• البداية
  • السابق
  • 182 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21644 / تحميل: 7520
الحجم الحجم الحجم
بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله

بين يدي الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
العربية

بين يَدي الرسُول الأعظم صلى الله عليه وآله - القِسم الأول

تأليف: محمَّد بحر العُلوم

١

٢

بسِم اللّهِ الرحمنِ الرّحيِم

« مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا » .

(القرآن الكريم)

٣

٤

مَع الِكتاب

لم تكن فصول هذا الكتاب قصصاً، أحاول فيها تسلية القارئ الكريم، كما لم يكن الأساس منها التعريف بأبطالها، فهم أشهر من التعريف، خلدوا التاريخ الإسلامي، وصوروا جوانب السيرة بأحلى صوره.. إنما الواقع هي فصول من السيرة النبوية الشريفة. رأيت أن أعرضها بهذا الأسلوب بعيدة عن التعقيد والإطالة، وبطريقة - أحسب أن القارئ الذي أكتب له - يمكن أن ينشدَّ اليها، ويبقى على اتصال معها.

ونحن اليوم بحاجة لهذه الصور الحية، وتذكر هؤلاء الأبطال الذين عاشوا قضيتهم الأساسية بكل وعي، وأدركوا بعمق مفهوم الدعوة التي آمنوا بها، فأخلصوا لها، وتفانوا في سبيلها وضحوا من أجلها.. فكانوا اللبنة الأولى لصرح الإيمان والعقيدة والطليعة الفذة للمجد الإسلامي، المتسلق شاهق السنين والممتد عبر الأيام، لن تبلى خضرته، ولن تغرب شمسه.

٥

٦

ورجائي من الحق أن يساعدني على كتابة كل السيرة النبوية وألحقها بسيرة آل البيت، الأئمة الميامين، وأكون بذلك قد أرضيت ضميري، وأديت واجباً دينياً..

ولا أُبالغ إذا قلت: إن دافعي لكتابة هذه الفصول - وإن كانت الفكرة تدور في ذهني منذ زمن - نتيجة عاملين:

الأول: قناعتي الشخصية بضرورة ارتباط الفرد المسلم على الدوام بسيرة الرسول الأعظم، والأئمة الطاهرين، والشخصيات الرائدة في الإسلام، وهذه الصلة المستمرة تحفظ عقيدته من الإنزلاق.

الثاني: إصرار أخي العزيز السيد مهدي - صاحب دار الزهراء - بأن أسهم في مشروعه، وخاصة هو في بداية الطريق وليس من باب الأخوة فقط أن أبادر إلى الإستجابة له، وتنفيذ طلبه، بل إيماني بأنه اختط لنفسه طريقاً - في عمله - إسلامياً واضحاً في دعم الجانب الاعلامي في معركة المصير.. وهذا ما يدعو إلى التفاؤل له بالموفقية والاستمرار.

وأخيراً:

أملي باللّه سبحانه أن يحقق آمال (دار الزهراء) في خدمة

٧

الفكر الإسلامي ويجند صاحبها في ميدان العقيدة، ويساعدني على إتمام هذه السلسلة، ويشق للكتاب طريقه بما يرضي القراء وهو من وراء القصد..

محمد السيد علي بحر العلوم

بيروت في:

١ / ١١ / ١٣٩٢

٨ / ١٢ / ١٩٧٢

٨

٩

في البدَاية

رغم أن فترة من الزمن تمر على مكة والمدينة بعد غزو الجيش الأموي لهما بقيادة مسلم بن عقبة المري، فإن ذكرى الحوادث المريرة، وصور المآسي القاسية كانت تطغى على كل ناد ومجلس سمر.

وكانت جراج مدينة الرسول - على الخصوص - لم تلتئم بعد. فقد غزاها الجيش الأموي بأمر من يزيد بن معاوية، وبعد أن خلعت بيعته، وأمرت عليها والياً جديداً - هو عبد اللّه بن حنظلة بن أبي عامر - وفعل الجيش الغازي ما فعل بوحي من شعوره المجرم وحقده الطويل، ولم يقف بوجهه أي رادع ديني أو إنساني.

ولم يكن نصيب مكة بأقل مما أصاب المدينة، فقد حرقت الكعبة المشرفة ولم يبقَ بيت منها - عدا بيوت الأمويين - إلا سلب ونهب.

وكانت حلقات السمر، ومجالس الليل تعج بأخبار هذه

١٠

الحوادث وفظاعتها بما يعصر القلوب حزناً، ويرهق العيون تأثراً.

ومرة امتد السهر بإحدى الحلقات المنتثرة في فناء المسجد النبوي حتى كادت تحاذي السحر في سهرتها، أو تتجاوزه بقليل وهي تعيد ألماً على ألم، وتجتز حزناً على حزن.

ويلتفت أحد الجالسين إلى صاحبه - وهو متضايق من الحديث الذي يجدد الذكرى المؤلمة، ويعيد عليهم صورة المأساة الفظيعة - قائلاً وهو يقطع الكلمات من الأسى: أما آن لنا أن نطوي حديث الأمويين وفجائعهم، ونحاول أن نخفف عن مصائبنا بما يساعدنا على تحمل مشاكل حياتنا.

ولم يكن الزميل بأقل منه ضيقا ً وبرماً بهذه الأحاديث المروعة، وما أن سمع هذا الرأي حتى استجاب له.

