أمالي المرتضى الجزء ٢

أمالي المرتضى9%

أمالي المرتضى مؤلف:
تصنيف: مكتبة اللغة والأدب
الصفحات: 403

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 403 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65916 / تحميل: 9856
الحجم الحجم الحجم
أمالي المرتضى

أمالي المرتضى الجزء ٢

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فلما قدم خالد البصرة، قيل له: ما الّذي حملك على تزيين الإمساك له؟ قال: أحببت أن يمنع غيري كما منعنى، فيكثر من يلومه.

قال سيدنا أدام الله علوّه: وكان خالد مشهورا بالبلاغة وحسن العبارة.

***

وبالإسناد المتقدم عن المدائني قال: قال حفص بن معاوية بن عمرو الغلابي، قلت لخالد: ياأبا صفوان، إني لأكره أن تموت وأنت من أيسر أهل البصرة فلا يبكيك إلا الإماء، قال: فابغني امرأة، قلت: صفها لي أطلبها لك، قال: أريد بكرا كثيّب، أو ثيّبا كبكر، لا ضرعا صغيرة، ولا مسنّة كبيرة؛ لم تقرأ فتجبن(١) ، ولم تفتّ(٢) فتمجن؛ قد نشأت في نعمة، وأدركتها خصاصة، فأدّبها الغنى، وأذلّها الفقر، حسبي من جمالها أن تكون فخمة من بعيد، مليحة من قريب؛ وحسبي من حسنها أن تكون واسطة قومها، ترضى مني بالسّنة؛ إن عشت أكرمتها، وإن متّ ورّثتها، لا ترفع رأسها إلى السماء نظرا، ولا تضعه إلى الأرض سقوطا. فقلت: ياأبا صفوان؛ إنّ الناس في طلب هذه مذ زمان طويل فما يقدرون عليها.

وكان يقول: إن المرأة لو خفّ محملها، وقلّت مئونتها ما ترك اللئام فيها للكرام بيتة ليلة؛ ولكن ثقل محملها، وعظمت مئونتها فاجتباها الكرام، وحاد عنها اللئام.

وكان خالد من أشحّ الناس وأبخلهم؛ كان إذا أخذ جائزة أو غيرها قال للدرهم:

أما والله لطالما أغرت في البلاد وأنجدت؛ والله لأطيلن ضجعتك، ولأديمنّ صرعتك.

وسأله رجل من بني تميم فأعطاه دانقا، فقال: ياسبحان الله! أتعطي مثلي دانقا! فقال له: لو أعطاك كلّ رجل من بني تميم مثل ما أعطيتك لرحت ذا مال عظيم.

وسأله رجل، فأعطاه درهما فاستقلّه، فقال: ياأحمق، أما علمت أنّ الدرهم عشر العشرة، والعشرة عشر المائة، والمائة عشر الألف، والألف عشر دية مسلم! وكان يقول: والله ما تطيب نفسي بإنفاق درهم إلا درهما قرعت به باب الجنة، أو درهما اشتريت به موزا.

____________________

(١) من نسخة بحاشية ف: (فتحنن)، وانظر عيون الأخبار ٤: ٥

(٢) حاشية الأصل: (لم تفت من الفتوة).

٢٦١

وقال: لأن يكون لي ابن يحب الخمر أحبّ إلي من أن يكون لي ابن يحبّ اللحم؛ لأنه متى طلب اللحم وجده، والخمر يفقده أحيانا.

وكان يقول: من كان ماله كفافا فليس بغني ولا فقير؛ لأن النائبة إذا نزلت به أجحفت بكفافه؛ ومن كان ماله دون الكفاف فهو فقير، ومن كان ماله فوق الكفاف فهو غني.

وكان يقول: لأن يكون لأحدكم جار يخاف أن ينقب عليه بيته خير من أن يكون له جار من التجار؛ لا يشاء أن يعطيه مالا ويكتب به عليه صكّا إلا فعل.

٢٦٢

مجلس آخر

[٧٧]

تأويل آية :( إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ الله يَجْحَدُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ الله يَجْحَدُونَ ) ؛ [الأنعام: ٣٣].

فقال: كيف يخبر عنهم بأنهم لا يكذّبون نبيّه عليه السلام، ومعلوم منهم إظهار التكذيب، والعدول عن الاستجابة والتصديق، وكيف ينفي عنهم التكذيب ثم يقول:

إنهم بآيات الله يجحدون؟ وهل الجحد بآيات الله إلا تكذيب نبيه عليه السلام!

الجواب، قلنا: قد ذكر في هذه الآية وجوه:

أولها أن يكون إنما نفى تكذيبهم بقلوبهم تدينا واعتقادا، وإن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب؛ لأنّا نعلم أنه قد كان في المخالفين له عليه السلام من يعلم صدقه، ولا ينكر بقلبه حقّه؛ وهو مع ذلك معاند؛ فيظهر خلاف ما يبطن، وقد قال تعالى:( وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ؛ [البقرة: ١٤٦].

ومما يشهد لهذه الوجه من طريق الرواية ما رواه سلاّم بن مسكين عن أبي يزيد المدني أن رسول الله صلى الله عليه وآله لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل، فقيل له: ياأبا الحكم، أتصافح هذا الصّبيّ؟ فقال: والله إني لأعلم أنه نبي؛ ولكن متى كنا تبعا لبني عبد مناف! فأنزل الله تعالى الآية.

وفي خبر آخر أن الأخنس بن شريق خلا بأبي جهل، فقال له: ياأبا الحكم، أخبرني عن محمد صلى الله عليه وآله، أصادق هو أم كاذب! فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال له أبو جهل: ويحك! والله إنّ محمدا لصادق، وما كذب

٢٦٣

محمد قط؛ ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسّقاية والنّدوة والنبوّة، ماذا يكون لسائر قريش!

والوجه الثاني أن يكون معنى:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) أي لا يفعلون ذلك بحجة، ولا يتمكون من إبطال ما جئت به ببرهان؛ وإنما يقتصرون على الدعوى الباطلة؛ وهذا في الاستعمال معروف؛ لأنّ القائل يقول: فلان لا يستطيع أن يكذّبني ولا يدفع قولي؛ وإنما يريد أنه لا يتمكّن من إقامة دليل على كذبه، وحجة في دفع قوله؛ وإن كان يتمكن من التكذيب بلسانه وقلبه، فيصير ما يقع من التكذيب من غير حجّة ولا برهان غير معتد به.

وروي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنه قرأ هذه الآية بالتخفيف:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) ، ويقول: أنّ المراد بها أنهم لا يأتون بحق هو أحقّ من حقك.

وقال محمد بن كعب القرظي: معناها لا يبطلون ما في يديك؛ وكل ذلك يقوّي هذا الوجه؛ وسنبيّن أنّ معنى هذه اللفظة مشدّدة يرجع إلى معناها مخففة.

والوجه الثالث أن يكون معنى الآية أنهم لا يصادفونك ولا يلفونك متقوّلا؛ كما يقولون:

قاتلته فما أجبنته، أي ما وجدته جبانا، وحادثته فما أكذبته؛ أي لم ألفه كاذبا؛ وقال الأعشى:

أثوى وقصّر ليلة ليزوّدا

فمضى وأخلف من قتيلة موعدا(١)

أراد أنه صادف منها خلفا المواعيد، ومثله قولهم: أصممت القوم؛ إذا صادفتهم صما، وأخليت الموضع، إذا صادفته خاليا؛ قال الشاعر:

أبيت مع الحدّاث ليلي فلم أبن

فأخليت فاستجمعت عند خلائيا

أي أصبت مكانا خاليا.

____________________

(١) ديوانه: ١٥٠.

٢٦٤

ومثله لهيمان بن أبي قحافة:

يسنّ أنيابا له لوامجا(١)

أوسعن من أشداقه المضارجا(٢)

يعني بـ (أوسعن) أصبن منابت واسعة فنبتن فيها.

وقال عمرو بن براق:

تحالف أقوام عليّ ليسمنوا

وجرّوا عليّ الحرب إذ أنا سائم(٣)

يقال: أسمن بنو فلان، إذا رعت إبلهم فصادفوا فيها سمنا.

وقال أبو النجم:

مستأسدا ذبابه في غيطل

يقلن للرائد أعشبت انزل(٤)

أي أصبت مكانا معشبا.

وقال ذو الرّمة:

تريك بياض لبّتها ووجها

كقرن الشّمس أفتق ثمّ زالا(٥)

أي وجد فتقا من السحاب.

وليس لأحد أن يجعل هذا الوجه مختصا بالقراءة بالتخفيف دون التشديد؛ لأن في الوجهين معا يمكن هذا الجواب، لأن (أفعلت) و (فعلت) يجوزان في هذا الموضع، و (أفعلت) بالتخفيف هو الأصل ثم شدد تأكيدا وإفادة لمعنى التكرار؛ وهذا مثل أكرمت وكرّمت، وأعظمت وعظّمت، وأوصيت ووصّيت، وأبلغت وبلّغت؛ وهو كثير/؛ قال الله تعالى:

( فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ) [الطارق: ١٧]؛ إلا أن التخفيف أشبه بهذا الوجه؛ لأن استعمال هذه اللفظة مخففة في هذا المعنى أكثر.

والوجه الرابع ما حكى الكسائي من قوله: إن المراد أنهم لا ينسبونك إلى الكذب فيما أثبت به؛ لأنه كان أمينا صادقا لم يجرّبوا عليه كذبا؛ وإنما كانوا يدفعون ما أتى به، ويدّعون أنه في نفسه كذب؛ وفي الناس من يقوّي هذا الوجه، وأن القوم كانوا يكذّبون ما أتى به، وإن

____________________

(١) اللمج: الأكل

(٢) المضارج: الثياب المشقوقة؛ والبيت في اللسان (ضرج).

(٣) البيت في الأغاني ٢١: ١١٤.

(٤) الطرائف الأدبية ٥٩.

(٥) ديوانه ٤٣٤.

