الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد6%

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 563

الجزء ١ المقدمة الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 563 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 185521 / تحميل: 10214
الحجم الحجم الحجم
الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

صلى‌الله‌عليه‌وآله وأسَنَ، وكانَ جليلَ القدرِ كريمَ الطّبعِ ظَلِفَ النّفسِ(١) ثيرَ البِرِّ، ومدحَه الشّعراءُ وقصدَه النّاسُ منَ الآفاقِ لطلبِ فضلهِ.

فذكرَ أصحابُ السِّيرِة: أنّ زيدَ بنَ الحسنِ كانَ يلي صدقاتِ رسولِ اللهِّصلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا وُلِّيَ سليمانُ بنُ عبدِ الملكِ كتبَ إِلى عاملِه بالمدينةِ: أمّا بعدُ فإِذا جاءَكَ كتابي هذا، فاعزِلْ زيداً عن صدقاتِ رسولِ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله وادفَعْها إِلى فلانِ ابنِ فلانٍ - رجل من قومِه - وأعِنْه على ما استعانَكَ عليهِ، والسّلامُ.

فلما استُخْلِفَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ إِذا كتابٌ قد جاءَ(٢) منه: أمّا بعدُ فإنّ زيدَ بنَ الحسنِ شريفُ بني هاشمٍ وذوسِنِّهم، فإِذا جاءَكَ كتابي هذا فاردُدْ اليه صدقاتِ رسولِ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله واعِنْه على ما استعانَكَ عليه، والسّلامُ(٣) .

وفي زيدِ بنِ الحسنِ يقولُ محمّدُ بنُ بَشيرٍ الخارِجيُّ:

إِذَا نَزَلَ ابْنُ المُصْطَفَى بَطْنَ تَلْعَةٍ(٤)

نَفَى جَدْبَهَا وَاخْضَرَّ بِالنَّبْتِ عُوْدُهَا

وَزيدٌ رَبِيْعُ النَّاسِ فيْ كُلِّ شَتْوة

إِذَا أخْلـفَتْ أنـوَاؤُهَا(٥) وَرُعوْدُهـا

__________________

(١) ظلف النفس: عزيزها. «الصحاح - ظلف - ٤: ١٣٩٩».

وفي «م»! وهامش «ش»: ظريف النفس.

(٢) في هامش «ش» و «م»: ورد.

(٣) ذكر الذهبي استخلاف عمر بن عبد العزيز لزيد بن الحسن على الصدقات. انظر سير اعلام النبلاء ٤: ٤٨٧ / ١٨٦، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ١٦٣ / ٢.

(٤) التلعة: مسيل ماء من أعلى الأرض الى بطن الوادي «الصحاح - تلع - ٣: ١١٩٢ ».

(٥) الأنواء: جمع نوء، وهوسقوط نجم وطلوع نجم، وكانت العرب تنسب المطر الى الأنواء، فتقول: مطرنا بنوء كذا. «مجمع البحرين - نوأ - ١: ٤٢٣ ». وفي هامش «ش»: »:

٢١

حَمُوْلٌ لأشْنَاقِ(١) الدِّيَاتِ كَأنَّهُ

سِرَاجُ الدُّجَىِ إِذْ قَارَنته سُعُوْدُهَا(٢)

وماتَ زيد وله تسعونَ سنة، فرثَاه جماعةٌ منَ الشُّعراءِ وذكروا مآثره وبكَوا فضلَه، فممّن رثاه قُدامةُ بنُ موسى الجُمَحِيّ فقالَ:

فَإِنْ يَكُ زَبْدٌ غَالَتِ الأرْضُ شَخْصَهُ

فَقَدْ بَانَ مَعْرُوْف هُنَاكَ وَجُوْدُ

وانْ يك أمسى رهنَ رَمْسٍ فقد ثَوَى

بهِ وَهْوَ مَحموْدُ الْفعَالِ فَقِيْدُ

سَمِيْعٌ إِلىَ المُعْتَرّ يَعْلَمُ أنَهُ

سًيَطْلُبُهُ اْلمَعْرُوْفَ ثُمَّ يَعُوْدُ

وَلَيْسَ بِقَوَّالٍ وَقَد ْحَطَّ رَحْلَه

لِمُلْتَمِسِ اْلمَعْرُوْفِ أيْنَ تُرِيْدُ

إِذَا قَصَّرَ الْوَغْد الدَّنيُّ نَمَا بِهِ

إِلَى اْلمَجْدِ ابَاءٌ لَهُ وَجدُوْدُ

مَبَاذِيْلُ لِلْمَوْلىَ مَحَاشِيْدُ لَلْقِرَى

وَفي الرَّوْعِ عِنْدَ النَّائِبَاتِ أُسُودُ

إِذَا انْتُحِلَ الْعِزُّالطَّرِيْفُ فَإِنَّهُمْ

لَهُم إِرْثُ مَجْدٍ مَا يُرَامُ تَلِيْدُ

إِذَا مَاتَ مِنْهًمْ سَيِّدٌ قَامَ سَيِّدٌ

كَرِيْمٌ يُبَنِّيْ بَعْدَهُ ويَشِيْدُ(٣)

في أمثالِ هذا ممّا يطولُ به الكتاب.

وخرجَ زيدُ بنُ الحسنِ رضيَ اللهُ عنه منَ الدُّنيا ولم يدَعِ الأمامةَ، ولا ادَّعاها له مُدَّعٍ منَ الشِّيعةِ ولا غيرهم، وذلكَ أنَّ الشِّيعةَ رجلانِ: إِمامّي

__________________

الأنواء منازل القمر.

(١) في هامش «ش» و «م»: الاشناق: ما دون الديات، مثل أروش الجراحات، والشنق أيضاً في الزكاة: ما دون النصاب.

(٢) ذكره البلاذري في أنساب الأشراف ٣: ٧٢ / ٨٤ عدا البيت الاول.

(٣) ذكر البلاذري البيت الأول فقط ٣: ٧٢ و ٧٣، وذكر محقق أنساب الأشراف الشيخ المحمودي عن تاريخ دمشق لابن عساكرج ٦: ٣٠٢ ب القصيدة كاملة.

٢٢

وزيديّ، فالأماميُّ يَعتمدُ في الإِمامةِ النُّصوصَ، وهي معدومة في ولدِ الحسنِعليه‌السلام باتِّفاق، ولم يدَّعِ ذلكَ أحدٌ منهم لنفسهِ فيقع فيه ارتيابٌ.

والزّيديُّ يُراعي في الأمامةِ بعدَ عليٍّ والحسنِ والحسينِعليهم‌السلام الدعوةَ والجهادَ، وزيدُ بن الحسنِ رحمةُ اللهِ عليهِ كانَ مُسالِماً لبني أُميّةَ ومُتقلِّداً من قِبَلِهم الأعمالَ، وكان رأْيُه التّقيَّةَ لأعدائه والتألُّفَ لهم والمداراةَ، وهذا يُضادُّ عندَ الزّيديّةِ علاماتِ الأمامةِ كما حَكَيْناه.

فأمّا الحَشْويّة فإِنّها تَدينُ بامِامةِ بني أُمَّيَةَ، ولا ترى لولدِ رسولِ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله إمامةً على حالٍ.

والمُعتزلةُ لا ترى الأمامةَ إلاٌ فيمن كانَ على رأيِها في الاعتزالِ، ومن تَوَلَّوا - هم - العقدَ له بالشورى والاختيار، وزيدٌ على ما قدّمْنا ذكرَه خارج عن هذه الأحوال.

والخوارجُ لا ترى إِمامةَ من تولىّ أميرَ المؤمنينَ عليَّ بنَ أبي طالبٍعليه‌السلام ، وزيدٌ كانَ متولِّياً أباه وجدّه بلا اختلافٍ.

فصل

فأمّا الحسنُ بنُ الحسنِ فكانَ جليلاً رئيساً فاضلاً وَرِعاً، وكانَ يَلي صدقاتِ أميرِ المؤمنينَعليه‌السلام في وقتِه، وله معَ الحَجَّاجِ خبرٌ رواه الزُّبيرُ بنُ بكّارٍ قالَ: كانَ الحسنُ بنُ الحسنِ والياً صدقاتِ أميرِ المؤمنينَعليه‌السلام في عصرِه، فسايرَ يوماً الحَجَّاجَ بنَ يوسفَ في موكبِه - وهو إِذْ ذاكَ أمير المدينةِ - فقالَ له الحَجَّاجُ: أدْخِلْ

٢٣

عُمَرَ بنَ عليٍّ معَكَ في صدقةِ أبيه، فإِنّه عمُكَ وبقيّةُ أهلِكَ، فقالَ له الحسنُ: لا أُغيّرُشرطَ عليٍّ ولا أُدْخِلُ فيها من لمِ يُدْخِلْ، فقالَ له الحَجَّاجُ: إِذاً أُدْخِله أنا معَكَ.

فنكصَ الحسنُ بنُ الحسنِ عنه ( حتّى غفلَ )(١) الحَجَّاجُ، ثمّ توجّهَ إِلى عبدِ الملكِ حتّى قَدِمَ عليه فوقفَ ببابهِ يَطلُبُ الإذن، فمرّ به يحيى بن أُمِّ الحَكَمِ فلمّا رآه يَحيى مالَ إِليه وسلّمَ عليه وسألَه عن مَقدَمِه وخبرِه، ثمَّ قالَ: إِنِّي سأنفعُكَ عندَ أميرِ المؤمنينَ - يعني عبدَ الملكِ - فلمّا دخلَ الحسنُ ابنُ الحسنِ على عبدِ الملكِ رَحّبَ به وأحسنَ مُسَاءَلَتَه، وكانَ الحسنُ قد أسرعَ إليه الشَّيبُ، ويَحيى بن أُمِّ الحكمِ في المجلسِ، فقالَ له عبدُ الملكِ: لقد أسرعَ إليكَ إليكَ الشيبُ يا با محمّدٍ، فقالَ يَحيى: وما يمنعُه يا أمير المؤمنينَ؟ شيَّبَه أمانيُّ أهلِ العراقِ، يَفِدُ(٢) عليه الرّكبُ يُمَنُّونَه الخلافةَ. فأقبلَ عليه الحسنُ فقالَ: بئْسَ والله الرِّفدُ رَفَدْتَ، لست(٣) كما قلتَ، ولكنّا أهلُ بيتٍ يُسرعُ إِليناَ الشَّيبُ. وعبدُ الملكِ يَسمعُ، فأقبلَ عليه عبدُ الملكِ فقالَ: هلّم بما(٤) قدمتَ له، فاخبرهَ بقولِ الحجّاج فقالَ: ليس ذلكَ له، أكْتُبُ إِليه كتاباً لا يتجاوزه. فكتبَ إِليه ووصلَ الحسنَ بنَ الحسنِ فأحسنَ صِلَتَه.

فلمّا خرجَ من عندِه لَقِيَه يَحيى بن أُمِّ الحكمِ، فعاتبَه الحسن على

__________________

(١) كذا في النسخ الثلاث، لكن في هامش «ح » والبحار: حين غفل، والظاهر ان الصحيح: حتى قفل - بالقاف - أي رجع. انظر مختصر تاريخ دمشق ٦: ٣٣٠.

(٢) في «م» وهامش «ش»: يغدو.

(٣) في هامش «ش»: ليس.

(٤) في «م» وهامش «ش»: ما.

٢٤

سوء مَحْضَرِه وقالَ له: ما هذا الّذي وعدْتَني به؟ فقالَ له يَحيى: إِيهاً عنكَ، فواللهِ لا يَزالُ يَهابُكَ، ولولا هَيْبَتُكَ ما قضى لكَ حاجةً، وما ألَوْتُكَ رِفْداً(١) .

وكانَ الحسنُ بنُ الحسنِ حضرَمعَ عمِّه الحسينِ بنِ عليٍّعليهما‌السلام الطّفَّ، فلما قُتِلَ الحسينُ وأسِرَ الباقونَ من أهلِه، جاءه أسماءُ بنُ خارِجةَ فانتزعَه من بينِ الأسرى وقالَ: واللّهِ لا يُوصَلُ إِلى ابن خَوْلَةَ أبداً، فقالَ عُمَرُ بنُ سعدٍ: دَعُوا لأبي حَسَّان ابنَ أُختِه. ويُقالُ إِنّه أُسِرَ وكانَ به جِراح قد أشفى منها.

ورُويَ:أنّ الحسنَ بنَ الحسنِ خطبَ إلى عمِّه الحسينِعليه‌السلام إحدى ابنتيه، فقالَ له الحسينُ: «اختَرْ يا بُنيَّ أحبَّهُما إِليكَ » فاستحيا الحسنُ ولم يُحرْ جواباً، فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «فإِنِّي قدِ اخترتُ لكَ ابنتي فاطَمةَ، وهي أكثرُهما شبهاً بأُمِّي فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِما»(٢) .

وقُبضَ الحسنُ بنُ الحسنِ رضوانَ اللهِ عليه وله خمسُ وثلاثونَ سنةً وأخَوه زيدُ بنُ الحسنِ حيُّ، ووصّى إِلى أخيه من أُمِّه إِبراهيم بن محمّدِ بنِ طلحةَ.

__________________

(١) وذكر البلاذري في انساب الاشراف ٣: ٧٣ / ٨٥ الخبر مختصراً، وكذا الذهبي في سير أعلام النبلاء ٤: ٤٨٥، وفي هامش السير نقله عن مصعب الزبيري في نسب قريش: ٤٦، ٤٧، وتاريخ دمشق لابن عساكر ٤: ٢١٨ آ، ب، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ١٦٦.

(٢) مقاتل الطالبيين: ١٨٠، الأغاني ٢١: ١١٥، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ١٦٧ / ٣.

