الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء ٢

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد0%

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مكتبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام
الصفحات: 563

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد

مؤلف: أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبرى البغدادى (الشيخ المفيد)
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف:

الصفحات: 563
المشاهدات: 174032
تحميل: 9100


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 563 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174032 / تحميل: 9100
الحجم الحجم الحجم
الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد

الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد الجزء 2

مؤلف:
العربية

فصرعَه، فقالَ مسلمٌ: نقتلُ عدوَّنا إِن شاءَ اللهُّ. ثمّ أَقبلَ حتّى دخلَ الكوفةَ، فنزلَ في دار المختارِ بنِ أَبي عُبَيْدٍ، وهي الّتي تدعى اليومَ دارَ سَلْمِ بنِ المسيَّب. وَأَقبلتِ الشِّيعةُ تختلفُ إِليه، فكلما اجتمعَ إِليه منهم جماعةٌ قرأَ عليهَم كتابَ الحسينِ بنِ عليٍّعليهما‌السلام وهم يبكونَ، وبايعَه النّاسُ حتّى بايَعَه منهم ثمانيةَ عشرَ أَلفاً، فكتبَ مسلمٌرحمه‌الله إِلى الحسينِعليه‌السلام يُخبرهُ ببيعةِ ثمانيةَ عشرَأَلفاً ويأْمرُه بالقدوم. وجعلت الشِّيعةُ تختلفُ إِلى مسلمِ بنِ عقيلٍ رضيَ اللهَّ عنه حتّى عُلِمَ مكانُه(١) ، فبلغَ النُّعمانَ بنَ بشيرٍ ذلكَ - وكانَ والياً على الكوفةِ من قِبَلِ معاويةَ فأقرَّه يزيدُ عليها - فصعدَ المنبرَ فحمدَ اللّهَ وأثنى عليه ثمّ قالَ:

أمّا بعدُ: فاتّقوا اللّهَ - عبادَ اللّه - ولا تُسارعوا إِلى الفتنةِ والفُرقةِ، فإِنّ فيها يَهْلِك الرِّجالُ، وتُسْفَكُ الدِّماءُ، وتُغْتَصَبُ(٢) الأَموالُ، إِنّي لا أُقاتلُ من لا يُقاتلني، ولا آتي على من لم يأْتِ عليَّ، ولا أُنبِّهُ نائمَكم، ولا أتحرّشُ بكم، ولا آخُذُ بالقَرْفِ(٣) ولا الظِّنّةِ ولا التُّهمةِ، ولكنَّكم إِن أبديتم صفحتَكم لي ونكثتم بيعتَكم وخالفتم إِمامَكم، فوَاللّهِ الّذي لا إِلهَ غيرُه، لأضربَنَّكم بسيفي ما ثبتَ قائمهُ في يدي، ولو لم يكنْ لي منكم ناصرٌ. أما إِنِّي أرجو أن يكونَ من يعرفً الحقَّ منكم أَكثرَ ممّن يُرديه الباطلُ.

فقامَ إِليه عبدُاللّه بن مسلمِ بن ربيعةَ الحضرميّ، حليف بني أُميّةَ،

__________________

(١) في هامش «ش»: بمكانه.

(٢) في هامش «ش»: وتغصب.

(٣) القرف: التهمة «الصحاح - قرف - ٤:١٤١٥».

٤١

فقالَ: إِنَّه لا يُصلحُ ما ترى إِلاّ الغَشْمُ ؛ إنَّ هذا الّذي أَنتَ عليه فيما بينَكَ وبينَ عدوِّكَ رأيُ المستضعفينَ. فقالَ له النُّعمانُ: أَكون(١) من المستضعفينَ في طاعةِ اللهِّ، أَحبّ إِليَّ من أَن أكونَ من الأَعزِّينَ في معصيةِ اللّهِ. ثمّ نزلَ.

وخرجَ عبداللهِّ بن مسلمٍ فكتبَ إِلى يزيد بن معاويةَ: أَمّا بعدُ: فإِنّ مُسلمَ بنَ عقيلٍ قد قدمَ الكوفَة، فبايعَتْه الشِّيعةُ للحسينِ بنِ عليِّ، فإِنْ يَكُ لكَ في الكوفةِ حاجة فابعثْ إِليها رجلاً قويّاً، يُنَفِّذُ أَمرَكَ وَيعملُ مثلَ عملِكَ في عدوِّكَ، فإِنّ النُّعمانَ بنَ بشيرٍ رجلٌ ضعيفٌ أو هو يَتَضعَّفُ. ثمّ كتبَ إِليه عُمارةُ بنُ عُقْبَةَ بنحوٍ من كتابه ؛ ثمّ كتبَ إِليه عُمَرُ ابنُ سعدِ بنِ أَبي وقّاصٍ مثلَ ذلكَ.

فلمّا وصلتِ الكتبُ إِلى يزيدَ دعا سَرْجُونَ مولى معاويةَ فقالَ: ما رأْيُكَ؟ إِنَّ حسيناً قد وجّهَ إِلى الكوفةِ مسلمَ بنَ عقيل يُبايِعُ له، وقد بَلَغَني عنِ النُّعمانِ بنِ بشيرٍ ضعفٌ وقولٌ سَيّيءٌ، فمَنْ تَرى أَن أَستعملَ على الكوفةِ؟ وكانَ يزيدُ عاتباً على عُبيدِاللهِّ بن زيادٍ؟ فقالَ له سَرْجُون: أرأيتَ معاويةَ لو نُشِرَ(٢) لكَ حيّاً أَما كنتَ اخَذاً برأْيه؟ قالَ: نعم. قال: فأخرجَ سرجُونُ عهدَ عبيدِاللهِّ بنِ زيادٍ على الكوفةِ وقاَلَ: هذا رأْيُ معاويةَ، ماتَ وقد أمرَ بهذا الكتاب، فضُمَّ المِصرينِ إِلى عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ، فقالَ له يزيدُ: أفْعَلُ، ابعثْ بعهدِ عَبيدِاللهِّ إِليه. ثمّ دعا مسلمَ بنَ عَمرو الباهليّ وكتبَ إِلى عبيدِاللّهِ بن زيادٍ معَه:

أَمّا بعدُ: فإِنّهَ كَتَبَ إِليَّ شيعتي من أَهلِ الكُوفةِ، يُخبروني أنّ ابن

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: لئن اكون.

(٢) في «م» وهامش « ش »: انشر.

٤٢

عقيلٍ بها يَجمعُ الجمُوعَ ويشقُّ(١) عصا المسلمينَ، فسِرْحينَ تقرأ كتابي هذا حتّى تأْتيَ الكوفةَ، فتطلب ابنَ عقيلٍ طَلَبَ الخرزَةِ حتّى تَثْقَفَهُ فتُوثقَهُ أَو تَقْتُلَهُ أَو تَنْفِيَهُ، والسّلامُ.