٢٦٥

كانوا يصدقونه في نفسه بقوله تعالى:( وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ الله يَجْحَدُونَ ) ؛ وبقوله تعالى:( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ ) ؛ [الأنعام: ٦٦]؛ ولم يقل: وكذّبك قومك. وكان الكسائي يقرأ:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) بالتخفيف ونافع من بين سائر السبعة، والباقون على التشديد؛ ويزعم أنّ بين أكذبه وكذّبه فرقا، وأن معنى أكذب الرجل، أنه جاء بكذب، ومعنى كذّبته أنه كذاب في كل حديثه. وهذا غلط وليس بين (فعّلت) و (أفعلت) في هذه الكلمة فرق من طريق المعنى أكثر مما ذكرناه من أنّ التشديد يقتضي التكرار والتأكيد، ومع هذا لا يجوز أن يصدّقوه في نفسه، ويكذّبوا بما أتى به؛ لأن من المعلوم أنه عليه السلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه، وأنه الدين القيم، والحق الّذي لا يجوز العدول عنه؛ فكيف يجوز أن يكون صادقا في خبره وكان الّذي أتى به فاسدا! بل إن كان صادقا فالذي أتى به حقّ صحيح، وإن كان الّذي أتى به فاسدا؛ فلا بد من أن يكون في شيء من ذلك كاذبا؛ وهو تأويل من لا يتحقق المعاني.

والوجه الخامس أن يكون المعنى في قوله تعالى:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) أن تكذيبك راجع إلى، وعائد عليّ؛ ولست المختص به؛ لأنه رسول فمن كذبه فهو في الحقيقة مكذّب لله تعالى ورادّ عليه. وهذا كما يقول أحدنا لرسوله: امض في كذا فمن كذّبك فقد كذبني، ومن دفعك فقد دفعني؛ وذلك من الله على سبيل التسلية لنبيه عليه السلام؛ والتعظيم والتغليظ لتكذيبه.

والوجه السادس أن يريد:( فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ) في الأمر الّذي يوافق فيه تكذيبهم، وإن كذبوك في غيره.

ويمكن في الآية وجه سابع، وهو أن يريد تعالى أن جميعهم لا يكذبونك وإن كذّبك بعضهم؛ فهم الظالمون الذين ذكروا في آخر الآية بأنهم يجحدون بآيات الله؛ وإنما سلّى نبيه عليه السلام بهذا القول وعزّاه؛ فلا ينكر أن يكون موسى عليه السلام لما استوحش من تكذيبهم له وتلقيهم إياه بالرد؛ وظن أنه لا متّبع له منهم، ولا ناصر لدينه فيهم أخبره

٢٦٦

الله تعالى بأنّ البعض وإن كذبك فإن فيهم من يصدقك ويتبعك وينتفع بإرشادك وهدايتك؛ وكل هذا واضح والمنة للّه.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن جيد الشعر قول مطرود بن كعب الخزاعي:

ياأيّها الرّجل المحوّل رحله

ألاّ نزلت بآل عبد مناف!(١)

هبلتك أمّك لو نزلت عليهم

ضمنوك من جوع ومن إقراف(٢)

الآخذون العهد من آفاقها

والرّاحلون لرحلة الإيلاف

والمطعمون إذا الرّياح تناوحت

ورجال مكّة مسنتون عجاف

والمفضلون إذا المحول ترادفت

والقائلون هلمّ للأضياف

والخالطون غنيّهم بفقيرهم

حتى يكون فقيرهم كالكافي(٣)

كانت قريش بيضة فتفلّقت

فالمحّ خالصة لعبد مناف(٤)

____________________

(١) معجم الشعراء ٣٧٥، وسيرة ابن هشام ١: ١١٧ (على حاشية روض الأنف)؛ وذكر أنه رثى بها عبد المطلب بن عبد مناف؛ وفي معجم الشعراء: (هلا حللت)، وفي ابن هشام: (هلا سألت عن آل عبد مناف).

(٢) قال السهيلي في شرح هذا البيت: (أي منعوك من أن تنكح بناتك أو أخواتك من لئيم؛ فيكون الابن مقرفا للؤم أبيه وكرم أمه؛ فيلحقك وصم من ذلك؛ ونحو منه قول مهلهل:

أنكحها فقدها الأراقم في

جنب، وكان الحباء من أدم

أي أنكحت لغربتها من غير كف ء).

(٣) الكافي: الغني الّذي يكفي غيره.

(٤) البيت في اللسان (مح)، والسيرة ١: ٩٤ وابن أبي الحديد ٣: ٤٥٣، والعيني ٤: ١٤٠ منسوب إلى ابن الزبعرى. والمح: صفرة البيض؛ كالمحة. وخالصة: مصدر؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (خالصها) ؛ وهي رواية اللسان. وزاد في رواية ابن هشام:

إمّا هلكت - أبا الفعال - فما جرى

من فوق مثلك عقد ذات نطاف

إلاّ أبيك أخى المكارم وحده

والفيض مطّلب أبى الأضياف

٢٦٧

أما قوله:

* والراحلون لرحلة الإيلاف*

فكان هاشم صاحب إيلاف قريش للرحلتين وأول من سنهما، فألفوا الرحلتين: في الشتاء إلى اليمن والحبشة والعراق، وفي الصيف إلى الشام. وفي ذلك يقول ابن الزّبعرى:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه

ورجال مكّة مسنتون عجاف(١)

وهو الّذي سنّ الرّحيل لقومه

رحل الشّتاء ورحلة(٢) الأضياف

فأما (المسنتون) فهم الذين أصابتهم السنة المجدبة الشديدة.

وقوله:

* والخالطون غنيّهم بفقيرهم*

من أحسن الكلام وأخصره؛ وإنما أراد أنهم يفضلون على الفقير حتى يعود غنيا ذا ثروة.

ولأحمد بن يوسف أبيات على هذا الوزن يمزح بها مع ولد سعيد بن سلم الباهلي، وكان لهم صديقا:

أبني سعيد إنّكم من معشر

لا يعرفون كرامة الأضياف(٣)

قوم لباهلة بن يعصر إن هم

نسبوا حسبتهم لعبد مناف

قرنوا الغداء إلى العشاء وقرّبوا

زادا لعمر أبيك ليس بكاب

وكأنّني لمّا حططت إليهم

رحلي نزلت بأبرق العزّاف(٤)

بينا كذلك إذ أتى كبراؤهم

يلحون في التّبذير والإسراف

____________________

(١) سيرة ابن هشام ١: ٩٤، والعيني ١: ١٤٠، وابن أبي الحديد ٣: ٤٥٣

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (برحلة).

(٣) الأبيات في معجم البلدان ١: ٧٨، روي عن المبرد أنه عزاها لرجل يهجو بني سعد بن قتيبة الباهلي.

(٤) أبرق العزاف: ماء لبني أسد بن خزيمة بن مدركة. وفي حاشية الأصل: (مغارة بعينها).

٢٦٨

أراد بقوله: (قرنوا الغداء إلى العشاء) من بخلهم واختصارهم في المطعم؛ ويقال: إنّ هذا الشعر حفظ وصار من أكثر ما يسبّون به ويسبّ قومهم؛ ولرب مزح جرّ جدّا، وعثرة الشعر لا تستقال؛ والشعر يسير بحسب جودته.

ولقد أحسن دعبل بن علي في قوله:

نعوني ولمّا ينعني غير شامت

وغير عدوّ قد أصيبت مقاتله(١)

يقولون إن ذاق الرّدى مات شعره

وهيهات عمر الشّعر طالت طوائله!

سأقضي ببيت يحمد النّاس أمره

ويكثر من أهل الرّواية حامله

يموت ردي الشّعر من قبل ربّه

وجيّده يبقى؛ وإن مات قائله(٢)

ولآخر في هذا المعنى(٣) :

لا تعرضنّ بمزح لامرئ فطن

ما راضه قلبه أجراه في الثّبت(٤)

فربّ قافية بالمزح جارية

مشئومة لم يرد إنماؤها نمت

إنّي إذا قلت بيتا مات قائله

ومن يقال له والبيت لم يمت

____________________

(١) الأبيات في الكامل ٤: ١١١ - بشرح المرصفي، والموشح: ٣٨١.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (إذا مات).

(٣) من أبيات في (الكامل ٤: ١١٠ - ١١١ بشرح المرصفي)؛ ونسبها أيضا لدعبل؛ وأولها:

أحببت قومي ولم أعدل لحبّهم

قالوا: تعصبت جهلا، قول ذي بهت

(٤) الثبت: الدرج؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (الشفة) ؛ وهي رواية الكامل.

٢٦٩

مجلس آخر

[٧٨]

تأويل آية أخرى :( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَالله رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا وَالله رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) ؛ [الأنعام: ٢٣، ٢٤] وعن قوله تعالى:( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يالَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) ؛ [الأنعام: ٢٧، ٢٨].

فقال: كيف يقع من أهل الآخرة نفي الشرك عن أنفسهم، والقسم بالله تعالى عليه وهم كاذبون في ذلك؛ مع أنهم عندكم في تلك الحال لا يقع منهم شيء من القبيح لمعرفتهم بالله تعالى ضرورة؛ ولأنهم ملجئون هناك إلى ترك جميع القبائح، وكيف قال من بعد:( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) فشهد عليهم بالكذب، ثم علّقه بما لا يصح فيه معنى الكذب وهو التمني؛ لأنهم تمنوا ولم يخبروا!

الجواب، قلنا: أول ما نقوله: إنه ليس في ظاهر الآية ما يقتضي أن قولهم:( ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) إنما وقع في الآخرة دون الدنيا؛ وإذا لم يكن ذلك في الظاهر جاز أن يكون الإخبار يتناول حال الدنيا، وسقطت المسألة؛ وليس لأحد أن يتعلّق في وقوع ذلك في الآخرة بقوله تعالى قبل الآية:( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) [الأنعام: ٢٢]؛ وأنه عقّب ذلك بقوله تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) ؛ فيجب أن يكون الجميع مختصا بحال الآخرة؛ لأنه لا يمنع أن تكون الآية تتناول ما يجري في الآخرة، ثم تتلوها آية تتناول ما يجري في الدنيا؛ لأن مطابقة كل آية لما قبلها في مثل هذا

٢٧٠

غير واجبة، وقوله تعالى:( ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ ) لا تدلّ أيضا على أن ذلك يكون واقعا بعد ما خبر تعالى عنه في الآية الأولى؛ فكأنه تعالى قال على هذا الوجه: إنا نحشرهم في الآخرة ونقول: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون؟ وما كان فتنتهم وسبب ضلالهم في الدنيا إلا قولهم:

( وَالله رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

وقد قيل في الآية - على تسليم أنّ هذا القول يقع منهم في الآخرة -: إنّ المراد به أنا ما كنا عند نفوسنا وفي اعتقادنا مشركين؛ بل كنا نعتقد أنا على الحق والهدى، وقوله تعالى من بعد:

( انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ ) لم يرد هذا الخبر الّذي وقع منهم في الآخرة؛ بل إنهم كذبوا على أنفسهم في دار الدنيا بإخبارهم أنهم مصيبون محقّون غير مشركين؛ وليس في الظاهر إلا أنهم كذبوا على أنفسهم من غير تخصيص بوقت؛ فلم يحمل على آخرة دون دنيا.

