الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء ١

الإمام جعفر الصادق عليه السلام25%

الإمام جعفر الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 228

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 228 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83411 / تحميل: 7362
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق عليه السلام

الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء ١

مؤلف:
العربية

١

بِسِم اللّهِ الرَحمنِ الرَحيِم

الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

لا يخفى على أيّ أحدٍ من المسلمين ومن روّاد العلم وغيرهم منزلة ومكانة الامام أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه أفضل الصلاة والسلام بأنّه مشعل الهداية ومصباح الدين الذي انتشر في عصره الاسلام في جميع أرجاء العالم وتشعشعت أضواؤه في أقصى أنحائه وتخرّجت من مدارسه الروّاة والمحدّثون والمتكلّمون من العامّة والخاصّة، وليس بإمكاننا التعرّف على هذه الشخصيّة الاسلامية العظيمة حقّ المعرفة مع هذه الألسنة الكالّة والأقلام العاجزة عن فهمها ومعرفتها، فليس لنا إلا المرور الخاطف على حياتهعليه‌السلام .

ولذلك قامت المؤسّسة - وللّه الحمد - على طبع كتاب للعلامة المحقّق الشيخ محمّد الحسين المظفّر وهو يدرس حياة الامام الصادقعليه‌السلام بصورة موجزة مع اشتماله على كثير من زوايا حياته سلام اللّه عليه من مدرسته العلمية وتعاليمه ومناظراته وخطبه وأقواله ورواته من العامّة والخاصّة.

نسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا لنشر الكتب الاسلاميّة وتقديمها لروّاد العلم والحوزات العلميّة، إنّه وليّ التوفيق.

بِسِم اللّهِ الرَّحمنِ الرَّحيم

( الحَمدُ للّهِ ربِّ العالَمِيِن* الرَّحمنِ الرَّحيِم* مالِكِ يَومِ الّدِينِ* إِيّاكَ نعبُدُ وإيّاكَ نستَعينُ* اِهدِنا الصِّراطَ المُستقيمِ* صِراطَ الَّذينَ أَنعمتَ عليهِم غيرِ المغضُوبِ عليهِم ولا الضّالّيِن ) و-( إِنَّ اللّه وملائِكتَهُ يُصلُّون على النَّبِيِّ يا أَيُّها الَّذين آمنُوا صلُّوا عليهِ وسلِّمُوا تسليماً ) و- سلام على آلِ ياسِين.

٢

الإهداء

سيّدي أبا عبد اللّه:

أرفع بكلتا يديّ هذه الصحائف الوجيزة، لأهديها إلى رفيع قدسك موقناً أنّي لست ممّن يقوى على الرُقي لأمثال هذه المعارج العالية، أو تنفق بضاعته في مثل هذه السوق الغالية، غير أنّي مستمسك بعروة هذه العترة الطاهرة، ومتعلّق بأغصان هذه الشجرة المباركة، وأرغب جهدي في أن اُحسب في عِدادِ من أدركه الحظ بإسداء الخدمة اليهم. وهذا الذي بين يدي ما انتهى اليه عرفاني، ووصل اليه علمي، من الجمع والتأليف والتعليق وقيمة كلّ امرئ ما يحسنه، فإن كانت فيه حسنة فهي منك واليك، وإن كانت فيه كبوة فتلك من قلمي الجموح، ومن أولى منك بالإقالة من العثرات، وقلَّما يسلم منها أحد مثلي، وما أملي إلا أن تمنّ بابتياع هذه البضاعة المزجاة من وليّك، وثمنها القبول، وما أغلاه من ثمن.

محمّد الحسين المظفّر

٣

الطليعة

لمّا كان الوقوف على حياة هذا الامام يتطلّب درساً لشؤون الدولتين الاُمويّة والعبّاسيّة اللتين عاصرهما أبو عبد اللّهعليه‌السلام ، وموقف هاتين السلطتين من أهل البيت، ومعرفة مَن هُم أهل البيت، ومعرفة ما كان في عهده من المذاهب والنِّحل، وما رأته الناس في الإمامة، حقّ أن نذكر هذه الشؤون في الطليعة، فإن بها تعرف ما كان من حياته السياسيّة والعلميّة والإجتماعيّة، والسبب الذي من أجله بثَّ العلوم والمعارف، وندب إلى الأخلاق والمحاسن وحثَّ على التكتّم في نشر هذه الفضائل وكتمان نسبتها إلى أهل البيت، كما منعَ أولياءهم عن إظهار الولاء لهم والاعلان في التردّد عليهم، وهو ما نُسمّيه ب«التقيّة».

فبهذه الطليعة يكون القارئ على بصيرة من حياة هذا الامام قبل أن يستعرض تفاصيلها.

٤

أهل البيت

مَن هُم أهل البيت ؟

يأتينا الكتاب الكريم ناطقاً مبيناً بقوله جلّ شأنه( إنّما يريد اللّه ليُذهبَ عنكم الرِّجس أهلَ البيت ويطهّركم تطهيراً ) (١) إنّها لفضيلة لهم لا يدانيهم فيها أحد من الناس كافّة.

ولا كرامة أنفس من إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من العيوب كافّة، ذلك التطهير الذي يريده اللطيف تعالى لهم بعنايته، وهو غير مقيَّد برجس خاصّ ولا من شيء مُعيّن، فيدلّ على عموم التطهير من كلّ عيب وذنب.

ويستفاد من هذه الآية الجليلة عصمة أهل البيت النبوي، لأنّ كلّ ذنب رجس، وارتكاب الذنوب لا يجتمع مع إذهابها عنهم وطهارتهم منها، فهم إذن بحكم هذه الآية مطهَّرون من الأرجاس والذنوب، وهل العصمة شيء وراء هذا ؟

نعم وإنما الشأن كلّه في المعنيّ بهذه الفضيلة التي امتازوا بها على جميع الامّة. أهُم الذين كانوا في البيت حين نزلت هذه الآية الكريمة ؟ أم كلّ مَن يمت إلى الرسول الأطهر بسبب أو نسب ؟ فإن قيل بالثاني فالواقع شاهد على خلافه، لأنّا نجد في نسائه من خالفته وتظاهرت عليه، ولا رجس أعظم من ذلك. فلابدَّ من أن يكون نساؤه غير معنيّات بها، واستثناء بعض النساء دون بعض تحكّم.

____________________

(١) الأحزاب: ٣٣.

٥

هذا فيمن يمت اليه بالسبب، ونجد البعض ممّن يمت اليه بالنسب يداني الموبقة، ويقارب الجريمة، ولا يصحّ أن يريد القدير سبحانه شيئاً بالإرادة التكوينيّة(١) ثم لا يقع، فلمّا كان مستحيلاً أن يريد تكوين شيء فلا يكون عرفاً أن النساء وعامّة الهاشميّين غير مقصودين من الآية، لإتيانهنّ وإتيانهم ما ينافي التطهير، على أنه لم يقل أحد بعصمة نسائه والهاشميّين عامّة.

ولو كان المقصود بها الإرادة التشريعيّة فلا وجه لارادة التطهير من أهل البيت خاصّة، لأنه تعالى يريده من الناس كافّة، فاختصاصه بهم على وجه الميزة والفضيلة يدلّنا على تكوينه فيهم، ثمّ ان الإرادة التشريعيّة إنما تتعلّق بفعل الغير، ومتعلّقها في الآية فعل اللّه تعالى نفسه، ولو كانت الإرادة تشريعيّة لقال: لتذهبوا وتطهروا أنفسكم.

فلا شكَّ في أن المعنيّ من الآية هو المعنى الأول، أعني أن المقصود منها اُناس مخصوصون، وهم الذين كانوا في بيت سيّد الرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد جلّلهم بكسائه والتحف معهم به، فنزلت هذه الآية عليهم وفيهم، وهم عليّ وفاطمة وابناهماعليهم‌السلام ، وعلى ذلك صحاح الأحاديث من طرق الفريقين(٢) .