وتسرب الإقتراح للباقين، وكأنه أيقظهم من سبات، ونبههم إلى شيء كان قد غاب عن أذهانهم.. وقالوا: ولنا عند الشيخ أبي معاذ ما نبتغيه، فهو محدث رائع، عذب الأسلوب، حلو الكلمة، ورجل مسنّ جاوز عتبة الثمانين، رافق الأيام فكان فيها عيناً لا تغمض، وعاش الحوادث فحفظ من أخبارها الشيء الكبير.

ولم يلقَ القوم من أبي معاذ أي امتناع، فقد استجاب للطلب وصادف في نفسه قبولاً.

وصار يحدث أصدقاءه في لياليه بما سيمر علينا..

١١

١٢

حمزة بن عَبد المطلب

١٣

أقبل الليل، وأخذ الشيخ أبو معاذ طريقه إلى ندوته واستقبله القوم بالترحاب، وحيّاهم ببسمته الهادئة، وأدار عينيه الذابلتين في وجوه الجالسين، كأنه يتفحصهم، ويتعرف عليهم وبدَتْ لهم من خلال نظراته العميقة رفة حب، وتصاعدت من بين أنفاسه المتعبة هزة حنان.

وبقي الشيخ صامتاً شيئاً من الوقت، ولعله يستجلي ذاكرته في صور الماضي وأحداث الأمس.. ثم تكلم، وهو يصوغ حديثه بأسلوبه الجميل..

ذكَّرتني جلستنا هذه بمجالسنا الماضية، يوم كانت الحلقات تنتشر في فناء الكعبة، وكنت - حينذاك - أرافق أبي في سهراته.. وكان حديث الطارق الجديد يدور فيها، وهو السائد عليها.. فقد أقضَّ مضاجع قريش، وأطار نومها من عيونها وشتت صوابها.. حديث محمد ودعوته.

ولم يكن رسول اللّه ببعيد عن قريش، ومكة.. فهو:

١٤

حفيد عبد المطلب، سيد بني هاشم.. وهاشم، عمرو بن عبد مناف ينتهي إلى عدنان، وهو الذي ما طعمت مكة ولا سقيت من يدين أبسط من كفيه، وأندى من راحتيه، وأجمل من خلقه..

وما أن نامت عين هذا الانسان العظيم: على هذه الجوانب الانسانية الرائعة، حتى فتحتها على ولده عبد المطلب، شيبة الحمد..

وكان هذا الرجل قد بلغ في قريش خاصة، والعرب عامة منزلة لم يكد يبلغها أحد.. وحتى قالت العرب فيها قولتها المعروفة: «لو كان نبي على عهد عبد المطلب لكان هو نبي العرب».

وهو: ابن (عبد اللّه) أحد أولاد عبد المطلب العشرة الذين إذا طافوا بالبيت أخذوا بالأبصار، وجمعوا القلوب الطيبة حولهم.

وهو: ذلك اليتيم الذي لم يعرف من حنان الأبوة ما يشدُّ به عظمه، فقد مات عنه أبوه، بعد زواجه من أمه آمنة بنت وهب بفترة قصيرة، فتركه حملاً، أو رضيعاً على اختلاف في الروايات.

فتعهّده جده عبد المطلب - زعيم الهاشميين، وكبير قريش وشخصية مكة، وسيد العرب - فنشأ في ظله موفور الكرامة عزيز الجانب.. حتى كان يفرش له بفناء الكعبة، فلا يقرب من فراشه أحد من أولاده، أو كبار قريش، يهابونه ويحترمونه.

١٥

أما محمد فقد كان يأتي - وهو صبي - يتخطى رقاب الكل حتى يصل إلى يده، فيزاحمه على فراشه. ويحاول الأعمام أن يمنعوه، فيقول لهم عبد المطلب:

«دعوا ابني هذا، إن له شأناً عظيماً يغبطه عليه الناس».

ولم يكن هذا فحسب من الجد نحو حفيده، بل أكثر من هذا، ولماذا لا يكون كذلك، وهو يتكهن لحفيده مستقبلاً خطيراً، وشروقاً لن يغرب؟..

وما أن شعر السيد الكبير بدنوِّ أجله حتى طلب ولده (عبد مناف، أبو طالب)، فخفَّ اليه مسرعاً، وعيون الأولاد، والاسرة ترقب الأب العظيم، وهو على فراش الموت.. وبيد ملؤها المحبة والحنان، يأخذ يد محمد فيضعها بيد أبي طالب ثم يقول له، وهو يصارع الموت:

«يا عبد مناف: خلفت في يدك الشرف العظيم الذي تطاول به رقاب الناس».

وتجفُّ الكلمة على ثغر زعيم الهاشميين، وابتسامة الرضا والاطمئنان تطفو مكانها لتزهر وتورق وسط جفاف الأيام.

وبدأ محمد يكبر، وتكبر معه الآمال، وكلما تدرج فتى الدعوة في العمر تضخمت مسؤولية العم الحنون في الاهتمام به

١٦

والحفاظ عليه.. حتى لم يكن له من قريب او بعيد بأكثر حناناً وأشد إشفاقاً عليه من أبي طالب.

ولم يكن كل أولاد عبد المطلب مثل ما كان له أبو طالب حامياً، وناصراً، ومدافعاً، نعم كان حمزة أقرب الأعمام له بعد أخيه عبد مناف.