ولو كان للآية ظاهر يقتضي وقوع ذلك في الآخرة لحملناه على الدنيا؛ بدلالة أن أهل الآخرة لا يجوز أن يكذبوا لأنهم ملجئون إلى ترك القبيح.

فأما قوله تعالى حاكيا عنهم:( يا لَيْتَنا نُرَدُّ ) وقوله تعالى:( فإنّهم لَكاذِبُونَ ) فمن الناس من حمل الكلام كله على وجه التمني؛ فصرف قوله تعالى:( وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) إلى غير الأمر الّذي تمنوه؛(١) لأن التمني لا يصح معه الصدق والكذب(١) ؛ لأنهما إنما يدخلان في الأخبار المحضة؛ لأن قول القائل: ليت الله رزقني ولدا؛ وليت فلانا أعطاني مالا أفعل به كذا وكذا لا يكون كذبا ولا صدقا؛ وقع ما تمناه أو لم يقع؛ فيجوز على هذا أن يكون قوله تعالى:( وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) مصروفا إلى حال الدنيا، كأنه تعالى قال: وهم كاذبون فيما يخبرون به عن أنفسهم في الدنيا من الإضافة واعتقاد الحق؛ أو يريد أنّهم كاذبون أن خبّروا(٢) عن أنفسهم أنهم متى ردوا آمنوا ولم يكذبوا؛ وإن كان ما كان مما حكي عنهم من التمني ليس بخبر.

____________________

(١ - ١) حاشية الأصل (من نسخة)؛ (لأن التمني لا يصح فيه معنى الصدق والكذب).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (أن يخبروا).

٢٧١

وقد يجوز أيضا أن يحمل قوله تعالى:( وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) على غير الكذب الحقيقي؛ بل يكون المراد والمعنى أنهم تمنوا ما لا سبيل إليه فكذب(١) أملهم وتمنّيهم؛ وهذا مشهور في الكلام؛ لأنهم يقولون لمن تمنى ما لا يدرك: كذب أملك، وأكدى رجاؤك؛ وما جرى مجرى ذلك؛ قال الشاعر:

كذبتم وبيت الله لا تأخذونها

مراغمة ما دام للسّيف قائم

وقال آخر:

كذبتم وبيت الله لا تنكحونها

بني شاب قرناها تصرّ وتحلب(٢)

ولم يرد الكذب في الأقوال؛ بل في التمني والأمل.

وليس لأحد أن يقول: كيف يجوز من أهل الآخرة مع معارفهم الضرورية، وأنهم عالمون بأنّ الرجوع إلى الدنيا لا سبيل إليه أن يتمنوه؛ وذلك أنه غير ممتنع أن يتمنى المتمنّي ما يعلم أنّه لا يحصل ولا يقع؛ ولهذا يتعلّق التمني للشيء بألاّ يكون ما قد كان. ولقوّة اختصاص التمني بما يعلم أنه لا يكون غلط قوم فجعلوا إرادة ما علم المريد أنه لا يكون تمنيا؛ فهذا الّذي ذكرناه وجه في تأويل الآية.

وفي الناس من يجعل بعض الكلام تمنّيا وبعضه إخبارا، وعلّق تكذيبهم بالخبر دون لَيْتَنا؛ فكان تقدير الآية: ياليتنا نرد - وهذا هو التمني - ثم قال من بعد: فإنّا( لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، فأخبروا بما علم الله تعالى أنهم فيه كاذبون؛ وإن لم يعلموا من أنفسهم مثل ذلك؛ فلهذا كذّبهم الله تعالى. وكل هذا واضح.

***

أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال حدثني أحمد بن عبد الله، وعبد الله بن يحيى العسكريّان(٣) قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله العبدي قال حدثنا

____________________

(٣) حاشية الأصل (من نسخة): (فكذب أملهم) بالتشديد.

(١) البيت في اللسان (قرن)، وسيبويه ١: ٢٥٩، ٢: ٦٥؛ وشاب قرناها: لقب لامرأة.

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (العسكري).

٢٧٢

أبو مسعر(١) - رجل منا من بني غنم بن عبد القيس - قال: ورد(٢) منصور بن سلمة النّمري على البرامكة، وهو شيخ كبير - وكان مروان بن أبي حفصة صديقا لي؛ على أني كنت أبغضه وأمقته في الله - فشكا إلي وقال: دخل علينا اليوم رجل أظنه شاميا - وقد تقدمته البرامكة في الذكر عند الرشيد - فأذن له، فدخل فسلّم وأجاد، فأذن له الرشيد، فجلس. قال:

فأوجست منه خوفا فقلت: يانفس، أنا حجازي نجدي شافهت العرب وشافهتني، وهذا شامي؛ أفتراه أشعر مني! قال: فجعلت أرفو(٣) نفسي إلى أن استنشده هارون؛ فإذا هو والله من أفصح الناس، فدخلني له حسد؛ قال: فأنشده قصيدة تمنيت أنها لي؛ وأنّ عليّ غرما، فقلت له: ما هي؟ قال: أحفظ منها أبياتا، وهي:

أمير المؤمنين إليك خضنا

غمار الموت من بلد شطير

بخوص كالأهلّة جانفات

تميل على السّرى وعلى الهجير

حملن إليك آمالا عظاما

ومثل الصخر والدّرّ النّثير

فقد وقف المديح بمنتهاه

وغايته وصار إلى المصير

إلى من لا تشير إلى سواه

- إذا ذكر النّدى - كفّ المشير

قال مروان: فوددت أنه قد أخذ جائزتي وسكت. وعجبت من تخلّصه إلى تلك القوافي.

ثم ذكر ولد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فأحسن التخلص، ورأيت هارون يعجب بذلك؛ فقال:

يد لك في رقاب بني عليّ

ومنّ ليس بالمنّ اليسير

فإن شكروا فقد أنعمت فيهم

وإلاّ فالنّدامة للكفور

مننت على ابن عبد الله يحيى

وكان من الحتوف على شفير

وقد سخطت لسخطتك المنايا

عليه؛ فهي حائمة النّسور

____________________

(١) حاشية الأصل (من نسخة): (أبو مسعود).

(٢) الخبر في الأغاني ١٢: ١٦ - ١٧.

(٣) أرفو نفسي: أسكنها من الرعب.

٢٧٣

ولو كافأت ما اجترحت يداه

دلفت له بقاصمة الظّهور

ولكن جلّ حلمك واجتباه

على الهفوات عفو من قدير

فعاد كأنّه لم يجن ذنبا

وقد كان اجتنى حسك الصدور

وإنّك حين تبلنهم أذاة

- وإن ظلموا - لمحترق الضّمير

وإن الرشيد قال لما سمع هذا البيت: هذا والله معنى كان في نفسي؛ وأدخله بيت المال فحكّمه فيه.

عدنا إلى الخبر، قال مروان: وكان هارون يبسم ويكاد يضحك للطف ما سمع؛ ثم أومأ إلى أن أنشد، فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها:

خلّوا الطّريق لمعشر عاداتهم

حطم المناكب كلّ يوم زحام(١)

حتى أتيت على آخرها؛ فو الله ما عاج ذلك الرجل - يعني النمري - بشعري، ولا حفل به.

قال: وأنشده منصور يومئذ:

إنّ لهارون إمام الهدى

كنزين من أجر ومن برّ

يريش ما تبري اللّيالي ولا

تريش أيديهنّ ما يبري

كأنّما البدر على رحله

ترميك منه مقلتا صقر

قال وأنشده أيضا:

ولمن أضاع لقد عهدتك حافظا

لوصيّة العبّاس بالأخوال

قال مروان: وأخلق به أن يغلبني وأن يعلو عليّ عنده؛ فإني ما رأيت أحسن من تخلّصه إذا ذكر الطالبيّين(٢) .

***

____________________

(١) بعده في رواية الأغاني:

ارضوا بما قسم الإله لكم به

ودعوا وراثة كلّ أصيد حام

أنّى يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام!

(٢) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (إلى ذكر الطالبيين).

٢٧٤

أخبرنا المرزباني قال حدثني أبو عبد الله الحكيمي قال حدثني يموت بن المزرّع قال حدثني أبو عثمان الجاحظ قال: كان منصور النّمري ينافق الرشيد ويذكر هارون في شعره؛ ويريه أنّه من وجوه شيعته، وباطنه ومراده بذلك أمير المؤمنين عليه السلام، لقول النبي صلى الله عليه وآله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) ؛ إلى أن وشى عنده بعض أعدائه - وهو العتّابي - فقال: ياأمير المؤمنين، هو والله الّذي يقول:

متى(١) يشفيك دمعك من همول

ويبرد ما بقلبك من غليل!

وأنشده أيضا:

شاء من النّاس راتع هامل

يعلّلون النّفوس بالباطل(٢)

ومنصور يصرّح في هذه القصيدة بالعجائب؛ فوجّه الرشيد برجل من فزارة، وأمره أن يضرب عنق منصور حيث تقع عينه عليه؛ فقدم الرجل رأس عين(٣) بعد موت منصور بأيام قلائل.

قال المرزباني: ويصدّق قول الجاحظ أنّ النّمري كان يذكر هارون في شعره؛ وهو يعني به أمير المؤمنين عليّا عليه السلام ما أنشدناه(٤) محمد بن الحسن بن دريد للنّمري:

آل الرّسول خيار الناس كلّهم

وخير آل رسول الله هارون

رضيت حكمك لا أبغي به بدلا

لأنّ حكمك بالتّوفيق مقرون

***

وروي أنّ أبا عصمة الشيعي لما أوقع بأهل ديار ربيعة أوفدت ربيعة وفدا إلى الرشيد، فيهم منصور النّمري؛ فلما صاروا بباب الرشيد أمرهم باختيار من يدخل عليه، فاختاروا عددا بعد عدد، إلى أن اختاروا رجلين؛ النّمري أحدهما؛ ليدخلا ويسألا حوائجهما - وكان

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (متى ينفك).