٢٥

ولمّا ماتَ الحسنُ بنُ الحسنِ رحمةُ اللهِّ عليه ضَرَبَتْ زوجتُه فاطمةُ بنتُ الحسينِ على قبرِه فسطاطاً، وكانتْ تقومُ الليلَ وتصومُ النّهارَ، وكانتْ تُشبَّهُ بالحورِ العينِ لجمالِها، فلمّا كانَ رأسُ السّنةِ قالتْ لمواليها: إِذا أظلمَ الليلُ فقَوِّضُوا هذا الفسطاطَ، فلمّا أظلمَ الليلُ سَمِعَتْ قائلاً يقول هَلْ وَجَدُوا ما فَقَدُوا؟ فاجابَه آخرُ: بَلْ يَئِسُوْا فانْقَلَبُوْا.

ومضى الحسنُ بنُ الحسنِ ولم يَدَّعِ الأمامةَ ولا ادّعاها له مُدَّعٍ، كما وصفْناه من حالِ أخيه زيدٍ رحمةُ اللّهِ عليهما.

وأمّا عَمْروٌ والقاسمُ وعبدُ اللهِ بنو الحسنِ بنِ عليّ رضوانُ اللهِ عليهم فإِنَّهم استُشْهِدُوا بينَ يَدَيْ عمِّهم الحسينِعليه‌السلام بالطّفِّ رضيَ الله عنهم وأرضاهم وأحسنَ عن الدِّينِ والإسلام وأهلهِ جَزاءهم.

وعبدُ الرّحمن بن الحسنِ رضيَ اللهُ عنه خرجَ معَ عمِّه الحسينِعليه‌السلام إِلى الحجِّ فتُوفِّيَ بالأبواءِ وهومُحْرِمٌ.

والحسينُ بنُ الحسنِ المعروفُ بالأثرم كانَ له فضلٌ ولم يكنْ له ذِكر في ذلك.

وطلحةُ بنُ الحسنِ كانَ جَواداً.

٢٦

باب ذكر الأمام بعدَ الحسنِ بنِ عليّ عليهما السّلامُ

وتارَيخ مولدِه، ودلائل إمامتهِ،

ومبلغ سنِّه، ومدّة خلافتِه، ووقت وفاتِه وسببها،

وموضع قبرِه، وعدد أولادِه، ومختصر من أخبارِه

والأمامُ بعدَ الحسنِ بنِ عليٍّعليهما‌السلام أخوه الحسينُ بنُ عليٍّ، ابنُ فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ صلّى اللّهُ عليهم بنصِّ أبيه وجَدِّه عليه، ووصيّةِ أخيه الحسنِ إِليه.

كنيتهُ أبو عبدِاللهِّ. وُلِدَ بالمدينةِ لخمسِ ليالٍ خَلَوْنَ من شَعبانَ سنةَ أربعٍ منَ الهجرةِ، وجاءتْ به أُمُّه فاطمةُعليهما‌السلام إِلى جَدِّهِ رسولِ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستبشرَ به وسمّاه حُسَيْنَاً وعَقَّ عنه كبشاً ؛ وهو وأخوه بشهادةِ الرّسولِ صلّى اللّهُ عليهِ وعليهما سيِّدا شبابِ أهل الجنّةِ، وبالاتِّفاقِ الّذي لا مِرْيَةَ فيه سِبطا نبيِّ الرّحمةِ.

وكانَ الحسنُ بنُ عليّعليهما‌السلام يُشبَّهُ بالنّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله من صدرِه إِلى رأْسِه، والحسينُ يُشبَّهُ به من صدرِه إِلى رجليه، وكانا حبيبَيْ رسولِ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من بينِ جميعِ أهلهِ وولدِه.

روى زَاذانُ عن سلمانَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله يقولُ في الحسنِ والحسينِعليهما‌السلام :

٢٧

«اللّهمَّ إِنِّي أُحِبُّهما فأحِبَّهما ( وأحِبَّ من أحبّهما )(١) »(٢) .

وقالَ عليهِ وآلهِ السّلامُ: «مَنْ أحَبَّ الحسنَ والحسينَ -عليهما‌السلام - أحْبَبْتُهُ، ومن أحْبَبْتُهُ أحبّه اللهُّ، ومن أحَبَّه اللهّ عزّ وجلّ أدْخَلَه الجنّةَ، ومن أبْغَضَهما أبْغَضْتُهُ، ومن أبْغَضْتُهُ أبْغَضَه اللهُ، ومن أبْغَضَهُ اللّهُ خَلَّدَه في النّارِ»(٣) .

وقالَ عليهِ وآلهِ السّلامُ: «إِنّ ابنيَّ هذينِ رَيحانتايَ مِنَ الدُّنيا»(٤) .

وروى زرُّ بنُ حُبَيْشٍ، عنِ ابنِ مسعودٍ قالَ: كانَ النّبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله يصُلِّي فجاءه الحسنُ والحسينُعليهما‌السلام فارْتَدَفاه، فلمّا رَفعَ رأسَه أخذَهما أخذاً رفيقاً، فلمّا عَادَ عادَا، فلما انصرفَ أجلسَ هذا على فخذِه وهذا على فخذِه، وقالَ: «مَنْ أحَبَّني فَلْيُحِبَّ هذينِ »(٥) .

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: وأحبب من يحبهما.

(٢) رواه الترمذي في سننه ٥: ٦٥٦ / ذح ٣٧٦٩ عن اسامة بن زيد، وابن الأثير في أُسد الغابة ٢: ١١، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٣: ٦٦٦ / ٣٧٦٩٧، ورواه ابن عساكر عن مسند حصين بن عوف الخثعمي في تاريخ دمشق - ترجمة الامام الحسينعليه‌السلام -: ٩٥ بدون جملة (وأحب من احبهما) فراجع هوامش الكتاب.

(٣) ذكره الحاكم النيسابوري في مستدركه ٣: ٦٦٦ باختلاف يسير، وابن عساكر في تاريخ دمشق - ترجمة الامام الحسينعليه‌السلام -: ٩٧ / ١٣١ و ٩٨ / ١٣٢، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب: ٤٢٢، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٢: ١١٩، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٣: ٢٧٥ / ٤٢.

(٤) ذكره البخاري في الصحاح ٥: ٣٣، باختلاف يسير، والترمذي في سننه ٥: ٦٥٦ / ٣٧٧٠، وابن عساكر في تاريخ دمشق - ترجمة الامام الحسينعليه‌السلام -: ٣٨ - ٣٩ / ٥٨ - ٦٠، وابن الأثير في اُسد الغابة ٢: ١٩، وابن الصباغ في الفصول المهمة: ١٥٤، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٢: ١١٣، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٣: ٢٧٥ / ٤٢.

(٥) روى نحوه البيهقي في سننه ٢: ٢٦٣، وابن عساكر في تاريخ دمشق - ترجمة الامام

٢٨

وكاناعليهما‌السلام حجّةَ اللهِ تعالى لنبيِّه عليهِ وآلهِ السّلامُ في المُباهلةِ، وحجّةَ اللّهِ من بعد أبيهما أميرِ المؤمنينَ عليهِ وعليهما السّلامُ على الأمّةِ في الدِّينِ والأسلامِ والملّةِ.

وروى محمّدُ بنُ أبي عُمَيْرٍ، عن رجالهِ، عن أبي عبدِاللهّعليه‌السلام قالَ: «قالَ الحسنُ بنُ عليٍّعليهما‌السلام لأصحابِه: إِنّ للّهِ تعالى مدينتينِ: إِحداهما في المشرقِ، والأخرى في المغرب، فيهما خَلْق للّهِ عزّ وجلّ لم يَهُمُّوا بمعصيةٍ له قطُّ، واللهِّ مافيهما وَما بينَهما حجّةٌ للهِّ على خلقِه غيري وغيرُ أخي الحسينِ »(١) .

وجاءتِ الرِّوايةُ بمثلِ ذلكَ عن الحسينِعليه‌السلام أنّه قالَ لأصحابِ ابنِ زيادٍ: « ما بالُكم »(٢) تَناصَرونَ عليَّ؟! أمَ واللهِ لَئنْ قتلتموني لَتَقتُلُنَ حجّةَ اللهِّ عليكم، لا واللهِ ما بينَ جَابَلْقَا وجَابَرْسَا ابنُ نبيٍّ احتجَّ اللّهُ به عليكم غيري »(٣) يَعني بَجابَلْقَا وجَابَرْسَا المدينتينِ اللتينِ ذكرَهما الحسنُ أخوهعليه‌السلام .

وكانَ من برهانِ كمالِهما وحجّةِ اختصاصِ اللهِ لهما - بعدَ الّذي ذكرْناه من مُباهلةِ رسولِ اللهِصلى‌الله‌عليه‌وآله بهما - بيعةُ رسولِ اللهِ لهما، ولم يُبايِعْ صبيّاً في ظاهرِ الحالِ غيرَهما، ونزولُ القرآنِ بإِيجابِ

__________________

الحسينعليه‌السلام -: ٨٣ / ١١٦، ومحب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ١٣١ و ١٣٢، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٢: ١٢١ مختصرأ، ونقله العلامة المجلسي في البحار ٤٣: ٢٧٥ / ٤٣.

(١) أورد نحوه الصفار في بصائر الدرجات: ٣٥٩ / ٤ و ٥، والكليني في الكافي ١: ٣٨٤ / ٥.

(٢) في «م» وهامش «ش»: ما لكم.

(٣) انظر نحوه في الطبري ٣: ٣١٩، الكامل ٤: ٦٢.

٢٩

ثواب الجنّةِ لهما على عملِهما معَ ظاهر الطّفوليّةِ فيهما، ولم ينزلْ بذلكَ في مثلِهماَ، قالَ اللّهُ عزّ اسمُه في سورةِ هل أتى:( وَيُطْعِمُوْنَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيْنَاً ويَتِيْمَاً وأسِيْرَاً* إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيْدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوْرَاً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمَاً عَبُوْسَاً قَمْطَرِيْرَاً * فَوَقَاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوْرَاً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوْا جَنَّةً وَحَرِيْر ) (١) فعمَّهما هذا القولُ معَ أبيهما وأمِّهماعليهم‌السلام ، وتضمَّنَ الخبرُ نُطقَهما في ذلكَ وضميرَهما الدّالّينِ على الآيةِ الباهرةِ فيهما، والحجّةِ العُظمى على الخلقِ بهما، كما تضمَّنَ الخبر عن نُطقِ المسيحعليه‌السلام في المهدِ وكانَ حُجَّةً لنًبُوَّته، واختصاصِه منَ اللّهِ بالكرامةِ الدّالّةِ على محلِّه عندَه في الفضلِ ومكانِه.

وقد صرّحَ رسول اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله بالنّصِّ على إِمامتهِ وامامةِ أخيه من قبلهِ بقولهِ: « ابناي هذانِ إِمامانِ قاما أوقعدا» ودَلّت وصيّةُ الحسنِعليه‌السلام إِليه على إِمامتِه، كما دَلّتْ وصيّةُ أميرِ المؤمنينَ إِلى الحسنِ على إِمامتهِ، بحسبِ ما دَلّتْ وصيّةُ رسولِ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله إِلى أميرِ المؤمنينَ على إِمامتهِ من بعدِه.

فصل

فكانتْ إِمامةُ الحسينِعليه‌السلام بعدَ وفاةِ أخيه بما قدّمناه ثابتةً، وطاعتُه - لجَميعِ الخلقِ - لازمة، وِإن لم يَدْعُ إِلى نفسِهعليه‌السلام

__________________

(١) الانسان ٧٦: ٨ - ١٢.

٣٠

للتّقيّةِ الّتي كانَ عليها، والهُدنةِ الحاصلة بينَه وبينَ معاوية بن أبي سفيانَ فالتزمَ الوفاءَ بها، وجرى في ذلكَ مجرى أَبيهِ أميرِ المؤمنينَعليه‌السلام وثبوتِ إِمامتهِ بعدَ النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله معَ الصّموتِ، وِامامةِ أخيه الحسنِعليه‌السلام بعدَ الهُدنةِ معَ الكفِّ والسُّكوتِ، وكانوا في ذلكَ على سنَن نبيِّ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في الشِّعب محصورٌ، وعندَ خروجِه مهاجِرأ من مكّةَ مستخفِياً في الغار وهو من أعدائه مستورٌ.

فلمّا ماتَ معاويةُ وانقضتْ مُدَّةُ الهُدنةِ الّتي كانتْ تمنعُ الحسينَ ابنَ عليِّعليهما‌السلام منَ الدّعوةِ إِلى نفسه، أظهرَ أمرَه بحسب الأمكاَنِ، وأبانَ عن حقه للجاهلينَ به حالاً بحالٍ، إِلى أنِ اجتمع لهَ في الظاهر الأنصارُ. فدعاعليه‌السلام إِلى الجهادِ وشمّرَ(١) للقتالِ، وتوجّه بولدِه وأهلِ بيتهِ من حرَمِ اللّهِ وحرَمِ رسولهِ نحوَ العراقِ، للاستنصارِ بمن دعاه من شيعتهِ على الأعداءِ. وقدّمَ أمَامَهُ ابنَ عمِّه مُسلِمَ بنَ عقيلٍ - رضيَ اللهُ عنه وأرضاه - للدّعوةِ إِلى اللهِّ والبيعةِ له على الجهادِ، فبايَعه أهلُ الكوفةِ على ذلكَ وعاهدوه، وضَمِنُوا له النّصرةَ والنصّيحةَ ووَثَّقوا له في ذلكَ وعاقدوه، ثمّ لم تطُلِ المُدّةُ بهم حتّى نكثوا بيعتَه وخذلوه وأسلموه، فقُتِلَ بينهم ولم يمنعوه، وخرجوا إِلى الحسينعليه‌السلام فحصروه ومنعوه المسيرَفي بلادِ اللّهِ، واضطرُّوه إِلى حيث لا يَجِدُ ناصراً ولا مَهْرباً منهم، وحالوا بينَه وبينَ ماءِ الفُراتِ حتّى تمكَّنوا منه وقتلوه، فمضىعليه‌السلام ظَمآنَ مجاهداً صابراً

__________________

(١) في هامش «ش»: وتشمر.

