧٠.

٢٠٩

الدار أحقّ بدار جاره أو الأرض »(١) (٢) .

والحديث ممنوع ، وقد طعن فيه جماعة ؛ لأنّ الحديث الأخير رواه الحسن(٣) [ عن ](٤) سمرة(٥) ، وقال أصحاب الحديث : لم يرو عنه إلّا حديثاً واحداً ، وهو حديث العقيقة(٦) (٧) . و « الجار » في الحديث الأوّل يُحمل على الشريك.

إذا ثبت هذا ، فإنّه لا شفعة للجار ، سواء كان ملاصقاً أو مقابلاً.

وقال أبو حنيفة : للجار الملاصق الشفعة ، وللمقابل أيضاً إذا لم يكن الطريق بينهما نافذاً(٨) . وعن ابن سريج من الشافعيّة(٩) تخريج كمذهب أبي حنيفة.

مسالة ٧١١ : قد بيّنّا أنّه لا تثبت الشفعة بالجوار ولا فيما قُسّم ومُيّز إلّا أن يكون بينهما شركة في طريق أو نهر أو ساقية بشرط أو يبيع الدارَ مع الطريق ، والبستانَ مع الشرب أو النهر ؛ لما رواه منصور بن حازم - في الحسن - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن دار فيها دُوْرٌ وطريقهم واحد‌

____________________

(١) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٦ / ٣٥١٧.

(٢) مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٣٩ / ١٩٤٧ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٧ ، المغني ٥ : ٤٦١ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٦٦.

(٣) وهو : الحسن البصري. راجع المصادر في الهامش ٦.

(٤) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ابن ». وذلك تصحيف.

(٥) وهو : سمرة بن جندب. راجع المصادر في الهامش التالي.

(٦) سنن الترمذي ٤ : ١٠١ / ١٥٢٢ ، سنن البيهقي ٩ : ٣٠٣ ، المستدرك - للحاكم - ٤ : ٢٣٧ ، المعجم الكبير - للطبراني - ٧ : ٢٤٢ - ٢٤٣ / ٦٨٢٧ - ٦٨٣٢ ، المصنّف - لابن أبي شيبة - ٨ : ٤٨ / ٤٢٩٠ ، و ١٤ : ١٢٢ / ١٨١٥٦.

(٧) التمهيد ١ : ٣٧ ، الاستذكار ٥ : ١٩ / ٥٦٨٦ ، المغني ٥ : ٤٦٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٦٨.

(٨و٩) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٩.

٢١٠

في عرصة الدار فباع بعضهم منزله من رجل هل لشركائه في الطريق أن يأخذوا بالشفعة؟ فقال : « إن كان باب الدار وما حول بابها إلى الطريق غير ذلك ، فلا شفعة لهم ، وإن باع الطريق مع الدار فلهم الشفعة »(١) .

وعن منصور بن حازم - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : دار بين قوم اقتسموها فأخذ كلّ واحد منهم قطعة وتركوا بينهم ساحة فيها ممرّهم فجاء رجل فاشترى نصيب بعضهم ، إله ذلك؟ قال : « نعم ، ولكن يسدّ بابه ويفتح باباً إلى الطريق ، أو ينزل من فوق البيت ويسدّ بابه ، وإن أراد صاحب الطريق بيعه فإنّهم أحقّ به ، وإلّا فهو طريقه يجي‌ء يجلس على ذلك الباب »(٢) .

وعن منصور بن حازم عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : دار بين قوم اقتسموها وتركوا بينهم ساحة فيها ممرّهم فجاء رجل فاشترى نصيب بعضهم ، إله ذلك؟ قال : « نعم ، ولكن يسدّ بابه ويفتح بابا إلى الطريق أو ينزل من فوق البيت ، فإن أراد شريكهم أن يبيع منقل قدميه فإنّهم أحقّ به ، وإن أراد يجي‌ء حتى يقعد على الباب المسدود الذي باعه لم يكن لهم أن يمنعوه »(٣) .

مسالة ٧١٢ : الدار إمّا أن يكون بابها مفتوحاً إلى دربٍ نافذ‌ ، أو غير نافذ ، فإن كان الأوّل ولا شريك له في الدار ، فلا شفعة فيها لأحدٍ ولا في ممرّها ؛ لأنّ هذا الدرب غير مملوك. وإن كان الثاني ، فالدرب ملك مشترك بين سكّانه على السويّة. فإن باع نصيبه من الممرّ وحده ، فللشركاء الشفعة‌

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٦٥ / ٧٣١.