ولو لم يكن هناك نقل يدلّ بصراحته على اختصاص هذه الصفوة الكريمة بهذه الآية الشريفة لكان من آثارهم اكبر برهان على هذا الاختصاص، فانّ أفعالهم وأقوالهم ترغمنا على الاعتراف بتلك النزاهة لهم.

وما خفيت هذه الحقيقة الناصعة على أهل البصائر من بدء نزول هذه الآية المحكمة حتى اليوم، فكان أهل البيت عندهم أهل الكساء خاصّة، الذين حبوا بمكارم لا يأتي عليها الحصر، وكان منها الطهارة من العيوب، وذهاب الأرجاس والذنوب.

____________________

(١) الإرادة التكوينيّة هي التي تتعلّق بفعل المريد نفسه وتقابلها الإرادة التشريعيّة التي تتعلّق بفعل الغير على أن يصدر من الغير وهي التي تكون في التكاليف.

(٢) انظر مجمع البيان وما رواه القوم في تفسيرها: ٤/٣٥٦ وتفسير الشوكاني: ٤/٢٧٠ ورواه من عِدّة طرق عن أمّ سلمة وعن عائشة وعن غيرهما، وذكر ابن حجر في الصواعق ص ٨٧: أن اكثر المفسّرين انها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ، الى غيرهم من أهل التفسير والحديث والتاريخ.

وحاول الآلوسي في تفسيره روح المعاني بعد أن ذكر الأحاديث الجمّة الواردة في اختصاصها بأهل الكساء أن يعمّم الآية لهم وللنساء وللمؤمنين من بني هاشم، وما ذكرناه كافٍ في ردّه.

٦

نعم ربّما استغلَّ بعض الهاشميّين ومنهم العبّاسيّون ظاهر عموم كلمة أهل البيت لتحقيق مآربهم والوصول إلى العروش، فكان الهاشميّون عامّة يدلون على الناس بهذه الآية.

كما كان اسم التشيّع أيضاً قد يُستغل فيراد به ولاء عليّ وأهل البيت بالمعنى العام، لا خصوص أصحاب الكساء والأئمة من أولاد الحسينعليهم‌السلام إلا عند الذين لا تجرفهم سيول الرعاع، ولا يعدل بهم عن الحقّ الصخب أو الضغط، وما عرفت الناس التشيّع بولاء هؤلاء الأئمة خاصّة إلا بعد أن خيّم السكون على الناس بعد الثلث الأوّل من الدولة العبّاسيّة، حين قرَّت شقشقة العلويّين وثوراتهم، فتمخّض القول وقتذاك بأهل البيت لهؤلاء السادة الأئمة.

وشاهدنا على ذلك أن بني العبّاس ما دبوا دبيب النمل على الصفا لارتقاء عروش المُلك وتحطيم دعائم الدولة المروانيّة إلا بذلك الاسم، بزعم أنهم أهل البيت الأقربون إلى صاحب الرسالة، ليعطفوا بذلك عليهم قلوب الشيعة ويتّخذوا منهم فعلة لبناء الكيان لسلطانهم، وهدم بناء الدولة الاُمويّة التي قاومت أهل البيت وشيعتهم طيلة أيامها، وصبغت وجه الأرض من دمائهم المسفوحة.

وما كان ليتمّ لبني العبّاس ما أملوه لولا ادعاؤهم ذلك، ولو لم يكن الذين نهضوا بهم واتخذوا منهم جسراً عبروا عليه إلى مآربهم شيعة لأهل البيت، من دون تفريق بين العبّاسي والطالبي، ولا بين العلوي والجعفري والعقيلي، ولا بين الحسني والحسيني.

وهكذا كانت الدعوة والنهضة من كلّ هاشمي كنهضة عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بالكوفة ثمّ بفارس وفيهما أولياء لأهل البيت، وقد قضى عليه أبو مسلم بعد تفرّق الناس عنه والتجائه اليه، وما كان من زيد وابنه يحيى من النهضة، ولا من الأخوين محمّد وإبراهيم من الدعوة إلا لأنهم من أهل البيت وأن غاياتهم من الدعوة أخذ التراث من أعداء أهل البيت.

ولكن قد وضح للناس بعد ذلك أنّ بني العبّاس ليسوا من أهل البيت، حين سلّوا سيف البغي على أهل البيت قربى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرف الناس أنّ الدعوة من بني العبّاس لقلب دولة أُميَّة باسم الثأر لقتلى الطف وصليب الكناسة والجوزجان وغيرهم كانت سبيلاً للوصول إلى أُمنيّتهم المقصودة، لأنه بعد أن بنوا من جماجم اولئك الاغرار

٧

من محبّي أهل البيت قواعد سلطانهم ظهرت كوامن صدورهم، وما قصدوه من الوليجة إلى غاياتهم، حتى أن محمّداً وإبراهيم اختفيا عند قبض السفّاح عن أعنة الحكم، وما اختفيا إلا لما يعلمانه من سوء نواياه مع الادنين من الرسول، والشواهد على ذلك من ضغطهم على أهل البيت وشيعتهم اكثر من أن تحصر، وفي ثنايا الكتاب سيمرّ عليك من هذا القبيل ما فيه مقنع.

بنو اُميّة

مَن هُم بنو اُميّة ؟

يفصح القرآن الكريم معلناً بقوله:( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنةً للناس والشجرة الملعونة في القرآن ) (١) ويحدّثنا التفسير في سبب نزول هذه الآية الكريمة أنّ النبي رأى في المنام أنّ قردة تنزو على منبره فأعلمه جبرئيل أنهم بنو أُميّة يتغلّبون على الأمر فيتنازون على منبره وأنهم هم الشجرة الملعونة، ثم انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستجمع ضاحكاً بعد ذلك حتى مات(٢) .

وجاء في ذمّ بني أُميّة والطعن فيهم كثير من التنزيل، انظر الحاكم في حديث علي في قوله( وأحلّوا قومهم دار البوار ) (٣) قال: هما الأفجران من قريش بنو أُميّة وبنو المغيرة، وتفسير ابن جرير في قوله:( وجاهدوا في اللّه حقَّ جهاده ) (٤) فإنه قال: إن الذين أمر تعالى بجهادهم مخزوم وأُميّة(٥) ، إلى غير ذلك.

ثمّ انّ الرسول الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتبع القرآن المجيد بقوله: اللهمّ العن بني أُميّة قاطبة، وبأمثال ذلك، لا سيّما فيما يخصّ أبا سفيان وابنيه

____________________

(١) بني إسرائيل: ٦٠.

(٢) مجمع البيان: ٣/٤٢٤، وشرح النهج: ٣/٤٨٨ و٢/٤٦٦ و٤٦٧، وقال الشوكاني في تفسيره أنهم آل أبي العاص خاصّة وعليه روايات.

(٣) إبراهيم: ٢٨.

(٤) الحج: ٧٨.

(٥) تفسير الطبري: ١٧/١٤٢.

٨

يزيد ومعاوية، ولا تنس ما جاء عنه في آل أبي العاص ولا سيّما في الحّكم وابنه مروان(١) .

أترى لماذا يمنح الكتاب المبين أهل البيت بذلك الثناء الجزيل ويذكر بني أُميّة بذلك السوء والذمّ، أيكيل العادل تعالى لأُولئك المدح جزافاً، ولهؤلاء الذمّ اعتداءً، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

نعم إنّ الطاعة هي التي تُقرّب الخلق من الخالق، وإنّ المعصية هي التي تُبعد العبيد عن البارئ، وإلا فانّ عباده لديه بالعطف واللطف وبالرحمة للمطيع وبالنقمة على العاصي شرع سواء، فإنّه يدخل الجنّة من أطاعه وإن كان عبداً حبشيّاً، والنار من عصاه وإن كان سيّداً قرشيّاً.

