الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد10%

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 563

الجزء ١ المقدمة الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 563 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 185501 / تحميل: 10211
الحجم الحجم الحجم
الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

- عن أبي سعيد، مردود بتوثيق ابن سعد له، فقد قال ابن حجر العسقلاني: « قال ابن سعد: خرج عطية مع ابن الاشعث، فكتب الحجاج الى محمد بن القاسم أن يعرضه على سب علي، فان لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط وأحلق لحيته فاستدعاه، فأبى أن يسب، فأمضى حكم الحجاج فيه، ثم خرج الى خراسان فلم يزل بها حتى ولي عمر بن هبيرة العراق، فقدمها فلم يزل بها الى أن توفي سنة ١١٠، وكان ثقة إن شاء الله تعالى، وله أحاديث صالحة، ومن الناس من لا يحتج به»(١) .

وليعلم أن توثيق ابن سعد - مع عداوته الكثيرة وبغضه الشديد لاهل البيتعليهم‌السلام الى حد ضعف الامام جعفر الصادقعليه‌السلام ، ووصف روايته بالاختلاف والاضطراب، الى غير ذلك من آيات اعراضه عن أهل البيت والائمة الطاهرين منهم - لعطية هذا دليل قاطع على صحة روايته، ومن لم يحتج به فأولئك أشد حرورية واعوجاجاً من ابن سعد.

٢٤ - عطية من رجال أحمد

ان عطية هذا من رجال أحمد بن حنبل في ( مسنده ) - كما ستعرف - وأحمد لا يروى الا عن ثقة، كما قال التقي السبكي في مقام توثيق رجال سند حديث: « من زار قبري وجبت له شفاعتي » وهو الحديث الاول من الباب الاول من كتابه، قال بعد كلام له: « وأحمدرحمه‌الله لم يكن يروي الا عن ثقة، وقد صرح الخصم [ يعنى ابن تيمية ] بذلك في الكتاب الذي صنفه في الرد على البكري بعد عشر كراريس منه، قال: ان القائلين بالجرح والتعديل من علماء الحديث نوعان، منهم من لم يرو الا عن ثقة عنده كما لك وأحمد بن حنبل وقد كفانا الخصم بهذا الكلام مؤنة تبيين أن أحمد لا يروى الا عن ثقة، وحينئذ لا يبقى له مطعن فيه »(٢) .

__________________

(١). تهذيب التهذيب ٧ / ٢٢٦.

(٢). شفاء الاسقام ١٠ - ١١.

٤١

وبعد الاطلاع على ذلك لا يبقى ريب في كون عطية ثقة، لان عدم رواية أحمد عن غير الشقة لا يخلو اما انه لا يروي عنه سواء بواسطة أو بلا واسطة، وذلك هو الظاهر بل المتعين كما ستعرفه عن قريب، فلا شك في وثوق عطية، وأما أنه لا يروي عنه بلا واسطة، لكن المانع من الرواية عنه مباشرة موجود في هذه الصورة أيضاً، فلا شك في ثقته على الصورتين.

٢٥ - اكثار أحمد الرواية عن عطية

لقد أخرج أحمد في ( مسنده ) عن عطية روايات كثيرة، كما لا يخفى على من طالعه، بل انه أخرج حديث الثقلين بالخصوص عنه عن أبي سعيد الخدري، وظاهر أن أحمد لم يرو الا عمن ثبت عنده صدقه وديانته، كما ذكر عبد الوهاب السبكي في ( طبقات الشافعية ) حيث قال بترجمته: « وقال أبو موسى المديني لم يخرج الا عمن ثبت عنده صدقه وديانته، دون من طعن في أمانته ».

وبهذا كله ظهر أن نسبة تضعيف عطية الى أحمد افك عظيم وظلم كبير، فالعجب من ابن الجوزي كيف خاض في غمار جحود فضائل أهل البيت حتى أنكر الحقائق ونفى البديهيات، وكيف صدرت منه هذه المجازفة بحق أحمد ومسنده وهو حنبلي المذهب؟

٢٦ - وثاقة عطية عند سبط ابن الجوزي

لقد صرح الحافظ سبط ابن الجوزي بوثاقة عطية، ورد تضعيفه حيث قال(١) بعد أن أورد قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام : لا يحل لاحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك « فان قيل: فعطية ضعيف، قالوا والدليل على ضعف الحديث أن الترمذي قال: وحدثت بهذا الحديث أو

__________________

(١). تذكرة خواص الامة: ٤٢.

٤٢

سمع مني هذا الحديث محمد بن اسماعيل - يعني البخاري - فاستطرفه.

والجواب: ان عطية العوفي قد روى عن ابن عباس والصحابة وكان ثقة، وأما قول الترمذي عن البخاري فانما استطرفه لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا أحله الا لطاهر لا لحائض ولا جنب »، وعند الشافعي يباح للجنب العبور في المسجد وعند أبي حنيفة لا يباح حتى يغتسل للنص، ويحمل حديث علي على أنه كان بذلك كما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخصوصاً بأشياء ».

٢٧ - قال ابن معين: صالح

ان نسبة تضعيف عطية الى يحيى بن معين مردودة بنقل الدوري - وهو من كبار العلماء الثقات - عن ابن معين بأنه صالح، فقد قال الحافظ ابن حجر بترجمة عطية ما نصه: « قال الدوري عن ابن معين صالح »(١) .

فسقط ما نسبه ابن الجوزي الى ابن معين.

٢٨ - عطية من رجال بعض الصحاح

ان عطية من رجال ( الادب المفرد ) للبخاري و ( صحيح الترمذي ) و ( صحيح أبي داود )، وهذان الاخيران من ( الصحاح الستة ) عندهم، بل ان الترمذي روى حديث الثقلين بالذات عن عطية في صحيحه.

وعظمة مرويات ( الصحاح الستة ) وجلالة رواتها عند ابناء السنة قديماً وحديثاً واضحة لا تحتاج الى بيان، فان أفاد قدح ابن الجوزي في عطية شيئاً فانما يفيد اسقاط الصحاح لا غير.

٢٩ - لم يتفرد عطية عن أبى سعيد به

ان اقدام ابن الجوزي على القدح في عطية - كمحاولة يائسة

__________________

(١). تهذيب التهذيب ٧ / ٢٢٥.

٤٣

لتضعيف حديث الثقلين - دليل واضح على عدم اطلاعه في الحديث، وذلك: أن عطية على فرض كونه ضعيفاً غير متفرد بنقل حديث الثقلين عن أبي سعيد، فلا يضر في حديث الثقلين في رواية أبي سعيد فضلا عن مطلق الحديث الوارد بالاسانيد والطرق والالفاظ المتكثرة.

نعم لم يتفرد عطية في نقل حديث الثقلين عن أبي سعيد، بل رواه عنه أبو الطفيل أيضاً - وهو من طبقة الصحابة - وذلك واضح كل الوضوح لمن راجع ( استجلاب ارتقاء الغرف ) للسخاوي، و ( جواهر العقدين ) للسمهودي، و ( وسيلة المآل ) لابن باكثير و ( الصراط السوي ) للشيخاني القادري.

٣٠ - ثبوت الحديث غير متوقف على رواية أبى سعيد

ثم انه لو سلمنا كون عطية ضعيفاً، وسلمنا تفرده برواية الحديث عن أبي سعيد، فلا ضرر على صحة حديث الثقلين كذلك، لعدم توقف صحته على رواية أبي سعيد، فقد وقفت - بحمد الله تعالى ومنه - على تنصيص جماعة من أعلام المحققين على رواية أكثر من عشرين من الصحابة حديث الثقلين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا العدد أكثر من عدد التواتر بمراتب عديدة، كما فصلناه في مجلد حديث الولاية.

٣١ - توثيق ابن الطباع عبد الله بن عبد القدوس

وأما قدح ابن الجوزي في عبد الله بن عبد القدوس فهو مردود بتوثيق الحافظ محمد بن عيسى بن الطباع اياه، كما قال الحافظ المقدسي بترجمة عبد الله المذكور: « وحكى ابن عدي عن محمد بن عيسى انه قال: هو ثقة »(١) .

__________________

(١). الكمال في أسماء الرجال - مخطوط.

٤٤

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: « وحكي عن محمد بن عيسى انّه قال: هو ثقة »(١) .

ترجمة محمد بن عيسى بن الطباع

قال الذهبي بترجمته: « ابن الطباع، محمد بن عيسى بن الطباع الحافظ الكبير، قال أبو حاتم: ثقة مأمون، ما رأيت من المحدثين أحفظ للابواب منه، وقال أبو داود: ثقة.

قلت: توفى سنة أربع وعشرين مائتين، وهو في عشر الثمانين، وله تصانيف ومعارفرحمه‌الله

قال الاثرم: قال أحمد بن حنبل: ان ابن الطباع لبيب كيس - يعني محمد بن عيسى - و قال البخاري: سمعت علياً قال: سمعت عبد الرحمن ويحيى يسألان ابن الطباع عن حديث هشيم وما أعلم به منه، وقال أبو حاتم: سمعت محمد بن عيسى يقول: اختلف ابن مهدي وأبو داود في حديث لهشيم هل سمعه أو دلسه؟ فتراضيا بي فأخبرتهما »(٢) .

وترجم له أيضاً بقوله: « وفيها أبو جعفر محمد بن عيسى ابن الطباع الحافظ نزيل الثغر بأذنة، سمع مالكاً وطبقته، قال أبو حاتم: ما رأيت أحفظ للابواب منه، وقال أبو داود: كان يتفقه ويحفظ نحواً من أربعين ألف حديث »(٣) .

٣٢ - توثيق ابن حبان عبد الله بن عبد القدوس

وعبد الله بن عبد القدوس موثوق عند ابن حبان أيضاً، فقد أورده في الثقات قائلا: « عبد الله بن عبد القدوس التميمي الرازي من أهل الري،

__________________

(١). تهذيب التهذيب ٥ / ٣٠٣.

(٢). تذكرة الحفاظ ١ / ٤١١.

(٣). العبر ١ / ٢٩٣.

٤٥

يروي عن الاعمش وابن أبي خالد، روى عنه سعيد بن سليمان و [ محمد ] ابن حميد، [ ربما أغرب ] »(١) .

وقال ابن حجر بترجمته: « ذكره ابن حبان في الثقات وقال ربما أغرب »(٢) .