وحمزة تربطه بابن أخيه أكثر من صلة، فقد كان أخاً له بالرضاعة، وكان له ترب الصبا، يكبره بأربع سنوات، وكان يتعهده في كثير من الأحيان، وكانت هذه بمجموعها عاملاً يقرب بين القلبين، ويؤلف بين الروحين.

لقد كان يضمر له من الحب والوفاء أجمله وأحسنه، ويقدر لأخيه أبي طالب موقفه الرائع من وديعة أبيه، بما كان يبذل له من العناية والاهتمام، حتى قال محمد صلى الله عليه وآله:

«كانت فاطمة بنت أسد - زوجة عمي - تجيع أولادها وتشبعني، وتتركهم شعثاً وتدهنني، ولم يكن لدى عمي أبي طالب همّ إلا حمايتي، والاهتمام بأمري».

وامتدّ الزمن، وعلى امتداده توسعت شخصية (فتى عبد المطلب)، كلّ شيء فيه يدلُّ على أنه شخصية المستقبل ولم تغب عن ذهن حمزة كلمة أبيه - وهو على فراش الموت -: «إن له شأناً عظيماً يغبطه عليه الناس».

١٧

وكان حمزة يسرّ ويفرح عندما يلمح ابن أخيه، ويكتم سروره ولا يتظاهر بفرحه، كان هذا الميل النفسي ينمو مع نمو محمد، ولا يستطيع تفسيره ولا بد أن يعثر على تفسير ولو بعد حين. ذلك هو الإيمان الذي تولد في أعماقه وازدهر بعد زمان.

ومرت بالنبي أحداث كانت لها الأثر في رفع الستارة عن شخصيته، وكان حمزة يتابع هذه القضايا بشيء من الإهتمام..

ومن أبرزها حينما اختلفت قريش فيما بينها، على وضع الحجر الأسود في مكانه بعد بنيان الكعبة، فكانت كل قبيلة تود أن تحظى بهذا الشرف الكبير، وكاد النزاع يؤدي إلى معركة واتفق الجميع على أن أول قادم عليهم سيكون هو الحكم في ذلك، ولم تنطو لحظات حتى كان المقبل عليهم هو محمد بن عبد اللّه واستبشرت الوجوه به، فهو المعروف عندهم ب(الصادق الأمين) وبسط الرسول رداءه، ووضع فيه الحجر في وسطه، وأمر كل زعيم قبيلة أن يحمل جانباً من الرداء، وإذا ما رفعوه، أخذه ووضعه في مكانه.

ولم يهن ذلك على طغاة قريش، فقال قائلهم: وا عجباً لقوم أهل شرف ورياسة، وشيوخ وكهول، عمدوا إلى أصغرهم سناً وأقلهم مالاً، فجعلوه عليهم رئيساً وحاكماً!! أما واللات والعزى ليفوقهم سبقاً، وليقسمن بينهم حظوظاً وجدوداً وليكونن له بعد هذا اليوم شأن ونبأ عظيم..

١٨

وكان حمزة في خضم هذه الأحداث ذلك الإنسان الذي يعيشها ويعيها ويحكم نفسه فيها تحكيماً منصفاً، فيزداد إيماناً وحباً وتفانياً لابن أخيه، ويقف إلى جانب أخيه أبي طالب كافله ومحاميه..

ومرت الأيام، وأعلن محمد دعوته، ولم يستجب لها في بادئ الأمر إلا خديجة وعلي بن أبي طالب، ثم استمرت الدعوة، رغم قلة الناصر، وجدّت قريش في عرقلة حركتها، وكان من أشد الناس عليه عمه أبو لهب، يتحين الفرص، فإذا ما ظفر به وحيداً صب عليه جام غضبه، وسخر منه، وآذاه بأنواع الأذى.

لكن ذلك كله لم يثنه عن رسالته، وإلى جانبه أبو طالب وحمزة يقفان له في كل نازلة يصدّان عنه عدوان الناقمين، ويدفعان عنه ظلم الحاقدين..

ومرة جاء محمد إلى عمه أبي طالب يشكو له أذى قريش فقد ألقوا عليه سلى ناقة فقال محمد لعمه: «عم كيف ترى حسبي فيكم»؟! فقال له: وما ذاك يا ابن أخي؟ فأخبره بالأمر فدعا أبو طالب حمزة، وقد توشح كل منهما بسيفه، وقال لحمزة: خذ السلى معك وتوجها إلى القوم، وهم في فناء الكعبة، فلما شاهد القوم المقبلين توسموا في وجوههم الشر وإذا ما وقفا على رؤوسهم قال أبو طالب لأخيه حمزة: مرّ السلى عليهم، ومن يعارض

١٩

اقتله، فامتثل حمزة حتى أتى على آخرهم، فالتفت أبو طالب إلى ابن أخيه قائلاً:

هذا حسبك فينا!.

برغم هذا فلم تكف قريش عن أذى محمد كلما ساعدتها الفرصة وتقسو معه حيث أمكنتها القسوة.. وكان هو بنفسه لا يرد عليها أذاها، يحتمل منهم الألم، ويطويه بين أضلاعه، اللهم إلا أن يعلم أحد الثلاثة بما أصابه، فيكون الانتقام حامياً، وهم: أبو طالب، وحمزة، وعلي، فيردون الصاع صاعين على المعتدي.