وسلّمَ إِليه عهدَه على الكوفةِ. فسارَ مسلمُ بنُ عمرو حتّى قدمَ على عُبيدِاللّهِ بالبصرةِ، فأوصلَ إِليه العهدَ والكتابَ، فأمَرَ عُبيدُاللهِّ بالجهازِ من وقتهِ، والمسيرِ والتّهيًّؤ إِلى الكوفةِ منَ الغدِ، ثمّ خرجَ منَ البصرةِ واستخلفَ أَخاه عًثمانَ، وأَقبلَ إلى الكوفةِ ومعَه مسلمُ بنُ عمرو الباهليّ وشريكُ بنُ أَعْوَرَ الحارثيّ وحَشَمُه وأَهلُ بيتهِ، حتّى دخلَ الكوفةَ وعليه عمامةٌ سوداءُ وهو متَلثِّمٌ، والنّاسُ قد بلغَهم إِقبالُ الحسينِعليه‌السلام إِليهم فهم ينتظرونَ قدومَه، فظنُّوا حينَ رأوا عُبيدَاللّهِ أَنّه الحسينُ، فأَخذَ لا يَمُرُّ على جماعةٍ منَ النّاسِ إلاّ سلَّموا عليهِ وقالوا: مرحباً بابنِ رسولِ اللهِّ، قدمتَ خيرَ مقدم. فرأَى من تَباشرُهم بالحسينِ ما ساءه، فقالَ مسلمُ بنُ عمرو لمّا أَكثروا: تَأخَّرُوا، هذا الأَميرُ عبيدُاللّه بن زيادٍ.

وسارَ حتّى وافى القصرَ في الليلِ، ومعَه جماعةٌ قدِ التفُّوا به لا يَشُكُّون أَنّه الحسينُعليه‌السلام ، فأَغلقَ النًّعمانُ بنُ بشيرٍ عليه وعلى حامّتهِ(٢) ، فناداه بعضُ من كانَ معَه ليفتح لهم البابَ، فأطّلعَ إِليه النُّعمانُ وهو يظنُّه الحسين فقالَ: أَنْشُدُكَ اللهَّ إلاّ تَنَحَّيْتَ، واللهِّ ما انا مُسلمٌ إِليكَ أمانتي، وما لي في قتالِكَ من أَرَبٍ، فجعلَ لا يُكلّمُه، ثمّ إِنّه دنا وتدلّى

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: ليشق.

(٢) في « م » وهامش «ش»: خاصته.

وحامته: خاصته واقرباؤه. «الصحاح - حمم - ٥: ١٩٠٧ ».

٤٣

النُّعمانُ من شَرَفٍ فجعلَ يُكلِّمُه، فقالَ: افتحْ لا فَتَحْتَ(١) ، فقد طالَ ليلكَ. وسمعَها إِنسانٌ خلفَه فنكصَ إِلى القوم الّذينَ اتّبعوه من أهلِ الكوفةِ على أَنّه الحسينُ فقالَ: أيْ قوم! ابن مَرْجَانةَ والّذي لا إِلهَ غيرهُ. ففتحَ له النُّعمانُ ودخلَ وضربوا البابَ في وُجوهِ النّاسِ فانْفَضُّوا.

وأصبحَ فنادى في النّاسِ: الصّلاةُ جامعةٌ. فاجتمعَ النّاسُ، فخرجَ إِليهم فحمدَ اللهَّ وأثنى عليه ثمّ قالَ:

أَمّا بعدُ: فإِنّ أَميرَ المؤمنينَ وَلاَّني مِصرَكم وثَغْرَكم وفيئكم، وأمرَني بإِنصافِ مظلومِكم وإِعطاءِ محرومكم، والأحسانِ إِلى سامعِكم ومُطيعِكم كالوالدِ البر، وسوطي وسيفي على من تركَ أمري وخالفَ عهدي، فليُبقِ(٢) امرؤٌ على نفسِه؛ الصِّدقُ يُنبي عنك(٣) ، لا الوعيدُ.

ثمّ نزلَ فأَخذَ العُرَفاءَ(٤) والنّاسَ(٥) أخذاً شديداً فقالَ: اكتُبوا إِلى

__________________

(١) قال العلامة المجلسي في البحار ٤٤: ٣٦١: لا فتحت دعاء عليه أي لا فتحت على نفسك باباً من الخير.

(٢) في هامش «ش» و «م»: فليتق.

(٣) في هامش «ش» و «م»: ينبي عنك - بغيرهمز - أي يدفع عنك من النبوة، ويمكن أن يكون من النبأ الخبر اي الصَدق يخبر عنك بالحقيقة. والأول سماع والثاني قياس.

وقال الجوهري في الصحاح - نبا - ٦: ٢٥٠٠: في المثل: «الصدق ينبي عنك لا الوعيد» أي ان الصدق يدفع عنك الغائلة في الحرب دون التهديد. وقال أبو عبيد: هو ينبي بغيرهمز. ويقال: أصله الهمزمن الانباء أي ان الفعل يخبرعن حقيقتك لا القول.

وقد نقل ابن منظور في لسان العرب: ١٥ / ٣٠٢ هذا الكلام ناسباً إيّاه الى التهذيب وهو اشتباه والصحيح انه عن الصحاح.

(٤) العرفاء: جمع عريف، وهو القائم بامور جماعة من الناس يرفعها الى السلطان، وعمله العِرافة «مجمع البحرين - عرف - ٥: ٩٧».

(٥) في «ش»: بالناس.

٤٤

العُرفاءِ ومَنْ فيكم من طلبةِ أمير المؤمنين، ومَنْ فيكم منَ الحَرُورِية وأَهلِ الرّيب، الّذين رأيُهم الخلافُ والشِّقاق، ( فمن يجئ بهم لنا فبرئ )(١) ، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمنْ لنا ما في عِرافتِه ألاّ يخالفَنا منهم مخالفٌ، ولا يبغِ علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعلْ برئتْ منه الذِّمّةُ وحلالٌ لنا دمُه ومالُه، وأيّما عريفٍ وُجدَ في عرافتِه مِن بُغيةِ أميرِ المؤمنينَ أحدٌ لم يرفعْه إِلينا، صلِبَ على باب داره، واُلغيتْ تلكَ العرافةُ منَ العطاءِ.َ

ولمّا سمعَ مسلمُ بنُ عقيلٍرحمه‌الله بمجيءِ عبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ الكوفةَ، ومقالتهِ الّتي قالَها، وما أخذَ به العُرفاءَ والنّاسَ، خرجَ من دارِ المختارِ حتّى انتهى إِلى دارِ هانئ بنِ عُروةَ فدخلَها، وأخذتِ الشِّيعةُ تختلفُ إِليه فِى دارِ هانئ على تستُّرٍ واستخفاف من عبيدِاللهِّ، وتواصَوْا بالكتمانِ.

فدعا ابنُ زيادٍ مولىً له يُقالُ له مَعْقلٌ، فقالَ: خُذْ ثلاثةَ آلافِ دِرهمٍ، ثمّ اطلبْ مسلمَ بنَ عقيلٍ والتمسْ أَصحابَه، فإِذا ظفرتَ بواحدٍ منهم أو جماعةٍ فأعطِهم هذهِ الثّلاثةَ آلاف درهمٍ، وقلْ لهم: استعينوا بها على حرب عدوِّكم، وأعلِمْهم أنّكَ منهم، فإِنّكَ لو قد أعطيتَها إِياهم لقدِ اَطمأنوا إِليكَ ووثقوا بكَ ولم يكتموكَ شيئاً من أخبارِهم، ثمّ اغدُ عليهم ورُح حتّى تعرفَ مستقرَّمسلم بن عقيلٍ، وتدخلَ عليه.

ففعلَ ذلكَ وجاءَ حتّى جلسَ إِلى مسلمِ بنِ عَوْسَجةَ الأسديّ في المسجدِ الأعظمِ وهو يصلِّي، فسمعِ قوماً يقولونَ: هذا يبايعُ للحسينِ، فجاءَ فجلسَ إِلى جنبهِ حتّى فرغ من صلاتِه، ثمّ قالَ: ياعبدَ اللهِّ! إِنِّي امرؤٌ من أهلِ الشّامِ، أنعمَ اللهُّ عليَّ بحبِّ أهلِ هذا البيتِ

__________________

(١) في «ش» نسخة اخرى: ثم يجاء بهم لنرى رأينا فيهم.