فما كان دنّو أهل البيت من حظيرة القدس حتى منحهم تعالى بذلك الوسام الأرفع الذي لم يحظ به بشر سواهم إلا لتقواهم وامتثالهم لأوامره، وما كان بُعد بني أُميّة عن ساحة الرحمة حتى صاروا الشجرة الملعونة في القرآن، وحتى عمَّتهم لعنة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرَّة، وخصّت الكثير منهم اُخرى، مشفوعة بالدعاء عليهم، إلا لعصيانهم لجبّار السموات والأرضين، واستمرارهم على العصيان.

ولو لم يقرئنا التاريخ قدر تلك الطاعة، التي كان عليها أهل البيت ومبلغ ذلك العصيان الذي استقام عليه الاُمويّون، لكفى ذلك التقديس من الجليل في كتابه لاولئك، وهذا الحظ من هؤلاء، كاشفاً عمّا عليه الآل من الطاعة والانقياد، واُميّة من التمرّد والابتعاد.

____________________

(١) لا يحتاج الخبير في هذا إِلى المصادر لكثرتها، وإن أحببت الوقوف على شيء من ذلك فانظر شرح ابن أبي الحديد في التعليقة الماضية من الجزء والصحيفة و: ١/٣٦١ و: ٢/١٠٦ و٤١٠ و٤/١٤٨ والاستيعاب لابن عبد البر في مروان، والحاكم عن أبي هريرة في آل أبي العاص ومروان وأبيه وبنيه الى غير ذلك.

٩

وهذه النتيجة تلمسها من هذه النصوص الفرقانيّة والأحاديث النبويّة من دون شحذ قريحة وغور في التفكير، نعم لو سبرت السيرة الاُمويّة قبل الاسلام وبعده الى انقراض دولتهم، لعرفت أنّ اللّه تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما كشفا بالكتاب والسنّة عن تلك السيرة والسريرة الفائتتين، وأنبآ عن الآتيتين، وما كان ليخفى على الناس حالهما، ولكنّ كان هذا التصريح قطعاً لاعتذار أوليائهم ودحضاً لمكابرات مشايعيهم، ومع هذه الصراحة من الكتاب والحديث مازال للقوم حتى اليوم أولياء وأشياع، ومدافعون وأتباع.

ولأجل أن تطمئنّ القلوب بهذه الحقيقة، نستطرد نبذاً من أعمال اُميّة وبنيه أخبرنا عنها التاريخ الموثوق به.

مات عبد مناف وترك عدَّة بنين، كان منهم هاشم والمطّلب ونوفل وعبد شمس، وكان هاشم أرجحهم عقلاً وأسماهم فضيلةً فاصطلحت قريش على أن تولّيه الرفادة والسِّقاية(١) وكانتا لأبيه عبد مناف، فكان هاشم حيث رأت قريش، وزاد في شرف أبيه أن سنَّ الرحلتين رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، وقد ذكر هاتين الرحلتين الكتاب الكريم(٢) ، وما كانت غاية هاشم من الرحلتين إلا أن يكثر المال في قريش فيقووا به على إطعام الحاجّ، وهذه فضيلة سامية أرادها هاشم لقومه، وهذا شأن العظام الذين ينحون بقومهم عظائم الاُمور، ومراقي الشرف الرفيعة.

ثمّ تقدم هو في الاطعام ليكون قدوة لقومه، فأطعم وأجزل حتى غنّت الركبان بجوده، وحتّى قال شاعره:

عمرو العلى هشم الثريد لقومه

ورجال مكة مسنّتون عجاف

____________________

(١) الرفادة بالكسر: إِطعام الحاج، والسقاية بالكسر أيضاً: سقيهم.

(٢) قريش: ٢.

١٠

في أبيات مشهورة، فصار يُلقب بهاشم لذلك، وغلب على اسمه عمرو(١) فكان الجود بعض فضائل هاشم التي سوّدته على قريش سادات العرب.

وانشطرت اخوته فصار المطّلب الى جنب هاشم، وصار نوفل وعبد شمس في جانب، وهما ينافسانه ويحاولان أن يجارياه في مفاخره، فيقصر بهما العمل، فكان هاشم لكرم فعاله وجميل خصاله سيّد البطحاء غير مدافع.

ولمّا مات عبد شمس وظهر اُميّة حاول أن يلحق بهاشم في شأنه بما عجز عنه أبوه من قبل، وأين اُميّة من هاشم في سنّه وشأنه، وما ساد هاشم إلا لأنّه مجمع الفضائل، ولم يكن لاُميّة ما يسود به الفتى خلا المال والولد ولا يكفيان للسيادة اذا لم تكن الأعمال تلحقه بالمعارج السامية.

وطمع اُميّة يوماً أن ينافر هاشماً، وذلك إقدام لم يرتقب من مثله لمثل هاشم، ولا نعرف سبباً في قناعة هاشم بهذه المنافرة - وهو سيّد الأبطح وشيخ قريش - سوى علمه بأنه سوف ينفر اُميّة، وبذلك كبح لجماع اُميّة وإذلال لنفسه المتطلّعة لما ليس له كما كان ذلك، فإنّه قد نفره هاشم فأخرجه من مكّة عشر سنين، ولعلّ اُميّة كان يعتقد أن هاشماً سيّد الأبطح لا محالة ينفره، إلا انّه قنع من الشرف أن يُقال ان اُميّة نافر سيّد الحرم وجرى في مضماره.

ولمّا نبغ عبد المطّلب بعد أبيه هاشم وعمّه المطّلب، علا على شرف أهله ومفاخر آبائه، فانبطَّ ماء زمزم ولم يتوفّق لها قرشي من قبل، فحسدته قريش وراموا أن يشاركوه في هذه الكرامة والسقاية منها، فأبى عليهم، وطلبوا محاكمته عند كاهنة هذيل في الشام، وعندما رأوا منه الكرامات في طريقهم الى الشام عدلوا عن محاكمته، وتركوا له زمزماً وسقاية الحاج.

____________________

(١) شرح النهج: ٣/٤٥٧.

١١

وهو الذي أنذر أبرهة - قائد الأحباش والأمير على اليمن من قبل النجاشي ملك الحبشة - حين جاء من اليمن بجيش كثيف قاصداً هدم البيت ليتحوَّل العرب عن الحجّ اليه، ولم يخرج عبد المطّلب من البيت كما خرجت قريش هاربة من سطوة الأحباش، فكان آخر أمر الأحباش الدمار، كما أفصح عن ذلك الكتاب المجيد(١) فجاء الحال وفقاً لما أنذرهم به سيّد الأبطح.

فكانت قريش تحسده لهذه المفاخر، وصاحب الفضيلة محسود، وما اكتفى اُميّة بما لقيه من منافرة هاشم حتّى حاول منافسة عبد المطّلب، فحمل اُميّة عبد المطّلب على المسابقة، فسبقه عبد المطّلب واستعبده عشر سنين.

وكان حرب بن اُميّة أيضاً يُفاخر عبد المطّلب بوفره وبأهله، تجاهلاً منه بأن الشرف إنّما هو بالفضيلة، والأعمال الجليلة، حتى طلب منافرة عبد المطّلب، وتلك جرأة كبرى يدفعه اليها الحسد والغرور، وإن علم يقيناً أنه لا يشقّ غبار شيخ قريش، غير انّا نحسبه انّه كان يعتقد أن المنافرة وحدها تجعل له المكانة العالية وإن نفره عبد المطّلب، ولقد تعجّب النافر من طمع حرب في منافرة شيخ البطحاء، والأعمال وجدها كافلة بخسران حرب، فقال النافر لحرب:

أبوك معاهر وأبوه عفّ

وذاد الفيل عن بلد حرام

وهذا شاهد على ما كان عليه عبد المطّلب وأهله، وحرب وآباؤه من خلّتين شهيرتين دعت وجوه الناس على الحكم لهاشم وولده في كلّ منافرة ومنافسة.