(٢) الأغاني ١٢: ١٩.

(٣) رأس عين: من مدن الجزيرة، بين حران ونصيبين.

(٤) حاشية الأصل: (نسخة س: ما أنشده).

٢٧٥

النّمري مؤدبا، لم يسمع منه شعر قط قبل ذلك، ولا عرف به - فلما مثل هو وصاحبه بين يدي الرشيد قال لهما: قولا ما تريدان، فاندفع النّمري فأنشد:

* ما تنقضي حسرة منّي ولا جزع*

فقال له الرشيد: قل حاجتك وعدّ عن هذا، فقال:

* إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع*

 وأنشده القصيدة حتى أتى إلى قوله:

ركب من النّمر عاذوا بابن عمّهم

من هاشم إذ ألحّ الأزلم الجذع(١)

متّوا إليك بقربي منك تعرفها

لهم بها في سنام المجد مطّلع

إنّ المكارم والمعروف أودية

أحلّك الله منها حيث تجتمع(٢)

إذا رفعت امرأ فالله رافعه

ومن وضعت من الأقوام متّضع

نفسي فداؤك والأبطال معلمة

يوم الوغى والمنايا بينهم قرع

حتى أتى إلى آخرها؛ فقال: ويحك! قل حاجتك فقال: ياأمير المؤمنين، أخربت الديار، وأخذت الأموال، وهتك الحرم؛ فقال: اكتبوا له بكلّ ما يريد؛ وأمر له بثلاثين ألف درهم، واحتبسه عنده، وشخص أصحابه بالكتب، ولم يزل عنده يقول الشعر فيه حتى استأذنه في الانصراف فأذن له؛ ثم اتصل بالرشيد قوله:

شاء من النّاس راتع هامل

يعلّلون النّفوس بالباطل

تقتل ذرّيّة النّبيّ ويرجو

ن خلود الجنان للقاتل

ما الشّكّ عندي في كفر قاتله

لكنّني قد أشكّ في الخاذل

فامتعض الرشيد وأنفذ من يقتله؛ فوجده في بعض الروايات ميتا، وفي أخرى عليلا لما به، فسئل الرسول ألاّ يأثم به؛ وأن ينتظر موته، ففعل ولم يبرح حتى توفّي، فعاد بخبر موته إلى هارون.

____________________

(١) الأغاني ١٢: ١٩. الأزلم الجذع: اسم للدهر.

(٢) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (تنتج).

٢٧٦

وللنّمري:

لو كنت أخشى معادي حقّ خشيته

لم تسم عيني إلى الدّنيا ولم تنم

لكنّني عن طلاب الدّين محتبل

والعلم مثل الغنى والجهل كالعدم

يحاولون دخولي في سوادهم

لقد(١) أطافوا بصدع غير ملتئم

ما يغلبون(٢) النّصارى واليهود على

حبّ(٣) القلوب ولا العبّاد للصّنم

____________________

(١) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (فقد).

(٢) حاشية الأصل: (نسخة ش: ما تغلبون).

(٣) حاشية الأصل: (نسخة ش: حب)، بفتح الحاء.

٢٧٧

مجلس آخر

[٧٩]

تأويل آية :( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) ؛ [التكوير: ٨، ٩]

فقال: كيف يصحّ أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل؟ وأي فائدة في سؤالها عن ذلك؟

وما وجه الحكمة فيه؟ وما الموءودة؟ ومن أي شيء اشتقاق هذه اللفظة؟

الجواب، قلنا: أما معنى سُئِلَتْ ففيه وجهان:

أحدهما أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها، وسئل عن قتله لها، وبأي ذنب كان؛ على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة. فالقتلة هاهنا هم المسئولون على الحقيقة لا المقتولة؛ وإنما المقتولة مسئول عنها. ويجري هذا مجرى قولهم: سألت حقي، أي طالبت به؛ ومثله قوله تعالى:( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) ؛ [الإسراء: ٣٤]؛ أي مطالبا به مسئولا عنه.

والوجه الآخر أن يكون السؤال توجّه إليها على الحقيقة على سبيل التوبيخ لقائلها، والتقريع له، والتنبيه له على أنّه لا حجة له في قتلها؛ ويجري هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه السلام:

( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ الله ) ؛ [المائدة: ١١٦]، على طريق التوبيخ لقومه وإقامة الحجة عليهم.

فإن قيل على هذا الوجه: كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم!

والجواب، أن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه

٢٧٨

وإدخال الغمّ عليه في ذلك الوقت على طريق العقاب لم يمتنع أن يقع، وإن لم يكن من الموءودة فهم له؛ لأن الخطاب وإن علّق عليها، وتوجّه إليها فالغرض في الحقيقة غيرها؛ وهذا يجري مجرى من ضرب ظالم طفلا من ولده يقول: ولم(١) ضربت؟ وما ذنبك؟ وبأي شيء استحلّ(٢) هذا منك؟ وغرضه تبكيت الظالم لا خطاب الطفل. فالأولى أن يقال في هذا: إن الأطفال وإن كان(٣) من جهة العقول لا يجب في وصولهم إلى الأغراض المستحقة أن يكونوا كاملي العقول؛ كما يجب مثل ذلك في الوصول إلى الثواب؛ فإنّ الخبر متظاهر، والأمة متفقة على أنهم في الآخرة، وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات؛ وأفضل الأحوال؛ وإنّ عقولهم تكون كاملة؛ فعلى هذا يحسن توجّه الخطاب إلى الموءودة؛ لأنها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله، وإن كان الغرض فيه التبكيت للقائل، وإقامة الحجة عليه.

وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام؛ وابن عباس، ويحيى بن يعمر، ومجاهد، ومسلم ابن صبيح، وأبي الضحى؛ ومروان، وأبي صالح، وجابر بن زيد أنهم قرءوا سالت بفتح السين والهمزة وإسكان التاء( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) بإسكان اللام وضم التاء الثانية؛ على أن الموءودة موصوفة بالسؤال، وبالقول( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) .

وروى القطعي عن سليمان الأعمش عن حفص عن عاصم: قُتِلَتْ بضم التاء الثانية، وفي سُئِلَتْ مثل قراءة الجمهور بضم السين.

وروي عن أبي جعفر المدني: قُتِلَتْ بالتشديد وإسكان التاء الثانية.

وروي عن بعضهم:( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ ) بفتح الميم والواو.

فأما من قرأ سألت بفتح السين؛ فيمكن فيه الوجهان اللذان ذكرناهما؛ من أن الله تعالى أكملها في تلك الحال، وأقدرها على النطق.

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة س: (لم)، بغير واو).

(٢) حاشية الأصل (من نسخة): (استحل) بالبناء للمجهول.

(٣) م: (كانوا).

٢٧٩

والوجه الآخر أن يكون معنى سألت أي سئل لها وطولب بحقها وانتصف لها من ظالمها؛ فكأنها هي السائلة تجوزا واتساعا. ومن قرأ بفتح السين من سألت ويضم التاء الثانية من قُتِلَتْ فعلى أنها هي المخاطبة بذلك.

ويجوز على هذا الوجه أيضا قُتِلَتْ بإسكان التاء الأخيرة كقراءة الجماعة؛ لأنه إخبار عنها، كما يقال: سأل زيد: بأي ذنب ضرب؛ وبأي ذنب ضربت. ويقوّي هذه القراءة في سألت ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: (يجيء المقتول ظلما يوم القيامة وأوداجه تشخب دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، متعلقا بقاتله يقول: يارب سل هذا فيم قتلني)

فأما القراءة المأثورة عن حفص عن عاصم في ضم التاء الأخيرة من قُتِلَتْ مع ضم السين سُئِلَتْ فمعناها( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ) : ما تبغي؟ فقالت:( بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) فأضمر قولها. والعرب قد تضمر مثل هذا لدلالة الخطاب عليه، وارتفاع الإشكال عنه؛ مثل قوله تعالى:( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا ) ؛ أي ويقولان ذلك؛ ونظائره في القرآن كثيرة(١) جدا.

فأما قراءة من قرأ قُتِلَتْ بالتشديد فالمراد به تكرار الفعل بالموءودة هاهنا، وإن كان لفظها لفظ واحدة فالمراد به الجنس، وإرادة التكرار جائزة.

فأما من قرأ المودة بفتح الميم والواو، فعلى أن يكون الرحم والقرابة، وأنه يسأل قاطعها عن سبب قطعها وتضييمها، قال الله تعالى:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ) ؛ [محمد: ٢٢].

فأما الموءودة فهي المقتولة صغيرة، وكانت العرب في الجاهلية تئد البنات بأن يدفنوهنّ أحياء، وهو قوله تعالى:( أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ ) ؛ [النحل: ٥٩]؛ وقوله تعالى:( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ؛ [الأنعام: ١٤٠].

ويقال: إنهم كانوا يفعلون ذلك لأمرين:

____________________

(١) ف، وحاشية الأصل (من نسخة): (كبيرة).

٢٨٠

أحدهما أنهم كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله، فألحقوا البنات بالله، فهو أحق بها منّا.

والأمر الآخر أنهم كانوا يقتلونهنّ خشية الإملاق، قال الله تعالى:( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ؛ [الأنعام: ١٥١].

قال سيدنا أدام الله علوّه: ووجدت أبا عليّ الجبائي وغيره يقول: إنما قيل لها موءودة؛ لأنها ثقّلت بالتراب الّذي طرح عليها حتى ماتت. وفي هذا بعض النظر؛ لأنهم يقولون من الموءودة: وأدت أئد وأدا، والفاعل وائد، والفاعلة وائدة، ومن الثّقل يقولون: آدني الشيء يئودني؛ إذا أثقلني، أودا.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه سئل عن العزل فقال: (ذاك الوأد الخفي).

وقد روي عن جماعة من الصحابة كراهية ذلك، وقال قوم في الخبر الّذي ذكرناه: إنه منسوخ بما روي عنه عليه السلام أنه قيل له: إن اليهود يقولون في العزل هي الموءودة الصغرى، فقال: (كذبت يهود، لو أراد الله تعالى أن يخلقه لم يستطع أن يصرفه).