٤٥

وحبِّ مَنْ أحبَّهم ؛ وتَباكى له وقالَ: معي ثلاثة آلافِ درهمٍ، أردتُ بها لقاءَ رجلٍ منهم بلغَني أنّه قدمَ الكوفةَ يبايعُ لابنِ بنتِ رسولِ اللّهِ، فكنتُ أُريدُ لقاءه فلم أجدْ أَحداً يدلُّني عليه ولا أعرفُ مكانَه، فإِنِّي لجالسٌ في المسجدِ الان إِذْ سمعتُ نفراً منَ المؤمنينَ يقولونَ: هذا رجلٌ له علمٌ بأَهلِ هذا البيتِ، وانِّي أتيتُكَ لتقبضَ منَي هذا المالَ وتُدخِلني على صاحبكَ، فإِنما أنا أَخٌ من إِخوانِكَ وثقةٌ عليكَ، وِان شئتَ أخذتَ بيعتي له قبَلَ لقائه.

فقالَ له مسلمُ بنُ عوسجةرحمه‌الله : احمد اللهَّ على لقائكَ إِيّايَ فقد سرَني ذلكَ، لتنال الّذي تحبُّ، ولينصر اللّهُ بكَ أهلَ بيتِ نبيِّه عليه والهِ السّلامُ، ولقد ساءَني معرفةُ النّاسِ إِيّايَ بهذا إلأَمر قبلَ أَن يتمَّ، مخافةَ هذا الطاغيةِ وسطوته ؛ فقالَ له معقلٌ: لا يكون إلأ خيراً، خُذِ البيعةَ عليَّ، فأَخذَ بيعتَه وأَخذَ عليه المواثيقَ المغلَّظةَ لَيُناصِحَنَّ ولَيَكْتُمَنَّ، فأَعطاه من ذلكَ ما رضيَ به، ثمّ قال له: اختلفْ إِليَّ أيّاماً في منزلي فأنا طالبٌ لكَ الأذنَ على صاحبكَ. فأَخذَ يختلفُ مع النّاسِ، فطلبَ له الأذنَ فأُذِنَ له، فأَخذَ مسلمُ بنُ عقيلٍ رضيَ اللّه عنه بيعتَه، وأمرَ أَبا ثُمامةَ الصائديَّ فقبضَ المالَ منه، وهو الّذي كانَ يَقبضُ أموالَهمِ وما يُعينُ به بعضُهم بعضاً، ويشتري لهم السِّلاحَ، وكانَ بصيراًَ ومن فرسانِ العربِ ووُجوهِ الشِّيعةِ.

وأَقبل ذلكَ الرّجلُ يختلفُ إِليهم، وهو أَوّلُ داخلٍ وآخرُ خارج، حتّى فَهِمَ ما احتاجَ إِليه ابنُ زيادٍ من أَمرِهم، وكانَ يُخبرهُ به وقتاً فوقتاَ. وخافَ هانئً بنُ عُروةَ عبيدَاللهّ بن زيادٍ على نفسِه فانقطعِ من حضور مجلسِه وتمارضَ، فقالَ ابنُ زيادٍ لجلسائه: ما لي لا أَرى هانئاً؟ فقالوا: هو

٤٦

شاكٍ، فقالَ: لو علمتُ بمرضِه لَعُدْته، ودعا محمّدَ بنَ الأشعثِ وأسماءَ بنَ خارجةَ وعمرو بنَ الحجّاجِ الزُّبيديّ، وكانتْ رُوَيحةُ بنتُ عمرو تحتَ هانئ بنِ عُروةَ وهي أُمُّ يحيى بن هانئ، فقالَ لهم: ما يمنعُ هانئ بنَ عُروةَ من إِتيانِنا؟ فقالوا: ما نَدري وقد قيلَ إِنّه يشتكي؟ قالَ: قد بلغَني أنّه قد بَرِىءَ وهو يجلسُ على بابِ دارِه، فالْقَوْه ومروه ألاّ يَدَعَ ما عليه من حقِّنا، فإِنِّي لا أحبُّ أن يَفسدَ عندي مثلُه من أشرافِ العرب.

فأتَوْه حتّى وقفوا عليه عشيّةً وهو جالسُ على بابه، فقالوا: ما يمنعُكَ من لقاءِ الأمير؟ فإِنّه قد ذكرَكَ وقالَ: لو أعلمُ أَنّه شاكٍ لَعُدْته، فقالَ لهم: الشّكوى تَمنعُني، فقالوا له: قد بلغَه انّكَ تجلسُ كلَّ عشيّةٍ على باب دارِكَ، وقدِ استبطأكَ، والإبطاءُ والجَفاءُ لا يحتملُه السًّلطانُ، أقسَمْنَا عليكَ لمّا ركبتَ معَنا. فدعا بثيابه فلبسَها ثمّ دعا ببغلتِه فركبَها، حتّى إِذا دنا منَ القصرِ كأنّ نفسهَ أحسّتْ ببعضِ الّذي كانَ، فقالَ لحسّان بن أسماء بن خارجة: يا ابن أخي إِنِّي واللّهِ لهِذا الرّجلِ لَخائفٌ، فما تَرى؟ قال: أيْ عمّ! واللهِّ ما أَتخوّفُ عليكَ شيئاً، ولَمْ تَجعلْ على نفسِك سبيلاً، ولم يكنْ حسّان يعلمُ في أَيِّ شيءٍ بعثَ إِليه عبيدُاللّهِ.

فجاءَ هانئ حتّى دخلَ على ابنِ زيادٍ ومعَه القومُ، فلمّا طلعَ قالَ ابنُ زيادٍ: أتَتْكَ بحائنٍ(١) رِجلاه. فلمّا دنا من ابنِ زيادٍ - وعندَه شُريحٌ القاضي - التفتَ نحوَه فقالَ:

__________________

(١) مثل يضرب لمن يسعى الى مكروه حتى يقع فيه. «جمهرة الامثال للعسكري ١: ١١٩ ت ١١٤ »، والحائن: الهالك. «لسان العرب - حين - ١٣: ١٣٦ ».

٤٧

أُريدُ حِبَاءهُ وَيُرِيْدُ قَتْلي

عَذِيْرَكَ مِنَ خَلِيْلِكَ مِنْ مُرَادِ(١)