____________________

(١) سورة الفيل.

١٢

ولا تنس حلف الفضول الذي هو خير حلف عقدته قريش بل العرب كلّها، لردّ عادية الظلم، والانتصار للمظلوم، قد دخل فيه الرسول - عليه وعلى آله السلام - وذلك قبل الاسلام، وقال فيه بعد ذلك:«لو دُعيت إلى مثله لأجبت» . ذلك حلف هدّد بالهتاف به الحسين -عليه‌السلام - معاوية بن أبي سفيان، ووقف للطغاة الغاصبين بالمرصاد. فكم ردَّ من مال نُهب، وعرض غصب، وكان السبب فيه الزبير بن عبد المطّلب، ولم يدخل فيه النوفليّون والعبشميّون، ويحقّ للسائل أن يسأل عن سبب امتناعهم عن الدخول فيه، ألأنّ سببه الهاشميّون ؟ أم لأنه فضيلة سامية ؟ أم لماذا ؟

هذه حال اُميّة لو استطردت بعضها قبل بزوغ شمس الاسلام. وأمّا لو نظرت الى مواقفهم بعد بزوغ تلك الشمس النيّرة، لأيقنت كيف كانت هذه الشجرة جديرة بنزول ذلك الكتاب الكريم، لا لأنّ الايمان لم يدخل أعماق قلوبهم فحسب، لأنهم لم يتركوا ذريعة لستر ذلك النور الساطع إلا توسّلوا بها، ولا معولاً لهدم بنائه الشامخ إلا حملوه، سوى ما كان منهم من أعمال يأباها العدل والمروءة ويمقتها الشرف والفضيلة.

وهل ينسى أحد ما قام به أبو سفيان من إيذاء الرسول قبل الهجرة، وما ألَّبه عليه بعدها، هذه اُحد والأحزاب والحديبيّة وما سواها من أعمال خلّدها التاريخ تنبئك عن حاله، ومن صاحب العِير وصاحب النفير غيره وغير بني أبيه العبشميّين، وكيف ينسى ابن الاسلام تلك الوقائع والتاريخ يذكره بها كلّ حين، وما دخل أبو سفيان وابنه معاوية في الاسلام إلا حين أخذ الاسلام منهما بالخناق، ولم يجدا مفرّاً منه، وقد ألفهما النبيّ الحكيم بعد الفتح بالعطاء الوفر من غنائم حُنين، فأعان الطمع الخوف على ذلك التظاهر والقلوب منطوية على وثنيّتها القديمة وعلى الحسد والحقد وانتهاز الفرصة للوثبة وأخذ تراث الأبناء والأخوال والأجداد، الذين فَرت أوداجهم سيوف الاسلام الصارمة.

١٣

ولم يطلق أبو سفيان أن يكتم تلك الضغائن النفسية، فكانت تطفح على فلتات لسانه، وكان اكثرها أيام عثمان(١) لأمانه من المؤاخذة على كلامه، ومن أمِن العقوبة أساء الأدب، وكيف لا يأمن والأمر بأيدي صبيانهم على حدّ تعبيره حين ركل قبر حمزة بن عبد المطّلب برجله.

وأما ابنه معاوية(٢) فانه عندما رأى الاسلام قد ضرب بجرانه الأرض، ووشجت أُصوله، وبسقت فروعه، تذرع به إلى اقتلاع جذوره وقد ملك معاوية ناصية البلاد والاسلام غضّ جديد، فخالف كلّ شريعة من شرائعه، وناصب كلّ حكم من أحكامه، سوى أنّه لم يخلع عند الظاهر ربقة الاسلام، وكيف يخلعها وهي الوسيلة لنيله ذلك المُلك الفسيح الأرجاء، المُلك الذي ما كان يحلم به صخر بن حرب بل ولا أُميّة من قبل، وما كان يضرّه من تلك الظاهرة إذا كانت الذريعة لاقتناص مآربه الواسعة، ولتحطيم قواعد الاسلام الرفيعة.

وكفى من حربه لسيّد الرسل حربه لأمير المؤمنينعليه‌السلام وقد قال فيه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :«سلمك سلمي وحربك حربي» (٣) وقال فيه:

____________________

(١) الأغاني: ٦/ ٩٠ - ٩٦.

(٢) جاء في معاوية عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشيء الكثير، وإِن شئت أن تلمس بعضه فدونك الأحاديث القائلة «يا عمّار تقتلك الفئة الباغية بصفّين» وعدَّه السيوطي في الأخبار المتواترة، ودونك الأَحاديث القائلة «إن عليّاً يحارب القاسطين وهم معاوية وجنده» ودونك شرح النَّهج: ١/٣٤٧ و: ٣/٤٤٣ و: ١/٢٥٤ و: ٢/٣٦٣ و: ٢/١٠٢ و: ١/٣٧٢، ٣٦١، ٣٥٥، ٣٧٣، ١١٣، وانظر فيها رأي الناس في معاوية و: ١/٤٦٣ واقرأ فيها ما يقوله الناس عن معاوية وبني اُميّة و: ٣/١٥ و٤/١٩٢ ودونك الاستيعاب في معاوية.

(٣) مسند أحمد بن حنبل: ٢/٤٤٢ واسد الغابة: ٣/١١.

١٤

«تحارب من بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين» (١) ولو كان القصد من حربه لأبي الحسن -عليه‌السلام - الطلب بقتلة عثمان لما أغضى عنهم حين انتهى الأمر اليه، ولا أدري كيف كان معاوية وليّ عثمان والمرتضى هو أمير المؤمنين ووليّهم.

لعمر الحق ما كان شأن معاوية خافياً لندلّل ونأتي بالشواهد عليه، ولو لم يكن حرباً للاسلام ولرسوله لما سنَّ الشفرة للقضاء على آل الرسول، والقرآن يهتف باحترامهم ومودّتهم، والرسول يدعو إلى ولائهم والتمسك بهم، وما ذنبهم لدى معاوية إلا أنّهم عترة الرسول ورهطه، ورعاة الدين ودعاته، ولو صافحهم أو صفح عنهم لم ينل مأربه من الزعامة، ومقصده من حرب الرسول وشريعته.(٢)

ولم يهلك معاوية مستوفياً لأمانيه من محاربة الرسول والرسالة حتى أرجأ ذلك إلى دعيّه يزيد، غير أن يزيد لم يكن لديه دهاء أبيه معاوية فيدسّ السمّ بالدسم لكيد الاسلام، فمن ثمَّ برزت نواياه على صفحات أعماله واضحة من دون غشاء ولا غطاء، فما أصبح إلا وأوقع بالحسين سبط الرسول وريحانته وسيّد شباب أهل الجنّة، وبرهطه صفوة الناس في الصلاح والفضيلة، وما أمسى إلا وتحكّم ما يشاء في دار الهجرة وبقايا الصحابة، من دون أن يحول عن العبث بها دين أو مروّة أو عفاف، وما عتم إلا وهو محاصر للبيت ترميه حجارته وتفتك بأهليه ورمايته.

وأيّ رهط أذب عن الاسلام وأحمى لحوزته من الحسين وأهله ؟ وأيّ بلد

____________________

(١) معاني الأخبار: ٢٠٤ وسنن ابن ماجة: ٨ح ٣٩٥٠.

(٢) شرح النَّهج: ١/٤٦٣، ومروج الذهب: ١/٣٤١ فيما يرويانه عن المغيرة بن شعبة في تكفيره لمعاوية وهو المغيرة فكيف إذن معاوية، ويل لمن كفره النمرود.