ثم ان لتوثيق ابن حبان قيمة كبيرة ودرجة من الاعتبار عظيمة، ذلك لان ابن حبان ممن يعادي أهل البيتعليهم‌السلام ويسيء اليهم، فقد زعم بالنسبة الى الامام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام بأنه آت بالعجائب وواهم ومخطيء كما لا يخفى على من راجع ( الميزان للذهبي ٣ / ١٥٨ ) و ( تهذيب التهذيب ٧ / ٣٨٨ ) لابن حجر العسقلاني.

وظاهر أن هكذا ناصبي عنيد لا يوثق الرافضي أبداً.

٣٣ - توثيق البخاري عبد الله بن عبد القدوس

ولقد وثق البخاري - مع ما هو عليه من التعصب والتعسف - عبد الله بن عبد القدوس على ما نقل عنه الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) اذ قال: « وثقه البخاري وابن حبان ».

وقال العسقلاني بترجمته: « قال البخاري: هو في الاصل صدوق، الا أنه يروي من أقوام ضعاف »(٣) .

ولا يخفى أن الرواية عن الضعاف أمر قلما سلم منه أسلافهم، كما لا يخفى على من راجع ( المنهاج ) لابن تيمية وغيره، فلو كان هذا - على تقدير تسليمه - قدحاً في عبد الله بن عبد القدوس لتوجه الى جمهور علمائهم، ولا تسع الخرق على الراقع.

هذا كله مع أن عبد الله بن عبد القدوس قد روى حديث الثقلين

__________________

(١). الثقات ٧ / ٤٨.

(٢). تهذيب التهذيب ٥ / ٣٠٣.

(٣). تهذيب التهذيب ٥ / ٣٠٣.

٤٦

- الذي أورده ابن الجوزي - عن الاعمش وهو ثقة، فلا كلام حينئذ أصلا

٣٤ - عبد الله بن عبد القدوس من رجال البخاري

وعبد الله بن عبد القدوس من رجال ( صحيح البخاري ) في تعليقاته، كما في رمز « خت » الموضوع له في ( الكاشف ٢ / ١٠٥ ) و ( تهذيب التهذيب ٥ / ٣٠٣ ) و ( تقريب التهذيب ١ / ٤٣٠ ) وغيرها.

ولما ثبت من كلمات علمائهم المحققين أن تخريج البخاري عن رجل دليل على عدالته وان كان في تعليقاته، فلا قيمة لطعن أي طاعن.

قال ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري في شرح صحيح البخاري في مقام الجواب عن الطعن في رجال البخاري: « وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لاي راو كان مقتض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته. ولا سيما ما انضاف الى ذلك من اطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح، فهو بمثابة اجماع الجمهور على تعديل من ذكر فيهما هذا اذا خرج له في الاصول.

فأما ان أخرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجاته من اخراج له فيهم في الضبط وغيره، مع حصول اسم الصدق لهم، وحينئذ إذا وجدنا لغيره من أحد منهم طعنا، فذلك الطعن مقابل لتعديل هذا الامام، فلا يقبل الا مبين السبب مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي أو في ضبطه مطلقاً او في ضبطه لخبر بعينه، لان الاسباب الحاملة للائمة على الجرح متفاوتة، منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح: هذا جاز القنطرة، يعني بذلك انه لا يلتفت الى ما قيل فيه. قال الشيخ أبو الفتح القشيري في مختصره: وهكذا نعتقد وبه نقول ولا نخرج عنه الا بحجة ظاهرة،

٤٧

وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه، من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما »(١) .

وبما ذكره صرح الشيخ ملا علي القاري في شرح المشكاة عند ما ذكر الصحيحين(٢) .

فعلى فرض ثبوت طعن يحيى بن معين في عبد الله بن عبد القدوس، فان الوقوف على هذين النصين وأمثالهما يكفي للاعراض عنه وعدم الالتفات اليه واغترار ابن الجوزي به كاشف عن عدم خبرته ومجازفته.

٣٥ - عبد الله بن عبد القدوس من رجال الترمذي

وان عبد الله بن عبد القدوس من رجال ( صحيح الترمذي ) أيضاً، كما يعلم من رمز « ت » المعين له في ( الكاشف ٢ / ١٠٥ ) و ( تهذيب التهذيب ٥ / ٣٠٣ ) وغيرهما.

٣٦ - جرح عبد الله بن عبد القدوس لا يقدح في الحديث

ولو تنزلنا، وفرضنا عبد الله بن عبد القدوس رجلا مقدوحاً، فان ذلك لا يخل بثبوت أصل حديث الثقلين، بل لا يضر فيه حتى برواية الاعمش عن عطية عن أبي سعيد، لعدم تفرد عبد الله بن عبد القدوس بروايته عن الاعمش، فلقد رواه عن الاعمش: محمد بن طلحة بن مصرف اليامي، ومحمد بن فضيل ابن غزوان الضبي، كما لا يخفى على من راجع ما تقدم عن ( مسند أحمد ) و ( صحيح الترمذي ).

فما ادعاه ابن الجوزي لا يفيده بحال، بل لو تأملت جيداً لظهر لك ان

__________________

(١). هدى الساري ٢ / ١٤٢ - ١٤٤.

(٢). المرقاة في شرح المشكاة ١ / ١٦.

٤٨

رواية عبد الله لهذا الحديث عن الاعمش مؤيدة لصدق سائر رواته عنه، ويظهر أيضاً لك صدقه في روايته عن الاعمش.

أضف الى هذا أنه كما لم يتفرد عبد الله في روايته حديث الثقلين عن الاعمش، كذلك الاعمش لم يتفرد في روايته عن عطية، فقد رواه عنه أيضاً: عبد الملك بن أبي سليمان ميسرة العزرمي، وأبو اسرائيل اسماعيل بن خليفة العبسي الملائي، وهارون بن سعد العجلى، وكثير بن اسماعيل التيمي النواء، كما هو غير خاف على ناظر أحاديث ( مسند ) أحمد و ( معاجم ) الطبرانيّ في الباب.

٣٧ - ما أورده في جرح ابن داهر مجمل

وأما قول ابن الجوزي في الطعن في عبد الله بن داهر: « واما ابن داهر فقال احمد ويحيى ليس بشىء، ما يكتب منه انسان فيه خبر » فهو مردود بأن الطعن هذا - على تقدير ثبوت صدوره عنهما - مبهم، كما لا يخفى على من راجع ( التدريب ) للسيوطي وغيره، ويتضح لكل متتبع لاقوال الفحول والمحققين من القوم: ان الطعن المبهم لا يقبل من أي كائناً من كان، وقد جاء بيان ذلك بالتفصيل في مجلد حديث الولاية.

ثم ان السبب في اساءة ظنهما - على تقدير الثبوت - بعبد الله بن داهر انما هو اكثاره رواية فضائل أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، كما قال الذهبي: « قال ابن عدي: عامة ما يرويه في فضائل علي، وهو متهم في ذلك »(١) .

ولا شك في ان الطعن في هكذا رجال لمثل هذه الاسباب غير مسموع، لانه ناشئ عن كمال بغضهم وانحرافهم عن اهل البيتعليهم‌السلام .

__________________

(١). ميزان الاعتدال ٢ / ٤١٧.

٤٩

٣٨ - عبد الله بن داهر غير واقع في طرق الحديث

وذكر ابن الجوزي لعبد الله بن داهر بصدد الطعن في حديث الثقلين عجيب جداً، لانه لم يقع في سند من أسانيد هذا الحديث الشريف، وهذه أسانيده وطرقه مذكورة في كتب أعاظم الحفاظ وكبار أعلام أهل السنة، بل وكذلك عبد الله بن عبد القدوس، فان وقوعهما في سند هذا الحديث يختص بهذا السند الطريف الذي ذكره ابن الجوزي تمهيدا للطعن فيه، وكأنّه غافل عن أن المراجعة الواحدة لمسند احمد وصحيح مسلم وصحيح الترمذي يظهر تلبيسه ويكشف سوء نيته.

٣٩ - استنكار المحققين قدح ابن الجوزي في الحديث

ولما ذكرنا وغيره استنكر جماعة من اكابر محققيهم وأعاظم محدثيهم ايراد ابن الجوزي حديث الثقلين في كتابه ( العلل المتناهية ) ومنهم:

١ - سبطه ، حيث قال في ( التذكرة ) بعد أن نقل الحديث عن مسند احمد: « فان قيل: فقد قال جدك في كتاب ( الواهية ): أنبأنا عبد الوهاب الانماطي، عن محمد بن المظفر، عن محمد العتيقى، عن يوسف بن الدخيل عن ابى جعفر العقيلي، عن احمد الحلواني، عن عبد الله بن داهر، ثنا عبد الله ابن عبد القدوس، عن الاعمش، عن عطية، عن ابى سعيد، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعناه. ثم قال جدك: عطية ضعيف، وابن عبد القدوس رافضي، وابن داهر ليس بشيء.

قلت: الحديث الذي رويناه أخرجه احمد في ( الفضائل )، وليس في اسناده احد ممن ضعفه جدي، وقد اخرجه ابو داود في سننه والترمذي أيضاً وعامة المحدثين، وذكره رزين في الجمع بين الصحاح. والعجب كيف خفى عن جدي ما روى مسلم في صحيحه من حديث زيد بن ارقم: قام فينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - الى آخر ما سبق ».

٢ - السخاوي حيث قال بعد ايراد الحديث وتأييده « وتعجبت من

٥٠

ايراد ابن الجوزي له في ( العلل المتناهية )، بل أعجب من ذلك قوله « انه حديث لا يصح » مع ما سيأتي من طرقه التي بعضها في ( صحيح ) مسلم »(١) .

٣ - السمهودي بعد اثبات الحديث وروايته عن الصحاح والمسانيد، قال: « ومن العجيب ذكر ابن الجوزي له في ( العلل المتناهية )، فاياك أن تغتر به، وكأنه لم يستحضره حينئذ »(٢) .