وقد كانَ أوّل ( مادخلَ )(٢) عليه مُكرِماً له مُلطِفاً، فقالَ له هانئ: وما ذلكَ أيًّها الأَميرُ؟ قالَ: إٍيهٍ يا هانئ بنَ عُروِةَ، ما هذهِ الأمورُ الّتي تَرَبّصُ في دارِكَ لأَميرِ المؤمنين وعامّةِ المسلمين؟ جئتَ بمسلم بنِ عقيلٍ فأَدخلتَه دارَك وجمعتَ له السِّلاحَ والرجالَ في الدُّورِ حولَكَ، وظننتَ أَنّ ذلكَ يخفى عليّ، فقالَ: ما فعلتُ، وما مسلم عندي، قالَ: بلى قد فعلتَ. فلمّا كثرَ ذلكَ بينَهما، وأَبى هانئ إلاّ مجاحَدَتَه ومنُاكَرتَه، دعا ابنُ زيادٍ مَعْقِلاً - ذلكَ العَيْنَ(٣) - فجاءَ حتّى وقفَ بين يديه، فقالَ: أَتعرفُ هذا؟ قالَ: نعم، وعلمَ هانئ عندَ ذلكَ أَنّه كانَ عيناً عليهم، وأَنه قد أَتاه بأَخبارِهم، فأُسقطَ في يدِه ساعةً ثم راجعتْه نفسه فقالَ: اسمعْ مني وصدَقْ مقالتي(٤) ، فواللهِّ لا كذبتُ، واللهِ ما دعوتُه إِلى منزلي، ولا علمتُ بشيءٍ من أَمرِه حتّى جاءَني يسأَلني(٥) النُزولَ فاستحيَيْتُ من ردِّه، ودخلنَي من ذلكَ ذمامٌ فضيَّفْتُه واويتُه، وقد كانَ من أَمرِه ما كانَ بلغَكَ، فإِن شئتَ أن أعطيَكَ الآنَ مَوْثقاً مُغَلَّظاً ألاّ أَبغيَكَ سوءاً ولا غائلةً، ولآتِيَنَّكَ حتّى أَضعَ يدي في يدِكَ، وان شئتَ أَعطيتُكَ رهينةً تكونُ في يدِكَ حتّى آتيَكَ، وأَنطلق إِليه فآمره أن يخرجَ من داري إِلى حيثُ شاءَ منَ الأَرضِ، فأَخرج من ذمامِه وجوارِه. فقالَ له

__________________

(١) البيت لعمرو بن معدي كَرب: كتاب سيبويه ١: ٢٧٦، الاغاني ١٠: ٢٧، العقد الفريد ١: ١٢١، جمهرة اللَغة ٦: ٣٦١.

(٢) في هامش «ش» نسخة اخرى: ما قدم.

(٣) العين: الجاسوس « الصحاح - عين - ٦: ٢١٧٠ ».

(٤) في هامش «ش»: قولي.

(٥) في «م»: ليسالني.

٤٨

ابنُ زيادٍ: واللهِّ لا تفارقني أبداً حتّى تَأْتِيَني به، قالَ: لا واللهِ لا آتيكَ(١) به أبداً، أجيئُكَ بضيفي تَقتلُه؟! قالَ: واللّهِ لَتَأْتِيَنَّ(٢) به، قالَ: لا واللّهِ لا آتيكَ به.

فلمّا كثرَ الكلامُ بينَهما قامَ مسلمُ بنُ عمرو الباهليّ - وليسَ بالكوفةِ شاميٌ ولا بصريٌّ غيره - فقالَ: أصلحَ اللهُّ الأميرَ، خلِّني وِايّاه حتّى أُكَلِّمَه، فقامَ فخلا به ناحيةً من ابنِ زيادٍ، وهما منه بحيثُ يَراهما، وِاذا رفعا أصواتَهما سمعَ ما يقولانِ، فقالَ له مسلمٌ: يا هانئ إِنِّي أنْشُدُكَ اللهَ أن تقتلَ نفسَكَ، وأنْ تُدخِلَ البلاءَ على عشيرتِكَ، فواللّهِ إِنّي لأنْفَسُ بكَ عنِ القتلِ، إِنّ هذا الرّجلَ ابنُ عمِّ القوم وليسوا قاتِليه ولا ضائريه، فادفعْه إِليه فإِنّه ليسَ عليكَ بذلكَ مَخزاةٌ ولا مَنقصةٌ، إِنّما تَدفعُه إِلى السُّلطانِ. فقالَ هانئ: واللهِّ إِنّ عليَّ في ذلكَ للخزي والعار، أنا أدفعُ جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيحٌ أسمعُ وأرى، شديدُ السّاعدِ، كثيرُ الأعوانِ؟! واللهِّ لو لم أكن إلاّ واحداَ ليسَ لي ناصرٌ لم أدفعْه حتّى أموتَ دونَه. فأخذَ يُناشدُه وهو يقولُ: واللّهِ لا أدفعُه أبداً.

فسمعَ ابنُ زيادٍ ذلكَ فقالَ: أدْنُوه منِّي، فادْنيَ منه فقالَ: واللّهِ لَتَأْتِيَنِّي به أو لأضْربَنَ عُنقَكَ، فقالَ هانئ: إِذاً واللّهِ تكثر البارِقة حولَ دارِكَ فقالَ ابنُ زيادٍ: والهفاه عليكَ! أبالبارِقةِ تُخوِّفُني؟ وهو يظنُّ أنّ عشيرتَه سيمنعونه ؛ ثّم قالَ: أدْنُوه منيِّ، فادنِيَ، فاعترضَ وجهَه بالقضيبِ فلم يَزَلْ يَضربُ وجهَه وأنفَه وجبينَه وخدَّه حتّى كَسرَ

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: لا أجيئك.

(٢) في هامش «ش» و «م»: لتأتيني.

٤٩

أَنفَه وسَيَّلَ الدِّماءَ على ثيابِه، ونثرَلحمَ خدِّه وجبينهِ على لحيتهِ، حتّى كسرَ القضيب. وضربَ هانئ يدَه إِلى قائم سيفِ شُرَطِيٍّ، وجاذبَه الرّجلُ ومنَعه، فقالَ عبيدُاللّهِ: أَحَرُوْرِيٌّ سائرَ اليوم؟ قد حلَّ لنا دمُكَ، جرُّوه، فَجرَّوه فألقَوْه في بيتٍ من بيوتِ الدّارِ، وأَغلقوا عليه بابَه، فقالَ: اجعلوا عليه حَرَساً، ففُعِلَ ذلكَ به، فقام إِليه حسّانُ بنُ أَسماء فقالَ له: أرُسُلُ غَدْرٍ سائرَ اليوم؟ أَمرْتَنا أَن نجيئكَ بالرّجلِ، حتّى إِذا جئناك به هَشَمْت وجهَه وسيَّلتَ دماءه على لحيتِه، وزعمتَ أَنّكَ تقتلُه. فقالَ له عُبيدُاللهِّ: ِوانّكَ لَهاهنا، فأَمَرَ به فلُهِز(١) وتُعْتِعَ(٢) ثمّ أُجلسَ ناحيةً. فقالَ محمّدُ بنُ الأشعثِ: قد رَضِيْنا بما راه(٣) الأَميرُ، لنا كانَ أَو علينا، إِنّما الأميرُ مؤدِّبٌ.

وبلغَ عمرو بنَ الحجّاجِ أَنّ هانئاً قد قُتِلَ، فأَقبلَ في مَذْحِج حتّى أَحاطَ بالقصرِ ومعَه جمعٌ عظيمٌ، ثمّ نادى: أَنا عمرو بنُ الحجّاجِ، وهذه فُرسانُ مَذْحِج ووُجوهُها، لم تَخلعْ طاعةً، ولم تُفارقْ جماعةً، وقد بلغَهم أَنّ صاحبَهم قد قُتِلَ فأَعظَموا ذلكَ. فقيلَ لعبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ: هذه مَذْحِج بالباب، فقال لشريحٍ القاضي: ادخلْ على صاحبهم فانظُرْ إِليه، ثمّ اخرُجْ وأَعلِمْهم أَنّه حيٌّ لم يُقتَلْ. فدخلَ فنظرَ شُريحٌ إِليه، فقالَ هانئ لمّا رأَى شُريحاً: يا للهِّ! يا للمسلميمنَ! أَهَلَكَتْ عشيرتي؟! أَينَ أَهلُ الدِّين؟! أَينَ أَهلُ البَصَر(٤) ؟! والدِّماءُ تَسيلُ على

__________________

(١) اللهز: الضرب بجمع اليد في الصدر «الصحاح - لهز - ٣: ٨٩٤».