وذات يوم يمر النبي عند الصفاة، فإذا بأبي جهل هناك ونفسه الحاقدة تغلي في صدره، فيلتفت يمنة ويسرة، فلا يرى من يخشى صولته وغضبه، ليس معه أبو طالب، ولا على مقربة منه حمزة، ولا إلى جنبه علي، وحيد يلقاه، وهي فرصة سنحت له، فليستغلها.

وينهال الرجل المريض القلب على محمد دون خشية وخوف يشتمه فيجرحه بالكلام، ويسبُّه ببذيء القول، ويفرغ كل حقده الجاهلي، ويظهر كل كوامن حسده.. ورسول اللّه لم يفتح شفتيه ليردَّ عليه، إنه لعلى خلق عظيم، ويأنف أن يقابل هذا الأحمق الجاهل، وإن امتدَّ به العمر.

وينصرف بعد ان يسمع منه ما لم يسمع، ويتألم ويحزن ويطوي في نفسه أحزانه وآلامه.

٢٠

ويسري الخبر اإلى حلقات قريش يقطع أوصال مكة كالعاصفة، ويسبق وصول ابي جهل اليها، ويفرح من يفرح ويحزن من يحزن، ومن يرد عليه؟ والفاعل ابو جهل الشرس الفض، وكثير منهم يرغب بأذى محمد؟ ولا يرغب ان يباشره بنفسه خوفاً من نقمة ابي طالب وبطش آله.

وأقبل ابو جهل على قومه يفخر بما عمله، ويزهو بما بدر منه فقد أرقه محمد، وسلب النوم من عينه، فما باله - وقد غنم به - ان لا يسكب كل ما في نفسه من لؤم كلاماً لا هوادة فيه، إذا لم يتمكن من مهاجمته بالسيف.

وكانت عادة حمزة ان لا يعود الى بيته من سفره إلا إذا طاف بالبيت سبعاً. ولا يدخل بيته إلا إذا مرَّ على أندية قريش ومجالسها، مسلماً، ومتحدثاً، ومداعباً، وكان مهاباً مرموقاً ولماذا لا يكون كذلك، وهو من أعز فتيان قريش، وأشرفها وأقواها شكيمة، يعدّ من أبطال الهاشميين، مزهواً بقوته معتداً ببطولته.

وانه لفي ذلك اليوم وقد عاد من سفر له، متوشحاً قوسه كعادته توجه إلى الكعبة ليؤدي طوافه، ويقف على أندية قريش يشارك جلاسها أحاديثهم، فينتهي إلى حلقه امرأة، وهي مولاة لعبد اللّه بن جدعان، واستقبلته وقد بدا على وجهها ظل من الحزن، ثم لفت خمارها، وقالت له - ولعل دموعها سبقتها إلى الحديث -:

٢١

يا أبا عمارة، لو رأيت ما لاقى ابن اخيك محمد قبل قليل من أبي جهل لجزعت، فقد ظفر به، ولم يكن معه أحد، فصب عليه وابلاً من السب الفظيع، والشتم القاسي، وبلغ منه ما يكره ولم يكلمه محمد بشيء..

لم يكن هذا الخبر بأقل من وقع الصاعقة على بطل الهاشميين ومادت الأرض به.. شيء لا يطاق، وكبير جداً على بني هاشم أن تنال مخزوم ما نالت.

وغلى الغضب في قلبه، ودارت الدنيا في عينيه.. يا للعار.

حفيد عبد المطلب وسيد قومه يصاب بمكروه، وعين لبني هاشم تطرف، الموت خير من الحياة..

ولمحت المرأة الغضب يجول على وجه حمزة، ويكاد يقطع أنفاسه، فأدار وجهه، ومضى نحو البيت، وهو يخسف الأرض بمشيته، وعيناه تلقف كل من يلقاه في طريقه لعله المتطاول على كرامته فيهجم عليه.

والمرأة خلفه تهرول، وفي قلبها أكثر من فرحة، فقد ضاقت ذرعاً من شر أبي جهل، إنه الرجل الشرس الفض، الذي يعتدي على الناس، ويرى انه المتفضل في اعتدائه، ويشاكس الكثير من الضعفاء، ويصيبهم بسوء، ولا رادع يردعه، ولا راد يرده.

وهي بهذاالتفكير لمحت حمزة قد وصل إلى المسجد، وتخطى

٢٢

الجالسين واحداً بعد الآخر حتى وقف على رأس أبي جهل وانفجر بوجهه صارخاً، والغضب يتطاير من عينيه: أتشتم محمداً يا حقير، ورفع قوسه، وأنزله بعنف على رأسه فشجه، ووقع على الأرض، وكاد يثني بها، لولا بعض الجالسين فقد حالوا دون ذلك، ثم قال له: أتشتمه يا أبا جهل؟ وتهينه، وأنا على دينه وأقول ما يقول، رد عليّ إن امكنك القول، وتكلم إن ملكت الكلام؟

ولم يهن على بني مخزوم ما أُصيب به زعيمهم، فتواثبوا من هنا وهناك ليأخذوا بثأرهم، ولم يتزحزح حمزة، ولم ترهبه جعجعة السيوف، وقف يتحداهم، وهو يرفع قوسه استعداداً لكل خطب، لم يهب شخصاً، ولم يطأطئ رأسه لأحد.

ويخشى أبو جهل العاقبة إذا توسع الأمر، فيطلب منهم أن يخلدوا إلى الهدوء والسكينة، ويتركوا أبا عمارة، لأنه ألحَّ في سب ابن اخيه سباً قبيحاً.

