أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف0%

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف مؤلف:
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 150

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
تصنيف: الصفحات: 150
المشاهدات: 25649
تحميل: 8624

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 150 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25649 / تحميل: 8624
الحجم الحجم الحجم
أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كانعليه‌السلام يُعبّر عن آلام الأُمّة وعن آمالها ، ومظالمها أمام عثمان ، ويعظه ويوبّخه ، ويذكّره اللّه وأيّام اللّه والآخرة ورسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن عثمان لم يكن يتّعظ .

لماذا كان حريصاً كلّ الحرص على أنْ يبدو صراعه موضوعيّاً عقائدياً ، يستهدف النظرية لا الشخص ، يستهدف تثبيت دعائم نظرية حقيقية للإسلام ، لا تدعيم شخصه ؟ كان الإمامعليه‌السلام حريصاً على أنْ تكون التصوّرات والانعكاسات التي يعيشها الناس عن صراعه على مستوى أنّ صراعه صراع نظري عقائدي ، وليس صراعاً شخصيّاً ؛ لأنّ هذا كان من أكبر الوسائل لتثبيت حقّانية هذه النظرية التي يقدّمها ، أليس هو يريد أنْ يثبت للذهنية الإسلامية أنّ النظرية الإسلامية للحياة الاجتماعية ، هذه لا تلك التي يطبّقها الزعماء المنحرفون ؟ كيف يستطيع أنْ يُرسّخ هذا في الذهنية الإسلامية على أنّه صراع عقائدي ونضالي في سبيل تثبيت النظرية ؟ ولهذا انتظر أمير المؤمنينعليه‌السلام أنْ يبرز الانحراف واضحاً ثمّ يبدأ الصراع ؛ لأنّ هؤلاء الناس الغير الواعين لا يشعرون بمرارة الانحراف إلاّ إذا دخل الانحراف إلى بيوتهم ، إلاّ إذا مس جلودهم ، أمّا قبل هذا فلا يترقّب من الأُمّة الغير الواعية ، أنْ تشعر بالانحراف .

الانحراف بدأ في أيام ابن أبي قحافة وعمر ، وكان انحرافاً مستوراً ، وكان عمر موفّقاً جدّاً في أنْ يُلبِس هذا الانحراف الثوب الديني المناسب نحن لا نريد أنْ نُطي مفهومنا الخاص عن عمر ، بل نأخذ بمفهوم السنّة عن عمر ، أنّ عمر حتى بحسَب المفهوم الذي يُحتمل أنّه كان حقيقة في الإسلام على مستوى هذا الثوب الديني المصطنع ، نجد عمر فرط في العطاء بين الناس ووضع تركيباً قبَليّاً في المجتمع الإسلامي كما صنَع عثمان ، لكن فرق بينهما ؛ لأنّ عمر جعَل هذا التركيب القبلي الطبَقي على أساس خدمة الإسلام ، قال : إنّ كل مَن كان أقرب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يعطيه أكثر ، وهذا ثوب تقبله أُمّة غير واعية قبولاً إجماعياً ، أكثر ممّا تقبل النظرية الإسلامية الحقيقية قبل أنْ يلتفت إلى نتائج هذا التركيب القبلي من اللحظة الأولى ، قبل أنْ يلتفت إلى ما سوف يتمخّض عنه هذا التركيب الطبقي من بلايا وكوارث ومِحَن في المجتمع الإسلامي ،

١٠١

تستسيغ هذا المطلب تستسيغ أن عم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر الناس عطاءً أنْ يكون البدريّون أكثر عطاءً من الأُحديّين وأنْ يكون المهاجرون أكثر عطاءً من غيرهم وأنْ يكون العرب الموجودون أيّام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعاشوا الدعوة في مراحلها الأولى أكثر عطاء من غيرهم ، وهكذا فلو كان عليّ يُعارض هذا الانحراف وقتئذٍ لفسّر على مستوى تلك الذهنية ، بأنّه صراع شخصي وليس صراعاً عقائدياً لم يكن بإمكانه أنْ يفهم المسلمين ذلك ولهذا سكَت لئلاّ يلبس صراعه الثوب الشخصي ، وهذا هو يقول : سأُسالم ما سلِمَت أُمور المسلمين مادام التعدّي عليّ أنا ، فأنا ساكت مادام الناس يعيشون ويشعرون بأنّ الأُمور بخير ، فأنا ساكت حتى يصابوا بنيران الانحراف .

ويعد عمر أعلن رأيه في الشيخين ، فإعلانه بمخالفة سيرة الشيخين كان موقفاً عقائدياً ونضالياً ، ولم يكن موقفاً شخصياً ؛ لأنّ المصلحة الشخصية تقتضي هنا أنْ يسكت ، فإنّه لم يكن بينه وبين وصوله إلى الخلافة إلاّ أنْ يقرّ بزعامة هؤلاء المنحرفين ، وهذا أمرٌ مؤقّت لا يمكن أنْ يفسَّر على أساس الصراع الشخصي ، وإنّما يفسَّر على أساس أنّ هذا الشخص يُريد أنْ يمسك بيده نظرية جديدة للإسلام غير النظرية التي طبقها الشيخان ، ثمّ بعدما تكشّف الانحراف في أيّام عثمان إلى درجة لم يكن بحاجة إلى صعوبة لتشعر به الأُمّة الغير الواعية ، شعرت الأُمّة الإسلامية بذلك خصوصاً في السنوات الأخيرة من أيّام عثمان ، فدخل الإمامعليه‌السلام في الصراع بشكل مكشوف ليثبت للتجربة الإسلامية دعائم النظرية الأُخرى ، فكانعليه‌السلام هو رمز نظرية إسلامية للحياة الاجتماعية ، تختلف عن النظرية المطبّقة لواقع الحياة الاجتماعية على ما سوف نشرح إنْ شاء اللّه تعالى .

١٠٢

٩ - تولّي أمير المؤمنين زعامة المسلمين

انتهينا في خط العرض العام إلى تولّي أمير المؤمنينعليه‌السلام لزعامة المسلمين سياسياً وإدارياً بعد مقتل عثمان ، إلاّ أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام حينما تولّى الخلافة بعد مقتل عثمان ، أراد أنْ يشرح للمسلمين بطريقته الخاصّة ، أنّ المسألة ليست بالنسبة إليه تبديل شخصٍ بشخصٍ آخر ، وليست مسألة فارق اسمي بين زعيم الأمس وزعيم اليوم ، وإنما المسألة هي مسألة اختلاف شامل كامل للمنهج ، وفي كل القضايا المطروحة .