ولا يخفى أن هذا الكلام حسن ظن به، وكيف يصدق عاقل ذلك ويذعن أن يكون ابن الجوزي - مع ما هو عليه من سعة النظر وكثرة الاطلاع كما يقول مترجموه - غافلا عن طرق حديث الثقلين المتكاثرة المروية في الصحاح والمسانيد والمعاجم، أمثال مسند ابن راهويه، ومسند أحمد، ومسند عبد بن حميد، ومسند الدارمي، وصحيح مسلم، وصحيح الترمذي، وفضائل القرآن لابن أبى الدنيا، ونوادر الأصول للحكيم الترمذي، وكتاب السنة لابن ابى عاصم، ومسند البزار، والخصائص للنسائي، ومسند أبى يعلى، والذرية الطاهرة للدولابي، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح أبى عوانة، والمصاحف لابن الانباري، والامالي للمحاملى، والولاية لابن عقدة، والطالبيين للخفاجى، والمعاجم الثلاثة للطبراني، والمستدرك للحاكم، وشرف النبوة للخركوشي، ومنقبة المطهرين، وحلية الاولياء لابي نعيم، وكتاب طرق حديث الثقلين لابن طاهر المقدسي وغيرها.

ألم يكن في هذه الكتب غير الطريق الذي ذكره ابن الجوزي؟

نعم كان، الا أنه شاء ان يخدع ناظر كتابه بأن روايته منحصرة بهذا الطريق، وبما أن رجاله ضعفاء بزعمه فالحديث إذا لا يصح. هكذا شاء الا ان الله كشف سره وهتك ستره بأيدى أهل نحلته. والحمد لله رب العالمين.

٤ - ابن حجر في ( الصواعق المحرقة ) و ( تتمة الصواعق )، فقال بعد أن

__________________

(١). استجلاب ارتقاء الغرف - مخطوط.

(٢). جواهر العقدين - مخطوط.

٥١

روى الحديث عن بعض المصادر المعتبرة: « وذكر ابن الجوزي لذلك في ( العلل المتناهية ) وهم أو غفلة عن استحضار بقية طرقه، بل في صحيح مسلم عن زيد بن ارقم أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك يوم غدير خم ».

ثم جعل يؤيد الحديث ويثبته بأقوال العلماء ورواياته الكثيرة.

وقال في ( تتمة الصواعق ): « ولم يصب ابن الجوزي في ايراده في ( العلل المتناهية ) ».

٥ - المناوى : « قال الهيثمي: رجاله موثقون، ورواه ابو يعلى بسند لا بأس به، والحافظ عبد العزيز ابن الاخضر. ووهم من زعم ضعفه كابن الجوزي »(١) .

٦ - حسن زمان في ( القول المستحسن ) عن المناوي بلفظه.

٧ - الشيخانى القادرى في ( الصراط السوي ) بعد أن ذكر الحديث قال: « وقد أخطأ ابن الجوزي حيث ذكر هذا في ( واهياته ) على عادته في ذلك، غافلا عما ذكر مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم ».

٤٠ - رواية ابن الجوزي حديث الثقلين

لقد عثرنا على رواية ابن الجوزي حديث الثقلين في ( كتاب المسلسلات )(٢) في سياق يدل على اعتقاده بصحته، وأما ايراده اياه في ( العلل المتناهية في الاحاديث الواهية ) فلعله كان قبل روايته اياه بهذا الطريق، أو أنه يقدح في طريقه المذكور هناك فقط، ان لم يكن غفلة أو تعصباً وعلى كل حال فهذا نص ما جاء في المسلسلات:

__________________

(١). فيض القدير ٣ / ١٤ - ١٥.

(٢). نسخة دار الكتب الظاهرية، وهي نسخة قديمة كتبت في حياة المؤلف سنة ٥٨١ كتبها على بن ملكداد الجنزى وفي آخرها قراءات وسماعات أهمها ما هو بخط المؤلف. وهي ضمن المجموع رقم ٣٧ ق ٦ - ٢٧، انظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية ) فهرس حديث ص ٤٠ ) وهذا الحديث في الورقة ٨ أ - ب.

٥٢

« الحديث الخامس »: قال شيخنا أدام الله أيامه: انا محمد بن ناصر قال: انا محمد بن علي بن ميمون قال: انا أبو عبد الله محمد بن علي العلوي قال: ثنا القاضي محمد بن عبد الله الجعفي قال: ثنا الحسين بن محمد الفزاري قال: ثنا الحسن بن علي بن بزيع قال: ثنا يحيى بن حسن بن فرات قال: ثنا أبو عبد الرحمن المسعودي عن الحارث بن حصيرة عن صخر بن الحكم عن حبان بن الحارث الازدي عن الربيع بن جميل الضبي عن مالك بن ضمرة:

عن أبى بكر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: يرد علي الحوض راية علي أمير المؤمنين وامام الغر المحجلين، وأقدم وآخذ بيده في بياض وجهه ووجوه أصحابه، فأقول: ما خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون: تبعنا الأكبر وصدقناه ووازرنا الأصغر ونصرناه وقاتلنا معه، فأقول: ردوا رواء، فيشربون شربة لا يظمأون بعدها أبداً، وجه امامهم كالشمس الطالعة ووجوههم كالقمر ليلة البدر أو كأضوأ نجم في السماء.

قال الشيخ: اشهدوا علي عند الله ان أبا الفضل بن ناصر حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله ان أبا الغنائم بن النرسي حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله ان أبا عبد الله محمد بن علي العلوي حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله ان القاضي محمد بن عبد الله حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله ان الحسين بن محمد بن الفرزدق حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله ان الحسن بن علي بن بزيع حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله ان يحيى بن حسن حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله أن أبا عبد الرحمن حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله ان الحارث بن حصيرة حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله ان صخر بن الحكم حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله ان حبان بن الحارث حدثني بهذا، قال: اشهدوا علي عند الله ان الربيع بن جميل الضبي حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله ان مالك بن ضمرة حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله ان أبا ذر الغفاري حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدثني بهذا قال: اشهدوا علي عند الله ان

٥٣

جبرئيلعليه‌السلام حدثني بهذا عن الله جل وجهه وتقدست أسماؤه ».

٥٤

*(٣)*

قدح ابن تيمية

قال ابن تيمية في كتابه الذي ألفه رداً على العلامة الحلّيرضي‌الله‌عنه :

« قال الرافضي: العاشر - ما رواه الجمهور من قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّي تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض. وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق. وهذا يدل على وجوب التمسك بقول أهل بيته وعلي سيدهم، فيكون واجب الطاعة على الكل فيكون هو الامام.

والجواب من وجوه:

أحدها - ان لفظ الحديث الذي في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فقال: اما بعد أيها الناس انما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب

٥٥

ربي، وانّي تارك فيكم ثقلين كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به. فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.

وهذا اللفظ يدل على أن الذي أمر بالتمسك به وجعل المتمسك به لا يضل هو كتاب الله، وهكذا جاء في غير هذا الحديث كما في صحيح مسلم عن جابر في حجة الوداع لما خطب يوم عرفة وقال: قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده ان اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد انك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال باصبعه السبابة يرفعها الى السماء وينكبها الى الناس: اللهم اشهد - ثلاث مرات.

واما قوله « وعترتي فإنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض »، فهذا رواه الترمذي، وقد سئل عنه أحمد، وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا أنه لا يصح.

وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على ان أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة قالوا: ونحن نقول بذلك، كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى وغيره، لكن أهل البيت لم يتفقوا ولله الحمد على شيء من خصائص مذهب الرافضة، بل هم المبرءون المنزهون عن التدنس بشيء منه »(١) .

وهذا الكلام يشتمل على أباطيل:

١ - دعوى عدم دلالة الحديث على وجوب التمسك بالعترة

أما ما زعمه من دلالة لفظ حديث الثقلين في ( صحيح مسلم ) على وجوب التمسك بالكتاب فقط، وأنه لا دلالة فيه على وجوب التمسك بالعترة، فهو - بالاضافة الى بعده عن دأب المحدثين وأهل الكلام - يفيد سوء فهمه وكثرة وهمه. ولما كان كلام الشيخ محمد أمين بن محمد معين السندي - وهو

__________________

(١). منهاج السنة ٤ / ١٠٤ - ١٠٥.

٥٦

من أكابر محدثي أبناء السنة المتأخرين - حول رواية مسلم المذكورة كافياً في الرد على هذا الزعم الفاسد، فاننا ننقله بنصه:

تحقيق محمد أمين السندي في معنى الحديث

« ووجدنا في أهل البيت سلام الله تعالى عليهم أجمعين وتحيته، حديث التمسك المشهور، وفتشنا عن مخرجيه، فاذا هو أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه، ولفظه من حديث زيد بن أرقم قال: قام فينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اما بعد يا أيها الناس انما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل فأجيبه، واني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله عز وجل فيه الهدى والنور، فتمسكوا بكتاب الله عز وجل وخذوا به، وحث فيه ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي - ثلاث مرات - الحديث.

فنظرنا فيه فوجدناه يعبر عن القرآن واهل البيت بالثقلين، وهو كل نفيس خطير مصون، ففهمنا نفاسة أهل البيت وخطرهم وصونهم من قبيل كل تلك الاوصاف التي للقرآن، للجمع بينهما بذلك، وعلمنا أن هذه الأوصاف وغيرها للقرآن، يرجع عمدتها الى إفادة علوم المعارف الالهية والاحكام الشرعية، فظننا أنها في أهل البيت على منوالها في القرآن راجعة الى افادة تلك العلوم، وقد اعتضدنا في هذا بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الحديث: « يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه واني تارك فيكم الثقلين »، فان النبي لا يوصى أمته بعده الا بالقيام على الحق والسنة، فترك الثقلين فيها والوصية بهما ليس الا لكونهما خليفتين منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الارشاد الى ذلك.

فظننا أنه كما وقع التصريح بالتمسك بكتاب الله فكذا المراد التمسك بأهل البيت، ان كان قوله « أهل بيتي » عطفاً على أولهما بتقدير لفظ « ثانيهما » بقرينة القرين أو فهمه من غير تقدير، ولا صحة لعطفه على « كتاب الله »

٥٧

للزوم كونهما أولين وعدم ذكر الثاني رأساً، فحملنا قوله « أذكركم الله » على مبالغة التثليث فيه على التذكير بالتمسك بهم والردع عن عدم الاعتداد بأقوالهم وأحوالهم وفتياهم وعدم الاخذ بمذهبهم. وان كان عطفاً على « بكتاب الله » في قوله: « فتمسكوا بكتاب الله » - وهو القريب الظاهر من الوجه الاول - وفيهم كونه ثاني الامرين من الامر بالتمسك كالاول، كان التصريح بالتمسك بهم في حديث مسلم هذا كالتمسك بالقرآن.