٣١

محتسباً مظلوماً، قد نُكِثَتْ بيعتُه، واستُحِلَّتْ حرمتُه، ولم يُوفَ له بعهدٍ، ولا رُعيَتْ(١) فيه ذِمَّةُ عَقْدٍ، شهيداً على ما مضى عليه أبوه وأخوه عليهما أَفضل الصّلاةِ والرّحمةِ والتّسليمِ.

فصل

فمن مختصر الأخبارِ الّتي جاءتْ بسبب دعوتهعليه‌السلام وما أخذَه
على النّاسِ في الجهادِ من بيعتِه، وذكرِ جملةٍ منَ أمرِه وخروجِه ومقتلِه.

ما رواه الكَلبيُّ والمدائنيُّ وغيرُهما من أصحاب السِّيرةِ قالوا: لمّا ماتَ الحسنُ بنُ عليٍّعليهما‌السلام تحرّكتِ الشِّيعةُ بالعراقِ وكتبوا إِلى الحسينِعليه‌السلام في خلعِِ معاويةَ والبيعةِ له، فامتنعَ عليهم وذكرَ أنّ بينَه وبينَ معاويةَ عهداً وعقداَ لا يجوزُ له نقضُه حتّى تمضِيَ المُدّةُ، فإِن ماتَ معاويةُ نظرَ في ذلكَ.

فلمّا ماتَ معاويةُ - وذلكَ للنِّصفِ(٢) من رجب سنة ستِّينَ منَ الهجرةِ - كتبَ يزيدُ إِلى الوليدِ بنِ عُتْبة بن أبي سفيانَ - وكانَ على المدينةِ من قِبَلِ معاويةَ - أن يأْخذَ الحسينَعليه‌السلام بالبيعةِ له، ولا يُرخِّصَ له في التّأخُّرِعن ذلكَ. فأنفذَ الوليدُ إِلى الحسينِعليه‌السلام في الليلِ فاستدعاه، فعَرفَ الحسينُ الّذي أرادَ فدعا جماعةً من مواليه وأمرَهم بحملِ السِّلاحِ، وقالَ لهم: « إِنّ الوليدَ قد

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: روعيت.

(٢) في هامش«ش» و «م»: في النصف.

٣٢

استدعاني في هذا الوقتِ، ولستُ آمَنُ أن يُكلِّفني فيه أمراً لا أُجيبُه إليه، وهو غيرُ مأْمونٍ، فكونوا معي، فإِذا دخلتُ إِليه فاجلِسوا على البابِ، فإِن سمعتم صوتي قد علا فادخُلوا عليه لتمنعوه منِّي.

فصارَ الحسينُعليه‌السلام إلى الوليدِ فوجدَ عندَه مروانَ بنَ الحكمِ، فنعى الوليدُ إِليه معاويةَ فاسترجعَ الحسينُعليه‌السلام ، ثم قرأ كتابَ يزيدَ وما أمرَه فيه من أخذِ البيعةِ منه له، فقالَ له الحسينُ: «إِنِّي لا أراكَ تَقنعُ ببيعتي ليزيدَ سرّاً حتّى أُبايعَه جهراً، فيعرف الناسُ ذلكَ » فقالَ الوليدُ له: أجل، فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «فتصبحُ وترى ريكَ في ذلكَ » فقالَ له الوليدُ: انصرفْ على اسمِ اللّهِ حتّى تأْتينا معَ جماعةِ النّاسِ. فقالَ له مروانُ: واللهِ لئن فارقَكَ الحسينُ السّاعةَ ولم يُبايعْ لا قَدرت منه على مثلِها أبداً حتّى يكثرَ القتلى بينَكم وبينَه، احبسِ الرّجلَ فلا يخرج من عندِكَ حتّى يبايعَ أوتضربَ عنقَه. فوثبَ عندَ ذلكَ الحسينُعليه‌السلام وقالَ: «أنتَ - يا ابنَ الزّرقاءِ - تَقتلني أو هو؟! كذبتَ واللّهِ وأثمتَ » وخرجَ (يمشي ومعَه )(١) مواليه حتّى اتى منزلَه.

فقالَ مروان للوليد ِ: عصيتَني، لا واللهِ لا يُمكِّنكَ مثلَها مِن نفسِه أبداً، فقالَ الوليدُ: (الويح لغيرك )(٢) يا مروانُ إِنَّكَ اخترتَ لي الّتي فيها هلاكُ ديني، واللّهِ ما أُحِبُّ أنّ لي ما طلعتْ عليه الشّمسُ وغربتْ عنه من مالِ الدُّنيا وملكِها وأنّي قتلتُ حسيناً، سبحانَ اللهِّ! أقتلُ حسيناً أنْ

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: فمشى معه.

(٢) في هامش «ش» و «م»: ويح غيرك، وما أثبتناه من «ش» و «م» و «ح». قال العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ٣٦٠: قال هذا تعظيماً له، أي لا اقول لك ويحك بل أقول لغيرك.

٣٣

قالَ لا أُبايعُ؟! واللهِ إنَي لأظنُّ أنّ امراً يُحاسبُ بدمِ الحسينِ خفيفُ الميزانِ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ. فقالَ له مروانُ: فإِذا كانَ هذا رأيك فقد أصبتَ فيما صنعتَ ؛ يقولُ هذا وهوغيرُ الحامدِ له في رأْيِه(١) .

فأقامَ الحسينُعليه‌السلام في منزلهِ تلكَ الليلَة، وهي ليلةُ السبتِ لثلاثٍ بَقِيْنَ من رجبِ سنةَ ستَينَ. واشتغلَ الوليدُ بنُ عُتْبةَ بمراسلةِ ابنِ الزُّبيرِ في البيعةِ ليزَيدَ وامتناعِه عليه. وخرجَ ابنُ الزُبيرِمن ليلتِه عنِ إلمدينةِ متوجِّهاً إِلى مكّةَ، فلمّا أصبحَ الوليدُ سرّحَ في أثرِه الرِّجالَ، فبعثَ راكباً من موالي بني أُمّيةَ في ثمانينَ راكباً، فطلبوه فلم يُدرِكوه فرجعوا.

فلمّا كانَ آخر (نهارِ يوم )(٢) السّبتِ بعثَ الرِّجالَ إِلى الحسينِ بنِ عليِّعليهما‌السلام ليحضرَ فيبايعِ الوليدَ ليزيد بن معاويةَ، فقالَ لهم الحسَينُ: «أصبِحوا ثمّ تَرَوْن ونرَى» فكفُّوا تلكَ الليلةَ عنه ولم يُلِحُّوا عليه. فخرجَعليه‌السلام من تحتِ ليلتِه - وهي ليلةُ الأحدِ ليومين بَقِيا من رجبٍ - متوجِّهاً نحوَ مكّةَ ومعَه بنوه واخوتُه وبنوأخيه وجُلُّ أهلِ بيتهِ إلّا محمّدَ بنَ الحنفيّةِ - رضوان اللهِ عليه - فإِنّه لمّا علمَ عزمَه على الخروجِ عنِ المدينةِ لَم يدْرِ أينَ يتوجّهُ، فقالَ له: يا أخي أنتَ أحبُّ النّاس إِليَّ وأعزُّهم عليَّ ولستُ أَدّخِرُ النّصيحةَ لأحدٍ منَ الخلقِ إِلا لكَ وأَنتَ أحقُّ بها، تَنَحَّ ببيعتِكَ عن يزيد بن معاويةَ وعنِ الأمصارِ ما استطعتَ، ثمّ ابعثْ رُسُلَكَ إِلى النّاسِ فادعُهم إِلى نفسِكَ، فإِن تابَعَكَ النّاسُ وبايَعوا لكَ حمدتَ اللهَّ على ذلكَ، وإن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥: ٣٣٩.

(٢) في هامش «ش»: النهار من يوم.

٣٤

أجمعَ النّاسُ على غيرِكَ لم يَنْقُصِ اللّهُ بذلكَ دينَكَ ولا عقلَكَ ولا تَذْهَب به مروءتُكَ ولا فضلُكَ ؛ إِنّي أخافُ أن تَدخلَ مصراً من هذه الأمصارِ فيختلف النّاسُ بينَهم فمنهم طائفةٌ معَكَ وأُخرى عليكَ، فيقتَتِلونَ فتكونُ أنتَ لأوّلِ الأسِنَّةِ، فإِذا خيرُهذه الأُمّةِ كلِّها نفساً وأباً وأُمّاً أضيعُها دماً وأذلُّها أهلاً، فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «فأينَ أذهبُ يا أخي؟» قالَ: انزلْ مكّةَ فإِنِ اطمأنّتْ بكَ الدّارُ بها فسبيلُ ذلكَ، وِإن ( نَبَت بك )(١) لحقتَ بالرِّمالِ وشَعَفِ الجبالِ وخرجتَ من بلدٍ إِلى بلدٍ، حتّى تنظرَ ( ما يصيرُأمرُ النّاسِ إِليه )(٢) ، فإِنّكَ أصوبُ ما تكونُ رأياً حينَ تستقبَلُ الأمرَ استقبالاً. فقالَ: «يا أخي قد نصحتَ وأشفَقْتَ، وأرجو أن يكونَ رأْيُكَ سديداً موفّقاً».

فسارَ الحسينُعليه‌السلام إلى مكّةَ وهو يقرأ:( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفَاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّني مِنَ الْقَوْم الظَالِميْنَ ) (٣) ولزمَ الطّريقَ الأعظمَ، فقالَ له أهلُ بيتِه: لوتنكّبْتَ الطَّريقَ الأَعظمَ كما صنعَ(٤) اَبنُ الزُّبيرِلئلاّ يلحقَكَ الطّلبُ، فقالَ: «لا واللّهِ لا أُفارقُه حتّى يقضيَ اللّهُ ما هوقاضٍ ».

ولمّا دخلَ الحسينُ مكّةَ كانَ دُخُولُه إِليها(٥) ليلةَ الجمعةِ لثلاث مَضَيْنَ من شعبانَ، دخلهَا وهو يقرأُ:( وَلَمِّا تَوَجَّههَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قالَ

__________________

(١) نبت بك: أي لم تجد بها قراراً، ولم تطمئن عليها «انظر لسان العرب - نبا - ١٥: ٣٠٢».

(٢) في هامش «ش»: الى ما يصير امر الناس.

(٣) القصص ٢٨: ٢١.

(٤) في هامش «ش» و «م»: فعل.

(٥) في هامش «ش»: أياها.

٣٥

عَسَى رَبِّيْ أنْ يَهْدِيَنيْ سَوَاءَ السَّبِيْل ) (١) ثمّ نزلَها وأقبلَ أهلُها يختلفونَ إِليه، ومن كانَ بها من المعتمرينَ وأَهل الآفَاقِ، وابنُ الزُّبيرِ بها قد لزمَ جانبَ الكعبةِ فهو قائمٌ يصلِّي عندَها ويطوفُ، وياْتي الحسينَعليه‌السلام فيمن ياْتيه، فيأْتيه اليومينِ المتواليينِ وياْتيه بينَ كلِّ يومينِ مرّةً، وهو أثقلُ خلقِ اللهِّ على ابنِ الزُبيرِ، قد عرفَ أنّ أهلَ الحجازِ لا يُبايعونَه ما دامَ الحسينُعليه‌السلام في البلدِ(٢) ، وأنّ الحسينَ أطوعُ في النّاس منه وأجلُ.

وبلغَ أهل الكُوفةِ هلاك معاويةَ فأرجفوا بيزيدَ، وعَرفوا خبرَ الحسينِعليه‌السلام وامتناعَه من بيعتهِ، وما كانَ من ابنِ الزُّبيرِ في ذلكَ، وخروجهما إِلى مكّةَ، فاجتمعتِ الشِّيعةُ بالكوفةِ في منزلِ سُليمان ابن صُرَد، فذكروا هلاكَ معاويةَ فحمدوا اللهَ عليه، فقالَ سليمانُ: إِنّ معاويةَ قد هلكَ، وانّ حُسَيناً قد تَقَبَّضَ(٣) على القوم ببيعتِه، وقد خرجَ إِلى مكّةَ، وأنتم شيعتُه وشيعةُ أبيه، فإِن كنتم تعَلمونَ أنّكم ناصِروه ومجاهِدو عَدوِّه ( فاعلموه، وان خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه، قالوا: لا، بل نقاتل عدوه، ونقتل انفسنا دونه، قال: )(٤) ؛ فكَتَبُوا:

بسمَ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ

للحسينِ بنِ عليٍّعليهما‌السلام من سُليمان بن صُرد، والمسَيَّبِ

__________________

(١) القصص ٢٨: ٢٢.

(٢) في «م» وهامش «ش»: بالبلد.

(٣) تقبّض ببيعته: انزوى بها ولم يعطهم اياها «لسان العرب - قبض - ٧: ٢١٣».

(٤) في «ش» و «م»: بدل ما بين القوسين: ونقتل أنفسنا دونه.

٣٦

ابن نَجَبَةَ، ورِفاعة بن شدّادٍ، وحبيبِ بنِ مُظاهِر(١) ، وشيعتِه من المؤمنينَ والمسلمينَ من أهلِ الكوفةِ:

سلامٌ عليك، فإِنّا نحمدُ إِليكَ اللهَ الّذي لا إِلهَ إلّا هو.