(٢) تعتعه: حرّكه بعنف. «القاموس - تعع - ٣: ٩».

(٣) في « م » وهامش « ش » رأى.

(٤) في « م » وهامش « ش »: المصر.

٥٠

لحيتِه، إِذ سمعَ الرّجّةَ(١) على باب القصرِ فقالَ: إِنِّي لأَظنُّها أَصواتَ مَذْحِج وشيعتي منَ المسلمينَ، إِنّه إِن ( دَخَلَ عليّ )(٢) عشرةُ نفرٍ أَنقذوني. فلمّا سمعَ كلامَه شُريحٌ خرجَ إِليهم فقالَ لهم: إِنّ الأميرَ لمّا بلغَه مكانُكم ومقالتُكم في صاحبكم، أَمرَني بالدُّخولِ إِليه فأتيتُه فنظرت إِليه، فأَمرَني(٣) أَن أَلقاكم وأَن أًّعلمَكم أنّه حيٌ، وأَنّ الّذي بلغَكم من قتلِه باطل، فقالَ عمرُو بنُ الحجّاجِ وأَصحابُه: أَمّا إِذْ لم يُقْتَلْ(٤) فالحمدُ للّهِ، ثمّ انصرفوا.

وخَرجَ عبيدُاللّهِ بن زيادٍ فصعدَ المنبرَ، ومعَه أَشرافُ النّاس وشُرَطهُ وحَشَمُه، فقالَ:

أَمّا بعدُ: أَيُّها النّاسُ فاعتصِمُوا بطاعةِ اللّهِ وطاعةِ أئمّتِكم، ولا تَفرقوا فتَهلِكُوا وتَذِلُّوا وتُقْتَلوا وتُجْفَوا وتًحرَبوا(٥) ، إِنَّ أَخاك منْ صَدَقَكَ، وقد أَعذَرَ مَنْ أنذَرَ. ثمّ ذهبَ لِيَنزلَ فما نزلَ عنِ المنبرِحتّى دخلتِ النّظّارةُ المسجدَ من قِبَلِ باب التّمّارينَ يَشتدُّون ويَقولونَ: قد جاءَ ابنُ عقيلٍ!قد جاءَ ابنُ عقيلٍ!فدخل عبيدُاللّهِ القصرَمُسرِعاً وأَغلقَ أبوابَه.

قالَ عبدُاللّه بن حازمٍ: أنا واللهِّ رسولُ ابنِ عقيلٍ إِلى القصرِ لأنظرَ ما فعلَ هانئ، فلمّا حُبِسَ وضُرِبَ ركبتُ فرسي فكنتُ أَوّلَ أَهل

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: الوجبة. وهي الصوت الساقط. «القاموس » وجب - ١: ١٣٦ ».

(٢) في «ش»: دخل الي.

(٣) في «م» وهامش «ش»: وأمرني.

(٤) في هامش «ش» و «م»: اما اذا كان لم يقتل.

(٥) الحرب: أخذ المال قهراً. «الصحاح - حرب - ١: ١٠٨».

٥١

الدَّارِ دخلَ على مسلمِ بنِ عقيلٍ بالخبرِ، فإِذا نِسوةٌ لِمُرَاد مُجتمعات يُنادِيْنَ: يا عَبرتاه! يا ثُكلاه! فدخلتُ على مسلمِ بنِ عقيلٍ فأخبرتُه فأَمرَني أَن أُناديَ في أصحابِه وقد ملأ بهم(١) الدُّورَ حولَه، وكانوا فيها أَربعةَ آلافِ رجلٍ، فناديتُ: يا منصورُ أمِتْ، فتَنادى أهل الكوفةِ واجتمعوا عليه، فعقدَ مسلمٌ لرؤوسِ الأرباعِ على القبائل كِنْدَةَ ومَذْحِجَ وأسَدَ وتَمِيْمَ وهَمْدَانَ، وتَداعى النّاسُ واجتمعوا، فما لبثْنا إلاّ قليلاً حتّى امتلأ المسجدُ منَ النّاسِ والسُّوقُ، وما زالوا يَتَوَثَّبون حتّى المساءِ، فضاقَ بعبيدِاللهّ أمرُه، وكانَ أَكثر عملِه أن يُمسِكَ بابَ القصر وليسَ معَه في القصرِ إلاّ ثَلاثونَ رجلاً منَ الشُّرَطِ وعشرونَ رجلاً من أشرافِ النّاسِ وأهلِ بيتهِ وخاصّته، وأقبلَ مَنْ نأَى عنه من أشرافِ النّاسِ يأْتونَه من قِبَل الباب الّذي يلي دارَ الرُّوميِّينَ، وجعلَ مَنْ في القصرِ معَ ابن زيادٍ يُشرِفونَ عليهِمَ فينظرونَ إِليهم وهم يرمونَهم بالحجارةٍ ويَشتمونَهم ويَفترونَ على عبيدِاللهِّ وعلى أبيه.

ودعا ابنُ زيادٍ كَثِيرَ بنَ شهابِ وأمرَه أن يَخرجَ فيمن أطاعَه من مَذْحِج، فيسيرَ في الكوفةِ ويخذِّلَ النّاَسَ عنِ ابن عقيلٍ ويخوِّفَهم الحربَ(٢) ويحذِّرَهم عقوبةَ السُّلطانِ، وأَمرَ محمّدَ بنَ الأشعثِ أن يَخرجَ فيمن أطاعَه من كِنْدةَ وحَضْرَمَوْتَ، فيرفعَ رايةَ أمانٍ لمن جاءه منَ النّاسِ، وقالَ مثلَ ذلكَ للقَعْقاعِ الذُّهْليِّ وشَبَثِ بنِ رِبعيٍّ التّميميِّ وحَجّارِبن أبجَر العِجليِّ وشمرِ بنِ ذي الجوشنِ العامريِّ، وحبسَ باقيَ وجوهِ النّاسِ عندَه استيحاشاً إِليهم لقلّةِ عددِ من معَه منَ النّاس.

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: منهم.

(٢) في هامش «ش» و «م»: بالحروب.

٥٢

فخرجَ كَثيرُبنُ شِهابٍ يُخذِّلُ(١) النّاسَ عنِ ابنِ عقيلٍ، وخرجَ محمّدُ ابنُ الأشعثِ حتّى وقفَ عندَ دُورِ بني عُمارةَ، فبعثَ ابنُ عقيلٍ إِلى محمّدِ ابن الأشعثِ منَ المسجدِ عبدَ الرّحمن بن شريحٍ الشِّباميّ، فلمّا رأَى ابنُ الأشعثِ كثرةَ من أَتاه تأَخّرَ عن مكانِه، جعلَ محمّدُ بنُ الأشعثِ وكثِيرُبنُ شِهابِ والقَعْقَاعُ بنُ شَوْر الذُّهليّ وشَبَثُ بنُ رِبعيٍ يَرُدُّونَ النّاسَ عنِ اللحوقِ بمسلمٍ ويخوِّفونَهمُ السُّلطانَ، حتّى اجتمعَ اليهم عددٌ كثيرٌ من قومِهم وغيرهم، فصاروا إِلى ابنِ زيادٍ من قِبَلِ دارِ الرُّومييّنَ ودخلَ القوم معَهم، فقالَ له كَثِيرُبنُ شهابٍ: اصلح اللهُّ الأَميرَ، معَكَ في القصرِ ناسٌ كثيرٌ من أشرافِ النّاسِ ومن شُرَطِكَ واهلِ بيتِكَ ومَواليكَ، فاخرُجْ بنا إِليهم، فأبى عُبيدُاللّهِ؟ وعقدَ لشَبَث بن رِبْعيٍّ لواءً فأَخرجَه.