وهذا كله في لفظ هذا الحديث بناءاً على ظاهر الكلام، فانتظرنا لفظاً في هذا الحديث يفسر حديث مسلم على ما فهمنا، فاذا الترمذي أخرج - وقال حسن غريب - انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: انّي تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء الى الارض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.

فنظرنا فإذا هو مصرح بالتمسك بهم، وبأن اتباعهم كاتباع القرآن على الحق الواضح، وبأن ذلك امر متحتم من الله تعالى لهم، ولا يطرأ عليهم في ذلك ما يخالفه حتى الورود على الحوض، وإذا فيه حث بالتمسك بهما بعد حث على وجه ابلغ، وهو قوله: « فانظروا كيف تخلفوني فيهما » فقلنا حديث مسلم حديث صحيح ظاهر في معنى فسره على ذلك المعنى حديث حسن آخر، فثبت معناه نصاً من بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فآمنا به في نظائره من صحاح الاحاديث، والحمد لله رب العالمين.

ومع هذا لم نال جهداً في طلب الطرق الاخرى تزيد الصحة على الصحة ويؤيد بعضها بعضاً، فوجدنا أخرج أحمد في مسنده ولفظه: انى أوشك أن أدعي فأجيب، وانّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء الى الارض، وعترتي أهل بيتي، وان اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروني بما تخلفوني فيهما وسنده لا بأس به.

٥٨

فازددنا منه أن كل اخباراتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وان كان وحياً من الله سبحانه - لكن هذا وحي أظهره به وأسنده الى الله سبحانه فقال: « أخبرني اللطيف الخبير »، وفيه من تأكد أخبار كونهم على الحق كالقرآن، وصونهم أبداً عن الخطأ كالوحي المنزل ما لا يخفى على الخبير. وفيه ان قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « انهما لن يفترقا » ليس بدعاء مجرد - على بعد أن يكون مراداً - بل هو اخبار من الله سبحانه وتعالى، وان قوله في بعض الروايات « اني سألت لهما ذلك » دعاء مجاب متحتم باخبار اللطيف تعالى.

ومن تجلي ألفاظ لطفه أن سرى روح القدس الحق في علومهم كسرايته في القرآن، أو سرى سر الاتحاد بين مداركهم وبين القرآن فنيطت به أشد نياط لن يتفرقا بسببه أبداً، والى ذلك التلويح باختيار اللطيف هاهنا من بين اسماء الله تعالى.

وعدم الافتراق هذا بينهما انما هو في الحكم، فلا يحكمون بحكم لا يحكم به الكتاب، والسنة في هذا الحديث داخل في الكتاب على ما صرحوا به، فظاهر الحث بالتمسك بهم التمسك بأخذ الاحكام الالهية منهم، دليله قرانهم في ذلك بكتاب الله والاخبار بترتب عدم الضلال عليه كما بالتمسك بالكتاب، فلا احتمال لان يحمل التمسك بهم من حيث المودة والصلة بهم في هذا الحديث وكان ذلك ظاهر من هذا الحديث كما ذكرنا كالنص به.

ولكن مع هذا انتظرنا ما يدل على تصريح التمسك بهم في أخذ العلوم من حديث آخر، فيفسر هذا الحديث ويعينه في ظاهره، فاذاً قد ورد في خبر قريش: « وتعلموا منهم فانهم اعلم منكم »، فقلنا اذا ثبت هذا العموم في علماء قريش فأهل البيت أولى منهم بذلك، لانهم امتازوا عنهم بخصوصيات لا تشاركهم فيها بقيتهم.

ولما كان هذا بطريق دلالة النص انتظرنا نصاً فيهم يدلنا على امامتهم في العلم، فوجدنا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت » فعلمنا انهم الحكماء العارفون العلماء الوارثون الذين وقع الحث

٥٩

على التمسك في دين الله تعالى وأخذ العلوم عنهم، وايدنا في ذلك ما أخرج الثعلبي في تفسير قوله تعالى:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً ) عن جعفر الصادقرضي‌الله‌عنه قال: نحن حبل الله الذي قال الله تعالى:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) انتهى.

وكيف لا وهم أحد الثقلين، فكما أن القرآن حبل ممدود من السماء فكذلك اهل هذا البيت المقدس صلوات الله تعالى وتسليماته عليهم أجمعين. وقد قال قائلهم (ع) مخبراً عن نفسه القدسي وسائر رهطه المطهرين:

وفينا كتاب الله انزل صادقاً

وفينا الهدى والوحي والخير يذكر

ومما نزل فيهم من الكتاب الآية المتقدمة، وقد ذكر جملة ما نزلت فيهم من الآيات الشيخ أبو الفضل ابن حجر في الصواعق فليطلب فيه.

وكذلك أيدنا فيه ما ثبت عن سيد الساجدين عليه وعلى آبائه التسليمات الناميات المباركات والتحيات الطيبات الزاكيات: انه اذا كان تلى قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) يقرأ دعاءاً طويلا يشتمل على طلب اللحوق بدرجة الصادقين والدرجات العلية، وعلى وصف المحن وما انتحلته المبتدعة المفارقون لائمة الدين والشجرة النبوية، ثم يقول: « وذهب آخرون الى التقصير في أمرنا، واحتجوا بمتشابه القرآن فتأولوا بآرائهم، واتهموا مأثور الخبر » الى ان قال: « فإلى من يفزع خلف هذه الامة وقد درست أعلام الملة ودانت الامة بالفرقة والاختلاف، يكفر بعضهم بعضا والله تعالى يقول:( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ) ، فمن الموثوق به على ابلاغ الحجة وتأويل الحكم، الا أهل الكتاب وأبناء أئمة الهدى ومصابيح الدجى، الذين احتج الله تعالى بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدى من غير حجة، هل تعرفونهم أو تجدونهم الا من فروع الشجرة المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم وبرأهم من الافات، وافترض مودتهم في الكتاب » انتهى. و ذكره ابن حجر في الصواعق.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

أُطِيعَ فيما أَمرَ وانْتُهِيَ عمّا زَجَرَ، اللهًّ عزَّ وجلَّ المنشىءُ للأرواحِ والصُّورِ».

فقالَ له ابنُ أَبي العوجاءِ: ذكرتَ - أَبا عبدِاللهِّ - فأَحَلْتَ على غائِبٍ.

فقالَ الصّادقُعليه‌السلام : «كيفَ يكونُ - يا ويلَكَ - عَنَّا غائباً من هو معَ خلقِه شاهدٌ، وِاليهم أقربُ من حبلِ الوريدِ؟! يسمعً كلامَهم ويعلمُ اسرارَهم، لا يخلو منه مكانٌ، ولا يشتغل به مكانٌ، ولا يكونُ إِلى مكانٍ أَقربَ من مكانٍ، تشهدُ له بذلكَ آثارُه، وتدلُّ عليه أَفعالهُ، والّذي بعثَه بالآياتِ المُحكَمةِ والبراهينِ الواضحةِ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله جاءَنا بهذه العبادةِ، فإِن شككتَ في شيءٍ من أَمرِه فاسأَل عنه أُوْضِحْه لكَ ».

قالَ: فأَبلسَ ابنُ أَبي العوجاءِ ولم يَدرِ ما يقولُ، فانصرفَ من بينِ يديه، وقالَ لأصحابه: سأَلتكُم أَن تلتمسوا لي خُمرة فالقَيتموني على جَمرةٍ، قالوا له: اسكَتْ، فواللهِّ لقد فَضَحْتَنا بِحَيْرتِكَ وانقطاعِكَ، وما رأَيْنا أحقرَ مِنكَ اليومَ في مجلسِه ؛ فقالَ: أَلي تَقولونَ هذا؟! إِنه ابنُ من حلقَ رؤوسَ من تَرَوْنَ، وأَومأ بيدِه إِلى أَهلِ الموسم(١) .

وُرويَ: أنّ أبا شاكرِ الدّيصانيّ وقفَ ذاتَ يومٍ في مجلسِ أَبي عبدِاللهِعليه‌السلام فقالَ له: إِنّكَ لأحدُ النجُّومِ الزّواهرِ، وكانَ آباؤكَ بُدوراً بَواهِرَ، وأُمّهاتكَ عقيلاتٍ عَباهِرَ(٢) ، وعُنصرُكَ من أَكرمِ العناصرِ، وإذا

__________________

(١) روى الكليني قطعة منه في الكافي ٤: ١٩٧ / ١، والصدوق في الامالي: ٤٩٣ / ٤، والعلل: ٤٠٣ / ٤، والطبرسي في الاحتجاج: ٣٣٥، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠: ٢٠٩ / ١١.

(٢) ألعبهرة:هي المرأة التى جمعت الحُسْن والجسم والخُلق «لسان العرب - عبهر - ٤: ٥٣٦».

٢٠١

ذُكِرَ العلماءُ فبكَ ثَنْيُ الخناصِرِ(١) خَبِّرنا أَيُّها البحرُ الزّاخرُ، ما الدّليل على حدوث(٢) العالم َ؟

فقالَ أَبو عبدِاللهِّعليه‌السلام : «مِنْ أقرب الدّليلِ على ذلكَ ما أَذكرهُ لكَ ؛ ثمّ دعا ببيضةٍ فوضعَها في راحتهِ وقالَ: هذا حصنٌ مَلمومٌ، داخله غِرْقيءٌ(٣) ، رقيقٌ، تُطيفُ به كالفضّةِ السّائلةِ والذّهبةِ المائعةِ، أَتشكُّ في ذلكَ؟

قالَ أَبو شاكرٍ: لا شكَّ فيه.

قالَ أَبوعبدِاللهِّعليه‌السلام : «ثمّ إِنّه يَنْفَلقُ عن صورةٍ كالطّاووسٍ، أَدَخَلَه شيءٌ غيرُما عرفتَ؟».

قالَ: لا.

قالَ: «فهذا الدّليلُ على حَدَثِ العالمِ ».

فقالَ أَبو شاكرٍ: دَلَلْتَ - أَبا عبدِاللهِّ - فأَوضحتَ، وقلتَ فأحسنتَ، وذكرتَ فأَوجزتَ، وقد علمتَ أَنّا لا نَقبلُ إِلّا ما أَدركْناه بأَبصارِنا، أَو سمعْناه بآذانِنا، أَوذقناه بأَفواهِنا، أَو شممنْاه بأُنوفِنا، أَو لمسْناه ببشرتِنا.