١٥

أظهر في اتباع الاسلام من الحرمين يوم ذاك ؟ وهل أبقى ابن ميسون شيئاً من مقدوره في مبارزة الاسلام لم يصنعه، ومحاربة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته وصحابته لم يفعله ؟! ولو أردنا استقصاء أعمال أُميّة التي حاربت بها الشريعة وصاحبها الأمين لكثر عليك العدّ، وخرجنا عن القصد، أجل لا ضير لو أوردنا نتفاً أشار اليها المقريزي صاحب الخطط في رسالته «النزاع والتخاصم» والجاحظ في رسالته التي ضربها مثلاً للمفاخرة بين بني أُميّة وبني هاشم، فكان مما أورداه:

إنّ بني أُميّة كانوا يختمون أعناق الصحابة، وينقشون أكفّ المسلمين علامة استعبادهم، وجعلوا الرسول دون الخليفة، ووطأوا المسلمات في دار الاسلام بالسباء، وأخّروا الصلاة تشاغلاً بالخطبة، وكانوا يأكلون ويشربون على منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويبيعون الرجل في الدين يلزمه.(١)

وهذا بعض ما ذكراه من المنكر منهم ومخالفتهم للشريعة، وهل يا ترى خفي عليهم الدين وحدوده، وأنظمته وقيوده، وكفى من تلك الحرب الشعواء التي أقاموها لمنازلة الشريعة الأحمديّة زيادة على ما سبق أنهم اعتبروا الرسالة ملكاً تلعب به هاشم، وجعلوا الكتاب غرضاً للنبال، وجاهدوا أن يحوّلوا الحجّ إلى بيت المقدس ثمّ إلى المسجد الذي بنوه بدمشق، ورميهم من على المجانق البيت الحرام.

ولا تسل عمّا لقيته العترة الطاهرة الأحمديّة منهم، فمن صليب الكناسة وصليب الجوزجان زيد وابنه يحيى إلى قتيل بالسمّ كالحسن والسجّاد والباقرعليهم‌السلام وأبي هاشم بن الحنفيّة وإبراهيم بن محمّد أخ السفّاح، ونظائرهم. هذا سوى المشرّدين في الآفاق، والمغيّبين في قعر السجون.

____________________

(١) شرح النهج: ٣/٤٦٩، ٤٧٠.

١٦

وكان خيرة القوم في سيرته عمر بن عبد العزيز، فانّه عرف ما عليه الناس من بغضهم لأهله، فحاول أنّ يغيِّر الرأي فيهم، والقول عنهم.(١)

ولا غرابة لو رضي الناس بحكومة هؤلاء القوم، لأن الناس إلى أمثالهم أميل وبأشباههم أرغب.

إنَّ الدين يتطلّب من الناس التقوى سرّاً وإعلاناً، والسيرة العادلة في القريب والبعيد، كما يتطلّب الانتهاء عن الفحشاء ما ظهر منها وما بطن، والكفّ عن الاعتداء في الرضى والغضب، وما أبعد الناس عمّا يتطلّبه منهم الدين، وأين مَن تقوده نفسه - والنفس أمّارة بالسوء - إلى اتباع الشريعة وإن ضيّقت عليه سبل الشهوات وحرّمت عليه الظلم والاعتداء.

ولو أراد الناس الهدى لما خفي عليهم الرعاة أرباب العدل والحقّ والايمان والصدق، ولما ارتضى منهم أُولئك الرعاة غير هذه الخلال الكريمة، وإنَّ الناس لتبتعد عن هذه الفضائل العلويّة ابتعاد الوحش من الملائك، والحصباء من نجوم السماء.

ولو سبرت أحوال الناس لأَيقنت بصدق تلك الكلمة النبويّة الخالدة: «كيفما تكونون يولّى عليكم»(٢) ، وهل يرتضي ذو العلم أن يحكمه الجاهل، والعادل أن يقوده الفاسق.

____________________

(١) ولقد استوفى القاضي أبو حنيفة النعمان المصري في كتابه (المناقب والمثالب) ما للهاشميّين من المناقب وللاُمويّين من المثالب، ولو قرأت هذا الكتاب لعرفت ما كان عليه بنو اُميّة من شنيع الأعمال ولو أردنا الاستقصاء لذكرنا أضعاف ما أوردناه وبما ذكرناه يحصل المطلوب، والكتاب المذكور ما زال مخطوطاً لم يطبع ورأيت منه نسخة في بعض مكتبات النجف.

(٢) مسند أحمد بن حنبل: ٤/٤٣٧.

١٧

ولو لم يجد رعاة الجهل والجور والفجور أعضاداً من أمثالهم وسكوتاً عن أعمالهم، لم تطمع نفوسهم بالانقياد إلى الهوى، والاسترسال مع الشهوات، ولم تطمح إلى الغضّ من كرامة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنابذة رسالته ومحاربة عترته.

إن درس نفسيّات اولئك الأقوام وسبر أعمالهم تجسّم لك الغدر والخيانة والتحزُّب للضلال على الهدى، وللباطل على الحقّ، حتى لتكاد أن تعجب كيف لم يندرس الحق، وتنطمس أعلام الهداية إلى اليوم، مادام أنصار الحقّ في كلّ عصر ومصر قليلين جدّاً( وقليل من عبادي الشكور ) .(١)

وأين تغيب عن هذه الحقيقة، ونظرة واحدة في عصرنا الحاضر تريك كيف تتمثل المنافسة بين الباطل والحقّ، وتغلّب الأول بأنصاره على الثاني وأعوانه، وليس الغريب ذلك إنّما الغريب أن يتّفق انتصار أرباب الحقّ في بعض الأعصار وينخذل الباطل، ولو انتصر أبو الحسن والحسن على معاوية، والحسين على يزيد لكان بدعاً في الزمن دون العكس في الحال، وما كان انتصار الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تلك الحروب الدامية إلا إقامة للحجّة،( ليحيى من حيّ عن بيّنة، ويهلك من هلك عن بيّنة ) (٢) ولو غلب الكفر على الاسلام لم يتمّ نوره، ولا قامت حجّته.

إنَّ الرسول الأمين جاء للناس بكل فضيلة وسعادة وخُلق كريم وقد وقفوا دون أداء رسالته، وتنفيذ دعوته، وما رسالته إلا لخيرهم، وما دعوته إلا لسعادتهم، ولأيّ شيء أبت نفوسهم عن الاستسلام لتلك الفضائل غير مخالفتهم لها في السيرة والسريرة دأب البشر في كلّ عصر، وهل خضع الناس لقبول تلك

____________________

(١) سبأ: ١٣.

(٢) الأنفال: ٤٢.

١٨

السعادة إلا بعد أن علا رؤوسهم بالسيف، وضرب خراطيمهم بالسوط، وما أسرع ما انقلبوا على الاعقاب بعد انتقاله إلى حظيرة القدس ناكصين عن سنن الطريق، حين وجدوا مناصاً للعدول( وما محمّد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئاً ) ( ١) .

بيد أن الأُمويّة مخّضت عن أفذاذ ثبت الايمان في قلوبهم، ونهضوا مع الحقّ حرباً للباطل، ولا عجب فإنه تعالى:( يخرج الحيّ من الميت ) (٢) ولا شكَّ أن اللعن لا يعمّهم، والكتاب الكريم يقول:( لا يضرّكم من ضلَّ إذا اهتديتم ) (٣) ( ولا تزر وازرة وزر اُخرى ) (٤) ( من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ) (٥) ( ما على المحسنين من سبيل ) (٦) .

____________________

(١) آل عمران: ١٤٤.

(٢) الأنعام: ٩٥.

(٣) المائدة: ١٠٥.

(٤) الأنعام: ١٦٤.

(٥) فصّلت: ٤٦.

(٦) التوبة: ٩١.