أمّا بعدُ: فالحمدُ للّهِ الّذي قصمَ عدوَّكَ الجبّارَ العنيدَ، الّذي انتزى على هذهِ الأمّةِ فابتَزَها أمرَها، وغصبَها فيئَها، وتأمّرَ عليها بغيرِ رضىً منها، ثمّ قتلَ خيارَها واستبقى شِرارَها، وجعلَ مالَ اللّهِ دُوْلةً بينَ (جبابرتِها وأغنيائها )(٢) ، فبعُداً له كما بَعدَتْ ثمودُ. إِنّه ليسَ علينا إِمامٌ، فأقبِلْ لعلّ اللّهَ أن يجمعَنا بكَ على الحقِّ ؛ والنُّعمانُ بنُ بشيرٍ في قصرِ الأمارة لسْنا نجَمِّعُ معَه في جمعةٍ ولا نخرجُ معَه إِلى عيدٍ، ولوقد بَلَغَنا أنّكَ أَقبلتَ إِلينا أخرَجْناه حتّى نُلحقَه بالشّامِ إِن شاءَ اللّهُ.

ثمّ سرّحوا الكتابَ(٣) معَ عبدِاللهِ بنِ مِسْمَعٍ الهَمْدانيّ وعبدِاللّهِ ابنِ والٍ، وأمروهما بالنّجاءِ(٤) ، فخرجا مُسرِعَيْنِ حتّى قدما على الحسينِعليه‌السلام بمكّةَ(٥) ، لعشرٍ مَضَيْنَ من شهرِ رمضانَ.

(ولبثَ أهلُ الكُوفةِ يومينِ بعدَ تسريحِهم )(٦) بالكتاب، وأنفذوا قيسَ بنَ مُسْهِرٍ الصَّيْداويّ و (عبدَ الرّحمن بن عبدِ الله الأرحبّي )(٧) وعمارةَ

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: مظهَر.

(٢) في هامش «ش» و «م»: عتاتها واغنيائها.

(٣) في هامش «ش»: بالكتاب.

(٤) النجاء: السرعة « القاموس المحيط - نجو - ٤: ٣٩٣».

(٥) في «م» وهامش «ش»: مكة.

(٦) في «م» وهامش «ش»: ثم كتب أهل الكوفة بعد تسريحهم.

(٧) في النسخ الخطية: عبدالله بن شداد الأرحبي، وبعده بأسطر ذكره باسم عبد الرحمن

٣٧

ابنَ عبدٍ السّلوليّ إِلى الحسينِعليه‌السلام ومعَهم نحوٌ من مائةٍ وخمسينَ صحيفةً منَ الرّجلِ والاثنينِ والأربعةِ.

ثمّ لبثوا يومينِ آخرينِ وسرّحوا إِليه هانئ بنَ هانئ السّبيعيّ وسعيدَ بنَ عبدِاللهِّ الحنفيّ، وكتبوا إِليه: بسمِ اللهِّ الرّحمنِ الرّحيمِ، للحسينِ بنِ عليٍّ من شيعتهِ منَ المؤمنينَ والمسلمينَ.

أمّا بعدُ: فحيَّ هلا، فإِنّ النّاسَ ينتظرونَكَ، لا رأيَ لهم غيركَ، فالعجلَ العجلَ، ثمّ العجلَ العجلَ، والسلامُ.

وكتبَ شَبَثُ بنُ رِبعيّ وحجَّارُ بنُ أبجرَ ويزيدُ بنً الحارثِ بنِ رُوَيمٍ و (عروةُ بنُ قيسٍ )(١) ، وعمروبنُ الحجّاجِ الزّبيديّ و (محمّد بنُ عمرو التّيميّ )(٢) : أمّا بعدُ: فقد اخضرَّ الجَناب وأينعتِ الثِّمارُ، فإِذا شئتَ فاقدمْ على جُندٍ لكَ مجنَّدٍ، والسّلامُ.

وتلاقتِ الرُسّلُ كلًّها عندَه، فقرأ الكُتُبَ وسألَ الرّسلَ عنِ النّاسِ، ثمّ كتبَ معَ هانئ بنِ هانئ وسعيدِ بنِ عبدِاللّهِ وكانا آخرَ الرُّسُلَ:

__________________

ابن عبدالله الارحبي والمصادر مجمعة عليه انظر، (تاريخ الطبري ٥: ٣٥٢، انساب الاشراف للبلاذري ٣: ١٥٨، الفتوح لابن اعثم ٥: ٣٢، وقعة الطف لابي مخنف: ٩٢، تذكرة الخواص: ٢٢٠، وفي الاخبار الطوال: ٢٢٩: ابن عبيد.

(١) لم نجد في كتب الرجال عروة بن قيس، والظاهر ان الصحيح عزرة بن قيس، انظر تاريخ الطبري ٥: ٣٥٣، انساب الاشراف ٣: ١٥٨، وهو عزرة بن قيس بن عزية الاحمس البجلي الدهني الكوفي.

(٢) كذا في النسخ الخطية، ولم نجد له في كتب الرجال ترجمة، والظاهر ان الصحيح محمد بن عمير التميمي، انظر تاريخ ألطبري ٥: ٣٥٣، انساب الاشراف ٣: ١٥٨، وهو محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب الدارمي التميمي الكوفي، كان من اشراف أهل الكوفة، لسان الميزان ٣٣٠:٥، مختصر تاريخ دمشق ٢٣: ١٥١.

٣٨

« بسمِ اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمِ

منَ الحسينِ بنِ عليٍّ إِلى الملإِ منَ المسلمينَ والمؤمنينَ.

أمّا بعد: فإِنّ هانئاً وسعيداً قَدِما عليَّ بكتبكم، وكانا آخرَ من قدمَ عليَّ من رسلِكم، وقد فهمت كلَّ الّذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلِّكم: أنّه ليسَ علينا إِمامٌ فأقبلْ لعلّ اللّهَ أن يجمعَنا بكَ على الهدى والحقِّ. وإِنِّي باعثٌ إِليكم أخي وابنَ عمِّي وثقتي من أهلِ بيتي، فإِن كتبَ إِليَّ أنّه قدِ اجتمعَ رأيُ مَلَئِكم وذوي الحِجا والفضلِ (١) منكم على مثلِ ما قدمتْ به رُسُلُكم وقرأتُ في كُتُبِكم، أقدم عليكم وشيكاً إِن شاءَ اللّهُ. فَلعَمري ما الأمامُ إلأ الحاكمُ بالكتاب، القائمُ بالقسطِ، الدّائنُ بدينِ الحقِّ، الحابسُ نفسَه على ذَاتِ اللّهِ، والسّلامُ ».

ودعا الحسينُ بنُ عليٍّعليهما‌السلام مسلمَ بنَ عقيلِ بنِ أَبي طالبِ رضيَ اللهُّ عنه فسرَّحَه معَ قيسِ بنِ مُسْهِرِ الصّيداويّ وعُمارة بن عبدٍ السَّلوليّ وعبدِ الرّحمنِ بنِ عبدِاللّهِ الأَرحبي، وأَمرَه بتقوى اللهِّ وكتمانِ أمرِه واللطفِ، فإِنْ رأَى النّاسَ مجتمعينَ مُسْتوسِقِينَ عَجَّلَ إِليه بذلكَ.

فأقبلَ مسلمٌ حتّى أَتى المدينةَ فصلّى في مسجدِ رسولِ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله وودعِ من أَحبَّ من أَهلِه ثمّ استأْجرَ دليلينِ من قيس،

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: الفضيلة.

٣٩

فأقبلا به يتنكّبانِ الطّريقَ، فضلاّ وأصابَهم عطشٌ شديدٌ فعجزا عنِ السّيرِ، فأومئا له إِلى سَنَنِ الطّريقِ بعدَ أنْ لاحَ لهما ذلكَ، فسلكَ مسلمٌ ذلكَ السَّنَنَ وماتَ الدّليلانِ عطشاً.

فكتبَ مسلم بنُ عقيلٍرحمه‌الله منَ الموضعِ المعروفِ بالمضيقِ معَ قيسِ بنِ مُسْهِرٍ: أمّا بعدُ: فإِنّني أقبلتُ منَ المدينةِ معَ دليلينِ لي فجارَا عنِ الطّريقِ فضلاّ واشتدَّ علينا(١) ، العطشُ فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلْنا حتّى انتهينا إِلى الماءِ فلم نَنْجُ إلاّ بحُشاشةِ أَنفسِنا، وذلكَ الماءُ بمكانٍ يدعى المضيقَ من بطنِ الخَبْتِ(٢) ، وقد تطيَّرتُ من وجهي هذا، فإِنْ رأَيتَ أَعفيتَني منه وبعثتَ غيري، والسّلامُ.

فكتبَ إِليه الحسينُ بنُ عليٍّعليهما‌السلام :

«أمّا بعدُ: فقد خَشيتُ (٣) أن لا يكونَ حَمَلَكَ على الكتابِ إِليَّ في الاستعفاءِ منَ الوجهِ الّذي وجّهتُك له إلاّ الجُبْنُ، فامضِ لوجهِكَ الّذي وجّهتُكَ له، والسّلامُ ».

فلمّا قرأَ مسلمٌ الكتابَ قالَ: أَمّا هذا فلستُ أتخوّفُه على نفسي. فأَقبلَ حتّى مرَّ بماءٍ لِطَيءٍ فنزلَ به ثمّ ارتحلَ منه، فإِذا رجلٌ يرمي الصّيدَ فنظرَ إِليه قد رمى ظَبْياً حينَ أشرفَ(٤) له

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: عليهما.

(٢) الخبت: ماء لقبيلة كلب «معجم البلدان - خبت - ٢: ٣٤٣».

(٣) في هامش «ش» و «م»: حسبت.

(٤) في هامش «ش» و «م»: اشرأبّ. ومعناه: مدّ عنقه لينظر. «الصحاح - شرب - ١: ١٥٤ ».

٤٠

فصرعَه، فقالَ مسلمٌ: نقتلُ عدوَّنا إِن شاءَ اللهُّ. ثمّ أَقبلَ حتّى دخلَ الكوفةَ، فنزلَ في دار المختارِ بنِ أَبي عُبَيْدٍ، وهي الّتي تدعى اليومَ دارَ سَلْمِ بنِ المسيَّب. وَأَقبلتِ الشِّيعةُ تختلفُ إِليه، فكلما اجتمعَ إِليه منهم جماعةٌ قرأَ عليهَم كتابَ الحسينِ بنِ عليٍّعليهما‌السلام وهم يبكونَ، وبايعَه النّاسُ حتّى بايَعَه منهم ثمانيةَ عشرَ أَلفاً، فكتبَ مسلمٌرحمه‌الله إِلى الحسينِعليه‌السلام يُخبرهُ ببيعةِ ثمانيةَ عشرَأَلفاً ويأْمرُه بالقدوم. وجعلت الشِّيعةُ تختلفُ إِلى مسلمِ بنِ عقيلٍ رضيَ اللهَّ عنه حتّى عُلِمَ مكانُه(١) ، فبلغَ النُّعمانَ بنَ بشيرٍ ذلكَ - وكانَ والياً على الكوفةِ من قِبَلِ معاويةَ فأقرَّه يزيدُ عليها - فصعدَ المنبرَ فحمدَ اللّهَ وأثنى عليه ثمّ قالَ:

أمّا بعدُ: فاتّقوا اللّهَ - عبادَ اللّه - ولا تُسارعوا إِلى الفتنةِ والفُرقةِ، فإِنّ فيها يَهْلِك الرِّجالُ، وتُسْفَكُ الدِّماءُ، وتُغْتَصَبُ(٢) الأَموالُ، إِنّي لا أُقاتلُ من لا يُقاتلني، ولا آتي على من لم يأْتِ عليَّ، ولا أُنبِّهُ نائمَكم، ولا أتحرّشُ بكم، ولا آخُذُ بالقَرْفِ(٣) ولا الظِّنّةِ ولا التُّهمةِ، ولكنَّكم إِن أبديتم صفحتَكم لي ونكثتم بيعتَكم وخالفتم إِمامَكم، فوَاللّهِ الّذي لا إِلهَ غيرُه، لأضربَنَّكم بسيفي ما ثبتَ قائمهُ في يدي، ولو لم يكنْ لي منكم ناصرٌ. أما إِنِّي أرجو أن يكونَ من يعرفً الحقَّ منكم أَكثرَ ممّن يُرديه الباطلُ.

فقامَ إِليه عبدُاللّه بن مسلمِ بن ربيعةَ الحضرميّ، حليف بني أُميّةَ،

__________________

(١) في هامش «ش»: بمكانه.

(٢) في هامش «ش»: وتغصب.

(٣) القرف: التهمة «الصحاح - قرف - ٤:١٤١٥».

٤١

فقالَ: إِنَّه لا يُصلحُ ما ترى إِلاّ الغَشْمُ ؛ إنَّ هذا الّذي أَنتَ عليه فيما بينَكَ وبينَ عدوِّكَ رأيُ المستضعفينَ. فقالَ له النُّعمانُ: أَكون(١) من المستضعفينَ في طاعةِ اللهِّ، أَحبّ إِليَّ من أَن أكونَ من الأَعزِّينَ في معصيةِ اللّهِ. ثمّ نزلَ.