وأقامَ النّاس معَ ابنِ عقيلٍ يَكثرونَ حتّى المساءِ وأَمرُهم شديدٌ، فبعثَ عُبيدُاللهِّ إِلى الأَشرافِ فجمعَهم، ثمّ أَشرفوا على النّاسِ فَمَنَّوا أَهلَ الطّاعةِ الزِّيادةَ والكرامةَ، وخَوَّفوا أهلَ العصيانِ(٢) الحرمانَ والعقوبةَ، وأَعلَموهم وصولَ(٣) الجندِ منَ الشّام إِليهم. وتكلّمَ كَثِيرٌ حتّى كادتِ الشّمسُ ان تَجبَ، فقالَ: أيُّها النّاسَُ الحقوا بأهاليكم ولا تَعَجَّلوا الشّرَّ، ولا تُعَرِّضواَ أنفسَكم للقتل، فإِنَّ هذه جنودُ أميرِ المؤمنينَ يزيدَ قد أقبلتْ، وقد أعطى اللهَّ الأميرُ عهدا ً: لئن تَمَّمْتًم على حربه ولم تَنصرِفوا من عشيّتِكم (أن يَحْرِم )(٤) ذُرِّيَّتَكم العطاءَ، ويُفرِّقَ مُقاتِلتًكم في مَغازي الشّامِ، وأن يأخذَ البريءَ بالسّقيمِ والشّاهدَ بالغائبِ، حتّى لا

__________________

(١) في النسخ: فخذّل، وما في المتن من هامش «ش» و «م».

(٢) في « م » وهامش « ش »: المعصية.

(٣) في «م» وهامش « ش »: فصول.

(٤) في هامش «ش»: ليحرمن.

٥٣

تبقى له بقيّةٌ من أَهلِ المعصيةِ إلاّ أذاقَها وبالَ ما جنتْ أيديها. وتكلّمَ الأشرافُ بنحوٍ من ذلكَ.

فلمّا سمعَ النّاسُ مقالَهم أخذوا يتفرّقونَ، وكانتِ المرأةُ تأْتي ابنَها أَو أَخاها فتقولُ: انْصَرِفْ، النّاسُ يَكفونَكَ ؛ ويجيءُ الرّجلُ إِلى ابنهِ وأَخيه فيقولُ: غداً يأْتيكَ أَهلُ الشّام، فما تَصنعُ بالحرب والشّرِّ؟ انْصَرِفْ ؛ فيذهبُ به فينصرفُ. فما زالَوا يتفرّقون حتّى أمسَى ابنُ عقيلِ وصلّى المغربَ وما (معَه إلاّ ثلاثونَ )(١) نَفْساً في المسجدِ، فلمّا رأى أَنّه قد أًمسى وما معَه إلاّ أُولئكَ النّفرُ، خرجَ منَ المسجدِ متوجِّهاً نحوَ أَبواب كِنْدةَ، فما بلغَ الأَبوابَ ومعَه منهم عشرة، ثمّ خرجِ منَ الباب فإذا لَيسَ معَه إِنسانٌ، فالتفتَ فإِذا هو لا يُحِسُّ أَحداًَ يَدُلّه علىَ الطّريقِ، ولا يَدُلًّه على منزلِه، ولا يُواسيه بنفسِه إِن عرضَ له عدوّ.

فمضى على وجهِه مُتَلدَداً(٢) في أَزِقّةِ الكوفةِ لا يدري أينَ يذهبُ، حتّى خرجَ إِلى دورِ بني جَبَلَةَ من كنْدَةَ، فمشى حتّى انتهى إِلى بابِ امرأةٍ يُقالُ لها: طَوْعَةُ، أُمُّ ولدٍ كانتْ للأَشعثِ بنِ قيسٍ فأعتقَها، فتزوّجَها أسَيْدٌ الحضرميُّ فولدتْ له بِلالاً، وكان بِلالٌ قد خرجَ معَ النّاسِ فأُمُّه قائمةٌ تنتظرة ؛ فسلّمَ عليها ابنُ عقيلٍ فردّت عليه فقالَ لها: يا أَمةَ اللّهِ اسقيني ماءً، فسقتْه وجلسَ وأَدخلتِ ألإناءَ، ثمّ خرجتْ فقالتْ: يا عبدَاللّهِ ألم تشربْ؟ قالَ: بلى، قالتْ: فاذهبْ إِلى أَهلِكَ، فسكتَ ثمّ أعادتْ مثلَ ذلكَ، فسكتَ، ثمّ قالتْ له في الثّالثةِ: سُبحانَ اللهِّ! يا

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: معه ثلاثون.

(٢) في هامش «ش»: التلدد: النظر الى أليمين والشمال.

٥٤

عبدَاللّهِ قُمْ عافاكَ اللّهُ إِلى أَهلِكَ فإِنّه لا يَصلحُ لكَ الجلوسُ على بابي، ولا أُحِلُّه لكَ.

فقامَ وقالَ: يا أَمةَ اللهِّ ما لي في هذا المِصر منزلٌ ولا عشيرةٌ، فهل لكِ في(١) اجرٍ ومعروفٍ، لعلِّي مُكافئًكِ بعدَ اليوم، فقالتْ: يا عبدَاللّهِ وما ذاكَ؟ قالَ: أَنا مسلمُ بنُ عقيلٍ كَذَبَني هؤَلاءِ القومُ وغَرُّوني وأَخرجوني؟ قالتْ: أَنتَ مسلمٌ؟ قالَ: نعم ؛ قالتْ: ادخُلْ، فدخلَ بيتاً في دارِها غيرِ البيتِ الّذي تكونُ فيه، وفرشتْ له وعرضتْ عليه العَشاءَ فلم يَتَعَش.

ولم يكنْ بأَسرعَ أَن جاءَ ابنها، فرآها تُكثِرُ الدُّخولَ في البيتِ والخروجَ منه، فقالَ لها: واللّهِ إِنّه لَيَرِيبُني كثرةُ دخولكِ هذا البيتَ منذُ الليلةِ وخروجِكِ منه ؛ إِنّ لكِ لَشأناً؛ قالتْ: يا بُنَيَّ الْه عن هذا؛ قالَ: واللهّ لَتخبرينني(٢) ؛ قالتْ: أَقبلْ على شأْنِكَ ولا تسأَلنْي عن شيءٍ، فَألح عليها فقالتْ: يا بُنَيّ لاَ تُخْبرَنَ أَحدآً منَ النّاسِ بشيءٍ مما أُخبركُ به ؛ قالَ: نعم، فأَخذتْ عليه اَلأَيمانَ فحلفَ لها، فأَخبرتْه فاضطجعَ وسكتَ.

ولمّا تفرّقَ النّاسُ عن مسلمِ بنِ عقيلٍ طالَ على ابنِ زيادٍ وجعلَ لا يَسمعُ لأَصحاب ابن عقيل صوتاً كما كانَ يَسمع قبلَ ذلكَ ؛ قال لأصحابه: أشرِفُوا فانظُرُوا، هل تَرَوْنَ منهم أحداًَ؟ فأشرفوا فلم يَرَوْا أَحداً، قالَ: فانظُرُوا لعلّهم تحتَ الظلالِ وقد كَمنوا لكم،

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»: الى.