فقالَ أَبو عبدِاللهِّعليه‌السلام : «ذكرتَ الحواسَّ الخمسَ وهي لا

__________________

(١) ثني الخناصر: بفلان تثنى الخناصر أي تُبتدأ به اذا ذكر أشكاله. «لسان العرب - خنصر - ٤: ٢٦١ ».

(٢) في «ش» و «م»: حَدَثَ، وما في المتن من نسخة «ح ».

(٣) الغرقئ: قشر ألبيض الرقيق الذي تحت القشر الصلب «الصحاح - غرقا - ١: ٦١ ».

٢٠٢

تنفعُ فِى الاستنباطِ إِلّا بدليلٍ، كما لا تقطعُ الظُّلمةُ بغيرِ مصباح »(١) يُريدُعليه‌السلام أَنّ الحواسَّ بغيرِعقلٍ لا تُوصِلُ إِلى معرفةِ الغائباتِ، وأَنّ الّذي أراه من حُدوثِ الصُّورةِ معقولٌ ِبنيَ العلمُ به على محسوسٍ.

فصل

وممّا حُفِظَ عنهعليه‌السلام في وجوبِ المعرفةِ باللهِّ تعالى وبدينهِ، قولُه: «وجدتُ علمَ النّاسِ كلِّهم في أَربعٍ: أَوّلها: أَنْ تَعرفَ ربَّكَ ؛ والثّاني: أَن تَعرفَ ما صَنعَ بكَ ؛ والثّالثُ: أَن تَعرفَ ما أَرادَ منكَ ؛ والرّابعُ: أَن تعرفَ ما يُخرجًكَ عن دينكَ »(٢) .

وهذه أقسامٌ تُحيط بالمفروضِ منَ المعارفِ، لأنه أَوِّلُ ما يجبُ على العبدِ معرفةُ ربَه - جلَّ جلالُه - فإِذا علمَ أَنّ له إِلهاً، وجبَ أَن يَعرفَ صُنعَه إِليه، فإِذا عرفَ صُنعَه عرفَ به نعمتَه، فاذا عِرفَ نعمتَه وجبَ عليه شكرُه، فإِذا أَراد تأْديةَ شُكرِه، وجبَ عليه معرفةُ مُرادِه ليُطِيعَه بفعلِه، واذا وجبَ عليه طاعته، وجبَ عليه معرفةُ ما يخرجه من دينهِ ليجتنبَه فتَخْلُص له طاعة ربِّه وشُكرُ إِنعامِه.

__________________

(١) رواه الصدوق في التوحيد: ٢٩٢ / ١، باختلاف يسير، وروى الكليني قطعة منه في الكافي ١: ٦٣ / ذيل ح ٤، ونقله العلامة المجلسي في البحار ١٠: ٢١١ / ١٢.

(٢) الكافي ١: ٤٠ / ١١، الخصال: ٢٣٩ / ٨٧.

٢٠٣

فصل

وممّا حفظ عنهعليه‌السلام في التّوحيدِ ونفيِ التّشبيهِ قولهُ لهشام بنِ الحكمِرحمه‌الله : «إِنَّ اللهَّ لا يشبهُ شيئاً ولا يُشْبِهُه شيءٌ، وكلُّ ماوقعَ في الوهمِ فهو بخلافهِ »(١) .

فصل

وممّا حفِظُ عنهعليه‌السلام من موجزِ القولِ في العدلِ قولُه لزُرارة بن أَعْينَرحمه‌الله : «يا زرارةُ، أُعطيكَ جملةً في القضاءِ والقَدَرِ».

قالَ له زرارة: نعم، جُعِلْتُ فداكَ.

قالَ له: «إِنّه إِذا كانَ يومُ القيامةِ وجمعَ اللهُّ الخلائقَ سأَلهم عمّا عَهِدَ إِليهم ولم يسأَلْهم عمّا قضى عليهم »(٢) .

فصل

وممّا حُفِظَ عنهعليه‌السلام في الحكمةِ والموعظةِ قولُه: «ما كُلُّ مَنْ

__________________

(١) توحيد الصدوق: ٨٠ / ذح ٣٦، عن المفضل بن عمر.

(٢) توحيد الصدوق: ٣٦٥ / ٢، إعتقادات الصدوق: ٧١، وفيهما من قوله: اذا كان يوم

٢٠٤

نَوى شيئاً قَدرَعليه، ولا كل مَنْ قَدرَ على شيءٍ وُفقَ له، ولا كلّ مَنْ وُفِّقَ أصابَ له مَوْضِعاً، فإِذا اجتمعتِ النِّيّةُ والقُدرةُ والتّوفيق والإصابةُ فهنالكَ تمّتِ السّعادةُ»(١) .

فصل

وممّا حُفِظَ عنهعليه‌السلام في الحثِّ على النّظرِ في دينِ الله، والمعرفةِ لأولياءِ اللهِ، قولُهعليه‌السلام : «أحسِنوا النّظرَ فيما لا يَسَعُكم جَهْلهُ، وانْصَحُوا لأنفسِكم وجاهِدوها(٢) في طلب معرفةِ ما لا عُذْرَ لكم في جهلهِ، فإِنّ لدينِ اللهِ أركاناً لا يَنفعُ مَنْ جَهِلَهَا شِدّةُ اجتهادِه في طلب ظاهرِ عبادتِه، ولا يَضُرُّ مَنْ عَرفَها فدانَ بها حسنُ اقتصادِه، ولا سبيلَ لأحدٍ إِلى ذلكَ إِلا بعونٍ منَ اللهِّ عزَ وجلَّ »(٣) .

فصل

وممّا حُفِظَ عنهعليه‌السلام في الحثِّ على التّوبةِ قولُه: «تاْخيرُ التّوبةِ اغترارٌ، وطولُ التّسويفِ حَيْرَةٌ، والاعتلالُ على اللهِ هلكة، والإصرارُ على الذّنبِ أَمن لمكرِ اللهِ، ولا يأْمنُ مكرَ الله إلا القومُ

__________________

القيامة ...

(١) الفصول المهمة لابن الصباغ: ٢٢٨.

(٢) في هامش «ش» و «م»: وجاهدوا.

(٣) كنز الفوائد ٢: ٣٣.

٢٠٥

الخاسرون »(١) .

والأخبارُ فيما حُفِظَ عنهعليه‌السلام منَ العلمِ والحكمةِ والبيانِ والحجّةِ والزهدِ والموعظةِ وفنونِ العلمِ كلِّه، أكثرُمن أَن تُحصى بالخطاب أَو تُحْوى بالكتاب، وفيما أَثبتْناه منه كفايةٌ في الغرضِ الّذي قصدْناه، واللهُ الموفِّقُ للصّوابِ.

فصل

وفيهعليه‌السلام يقولُ السّيِّدُ ابنُ محمّدٍ الحِمْيرَيّرحمه‌الله وقد رجعَ عن قولهِ بمذهب الكيْسانيةِ(٢) ، لمّا بلغَه إِنكارُ أبي عبدِاللهعليه‌السلام مقالَه، ودعاؤه له إِلى القولِ بنظام الإمامةِ:

يَا رَاكِباً نَحْوَ المَدِيْنَةِ جَسْرَةً(٣)

عُذَافِرَةً(٤) (يَطويْ بهَا)(٥) كُلّ سَبْسَب(٦)

إِذا مَا هَدَاكَ اللهُ عَايَنْت جَعْفَراً

فَقُلْ لِوَليِّ اللهِ وابْنِ المُهَذَّبِ

أَلا يَا وَليّ اللهِّ وابْنَ وَلِيِّه

أَتُوْبُ إِلَى الرحْمانِ ثُم تأوّبيْ

إِلَيْكَ مِنً الذَّنْبِ الّذِيْ كُنْتُ مُطْنِبَاً

أجَاهِدُ فِيْهِ دَائِبَاً كُلّ مُعْرِبِ

__________________

(١) الفصول المهمة: ٢٢٨.

(٢) الكيسانية: هم القائلون بامامة محمد بن الحنفية، وانه وصي الامام علي بن أبي طالبعليه‌السلام . «فرق الشيعة: ٢٣ ».

(٣) الجسرة: العظيمة من الابل. «الصحاح - جسر - ٢: ٦١٣».

(٤) العذافرة: العظيمة الشديدة من الابل. «الصحاح - عذفر - ٢: ٧٤٢».

(٥) في هامش «ش»: تطوي له.

(٦) السبسب: المفازة أو البادية «الصحاح - سبب - ١: ١٤٥ ».

٢٠٦

وَمَا كانَ قَوليْ في (ابْنِ خَوْلَة)(١) دَائِبَاً

مُعَانَدَةً مِنِّيْ لِنَسْلِ المُطيّبِ

وَلكِنْ رَوَيْنَاَ عَنْ وَصِيِّ مُحمَّدٍ

وَلَمْ يَكُ فِيْمَا قَالَ بالْمُتَكَذّبِ

بِأنَّ وَليَّ الأمْرِ يُفْقدُ لا يُرى

سنِيْنَ كَفِعْلِ الخائف المُتَرَقًّب

فَتُقْسَمُ اَمْوَالُ الْفَقِيْد كأنَّمَا

تَغَيُّبَه(٢) بَيْنَ الصفيح المُنَصَّبَ

فَإِنْ قُلْتَ: لا، فَالْحَقُّ قوْلُكَ وَالَّذِيْ

تَقُوْلُ فَحَتْمٌ غَيْرُ مَا مُتَغَضّبِ(٣)

وُأشْهِد رَبِّيْ أَنَ قوْلَكَ حُجَّةٌ

عَلَى الْخَلقِ طُرَّاً مِنْ مُطِيْعٍ وُمُذْنِبِ

بأَنَّ وَلِيَّ الأمْرِ وَالْقَائِمَ الَّذِيْ

تَطَلُّعُ نَفْسِيْ نَحْوَهُ وَتَطَربيْ

لهُ غَيْبَةٌ لا بُد أَنْ سيغيبها

فَصلَّى عَلَيْهِ اللهُّ مِنْ مُتَغَيِّب

فَيَمْكُثُ حِيْنَاً ثُمّ يَظْهَرُ أَمْرُهُ

فَيَمْلأ عَدْلا كُلَّ شرقٍ وَمَغْرِبِ(٤)

وفي هذا الشَعرِ دليلٌ على رجوعِ السّيِّدِرحمه‌الله عن مذهبِ

__________________

(١) في هامش «ش»: محمد بنِ الحنفية - رحمة الله عليه -.