ووصل الخبر إلي النبي صلى الله عليه وآله وهو في بيته، فتنكشف الغمة عنه، ويشكر لعمه حمزة موقفه.

كانت هذه الحادثة سبباً لكشف إسلام بطل الهاشميين أسد اللّه، وأسد رسوله، وفي الوقت نفسه كانت بداية انطلاقة جديدة للدعوة، وقوة داعمة.. فأزداد اطمئنان أبي طالب، فقد كان يعمد

٢٣

إلى حماية ابن أخيه حماية مباشرة، ويخشى عليه حتى من ظله، لذا كانت فرحته كبيرة بإعلان حمزة إسلامه.. وهو، وولداه: علي وجعفر، وحمزة قوة لا يستهان بها، ويعرف قوة أخيه وبطولته أكثر من غيره، وجرّب شجاعته وإقدامه أكثر من مرة..

ولم يكن هيناً على قريش إسلام حمزة وإعلان إسلامه، فقد كانت تهابه وتخشاه، ولامت أبا جهل على تهوُّره الذي يسبب لها الأزمات، ويدفع بأصحاب محمد إلى الصلابة والصمود.

وإذا كانت الهجرة إلى المدينة، وغادر الأصحاب متخفين متسللين، فقد شدَّ حمزة ركبه دون خشية، او خوف من طغاة مكة، وهاجر إلى المدينة المنورة ليكون إلى جنب نبيه.

وأخلص حمزة لقضيته، ووفى لها، وعقد له النبي أول راية رفت في الاسلام، فقد أرسله مع سرية له إلى سيف البحر ليقاتل المشركين، وقبل أن يلتحم القتال حلّت بالمعاهدة والاتفاق وكان النبي يحرص دوماً ان يتجنب القتال.

وراحت الأيام تحصد الشوامخ من المواقف المشرفة لبطل الهاشميين كلها تعبر عن شرف العقيدة، والإخلاص المتناهي.

وحلَّ يوم بدر..

وتوقف الشيخ ابو معاذ عن الكلام، ومسح بكمه قطرات من

٢٤

العرق انتثرت على جبينه، ثم غام في هدوء عارض لم يطاول أكثر من لحظات بعدها عاود الحديث، وقد أشرق وجهه:

كان يوم بدر عظيماً، فقد تجلت فيه البسالة الهاشمية والبطولة الرائعة، ابو عمارة يجول ويصول، لم يرجع سيفه خائباً يغمده في صدر ذاك، ويجندل ذلك، ويصيح بأعلى صوته: أين ابن ابي طالب، أين ابن أخي؟ فيجيبه علي من وسط المعركة: ملتقانا آخر الجيش، ويفريان الحشد المتراكم أمامهما، هذا من جانب، وذاك من جانب، وهما يكبران، حتى يلتقيا في مؤخرته، وأسيافهما تقطر دماً.

ويحث حمزة المسلمين على القتال، وهو يصيح:

قال رسول اللّه: والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل، فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله اللّه الجنة..

ثم أردف الشيخ ابو معاذ، بعد صمت قليل استرد أنفاسه في خلاله:

وكنا قد اجتمعنا يوماً في مسجد الرسول نستعرض بدراً وميدانها، فكان الأصحاب يتبارون في ذكر من قتل بسيف حمزة، وعلي بن ابي طالب، وكيف جندلاً الأبطال، وهدّا

٢٥

العمالقة، حتى استغاثت قريشاً من بطولتي: أسد اللّه ورسوله وفتى ابي طالب، وما أوقعا فيها من خسائر فادحة.

وبقي هذا الخزي يلاحق قريش وأعوانها، وكان طعم الهزيمة علقماً، وثقل الخسارة مجهداً يقض المشركين في ليلهم ونهارهم. وصمموا على الثأر، تصميم الموتور، وإصرار المغبون وكان التجاوب فيما بينهم - وخاصة قريش - مساعداً لجمع فلولهم، وكيف لا تكون كذلك، وكل قبيلة أصابها ما أصابها من عار الخسارة الشنعاء عاراً لا يشابهه عار، وخسارة لا تضاهيها خسارة.. ولم يطفأ لهب قريش، ولم يكشف حزنها إلا قتل أحد الثلاثة: محمد، وحمزة، وعلي.

ودارت رحى الحرب بين المسلمين والمشركين حامية في (أُحد) تارة على المسلمين، وأُخرى على المشركين، كر وفر..

وأبو سفيان يجول في وسط أصحابه يذكرهم بعار (بدر) وقتلاهم، فيها ومجدهم المندثر، ويصرخ ملء شدقيه: لا بدَّ من جولة تطيح فيها الرؤوس، وتزهق بها الأرواح، وتعتلي السيوف القمم، عند ذاك أما: الثأر أو الموت..

وكل موتور يتصيد واتره، لعله يخفف من حزنه بما أُصيب.

وكان جبير بن مطعم موتوراً من حمزة بقتله عمه طعيم بن عدي يوم بدر، وكانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان موتورة

٢٦

من حمزة بقتله عمها يوم بدر، وهناك البيوتات الكثيرة من قريش وغير قريش موتورة من علي، وحمزة.

ويوم عزمت قريش على الخروج لقتال المسلمين عاهد جبير بن مطعم عبده وحشي - وكان عبداً قوياً - إذا قتل حمزة فقد عتقه..