وخرجَ عبداللهِّ بن مسلمٍ فكتبَ إِلى يزيد بن معاويةَ: أَمّا بعدُ: فإِنّ مُسلمَ بنَ عقيلٍ قد قدمَ الكوفَة، فبايعَتْه الشِّيعةُ للحسينِ بنِ عليِّ، فإِنْ يَكُ لكَ في الكوفةِ حاجة فابعثْ إِليها رجلاً قويّاً، يُنَفِّذُ أَمرَكَ وَيعملُ مثلَ عملِكَ في عدوِّكَ، فإِنّ النُّعمانَ بنَ بشيرٍ رجلٌ ضعيفٌ أو هو يَتَضعَّفُ. ثمّ كتبَ إِليه عُمارةُ بنُ عُقْبَةَ بنحوٍ من كتابه ؛ ثمّ كتبَ إِليه عُمَرُ ابنُ سعدِ بنِ أَبي وقّاصٍ مثلَ ذلكَ.

فلمّا وصلتِ الكتبُ إِلى يزيدَ دعا سَرْجُونَ مولى معاويةَ فقالَ: ما رأْيُكَ؟ إِنَّ حسيناً قد وجّهَ إِلى الكوفةِ مسلمَ بنَ عقيل يُبايِعُ له، وقد بَلَغَني عنِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ ضعفٌ وقولٌ سَيّيءٌ، فمَنْ تَرى أَن أَستعملَ على الكوفةِ؟ وكانَ يزيدُ عاتباً على عُبيدِاللهِّ بن زيادٍ؟ فقالَ له سَرْجُون: أرأيتَ معاويةَ لو نُشِرَ(٢) لكَ حيّاً أَما كنتَ اخَذاً برأْيه؟ قالَ: نعم. قال: فأخرجَ سرجُونُ عهدَ عبيدِاللهِّ بنِ زيادٍ على الكوفةِ وقاَلَ: هذا رأْيُ معاويةَ، ماتَ وقد أمرَ بهذا الكتاب، فضُمَّ المِصرينِ إِلى عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ، فقالَ له يزيدُ: أفْعَلُ، ابعثْ بعهدِ عَبيدِاللهِّ إِليه. ثمّ دعا مسلمَ بنَ عَمرو الباهليّ وكتبَ إِلى عبيدِاللّهِ بن زيادٍ معَه:

أَمّا بعدُ: فإِنّهَ كَتَبَ إِليَّ شيعتي من أَهلِ الكُوفةِ، يُخبروني أنّ ابن

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: لئن اكون.

(٢) في «م» وهامش « ش »: انشر.

٤٢

عقيلٍ بها يَجمعُ الجمُوعَ ويشقُّ(١) عصا المسلمينَ، فسِرْحينَ تقرأ كتابي هذا حتّى تأْتيَ الكوفةَ، فتطلب ابنَ عقيلٍ طَلَبَ الخرزَةِ حتّى تَثْقَفَهُ فتُوثقَهُ أَو تَقْتُلَهُ أَو تَنْفِيَهُ، والسّلامُ.

وسلّمَ إِليه عهدَه على الكوفةِ. فسارَ مسلمُ بنُ عمرو حتّى قدمَ على عُبيدِاللّهِ بالبصرةِ، فأوصلَ إِليه العهدَ والكتابَ، فأمَرَ عُبيدُاللهِّ بالجهازِ من وقتهِ، والمسيرِ والتّهيًّؤ إِلى الكوفةِ منَ الغدِ، ثمّ خرجَ منَ البصرةِ واستخلفَ أَخاه عًثمانَ، وأَقبلَ إلى الكوفةِ ومعَه مسلمُ بنُ عمرو الباهليّ وشريكُ بنُ أَعْوَرَ الحارثيّ وحَشَمُه وأَهلُ بيتهِ، حتّى دخلَ الكوفةَ وعليه عمامةٌ سوداءُ وهو متَلثِّمٌ، والنّاسُ قد بلغَهم إِقبالُ الحسينِعليه‌السلام إِليهم فهم ينتظرونَ قدومَه، فظنُّوا حينَ رأوا عُبيدَاللّهِ أَنّه الحسينُ، فأَخذَ لا يَمُرُّ على جماعةٍ منَ النّاسِ إلاّ سلَّموا عليهِ وقالوا: مرحباً بابنِ رسولِ اللهِّ، قدمتَ خيرَ مقدم. فرأَى من تَباشرُهم بالحسينِ ما ساءه، فقالَ مسلمُ بنُ عمرو لمّا أَكثروا: تَأخَّرُوا، هذا الأَميرُ عبيدُاللّه بن زيادٍ.

وسارَ حتّى وافى القصرَ في الليلِ، ومعَه جماعةٌ قدِ التفُّوا به لا يَشُكُّون أَنّه الحسينُعليه‌السلام ، فأَغلقَ النًّعمانُ بنُ بشيرٍ عليه وعلى حامّتهِ(٢) ، فناداه بعضُ من كانَ معَه ليفتح لهم البابَ، فأطّلعَ إِليه النُّعمانُ وهو يظنُّه الحسين فقالَ: أَنْشُدُكَ اللهَّ إلاّ تَنَحَّيْتَ، واللهِّ ما انا مُسلمٌ إِليكَ أمانتي، وما لي في قتالِكَ من أَرَبٍ، فجعلَ لا يُكلّمُه، ثمّ إِنّه دنا وتدلّى

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: ليشق.

(٢) في « م » وهامش «ش»: خاصته.

وحامته: خاصته واقرباؤه. «الصحاح - حمم - ٥: ١٩٠٧ ».

٤٣

النُّعمانُ من شَرَفٍ فجعلَ يُكلِّمُه، فقالَ: افتحْ لا فَتَحْتَ(١) ، فقد طالَ ليلكَ. وسمعَها إِنسانٌ خلفَه فنكصَ إِلى القوم الّذينَ اتّبعوه من أهلِ الكوفةِ على أَنّه الحسينُ فقالَ: أيْ قوم! ابن مَرْجَانةَ والّذي لا إِلهَ غيرهُ. ففتحَ له النُّعمانُ ودخلَ وضربوا البابَ في وُجوهِ النّاسِ فانْفَضُّوا.

وأصبحَ فنادى في النّاسِ: الصّلاةُ جامعةٌ. فاجتمعَ النّاسُ، فخرجَ إِليهم فحمدَ اللهَّ وأثنى عليه ثمّ قالَ:

أَمّا بعدُ: فإِنّ أَميرَ المؤمنينَ وَلاَّني مِصرَكم وثَغْرَكم وفيئكم، وأمرَني بإِنصافِ مظلومِكم وإِعطاءِ محرومكم، والأحسانِ إِلى سامعِكم ومُطيعِكم كالوالدِ البر، وسوطي وسيفي على من تركَ أمري وخالفَ عهدي، فليُبقِ(٢) امرؤٌ على نفسِه؛ الصِّدقُ يُنبي عنك(٣) ، لا الوعيدُ.

ثمّ نزلَ فأَخذَ العُرَفاءَ(٤) والنّاسَ(٥) أخذاً شديداً فقالَ: اكتُبوا إِلى

__________________

(١) قال العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ٣٦١: لا فتحت دعاء عليه أي لا فتحت على نفسك باباً من الخير.

(٢) في هامش «ش» و «م»: فليتق.

(٣) في هامش «ش» و «م»: ينبي عنك - بغيرهمز - أي يدفع عنك من النبوة، ويمكن أن يكون من النبأ الخبر اي الصَدق يخبر عنك بالحقيقة. والأول سماع والثاني قياس.

وقال الجوهري في الصحاح - نبا - ٦: ٢٥٠٠: في المثل: «الصدق ينبي عنك لا الوعيد» أي ان الصدق يدفع عنك الغائلة في الحرب دون التهديد. وقال أبو عبيد: هو ينبي بغيرهمز. ويقال: أصله الهمزمن الانباء أي ان الفعل يخبرعن حقيقتك لا القول.

وقد نقل ابن منظور في لسان العرب: ١٥ / ٣٠٢ هذا الكلام ناسباً إيّاه الى التهذيب وهو اشتباه والصحيح انه عن الصحاح.

(٤) العرفاء: جمع عريف، وهو القائم بامور جماعة من الناس يرفعها الى السلطان، وعمله العِرافة «مجمع البحرين - عرف - ٥: ٩٧».

(٥) في «ش»: بالناس.

٤٤

العُرفاءِ ومَنْ فيكم من طلبةِ أمير المؤمنين، ومَنْ فيكم منَ الحَرُورِية وأَهلِ الرّيب، الّذين رأيُهم الخلافُ والشِّقاق، ( فمن يجئ بهم لنا فبرئ )(١) ، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمنْ لنا ما في عِرافتِه ألاّ يخالفَنا منهم مخالفٌ، ولا يبغِ علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعلْ برئتْ منه الذِّمّةُ وحلالٌ لنا دمُه ومالُه، وأيّما عريفٍ وُجدَ في عرافتِه مِن بُغيةِ أميرِ المؤمنينَ أحدٌ لم يرفعْه إِلينا، صلِبَ على باب داره، واُلغيتْ تلكَ العرافةُ منَ العطاءِ.َ

ولمّا سمعَ مسلمُ بنُ عقيلٍرحمه‌الله بمجيءِ عبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ الكوفةَ، ومقالتهِ الّتي قالَها، وما أخذَ به العُرفاءَ والنّاسَ، خرجَ من دارِ المختارِ حتّى انتهى إِلى دارِ هانئ بنِ عُروةَ فدخلَها، وأخذتِ الشِّيعةُ تختلفُ إِليه فِى دارِ هانئ على تستُّرٍ واستخفاف من عبيدِاللهِّ، وتواصَوْا بالكتمانِ.

فدعا ابنُ زيادٍ مولىً له يُقالُ له مَعْقلٌ، فقالَ: خُذْ ثلاثةَ آلافِ دِرهمٍ، ثمّ اطلبْ مسلمَ بنَ عقيلٍ والتمسْ أَصحابَه، فإِذا ظفرتَ بواحدٍ منهم أو جماعةٍ فأعطِهم هذهِ الثّلاثةَ آلاف درهمٍ، وقلْ لهم: استعينوا بها على حرب عدوِّكم، وأعلِمْهم أنّكَ منهم، فإِنّكَ لو قد أعطيتَها إِياهم لقدِ اَطمأنوا إِليكَ ووثقوا بكَ ولم يكتموكَ شيئاً من أخبارِهم، ثمّ اغدُ عليهم ورُح حتّى تعرفَ مستقرَّمسلم بن عقيلٍ، وتدخلَ عليه.

ففعلَ ذلكَ وجاءَ حتّى جلسَ إِلى مسلمِ بنِ عَوْسَجةَ الأسديّ في المسجدِ الأعظمِ وهو يصلِّي، فسمعِ قوماً يقولونَ: هذا يبايعُ للحسينِ، فجاءَ فجلسَ إِلى جنبهِ حتّى فرغ من صلاتِه، ثمّ قالَ: ياعبدَ اللهِّ! إِنِّي امرؤٌ من أهلِ الشّامِ، أنعمَ اللهُّ عليَّ بحبِّ أهلِ هذا البيتِ

__________________

(١) في «ش» نسخة اخرى: ثم يجاء بهم لنرى رأينا فيهم.

٤٥

وحبِّ مَنْ أحبَّهم ؛ وتَباكى له وقالَ: معي ثلاثة آلافِ درهمٍ، أردتُ بها لقاءَ رجلٍ منهم بلغَني أنّه قدمَ الكوفةَ يبايعُ لابنِ بنتِ رسولِ اللّهِ، فكنتُ أُريدُ لقاءه فلم أجدْ أَحداً يدلُّني عليه ولا أعرفُ مكانَه، فإِنِّي لجالسٌ في المسجدِ الان إِذْ سمعتُ نفراً منَ المؤمنينَ يقولونَ: هذا رجلٌ له علمٌ بأَهلِ هذا البيتِ، وانِّي أتيتُكَ لتقبضَ منَي هذا المالَ وتُدخِلني على صاحبكَ، فإِنما أنا أَخٌ من إِخوانِكَ وثقةٌ عليكَ، وِان شئتَ أخذتَ بيعتي له قبَلَ لقائه.

فقالَ له مسلمُ بنُ عوسجةرحمه‌الله : احمد اللهَّ على لقائكَ إِيّايَ فقد سرَني ذلكَ، لتنال الّذي تحبُّ، ولينصر اللّهُ بكَ أهلَ بيتِ نبيِّه عليه والهِ السّلامُ، ولقد ساءَني معرفةُ النّاسِ إِيّايَ بهذا إلأَمر قبلَ أَن يتمَّ، مخافةَ هذا الطاغيةِ وسطوته ؛ فقالَ له معقلٌ: لا يكون إلأ خيراً، خُذِ البيعةَ عليَّ، فأَخذَ بيعتَه وأَخذَ عليه المواثيقَ المغلَّظةَ لَيُناصِحَنَّ ولَيَكْتُمَنَّ، فأَعطاه من ذلكَ ما رضيَ به، ثمّ قال له: اختلفْ إِليَّ أيّاماً في منزلي فأنا طالبٌ لكَ الأذنَ على صاحبكَ. فأَخذَ يختلفُ مع النّاسِ، فطلبَ له الأذنَ فأُذِنَ له، فأَخذَ مسلمُ بنُ عقيلٍ رضيَ اللّه عنه بيعتَه، وأمرَ أَبا ثُمامةَ الصائديَّ فقبضَ المالَ منه، وهو الّذي كانَ يَقبضُ أموالَهمِ وما يُعينُ به بعضُهم بعضاً، ويشتري لهم السِّلاحَ، وكانَ بصيراًَ ومن فرسانِ العربِ ووُجوهِ الشِّيعةِ.