(٢) في هامش «ش» و «م»: نغيّبه.

(٣) في هامش «ش»: متعصّب.

(٤) روى الصدوق هذه القصيدة في إكمال الدين: ٣٤، باضافة خمسة ابيات بعد قوله: تغيبه بين الصفيح المنصب:

فيمكث حيَناً ثم ينبع نبعةً

كنبعة جدي من الافق كوكب

يسير بنصر الله من بيت ربه

على سؤدد منه وأمر مسبب

يسير الى اعدائه بلوائه

فيقتلهم قتلاً كحران مغضب

فلما رَوى ان ابن خولة غائب

صرفنا اليه ‌قولنا لم نكذب

وقلنا هوالمهدي والقائم الذي

يعيش به من عدله كل مجدب

وفي اخر القصيدة زاد آخر:

بذاك أدين الله سراً وجهرة

ولست وان عوتبت فيه بمعتب

٢٠٧

الكَيْسانيّةِ، وقولهِ بإِمامةِ الصّادقِعليه‌السلام ووجودِ الدّعوةِ ظاهرةً منَ الشَيعةِ في أَيّام أَبي عبدِاللهِعليه‌السلام إِلى إِمامتهِ والقولِ بغيبةِ صاحب الزّمانِعليه‌السلام ، وأنّها إِحدى علاماتهِ، وهو صريحُ قولِ الإماميّةَ الأثنَى عشريّة.

٢٠٨

باب ذكر أَولادِ أَبي عبدِاللهِ عليه السلامُ

وعددِهم وأَسمائهم وطرفٍ من أَخبارِهم

وكان لأبي عبدِاللهِّعليه‌السلام عشرةُ أَولادٍ: إسماعيلُ وعبدُاللهِّ وأُمُّ فَرْوَةَ، أُمّهم فاطمةُ بنت الحسينِ بنِ عليِّ بنِ الحسينِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالبٍعليهم‌السلام (١) .

وموسى واسحاقُ ومحمّدٌ، لأمِّ ولدٍ.

والعبّاسُ وعليٌّ وأَسماءُ وفاطمةُ، لأمّهاتِ أَولادٍ شتّى.

وكانَ إِسماعيلُ أَكبرَ إِخوتهِ، وكانَ أَبوهعليه‌السلام شديدَ المحبّةِ له والبرِّ به والإشفاقِ عليه، وكانَ قومٌ منَ الشِّيعةِ يظَنُون أَنّه القائمُ بعدَ أبيه والخليفةُ له من بعدِه، إِذْ كانَ أكبرَ إِخوتهِ سِنّاً، ولميلِ أَبيه إِليه وِاكرامِه له ؛ فماتَ في حياةِ أَبيه بالعُرَيْض(٢) ، وحُمِلَ على رقاب الرِّجال إِلى أَبيه بالمدينةِ حتّى دُفِنَ بالبقيع.

ورُويَ:أَنّ أَبا عبدِاللهِّعليه‌السلام جَزعَ عليه جَزَعاً شديداً، وحَزِنَ عليه حُزْناً عظيما، وتقدم سريره بلا(٣) ، حِذاءٍ ولارِداءٍ، وأمَرَ بوضع سريرِه على الأرضِ قبلَ دفنهِ مِراراً كثيرةً، وكان يَكْشِفُ عن وجهِه وينَظُرُ إِليه،

__________________

(١) ذكر في عمدة الطالب (ص ٢٣٣) انها: فاطمة بنت الحسين الاثرم بن الامام الحسن بن علي ابن ابي طالبعليهم‌السلام ، والظاهر انه هو الصواب.

(٢) العريض: واد بالمدينة فيه بساتين نخل، انظر «معجم البلدان ٤: ١١٤ ».

(٣) في «م» وهامش «ش»: بغير.

٢٠٩

يُريدعليه‌السلام بذلكَ تحقيقَ أمر وفاتهِ عندَ الظّانِّينَ خلافتَه له من بعدِه، وازالةَ الشُّبهةِ عنهم في حياتهِ(١) .

ولمّا ماتَ إِسماعيلُ رضيَ الله عنه انصرفَ عنِ القولِ بإِمامتهِ بعدَ أبيه من كانَ يَظُنُّ ذلكَ فيعتقدُه من أصحاب أبيهعليه‌السلام ، وأقامَ على حياتِه شِرذمةٌ لم تكنْ من خاصّةِ أبيه ولا منَ الرُّواةِ عنَه، وكانوا منَ الأباعدِ والأطرافِ.

فلمّا ماتَ الصّادقُعليه‌السلام انتقلَ فريقٌ منهم إِلى القولِ بإِمامةِ موسى بن جعفرٍعليه‌السلام بعدَ أبيه، وافترقَ الباقونَ فريقينِ: فريقٌ منهم رجعوا عن حياةِ إِسماعيلَ وقالوا بإِمامةِ ابنهِ محمّدِ بنِ إِسماعيلَ، لظنِّهم أَنّ الإمامةَ كانتْ في أَبيه وأَنّ الابنَ أَحقًّ بمقامِ الإمامةِ منَ الأخ ؛ وفريقٌ ثبتوا على حياةِ إِسماعيلَ، وهم اليومَ شُذّاذٌ لا يُعرَفُ منهم أحدٌ يومَأُ إِليه. وهذان الفريقانِ يُسَمَّيانِ بالإسماعيليّةِ، والمعروفُ منهم الانَ من يزعمُ أَنّ الأمامةَ بعدَ إِسماعيلَ في ولدِه وولدِ ولدِه إِلى اخرِ الزّمانِ.

فصل

وكانَ عبدُاللهِ بن جعفرٍ أكبرَ إِخوته بعدَ إِسماعيلَ، ولم تكنْ منزلتُه عندَ أَبيه منزلةَ غيرِه من ولدِه في الإكرام، وكانِ مُتّهَماً بالخلافِ على أَبيه في الاعتقادِ، ويُقالُ أَنّه كانَ يُخالِط الحًشْويّةَ(٢) ، ويَميلُ إِلى مذاهبِ

__________________

(١) حكاه الطبرسي في اعلام الورى: ٢٨٤، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٧: ٢٤٢.

(٢) الحشوية: هم القائلون ان علياً وطلحة والزبير لم يكونوا مصيبين في حربهم وأن المصيبين هم الذين قعدوا عنهم، وأنهم يتولونهم جميعاً ويتبرؤون من حربهم ويردون امرهم الى الله عز وجل

٢١٠

المُرْجِئةِ (١) ، وادّعى بعدَ أبيه الأمامة، واحتَجٌ بأَنّه أكبرُ إِخوته الباقينَ، فاتّبعه على قوله جماعةٌ من أَصحاب أَبي عبدِاللهِّعليه‌السلام ثمّ رجعَ أكثرُهم بعدَ ذلكَ إِلى القولِ بإِمامةَِ أخيه موسىعليه‌السلام لمّا تبيّنوا ضعفَ دعواه، وقوّةَ أمرِ أبي الحسنِعليه‌السلام ودلالة حَقِّه وبراهين إِمامتِه؛ وأقامَ نفرٌ يسير منهم على أَمرِهم ودانوا بإِمامةِ عبدِاللهِّ، وهم الطّائفةُ الملقّبةُ بالفطحِيّة، وأنّما لزمَهم هذا اللقبُ لقولهم بإِمامةِ عبدِاللهِ وكانَ أفَطحَ الرِّجْلين، ويُقالُ إِنّهم لُقِّبوا بذلكَ لأنّ داعِيَتَهم إِلى إِمامةِ عبدِاللهِ كانَ يُقالُ له عبدُاللهِّ بنَ أفطحَ.

وكانَ إِسحاقُ بنُ جعفرٍ من أَهلِ الفضلِ والصّلاحِ والوَرَع وِالاجتهادِ، وروى عنه النّاسُ الحديثَ والآثارَ، وكانَ ابن كاسبٍ إِذا حَدَّثَ عنه يقولُ: حدّثَني الثِّقةُ الرّضِيُ إِسحاقُ بنُ جعفرٍ. وكانَ إِسحاقُ يقولُ بإِمامةِ أَخيهِ موسى بن جعفرٍعليه‌السلام ، وروى عن أَبيه النّصَّ بالإمامةِ على أَخيه موسىعليه‌السلام (٢) .

وكانَ محمّدُ بنُ جعفرٍ شجاعاً سخيّاً، وكانَ يصومُ يوماً ويُفْطِرُ يوماً، ويَرى رأْيَ الزّيديّةِ في الخروجِ بالسّيفِ.

ورُوُيَ عن زوجتهِ خديجةَ بنتِ عبدِاللهِ بنِ الحسينِ أَنّها قالتْ: ما

__________________

«فرق الشيعة: ١١٥ ».

(١) المرجئة: هم القائلون بأن أهل القبلة كلهم مؤمنون باقرارهم الظاهر بالايمان، ويؤخرون العمل عن النية ويرجون المغفرة للمؤمن العاصي. «فرق الشيعة: ٦».

(٢) حكاه الطبرسي في اعلام الورى: ٢٩٠، وياتي هنا في باب النص على الامام موسى بن جعفرعليهما‌السلام .

٢١١

خَرجَ من عندِنا محمّدٌ يوماً قطُّ في ثوبٍ فرجعَ حتّى يكسُوَه(١) ، وكانَ يَذبَحَ في كل يومٍ كَبْشاً لأضيافِه.

وخرجَ على المأْمونِ في سنةِ تسع وتسعينَ ومائةٍ بمكّةَ، واتّبَعَتْه الزّيديّةُ الجاروديّةً، فخرجَ لقتالِه عيسى الجَلوديُّ ففرّقَ جمعَه وأَخذَه وأَنفذَه إِلى المأْمونِ، فلمّا وصلَ إِليه أكرمَه المأْمونُ وأَدنى مجلسَه منه ووَصَلَه وأَحسنَ جائزتَه، فكانَ مُقيماً معَه بخراسانَ يركبُ إِليه في موكبٍ من بني عمّه، وكانَ الماْمونُ يحَتملُ منه ما لا يَحتملُه السُلطان من رعيّتهِ.