ومالت اليه هند بنت عتبة تمنيه وترغبه على ذلك، وهي لا تقل عن صاحبها جبير حقداً وغيظاً، كما لا تتضاءل عنه سخاءً وكرماً، تقول له: نفذ ما قاله لك سيدك، ولك مني ما تريد وكررتها ثلاثاً.

قال العبد: سأبذل قصارى جهدي، فإن مت خلصت من حياة الرق، وإن فزت تحررت، وفي كلا الأمرين لي خلاص..

ودقت طبول الحرب، المشركون بعدتهم وأبطالهم، والمسلمون بعددهم القليل، وعدتهم الضئيلة.

وعين وحشي ترقب حركات البطل وتنقله بين الصفوف وهو مثل الجمل الأورق(١) ، يحصد المحاربين بسيفه، ويتمايل الأبطال عن طريقه، تخشى بطشه، وتخاف بأسه، فلم يخرج اليه

___________________________

(١) هكذا وصفه وحشي: ويريد بالجمل الأورق، الذي لونه بين الغبرة والسواد، سماه كذلك لما عليه من الغبار.

٢٧

مبارز إلا ولاقى مصرعه، ولم يتصدَّ له أحد إلا وعاد مهزوماً أسد اللّه، وأسد رسوله.. كرّار غير فرّار.

يقول وحشي: كنت أتهيأ له، اريده، وأستتر منه بشجرة او حجر ليدنو مني، وأنتظر اللحظة التي أرميه فيها بحربتي.

والفارس المغوار في غفلة عن عدوه، لا يلتفت، ولا يعرف من أمره شيئاً، حتى إذا ما قرب منه، اندفع اليه، ورماه بحربته، فأصابت منه مقتلاً، ووقع صريعاً.. ولما تأكد من موته ذهب اليه، وأخرج حربته، وجرى مسرعاً لجبير يبشره ليملك حريته، ويخبر هنداً فيتمنى عليها ما يريد.

وسرى الخبر يمض في قلوب المسلمين، ويبعث السرور في نفوس المشركين، هذا حمزة بطل الاسلام، وأسد اللّه، وساعد محمد، مجندَل في الميدان، يا لفرحة الشامتين..

وخفت أوار الحرب، وطافت نساء مكة بين القتلى تسبقهن هند، وهن يرقصن فرحاً، ويجدعن أُنوف قتلى المسلمين، ويبقرن بطونهم، ويقطعن آذانهم.

ولم يشفِ غليل هند كل هذا، أين حمزة؟ فقد أخبرها وحشي بأمره، وإنها لتخوض في الدماء والجثث إذ تعثر بحمزة وهو يتوسد التراب.

أصحيح أن بطل الهاشميين صريع في الميدان؟ إنه بغيتها

٢٨

وتجلس على صدره - وفرحتها تكاد تقضي عليها - بماذا تبدأ وكيف تعمل؟ تقطع أوصاله، لا لا يهدأ خاطرها، تسمل عينيه، لا يطفي لهب حقدها، تقطع لسانه، لم يجدها.. أكثر من هذا تريد.. لتستخرج كبده فتأكله. وفعلت، ولكن لم تتمكن من أكله، لفظته مقهورة، جازعة، ثم لتعمل قلادة من أجزائه: أنفه، اذنيه، لسانه، عينيه، ثم بقرت بطنه، وقطعت أوصاله.. ولم يبقَ لديها ما تفعله، فتركته وهي تتهادى نشوانة بفعلتها حتى قال المشاهدون عنه: ما مُثل بأحد كما مثل بحمزة..

وانسابت دموع الشيخ أبي معاذ، فأمسك عن الكلام قليلاً كي يمسح ما علق في أجفانه من حبات الوفاء، فقد تذكر الشيخ المنظر المروع، فهاجت أحزانه، وضايقته عبرته، ثم عاد بعد هنيهة يواصل حديثه:

واستقبل أبو سفيان زوجته وهي ترقص، وفي صدرها قلادة من أعضاء إنسان، والتفت الرجل لزوجته متسائلاً فأخبرته فضحك ضحكة طويلة، وصاح: أين تركتيه؟ قالت: على مقربة من العين.

وانطلق يعدو، ولا يدري كيف يطوي طريقه، حتى وقف عليه وشاهده مقطعاً، ولم يكتف بذلك بل أخذ يمزق شدقي الصريع برمحه وهو يضحك، فمر عليه أحد الاعراب، ورآه في موقفه المخزي، فقال لصاحبه، أنظر يا أبا عروة سيد بني عبد شمس يصنع بإبن عمه ما ترى، إنه يجهز على ميت.

٢٩

فالتفت اليه أبو سفيان قائلاً: ويحك اكتمها عني، ولا تفضحني عند العرب.

كان منظر حمزة، وهو مقطع الأوصال، أوجع منظر أثر في قلب النبي، ثم سجاه بغطاء، وقسم من حشيش الأرض.

ومع كل ما أصابه من حزن في هذا الموقف الدقيق، فقد أبّن بطل الاسلام بقوله - وهو يصارع احزانه -:

«رحمك اللّه يا عم، فلقد كنت وصولاً للرحم، فعولاً للخيرات، فو اللّه لئن ظفرت بهم لأمثلن بسبعين منهم».