وأَقبل ذلكَ الرّجلُ يختلفُ إِليهم، وهو أَوّلُ داخلٍ وآخرُ خارج، حتّى فَهِمَ ما احتاجَ إِليه ابنُ زيادٍ من أَمرِهم، وكانَ يُخبرهُ به وقتاً فوقتاَ. وخافَ هانئً بنُ عُروةَ عبيدَاللهّ بن زيادٍ على نفسِه فانقطعِ من حضور مجلسِه وتمارضَ، فقالَ ابنُ زيادٍ لجلسائه: ما لي لا أَرى هانئاً؟ فقالوا: هو

٤٦

شاكٍ، فقالَ: لو علمتُ بمرضِه لَعُدْته، ودعا محمّدَ بنَ الأشعثِ وأسماءَ بنَ خارجةَ وعمرو بنَ الحجّاجِ الزُّبيديّ، وكانتْ رُوَيحةُ بنتُ عمرو تحتَ هانئ بنِ عُروةَ وهي أُمُّ يحيى بن هانئ، فقالَ لهم: ما يمنعُ هانئ بنَ عُروةَ من إِتيانِنا؟ فقالوا: ما نَدري وقد قيلَ إِنّه يشتكي؟ قالَ: قد بلغَني أنّه قد بَرِىءَ وهو يجلسُ على بابِ دارِه، فالْقَوْه ومروه ألاّ يَدَعَ ما عليه من حقِّنا، فإِنِّي لا أحبُّ أن يَفسدَ عندي مثلُه من أشرافِ العرب.

فأتَوْه حتّى وقفوا عليه عشيّةً وهو جالسُ على بابه، فقالوا: ما يمنعُكَ من لقاءِ الأمير؟ فإِنّه قد ذكرَكَ وقالَ: لو أعلمُ أَنّه شاكٍ لَعُدْته، فقالَ لهم: الشّكوى تَمنعُني، فقالوا له: قد بلغَه انّكَ تجلسُ كلَّ عشيّةٍ على باب دارِكَ، وقدِ استبطأكَ، والإبطاءُ والجَفاءُ لا يحتملُه السًّلطانُ، أقسَمْنَا عليكَ لمّا ركبتَ معَنا. فدعا بثيابه فلبسَها ثمّ دعا ببغلتِه فركبَها، حتّى إِذا دنا منَ القصرِ كأنّ نفسهَ أحسّتْ ببعضِ الّذي كانَ، فقالَ لحسّان بن أسماء بن خارجة: يا ابن أخي إِنِّي واللّهِ لهِذا الرّجلِ لَخائفٌ، فما تَرى؟ قال: أيْ عمّ! واللهِّ ما أَتخوّفُ عليكَ شيئاً، ولَمْ تَجعلْ على نفسِك سبيلاً، ولم يكنْ حسّان يعلمُ في أَيِّ شيءٍ بعثَ إِليه عبيدُاللّهِ.

فجاءَ هانئ حتّى دخلَ على ابنِ زيادٍ ومعَه القومُ، فلمّا طلعَ قالَ ابنُ زيادٍ: أتَتْكَ بحائنٍ(١) رِجلاه. فلمّا دنا من ابنِ زيادٍ - وعندَه شُريحٌ القاضي - التفتَ نحوَه فقالَ:

__________________

(١) مثل يضرب لمن يسعى الى مكروه حتى يقع فيه. «جمهرة الامثال للعسكري ١: ١١٩ ت ١١٤ »، والحائن: الهالك. «لسان العرب - حين - ١٣: ١٣٦ ».

٤٧

أُريدُ حِبَاءهُ وَيُرِيْدُ قَتْلي

عَذِيْرَكَ مِنَ خَلِيْلِكَ مِنْ مُرَادِ(١)

وقد كانَ أوّل ( مادخلَ )(٢) عليه مُكرِماً له مُلطِفاً، فقالَ له هانئ: وما ذلكَ أيًّها الأَميرُ؟ قالَ: إٍيهٍ يا هانئ بنَ عُروِةَ، ما هذهِ الأمورُ الّتي تَرَبّصُ في دارِكَ لأَميرِ المؤمنين وعامّةِ المسلمين؟ جئتَ بمسلم بنِ عقيلٍ فأَدخلتَه دارَك وجمعتَ له السِّلاحَ والرجالَ في الدُّورِ حولَكَ، وظننتَ أَنّ ذلكَ يخفى عليّ، فقالَ: ما فعلتُ، وما مسلم عندي، قالَ: بلى قد فعلتَ. فلمّا كثرَ ذلكَ بينَهما، وأَبى هانئ إلاّ مجاحَدَتَه ومنُاكَرتَه، دعا ابنُ زيادٍ مَعْقِلاً - ذلكَ العَيْنَ(٣) - فجاءَ حتّى وقفَ بين يديه، فقالَ: أَتعرفُ هذا؟ قالَ: نعم، وعلمَ هانئ عندَ ذلكَ أَنّه كانَ عيناً عليهم، وأَنه قد أَتاه بأَخبارِهم، فأُسقطَ في يدِه ساعةً ثم راجعتْه نفسه فقالَ: اسمعْ مني وصدَقْ مقالتي(٤) ، فواللهِّ لا كذبتُ، واللهِ ما دعوتُه إِلى منزلي، ولا علمتُ بشيءٍ من أَمرِه حتّى جاءَني يسأَلني(٥) النُزولَ فاستحيَيْتُ من ردِّه، ودخلنَي من ذلكَ ذمامٌ فضيَّفْتُه واويتُه، وقد كانَ من أَمرِه ما كانَ بلغَكَ، فإِن شئتَ أن أعطيَكَ الآنَ مَوْثقاً مُغَلَّظاً ألاّ أَبغيَكَ سوءاً ولا غائلةً، ولآتِيَنَّكَ حتّى أَضعَ يدي في يدِكَ، وان شئتَ أَعطيتُكَ رهينةً تكونُ في يدِكَ حتّى آتيَكَ، وأَنطلق إِليه فآمره أن يخرجَ من داري إِلى حيثُ شاءَ منَ الأَرضِ، فأَخرج من ذمامِه وجوارِه. فقالَ له

__________________

(١) البيت لعمرو بن معدي كَرب: كتاب سيبويه ١: ٢٧٦، الاغاني ١٠: ٢٧، العقد الفريد ١: ١٢١، جمهرة اللَغة ٦: ٣٦١.

(٢) في هامش «ش» نسخة اخرى: ما قدم.

(٣) العين: الجاسوس « الصحاح - عين - ٦: ٢١٧٠ ».

(٤) في هامش «ش»: قولي.

(٥) في «م»: ليسالني.

٤٨

ابنُ زيادٍ: واللهِّ لا تفارقني أبداً حتّى تَأْتِيَني به، قالَ: لا واللهِ لا آتيكَ(١) به أبداً، أجيئُكَ بضيفي تَقتلُه؟! قالَ: واللّهِ لَتَأْتِيَنَّ(٢) به، قالَ: لا واللّهِ لا آتيكَ به.

فلمّا كثرَ الكلامُ بينَهما قامَ مسلمُ بنُ عمرو الباهليّ - وليسَ بالكوفةِ شاميٌ ولا بصريٌّ غيره - فقالَ: أصلحَ اللهُّ الأميرَ، خلِّني وِايّاه حتّى أُكَلِّمَه، فقامَ فخلا به ناحيةً من ابنِ زيادٍ، وهما منه بحيثُ يَراهما، وِاذا رفعا أصواتَهما سمعَ ما يقولانِ، فقالَ له مسلمٌ: يا هانئ إِنِّي أنْشُدُكَ اللهَ أن تقتلَ نفسَكَ، وأنْ تُدخِلَ البلاءَ على عشيرتِكَ، فواللّهِ إِنّي لأنْفَسُ بكَ عنِ القتلِ، إِنّ هذا الرّجلَ ابنُ عمِّ القوم وليسوا قاتِليه ولا ضائريه، فادفعْه إِليه فإِنّه ليسَ عليكَ بذلكَ مَخزاةٌ ولا مَنقصةٌ، إِنّما تَدفعُه إِلى السُّلطانِ. فقالَ هانئ: واللهِّ إِنّ عليَّ في ذلكَ للخزي والعار، أنا أدفعُ جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيحٌ أسمعُ وأرى، شديدُ السّاعدِ، كثيرُ الأعوانِ؟! واللهِّ لو لم أكن إلاّ واحداَ ليسَ لي ناصرٌ لم أدفعْه حتّى أموتَ دونَه. فأخذَ يُناشدُه وهو يقولُ: واللّهِ لا أدفعُه أبداً.

فسمعَ ابنُ زيادٍ ذلكَ فقالَ: أدْنُوه منِّي، فادْنيَ منه فقالَ: واللّهِ لَتَأْتِيَنِّي به أو لأضْربَنَ عُنقَكَ، فقالَ هانئ: إِذاً واللّهِ تكثر البارِقة حولَ دارِكَ فقالَ ابنُ زيادٍ: والهفاه عليكَ! أبالبارِقةِ تُخوِّفُني؟ وهو يظنُّ أنّ عشيرتَه سيمنعونه ؛ ثّم قالَ: أدْنُوه منيِّ، فادنِيَ، فاعترضَ وجهَه بالقضيبِ فلم يَزَلْ يَضربُ وجهَه وأنفَه وجبينَه وخدَّه حتّى كَسرَ

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: لا أجيئك.

(٢) في هامش «ش» و «م»: لتأتيني.

٤٩

أَنفَه وسَيَّلَ الدِّماءَ على ثيابِه، ونثرَلحمَ خدِّه وجبينهِ على لحيتهِ، حتّى كسرَ القضيب. وضربَ هانئ يدَه إِلى قائم سيفِ شُرَطِيٍّ، وجاذبَه الرّجلُ ومنَعه، فقالَ عبيدُاللّهِ: أَحَرُوْرِيٌّ سائرَ اليوم؟ قد حلَّ لنا دمُكَ، جرُّوه، فَجرَّوه فألقَوْه في بيتٍ من بيوتِ الدّارِ، وأَغلقوا عليه بابَه، فقالَ: اجعلوا عليه حَرَساً، ففُعِلَ ذلكَ به، فقام إِليه حسّانُ بنُ أَسماء فقالَ له: أرُسُلُ غَدْرٍ سائرَ اليوم؟ أَمرْتَنا أَن نجيئكَ بالرّجلِ، حتّى إِذا جئناك به هَشَمْت وجهَه وسيَّلتَ دماءه على لحيتِه، وزعمتَ أَنّكَ تقتلُه. فقالَ له عُبيدُاللهِّ: ِوانّكَ لَهاهنا، فأَمَرَ به فلُهِز(١) وتُعْتِعَ(٢) ثمّ أُجلسَ ناحيةً. فقالَ محمّدُ بنُ الأشعثِ: قد رَضِيْنا بما راه(٣) الأَميرُ، لنا كانَ أَو علينا، إِنّما الأميرُ مؤدِّبٌ.

وبلغَ عمرو بنَ الحجّاجِ أَنّ هانئاً قد قُتِلَ، فأَقبلَ في مَذْحِج حتّى أَحاطَ بالقصرِ ومعَه جمعٌ عظيمٌ، ثمّ نادى: أَنا عمرو بنُ الحجّاجِ، وهذه فُرسانُ مَذْحِج ووُجوهُها، لم تَخلعْ طاعةً، ولم تُفارقْ جماعةً، وقد بلغَهم أَنّ صاحبَهم قد قُتِلَ فأَعظَموا ذلكَ. فقيلَ لعبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ: هذه مَذْحِج بالباب، فقال لشريحٍ القاضي: ادخلْ على صاحبهم فانظُرْ إِليه، ثمّ اخرُجْ وأَعلِمْهم أَنّه حيٌّ لم يُقتَلْ. فدخلَ فنظرَ شُريحٌ إِليه، فقالَ هانئ لمّا رأَى شُريحاً: يا للهِّ! يا للمسلميمنَ! أَهَلَكَتْ عشيرتي؟! أَينَ أَهلُ الدِّين؟! أَينَ أَهلُ البَصَر(٤) ؟! والدِّماءُ تَسيلُ على

__________________

(١) اللهز: الضرب بجمع اليد في الصدر «الصحاح - لهز - ٣: ٨٩٤».

(٢) تعتعه: حرّكه بعنف. «القاموس - تعع - ٣: ٩».

(٣) في « م » وهامش « ش » رأى.

(٤) في « م » وهامش « ش »: المصر.

٥٠

لحيتِه، إِذ سمعَ الرّجّةَ(١) على باب القصرِ فقالَ: إِنِّي لأَظنُّها أَصواتَ مَذْحِج وشيعتي منَ المسلمينَ، إِنّه إِن ( دَخَلَ عليّ )(٢) عشرةُ نفرٍ أَنقذوني. فلمّا سمعَ كلامَه شُريحٌ خرجَ إِليهم فقالَ لهم: إِنّ الأميرَ لمّا بلغَه مكانُكم ومقالتُكم في صاحبكم، أَمرَني بالدُّخولِ إِليه فأتيتُه فنظرت إِليه، فأَمرَني(٣) أَن أَلقاكم وأَن أًّعلمَكم أنّه حيٌ، وأَنّ الّذي بلغَكم من قتلِه باطل، فقالَ عمرُو بنُ الحجّاجِ وأَصحابُه: أَمّا إِذْ لم يُقْتَلْ(٤) فالحمدُ للّهِ، ثمّ انصرفوا.

وخَرجَ عبيدُاللّهِ بن زيادٍ فصعدَ المنبرَ، ومعَه أَشرافُ النّاس وشُرَطهُ وحَشَمُه، فقالَ:

أَمّا بعدُ: أَيُّها النّاسُ فاعتصِمُوا بطاعةِ اللّهِ وطاعةِ أئمّتِكم، ولا تَفرقوا فتَهلِكُوا وتَذِلُّوا وتُقْتَلوا وتُجْفَوا وتًحرَبوا(٥) ، إِنَّ أَخاك منْ صَدَقَكَ، وقد أَعذَرَ مَنْ أنذَرَ. ثمّ ذهبَ لِيَنزلَ فما نزلَ عنِ المنبرِحتّى دخلتِ النّظّارةُ المسجدَ من قِبَلِ باب التّمّارينَ يَشتدُّون ويَقولونَ: قد جاءَ ابنُ عقيلٍ!قد جاءَ ابنُ عقيلٍ!فدخل عبيدُاللّهِ القصرَمُسرِعاً وأَغلقَ أبوابَه.