وروي:أَنّ المأْمونَ أنكرَ ركوبَه إِليه في جماعةٍ منَ الطّالبيِّينَ الذينَ خرجوا على المأْمونِ في سنة المِائَتَيْنِ فآمَنَهم، فخرجَ التّوقيعُ إِليهم: لا تَركبوا معَ محمّدِ ابنِ جعفرٍ واركَبوا مع عُبَيْداللهِ بنِ الحسينِ، فاَبَوْا أَن يَركبوا ولزِموا منازلَهم، فخرجَ التّوقيعُ: اركَبوا معَ من أَحببتم ؛ فكانوا يَركبونَ معَ محمّدِ بنِ جعفرٍ إذا رَكِبَ إِلى المأْمونِ ويَنصرفونَ بانصرافِه(٢) .

وذُكِرَ عن موسى بن سَلمةَ أنّه قالَ: أُتِيَ إِلى محمّدِ بنِ جعفرفقيلَ له: إِنّ غلمانَ ذي الرٌئاستينِ قد ضَربوا غلمانَكَ على حَطَبِ اشترَوْه، فخرج مُؤتزِراً ببُردتينِ معَه هِراوة وهو يَرتجزُ ويقولُ:

الْمَوتُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ عَيْشٍ بِذلّ

__________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٥٣٨، تاريخ بغداد ٢: ١١٣، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٧: ٢٤٣.

(٢) اشار الى ذلك ابو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين: ٥٣٧، وحكاه الطبرسي في اعلام الورى:٢٨٥.

٢١٢

وتَبِعَه النّاس حتّى ضَربَ غلمانَ ذي الرِّئاستينِ وأَخذَ الحَطَبَ منهم. فرُفِعَ الخبرُ إِلى المأْمونِ، فبَعثَ إِلى ذي الرِّئاستينِ فقالَ له: ائتِ محمّدَ بنِ جعفرٍ فاعْتَذِرْ إِليه، وحَكِّمْه في غِلمانِكَ. قالَ: فخرَجَ ذو الرئاستينِ إِلى محمّدِ بنِ جعفرِ. قال موسى بن سَلَمَةَ: فكنت عندَ محمّدِ بن جعفرٍ جالساً حتّى أُتيَ فقيلَ له: هذا ذو الرِّئاستينِ، فقالَ: لا يجلسُ إلّا على الأرض ؛ وتَناولَ بَساطاً كانَ في البيتِ فرَمى به هو ومن معَه ناحيةً، ولم يبق في البيتِ إِلّا وسادة جلسَ عليها محمّدُ بنُ جعفرٍ، فلمّا دخلَ عليه ذو الرِّئاستينِ وسّعَ له محمّدٌ على الوسادةِ فأَبى أَن يَجلسَ عليها وجلسَ على الأرضِ، فاعتذرَ إِليه وحَكَّمَه في غلمانِه(١) .

وتُوفِّي محمّدُ بنُ جعفرٍ بخُراسانَ معَ المأمونِ، فرَكِبَ المأمونُ ليَشْهَدَه فَلقِيَهم وقد خرجوا به، فلمّا نظرَ إِلى السّرير ِنزلَ فترجَّلَ ومشى حتّى دخلَ بينَ العمودَيْنِ، فلم يَزَلْ بينَهما حتّى وُضِعَ فتقدّمَ وصلّى ثمّ حملَه حتّى بلغَ به القبرَ، ثمّ دخلَ قبرَه فلم يَزَلْ فيه حتّى بُنيَ عليه، ثمّ خرجَ فقامَ على القبر حتّى دُفِنَ، فقال له عًبيدُالله بن الحسينِ ودعا له: يا أميرَالمؤمنينَ، إنّكَ قد تعبتَ فلو رَكِبْتَ ؛ فقالَ المأمونُ: إِنّ هذه رحم قُطِعَتْ من مِائَتَيْ سنةٍ.

ورُوِيَ عن إِسماعيلِ بنِ محمّدِ بنِ جعفرِأَنّه قالَ: قلتُ لأخي - وهو إِلى جنبي والمأمونُ قائم على القبر -: لو كلّمناه في دَينِ الشّيخِ، فلا نَجِدُه أقربَ منه في وقتِه هذا؛ فابتدأنَا المأمونُ فقالَ: كمْ تركَ أَبوجعفرمنَ الدَّينِ؟ فقلتُ: خمسةً وعشرينَ أَلفَ دينارٍ؛ فقالَ: قد قَضى اللهُ عنه دينَه ؛ إِلى مَنْ أَوصى؛ قلنا: إلى ابنٍ له يقالُ له يحيى بالمدينةِ؛ فقالَ: ليس

__________________

(١) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٧: ٢٤٤.

٢١٣

هوبالمدينةِ، وهوبمصرَ، وقد عَلِمْنا بكونه فيها، ولكنْ كَرِهْنا أَن نُعْلِمَه بخروجِه منَ المدينةِ لئلا يسوءه ذلكَ لعلمِه بكراهتِنا لخروجِه عنها(١) .

وكانَ عليُّ بنُ جعفرٍ - رضيَ اللهُ عنه - راويةً للحديثِ، سديدَ الطّريقِ، شديدَ الوِرَعَِ، كثيرَ الفضلِ؛ ولزمَ أَخاه موسىعليه‌السلام وروى عنه شيئاً كثيراً.

وكانَ العبّاسُ بنُ جعفرٍ - رضيَ اللهُّ عنه - فاضلاً نبيلاً.

وكانَ موسى بن جعفرٍعليه‌السلام أَجلَّ ولدِ أَبي عبدِاللهِعليه‌السلام قَدْراً وأَعظمهَم محلاً، وأَبعدَهم في النّاسِ صِيْتاً، ولم يرَ في زمانِه أسخى منه ولا أَكرمُ نفساً وعِشْرةً، وكانَ أَعبدَ أَهلِ زمانِه وأَورعَهم وأَجلَّهم وأفقهَهم، واجتمعَ جمهورُ شيعةِ أبيه على القولِ بامامتِه والتّعظيمِ لحقِّه والتسليمِ لأمرِه.

ورووا عن أَبيهعليه‌السلام نصوصاً عليه بالإمامةِ، واشاراتٍ إِليه بالخلافةِ، وأَخذوا عنه معالِمَ دينِهم، ورَوَوْا عنه منَ الآياتِ والمُعجزات ما يُقْطَعُ به على حجّتهِ وصوابِ القولِ بإِمامتِه.

__________________

(١) نقله العلامة المجلسي في البحار ٤٧: ٢٤٤.

٢١٤

باب ذكر الإمامِ القائمِ بعدَ أَبي عبدِاللهِ جعفرِ بنِ محمّد عليهما السّلامُ

من ولدِه، وتاريخ مولدِه، ودلالِ إمامتِه، ومبلغ سنِّه،

ومدّة خلافتهِ، ووقت وفاتِه وسببها، وموضع

قبرِه، وعدد أَولادِه، ومختصر من أَخبارِه

وكانَ الإمامُ - كما قَدّمْناه - بعدَ أَبي عبدِاللهِ ابنَه أَبا الحسنِ موسى ابنَ جعفرٍ العبدَ الصّالحَعليه‌السلام ، لاجتماع خِلالِ الفضلِ فيه والكمالِ، ولنصِّ أَبيه بالإمامةِ عليه وإشارتهِ بها إِليه.

وكانَ مولدهعليه‌السلام بالأبواء ِ(١) سنةَ ثمانٍ وعشرينَ ومائةٍ.

وقُبِضَعليه‌السلام ببغدادَ في حَبْسِ السِّنْديِّ بنِ شَاهَكَ لستٍّ خَلَوْنَ من رجبٍ سنةَ ثلاثٍ وثمانينَ ومائةٍ، وله يومئذٍ خمسٌ وخمسونَ سنةً.

وأُمًّه أُمُّ ولد يقالُ لها: حُمَيْدَةُ البَرْبَريّةُ.

وكانتْ مُدّةُ خلافتِه ومقامه في الإمامةِ بعدَ أبيهعليهما‌السلام خمساً وثلاثينَ سنةً.

وكان يُكنى أَبا إبراهيمَ وأَبا الحسنِ وأَبا عليٍّ، ويُعرَفُ بالعبدِ

__________________

(١) الأبواء: قرية من اعمال الفُرْع من المدينة، بينها وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً «معجم البلدان١: ٧٩».

٢١٥

الصّالحِ، وُينْعَتُ أَيضاً بالكاظِمِ.

فصل في النّصِّ عليه بالإمامةِ من أَبيه عليهما السّلامُ

فمِمَّن روى صريحَ النّصِّ بالإمامةِ من أَبي عبدِاللهِ الصّادقِعليه‌السلام على ابنهِ أَبي الحسنِ موسىعليه‌السلام من شيوخ أَصحاب أَبي عبدِاللهِ وخاصّتهِ وبطانتهِ وثِقاتِه الفقهاءِ الصّالحينَ - رضوانُ اللهِّ عليهم - المُفَضَّلُ بنُ عُمَرَ الجُعْفِيّ، ومَعاذُ بنُ كثيرٍ، وعبدُ الرحمن بن الحجّاجِ، والفَيْضُ بنُ المختارِ، ويعقوبُ السَرّاجُ، وسليمانُ بنً خالدٍ، وصَفْوانُ الجمّال، وغيرهم ممّن يطولُ بذكرِهم الكتابُ(١) .

وقد رَوى ذلكَ من إِخوتهِ إِسحاقُ وعليّ ابنا جعفرٍ وكانا منَ الفضلِ والوَرَعِ على ما لا يَختلفُ فيه اثنان.

فروى موسى الصّيْقلُ، عنِ المُفَضّلِ بنِ عُمَر َرحمه‌الله قالَ: كنتُ عندَ أَبي عبدِاللهِّعليه‌السلام فدخلَ أَبو إِبراهيمَ موسىعليه‌السلام - وهوغلامٌ - فقالَ لي أَبو عبدِاللهِّ: «استَوْصِ به، وضَعْ أَمرَه عندَ من تَثِقُ به من

__________________

(١) ياتي تفصيل روايات هؤلاء بنفس الترتيب المذكور هنا، لكن قد ذكر بعد رواية الفيض ابن المختار رواية منصور بن حازم وعيسى بن عبدالله بن محمد بن عمر بن علي بن ابي طالب وطاهربن محمد، ثم يذكر رواية يعقوب السراج وغيره ممن ذكروا هنا، والمناسب ذكر منصور بن حازم ومن بعده هنا كما هو المعهود في سائر الابواب، ولا يبعد وقوع سهو هنا في عدم ذكرهم.

٢١٦

أَصحابِكَ »(١) .