(٢) الكافي ٥ : ٢٨١ / ٩ ، التهذيب ٧ : ١٦٥ / ٧٣٢ ، الاستبصار ٣ : ١١٧ / ٤١٨.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٧ - ١٦٨ / ٧٤٣.

٢١١

إن كان واحداً وأمكن قسمته ، وإلّا فلا.

وإن باع الدار بممرّها فللشريك في الممرّ الشفعةُ في الدار وطريقها.

وقال الشافعي : لا شفعة له في الدار ؛ لأنّه لا شركة [ له ](١) فيها ، فصار كما لو باع شقصاً من عقار مشترك وعقاراً غير مشترك(٢) .

وقال أبو حنيفة(٣) كقولنا من إثبات الشفعة.

وإن أرادوا أخذ الممرّ بالشفعة ، قال الشافعي : يُنظر إن كان للمشتري طريق آخَر إلى الدار أو أمكنه فتح بابٍ آخَر إلى شارع ، فلهُمْ ذلك على المشهور إن كان منقسماً ، وإلّا فعلى الخلاف في غير المنقسم.

وقال بعض الشافعيّة : إن كان في اتّخاذ الممرّ الحادث عسر أو مئونة لها وَقْعٌ ، وجب أن يكون ثبوت الشفعة على الخلاف الآتي(٤) .

وإن لم يكن له طريق آخر ولا أمكن اتّخاذه ، ففيه وجوه :

أحدها : أنّهم لا يمكّنون منه ، لما فيه من الإضرار بالمشتري ، والشفعة شرّعت لدفع الضرر ، فلا يزال الضرر بالضرر.

والثاني : أنّ لهم الأخذ ، والمشتري هو المضرّ بنفسه حيث اشترى مثل هذه الدار.

والثالث : أن يقال لهم : إن أخذتموه على أن تمكّنوا المشتري من المرور ، فلكم الأخذ ، وإلّا فلا شفعة لكم جمعاً بين الحقّين(٥) .

والأقرب عندي : أنّ الطريق إن كان ممّا يمكن قسمته والشريك واحد‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « لهم ». وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٠.

(٤و٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٩.

٢١٢

وبِيع مع الدار المختصّة بالبائع صفقةً ، فللشريك الآخَر أخذ الطريق خاصّةً إن شاء ، وإن شاء أخذ الجميع. وإن لم يمكن قسمته ، لم يكن له أخذه خاصّةً ، بل إمّا أن يأخذ الجميع أو يترك.

وإذا كان في الخان بيوت مشتركة بين مالكين ، فالشركة في صحنه كشركة مالكي الدارين في الدرب المنقطع. وكذا الشركة في مسيل ماء الأرض ، دون الأرض.

مسالة ٧١٣ : لا تثبت الشفعة في المقسوم والجوار بغير الشركة في الطريق والنهر والساقية ولا إذا بِيعت الدار منفردةً عن الطريق ، أمّا لو باعها مع الطريق ثمّ حوّل الباب ، ثبتت الشفعة.

ولو كانت الشركة في الجدار أو السقف أو غير ما ذكرنا من الحقوق ، فلا شفعة ؛ عملاً بالأصل.

ولو كانت المزرعة مختصّةً وبئرها التي يسقى الزرع منها مشتركةً حتى بِيعت المزرعة والبئر ، ففي ثبوت الشفعة في المزرعة بمجرّد الشركة في البئر إشكال ينشأ : من الاقتصار على مورد النصّ فيما يخالف الأصل ، ولا شكّ في مخالفة الشفعة للأصل. ومن أنّها مشتركة في مسقى.

والشافعي ألحق الشركة في البئر بالشركة في الممرّ(١) .

مسالة ٧١٤ : يشترط في الآخذ بالشفعة الإسلام إن كان المشتري مسلما‌ ، وإلّا فلا تثبت الشفعة للذمّيّ على المسلم ، وتثبت للمسلم على الذمّي ، وللذمّي على مثله ، سواء تساويا في الكفر أو اختلفا ولو كان أحدهما حربيّاً ، ذهب إليه علماؤنا - وبه قال الشعبي وأحمد والحسن بن‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٩.

٢١٣

صالح بن حي(١) - لأنّه نوع سبيل ، وقال الله تعالى :( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٢) .