قالَ عبدُاللّه بن حازمٍ: أنا واللهِّ رسولُ ابنِ عقيلٍ إِلى القصرِ لأنظرَ ما فعلَ هانئ، فلمّا حُبِسَ وضُرِبَ ركبتُ فرسي فكنتُ أَوّلَ أَهل

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: الوجبة. وهي الصوت الساقط. «القاموس » وجب - ١: ١٣٦ ».

(٢) في «ش»: دخل الي.

(٣) في «م» وهامش «ش»: وأمرني.

(٤) في هامش «ش» و «م»: اما اذا كان لم يقتل.

(٥) الحرب: أخذ المال قهراً. «الصحاح - حرب - ١: ١٠٨».

٥١

الدَّارِ دخلَ على مسلمِ بنِ عقيلٍ بالخبرِ، فإِذا نِسوةٌ لِمُرَاد مُجتمعات يُنادِيْنَ: يا عَبرتاه! يا ثُكلاه! فدخلتُ على مسلمِ بنِ عقيلٍ فأخبرتُه فأَمرَني أَن أُناديَ في أصحابِه وقد ملأ بهم(١) الدُّورَ حولَه، وكانوا فيها أَربعةَ آلافِ رجلٍ، فناديتُ: يا منصورُ أمِتْ، فتَنادى أهل الكوفةِ واجتمعوا عليه، فعقدَ مسلمٌ لرؤوسِ الأرباعِ على القبائل كِنْدَةَ ومَذْحِجَ وأسَدَ وتَمِيْمَ وهَمْدَانَ، وتَداعى النّاسُ واجتمعوا، فما لبثْنا إلاّ قليلاً حتّى امتلأ المسجدُ منَ النّاسِ والسُّوقُ، وما زالوا يَتَوَثَّبون حتّى المساءِ، فضاقَ بعبيدِاللهّ أمرُه، وكانَ أَكثر عملِه أن يُمسِكَ بابَ القصر وليسَ معَه في القصرِ إلاّ ثَلاثونَ رجلاً منَ الشُّرَطِ وعشرونَ رجلاً من أشرافِ النّاسِ وأهلِ بيتهِ وخاصّته، وأقبلَ مَنْ نأَى عنه من أشرافِ النّاسِ يأْتونَه من قِبَل الباب الّذي يلي دارَ الرُّوميِّينَ، وجعلَ مَنْ في القصرِ معَ ابن زيادٍ يُشرِفونَ عليهِمَ فينظرونَ إِليهم وهم يرمونَهم بالحجارةٍ ويَشتمونَهم ويَفترونَ على عبيدِاللهِّ وعلى أبيه.

ودعا ابنُ زيادٍ كَثِيرَ بنَ شهابِ وأمرَه أن يَخرجَ فيمن أطاعَه من مَذْحِج، فيسيرَ في الكوفةِ ويخذِّلَ النّاَسَ عنِ ابن عقيلٍ ويخوِّفَهم الحربَ(٢) ويحذِّرَهم عقوبةَ السُّلطانِ، وأَمرَ محمّدَ بنَ الأشعثِ أن يَخرجَ فيمن أطاعَه من كِنْدةَ وحَضْرَمَوْتَ، فيرفعَ رايةَ أمانٍ لمن جاءه منَ النّاسِ، وقالَ مثلَ ذلكَ للقَعْقاعِ الذُّهْليِّ وشَبَثِ بنِ رِبعيٍّ التّميميِّ وحَجّارِبن أبجَر العِجليِّ وشمرِ بنِ ذي الجوشنِ العامريِّ، وحبسَ باقيَ وجوهِ النّاسِ عندَه استيحاشاً إِليهم لقلّةِ عددِ من معَه منَ النّاس.

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: منهم.

(٢) في هامش «ش» و «م»: بالحروب.

٥٢

فخرجَ كَثيرُبنُ شِهابٍ يُخذِّلُ(١) النّاسَ عنِ ابنِ عقيلٍ، وخرجَ محمّدُ ابنُ الأشعثِ حتّى وقفَ عندَ دُورِ بني عُمارةَ، فبعثَ ابنُ عقيلٍ إِلى محمّدِ ابن الأشعثِ منَ المسجدِ عبدَ الرّحمن بن شريحٍ الشِّباميّ، فلمّا رأَى ابنُ الأشعثِ كثرةَ من أَتاه تأَخّرَ عن مكانِه، جعلَ محمّدُ بنُ الأشعثِ وكثِيرُبنُ شِهابِ والقَعْقَاعُ بنُ شَوْر الذُّهليّ وشَبَثُ بنُ رِبعيٍ يَرُدُّونَ النّاسَ عنِ اللحوقِ بمسلمٍ ويخوِّفونَهمُ السُّلطانَ، حتّى اجتمعَ اليهم عددٌ كثيرٌ من قومِهم وغيرهم، فصاروا إِلى ابنِ زيادٍ من قِبَلِ دارِ الرُّومييّنَ ودخلَ القوم معَهم، فقالَ له كَثِيرُبنُ شهابٍ: اصلح اللهُّ الأَميرَ، معَكَ في القصرِ ناسٌ كثيرٌ من أشرافِ النّاسِ ومن شُرَطِكَ واهلِ بيتِكَ ومَواليكَ، فاخرُجْ بنا إِليهم، فأبى عُبيدُاللّهِ؟ وعقدَ لشَبَث بن رِبْعيٍّ لواءً فأَخرجَه.

وأقامَ النّاس معَ ابنِ عقيلٍ يَكثرونَ حتّى المساءِ وأَمرُهم شديدٌ، فبعثَ عُبيدُاللهِّ إِلى الأَشرافِ فجمعَهم، ثمّ أَشرفوا على النّاسِ فَمَنَّوا أَهلَ الطّاعةِ الزِّيادةَ والكرامةَ، وخَوَّفوا أهلَ العصيانِ(٢) الحرمانَ والعقوبةَ، وأَعلَموهم وصولَ(٣) الجندِ منَ الشّام إِليهم. وتكلّمَ كَثِيرٌ حتّى كادتِ الشّمسُ ان تَجبَ، فقالَ: أيُّها النّاسَُ الحقوا بأهاليكم ولا تَعَجَّلوا الشّرَّ، ولا تُعَرِّضواَ أنفسَكم للقتل، فإِنَّ هذه جنودُ أميرِ المؤمنينَ يزيدَ قد أقبلتْ، وقد أعطى اللهَّ الأميرُ عهدا ً: لئن تَمَّمْتًم على حربه ولم تَنصرِفوا من عشيّتِكم (أن يَحْرِم )(٤) ذُرِّيَّتَكم العطاءَ، ويُفرِّقَ مُقاتِلتًكم في مَغازي الشّامِ، وأن يأخذَ البريءَ بالسّقيمِ والشّاهدَ بالغائبِ، حتّى لا

__________________

(١) في النسخ: فخذّل، وما في المتن من هامش «ش» و «م».

(٢) في « م » وهامش « ش »: المعصية.

(٣) في «م» وهامش « ش »: فصول.

(٤) في هامش «ش»: ليحرمن.

٥٣

تبقى له بقيّةٌ من أَهلِ المعصيةِ إلاّ أذاقَها وبالَ ما جنتْ أيديها. وتكلّمَ الأشرافُ بنحوٍ من ذلكَ.

فلمّا سمعَ النّاسُ مقالَهم أخذوا يتفرّقونَ، وكانتِ المرأةُ تأْتي ابنَها أَو أَخاها فتقولُ: انْصَرِفْ، النّاسُ يَكفونَكَ ؛ ويجيءُ الرّجلُ إِلى ابنهِ وأَخيه فيقولُ: غداً يأْتيكَ أَهلُ الشّام، فما تَصنعُ بالحرب والشّرِّ؟ انْصَرِفْ ؛ فيذهبُ به فينصرفُ. فما زالَوا يتفرّقون حتّى أمسَى ابنُ عقيلِ وصلّى المغربَ وما (معَه إلاّ ثلاثونَ )(١) نَفْساً في المسجدِ، فلمّا رأى أَنّه قد أًمسى وما معَه إلاّ أُولئكَ النّفرُ، خرجَ منَ المسجدِ متوجِّهاً نحوَ أَبواب كِنْدةَ، فما بلغَ الأَبوابَ ومعَه منهم عشرة، ثمّ خرجِ منَ الباب فإذا لَيسَ معَه إِنسانٌ، فالتفتَ فإِذا هو لا يُحِسُّ أَحداًَ يَدُلّه علىَ الطّريقِ، ولا يَدُلًّه على منزلِه، ولا يُواسيه بنفسِه إِن عرضَ له عدوّ.

فمضى على وجهِه مُتَلدَداً(٢) في أَزِقّةِ الكوفةِ لا يدري أينَ يذهبُ، حتّى خرجَ إِلى دورِ بني جَبَلَةَ من كنْدَةَ، فمشى حتّى انتهى إِلى بابِ امرأةٍ يُقالُ لها: طَوْعَةُ، أُمُّ ولدٍ كانتْ للأَشعثِ بنِ قيسٍ فأعتقَها، فتزوّجَها أسَيْدٌ الحضرميُّ فولدتْ له بِلالاً، وكان بِلالٌ قد خرجَ معَ النّاسِ فأُمُّه قائمةٌ تنتظرة ؛ فسلّمَ عليها ابنُ عقيلٍ فردّت عليه فقالَ لها: يا أَمةَ اللّهِ اسقيني ماءً، فسقتْه وجلسَ وأَدخلتِ ألإناءَ، ثمّ خرجتْ فقالتْ: يا عبدَاللّهِ ألم تشربْ؟ قالَ: بلى، قالتْ: فاذهبْ إِلى أَهلِكَ، فسكتَ ثمّ أعادتْ مثلَ ذلكَ، فسكتَ، ثمّ قالتْ له في الثّالثةِ: سُبحانَ اللهِّ! يا

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: معه ثلاثون.

(٢) في هامش «ش»: التلدد: النظر الى أليمين والشمال.

٥٤

عبدَاللّهِ قُمْ عافاكَ اللّهُ إِلى أَهلِكَ فإِنّه لا يَصلحُ لكَ الجلوسُ على بابي، ولا أُحِلُّه لكَ.

فقامَ وقالَ: يا أَمةَ اللهِّ ما لي في هذا المِصر منزلٌ ولا عشيرةٌ، فهل لكِ في(١) اجرٍ ومعروفٍ، لعلِّي مُكافئًكِ بعدَ اليوم، فقالتْ: يا عبدَاللّهِ وما ذاكَ؟ قالَ: أَنا مسلمُ بنُ عقيلٍ كَذَبَني هؤَلاءِ القومُ وغَرُّوني وأَخرجوني؟ قالتْ: أَنتَ مسلمٌ؟ قالَ: نعم ؛ قالتْ: ادخُلْ، فدخلَ بيتاً في دارِها غيرِ البيتِ الّذي تكونُ فيه، وفرشتْ له وعرضتْ عليه العَشاءَ فلم يَتَعَش.

ولم يكنْ بأَسرعَ أَن جاءَ ابنها، فرآها تُكثِرُ الدُّخولَ في البيتِ والخروجَ منه، فقالَ لها: واللّهِ إِنّه لَيَرِيبُني كثرةُ دخولكِ هذا البيتَ منذُ الليلةِ وخروجِكِ منه ؛ إِنّ لكِ لَشأناً؛ قالتْ: يا بُنَيَّ الْه عن هذا؛ قالَ: واللهّ لَتخبرينني(٢) ؛ قالتْ: أَقبلْ على شأْنِكَ ولا تسأَلنْي عن شيءٍ، فَألح عليها فقالتْ: يا بُنَيّ لاَ تُخْبرَنَ أَحدآً منَ النّاسِ بشيءٍ مما أُخبركُ به ؛ قالَ: نعم، فأَخذتْ عليه اَلأَيمانَ فحلفَ لها، فأَخبرتْه فاضطجعَ وسكتَ.

ولمّا تفرّقَ النّاسُ عن مسلمِ بنِ عقيلٍ طالَ على ابنِ زيادٍ وجعلَ لا يَسمعُ لأَصحاب ابن عقيل صوتاً كما كانَ يَسمع قبلَ ذلكَ ؛ قال لأصحابه: أشرِفُوا فانظُرُوا، هل تَرَوْنَ منهم أحداًَ؟ فأشرفوا فلم يَرَوْا أَحداً، قالَ: فانظُرُوا لعلّهم تحتَ الظلالِ وقد كَمنوا لكم،

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: الى.

(٢) في هامش «ش» و «م»: لَتُخْبرنِّي.