وروى ثُبيت، عن معاذِ بنِ كثيرٍ، عن أَبي عبدِاللهِعليه‌السلام قالَ: قلتُ: أَسأَل اللهَ الّذي رزقَ أَباكَ منكَ هذه المنزلَة، أَنْ يَرزُقَكَ من عَقِبكَ قبلَ المماتِ مثلَها، فقالَ: « قد فعلَ الله ذلكَ » قلتُ: من هوجُعِلْت فداكَ؟ فأَشارَ إِلى العبدِ الصّالحِ وهو راقدٌ، قالَ: « هذا الرّاقدُ» وهو يومئذٍ غلامٌ(٢) .

وروى أَبو عليٍّ الأرجانيُّ عن عبدِ الرحمن بنِ الحجّاجِ قالَ: دخلتُ على جعفرِ بنِ محمّدٍعليهما‌السلام في منزلِه، فإِذا هوفي بيتِ كذا من دارِه في مسجدٍ له، وهو يدعو وعلى يمينهِ موسى بن جعفرٍعليهما‌السلام يُؤَمِّنُ على دعائه، فقلتُ له: جعلَني اللهُّ فداكَ، قد عرفتَ انقطاعي إِليكَ وخدمتي لكَ، فمن وليًّ الأمرِ بعدكَ؟ قال: «يا عبدَ الرحمن، إِنّ موسى قد لبسَ الدِّرعَ واستوتْ عليه » فقلت له: لا أَحتاجُ بعدَها إِلى شيءٍ(٣) .

وروى عبدُ الأعلى، عنِ الفيضِ بنِ المختارِ قالَ: قلتُ لأبي عبدِاللهِعليه‌السلام : خُذْ بيدي منَ النّارِ، مَنْ لنا بعدَك؟ قالَ: فدخلَ أَبو إِبراهيمَ - وهو يومئذٍ غلامٌ - فقالَ: «هذا صاحبُكم فتمسك به »(٤) .

__________________

(١) الكافي ١: ٢٤٦ / ٤، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨: ١٧ / ١٣.

(٢) الكافي ١: ٢٤٥ / ٢، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨: ١٧ / ١٥.

(٣) الكافي ١: ٢٤٥ / ٣، الفصول المهمة: ٢٣١، ونقله المجلسي في البحار ٤٨: ١٧ / ١٧.

(٤) الكافي ١: ٢٤٥ / ١، الفصول المهمة: ٢٣١، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨: ١٨ / ١٨.

٢١٧

وروى ابنُ أَبي نَجرانَ، عن منصورِ بنِ حازم قالَ: قلتُ لأبي عبدِاللهعليه‌السلام : بأَبي أَنتَ وأُمِّي، إِنّ الأنفسَ يُغدى عليها ويُراحُ، فإِذا كانَ ذلكَ فمَنْ؟ فقالَ أَبو عبدِاللهِعليه‌السلام : «إِذا كانَ ذلكَ فهو صاحبُكم » وضربَ على مَنْكِب أَبي الحسنِ الأيمن، وهو فيما أعلمُ يومئذٍ خماسيٌّ، وعبدُاللهِّ بن جعفرٍ جاَلسٌ معَنا(١) .

وروى ابن أَبي نَجرانَ، عن عيسى بن عبدِاللهِ بنِ محمّدِ بنِ عمر بن عليِّ بنِ أَبي طالبِ، عن أَبي عبدِاللهِعليه‌السلام ؛ قالَ: قلتُ له: إن كانَ كَوْنٌ - ولا أَراني اللهُ ذلكَ - فبمن أئتمُّ؟ قالَ: فأَوما إِلى ابنهِ موسى، قلتُ: فإِن حَدَثَ بموسى حَدَثٌ، فبمن أَئتمُّ؟ قالَ: «بولدِه » قلتُ: فإِن حَدَثَ بولدِه حَدَثٌ؟ قالَ: «بولدِه » قلتُ: وإن حَدَثَ به حَدَثٌ وتركَ أَخاً كبيراً وابناً صغيراً؟ قال: «بولدِه، ثمّ هكذا أَبداً»(٢) .

وروى الفضلُ، عن طاهرِ بنِ محمّدٍ، عن أَبي عبدِاللهِّعليه‌السلام ، قالَ: رأَيتُه يلومُ عبدَاللهِ ابنَه ويَعِظُه ويقولُ له: «ما يَمنعُكَ أَن تكونَ مثلَ أخيكَ؟! فواللهِ إِنِّي لأعرف النُّورَ في وجهِه » فقالَ عبدُاللهِ: وكيفَ؟ أَليس أَبي وأبوه واحداً، وأَصلي وأَصلهُ واحداً؟ فقالَ له أَبو عبدِاللهِعليه‌السلام : «إِنّه من نفسي وأَنتَ ابني »(٣) .

__________________

(١) الكافي ١: ٦ / ٢٤٦، الفصول المهمة: ٢٣٢، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨: ١٨ / ٢٠.

(٢) الكافي ١: ٢٤٦ / ٧، وباختلاف يسير في كمال الدين: ٣٤٩ / ٤٣، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨: ١٦ / ١١.

(٣) الكافي ١: ٢٤٧ / ١٠، الامامة والتبصرة: ٢١٠ / ٦٣، وفيهما: فضيل، عن طاهر، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨: ١٨ / ٢٢.

٢١٨

وروى محمّدُ بنُ سِنانٍ، عن يعقوبَ السّرّاجِ قالَ: دخلتُ على أَبي عبدِاللهِّعليه‌السلام وهو واقفٌ على رأْسِ أَبي الحسنِ موسى وهو في المهدِ، فجعلَ يُسارُّه طويلاً، فجلستُ حتّى فرغَ فقمتُ إِليه، فقالَ لي: «ادنُ إِلى مولاكَ فسلِّمْ عليه » فدنوتُ فسلّمتُ عليه، فردَّ عَلَيَّ بلسانٍ فصيحٍ ثمّ قالَ لي: «اذهَبْ فغيِّرِ اسمَ ابنتِكَ الّتي سمَّيْتَها أَمسِ، فإنّه اسمٌ يُبغضه اللهُ » وكانتْ وُلدتْ لي بنتٌ فسمّيْتُها بالحُمَيراءِ، فقالَ أَبو عبدِاللهِ: «انْتَهِ إِلى أَمره تَرْشدْ» فغيّرتُ اسمها(١) .

وروى ابنُ مًسْكانَ، عن سُليمان بن خالدٍ قالَ: دعا أَبو عبدِاللهِ أَبا الحسنِعليهما‌السلام يوماً ونحن عندَه فقالَ لنا: «عليكم بهذا بعدي، فهو واللهِ صاحبُكم بعدي »(٢) .

وروى الوَشاءُ، عن عليِّ بنِ الحسينِ، عن صَفوانَ الجّمالِ قالَ: سأَلتُ أَبا عبدِاللهِّعليه‌السلام عن صاحب هذا الأَمرِ فقالَ: «صاحبُ هذا الأمرِ لا يَلهو ولا يَلعبُ » فأَقبلَ أَبو الحسنَعليه‌السلام ومعَه بَهْمَةٌ(٣) له، وهو يقولُ لها: «اسجُدي لربِّكِ » فأَخذَه أَبو عبدِاللهِعليه‌السلام وضمَّه إِليه وقالَ: «بأَبي وأُمِّي، من لا يَلهو ولا يَلعبُ »(٤) .

وروى يعقوبُ بنُ جعفرٍ الجعفريّ قالَ: حدّثَني إِسحاقُ بنُ جعفر

__________________

(١) الكافي ١: ٢٤٧ / ١١، دلائل الامامة: ١٦١، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨:١٩ / ٢٤.

(٢) الكافي ١: ٢٤٧ / ١٢، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨: ١٩ / ٢٥.

(٣) يقال لأولاد الغنم ساعة تضعها - من الضان والمعز جميعاً، ذكراً كان أو أنثى -: سخلة ثم هيّ البَهْمة. «لسان العرب - بهم - ١٢: ٥٦ ».

(٤) الكافي ١: ٥٤٨ / ١٢، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨: ١٩ / ٢٧.

٢١٩

الصّادقِ قالَ: كنتُ عندَ أبي يوماً فسأَلهَ عليُّ بنُ عمر بن عليٍّ فقالَ: جُعِلْتُ فِداكَ، إِلى مَنْ نَفْزَعُ ويَفزعُ النّاس بعدَك؟ فقالَ: «إِلى صاحب هذَيْنِ الثّوبينِ الأصفرينِ والغَدِيرتَينِ(١) ، وهو الطّالعُ عليكَ منَ الباب » قال: فما لَبِثْنا أَن طَلعَتْ علينا كفّانِ آخِذتانِ بالبابينِ حتّى انفتَحا، ودخَلَ علينا أبو إِبراهيمَ موسىعليه‌السلام وهو صبيٌّ وعليه ثوبانِ أَصفرانِ(٢) .

وروى محمّد بن الوَليدِ قالَ: سمعتُ عليَّ بنَ جعفرِ بنِ محمّدٍ الصّادقِعليه‌السلام يقولُ: سمعت أَبي - جعفرَ بنَ محمّدٍ - يقولُ لجماعةٍ من خاصتهِ وأَصحابِه: «استَوْصُوْا بابني موسى خيراً، فإِنّه أَفضلُ ولدي ومن أُخلِّفُ من بعدي، وهو القائمُ مَقامي، والحجّةُ للّهِ تعالى على كافّةِ خلقِه من بعدي »(٣) .

وكانَ عليُّ بنُ جعفرٍ شديدَ التّمسُّكِ بأَخيه موسى والانقطاعِ إِليه والتّوفّرِ على أَخْذِ معالمِ الدَينِ منه، وله مسائلُ مشهورةٌ عنه وجواباتٌ رواها سماعاً منه.

والأخبارُ فيما ذكرْناه أَكثرُ من أَن تُحصى على ما بيّنّاه ووصفْناه.

__________________

(١) الغديرة: الذؤابة التي تسقط على الصدر. «لسان العرب - غدر - ٥: ١٠ » والذؤابة: هي العقيصة والمضفور من شعر الرأس. «لسان العرب - ذأب - ١: ٣٧٩».

(٢) الكافي ١: ٢٤٦ / ٥، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨: ٢٠ / ٢٩.

(٣) حكاه الطبرسي في إعلام الورى: ٢٩١، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٨: ٢٠ / ٣٠.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563