إلاّ أنّه لعلاجها وتصفيتها ، كان يُريد أنْ يبيّن للمسلمين ضرورة أنْ ينظر إليه بوصفه قائماً على الخط ، وقيّماً على المنهج وأميناً على الرسالة ، وعنواناً لدستورٍ جديد ، يختلف عن الوضع المنحرف القائم بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

لأجل هذا امتنع عن قبوله الخلافة أوّل الأمر ، فقال لهم : فكّروا في غيري ، واتركوني وزيراً لمن تستخلفونه ، فأنا لكم وزير خيرٌ منّي أمير ، يعني على مستوى حياة الدعَة والكسَل ، على مستوى الرخاء واليسر ، على مستوى الحياة الفارغة من المسؤولية ، على مستوى هذه الحياة أنا وزير خيرٌ منّي أمير ؛ لأنّي حينما أكون أميراً سوف أُرهقكم ، سوف أُتعبكم سوف أفتح أمامكم أبواب مسؤوليات كبرى تجعل ليلكم نهاراً ، وتجعل نهاركم ليلاً ، هذه الهموم التي تجعلكم دائماً وأبداً تعيشون مشاكل الأُمّة في كل أرجاء العالم الإسلامي ، هذه الهموم التي سوف تدفعكم إلى حمل السلاح - من دون حاجة مادية - لأجل تطهير الأرض الإسلامية من الانحراف الذي قام عليها...؟

اتركوني وزيراً أكون أفضل لكم على مستوى هذه الحياة منّي وأنا أمير ؛ لأنّي كوزير لا أملك أنْ أرسم الخط ، أو أنْ أضع المخطّط ، وإنّما أنصح وأُشير

١٠٣

وحينئذٍ يبقى الوضع الذي كان بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مستمراً ، أصرّوا عليه بأنْ يقبل الخلافة ، ففرض عليهم الشروط فقبلوها إجمالاً دون أنْ يسألوه التوضيح ، أعطاهم فكرة عن أنّ عهده هو عهدُ منهجٍ جديد للعمل السياسي والاجتماعي والإداري ، فقبلوا هذا العهد ، وكان هذا سبباً في أنْ ينظر المسلمون من اللحظة الأولى ، إلى أنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام بوصفه نقطة تحوّل في الخط الذي وجِد بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا بوصفه مجرّد خليفة ، فانتعشت مع هذا العهد الجديد آمال كثيرة .

وحينما بويع عليّعليه‌السلام ، كانت أكثر الصعاب التي واجهها بعد بيعته ، هو انشقاق معاوية وتخلّف الشام بكامله لابن أبي سفيان عن الانضمام إلى بيعته هذا التناقض شق المجتمع الإسلامي في الدولة الإسلامية إلى شقّين ، ووجَد في كل منهما جهاز سياسي وإداري لا يعترف بالآخر ، ومنذ البدء ، كان هناك فوارق موضوعية واضحة ، بين وضع عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام السياسي والإداري ، ووضع معاوية السياسي والإداري ، تجعل هذه الفوارق معاوية ، أحسنَ موقفاً واثبت قدماً، واقدر على الاستمرار في خطه من إمام الإسلامعليه‌السلام .

هذه الفوارق الموضوعية لم يصنعها الإمامعليه‌السلام وإنّما كانت نتيجة تاريخ :

فأوّلاً : كان معاوية يستقل بإقليم من أقاليم الدولة الإسلامية ، ولم يكن لعليّ أيّ رصيد أو قاعدة شعبيّة في ذلك الإقليم على الإطلاق ؛ لأنّ هذا الإقليم ، قد دخل في الإسلام بعد وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانعزال عليّ عن خط العمل ، وكان هذا الإقليم قد دخَل ودشّن حياته الإسلامية بولاية يزيد أخي معاوية ، ثمّ بعده بولاية معاوية ، وعاش الإسلام من منظار آل أبي سفيان ، ولم يسمَع لعليّعليه‌السلام ، ولم يتفاعل مع الوجود الإسلامي والعقائدي ، هذا الإمام العظيم لم يكن يملك شعاراً له رصيد أو قاعدة شعبية في المجتمع الذي تزعّمه معاوية ، وحمَل لواء الانشقاق فيه ، في حين العكس فإنّ شعار معاوية كان يملك رصيداً قوياً وقاعدة قوية في المجتمع الذي تزعّمه الإمامعليه‌السلام ؛ لأنّ معاوية ، كان يحمل شعار الخليفة القتيل ، والمطالبة بدمه والخليفة

١٠٤

هذا كان أمير المجتمع الذي تزعمه عليّعليه‌السلام ، وكان لهذا الخليفة القتيل إخطبوط في هذا المجتمع وقواعد وهكذا كان شعار ابن أبي سفيان يلتقي مع وجود قاعدة ورصيد في داخل مجتمع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، بينما لم يكن شعار عليّ يلتقي مع قاعدة ورصيد في داخل مجتمع معاوية .

وثانياً : كانت طبيعة المهمّة تميّز معاوية عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ لأنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام بوصفه الحاكم الشرعي ، والمسؤول عن الأُمّة الإسلامية كان يريد أنْ يقضي على هذا الانشقاق الذي وجِد في جسم الأُمّة الإسلامية ، وذلك بشخصية هؤلاء المنحرفين ، وإجبارهم بالقوة على انضمامهم إلى الخط الشرعي ، وكان هذا يستدعي الدخول في الحرب ، التي تفرض على عليّعليه‌السلام الطلب من العراقي أنْ يخرج من العراق ، تاركاً أمنه ووحدته واستقراره ، ومعيشته ورخائه ، ليحارب أُناساً شاميّين لم يلتقِ معهم بعداوة سابقة ، وإنّما فقط بفكرة أنّ هؤلاء انحرفوا ، ولا بدّ من إعادة أرض الشام للمجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية ، فكان موقف عليّعليه‌السلام يتطلّب ويفترض ويطرح قضية الهجوم ، على أُناس لا يملكون - في غالبيّتهم - الوعي لخطورة تراخيهم على قمع هذا الانحراف ، انطلاقاً من عدم استيعابهم لأبعاده !

في حين أنّ معاوية بن أبي سفيان يكتفي من تلك المرحلة ، بأنْ يحافظ على وجوده في الشام ، ولم يكن يفكّر ( مادام أمير المؤمنين ) أنْ يهاجم أمير المؤمنين ، وأنْ يُحارب العراق ويضمّ العراق إلى مملكته ، وإنّما كان يفكر فقط ، في أنْ يحتفظ بهذا الثغر من الثغور للمسلمين ، حتى تتهيّأ له الفرص والمناسبات والظروف الموضوعية ، بعد ذلك يتآمر على الزعامة المطلقة في كل أرجاء العالم الإسلامي .

فمعاوية لم يكن يقول للشامي : اترك استقرارك ووحدتك ، واذهب إلى العراق محارباً ؛ لأنّ هذا الشخص خارج عن طاعتي ، ولكن كان عليّعليه‌السلام يقول هذا للعراقي ؛ لأنّ عليّاًعليه‌السلام كان يحمل بيده مسؤولية الأُمّة ، ومسؤولية إعادة وحدة المجتمع الإسلامي ، بينما كان كل مكسب معاوية وهمّه أو قصارى أمله ، أنْ يحافظ على هذا الانشقاق ويحافظ على هذه التجزئة التي أوجدها في جسم المجتمع الإسلامي ، وشتّان بين قضية الهجوم حينما تطرح وقضية الدفاع .