٥٥

فنزعوا تَخاتجَ(١) المسجدِ وجعلوا يخفضونَ شُعَلَ النّارِ(٢) في أَيديهم ويَنظرونَ، فكانتْ أَحيانا تُفيءُ لهم واحياناً تُضيءُ كما يُريدونَ، فدلَّوُا القناديلَ ( وأَطنانَ القصب تٌشَدُّ )(٣) بالحبالِ ثمّ تُجعلُ فيها النيرانُ ثمّ تُدلّى حتّى تنتهيَ إِلى الأَرَض، ففعلوا ذلكَ في أقصى الظَلال(٤) وأَدناها وأَوسطِها حتّىٍ فُعِلَ ذلكَ بالظُّلّةِ الّتي فيها المنبر، فلمّا لم يَرَوْا شيئاً أعلموا ابنَ زيادٍ بتفرّقِ القومِ، ففتحَ بابَ السُّدّةِ(٥) الّتي في المسجدِ ثمّ خرجَ فصعدَ المنبرَ وخرجَ أَصحابهُ معَه، فأمرَهم فجلسوا قُبَيل العَتَمةِ وأَمرَ عمرو بنَ نافع فنادى: أَلا بَرِئَتِ ألذِّمّةُ من رجلٍ منَ الشّرَطِ والعُرفَاءِ والمنَاكب(٦) أَو المقاتِلةِ صلّى العتمة إلاّ في المسجدِ، فلم يكنْ إلاّ ساعة حتى امتَلأ المسجدُ منَ النّاسِ، ثمّ أَمرَ مناديَه فأَقامَ الصّلاةَ، وأَقامَ الحرسَ خلفَه وأَمرَهم بحراسته من أَن يَدخلَ عليه أَحدٌ يَغتالهُ، وصلىّ بالنّاس ثمّ صعدَ المنبرَ فحمدَ اللهَّ وأَثنى عليه ثمّ قالَ:

أمَّا بعدُ: فإِنّ ابن عقيلٍ السّفيهَ الجاهلَ قد أَتى ما قد رأَيتم منَ

__________________

(١) قال العلامة المجلسي في البحًار ٤٤: ٣٦٢: التختج: لعله معرب «تخته » اي نزعوا الأخشاب من سقف المسجد لينظروا هل فيه أحد منهم. وان لم يرد بهذا المعنى في اللغة.

(٢) في هامش «ش»: النيران.

(٣) في هامش «ش» و «م»: وانصاف الطنان تشد.

والطنان والأطنان: جمع طُنّ، وهو حزمة القصب «الصحاح - طنن - ٦: ٢١٥٩».

(٤) الظلال: جمع ظلة وهي السقيفة يستتر بها من الحر والبرد انظر «مجمع البحرين - ظلل - ٥: ٤١٧».

(٥) السدّة: السقيفة فوق الباب، وقيل هي الساحة بين يدي الباب. «مجمع البحرين - سدد - ٣: ٦٧.

(٦) المناكب: جمع منكب، وهو رئيس العرفاء«الصحاح - نكب - ١: ٢٢٨ ».

٥٦

الخلافِ والشِّقاقِ، فبَرئَتْ ذمّةً اللهِّ من رجلٍ وجدناه في دارِه، ومن جاءَ به فله دِيَتُه، واتّقوا(١) اللّهَ عبادَ اللّهِ والزموا طاعتَكم وبيعتَكم، ولا تجعلوا على أنفسِكم سبيلاًَ. يا حُصَينَ بنَ نُميرٍ، ثكلتْكَ أُمُّكَ إِن ضاعَ باب سكّةٍ من سككِ الكوفةِ، أوخرجَ هذا الرجلُ ولم تأْتِني به، وقد سلّطتُكَ على دورِ أَهلِ الكوفةِ، فابعثْ مراصدَ على أهلِ السِّككِ، وأصبحْ غداً فاسْتبِرِ(٢) الدُّورَ وجُسْ خلالَها حتّى تأْتيني بهذا الرّجلِ. وكانَ الحُصينُ بنُ نُميرٍ على شرَطِه وهومن بني تميم.

ثمّ دخلَ ابنُ زيادٍ القصرَ، وقد عقدَ لعمرو بنِ حُرَيثٍ رايةً وأمَّره على النّاسِ. فلمّا أصبحَ جلسَ مجلسَه وأَذنَ للنّاسِ فدخلوا عليه، وأقبلَ محمّدُ بنُ الأَشعثِ، فقالَ: مرحباً بمن لا يُسْتَغَشُّ ولا يُتَّهَمُ، ثمّ أقعدَه إِلى جنبِه.

وأصبحَ ابنُ تلكَ العجوز فغدا إِلى عبدِ الرحمنِ بنِ محمّدِ بن الأشعثِ فأخبره بمكانِ مسلمِ بنِ عقيلٍ عندَ أُمِّه، فأَقبلَ عبدُ الرّحمنِ حَتّى أَتى أباه وهو عندَ ابنِ زيادٍ فسارَّه، فعرفَ ابنُ زيادٍ سِراره فقالَ له ابنُ زيادٍ بالقضيب في جنبِه: قُمْ فائتني به السّاعةَ، فقامَ وبعثَ معَه قومه، لأنّه قد علمَ أنَّ كلَّ قومٍ يَكرهونَ أن يصابَ فيهمِ (مسلمُ بنُ عقيل )(٣) ، فبعثَ معَه عبيدَاللّه بن عبّاسٍ السُّلميّ في سبعين رجلاً من قيسٍ، حتّى أتَوُا الدّارَ الّتي فيها مسلمُ بنُ عقيلٍرحمه‌الله ، فلمّا سمعَ وَقْعَ حوافرِ

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: اتقوا.

(٢) في هامش «ش» و «م»: فاستبرئ، أو استَبرْ أمر من استبار، وبار اذا اختبر أو استَبرْ افتعل من السَبر.

(٣) في هامش «ش» و «م»: مِثل ابن عقيل.

٥٧

الخيلِ وأَصواتَ الرِّجالِ علمَ أَنّه قد أُتيَ، فخرجَ إِليهم بسيفِه، واقتحموا عليه الدًارَ، فشدَّ عليهم يَضرِبُهم بسيفهِ حتّى أَخرجَهم منَ الدّارَ، ثمّ عادوا إِليه فشدَّ عليهم كذلكَ، فاختلفَ هو وبكرُ بنُ حُمرانَ الأَحمريّ فضربَ فمَ مسلمٍ فشقً(١) شفتَه العُليا وأَسرعِ السّيفُ فِى السًّفلى ونَصَلَتْ(٢) له ثَنِيَّتاه، وضربَه مسلمٌ في رأسِه ضربةَ مُنكَرةً وثنّاه بأخرى على حبلِ العاتقِ(٣) كادتْ تَطلعُ على جوفِه، فلمّا رأوا ذلكَ أشرفوا عليه من فوقِ البيتِ فأَخذوا يَرمونَه بالحجارةِ، ويُلهِبونَ النّارَ في أطنانِ القصبِ ثمّ يُلقونَها عليه من فوقِ البيتِ، فلمّا رأَى ذلكَ خرجَ عليهم مُصلِتاً بسيفِه في السِّكّةِ، فقالَ له محمّدُ بنُ الأشعثِ: لكَ الأمانُ، لا تَقتلْ نفسَكَ؟ وهو يُقاتِلهُم ويقولُ:

أقْسَمْتُ لا أُقْتَلُ إِلا حُرُّا

إِنِّيْ(٤) رَأَيْتُ المْوَتَ شَيْئَاً نُكْرَاُ

ويجعَلُ(٥) الْبَارد َسُخْنَا ًمُرًا

رُدَّ(٦) شُعَاعُ الشَّمْسِ فاستقرَّا

كلّ امْرِىءٍ يَوْمَاً مُلاَقٍ شرًّا

أَخَافُ أَنْ أُكْذَبَ أَوْ أُغَرَّا

فقالَ له محمّدُ بنُ الأَشعثِ: إِنّكَ لا تُكذَب ولا تُغَّرُ، فلا تَجزعْ، إِنّ القومَ بنو عمِّكَ وليسوا بقاتِليكَ ولا ضائريكَ(٧) . وكانَ قد أُثْخِنَ بالحجارةِ

__________________

(١) في « م » وهامش « ش »: فقطع.

(٢) نصل: أي زال. انظر«الصحاح - نصل - ٥: ١٨٣٠».

(٣) في هامش «ش» و « م »: عاتقه.

(٤) في هامش «ش» و «م»: وان.

(٥) في هامش «ش» و « م »: ويخلط.

(٦) في هامش «ش» و « م »: ذر.

(٧) في « م » وهامش « ش »: ولاضاربيك.

٥٨

وعجزَ عنِ القتالِ، فانبهرَ وأَسندَ ظهرَه إِلى جنب تلكَ الدّارِ، فأَعادَ ابنُ الأَشعثِ عليه القولَ: لكَ الأَمانُ، فقالَ: آمِنٌ أَنا؟ قالَ: نعم. فقالَ للقوم الّذينَ معَه: لي(١) الأمانُ؟ فقالَ القومُ له: نعم، إلاّ عبيدَاللّه بن العبّاسَِ السُّلميّ فإِنّه قالَ: لا ناقةَ لي في هذا ولا جَمل، وتنحّى؟ فقالَ مسلمٌ: أَما لو لم تُؤَمِّنوني ما وضعتُ يدي في أَيديكم.

وأُتِيَ ببغلةٍ فحُمِلَ عليها، واجتمعوا حولَه وانتزعوا سيفَه، فكأَنّه عندَ ذلكَ أيِسَ(٢) من نفسهِ ودمعتْ عيناه، ثمّ قالَ: هذا أوّلُ الغدرِ، قالَ له محمّدُ بنُ الأشعثِ: أَرجوألاّ يكونَ عليكَ باْسٌ، فقالَ: وما هوإلاّ الرّجاءُ، أَينَ أمانُكم؟ إِنّا للهِّ وِانّا إِليه راجعونَ! وبكى، فقالَ له عبيدُاللّه ابن العبّاسِ السُّلمي:إنّ من(٣) يَطلبُ مثلَ الّذي تطلبُ، إِذا نزلَ به مثلُ الّذي نزلَ بكَ لم يبك. قالَ: إنِّي واللّهِ ما لنفسي بكيت، ولا لها منَ القتل أرثي، وان كنتُ لم أحبّ لها طرفةَ عينٍ تلفاً، ولكنْ(٤) أبكي لأهلي المُقبِلينَ إِليّ، أَبكي للحسينِعليه‌السلام والِ الحسين.

ثمّ أقبلَ على محمّدِ بنِ الأشعثِ فقالَ: يا عبدَاللّهِ إِنِّي أَراكَ واللّهِ ستعجزُ عن أَماني، فهل عندَكَ خيرٌ؟ تَستطيعُ أَن تَبعثَ من عندِكَ رجلاً على لساني أَن يُبلِّغَ حسيناً؟ فإنِّي لا أَراه إِلاّ قد خرجَ إِليكمُ اليومَ مقبلاً أو هو خارجٌ غداً وأَهل بيتهِ، ويقولَ له: إِنّ ابنَ عقيلٍ بعثَني إِليكَ وهو أسيرٌ في أيدي القوم، لا يرى أَنّه(٥) يمسي حتّى يُقتَل، وهو يقولُ:

__________________

(١) في هامش «ش»: الّي.

(٢) في هامش «ش» و «م»: أحس.

(٣) في هامش «ش» و «م»: ان الذي.

(٤) في هامش «ش» و «م»: لكني.

(٥) في هامش «ش»: ان.

٥٩

ارجعْ فداكَ أبي وأُمِّي بأهلِ بيتِكَ ولا يَغُرَّكَ(١) أهلُ الكوفةِ، فإِنّهم أصحابُ أَبيكَ الّذي كانَ يتمنّى فراقَهم بالموتِ أوِ القتلِ، إِنّ أهلَ الكوفة قد كَذَبوكَ وليسَ لمكذوب(٢) رأْيٌ. فقالَ ابنُ الأشعثِ: واللّهِ لأفعلَنَ ولأعْلِمَنَّ ابنَ زيادٍ أنِّي قد آمنْتُكَ.

وأقبلَ ابنُ الأشعثِ بابنِ عقيلٍ إِلى باب القصرِ، فاستاْذنَ فأُذِنَ له فدخلَ على ابنِ زيادٍ فأَخبرَه خبرَ ابنِ عقيلٍَ وضَرْبَ بَكْرٍ إِيّاه وما كانَ من أَمانِه له، فقالَ له عبيدُاللهِّ: وما أنتً والأمانَ، كأنّا أرسلناكَ لِتُؤمنَه! إِنمّا أرسلناكَ لتأْتينا به، فسكتَ ابن الأَشعثِ، وانتُهِيَ بابنِ عقيلٍ إِلى بابِ القصرِ وقدِ اشتدَّ به العطشُ، وعلى باب القصرِ ناسٌ جلوسٌ ينتظرونَ الإذنَ، فيهم عُمارةُ بنُ عقبة بن أبي مُعَيْطٍ، وعمرُو بن حُرَيثٍ، ومسلمُ بنُ عمرو، وكثيرُ بنُ شهابِ ؛ ِواذا قُلّةٌ باردةٌ موضوعة على الباب، فقالَ مسلمٌ: اسقوني من هذا المَاء ِ، فقالَ له مسلمُ بنُ عمرو: أتَراها؟َ ما أبردَها! لا واللّهِ لا تذوقُ منها قطرةً أبداً حتّى تذوقَ الحميمَ في نار ِجهنّمَ. فقالَ له ابنُ عقيلٍ رضيَ اللّهُ عنه: ويلَكَ مَنْ أنت؟ قالَ: أنا مَنْ عَرفَ الحقَّ إِذ أنكرتَه، ونصحَ لإمامِه إِذ غَشَشْتَه، وأطاعَه إِذ خالفتَه، أنا مسلمُ ابنً عمرو الباهليّ، فقالَ له مسلمُ بنُ عقيلٍ: لأمِّكَ الثّكلُ، ما أجفاكَ وأفظَّكَ وأقسى قلبَكَ! أنتَ يا ابنَ باهلةَ أولى بالحميمِ والخلودِ في نارِ جهنّمَ منِّي. ثمّ جلسَ فتساندَ إِلى حائطٍ.

وبعثَ عمرُو بنُ حُرَيثٍ غلاماً له فجاءه بقُلّةٍ عليها مِنديلٌ وقدح،

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: يغررك.

(٢) في هامش «ش»: لمن كذب.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563