ولما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « لا شفعة لذمّيٍّ على مسلم »(٣) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « ليس لليهود والنصارى شفعة »(٤) .

ولأنّه تملّك بغير مملّك ، فأشبه الإحياء.

وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك والأوزاعي وأصحاب أبي حنيفة : تثبت للذّميّ الشفعةُ على المسلم ؛ لأنّ الشفعة خيار يثبت لإزالة الضرر عن المال ، فاستوى فيه المسلم والذمّي ، كالردّ بالعيب(٥) .

ويمنع كونها خياراً ، وإنّما هو تملّك قهريّ ، فلا يثبت للكافر ؛ للآية(٦) .

____________________

(١) المغني ٥ : ٥٥١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٤٣ ، حلية العلماء ٥ : ٢٧١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٠ - ٤٩١.

(٢) النساء : ١٤١.

(٣) لم نقف على نصّ الحديث في المصادر الحديثيّة المتوفّرة لدينا ، وقد روى البيهقي في السنن الكبرى ٦ : ١٠٨ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « لا شفعة للنصراني ».

وفي ص ١٠٩ « ليس لليهودي والنصراني شفعة ». وقد أورد الحديث كما في المتن الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٤٥٤ ، المسألة ٣٨ من كتاب الشفعة.

(٤) الكافي ٥ : ٢٨١ / ٦ ، التهذيب ٧ : ١٦٦ / ٧٣٧.

(٥) بدائع الصنائع ٥ : ١٦ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٤ / ١٩٥٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٧١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٧١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٩ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٤٥٣ ، المغني ٥ : ٥٥١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٤٣ - ٥٤٤.

(٦) النساء : ١٤١.

٢١٤

مسالة ٧١٥ : تثبت الشفعة للكافر على الكافر وإن اختلفا في الدين‌ ؛ لعموم الأخبار السالمة عن معارضة تسلّط الكافر على المسلم ، وكالردّ بالعيب.

فإن كان الثمن حلالاً ، تثبت(١) الشفعة.

وإن كان خمراً أو خنزيراً ، فإن لم يتقابضاه وترافعا إلى الحاكم ، أبطل البيع ، وسقطت الشفعة.

وإن وقع بعد التقابض والأخذ بالشفعة ، لم يردّه ولا الشفعة ، وصحّ البيع والأخذ.

وإن كان بعد التقابض وقبل الأخذ بالشفعة ، لم يردّ البيع ؛ لأنّهما تقابضا الثمن ، ولم تثبت الشفعة - وبه قال الشافعي(٢) - لأنّ البيع وقع بثمن حرام ، فلم تثبت فيه الشفعة ، كما لو كان ثمنه مغصوباً.

وقال أبو حنيفة : تجب الشفعة ، بناءً على أصله في أنّ الخمر مال لأهل الذمّة(٣) . وهو غلط.

ولو بِيع شقص فارتدّ الشريك ، فهو على شفعته إن كانت ردّته عن غير فطرة ، وكان المأخوذ منه كافراً. وإن كان عن فطرة أو كان المأخوذ منه مسلماً ، فلا شفعة.

قال الشافعي : إن قلنا : إنّ الردّة لا تزيل الملك ، فهو على شفعته. وإن قلنا : تزيله ، فلا شفعة له. فإن عاد إلى الإسلام وعاد ملكه ، ففي عود‌

____________________

(١) في « س » : « ثبتت ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٩ - ١٦٠ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٦ ، المغني ٥ : ٥٥٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٤٥.

(٣) بدائع الصنائع ٥ : ١٦ ، المغني ٥ : ٥٥٢ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩١.

٢١٥

الشفعة خلاف ، والظاهر : المنع ، وإن قلنا بالوقف فمات أو قُتل على الردّة ، فللإمام أخذه لبيت المال ، كما لو اشترى معيباً أو شرط(١) الخيار وارتدّ ومات ، للإمام ردّه. ولو ارتدّ المشتري ، فالشفيع على شفعته(٢) .

تذنيب : ولو اشترى المرتدّ عن فطرة ، فلا شفعة ؛ لبطلان البيع ، وعن غير فطرة تثبت الشفعة.

مسالة ٧١٦ : هل تثبت الشفعة للوقوف على المساجد والربط والمدارس مثلاً؟ كدار(٣) يستحقّ رجل نصفها والنصف الآخَر ملك المسجد اشتراه متولّي المسجد له ، أو وُهب منه ليصرفه في عمارته ، فباع الرجل نصيبه ، ففي جواز أخذ المتولّي بالشفعة نظر.