١٩

بنو العبّاس

ساد ظلم الأُمويّين الناس عامّة، وما اختصَّ بالأبرار، ولا بعترة المختارصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمقتهم آخر الأمر أهل السوء كما أبغضهم أهل الصلاح، فقام الباكيان باكٍ يبكي على دينه وباكٍ يبكي على دنياه، وصار الناس تتطلّب المهرب من جورهم، وتريد الخلاص من حكمهم، كانت أُميّة تهدّد بلاد الاسلام كافّة بأهل الشام، لأن الشام جندهم الطيّع الذي لا يحيد عن رأيهم، ولا يتخلّف عن أمرهم، وبأهل الشام واجتماعهم ملَكَ معاوية مصر والعراق والحجاز، مع ما في الحجاز والعراق من رجال الرأي والشجاعة الذين كان افتراقهم مطمعاً للشام باجتماعهم، وما ساق ابن زياد الكوفة على ابن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير الوعيد بأجناد دمشق والوعد بالمال، وما تغلّب عبد الملك على العراقين والحرمين واستلبها من آل الزبير إلا بتلك الأجناد، كانت الشام لا تعرف غير أُميّة للمُلك بل للخلافة، بل لكلّ دعوة وطاعة وما زالت أُمية مهيمنة على البلاد الوسيعة.

حتى إذا اختلف بنو أُميّة بينهم وصار بعضهم يقتل بعضاً اختلف أهل الشام باختلافهم، وافترقت كلمتهم لافتراق القادة الذين ضلّلوهم وأضلّوا بهم.

ولمّا اختلفت كلمة الأُمويّين اشرأبّت الأعناق لسلطانهم، وطمعت النفوس في بلادهم، ولكن مَن الذي يجهر بتلك الأماني والرعب من الشام آخذ بالقلوب، وكيف ينسى الناس تلك القسوة والسطوة وجندهم أهل الشام ولم يطل العهد على حادثة الطف التي أظهر فيها الأُمويّون فنون الارهاب وضروب اللؤم والانتقام، ولا على واقعة الحرَّة التي أبانوا فيها غرائب الخسّة والدعارة والهتك للحرمات والمحارم والسفك للدماء البريئة، ولا على حصار البيت من يزيد مرّة، ومن عبد الملك أُخرى حتى رمته المجانيق وأضرموا فيه النار فهدموه، ولا على قتل زيد وصلبه وإحراقه، وقتل يحيى وصلبه، والحوادث المثيرة التي أنزلوها بالناس، من دون أن يجدوا حرمة لحريم ولا رادعاً عن محرم، فكأن النفوس والنفائس والأعراض والعروض لم تكن إلا طعمةً لهم، ومنفذاً لشهواتهم، فكيف والحال هذه يجهر ابن حرّة بعداء بني أُميّة، أو يتظاهر بالكيد لدولتهم.

نعم لم تأمل الناس من أحد أن ينتزع منهم التيجان، ويسلبهم السلطان غير بني هاشم، لأنهم أرباب ذلك العرش، سواء كانت الخلافة بالنصّ أو القربى أو الفضيلة فصارت الناس تستنهضهم سرّاً، وتحثهم على الوثبة همساً.

٢٠

ولأحمد والترمذي من وجه آخر عن أبي سعيد : اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألاه عن ذلك ، فقال : هو هذا ، وفي ذلك ـ يعني مسجد قباء ـ خير كثير ، وأخرجه أحمد من وجه آخر مرفوعا ، وفي العتبية عن مالك ما لفظه : وقال : المسجد الذي ذكر اللهعزوجل أنه أسس على التقوى من أول يوم الآية هو مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا ، أي مسجد المدينة ، ثم قال : أين كان يقوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؟ أليس في هذا؟ ويأتونه أولئك من هنالك.

وقد قال الله سبحانه وتعالى :( وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً ) [الجمعة : ١١] فإنما هو مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم .

وقد قال عمر بن الخطاب : لو لا أني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو سمعته يريد أن يقدم القبلة ، وقال عمر بيده هكذا ، ما قدمتها ، ثم قدمها عمر موضع المقصورة الآن ، انتهى.

قال ابن رشد في بيانه : ما ذهب إليه مالك مروى عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذهب قوم إلى أنه مسجد قباء ، فاستدلوا بما روي أن الآية لما نزلت قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا معشر الأنصار ، إن الله قد أثنى عليكم خيرا ، الحديث ، قال : ولا دليل فيه ؛ لأن أولئك كانوا في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه كان معمورا بالمهاجرين والأنصار ومن سواهم ، قال : واستدلال مالك بقول عمر المتقدم ظاهر ؛ لأن الله تعالى لما ذكر فيه أنه أسس على التقوى لم يستجز نقض بنائه وتبديل قبلته ، إلا بما سمع من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ورآه قد أراد أن يفعله.

قلت : ما ذكره مالك من كون مسجد المدينة هو المراد هو ظاهر ما قدمناه ، لكن قوله تعالى( مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ) يقضي أنه مسجد قباء ؛ لأنه ليس المراد أول أيام الدنيا ، بل أول أيام حلولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بدار الهجرة ، وذلك هو مسجد قباء إلا أن يدعى أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شرع في تأسيس مسجد المدينة أيضا من أول يوم قدومه لها ، أو يقال : المراد من أول يوم تأسيسه ، وسيأتي في مسجد قباء أشياء صريحة في أنه المراد ؛ فتعين الجمع بأن كلا منهما يصدق عليه أنه أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه كما هو معلوم ، وأنهما المراد من الآية ، لكن يشكل عليه كون النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاب عند السؤال عن ذلك بتعيين مسجد المدينة ، وجوابه أن السر في ذلك أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد به رفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء كما هو ظاهر ما فهمه السائل ، وتنويها بمزية مسجده الشريف لمزيد فضله ، والله أعلم.

فضل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

وفي الصحيحين حديث أبي هريرة «لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى».

وعند مسلم : «إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد : الكعبة ، ومسجدي ، ومسجد إيلياء».

٢١

وعند أبي داود بلفظ : «ومسجدي هذا».

وفي الكبير والأوسط للطبراني برجال ثقات عن ابن عمر ، وبرجال الصحيح عن أبي الجعد الضّمري «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ، وذكر نحو رواية الصحيحين.

وفي صحيح ابن حبان ومسند أحمد والأوسط للطبراني وإسناده حسن من حديث جابر : «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجدي هذا والبيت العتيق».

وهو عند البزار بلفظ : «خير ما ركبت إليه الرواحل مسجد إبراهيم ومسجد محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم » ورجاله رجال الصحيح إلا عبد الرحمن بن أبي الزناد وقد وثقه غير واحد.

فضل الصلاة في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرةرضي‌الله‌عنه : «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في ما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» هذا لفظ البخاري ، زاد مسلم : «فإني آخر الأنبياء ، وإن مسجدي آخر المساجد».

قلت : يريد آخر مساجد الأنبياء كما نقله المحب الطبري عن أبي حاتم ، وإلا فهو من أول مساجد هذه الأمة ، وإذا كانت الألف واللام هنا لمعهود ـ وهو مساجد الأنبياء ـ فالألف واللام أيضا في قوله «فيما سواه من المساجد» للعهد ، والمراد مساجد الأنبياء ؛ فيتحصل من معناه أن الصلاة في مسجده أفضل من الصلاة في سائر مساجد الأنبياء بألف صلاة إلا المسجد الحرام ؛ فيقتضي ذلك أن تكون الصلاة بمسجده أفضل من ألف صلاة في بيت المقدس ؛ لأنه من جملة مساجد الأنبياء ، ولم يستثن ، ويدل على ذلك ما رواه البزار عن أبي سعيد قال : ودّع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل فقال له : أين تريد؟ قال : أريد بيت المقدس ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام ، وأسنده يحيى بزيادة تسمية الرجل فقال : عن الأرقم أنه تجهز يريد بيت المقدس ، فلما فرغ من جهازه جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يودعه ، وقال فيه : فجلس الأرقم ولم يخرج ، وأسنده ابن النجار عن الأرقم بلفظه : إنني أريد الخروج إلى بيت المقدس ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ولم؟ قلت : للصلاة فيه ، قال : هاهنا أفضل من الصلاة هناك ألف مرة ، ورواه الطبراني برجال ثقات عن الأرقم بلفظ : صلاة هاهنا خير من ألف صلاة ثم.