١٠٥

وثالثاً : كان هناك فرق آخر بين معاوية والإمامعليه‌السلام وهو أنّ معاوية ، كان يعيش في بلد لم يكن قد نشأت فيه زعامات سياسية طامحة إلى الحكم والسلطان من ناحية ، ولم يكن فيه أُناس ذوو سابقة في الإسلام ، ممّن يرى لنفسه الحق أنْ يُساهم في التخطيط وفي التقدير ، وفي حساب الحاكم وفي رسم الخط ، لم يكن هكذا ، الشام أسلَمت على يد معاوية وأخيه ، كلّهم كانوا نتيجة لإِسلام معاوية ولإِسلام أخي معاوية ، ولإِسلام مَن استخلف معاوية على الشام ولَم يكن قد مُني بتناقضات من هذا القبيل .

أمّا عليّعليه‌السلام كان يعيش في مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعيش في حاضرة الإسلام الأولى ، التي عاش فيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وعاش بعد ذلك أبو بكر ، وعاش بعد ذلك عمر وعثمان ، حتى قُتِلا ، ومِن ناحية كان يواجه كثيراً ممّن يرَون أنّ من حقّهم أنْ يساهموا في التخطيط ، وأنْ يشتركوا في رسم الخط ، كان يواجه عليّعليه‌السلام أشخاصاً كانوا يرونه ندّاً لهم ، غاية الأمر أنّه ندّ أفضل ، ندٌّ مقدّم ، لكنّهم صحابة كما أنّه هو صحابي عاش مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعاشوا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

طبعاً إنّنا نعلم أيضاً ، بأنّ خلافة عليّ كانت بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعشرين سنة ، وهذا معناه ، أنّ ذلك الامتياز الخاص الذي كان يتمتّع به أمير المؤمنين في عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كالنجم لا يُطاول ، ذاك الامتياز الخاص كان قد انتهى مفهومه وتضاءَل أثره في نفوس المسلمين ، الناس عاشوا عشرين سنة يرون عليّاً مأموماً ، يرونه منقاداً ، يرونه جندياً بين يدَي أمير هذا الإحساس النفسي خلال عشرين سنة ذهب بتلك الآثار التي خلّفها عهد النبوّة .

وهكذا كان عليّعليه‌السلام يُنظَر إليه بشكلٍ عام ، عند الصحابة الذين ساهموا في حل الأُمور وعقدها وكانوا يمشون في خط السقيفة ، هؤلاء الصحابة الذين قدّموا للإسلام في صدر حياتهم ، وكانوا قد قدّر لهم بعد هذا أنْ يمشوا في خط الانحراف وفي خط السقيفة ، هؤلاء كانوا ينظرون إلى عليّ الأخ الأكبر ، الزبير صحيح كان يخضع لعليّعليه‌السلام لكن كان يخضع له كالأخ الأكبر لا يرى أنّ إسلامه مستمد منه ، هذه الحقيقة الثانية الثابتة التي كانت واضحة على عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حُرّفت خلال عهد الانحراف ، خلال عهد أبي بكر وعمر وعثمان ، ولهذا كان الزبير يعترف بأنّ عليّاً أفضل منه ، لكنّه لا يرى نفسه مجرّد آلة ومجرّد تابع

١٠٦

يجب أنْ يؤمر فيطيع ، فكان هناك أُناس من هذا القبيل ، هؤلاء يريدون أنْ يشتركوا في التخطيط ويشتركوا في رسم الخط ، في ظرف هو أدقّ ظرف وأبعده عن عقول هؤلاء القاصرين .

رابعاً : كانت توجد هناك الإطماع السياسية والأحزاب السياسية التي تكوّنت في عهد ابن الخطّاب ، واستفحلت بعده نتيجة للشورى ، هذه الأحزاب السياسية كان يفكّر في أمرها ويفكّر في مستقبلها ، ويفكر في أنّه كيف يستفيد أكبر قدر ممكن من الفائدة في خضمّ هذا التناقض ، وهذا بخلاف معاوية لم يكن قد مُنيَ بصحابة أجلاّء يعاصرونه ويقولون له : نحن صحابة كما أنتَ صحابي ، بل كلّ أهل الشام مسلمون نتيجة لإسلامه وإسلام أخيه ، لم يرَ أحدٌ منهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يسمَع أحدٌ القرآن إلاّ عن طريق معاوية ، إذن كانت حالة الاستسلام في المجتمع الشامي بالنسبة إليه ، لا يوجد ما يناظرها بالنسبة إلى الإمامعليه‌السلام في مجتمع المدينة والعراق .

خامساً : كان هناك فرق آخر بين الإمامعليه‌السلام ومعاوية ، وحاصل هذا الفرق هو أنّ الإمامعليه‌السلام كان يتبنّى قضية هي في صالح الأضعف من أفراد المجتمع ، وكان معاوية يتبنّى قضية هي في صالح الأقوى من أفراد المجتمع ، أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يتبنّى الإسلام بما فيه من قضايا العدالة الاجتماعية التي يمثّلها النظام الاقتصادي للإسلام .

وهذه القضايا لم تكن في صالح الأقوى ، بل كانت في صالح الأضعف ، ومعاوية كان يمثّل الجاهلية بفوارقها وعنفوانها وطبقاتها ، وهذا لم يكن في صالح الأضعف بل كان في صالح الأقوى ، وذلك أنّه بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما دخل العراق والشام وبقيّة البلاد في داخل المجتمع الإسلامي ، لم يقدِر الخلفاء الذين تزعموا زعامة المسلمين ، على تذويب التنظيم القبائلي الذي كان موجوداً في هذه البلاد ، بل بقيَ التنظيم القبائلي سائداً وبقيَ زعيم كلّ قبيلة هو الشخص الذي يرتبط كهمزة الوصل بين قبيلته وبين السلطان ، وهذا التنظيم القبائلي بطبيعته ، يخلق جماعة من الزعماء ومِن شيوخ هذه القبائل الذين لم يربِّهم الإسلام في المرتبة السابقة ، ولَم يعيشوا أيّام النبوّة عيشاً صحيحاً ممّا جعل من هؤلاء طبقةً معيّنة ذات مصالح ، وذات

١٠٧

أهواء وذات مشاعر في مقابل قواعدها الشعبية ، ممّا يوفّر لهم أسباب النفوذ والاعتبار .

الآن تصوّروا مجتمعاً إسلامياً تركه الخلفاء المنحرفون وهو يعمّ بالتقسيمات القبلية ، بمعنى أنّ كلّ قبيلة كانت تخضع إدارياً وسياسياً لزعامة تلك القبيلة التي تشكّل ـ كما قلنا ـ همزة وصل بين القبيلة وبين الحاكم ، الذي يسهل عليه أنْ يرشي رؤساء هذه القبائل بقدر الإمكان ، وهذا ما كان يفعله غير عليّعليه‌السلام من الحكّام ، وكان عاملاً من عوامل القوة بالنسبة إلى معاوية ، هذه الظروف الموضوعية لم يصنعها الإمامعليه‌السلام وإنّما هي صنَعت خلال التاريخ وأوجدَت لمعاوية مركزاً قويّاً ، ووجِد للإِمام مركز ضعف ولولا براعة التضحية وكفاءته الشخصية ورصيده الروحي في القطاعات الشعبية الخاصّة الواسعة ، لولا ذلك لما استطاععليه‌السلام أنْ يقوم بما مرّ به نفسه من حروب داخلية خلال أربع سنوات ...