قال الشافعي : له ذلك مع المصلحة ، كما لو كان لبيت المال شريك في دار فباع الشريك نصيبه ، للإمام الأخذ بالشفعة(٤) .

وعندي فيه نظر.

ولو كان نصف الدار وقفاً والآخَر طلقاً فباع صاحب الطلق نصيبه ، فإن أثبتنا للموقوف عليه الملك وكان واحداً ، تثبت له الشفعة - على رأي - لرفع ضرر القسمة وضرر مداخلة الشريك. وإن قلنا بعدم ملك الموقوف عليه أو كان متعدّداً وقلنا : لا شفعة مع التعدّد ، فلا شفعة.

وقال الشافعي : إن قلنا : لا يملك الوقف ، فلا شفعة. وإن قلنا : يملك ، فيبني على أنّ الملك هل يفرز عن الوقف؟ إن قلنا : نعم ، ففي‌

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « بشرط ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٠.

(٣) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة بدل « كدار » : « كذا و». وهو تصحيف.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٠.

٢١٦

ثبوت الشفعة وجهان :

أحدهما : تثبت لدفع ضرر القسمة ، وعلى هذا فلو كان الوقف على غير معيّن ، أخذه المتولّي إن رأى المصلحة.

وأظهرهما : المنع ؛ لأنّ الوقف لا يستحقّ بالشفعة ، فينبغي أن لا تستحقّ به الشفعة ، ولنقص الملك فيه ، فإنّه لا ينفذ تصرّفه فيه ، فلا يتسلّط على الأخذ.

وإن قلنا : لا يفرز الملك عن الوقف ، فإن منعنا من شفعة ما لا ينقسم ، فلا شفعة. وإن أثبتناه ، فوجهان(١) .

مسالة ٧١٧ : لا يستحقّ الشريك بالمنفعة شفعةً‌ ، فلو كان الشريك لا ملك له في الرقبة بل كان يستحقّ المنافع إمّا موقّتة بالإجارة ، أو مؤبّدة بالوصيّة ، لم يكن له الأخذ بالشفعة.

وكذا ليس للمتواجرين إذا آجر أحدهم أخذه بالشفعة.

وتثبت الشفعة للمكاتب وإن كان من سيّده ، فلو كان السيّد والمكاتب شريكين في الدار ، فلكلٍّ منهما الشفعة على الآخَر.

والمأذون له في التجارة إذا اشترى شقصاً ثمّ باع الشريك نصيبه ، كان له الأخذ بالشفعة ، إلّا أن يمنعه السيّد أو يعفو عن الشفعة ، وله العفو وإن كان مديوناً معسراً وكان في الأخذ غبطة ، كما أنّ له منعه من جميع الاعتياضات في المستقبل.

ولو أراد السيّد أخذه بنفسه ، كان له ذلك ؛ لأنّ أخذ العبد أخذ له في الحقيقة.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩١.

٢١٧

وللشفيع الأخذ بنفسه وبوكيله ، فلا تعتبر الشركة في مباشر الأخذ ، بل فيمن له الأخذ.

البحث الثالث : في المأخوذ منه.

مسالة ٧١٨ : إنّما تؤخذ الشفعة من المشتري الذي تجدّد ملكه بعد ملك الآخذ‌ ، فلو اشترى اثنان دفعةً واحدة ، لم يكن لأحدهما على الآخَر شفعة ؛ لعدم الأولويّة وعدم إمكان الشركة(١) .

وهل يشترط لزوم البيع؟ [ فيه ] نظر أقربه : عدم الاشتراط ، فلو باع الشقص بخيار لهما أو للبائع ، تثبت(٢) الشفعة ، ولا يسقط خيار البائع.

وقال الشافعي : يشترط اللزوم من طرف البائع ، فلا تثبت مع بقاء مدّة الخيار له.

أمّا على قول : إنّ الملك لا ينتقل إلى المشتري في مدّة الخيار : فظاهر.

وأمّا على قول الانتقال : فلأنّ في أخذه إبطالَ خيار البائع ، ولا سبيل للشفيع إلى الإضرار بالبائع وإبطال حقّه(٣) .

وعن بعض الشافعيّة احتمال ثبوت الشفعة(٤) .

وعلى ما قلناه لا يتأتّى المنع ؛ لأنّا لا نسقط حقّ البائع من الخيار ، بل يأخذ الشفيع على حدّ أخذ المشتري.