وقد روى أبو يعلى برجال ثقات عن ميمونة قالت : يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس ، قال : أرض المحشر ، وأرض المنشر ، ائتوه فصلوا فيه ، فإن صلاة فيه كألف صلاة ـ أي في غيره من مساجد الأنبياء قبله ، ومساجد غير الأنبياء ما عدا المسجدين ـ لقيام الدليل على ذلك ؛ فتكون الصلاة بمسجد المدينة خيرا من ألف ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، فأما المسجد الأقصى فإنها أفضل من ألف صلاة فيه

٢٢

فقط ، ولا يعلم قدر زيادتها في الفضل على ذلك إلا الله تعالى ، ولمثل هذا تضرب آباط الإبل ، وتستحق الرحلة ، ولا يعكر على ذلك ما رواه أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة وعائشة قالا : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الأقصى» لأن المحفوظ إنما هو استثناء المسجد الحرام ، وحديث أبي هريرة في الصحيح خلا قوله : «إلا المسجد الأقصى» وهو معارض بما تقدم ، ولأن الهيثمي أورده في مجمع الزوائد ثم قال : رواه أحمد ، وأعاده بعد هذا بسنده فقال : إلا المسجد الحرام ، فاتضح بذلك ما قلناه.

وأما المسجد الحرام فاختلف الناس في معنى استثنائه ، فذهب مالك في رواية أشهب عنه ـ وقاله ابن نافع صاحبه وجماعة من أصحابه ـ إلى أن معنى الاستثناء أن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة في سائر المساجد بألف صلاة ، إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من الصلاة فيه بدون الألف ، وذهب بعضهم إلى أن الصلاة في مسجد المدينة أفضل من الصلاة في مسجد مكة بمائة صلاة ، وحمل على ذلك الاستثناء في الحديث المتقدم ، واحتجوا برواية سليمان بن عتيق عن ابن الزبير عن عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه : «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة في ما سواه» فيأتي فضيلة مسجد الرسول عليه بتسعمائة ، وعلى غيره بألف ، وتعقّب بأن المحفوظ بالإسناد المتقدم «صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، إلا مسجد الرسول فإنما فضله عليه بمائة صلاة».

قلت : وروى الطبراني في الأوسط عن عائشة مرفوعا : «صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في غيره» لكن فيه سويد بن عبد العزيز ، قال البخاري : في حديثه نظر لا يحتمل ، وقد صح ما يقتضي رد ما ذهب إليه هؤلاء ؛ فقد روى أحمد والبزار وابن خزيمة برجال الصحيح من طريق حبيب المعلم عن عطاء عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد ، إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا» زاد ابن خزيمة : «يعني في مسجد المدينة» لكن لفظ البزار : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه ، إلا المسجد الحرام فإنه يزيد عليه بمائة» وهي محتملة لأن يكون الضمير في «فإنه يزيد» لمسجده أو للمسجد الحرام ، وقد صحح ابن عبد البر حديث أحمد ، وقال : هو الحجة عند التنازع ، نص في موضع الخلاف ، قاطع له عند من ألهم رشده ، ولم تمل به العصبية ، قال : ولا مطعن فيه إلا لمتعسف لا يعرج على قوله في حبيب ، وقد كان الإمام أحمد يمدحه ، ويوثقه ، ويثنى عليه ، وكان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه ، ولم يرو عنه القطان ، وروى عنه أئمة ثقات يقتدى بهم ، ومنهم من أعله باختلاف على عطاء ؛ لأن قوما يروونه عنه عن ابن

٢٣

الزبير ، وآخرين يروونه عنه عن ابن عمر ، وآخرين عنه عن جابر ، ومن العلماء من يجعل مثل هذا علة في الحديث ، وليس كذلك ؛ لأنه يمكن أن يكون عن عطاء عنهم ، والواجب أن لا يدفع خبر نقله العدول إلا بحجة.

قال البزار : هذا الحديث قد روى عن عطاء ، واختلف على عطاء فيه ، ولا نعلم أحدا قال بأنه يزيد على مسجد المدينة مائة إلا ابن الزبير ، وقد تابع حبيبا المعلم الربيع بن صبيح ؛ فرواه عن عطاء عن ابن الزبير ، ورواه عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عمر ، ورواه ابن جريح عن عطاء بن أبي سلمة عن أبي هريرة أو عائشة ، ورواه ابن أبي ليلى عن عطاء عن أبي هريرة ، انتهى.

وقال الذهبي في مختصر سنن البيهقي : إسناده صالح ، ولم يخرجه أصحاب السنن.

قلت : هذا أمر آخر ، وهو أن الحديث المذكور لما اختلف لفظه على وجهين أحدهما ليس نصا في الدلالة كما قدمناه احتمل أن تكون الرواية في الواقع به ، ومن رواه بالوجه الآخر رواه بالمعنى بحسب فهمه ، إلا أن وروده من الطرق الأخرى بذلك اللفظ توهن هذا الاحتمال ، وعلى تقدير ثبوته فهو من ابن الزبير ، وهو أعرف بفهم مرويه ؛ لأن عبد الرزاق روى عن ابن جريج قال : أخبرني سليمان بن عتيق وعطاء عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول : «صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه» ويشير إلى مسجد المدينة ، وقد قال ابن عبد البر : إن رجال إسناد حديث ابن عمر علماء أجلاء ، ورواه ابن وضاح عن ابن الزبير من كلام عمر بن الخطاب بنفسه ، قال ابن حزم : وسنده كالشمس في الصحة ، وروى ابن أبي خيثمة عن أبيه حدثنا مسلم عن الحجاج عن عطاء عن عبد الله بن الزبير قال : الصلاة في المسجد الحرام تفضل على مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بمائة ضعف ، قال : فنظرنا فإذا هي تفضل على سائر المساجد بمائة ألف صلاة ، قال ابن عبد البر وابن حزم : فهذان صحابيان جليلان يقولان بفضل المسجد الحرام على مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا مخالف لهما من الصحابة ؛ فصار كالإجماع منهم على ذلك.

وفي ابن ماجه من حديث جابر مرفوعا : «صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه» وفي بعض النسخ : «من مائة صلاة فيما سواه» فعلى الأول معناه فيما سواه إلا مسجد المدينة ، وعلى الثاني معناه من مائة صلاة في مسجد المدينة لما تقدم عن جابر.

قلت : وقد روى يحيى حديث الصحيحين المتقدم عن جبير بن مطعم بلفظ : «إن صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد غير الكعبة» وفي رواية النسائي وغيره «إلا مسجد الكعبة» ولهذا ذهب بعضهم إلى أن المراد من المسجد الحرام

٢٤

الكعبة ، وبه قال العمراني من أصحابنا وغيره ، وروى البزار عن عائشة حديث : «أنا خاتم الأنبياء ، ومسجدي خاتم مساجد الأنبياء ، أحق المساجد أن يزار وتشد إليه الرواحل المسجد الحرام ومسجدي ، وصلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام».

وروى ابن ماجه مرفوعا برجال ثقات إلا أبا الخطاب الدمشقي فهو مجهول : «صلاة الرجل في بيته بصلاة ، وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة ، وصلاته في المسجد الذي تجمع فيه بخمس مائة صلاة ، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة ، وصلاة في مسجدي بخمسين ألف صلاة ، وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة» وهو يقتضي أن الصلاة بمسجد المدينة مساوية لمسجد بيت المقدس ، وأنهما معا على النصف من الصلاة بالمسجد الحرام ، وهو مخالف لما في الصحيح ، مع أن مفهوم العدد ليس بحجة ؛ فلا ينفي ما ثبت من الزيادة لمسجد المدينة على مسجد بيت المقدس سيما بالطريقة التي قدمناها.