هكذا بدأ الإمام بخلافته ودشّن عهده ، وبدأ الانقسام مع هذا العهد على يد معاوية بن أبي سفيان ، وأخذ الإمام يُهيّئ المسلمين للقيام بمسؤوليّاتهم الكبيرة ؛ للقيام بدورهم في تصفية الحسابات السابقة ، في تصفيتها على مستوى مالي ، على المستوى الاقتصادي ، على المستوى الاجتماعي على المستوى السياسي والإداري أيضاً ، كلّ ذلك كان يحتاج إلى الكفاح والقتال فأخَذ يدعو الناس إلى القتال وخرجوا إليه فعلاً لقد درسنا إلى هنا علياً مع معاوية بحسب ظروفه الموضوعية ، فلابدّ وأنْ ندرس الذهنية العامّة للمسلمين أيضاً ، كيف كان يُفسّر هذا الخلاف الموجود بين عليّ ومعاوية .

الذهنية العامّة للمسلمين بدأت تفسّر هذا الخلاف ، بأنّه بين خطّ خلافة راشدة ، وبين شخص يُحاول الخروج على هذه الخلافة ، كانوا ينظرون إلى عليّ بشكلٍ عام على أنّه هو الخليفة الراشد ، الذي يُريد أنْ يُحافظ على الإسلام ، ويُحافظ على خطّ القرآن ، في حين أنّ معاوية يحاول أنْ يتآمر على هذا المفهوم .

استطاع أمير المؤمنينعليه‌السلام أنْ يثبت هذا الانطباع ، بالرغم من كلّ الظروف الموضوعية التي قلناها ، في ذهن القاعدة الشعبية الواسعة ، في كل أرجاء العالم الإسلامي ، عدا القطر الذي كان يرتبط بمعاوية ، وهذه الذهنية هي التي كانت تصبغ المعركة بين عليّ ومعاوية بطابع الرسالة ، كأنْ تعطيه معنىً رسالياً وكانت تُفسّر هذه المعركة

١٠٨

بأنّها معركة بين الجاهلية ، بين فكرين ، بين هدفين ، وليست بين زعامتين وشخصيّتين ، إلاّ أنّ الأمر تطوّر إلى الأسوأ حيث إنّ المسلمين بدأوا يشكّون شكّاً واسع النطاق ، بأنّ المعركة بين أمير المؤمنينعليه‌السلام وبين معاوية بن أبي سفيان معركة رسالية .

من الصعب جداً أنْ نتصوّر أنّه كيف يمكن للمسلمين أنْ يشكوا في أنّ المعركة القائمة بين إمام الورَع والتُّقى والعدالة ، وبين شخصٍ خائن جاهلي منحرف عدوّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت معركة رسالية ، إلاّ أنّي لا أشكّ في أنّ عدداً كبيراً من المسلمين ، على مرّ الزمن في عهد خلافة أمير المؤمنين ، بدأ يَشُكّ في أنّ هذه المعركة أهيَ رسالية حقيقية أو غير رسالية ؟ وهنا يجب أنْ نعرف أنّ المسلمين الذين شكّوا مَن هم .

إنّهم أولئك الذين عرفناهم عقيب وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هم أُولئك المسلمون الذين خلّفهم الرسول فكانت( خيرُ أُمّةٍ أُخرجت للناس ) ، على مستوى إيمانهم وطاقتهم الحرارية وإشعاعهم وشحنهم من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بشخصِ المبادئ التي طرحهاصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن لم يكن لهم من الوعي العقائدي الراسخ إلاّ شيء قليل ، هذا المعنى شرحناه وبيّناه وبيّنا جهاته ، وقلنا : إنّ الأُمّة لم تكن على مستوى الوعي ، وإنّما كانت على مستوى الطاقة الحرارية ، إذن فنحن سوف لنْ نتوقّع فيها أنْ تبقى مشتعلة ، وتبقى على جذوتها وحرارتها بعد وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يبقى هذا أيضاً غير منطقي ، إذن يجب أنْ نفكّر في أنّ هذه الطاقة الحرارية قد تضاءلت بدرجةٍ كبيرة ، وحتى تلك الصبابة من الوعي ، تلك الجذور من الوعي التي كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد بدأ بها كي يُواصل بعد هذا خلفاؤه المعصومون عملية توعية الأُمّة، حتى تلك البذور قد فُتّتت ، وأخفقت ومُنِع بعضها عن الإثمار ، وبقيَ بعضها الآخر بذوراً منقسمة أيضاً .

وحينما نتصوّر الأُمّة الإسلامية بهذا الشكل ، من ناحية أُخرى يجب أنْ نتصوّر مفهوم المسلمين عن معاوية ، نحن الآن ننظر إلى معاوية بعد أنْ استكمل حظّه من الدنيا ، وبعد أنْ دخل الكوفة وصعد على منبر عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وقال : إنّي لم أُحاربكم لكي تصوموا أو تصلّوا ، وإنّما حاربتكم لأنْ أتأمّر عليكم ، بعد أنْ أعلن بكلّ صراحة ووقاحة عن هدفه ، وبعد أنْ طرَح بكلّ برودة شعار الخليفة المظلوم وشعار الخليفة القتيل ، دخل عليه أولاد عثمان بن عفّان وقالوا له : لقد جعلنا هذا الأمر

١٠٩

وتمّ الأمر لك يا أمير المؤمنين ، فما بالك لا تقبض على قتَلَة أبينا ، قال : أوّلاً يكفيكم أنّكم صرتم حكّام المسلمين .

نحن ننظر إلى معاوية بعد أنْ ارتكب الفظائع ، وغيّر أحكام الشريعة ، وأبدع في السنّة ، ننظر إلى معاوية بعد أنْ استخلف يزيد ابنه على أُمور المسلمين ، وبعد أنْ قتل مئات من الأبرار والأخيار ، ننظر إلى معاوية بعد أنْ تكشّفت أوضاعه ، لكن فلنفرض أنّ شخصاً ينظر إلى معاوية قبل أنْ تكشف له هذه الأوضاع ، لنفترض أنّ أُولئك الأشخاص يعيشون في إطار الأُمّة الإسلامية وقتئذ ، معاوية ماذا كان يكشف عن أوضاعه وقتئذ على المسلمين ، الذين كانوا يدورون في فلَك السقيفة ، وحكومات السقيفة ، ماذا كان من أوراق معاوية مكشوفاً وقتئذ ؟

كان معاوية شخصاً قد مارس عمله الإداري والسياسي بعد وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأقلّ من سنة ، خرَج إلى المدينة وذهَب إلى الشام كعاملٍ عليها ، وبقيَ معاوية هناك مدلّلاً محترماً معزّزاً من قِبل ابن الخطّاب ، الذي كان ينظر إليه بشكلٍ عام في المجتمع الإسلامي ، بنظرة الاحترام والتقدير ، حتى إنّ عمر بن الخطاب ، حينما أراد أنْ يؤدّب ولاته ، استثنى معاوية من هذا التأديب ، وحينما أراد أنْ يُقاسم أموال ولاته استثنى معاوية من ذلك ! فمعاوية كان والياً موثوقاً به معزّزاً من الناحية الإسلامية عند ابن الخطاب .