وقد يجوز أن يكون قوله عليه السلام: (ذاك الوأد الخفي) على طريق تأكيد الترغيب في طلب النسل وكراهية العزل؛ لا على أنه محظور محرّم.

***

وصعصعة بن ناجية بن عقال، جدّ الفرزدق بن غالب؛ كان ممن فدى الموءودات في الجاهلية، ونهى عن قتلهن. ويقال: إنه أحيا ألف موءودة، وقيل دون ذلك.

وقد افتخر الفرزدق بهذا في قوله:

ومنّا الّذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم توءد(١)

وفي قوله:

ومنّا الّذي أحيا الوئيد وغالب

وعمرو، ومنّا حاجب والأقارع(٢)

____________________

(١) ديوانه: ٢٠٣.

(٢) ديوانه: ٥١٧.

٢٨١

وفي ذلك يقول أيضا:

أنا ابن عقال وابن ليلى وغالب

وفكّاك أغلال الأسير المكفّر(١)

ليلى: أم غالب، وعقال: هو محمد(٢) بن سفيان بن مجاشع، وفكّاك الأغلال: ناجية ابن عقال، والمكفّر: هو الّذي كفّر وكبّل بالحديد -

وكان لنا شيخان ذو القبر منهما

وشيخ أجار النّاس من كلّ مقبر(٣)

ذو القبر، غالب وكان يستجار بقبره، والّذي أجار الناس من المقبر وأحيا الوئيدة صعصعة(٤)   -

على حين لا تحيا البنات وإذ هم

عكوف على الأصنام حول المدوّر(٥)

أنا ابن الّذي ردّ المنيّة فضله

وما حسب دافعت عنه بمعور(٦)

أبي أحد العينين(٧) صعصعة الّذي

متى تخلف الجوزاء والنّجم يمطر

أجار بنات الوائدين ومن يجر

على القبر(٨) يعلم أنّه غير مخفر

وفارق ليل من نساء أتت به(٩)

تعالج ريحا ليلها غير مقمر

فارق، يعني امرأة ماخضا؛ شبهها بالفارق من الإبل، وهي الناقة يضربها المخاض فتفارق الإبل، وتمضي على وجهها حتى تضع -

____________________

(١) ديوانه: ٤٧٦ - ٤٧٧.

(٢) حاشية الأصل: (هذا في نسخة ابن الشجري)، وفيها (من نسخة): (هو عقال بن محمد ابن سفيان بن مجاشع).

(٣) حاشية الأصل: (من كل مقبر، أي الّذي يدفن البنات أحياء ويجعلهم في القبر).

(٤) حاشية الأصل: (في نسخة الشجري: حقه: والّذي أجار الناس وأحيا الناس من المقبر وأحيا الوليد صعصعة).

(٥) المدور: صنم يدورون حوله.

(٦) حاشية الأصل: (المعور: ذو العورة؛ وهو من قوله تعالى:( إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ) ؛ أراد أنه حصن لا يتمكن منه أحد).

(٧) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (الغيثين)، وهي رواية الديوان.

(٨) حاشية الأصل (من نسخة): (على الفقر).

(٩) حاشية الأصل (من نسخة): (أبي) وهي رواية الديوان.

٢٨٢

فقالت: أجر لي ما ولدت فإنني

أتيتك من هزلي الحمولة مقتر(١)

رأى الأرض منها راحة فرمى بها

إلى جدد(٢) منها وفي شرّ محفر

فقال لها: يامي إني بذمّتي

لبنتك جار من أبيها القنوّر

القنوّر: السيئ الخلق –

***

وأخبرنا المرزباني قال أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي عن العباس بن بكار الضبي عن أبي بكر الهذلي. قال الصولي وحدثنا القاسم بن إسماعيل عن أبي عثمان المازني عن أبي عبيدة بطرف منه قال: وفد صعصعة بن ناجية جدّ الفرزدق على رسول الله صلى الله عليه وآله في وفد بني تميم(٣) ؛ وكان صعصعة منع الوئيد في الجاهلية؛ فلم يدع تميما تئد(٤) وهو يقدر على ذلك؛ فجاء الإسلام وقد فدى في بعض الروايات أربعمائة جارية، وفي الرواية الأخرى ثلاثمائة، فقال للنبي صلى الله عليه وآله: بأبي أنت وأمي أوصني! قال: (أوصيك بأمك وأبيك وأختك وأخيك وأدانيك أدنانيك)، فقال: زدني يارسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (احفظ ما بين لحييك ورجليك) ؛ ثم قال صلى الله عليه وآله: (ما شيء بلغني عنك فعلته) ؟

فقال: يارسول الله؛ رأيت الناس يموجون على غير وجه، ولم أدر أين الصواب، غير أنّي علمت أنهم ليسوا عليه، فرأيتهم يئدون بناتهم؛ فعرفت أنّ ربهم عز وجل لم يأمرهم بذلك، فلم أتركهم يئدون، وفديت ما قدرت عليه.

وفي رواية أخرى إن صعصعة لما وفد على النبي صلى الله عليه وآله، سمع قوله تعالى:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ؛ [الزلزلة: ٧، ٨].

قال: حسبي، ما أبالي ألاّ أسمع من القرآن غير هذا!

ويقال: إنه اجتمع جرير والفرزدق يوما عند سليمان بن عبد الملك فافتخرا، فقال الفرزدق:

____________________

(١) مقتر: قليل المال؛ تعني زوجها.

(٢) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (خدد) ؛ وهي رواية الديوان.

(٣) ف: (في وفد من بني تميم).

(٤) حاشية الأصل (من نسخة): (فلم يدع تميما يئد).

٢٨٣

أنا ابن محيي الموتى، فقال له سليمان: أنت ابن محيي الموتى! فقال: إن جدي أحيا الموءودة وقد قال الله تعالى:( وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) ؛ [المائدة: ٣٢]؛ وقد أحيا، جدي اثنتين وتسعين موءودة. فتبسم سليمان وقال: إنك مع شعرك لفقيه.

تأويل خبر [أنه نهى أن يصلّي الرجل وهو زناء]

إن سأل سائل عن معنى الخبر الّذي يروى(١) عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه نهى أن يصلّي الرجل وهو زناء.

الجواب؛ قلنا: الزناء هو الحاقن الّذي قد ضاق ذرعا ببوله؛ يقال: أزنأ الرجل بوله فهو يزنئه إزناء، وزنأ بوله يزنأ زنأ، قال الأخطل:

فإذا دفعت إلى زناء قعرها

غبراء مظلمة من الأحفار(٢)

يعني ضيق القبر، ويقال: لا تأت فلانا فإن منزله زناء، فيجوز أن يكون ضيّقا، ويجوز أن يكون عسر المرتقى؛ وكلاهما يئول إلى المعنى. ويقال: موضع زناء إذا كان ضيّقا صعبا، ومن ذلك قول أبي زبيد(٣) يصف أسدا:

أبنّ عرّيسة عنّابها أشب

ودون غايته مستورد شرع(٤)

____________________

(١) ف: (روي).

(٢) ديوانه: ٨١، واللسان (زنأ).

(٣) في حاشيتي الأصل، ف: (ذكر أبو سعيد الضرير، وهو أحمد بن خالد قال: هو أبو زبيد حرملة بن المنذر بن معديكرب بن حنظلة بن النعمان بن حبة بن سعد، وهو من بني هني). والبيتان في شعراء النصرانية بعد الإسلام ١: ٦٧ - ٦٨؛ من قصيدة أولها:

من مبلغ قومنا النائين إذ شخصوا

أنّ الفؤاد إليهم شيّق ولع

يصف فيها الأسد.

(٤) أبنّ: أقام، والعريسة: مأوى الأسد في الغياض، وعنابها أشب: أي شجر العناب فيها متداخل، والمستورد: موضع الورود. والشرع: الّذي يشرع فيه؛ يعني موارد الوحش، وفي ف: (دون غايتها) وفي حاشيتها (من نسخة): (دون غابتها).

٢٨٤

شأس الهبوط زناء الحاميين متى

يبشع بواردة يحدث لها فزع(١)

يعني (بزناء الحاميين) أنه ضيق جانبي الوادي. وقوله: (متى يبشع بواردة)، أي يضيق بجماعة ممن يرده؛ وإنما يحدث لها فزع من الأسد. والشأس: الغليظ؛ يقال: مكان شأس، إذا كان غليظا؛ ومن ذلك قولهم: زنأ فلان في الجبل إذا كابد الصعود فيه؛ وهو يزنأ في الجبل.

وروى أبو زيد:" أن(٢) قيس بن عاصم المنقري أخذ صبيّا له يرقّصه - وأمّ ذلك الصبي منفوسة، وهي بنت زيد الفوارس بن ضرار الضبي، فجعل قيس يقول له:

أشبه أبا أمّك أو أشبه عمل

ولا تكوننّ كهلّوف وكل(٣)

يريد عملي. الوكل: الجبان. والهلّوف: الهرم المسنّ، وهو أيضا الكبير اللحية؛ وإنما أراد به هاهنا الجبان -

* وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل(٤) *

فأخذته أمه وجعلت ترقصه، وتقول:

أشبه أخي أو أشبهن أباكا

أمّا أبي فلن تنال ذاكا

* تقصر عن مناله(٥) يداكا*

____________________

(١) في حاشيتي الأصل، ف: (قبلهما:

هذا وقوم غضاب قد أبتّهم

على الكلاكل حوضي عندهم ترع

تبادروني كأنّي في أكفّهم

حتى إذا ما رأوني خاليا نزعوا

واستحدث القوم أمرا غير ما وهموا

وطار أبصارهم شتى وما وقعوا

كأنما يتفادى أهل أمرهم

من ذي زوائد في أرساغه فدع

ضرغامة أهرت الشّدقين ذي لبد

كأنه برنسا في الغاب مدرع

بالثّنى أسفل من حمّاء ليس له

إلا بنيه وإلا أهله شيع

قد أبتهم: أنمتهم وأشخصتهم على صدورهم. وقوله: (حوضي عندهم ترع) أي لم يصنعوا بي شيئا. وقوله: (في أكفهم) أي ظنوا أني في أيديهم فلما رأوني دهشوا ونزعوا عما طمعوا فيه).