____________________

(١) أي : الشركة في الشفعة.

(٢) في « س » : « ثبتت ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٠ - ١٦١.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦١.

٢١٨

وأمّا إن كان الخيار للمشتري وحده ، يبنى عندهم على الأقوال في انتقال الملك ، فإن قلنا : إنّ الملك لا ينتقل إلّا بانقطاع الخيار ، أو قلنا : هو مراعى ، تثبت الشفعة ؛ لعدم العلم بانتقال الملك إلى المشتري ، فيستحقّ فيه الشفعة عليه.

وإن قلنا : إنّه ينتقل بنفس العقد ، نقل المزني عن الشافعي أنّها تثبت - وهو مذهبنا ، وبه قال أبو حنيفة - لأنّه قد انتقل الملك إلى المشتري ، ولا حقّ فيه إلّا له ، والشفيع مسلّط عليه بعد لزوم الملك واستقراره ، فقبله أولى ، وإنّما ثبت له خيار الفسخ ، وذلك لا يمنع من الأخذ بالشفعة ، كما لو وجد به عيباً يثبت(١) له الخيار ، وكان للشفيع أخذه.

ونقل الربيع عن الشافعي أيضاً أنّه لا شفعة - وبه قال مالك وأحمد - لأنّ المشتري لم يرض بالتزام العقد ، وفي أخذ الشفيع الشقص التزام له وإيجاب للعهدة عليه ، فلم يكن له ذلك ، كما لو كان الخيار للبائع ، بخلاف الردّ بالعيب ؛ لأنّه إنّما يثبت(٢) له الردّ لأجل الظلامة ، وذلك يزول بأخذ الشفيع.

ونقل الجويني في المسألة طريقين :

إحداهما : ثبوت القولين هكذا ، لكن كلاهما مخرّج(٣) من أنّ المشتري إذا اطّلع على عيب بالشقص وأراد ردّه وأراد الشفيع أخذه بالشفعة ، فعلى قولٍ للشفيع قطع خيار المشتري في الصورتين. وعلى قولٍ لا يمكّن منه.

____________________

(١) في « س ، ي » : « ثبت ».

(٢) في « س » : « ثبت ».

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « مخرّجان ». والظاهر ما أثبتناه.

٢١٩

والثاني : القطع بأنّه لا يأخذه إلى أن يلزم العقد. والفرق بين الردّ بالعيب وبينه أنّ الأخذ بالشفعة يفتقر إلى استقرار العقد وتمامه(١) .

ونقل بعض الشافعيّة فيما إذا قلنا : إنّه بَعْدُ للبائع أو موقوف وجهاً أنّ للشفيع أخذ الشقص؛ لانقطاع سلطنة البائع بلزوم العقد من جهته(٢) .

والأصحّ عندهم : المنع ؛ لأنّ ملك البائع غير زائل على تقدير أنّ الملك للبائع [ و ](٣) غير معلوم الزوال على تقدير الوقف. وعلى الأوّل إذا أخذه الشفيع تبيّنّا أنّ المشتري ملك قبل أخذه ، وانقطع الخيار(٤) .

مسالة ٧١٩ : لو باع أحد الشريكين حصّته بشرط الخيار ثمّ باع الثاني نصيبه بغير خيار في زمن خيار الأوّل وقلنا : إنّ الشفعة لا تثبت مع الخيار - كما هو مذهب الشافعي(٥) - فلا شفعة في المبيع أوّلا للبائع الثاني ، سواء علم به أو لا ، لزوال ملكه ، ولا للمشتري منه وإن تقدّم ملكه على ملك المشتري الأوّل إذا قلنا : إنّه لا يملك في زمن الخيار ؛ لأنّ سبب الشفعة البيع ، وهو سابق على ملكه.

وأمّا الشفعة في المبيع ثانياً فموقوفة إن توقّفنا في الملك على الإجازة أو الفسخ ، وللبائع الأوّل إن أبقينا الملك له ، وللمشتري منه إن أثبتنا الملك له.

ولو فسخ البيع قبل العلم بالشفعة ، بطلت شفعته إن قلنا : إنّ خيار الفسخ يرفع العقد من أصله. وإن قلنا : يرفعه من حين وقوع الفسخ ، فهو‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٣ ، المغني ٥ : ٤٧١ ، الشرح الكبير ٥ : ٥٣٤.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٣.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر لأجل السياق.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٣.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٦٠.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403