وبعد هذا جاء عثمان فوسّع من نطاق ولاية معاوية ، وضمّ إليه عدّة بلاد أُخرى ، إضافةً إلى الشام ، ولم يطرأ أيّ تغيير في ابن أبي سفيان ، فمعاوية لم يكن شخصاً مكشوفاً ، بل كان شخصاً عنوانه الاجتماعي ، أنّه حريصٌ على كرامة الإسلام ، وإنّه هو الشخص الذي استطاع أنْ يدخل في قلب الخليفة الخشِن الذي يعاتب ويُعاقب ، الذي كان يضرب ابنه بحدّ الخمر حتى يموت ، هذا الخليفة لم يضرِب معاوية ولم يعاقبه .

معاوية كان نتيجة الترويجات من قِبَل الحكّام والخلفاء المنحرفين ، وكان يتمتّع بسمعةٍ طيّبة وبمفهوم طيّب ، هنا دخَل الصراع لأوّل مرّة شعار الأخذ بالثأر لدم عثمان ، هذا الشعار الذي أخذَه معاوية وكان يبدو للبسطاء من الناس وكثير من المغفّلين ، كان شعاراً له وجهة شرعية ، كان يقول بأنّ عثمان قُتل مظلوماً ، وعثمان بالرغم من أنّه خان الأمانة من استهزاء بالإسلام ، وبالرغم من أنّه صيّر الدولة الإسلاميّة إلى دولة عشيرة وقبيلة ، وبالرغم مِن أنّه ارتكب الجرائم

١١٠

التي أدنى عقابها القتل ، بالرغم من هذا ، ابن أبي سفيان يقول : قُتِل عثمان مظلوماً ، وليس هناك من يعرف بأنّ عثمان يستحقُّ القتل ، كثير من الناس البسطاء أيضاً يقولون : عثمان قتل مظلوماً فلابدّ من القصاص ، فيا عليّ ، إنْ كنت قادراً فأعطنا قاتليه ، وإنْ كنت عاجزاً ، فأنت عاجز عن أنْ تطبّق أحكام الإسلام فاعتزل الحكم ؛ لأنّ الخليفة يُشترط فيه القدرة على تطبيق أحكام الإسلام .

هذا هو الشعار الذي أبرزه معاوية في مقابل الإمامعليه‌السلام ، والإمامعليه‌السلام في مقابل هذا الشعار لم يكن يُريد بأنْ يصرّح بأنّ عثمان كان جديراً بأنْ يُقتل ، أوْ كان يجب أنْ يُقتل ؛ لأنّه لو صرّح بهذا ، لتعمّق اتهام معاوية وطوّر التهمة من قول أعطني ، إلى قول : إنّك قتلتَ عثمان ، فبقيَ شعار معاوية شعاراً مضلّلاً إلى حدٍّ كبير .

ثمّ لابدّ وأنْ نلاحظ الجهود والأتعاب والتضحيات التي قام بها المسلمون في كنف عليّعليه‌السلام ، لا أدري هل أنّ أحداً جرّب أو لم يُجرّب هذا الإيحاء النفسي ، حينما تكون المهمّة صعبة على الإنسان وثقيلة ، حينئذٍ توَسوِس له نفسه بالتشكيك في هذه المهمّة بمختلف التشكيكات ، فحينما يصعب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حينئذ يأخذ بالوَسوَسة .

مَن قال بأنّ هذا الرجل مُبطل ؟ مَن قال إنّه قادر على هذا الكلام ؟ مَن قال إنّ شروط الأمر بالمعروف تامّة ، وهكذا يوَسوِس لأجل أنْ يستريح من هذه المهمّة ؛ لأجل أنْ يلقي عن ظهره هذا العبء الكبير ، كلّ إنسان يميل بطبعه إلى الدعة ، إلى الكسَل إلى الراحة إلى الاستقرار ، فإذا وضعت أمامه مهام كبيرة ، حينئذٍ ، إذا وجِد مجالاً للشكّ في هذه المهمّة فسوف يكون عنده دافع نفسي إلى أنْ يشك ، يشك لأجل أنْ يريد أنْ يشك ، ويشك لأجل أنّه من مصلحته أنْ يشك ، وهذا كان موجوداً على عهد الإمامعليه‌السلام .

العراقيّون قدّموا من التضحيات شيئاً كثيراً بذلوا أموالهم ونفوسهم ودماءهم في حروبٍ ثلاثة ، آلاف من العراقيين ماتوا وقتلوا ، عشرات من الأطفال يُتّموا آلاف من النساء أصبحن أرامل ، آلاف من البيوت والعوائل تهدّمت ، كثير من المدِن والقرى غارت عليها جيوش معاوية ، كثير من هذه المآسي

١١١

والويلات حلَّت بهؤلاء المسلمين ، نتيجةَ ماذا ولأجل ماذا ؟ لأجل أنْ يزداد مالهم ، لا ، لأجل أنْ يزداد جاههم ، لا ، وإنّما لحساب الرسالة ، لحساب الخط ، لحساب المجتمع الإسلامي ، لأجل هذا الهدف الكبير ، وهذا هدفٌ كبير أعزّ من كل النفوس واعزّ من كل الدماء وأعزّ من الأموال .

لكن نحن يجب أنْ نقدّر موقف هؤلاء الذين ضحّوا وبذلوا وقدّموا ، ثمّ أصبحوا يُشكّكون ؛ لأنّ من مصلحتهم أنْ يُشكّكوا ، وأصبح الإمام يدفعهم فلا يندفعون ، يحرّكهم ، فلا يتحرّكون ، لماذا ؟ لأنّ من مصلحتهم أنْ يعطوا للمعركة مفهوماً جديداً ، وهو أنّ القصّة قصّةُ زعامة عليّ أو معاوية ، ما بالنا وعليّ ومعاوية ، إمّا أنْ يكون هذا زعيماً وإمّا أنْ يكون ذلك زعيماً ، نحن نقف على الحياد ونتفرّج ، فأمّا أنْ يتمّ الأمر لهذا أو لذاك .

هذا التعبير بداياته ، وهذا التفسير الذي أوحت مصلحة هؤلاء وهؤلاء هو الذي كان يشكّل عقبة دون أنْ يتحرّكوا ، دون أنْ يتحرّك هؤلاء من جديد إلى خط الجهاد ، هذا التعبير هو الذي جعل أمير المؤمنينعليه‌السلام يبكي من على المنبر ، وينعى أصحابه الذين ذهبوا ، أُولئك الذين لم يشكّوا في خطّه وفيه لحظة ، أُولئك الذين آمنوا به إلى آخر لحظة ، أُولئك الذين كانوا ينظرون إليه كامتداد لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، من قبيل عمّار وأمثاله ، هذا عمّار الذي وقَف بين الصفّين ، ووضَع سيفه على بطنه ، وقال :

واللّه إنّك تعلم لو كان رضاك أنْ تغمد هذا في بطني حتى أخرجته من ظهري لفعلته ، واللّه إنّك تعلم أنيّ لا أعلم رضاً ، إلاّ في قتال هؤلاء المائعين المنحرفين ، كان يبكي لأمثال عمّار ؛ لأنّ عمّاراً وأمثاله كانوا قد ارتفعوا فوق هذه الشكوك ، قد طلّقوا مصالحهم الشخصية لمصلحة الرسالة ، كانوا قد غضّوا النظر عن كلّ الاعتبارات الخاصّة في سبيل حماية كيان الإسلام ، وفي سبيل إعادة مجد المجتمع الإسلامي ووحدة المجتمع الإسلامي إلى هؤلاء .