(٢) النوادر ٩٢ - ٩٣

(٣) البيتان والخبر في اللسان (زنأ - عمل).

(٤) في اللسان قبل هذا البيت:

* يصبح في مضجعه قد انجدل*

(٥) في اللسان: (أن تناله).

٢٨٥

مجلس آخر

[٨٠]

تأويل آية :( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ. عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ )

إن سأل سائل عن قوله تعالى:( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ. فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ. ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ. عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ ) ؛ [البلد ١٠ - ٢٠].

فقال(١) : ما تأويل هذه الآية؟ وما معنى ما تضمنته(١) .

الجواب، أما ابتداء الآية فتذكير بنعم الله تعالى عليهم، وما أزاح به علتهم في تكاليفهم، وما تفضّل به عليهم من الآلات التي يتوصلون بها إلى منافعهم، ويستدفعون بها المضارّ عنهم؛ لأن الحاجة ماسّة في أكثر المنافع الدينية والدنيوية إلى العين للرؤية، واللسان للنطق، والشفتين لحبس الطعام والشراب ومسكهما في الفم والنطق أيضا.

فأما النّجد في لغة العرب فهو الموضع المرتفع من الأرض، والغور الهابط منها؛ وإنما سمّي الموضع المرتفع من أرض العرب نجدا لارتفاعه.

واختلف أهل التأويل في المراد بالنجدين، فذهب قوم إلى أنّ المراد بهما طريقا الخير والشرّ؛ وهذا الوجه يروى عن علي أمير المؤمنين عليه السلام، وابن مسعود، وعن الحسن وجماعة من المفسرين.

____________________

(١ - ١) ساقط من الأصل، وما أثبته عن ف.

٢٨٦

وروي أنه قيل لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام: إن ناسا(١) يقولون في قوله:( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) : إنهما الثديان، فقال عليه السلام: لا، إنهما الخير والشر.

وروي عن الحسن أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (أيها الناس، إنهما نجدان: نجد الخير ونجد الشر، فما جعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير).

وروي عن قوم آخرين أنّ المراد بالنّجدين ثديا الأم.

فإن قيل: كيف يكون طريق الشر مرتفعا كطريق الخير، ومعلوم أنه لا شرف ولا رفعة في الشر؟

قلنا: يجوز أن يكون إنما سماه نجدا لظهوره وبروزه لمن كلّف اجتنابه؛ ومعلوم أن الطريقتين جميعا باديان ظاهران للمكلفين. ويجوز أيضا أن يكون سمّي طريق الشر نجدا من حيث يحصل في اجتناب سلوكه والعدول عنه الشرف والرفعة؛ كما يحصل مثل ذلك في سلوك طريق الخير؛ لأن الثواب الحاصل في اجتناب طريق الشر كالثواب في سلوك طريق الخير.

وقال قوم: إنما أراد بالنجدين أنا بصّرناه وعرفناه ماله وعليه، وهديناه إلى طريق استحقاق الثواب؛ وثني النجدين على عادة العرب في تثنية الأمرين إذا اتفقا في بعض الوجوه، وأجرى لفظة أحدهما على الآخر، كما قيل في الشمس والقمر: القمران، قال الفرزدق:

* لنا قمراها والنّجوم الطّوالع(٢) *

ولذلك نظائر كثيرة.

فأما قوله تعالى:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) ؛ ففيه وجهان:

أحدهما أن يكون فَلَا بمعنى الجحد وبمنزلة (لم)، أي فلم يقتحم العقبة؛ وأكثر

____________________

(١) د، ومن نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (أناسا).

(٢) ديوانه: ٥١٩؛ صدره:

* أخذنا بآفاق السّماء عليكم*

٢٨٧

ما يستعمل هذا الوجه بتكرير لفظ (لا) ؛ كما قال سبحانه:( فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى ) ؛ [القيامة: ٣١] أي لم يصدّق ولم يصلّ، وكما قال الحطيئة:

وإن كانت النّعماء فيهم جزوا بها

وإن أنعموا، لا كدّروها ولا كدّوا(١)

وقلّما يستعمل هذا المعنى من غير تكرير لفظ؛ لأنهم لا يقولون: لا جئتني وزرتني؛ يريدون: ما جئتني؛ فإن قالوا: لا جئتني ولا زرتني صلح؛ إلا أن في الآية ما ينوب مناب التكرار ويغني عنه، وهو قوله تعالى:( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ؛ فكأنه قال:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) ، ولا آمن؛ فمعنى التكرار حاصل.

والوجه الآخر: أن تكون (لا) جارية مجرى الدعاء؛ كقولك: لا نجا ولا سلم، ونحو ذلك.

وقال قوم:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) أي فهلاّ اقتحم العقبة! أو أفلا اقتحم العقبة! قالوا:

ويدل على ذلك قوله تعالى:( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ ) ، ولو كان أراد النفي لم يتصل الكلام.

وهذا الوجه ضعيف جدا، لأن قوله تعالى: فَلَا خال من لفظ الاستفهام، وقبيح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع، وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله:

ثمّ قالوا: تحبّها؟ قلت: بهرا

عدد القطر والحصى والتراب(٢)

فأما الترجيح بأن الكلام لو أريد به النفي لم يتصل فقد بيّنا أنه متصل، مع أنّ المراد به النفي؛ لأن قوله تعالى:( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) معطوف على قوله:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) ، أي فلا اقتحم العقبة، ثم كان من الذين آمنوا. والمعنى أنه ما اقتحم العقبة ولا آمن؛ على ما بينا.

فأما المراد بالعقبة فاختلف فيه، فقال قوم: هي عقبة ملساء في جهنم، واقتحامها فكّ رقبة.

وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (إن أمامكم عقبة كئودا لا يجوزها المثقلون(٣) ، وأنا أريد أن أتخفف لتلك العقبة) : وروي عن ابن عباس أنه قال: هي عقبة كئود في

____________________

(١) ديوانه: ٢٠.

(٢) ديوانه: ٤٢٣ (مطبعة السعادة)، وفي حاشية الأصل (من نسخة): (عدد الرمل).

(٣) حاشية الأصل: (المثقلون [بالفتح] أي أثقلهم الذنوب، والمثقلون [بالكسر] أصحاب الأثقال).

٢٨٨

جهنم، وروي أيضا أنه قال: العقبة هي النّار نفسها؛ فعلى الوجه الأول يكون التفسير للعقبة بقوله:( فَكُّ رَقَبَةٍ ) على معنى ما يؤدّي إلى اقتحام هذه العقبة؛ ويكون سببا لجوازها والنجاة منها، لأن فكّ رقبة وما أتى بعد ذلك ليس هو النار نفسها ولا موضعا منها.

وقال آخرون: بل العقبة ما ورد مفسّرا لها من فكّ الرقبة والإطعام في يوم المسغبة؛ وإنما سمّي ذلك عقبة لصعوبته على النفوس ومشقته عليها.

وليس يليق بهذا الوجه الجواب الّذي ذكرناه في معنى قوله:( فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) وأنه على وجه الدعاء؛ لأن الدعاء لا يحسن إلا بالمستحق له؛ ولا يجوز أن يدعى على أحد بأن لا يقع منه ما كلّف وقوعه، وفكّ الرقبة والإطعام المذكور من الطاعات؛ فكيف يدعى على أحد بأن لا يقع منه! فهذا الوجه يطابق أن تكون الْعَقَبَةَ هي النّار نفسها أو عقبة فيها.

وقد اختلف الناس في قراءة:( فَكُّ رَقَبَةٍ ) ، فقرأ أمير المؤمنين عليه السلام، ومجاهد، وأهل مكة، والحسن، وأبو رجاء العطاردي، وأبو عمرو، والكسائي:( فَكُّ رَقَبَةٍ ) بفتح الكاف ونصب الرقبة، وقرءوا أو أطعم على الفعل دون الاسم. وقرأ أهل المدينة، وأهل الشام، وعاصم، وحمزة، ويحيى بن وثاب، ويعقوب الحضرمي: فَكُ بضم الكاف وبخفض( رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ ) على المصدر وتنوين الميم وضمها.

فمن قرأ على الاسم ذهب إلى أن جواب الاسم بالاسم أكثر في كلام العرب، وأحسن من جوابه بالفعل؛ ألا ترى أن المعنى: ما أدراك ما اقتحام العقبة! هو فكّ رقبة، أو إطعام؛ وذلك هو أحسن من أن يقال: هو فكّ رقبة، أو أطعم.

ومال الفرّاء إلى القراءة بلفظ الفعل، ورجّحها بقوله تعالى:( ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ، لأنه فعل؛ والأولى أن يتبع فعلا. وليس يمتنع أن يفسّر اقتحام العقبة - وإن كان اسما - بفعل؛ يدل على الاسم؛ وهذا مثل قول القائل: ما أدراك ما زيد؟ يقول - مفسرا -: يصنع الخير، ويفعل المعروف، وما أشبه ذلك، فيأتي بالأفعال.

والسغب: الجوع؛ وإنما أراد أنه يطعم في يوم مجاعة؛ لأن الإطعام فيه أفضل وأكرم.

٢٨٩

فأما (مقربة) فمعناه يتيما ذا قربى؛ من قرابة النسب والرّحم؛ وهذا حضّ على تقديم ذي النسب والقربى المحتاجين على الأجانب في الإفضال.

والمسكين: الفقير الشديد الفقر. والمتربة: مفعلة، من التراب، أي هو لاصق بالأرض من ضرّه وحاجته؛ ويجري مجرى قولهم في الفقير: مدقع؛ وهو مأخوذ من الدّقعاء؛ وهي الأرض التي لا شيء فيها.

وقال قوم: ذا مَتْرَبَةٍ أي ذا عيال. والمرحمة: مفعلة من الرحمة؛ وقيل إنه من الرّحم.

وقد يمكن في مَقْرَبَةٍ أن يكون غير مأخوذ من القرابة والقربى؛ بل هو من القرب، الّذي هو من الخاصرة، فكأن المعنى أنه يطعم من انطوت خاصرته ولصقت من شدة الجوع والضر؛ وهذا أعم في المعنى من الأول وأشبه بقوله ذا مَتْرَبَةٍ؛ لأن كل ذلك مبالغة في وصفه بالضّرّ؛ وليس من المبالغة في الوصف بالضرّ أن يكون قريب النّسب. والله أعلم بمراده.