(٢) في هامش «ش» و «م»: لَتُخْبرنِّي.

٥٥

فنزعوا تَخاتجَ(١) المسجدِ وجعلوا يخفضونَ شُعَلَ النّارِ(٢) في أَيديهم ويَنظرونَ، فكانتْ أَحيانا تُفيءُ لهم واحياناً تُضيءُ كما يُريدونَ، فدلَّوُا القناديلَ ( وأَطنانَ القصب تٌشَدُّ )(٣) بالحبالِ ثمّ تُجعلُ فيها النيرانُ ثمّ تُدلّى حتّى تنتهيَ إِلى الأَرَض، ففعلوا ذلكَ في أقصى الظَلال(٤) وأَدناها وأَوسطِها حتّىٍ فُعِلَ ذلكَ بالظُّلّةِ الّتي فيها المنبر، فلمّا لم يَرَوْا شيئاً أعلموا ابنَ زيادٍ بتفرّقِ القومِ، ففتحَ بابَ السُّدّةِ(٥) الّتي في المسجدِ ثمّ خرجَ فصعدَ المنبرَ وخرجَ أَصحابهُ معَه، فأمرَهم فجلسوا قُبَيل العَتَمةِ وأَمرَ عمرو بنَ نافع فنادى: أَلا بَرِئَتِ ألذِّمّةُ من رجلٍ منَ الشّرَطِ والعُرفَاءِ والمنَاكب(٦) أَو المقاتِلةِ صلّى العتمة إلاّ في المسجدِ، فلم يكنْ إلاّ ساعة حتى امتَلأ المسجدُ منَ النّاسِ، ثمّ أَمرَ مناديَه فأَقامَ الصّلاةَ، وأَقامَ الحرسَ خلفَه وأَمرَهم بحراسته من أَن يَدخلَ عليه أَحدٌ يَغتالهُ، وصلىّ بالنّاس ثمّ صعدَ المنبرَ فحمدَ اللهَّ وأَثنى عليه ثمّ قالَ:

أمَّا بعدُ: فإِنّ ابن عقيلٍ السّفيهَ الجاهلَ قد أَتى ما قد رأَيتم منَ

__________________

(١) قال العلامة المجلسي في البحًار ٤٤: ٣٦٢: التختج: لعله معرب «تخته » اي نزعوا الأخشاب من سقف المسجد لينظروا هل فيه أحد منهم. وان لم يرد بهذا المعنى في اللغة.

(٢) في هامش «ش»: النيران.

(٣) في هامش «ش» و «م»: وانصاف الطنان تشد.

والطنان والأطنان: جمع طُنّ، وهو حزمة القصب «الصحاح - طنن - ٦: ٢١٥٩».

(٤) الظلال: جمع ظلة وهي السقيفة يستتر بها من الحر والبرد انظر «مجمع البحرين - ظلل - ٥: ٤١٧».

(٥) السدّة: السقيفة فوق الباب، وقيل هي الساحة بين يدي الباب. «مجمع البحرين - سدد - ٣: ٦٧.

(٦) المناكب: جمع منكب، وهو رئيس العرفاء«الصحاح - نكب - ١: ٢٢٨ ».

٥٦

الخلافِ والشِّقاقِ، فبَرئَتْ ذمّةً اللهِّ من رجلٍ وجدناه في دارِه، ومن جاءَ به فله دِيَتُه، واتّقوا(١) اللّهَ عبادَ اللّهِ والزموا طاعتَكم وبيعتَكم، ولا تجعلوا على أنفسِكم سبيلاًَ. يا حُصَينَ بنَ نُميرٍ، ثكلتْكَ أُمُّكَ إِن ضاعَ باب سكّةٍ من سككِ الكوفةِ، أوخرجَ هذا الرجلُ ولم تأْتِني به، وقد سلّطتُكَ على دورِ أَهلِ الكوفةِ، فابعثْ مراصدَ على أهلِ السِّككِ، وأصبحْ غداً فاسْتبِرِ(٢) الدُّورَ وجُسْ خلالَها حتّى تأْتيني بهذا الرّجلِ. وكانَ الحُصينُ بنُ نُميرٍ على شرَطِه وهومن بني تميم.

ثمّ دخلَ ابنُ زيادٍ القصرَ، وقد عقدَ لعمرو بنِ حُرَيثٍ رايةً وأمَّره على النّاسِ. فلمّا أصبحَ جلسَ مجلسَه وأَذنَ للنّاسِ فدخلوا عليه، وأقبلَ محمّدُ بنُ الأَشعثِ، فقالَ: مرحباً بمن لا يُسْتَغَشُّ ولا يُتَّهَمُ، ثمّ أقعدَه إِلى جنبِه.

وأصبحَ ابنُ تلكَ العجوز فغدا إِلى عبدِ الرحمنِ بنِ محمّدِ بن الأشعثِ فأخبره بمكانِ مسلمِ بنِ عقيلٍ عندَ أُمِّه، فأَقبلَ عبدُ الرّحمنِ حَتّى أَتى أباه وهو عندَ ابنِ زيادٍ فسارَّه، فعرفَ ابنُ زيادٍ سِراره فقالَ له ابنُ زيادٍ بالقضيب في جنبِه: قُمْ فائتني به السّاعةَ، فقامَ وبعثَ معَه قومه، لأنّه قد علمَ أنَّ كلَّ قومٍ يَكرهونَ أن يصابَ فيهمِ (مسلمُ بنُ عقيل )(٣) ، فبعثَ معَه عبيدَاللّه بن عبّاسٍ السُّلميّ في سبعين رجلاً من قيسٍ، حتّى أتَوُا الدّارَ الّتي فيها مسلمُ بنُ عقيلٍرحمه‌الله ، فلمّا سمعَ وَقْعَ حوافرِ

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: اتقوا.

(٢) في هامش «ش» و «م»: فاستبرئ، أو استَبرْ أمر من استبار، وبار اذا اختبر أو استَبرْ افتعل من السَبر.

(٣) في هامش «ش» و «م»: مِثل ابن عقيل.

٥٧

الخيلِ وأَصواتَ الرِّجالِ علمَ أَنّه قد أُتيَ، فخرجَ إِليهم بسيفِه، واقتحموا عليه الدًارَ، فشدَّ عليهم يَضرِبُهم بسيفهِ حتّى أَخرجَهم منَ الدّارَ، ثمّ عادوا إِليه فشدَّ عليهم كذلكَ، فاختلفَ هو وبكرُ بنُ حُمرانَ الأَحمريّ فضربَ فمَ مسلمٍ فشقً(١) شفتَه العُليا وأَسرعِ السّيفُ فِى السًّفلى ونَصَلَتْ(٢) له ثَنِيَّتاه، وضربَه مسلمٌ في رأسِه ضربةَ مُنكَرةً وثنّاه بأخرى على حبلِ العاتقِ(٣) كادتْ تَطلعُ على جوفِه، فلمّا رأوا ذلكَ أشرفوا عليه من فوقِ البيتِ فأَخذوا يَرمونَه بالحجارةِ، ويُلهِبونَ النّارَ في أطنانِ القصبِ ثمّ يُلقونَها عليه من فوقِ البيتِ، فلمّا رأَى ذلكَ خرجَ عليهم مُصلِتاً بسيفِه في السِّكّةِ، فقالَ له محمّدُ بنُ الأشعثِ: لكَ الأمانُ، لا تَقتلْ نفسَكَ؟ وهو يُقاتِلهُم ويقولُ:

أقْسَمْتُ لا أُقْتَلُ إِلا حُرُّا

إِنِّيْ(٤) رَأَيْتُ المْوَتَ شَيْئَاً نُكْرَاُ

ويجعَلُ(٥) الْبَارد َسُخْنَا ًمُرًا

رُدَّ(٦) شُعَاعُ الشَّمْسِ فاستقرَّا

كلّ امْرِىءٍ يَوْمَاً مُلاَقٍ شرًّا

أَخَافُ أَنْ أُكْذَبَ أَوْ أُغَرَّا

فقالَ له محمّدُ بنُ الأَشعثِ: إِنّكَ لا تُكذَب ولا تُغَّرُ، فلا تَجزعْ، إِنّ القومَ بنو عمِّكَ وليسوا بقاتِليكَ ولا ضائريكَ(٧) . وكانَ قد أُثْخِنَ بالحجارةِ

__________________

(١) في « م » وهامش « ش »: فقطع.