أصبح هؤلاء الذين كانوا يُفكّرون في الهموم الكبيرة يفكّرون في الهموم الصغيرة ، أصبحوا يُفكّرون في قضاياهم ، يجب أنْ لا نعتب عليهم ، نحن أسوأ منهم فنحن لم نرتفع لحظة هكذاً ، نهبِط وهؤلاء ارتفعوا لحظة ثمّ هبَطوا هؤلاء خرَجوا من بلادهم وطلّقوا نساءهم وأطفالهم وأموالهم في سبيل اللّه ، وفي سبيل قضيّة ليس لهم ربح مادّي فيها .

هؤلاء فعلوا هذا ساعة ثمّ أدركهم الشيطان ، أمّا نحن لا ندري أذا وقفنا مثل هذا الموقف هل نصمد ولو ساعة

١١٢

أو نبقى مكاننا ، على أيّ حال هؤلاء كانوا ثلّة ، لم يكونوا عمّار بن ياسر ، هؤلاء بدأ الشكّ يتسرّب إلى نفوسهم ، بدأوا يشكّون في هذا الإمامعليه‌السلام الصالح حتى تمنّى الموت ؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام أصبح يحسّ أنّه انقطع عن هؤلاء ، وأصبح منفصلاً عنهم .

إنّهم أصبحوا لا يفهمون أهداف رسالته ومَن أمرّ ما يُمكن أنْ يقاسيه زعيم أو قائد أنْ يعيش في جماعة لا تتفاعل معه فكرياً ، ولا تعيش مع أهدافه ولا مع خطّه ، مع إنسان يبذل كلّ ما لديه في سبيلهم ، وهُم لا يحسّون أنّ كلّ هذا في سبيلهم ، وإنّما يشكون فيه ، في نيّته ، هذا هو الامتحان العسير الذي قاساه ـ أفضل الصلاة والسلام عليه ـ ، لكن بالرغم من كلّ هذا الامتحان يُحاول أنْ يبث من روحه الكبير في هذا المجتمع المتفتّت الذي بدأ يشك ، والذي بدأ يتوقّف .

كان يحاول أنْ يبثّ فيهم من روحه الكبير ، إلى أنْ خرّ شهيداً في مسجد الكوفة .

اللّهم اجعلنا ممّن ينتصر لدينك .

١١٣

١١٤

١٠ - ثلاثة أئمّة

يدور هذا البحث حول حياة الأئمّة الثلاثة ( الحسن والحسين وعليّ بن الحسين ) ، الذين يشكّلون مع أبيهمعليهم‌السلام على ما قلناه سابقاً ، المرحلة الأُولى من المراحل الثلاث لحياتهمعليهم‌السلام ، فإنّنا قُلنا فيما تقدّم عن تاريخ الأئمّةعليهم‌السلام على أنّ هذا التاريخ يمكن تقسيمه إلى مراحل ثلاث .

المرحلة الأُولى : وهي مرحلة تفادي صدمة الانحراف ، هذه المرحلة هي التي عاش فيها قادة أهل البيتعليه‌السلام مراراة الانحراف ، وصدمته بعد وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت مرارة هذا الانحراف وصدمة هذا الانحراف ، التي كان من الممكن أنْ تمتد وتقضي على الإسلام ومصالحه وعلى الأُمّة الإسلامية ، فتصبح قصّة في التاريخ لا وجود لها في خط الزمن المستمر .

الأئمّةعليهم‌السلام في هذه المرحلة عاشوا صدمة الانحراف ، وقاموا بالتحصينات اللازمة بقدر الإمكان ، بكلّ العناصر الأساسية للرسالة ضدّ صدمة الانحراف ، فحافَظوا على الرسالة الإسلامية نفسها .

كل هذه الأركان والمقوّمات حصّنوها تجاه صدمة الانحراف ، هذه هي المرحلة الأُولى وتبدأ بعد وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتستمر إلى حياة الإمام الرابع من قادة أهل البيتعليه‌السلام .

المرحلة الثانية : ثمّ تبدأ المرحلة الثانية والإمام الباقرعليه‌السلام شبه البداية لها وحينما نقول شبه البداية ؛ لأنّ تصوّر هذا العمل ليس حدّياً، حيث يُمكن أنْ نقف ، على اللحظة ، فنقول : هذه اللحظة هي نهاية المرحلة وبداية أخرى ، وإنما هذا التصوّر يتّفق مع طبيعة الإحداث المتصوّرة في خط تاريخ الإسلام .

والمرحلة الثانية هي المرحلة التي شرَع فيها قادة آهل البيتعليهم‌السلام - بعد أنْ وضعوا التحصينات اللاّزمة وفرغوا من الضمانات الأساسية ضدّ صدمة الانحراف - ببناء الكتلة ، بناء الجماعة المنطوية تحت لوائهم ، الشاعرة بكلّ الحدود والأبعاد من المفهوم الإسلامي المتبنّى من قبلهمعليهم‌السلام ، منذ زمان

١١٥

عليّ بن الحسينعليه‌السلام ، وعلى زمان الإمام الباقر والصادقعليه‌السلام كان هذا العمل يبلغ القمّة ، وليس معنى ذلك ، أنّ هذا العمل الأوّل الذي كان اللبنة الرئيسية للمرحلة قد انقطع ، وإنّما معنى هذا أنّ العمل الأوّل استمر ، لكن حيثُ إنّ صدمة الانحراف ، كان قد أمكن تقليل خطرها ، خلال ما قام به الأئمّة الأربعة الأُول من جهود وتضحيات في سبيل حفظ الإسلام ، وهذا يحتّم أنْ يواجه قادة أهل البيتعليهم‌السلام المهمّة الجديدة ، مهمّة بناء الجماعة الصالحة من مجموع هذه الأُمّة ، التي حصّنت بالحد الأدنى من التحصين ، ولا بدّ أنْ تُنتَخبَ مجموعة من هذه الأُمّة ، فيحَصّنَّون بأعلى درجة ممكنة من التحصين ، ويوعون بأعلى درجة ممكنة من التوعية ، حتى تكون هذه الجماعة ، هي الرائد والقائد والحامي للوعي الإسلامي الذي حصّن بالحد الأدنى .

هذا العمل مارسه الإمام الباقرعليه‌السلام على مستوى القمّة وقلنا : إنْ هذه المرحلة استمرّت الى زمن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، وفي زمان الإمام الكاظمعليه‌السلام بدأت المرحلة الثالثة .