***

قال سيدنا أدام الله علوّه: ومن طريف المدح ومليحه قول الشاعر:

وكأنّه من وفده عند القرى

لولا مقام المادح المتكلّم

وكأنّه أحد النّدى ببنائه(١)

لولا مقالته أطب للمؤدم(٢)

ويقارب ذلك في المعنى قول محمد بن خارجة:

سهل الفناء إذا حللت ببابه

طلق اليدين مؤدّب الخدّام

وإذا رأيت صديقه وشقيقه

لم تدر: أيّهما أخو الأرحام!(٣)

ومثله لأبي الهندي:

نزلت على آل المهلّب شاتيا

غريبا عن الأوطان في زمن المحل(٤)

فما زال بي إكرامهم وافتقادهم(٥)

وإنعامهم حتى حسبتهم أهلي

____________________

(١) حاشية الأصل: (نسخة س: (أحد الندي ببابه).

(٢) المؤدم: الآكل.

(٣) وفي حاشية الأصل (من نسخة): (سهل القياد).

(٤) أمالي القالي ١: ٤١؛ وفي حاشية الأصل (من نسخة): (في زمن محل).

(٥) ف، حاشية الأصل (من نسخة): (واقتفاؤهم).

٢٩٠

ولأثال بن الدقعاء يمدح عقبة بن سنان الحارثي:

ألم ترني شكرت أبا سعيد

بنعماه وقد كفر الموالي(١)

ولم أكفر سحائبه اللّواتي

مطرن عليّ واهية العزالي(٢)

فمن يك كافرا نعماه يوما

فإني شاكر أخرى اللّيالي

فتى لم تطلع الشّعرى من افق

ولم تعرض ليمن أو شمال(٣)

على ندّ له إن عدّ مجد

ومكرمة وإتلاف لمال

وأصبر في الحوادث إن ألمّت

وأسعى للمحامد والمعالي

فتى عمّ البريّة بالعطايا

فقد صاروا له أدنى العيال

قال: ولآخر(٤) :

لم أقض من صحبة زيد أربي

فتى إذا أغضبته لم يغضب

موكّل النّفس بحفظ الغيّب

أقصى الفريقين له كالأقرب

فإنه لم يرد أن الضعيف السبب كالقوي السبب، وإنما أراد أنه يرعى من غيب الرفيق البعيد الغائب وحقّه ما يرعاه من حق الشاهد الحاضر، وأنه يستوي عنده لكرمه وحسن حفاظه من بعدت داره وقربت معا؛ وهذا بخلاف ما عليه أكثر الناس؛ من مراعاة أمر الحاضر القريب وإهمال حق البعيد(٥) .

***

هذا آخر مجلس أملاه سيدنا أدام الله علوّه. ثم تشاغل بأمور الحج(٦) .

الحمد للّه رب العالمين وصلواته وسلامه على سيدنا نبيّه محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلّم كثيرا.

____________________

(١) الموالي: الأقرباء.

(٢) العزالي: جمع عزلاء؛ وهي في الأصل مصب الماء من الراوية ونحوها.

(٣) ف، ومن نسخة بحاشية الأصل:

فتى لم تطلع الشعرى بأفق

ولم تقرض ليمنى أو شمال

(٤) من نسخة بحاشيتي الأصل، ف: (وقال آخر).

(٥) إلى هنا تنتهي النسخة المرموز لها بكلمة (الأصل).

(٦ - ٦) ف: (هذا آخر مجلس أملاه السيد المرتضى ذو المجدين قدس الله روحه ثم تشاغل بأمور الحج).

٢٩١

تكملة أمالي المرتضى

٢٩٢

بسم الله الرحمن الرحيم

ربّ يسّر(١)

مسألة

قال (*) الشريف الأجلّ المرتضى، علم الهدى، ذو المجدين أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي رضي الله عنه:

إنّه لا يزال المتكلّمون يخالفون النحويّين في أنّ للفعل ثلاثة أحوال: ماض، وحاضر، ومستقبل. ويقول المتكلّمون: للفعل حالان بغير ثالث؛ لأنّ كلّ معلوم من الأفعال لا يخلو من أن يكون موجودا أو معدوما؛ وبالوجود قد صار ماضيا، والمعدوم هو المنتظر، ولا حال ثالثة.

فلا المتكلّمون يحسنون العبارة عما لحظوه وأرادوه، حتى يزول الخلاف في المعاني التي هي المهمّ - ولا اعتبار بالعبارات - ولا النحويون يفطنون لإفهام ما قصدوه بلفظ غير مشتبه ولا محتمل؛ فكم من معنى كاد يضيع بسوء العبارة عنه، وقصور الإشارة إليه!

واعلم أن المواضعات مختلفة، والعرف يختلف باختلاف أهله بحسب عاداتهم. وقولنا: (فعل) في عرف المتكلمين ليس هو الّذي يعرفه النحويون، لأنّ الفعل في عرف أهل الكلام هو الذات الحادثة بعد أن كانت معدومة بقادر، وهذا الحدّ يقتضي أن يكون كلّ موجود من الذوات غير الله تعالى وحده فعلا؛ فزيد فعل، والسماء كذلك، والحرف أيضا - الّذي فرق النحويون بينه وبين الاسم - فعل أيضا، والفعل أيضا على هذا الحدّ فعل؛ لأنّ الحرف صوت يقطّع على وجه مخصوص، والأصوات كلّها أفعال.

____________________

(*) هذه الزيادات لم ترد إلا في ف، ط من الأصول التي اعتمدت عليها؛ والمثبت هنا نص ف، كما أثبت الفروق والحواشي.

(١) ط: (رب يسر ولا تعسر).

٢٩٣

غير أنّ المحقّق من عرف القوم أنّ النحويين ما فصلوا بين الاسم والفعل والحرف؛ من حيث نفي الاشتراك في الحدوث والفعلية؛ بل فصلوا بينها مع اشتراكها في معنى الفعلية التي يذهب إليها المتكلّمون؛ لما بينها من الفصل في أحكام أخر؛ يختصّ بها بعضها دون بعض؛ فقالوا: الاسم ما دلّ على معنى لا يقترن بزمان، والفعل ما اقتضى معنى مقترنا بزمان غير مخصوص، والحرف ما خلا من هاتين العلامتين؛ فكأنهم قصدوا إلى ما هو فعل حادث على حدّ المتكلمين؛ فصنّفوه ونوّعوه، وسمّوا بعضه اسما، وبعضه فعلا، وبعضه حرفا؛ لاختلاف الأحكام التي عقلوها؛ فلا لوم في ذلك عليهم؛ ولا مناظرة فيه معهم، وبالمناظرة الصحيحة تزول الشّبهات، وتنحسم التّبعات.

والّذي يجب تحصيله، والتعويل عليه أنّ الفعل الحادث في أوّل أحوال وجوده يسمّى فعل الحال؛ فإن تقضّى وعدم صار ماضيا، والفعل المستقبل هو المنتظر المتوقّع الّذي هو الآن معدوم. فإن فرضنا أنّ الفعل الحادث - الّذي فرضنا أنّه متى تقضّى وعدم صار ماضيا - بقي ولم يتقضّ؛ إما على مذهب من يقطع على بقاء الأعراض، أو على مذهب من يتوقّف عن القطع فيها على بقاء أو فناء؛ فالواجب أن يكون استمراره(١) لا يخرجه من استحقاق الوصف بأنه فعل الحال؛ لأنّ من هو عليه لم يتغير الحال التي وجبت له عنه؛ ولا خرج عنها.

ألا ترى أنّا لو فرضنا أنه تقضّى وعدم، وخلفه مثل له لكان ذلك الخالف له يستحقّ الوصف بأنه للحال؛ وكذلك ما قام مقامه؛ وأوجب مثل ما يوجبه، لأنه لا فرق في التّسمية للجلوس بأنه فعل حال؛ بين أن يكون المفتتح بالحدوث من أجزاء الجلوس بقي واستمرّ؛ وبين أن يكون تجدّد أمثاله؛ والأول باق أو معدوم بعد أن تكون الحالة المخصوصة ما تغيّرت ولا تبدّلت؛ ولا فرق أيضا بين أن يكون ذلك الفعل يوجب حالا مخصوصة كالألوان، أو حكما مخصوصا كالاعتمادات وما أشبهها؛ في أن الّذي أتت فيه ولم تخرج عنه هو المنعوت بأنه فعل الحال، وما خرجت عنه فهو الماضي.

____________________

(١) حاشية ط: (قوله: استمراره، أي الحادث).

٢٩٤

فإن قيل: كيف قولكم فيما مضى وتقضّى من الأفعال ووصفتموه بأنه ماض لتقضّيه وعدمه؛ أيجوز أن يكون مستقبلا على وجه من الوجوه، أو لا يكون من الأفعال مستقبلا إلاّ ما لم يدخل في الوجود قطّ؟

قلنا: أمّا ما عدم وتقضّى من الأعراض المقطوع على أنها غير باقية في نفوسها، كالإرادات(١) والأصوات وما أشبه ذلك؛ فلا شبهة في أنّ الماضي منه لا يصحّ أن يكون مستقبلا من فعل قديم أو محدث.

فأما(٢) ما يبقى من أجناس الأعراض عند من قطع على بقائها، أو شكّ في حالها بين جواز البقاء عليها ونفيه فنحن لا نقدر على إعادته؛ والقديم تعالى قادر على إعادته إلى الوجود؛ فهذا الضّرب من فعله تعالى لا يمتنع تسميته بأنه مستقبل، لأنه متوقّع منتظر.

فأما الجواهر المعدومة فلا شبهة في أنّها ماضية من حيث عدمت، ومستقبلة من حيث كان وجودها مستأنفا متوقّعا؛ لأنّ الله تعالى لا بدّ من أن يعيد المكلّفين للثواب أو العقاب، والمكلّف إنما هو مؤلّف من الجواهر.

فإن قيل: هذا يقتضي أن يجتمع في الشيء الواحد أن يكون ماضيا مستقبلا؛ وهذا كالمتناقض.

قلنا: لا تناقض في ذلك؛ لأن الجوهر الماضي يستحق الوصف بأنه ماض إذا عدم، وكذلك العرض الماضي من أفعال الله تعالى إذا عدم؛ وإن جاز من حيث صحّ وجود ذلك مستأنفا أن يوصف بأنه مستقبل، لأن معنى المستقبل هو المعدوم الّذي يصح وجوده، فلا تنافي بين الأمرين.