إنها الحميّة والثأر دفعت بالرسول الأعظم ان يتعهد بهذا الثأر لعمه المؤمن الشهيد، بعد ان هزَّه الموقف هزاً.. لكن اللّه سبحانه أراد غير ذلك، فقد نزلت الآية الكريمة:

« وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّـهِ » .

وهكذا انتهت حياة بطل الاسلام حمزة بن عبد المطلب صفحة مشرقة تنير للأجيال دروب العقيدة والكفاح، والصمود والبطولة...

٣٠

٣١

ياسر بن عَامِر

٣٢

٣٣

واجتمع القوم إلى محدثهم في ليلتهم، ولم يكن شوقهم إلى أحاديث الشيخ أبي معاذ بأقل مما مضى، إنما كان يزداد ارتباطهم بمحدثهم على مرور الليالي.

واستعد للحديث، وهدأت الأنفاس، وارهفت الآذان وانشدت العيون اليه، وقال:

رحم اللّه آل ياسر، فقد كان لهم شأن كبير في الإسلام..

قال صديق العمر لياسر: هل لك - يا أبا عامر - أن تعدل عن رأيك؟.

قال ياسر: لا.. لا فائدة لي في البقاء هنا، فلا بد من الرحيل إلى الحجاز، علني أتمكن هناك من العيش في رخاء.

ماذا دهاك! أتراك نسيت أن البلد الذي عركت خيره وشره وعرفت سراءه وضراءه، خير لك من بلد لم تعرف عنه شيئاً!!

٣٤

ثم ان مكة اليوم ليس من السهل أن ترى فيها الظل الوارف والعيش الرغيد.

ومع ذلك - يا زفر - فإن البعد عن اليمن هو وحده كافٍ لاستقرار البال.

وإلى هنا انقطع الحديث بين الصديقين، وابتعد كل عن الآخر وفي نفس (زفر) شيء كثير من عدم القناعة والرضا على سفر صديقه ياسر بن عامر، ترب الصبا، وحبيب الشباب، وكلما حاول أن يثنيه عن تحقيق فكرة الرحيل لم يتمكن، فإن ياسراً قد سأم العيش في اليمن، وضاق ذرعاً بها، فقرر الرحيل مهما كلفه الأمر.

وقبل أن تسرج الشمس أضواءها شد ياسر على راحلته ووطدها لسفر طويل وتهيأ للسير، ولم يكن في وداعه إلا خله الحميم زفر، وجار له كان يرفق به.

وجدَّ السير يطوي الفيافي والقفار، حتى لاحت له مشارف مكة من بُعد، فطابت نفسه، وقرَّت عينه لتحقيق رغبته.

واستراح عند تلعة من تلاع الصحراء المنتثرة قرب مكة وهومت عيناه، وطافت به سنة عابرة، أيقظته حركة قافلة صغيرة مارة، وما ان فتح عينيه، ولمح أمرها قام واستعد

٣٥

مقتفياً أثرها ليتمكن بواسطتها من معرفة الطريق الذي يوصله إلى البيت الحرام، فهو غريب لم يلج هذه الأرض من قبل.

ووصل إلى البيت الحرام، واتخذ من فنائه ملجأ يقيه ظهيرة الحجاز المرهقة، وقبل أن تلملم الشمس أطرافها، بدأ القوم يتوافدون - كعادتهم - إلى الكعبة، ففي أرجاء هذا المكان تنتشر مجالس السمر، وتعقد حلقات الأدب.

وأخذ الطارق الغريب يتفرَّس في وجوه الجالسين، فلم يجلب انتباهه أحد إلا أبو حذيفة بن المغيرة، فهو رجل بدت عليه مظاهر الكياسة والخلق والطيبة.

ولمح أبو حذيفة تطلع الغريب اليه، فقام مرحباً به، وهو يسأله: أغريب أنت يا أخا العرب؟

- نعم وحق هذا البيت.

- إذاً فأنت ضيفي.

- شكراً لك يا سيدي..

وهكذا ابتدأت صلة ياسر بأبي حذيفة، ويأخذ مكانه في تلك الحلقة، حتى إذا حان وقت الإنصراف صحبه مضيفه إلى داره ليحل فيها ضيفاً مكرماً عزيزاً.

وعلى مر الأيام تتوطد صلة ياسر بصاحبه، حتى بات لا يفارقه

٣٦

كالظل، فقد لمس أبو حذيفة في صديقه وفاء لا مثيل له، وصدقاً متناهياً، واندفاعاً قوياً للعمل والإخلاص له.

واشتدت أواصر الصداقة والمحبة بينهما.. فيخلص كل منهما للآخر إخلاصاً عجيباً، بحيث بات أبو حذيفة يفكر في أمر ياسر ويهتم لزواجه.

فيزوجه أمته (سمية بنت خباط)، ويعمل جاداً في مساعدته لتكوين دار له، بعد أن أصبح رب بيت له زوجة، وولدين ويبقى حليفاً لأبي حذيفة ووفياً له، فهو صاحب فضل عليه..

وتدور في أندية مكة أحاديث تكاد تلتهمه عائلة آل ياسر بإيمان وعمق.. حديث دعوة محمد صلى الله عليه وآله إلى الإسلام.

وراحت قريش تبذل الغالي والنفيس في إخماد هذه الدعوة التي تهدد مصالحها، وتقبر آمالها وأطماعها، وتضع كل ما في وسعها من عرقلة لإبعاد الناس عنها..