وهذهالمرحلة الثالثة : لا تحدّد بشكلٍ بارز من قِبَل الأئمّةعليه‌السلام أنفسهم ، بل يحدّدها بشكل بارز ، موقف الحكم المنحرف من الأُئمّة أنفسهم ؛ وذلك لأنّ الجماعة التي نشأت في ظلّ المرحلة الثانية التي وضعت بذرتها في المرحلة الأولى ، نشأت ونمَت في ظلّ المرحلة الثانية ، وهذه الجماعة غزَت العالم الإسلامي ، وقتئذ ، وبدا للخلفاء أنّ قيادة أهل البيتعليه‌السلام ، أصبحت على مستوى تسلّم زمام الحكم والعود بالتجمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام الحقيقي ، وهذا خلّف بشكلٍ رئيسي ردود الفعل للخلفاء تجاه الأئمّةعليه‌السلام من أيّام الإمام الكاظمعليه‌السلام .

هذه هي المراحل الثلاث التي سوف نستوعبها بالتأريخ ، خلال تاريخ كلّ واحد من الأئمّةعليه‌السلام إلى أنْ يكملوا ، وخصيصة هذه المرحلة الرئيسية ، أنّ الأئمّة الأربعةعليه‌السلام قاموا بتحصينات المقوّمات الإسلامية للحضارة الإسلامية ، ضدّ صدمة الانحراف ، هذا الانحراف وعمقه وخطورته يمكن أنْ ننتبه حينئذ لجلالة وعظمة منجزات الأئمّةعليه‌السلام .

صدمة الانحراف : خطورة هذا الانحراف الذي يمكننا أنْ نوجزه في جملة

١١٦

بسيطة قصيرة جدّاً ، هي أنّ شخصاً غير عليّ بن آبي طالبعليه‌السلام تولّى الأمر بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأصبح سلطان المسلمين بعده .

هذه الجملة البسيطة هي التي تشكّل كل هذا البلاء العظيم بكلّ مضاعفاته ونتائجه التي سوف نتحدّث عنها ، وليست هذه الجملة معبّرة فقط ، عن ظلم وغُبْن شخصي للإمامعليه‌السلام ، واستيلاء على حقٍّ خاص من حقوقه ، ليس هكذا ، لو كان مجرّد مظلومية عليّعليه‌السلام ، لوقف على مستوى العقيدة الدينية ، ولم يسرِ إلى الحياة الإسلامية في كلّ مجالاتها الخارجية ، لم تكن المسألة مسألة عقيدة فحسب ، أو نزاع بين شخصين في حقٍّ مشروع يدّعيه المدّعي وينكره المنكر ، لم يكن هذا وإنّما كان تغيير شخص الحاكم ، تعريضاً للتجربة الإسلامية للفشل المحقّق فعلاً ، ثمّ خطر الانهيار الكامل في المستقبل .

بيان ذلك ، ولكي يتّضح هذا المعنى تماماً ، لا بدّ وأنْ نعرف ما هي الرسالة التي بمجرّد تغيير شخص الحاكم فيها ، بمجرّد استيلاء أبي بكر على الحكم بدلاً من الشخص المعيّن من قِبَل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنص ، يزعزع كيان هذه الرسالة ثمّ يمحقها محقاً كاملاً ، لولا جهود الأئمّةعليهم‌السلام .

كيف أنّ مجرّد تغيير هذا الحاكم ، يوجب هذا العمق في الخطر وهذا المحق في نهاية الشوط ، وما هي الرسالة الإسلامية حتى نعرف على ضوء ذلك كيف يكون هذا الخطر عميقاً، ثم نفهم بعد هذا ما هي التحصينات ضدّ هذا الخطر العميق ، هناك منذ البدء نظرتان أساسيّتان للكون ولموقف الإنسان من الكون .

إحدى هاتين النظرتين : أنْ يرى أنّ الكون مملكة لمليك قدير يُراقب من وراء الستار مراقبةً غير منظورة ، هذه هي النظرة الأولى التي يتحدّد بها موقف الإنسان من الكون وطبيعة هذا الكون ، وهذه النظرة ، تستبطن حتماً الشعور بأنّ وجود الإنسان في الكون ، هو وجود الأمين ووجود الخليفة ، لا وجود الأصيل والمتحكّم ؛ لأن هذه مملكة غيره بكل ما فيها من وجود، بما فيها نفس الإنسان ، هي مملكة ذاك المليك القدير المراقب من وراء الستار، وهذا يشعر بأنّه يقوم بأعباء الأمانة والخلافة، هذه الخلافة التي قام فيها آدمعليه‌السلام ، وقامت به بعد ذلك الأجيال الصالحة لبني آدم هذه الخلافة والأمانة تستبطن معنى

١١٧

آخر هو ضرورة استيحاء الأمر والنهي والتدبير والتقدير والتقديم من قبل ذلك المليك القدير ؛ لأنّه خليفة وأمين ، والأمين لا بدّ له أنْ يُطبّق على الأمانة التي استؤمن عليها قرارات المالك ، فلا بدّ للإنسان إذَن أنْ يكون رهن ذلك المليك القدير .

ثمّ أنّ الجزء الآخر لهذه النظرية الأساسية ، المليك القدير المراقب من وراء الستار ، يراقب ويحاسب ويدقّق ، لكن بطريقة خاصّة في المراقبة والتدقيق ، فإنّه يراقب من وراء الستار ، لا يتجلّى للإنسان في مملكته جهاراً فكل من عصاه ينزل به العقوبات ، بل يختفي عن مملكته بحسب المنطق الحسّي ، ويراقب أهل هذه المملكة ، فكرة يراقب من وراء الستار ، تستبطن المسؤولية تستبطن الثواب والعقاب ، والحساب والعقاب يستبطن وجود عالم آخر ، وراء هذا العالم ، لتحقيق نتائج هذه المراقبة المستورة ، الغير السافرة والعاجلة من قِبَل ذلك المَليك القدير .

إذنْ جاءت فكرة عالم آخر للجزاء والحساب والعقاب ، حينئذٍ تجيء فكرة الأهداف الكبيرة ، وحينئذ الإنسان لا يكون قيد هذا الشوط القصير في الدنيا ، بل يكون رهْن خطٍّ طويل ، يمتد من ذلك العالِم المنظور ، وحينئذٍ يكون الإنسان على مستوى الأهداف الكبيرة ، الأهداف التي لا يستطيع هو أنْ يستفيد منها ويمتصّها ويستنزفها ، أعظم الأهداف وأجلّ الأهداف وأسمى الأهداف ، هي تلك الأهداف التي تكون أوسَع من عُمر الإنسان .