ولو ثبت بينهما عرف في أنّهما لا يجتمعان - وذلك ليس بثابت - لجاز أن يجعل حدّ المستقبل هو المعدوم الّذي يصحّ وجوده مستقبلا؛ من غير أن يكون الوجود حصل(٣) له في حالة من الأحوال؛ فلا يلزم على ذلك أن يجتمع الوصفان في فعل واحد.

____________________

(١) ط: (كالإدراكات).

(٢) ط: (وأما).

(٣) ط. (مستحصل له).

٢٩٥

وقد كنّا قديما أملينا مسألة في تحقيق الفرق بين الفعل الحال والماضي والمستقبل؛ وهذا التلخيص الّذي ذكرناه هاهنا أشرح وأسبغ منها، وتكلمنا هناك على ما كان أبو عليّ الفارسي اعتمده وعوّل عليه؛ من قوله تعالى:( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) [مريم: ٦٤]، وقول الشاعر:

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله

ولكنّني عن علم ما في غد عم(١)

ومن طريقة أخرى في اعتبار تأثير الحروف في الأحوال المختلفة، واستوفينا الكلام على هذه الشبهة؛ فلا طائل في إعادة ذلك هاهنا؛ والجمع بين المسألتين يغني عنه، وما التوفيق إلا بالله تعالى.

____________________

(١) البيت لزهير بن ابي سلمى، ديوانه: ٢٩.

٢٩٦

مسألة

قال رضي الله عنه: لا معنى لقوله تعالى:( وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ) ؛ [يونس: ٦١] على ما قاله النحويون: إنه للتأكيد؛ لما بيّنا أن التأكيد إذا لم يفد غير ما يفيده المؤكّد لم يصحّ، وقد علمنا بقوله تعالى: مِنْ قُرْآنٍ أنّه من جملة القرآن، فأي معنى لقوله مِنْهُ وتكراره!

قال رضي الله عنه: والصحيح أن معنى مِنْهُ أي من أجل الشّأن والقصة، مِنْ قُرْآنٍ؛ فيحمل على الشأن والقصّة ليفيد معنى آخر.

وقال أيضا في قوله تعالى:( قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) ؛ [يونس: ٥٨]؛ قال: لا يجوز أن يحمل قوله:( فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) على ما تقدم من فضل الله ورحمته؛ ولا معنى له على ما يقوله النحويون إنّه للتأكيد؛ كما لا معنى لقول قائل:

زيد وعمرو لهما؛ يريد زيدا وعمرا؛ فالصحيح أن نقول في هذا: إن معناه: قل بفضل الله ومعونة الله ورحمته؛ لأنّ معونة الله وفضل الله ورحمته تؤثر في القول، ويقول: بفضل الله ومعونته يفرح، فيردّ قوله: بِفَضْلِ الله إلى القول، أي قل: بفضله ومعونته هذا القول؛ فإنّ بهذا القول ومعونته ورحمته يفرحون؛ فيكون قوله: فَبِذلِكَ راجعا إلى الفرح بالفضل والرحمة؛ حتى يكون قد أفاد كلّ واحد من اللفظين فائدة.

٢٩٧

مسألة

رسمت الحضرة العالية الوزيرية؛ أدام الله سلطانها، وأعلى أبدا شأنها ومكانها أن أذكر ما عندي في إدخال لفظة (كان) في كونه تعالى عالما في مواضع كثيرة من القرآن.

وقالت حرس الله عزّها: لفظة (كان) إذا كانت للماضي؛ فكيف دخلت على ما هو ثابت في الحال ومستمرّ دائم! وما الوجه في حسن ذلك؟

والجواب المزيل للشّبهة أنّ الكلام قد تدخله الحقيقة والمجاز؛ ويحذف بعضه وإن كان مرادا، ويختصر حتى يفسّر؛ ولو بسط لكان طويلا. وفي هذه الوجوه التي ذكرناها تظهر فصاحته، وتقوى بلاغته؛ وكلّ كلام خلا من مجاز وحذف واختصار واقتصار بعد عن الفصاحة، وخرج عن قانون البلاغة. والأدلّة لا يجوز فيها مجاز، ولا ما يخالف الحقيقة؛ وهي القاضية على الكلام، والتي يجب بناؤه عليها؛ والفروع أبدا تبنى على الأصول.

فإذا ورد عن الله تعالى كلام ظاهره يخالف ما دلّت عليه أدلّة العقول وجب صرفه عن ظاهره - إن كان له ظاهر - وحمله على ما يوافق الأدلة العقلية ويطابقها؛ ولهذا رجعنا في ظواهر كثيرة من كتاب الله تعالى اقتضى ظاهرها الإجبار أو التشبيه، أو ما لا يجوز عليه تعالى.

ولو سلّمنا تبرّعا وتطوّعا أن دخول (كان) على العلم أو القدرة يقتضي ظاهرها الماضي دون المستقبل لحملنا ذلك على أنّ المراد به الأحوال كلّها؛ لأنّ الأدلة العقلية تقضي على ما يطلق من الكلام، ولا يقضي الكلام على الأدلة.

غير أنّا نبيّن أنّ دخول (كان) على العلم أو القدرة لا يقتضي ظاهرها الاختصاص بالماضي دون المستقبل؛ فإنّ لأهل العربية في ذلك مذهبا معروفا مشهورا؛ لأن أحدهم يقول: كنت العالم؛ وما كنت إلا عالما، وعليما خبيرا؛ وما كنت إلا الشجاع، وإلا الجواد؛ ويريدون بذلك كلّه الإخبار عن الأحوال كلّها؛ ماضيها وحاضرها ومستقبلها؛ ولا يفهم من كلامهم سوى

٢٩٨

ذلك؛ وإذا كانت هذه عبارة عما ذكرناه فصيحة بليغة - والقرآن نزل بأفصح اللغات وأبلغها وأبرعها - وجب حمل لفظة (كان) إذا دخلت في كونه تعالى عالما وقادرا على ما ذكرنا.

ومما يستشهد به على ذلك قول زياد الأعجم يرثي المغيرة بن المهلّب بن أبي صفرة:

مات المغيرة بعد طول تعرّض

للقتل بين أسنّة وصفائح(١)

ألاّ ليالي فوقه بزّاته

يغشي الأسنة فوق نهد قارح!(٢)

فإذا مررت بقبره فاعقر به

كوم المطي وكلّ طرف سابح(٣)

وانضح جوانب قبره بدمائها

فلقد يكون أخا دم وذبائح

فقال في ميت قد مضى لسبيله: (فلقد يكون)، وإنما أراد: (فلقد كان)، فعبّر بيكون عن (كان) ؛ كذلك جاز أن يراد بلفظة (كان) الأحوال المستقبلة.

ووجه آخر وهو أنه تعالى لما أراد أن يخبر عن كونه عالما في الأحوال كلّها لم يجز أن يقول:

هو عالم في الحال أو في المستقبل؛ لأن ذلك لا ينبئ عن كونه عالما فيما مضى؛ فعدل عن ذلك إلى إدخال لفظة: (كان) الدالة على الأزمان الماضية كلها، ومن كان عالما فيما لم يزل من الأحوال فلا بدّ من كونه عالما لنفسه وذاته؛ لأن الصفات الواجبة فيما لم يزل لا تكون إلاّ نفسية، والصفات النفسية يجب ثبوتها في الأحوال كلّها: الماضية والحاضرة والمستقبلة؛ فصار دخول (كان) في العلم أو القدرة مطابقا للغرض، وموجبا لثبوت هذه الصفة في جميع هذه الأحوال، وليس كذلك لو علّق العلم بالحال أو المستقبل؛ وهذا وجه جليل الموقع.

ووجه آجر وهو أنا إذا سلّمنا أن لفظة (كان) تختص الماضي ولا تتعدّاه لم يكن في

____________________

(١) من قصيدة عدتها ٥٧ بيتا؛ وهي في أمالي اليزيدي ١ - ٧، وأمالي القالي ٣: ٨ - ١١؛ وأبيات منها في معجم الأدباء ١١: ١٧٠ - ١٧١، والشعراء ٣٩٧.

(٢) البزات: جمع بزة؛ وهي السلاح؛ والنهد من الخيل: الجسيم المشرف. والقارع: الفرس إذا استتم الخامسة ودخل في السادسة.

(٣) الكوم: جمع كوماء؛ وهي الناقة العظيمة السنام. والطرف: الكريم من الخيل والسابح:

الفرس الّذي يسبح بيديه في سيره.

٢٩٩

إدخالها في العلم إلا أنه تعالى عالم فيما مضى من الأحوال؛ وهو كذلك لا محالة؛ اللهم إلا أن يدّعي أن تعليقها بالماضي يقتضي نفي كونه تعالى عالما في المستقبل؛ وليس الأمر على ذلك؛ لأن هذا قول بدليل الخطاب؛ وهو غير صحيح على ما بيّنا في مواضع من كتبنا؛ لأن تعليق الحكم بصفة أو اسم لا يدل على انتفائه مع انتفاء تلك الصفة أو الاسم، وبيّنا أن قوله عليه السلام: (في سائمة(١) الإبل الزكاة) لا يدل على أن العاملة(٢) والمعلوفة(٣) لا زكاة فيهما.

وقد يقول القائل: كان زيد عندي بالأمس، وإن كان عنده في الحال؛ وضربت من غلماني فلانا، وإن كان قد ضرب سواه، فكأنه تعالى - إذا سلّمنا هذا الأصل الّذي قد بينا أنه غير صحيح - أراد أن يثبت بهذا القول كونه تعالى عالما، فيما لم يزل؛ ووكلنا في أنه عز وجل عالم في جميع الأحوال إلى الأدلة العقلية الدالة على ذلك؛ وإلى إخباره تعالى عن كونه عالما في سائر الأوقات بقوله عز وجل:( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) [الأنعام: ١٠١]؛ وما شاكل ذلك من الألفاظ الدالة على الحال والاستقبال

____________________

(١) السائمة من الإبل: الراعية؛ يقال: سامت تسوم سوما، وأسمتها أنا.

(٢) العاملة: التي تعمل في الحرث والدياسة.

(٣) العلوفة والمعلوفة من الإبل: الناقة التي تعلف للسمن ولا ترسل للرعي.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403