(٢) نصل: أي زال. انظر«الصحاح - نصل - ٥: ١٨٣٠».

(٣) في هامش «ش» و « م »: عاتقه.

(٤) في هامش «ش» و «م»: وان.

(٥) في هامش «ش» و « م »: ويخلط.

(٦) في هامش «ش» و « م »: ذر.

(٧) في « م » وهامش « ش »: ولاضاربيك.

٥٨

وعجزَ عنِ القتالِ، فانبهرَ وأَسندَ ظهرَه إِلى جنب تلكَ الدّارِ، فأَعادَ ابنُ الأَشعثِ عليه القولَ: لكَ الأَمانُ، فقالَ: آمِنٌ أَنا؟ قالَ: نعم. فقالَ للقوم الّذينَ معَه: لي(١) الأمانُ؟ فقالَ القومُ له: نعم، إلاّ عبيدَاللّه بن العبّاسَِ السُّلميّ فإِنّه قالَ: لا ناقةَ لي في هذا ولا جَمل، وتنحّى؟ فقالَ مسلمٌ: أَما لو لم تُؤَمِّنوني ما وضعتُ يدي في أَيديكم.

وأُتِيَ ببغلةٍ فحُمِلَ عليها، واجتمعوا حولَه وانتزعوا سيفَه، فكأَنّه عندَ ذلكَ أيِسَ(٢) من نفسهِ ودمعتْ عيناه، ثمّ قالَ: هذا أوّلُ الغدرِ، قالَ له محمّدُ بنُ الأشعثِ: أَرجوألاّ يكونَ عليكَ باْسٌ، فقالَ: وما هوإلاّ الرّجاءُ، أَينَ أمانُكم؟ إِنّا للهِّ وِانّا إِليه راجعونَ! وبكى، فقالَ له عبيدُاللّه ابن العبّاسِ السُّلمي:إنّ من(٣) يَطلبُ مثلَ الّذي تطلبُ، إِذا نزلَ به مثلُ الّذي نزلَ بكَ لم يبك. قالَ: إنِّي واللّهِ ما لنفسي بكيت، ولا لها منَ القتل أرثي، وان كنتُ لم أحبّ لها طرفةَ عينٍ تلفاً، ولكنْ(٤) أبكي لأهلي المُقبِلينَ إِليّ، أَبكي للحسينِعليه‌السلام والِ الحسين.

ثمّ أقبلَ على محمّدِ بنِ الأشعثِ فقالَ: يا عبدَاللّهِ إِنِّي أَراكَ واللّهِ ستعجزُ عن أَماني، فهل عندَكَ خيرٌ؟ تَستطيعُ أَن تَبعثَ من عندِكَ رجلاً على لساني أَن يُبلِّغَ حسيناً؟ فإنِّي لا أَراه إِلاّ قد خرجَ إِليكمُ اليومَ مقبلاً أو هو خارجٌ غداً وأَهل بيتهِ، ويقولَ له: إِنّ ابنَ عقيلٍ بعثَني إِليكَ وهو أسيرٌ في أيدي القوم، لا يرى أَنّه(٥) يمسي حتّى يُقتَل، وهو يقولُ:

__________________

(١) في هامش «ش»: الّي.

(٢) في هامش «ش» و «م»: أحس.

(٣) في هامش «ش» و «م»: ان الذي.

(٤) في هامش «ش» و «م»: لكني.

(٥) في هامش «ش»: ان.

٥٩

ارجعْ فداكَ أبي وأُمِّي بأهلِ بيتِكَ ولا يَغُرَّكَ(١) أهلُ الكوفةِ، فإِنّهم أصحابُ أَبيكَ الّذي كانَ يتمنّى فراقَهم بالموتِ أوِ القتلِ، إِنّ أهلَ الكوفة قد كَذَبوكَ وليسَ لمكذوب(٢) رأْيٌ. فقالَ ابنُ الأشعثِ: واللّهِ لأفعلَنَ ولأعْلِمَنَّ ابنَ زيادٍ أنِّي قد آمنْتُكَ.

وأقبلَ ابنُ الأشعثِ بابنِ عقيلٍ إِلى باب القصرِ، فاستاْذنَ فأُذِنَ له فدخلَ على ابنِ زيادٍ فأَخبرَه خبرَ ابنِ عقيلٍَ وضَرْبَ بَكْرٍ إِيّاه وما كانَ من أَمانِه له، فقالَ له عبيدُاللهِّ: وما أنتً والأمانَ، كأنّا أرسلناكَ لِتُؤمنَه! إِنمّا أرسلناكَ لتأْتينا به، فسكتَ ابن الأَشعثِ، وانتُهِيَ بابنِ عقيلٍ إِلى بابِ القصرِ وقدِ اشتدَّ به العطشُ، وعلى باب القصرِ ناسٌ جلوسٌ ينتظرونَ الإذنَ، فيهم عُمارةُ بنُ عقبة بن أبي مُعَيْطٍ، وعمرُو بن حُرَيثٍ، ومسلمُ بنُ عمرو، وكثيرُ بنُ شهابِ ؛ ِواذا قُلّةٌ باردةٌ موضوعة على الباب، فقالَ مسلمٌ: اسقوني من هذا المَاء ِ، فقالَ له مسلمُ بنُ عمرو: أتَراها؟َ ما أبردَها! لا واللّهِ لا تذوقُ منها قطرةً أبداً حتّى تذوقَ الحميمَ في نار ِجهنّمَ. فقالَ له ابنُ عقيلٍ رضيَ اللّهُ عنه: ويلَكَ مَنْ أنت؟ قالَ: أنا مَنْ عَرفَ الحقَّ إِذ أنكرتَه، ونصحَ لإمامِه إِذ غَشَشْتَه، وأطاعَه إِذ خالفتَه، أنا مسلمُ ابنً عمرو الباهليّ، فقالَ له مسلمُ بنُ عقيلٍ: لأمِّكَ الثّكلُ، ما أجفاكَ وأفظَّكَ وأقسى قلبَكَ! أنتَ يا ابنَ باهلةَ أولى بالحميمِ والخلودِ في نارِ جهنّمَ منِّي. ثمّ جلسَ فتساندَ إِلى حائطٍ.

وبعثَ عمرُو بنُ حُرَيثٍ غلاماً له فجاءه بقُلّةٍ عليها مِنديلٌ وقدح،

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: يغررك.

(٢) في هامش «ش»: لمن كذب.

٦٠