واحد من هذه الأهداف كيف يُمكن أنْ تحمل الإنسانية بها وتحمل الإنسانية على تحقيقها ، إذا كانت الإنسانية لا ترى الأمر في نظرها إلاّ هذا الشوط القصير ، إذن هذا الهدَف ليس هدفها ؛ لأنّها لا تستلزم خسارة هذا الهدف ، ولا تشرب نخبه فتكون هذه الأهداف معطّلة ، وتبقى الإنسانية رهْن الأهداف القصيرة ، وهي غايات المادّة المحدودة ، وهذه الغايات المحدودة هي منطلق ألوان كثيرة ، من الكفاح والصراع ما بين الأُسرة البشرية ، بين فردٍ وفرد ، بين مجتمعٍ ومجتمع ، بين قومية وقومية ، بين أُمّة أُمّة ، أمّا إذا أصبحت البشرية على مستوى الأهداف الكبيرة ، لأنّها انطلقت في غاياتها وفي ثباتها الى أكثر من حدود هذه الدنيا ، حينئذٍ تستطيع أنْ تقوم بأعباء تلك الأهداف الكبيرة مَن خرَج مِن بيته مهاجراً في سبيل اللّه ، فمات وقَع أجره على اللّه ، كم من الناس درَسوا وماتوا قبل أنْ يحقّقوا النتيجة ، كم من آلاف المجاهدين خرجوا للحرب

١١٨

واستشهدوا قبل أنْ يذوقوا لذّة النصر والانتصار ، كم من آلاف من المجاهدين والمعلّمين طافوا وتحمّلوا في سبيل مباحثهم من الأذى والظلم والإهانة ، وماتوا قبل أنْ يذوقوا لذّة الانتصار ، إلاّ أنّ هؤلاء حيث إنّهم خرَجوا من بيوتهم هاجروا في سبيل اللّه سبحانه وتعالى وماتوا وسط الطريق ، فوقع أجرهم على اللّه سُبحانه وبذلك انفتح أمام هؤلاء طريق هذه الأهداف الكبيرة ، فلا يهمّ هذا الإنسان القصير العمر أنْ يموت خلال الخطوة الأولى أو الثانية ، ما دام يسير في خط ، في أيّ مرحلة منه يموت يقع أجره على اللّه ، هنا انفتح طريق الأهداف الكبيرة ، انفتح باب أنّ القِيَم الخلقية لا معنى لها ما لَم تكن على مستوى الأهداف الكبيرة والجزاء الكبير الغير المنظور .

والقِيَم الخلقية من التضحية والفداء والحبّ والإيثار ونحو ذلك من الأمور ، كل هذه انفتح بابها ؛ لأنّها جميعاً طُرق اللّه سبحانه وتعالى ، كلّ من يمشي في طريق من هذه الطرق ويموت ويخسر ويبتدئ تجاهها بصدمة يقع أجره على اللّه سُبحانه وتعالى ، كل مَن يضحّي فلا يلاقي جزاء تضحيته يقع أجره على اللّه ، كل مَن يقوم بخدمة للآخر فلا يُلاقي جزاء من الآخر يقع أجره على اللّه ؛ لأنّه يدخل في ملاك مَن خرَج من بيته مهاجراً في سبيل اللّه فمات وقَع أجره على اللّه .

هذه النظرة الأساسية تشعّبت منها كلّ هذه الشُّعَب وكلّ هذه الفروع التي بكاملها تشكّل الحضارة الإسلامية .

فالحضارة الإسلامية عبارة عن هذه النظرة الأساسية بكل شُعَبِها وفُروعها التي ترجع بالنهاية إلى تجسيد كامل للعلاقة مع اللّه سبحانه وتعالى ، في تفاعل الإنسان مع كل مجالاته الحيوية والكونية هذه هي النظرة الأُولى وفي مقابلها نظرة أُخرى .

والنظرة الثانية : هي أنْ يرى الإنسان نفسه بأنّه أصيل في هذا الكون ، وحينما ينظر في نفسه على أنّه أصيل في هذا الكون ، وأنّ هذا الكون مستقل وغير خاضع لمليك ومراقبة من وراء الستار ، حينما تتركّز في نظره هذه الأصالة والاستقلال بهذا الكون تنعدم المسؤولية ، وإذا انعدَمت المسؤولية في المقام ، بقيَ عليه هو أنْ يتحمّل المسؤولية بنفسه .

١١٩

يعني بدلاً مِن أنْ يشعر بأنّه مسؤولٌ ومراقب أمام جهة علياً ، تضعه أمام أهداف كُبرى في سبيل الثواب الكبير والعقاب الكبير ، يصنع هو المسؤولية وحينما يتحمّل هو وضع المسؤولية ، تكون هذه المسؤولية نتاج نفسه فينعكس فيما وضَعه تمام ما في نفسه ، تمام المحتوى الداخلي والروحي والحسّي بكل ما فيه من نقصٍ وشهوة ، وحينئذٍ حينما يُريد الإنسان أنْ يُحدّد لنفسه مسؤولياته ، يحدّدها على ضوء أهدافه ، التي سوف يحدّدها على ضوء مدى طريقه ، وحيث إنّ طريقه محدود ، وحيث إنّ طريقه منكمش في نطاق المادّة ، فسوف تكون الأهداف على مستوى الطريق ، وحينما يكون كذلك ، فسوف تكون المسؤوليات في نطاق هذه الأهداف ، وبعد هذا سوف يخسر القِيَم الأخلاقية ، ويتولّد عن ذلك ألوان من الصراع والنزاع بين البشرية حيث تصبح جماعات ووحداناً وهذه النظرة غير إسلامية .

لماذا جاء الإسلام ؟ : الإسلام جاء لأجل أنْ يربّي الإنسان على النظرية الأُولى ، لا لأجل أنْ يكون مجرّد عالم يجيء بنظرية ليكتبها في كتاب ، بل جاء الإسلام ليربّي الإنسان على هذه النظرية ، بحيث تصبح جزءاً من وجوده وتجري مع دمه وعروقه ، مع فكره وعواطفه وتنعكس على كلّ مجالات تصرفه وسلوكه مع اللّه سبحانه وتعالى ، ومع نفسه ومع الآخرين .

فعليه لا بدّ للإسلام أنْ يهيمن على هذا الإنسان ، وعلى كل طاقاته وعلاقاته ، ليستطيع أنْ يربيه ، فالمربّي لا يستطيع أنْ يربّي شخصاً ما لم يهيمن عليه ، إذا لم يُهيمن عليه يكون مجرّد أُستاذ وتلميذ ، الأُستاذ يلقي النظرية العلمية للتلميذ ، فإنْ شاء التلميذ قَبِل وإنْ شاء رفَض وهذا باب التلمذة والبحث .

وأمّا باب التربية فإنّه باب الهيمنة ، الأب يستطيع أنْ يُربّي ابنه فيما إذا هيمَن عليه ، وعليه فالهيمنة هي الشرط الأساسي للتربية ، والهيمنة كلّما كانت أوسَع نطاقاً وأوسَع مجالاً ، كانت أكثر إنجاحاً لعملية التربية ، قلنا : إنّ الأب يستطيع أنْ يربّي ابنه ، لكن قد لا يستطيع أنْ ينجح ؛ لأنّ وجود ابنه ليس كلّه تحت هيمنته وسيطرته ؛ لأنّ هذا الابن هو ابنه ، وأيضاً ابن المجتمع ، ابن مجتمعٍ كبير يتفاعل معه ويتأثّر به ويؤثّر فيه ، ويتبادل معه العواطف والمشاعر

١٢٠