وتسرب النبأ همساً، لكنه كوقع الصاعقة على طغاة مكة يا لهول ما يسمعون، إنه شيء كبير جداً، وغريب جداً، ومستحيل جداً.. حتى هذه الأسرة الضعيفة صبت لهذا الدين الجديد.

ثم يقول قائلهم: لنتأكد من هذا الأمر، وإذا صح فلنحسب له حساباً.. إن هؤلاء المستضعفين من هذه الديار هم يشكلون

٣٧

الخطر الأكبر على ديننا، وآلهتنا، وان محمداً يسحرهم بأقواله إذ يدس لهم بأنه «لا فرق لأبيض على أسود إلا بالتقوى» وهذا موضع الخطر.

وينتفض الحانق الغاضب كأنه أصابه مَسّ من جنون: أنا لكم، سوف أكتشف أمر هؤلاء.

نعم ما تصنع يا ابا جهل، ولا تكن متهوراً في بادئ الأمر.

ويرسل ابو جهل عيناً خفية إلى دار الأرقم - مركز التجمع المحمدي - ليرصد أحداً من آل ياسر هل تضمه تلك الدار كما تضم العديد من أولاد الأسر وغيرهم.

وإذا كان الحانقون على هذه الدعوة لم يتمكنوا من معاقبة أولاد الأسر والذوات والمتنفذين، فليلقنوا هذه الأسر الضعيفة درساً قاسياً، ليكونوا عبرة لمن اعتبر.

ويعود الرقيب إلى حلقة ابي جهل، وهو يهتز ويرعد، لقد هاله ما رأى.. وبين الغضب والحنق يقول: لا واللات والعزى لا يكون هذا، كفى سخرية وهزءاً.. عائلة دخيلة على مكة أحسنت وفادتها بنو مخزوم، وعاشت على فتات موائدها، تخرج علينا، فتقابل بالإساءة.. يا ويل لهم من غضبنا!.

وغامت الدنيا في عين ابي جهل، وهو يسمع حديث صاحبه ويضرب كفاً بكف، ويصك على أسنانه حقداً وغيظاً، ويصرخ

٣٨

كالوحوش: هذا ما كسبناه من ابي حذيفة.. لا كان ذلك ابداً.. سوف أقتلهم جميعاً، وأطفئ بهم غضبنا.

ويخطو عمرو بن هشام خطوات، حتى صادف ابا حذيفة مقبلاً عليه، ولم يكن بركان حقده قد خمد بعد، وقبل ان يبادره بالكلام، صرخ في وجهه ابو جهل:

- يا ابا حذيفة، لا نحتمل منك هذه الإهانة، رد صاحبك اليماني عن كيده، وإلا رددناه بسيوفنا، وأنت تعلم انها مسلولة في وجه أعدائنا.

وغارت عينا ابي حذيفة من الغضب، ولم يتحمل من هذا الطائش ثورته، فامتشق حسامه، وكاد يهجم عليه، وهو يقول له: أتهددني بالقتل؟ سوف لن يكون جوابي لك إلا السيف إن عدت لمثلها.

وانسحب ابو جهل وهو يتلعثم في المشي، وتأزم الجو بسبب هذه الحادثة، مما اضطر المشركين ان يعقدوا اجتماعاً عاجلاً يضم رجالات قريش، وزعماء القبائل المناوئة للدعوة الجديدة وقرروا: ان كل من تصبو نفسه لدعوة محمد ويساعدها وينخرط فيها، يستحق التعذيب والتأديب، وإذا تمادى فجزاؤه القتل ودمه هدر بين القبائل.

وما كاد الاجتماع ينتهي حتى نهض ابو جهل الى مضارب آل ياسر، يسومها الأذى والعذاب.. ولم ينتهِ عمر تلك الليلة حتى

٣٩

كانت هذه الأسرة كلها في قبضة الجلاوزة الغلاظ من قريش وممن أعمت بصائرهم الدعوة الاسلامية، كمداً وحنقاً.

وسرى الخبر في الحلقات ان ابا جهل ألقى القبض على هذه الأسرة، وتقاطرت الناس على حي بني مخزوم ليشهدوا حساب ياسر وأهل بيته.

وخيّمت فترة صمت مزقتها أصوات مقبلة، فاتجهت الأنظار اليها. كان بعض أفرادها مقيَّدين بالحديد، تنهال عليهم السياط وسط مجموعة من الأشداء يتقدمهم رجل بني مخزوم: ابو جهل.

وكان من بينهم رجل قد تخطى عتبة الكهولة، هدمته الأيام وخلفه امرأة لا تختلف عنه بالسن كثيراً، وإن كان الضعف والهزال قد ألمَّ بها أكثر من زوجها، وفتى يافع في ريعان الفتوة ونضارة الشباب يسير من ورائهما.

أقبلت هذه الأسرة وقد بان عليها الجهد، الحديد أثقلها والعذاب أتعبها، خلفها عدد من الجلاوزة، بأيديهم الحراب والسياط، يطبعون بها أسراهم كلما تراخوا في السير، والعصي تلقف أجسادهم، كلما لذ لهم أن يتضوروا، والحجارة تنهال عليهم من الأطفال والنساء كلما أقبلوا على جماعة.

وتقف الأسرة الصامدة أمام حشد من طواغيت قريش وهالهم ان كل هذا العذاب والتعذيب لم يؤثر في معنوياتهم.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182