وفي الطبراني ـ وهو حسن ، وفي بعض رجاله كلام ـ عن أبي الدرداء مرفوعا : «الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ، والصلاة في مسجدي بألف صلاة ، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة» ورواه ابن خزيمة في صحيحه بنحوه ، والبزار وحسنه ، وقال المجد : أخرجه الترمذي وقال : حسن غريب ، قال : ولا نعلم حديثا يشتمل على فضيلة الصلاة بالمساجد الثلاثة خصوصا(١) سواه مما يصح عند الاعتبار معناه.

قلت : لم أره في الترمذي ، وقد ساقه ابن عبد البر محتجا به ، وهو غير مانع مما قدمناه من كون الصلاة بمسجد المدينة أفضل من ألف صلاة بمسجد بيت المقدس ؛ لأن العدد لا ينفي الزائد ، وكذا حديث الأوسط للطبراني برجال الصحيح عن أبي ذر : تذاكرنا ونحن عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أيما أفضل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بيت المقدس؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه ، ولنعم المصلى هو» وقد يقال في ذلك كما قيل في نظائره من احتمال أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أولا ببعض ذلك بحسب ما أوحى إليه ، ثم أعلم بالزيادة ، ويكون حديث الأقل قبل حديث الأكثر ، ثم تفضل الله بالأكثر شيئا بعد شيء ، ومحصله ما قررناه من الأخذ بالزائد ، ويحتمل أن ينزل تلك الأعداد على اختلاف الأحوال ؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى غير نهاية.

__________________

(١) المساجد الثلاثة : هي الأقصى ، ومسجد المدينة ، والمسجد الحرام.

٢٥

هل فضل الصلاة في المساجد الثلاثة يختص بالفرض؟

ونقل الزركشي في أعلام المساجد عن الكبير للطبراني بسند فيه مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا بعشرة آلاف صلاة ، وصلاة في المسجد الحرام بعشرة أمثالها مائة ألف صلاة ، وصلاة الرجل في بيت المقدس بألف صلاة ، وصلاة الرجل في بيته حيث لا يراه أحد أفضل من ذلك كله».

قلت : وهو ضعيف ، ولم يورده الهيثمي في مجمعه في فضل الصلاة في المساجد الثلاث.

وهذه المضاعفة المذكورة في هذه المساجد لا تختص بالفريضة ، بل تعم الفرض والنفل ، كما قال النووي في شرح مسلم إنه المذهب.

قال الزركشي : وهو لازم تعليل الأصحاب استثناء النفل بمكة في الأوقات المكروهة بمزيد الفضيلة.

وقال الطحاوي من الحنفية : هو مختص بالفرض ، وفعل النوافل بالبيت أفضل ، وإليه ذهب ابن أبي زيد من المالكية ، وهو المرجح عندهم ، وفرق بعضهم بين أن يكون المسجد خاليا أم لا.

فإن قيل : كيف تقولون إن المضاعفة تعم الفرض والنفل وقد تطابقت الأصحاب ونص الحديث الصحيح على أن فعل النافلة في بيت الإنسان أفضل؟

قلنا : لا يلزم من المضاعفة في المسجد أن يكون أفضل من البيت كما قاله الزركشي وغيره ، وغاية الأمر أن يكون في المفضول مزية ليست في الفاضل ، ولا يلزم من ذلك جعله أفضل ؛ فإن للأفضل مزايا إن كان للمفضول مزية ، ولهذا بحث التاج السبكي مع أبيه في صلاة الظهر بمنى يوم النحر إذا جعلنا منى خارجة عن محل المضاعفة : هل يكون أفضل من صلاتها في المسجد لأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فعلها بمعنى يومئذ أو في المسجد للمضاعفة؟ فقال والده : بل في منى وإن لم يحصل بها المضاعفة ؛ فإن في الاقتداء بأفعال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يربو على المضاعفة ، على أن الحافظ ابن حجر ذكر ما يقتضي إثبات المضاعفة للتنفل في البيوت بالمدينة ومكة ، عملا بعموم قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» فقال : وقد تقدم النقل عن الطحاوي وغيره أن ذلك ـ يعني التضعيف ـ مختص بالفرائض ؛ لحديث : «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» ويمكن أن يقال : لا مانع من إبقاء الحديث على عمومه ؛ فتكون النافلة في بيت بالمدينة أو مكة تضاعف على صلاتها في البيت بغيرهما ، وكذا في المسجدين ، وإن كانت في البيوت أفضل مطلقا.

٢٦

مرجع مضاعفة فضل الصلاة

ثم إن التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب بتلك الأعداد ، لا إلى الإجزاء ، باتفاق العلماء كما نقله النووي وغيره ؛ فلو كانت صلوات فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة ، وقد أوهم كلام أبي بكر النقاش في تفسيره خلاف ذلك ؛ فإنه قال : حسبت الصلاة في المسجد الحرام فبلغت صلاة واحدة بالمسجد الحرام عمر خمسة وخمسين سنة وستة أشهر وعشرين ليلة ، اه. وهذا مع قطع النظر عن التضعيف بالجماعة والسواك ونحوه ، لكن هل تجمع التضعيفات أولا؟ محل بحث.

هل يختص التضعيف بالصلاة؟

قلت : وينبغي أن لا يختص هذا التضعيف بالصلاة ، بل سائر أنواع الطاعات كذلك قياسا على ما ثبت في الصلاة ، كما صرحوا به في مسجد مكة المشرفة ، وصرح به فيما يتعلق بالمدينة صاحب الانتصار أبو سليمان داود من المالكية ، ثم رأيته في كلام الغزالي في الإحياء كما قدمناه في فضل الخصائص ، ويشهد له ما في الكبير للطبراني عن بلال بن الحارث قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان ، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان» ونقل المجد عن أبي الفرج الأموي أنه أخرجه بسنده عن ابن عمر.

قلت : ورواه ابن الجوزي في شرف المصطفى عن ابن عمر أيضا بلفظ : «صيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواها ، وصلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها».

وروى البيهقي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، والجمعة في مسجدي هذا أفضل من ألف جمعة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وشهر رمضان في مسجدي هذا أفضل من ألف شهر رمضان فيما سواه إلا المسجد الحرام» ورواه أيضا عن ابن عمر بنحوه.

وهذه الأحاديث وإن كانت ضعيفة فإذا ضمت إلى ما قدمناه من القياس على الصلاة ثم الاستدلال ، وقد قدمنا في حدود مسجدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الخلاف المذكور في المراد بقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا» ، وترجيح أن ذلك يتناول ما زيد فيه.

وروى أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات عن أنس بن مالك حديث : «من صلى

٢٧

في مسجدي أربعين صلاة» زاد الطبراني : «لا تفوته صلاة كتب له براءة من النار ، وبراءة من العذاب ، وبرئ من النفاق». تقدم هذا الحديث بدون زيادة الطبراني ، وهو عند الترمذي بغير هذا اللفظ.

وروى ابن المنذر وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن من حين يخرج أحدكم من منزله إلى مسجدي فرجل تكتب حسنة ورجل تحط عنه خطيئة».

وقال البيهقي بعد ذكر حديث فضل مسجد قباء ما لفظه : ورواه يوسف بن طهمان عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزاد : «ومن خرج على طهر لا يريد إلا مسجدي هذا ـ يريد مسجد المدينة ـ ليصلي فيه كانت بمنزلة حجة» وقد أسند ذلك ابن زبالة ومن طريقه ابن النجار عن سهل أيضا ، وفي إسناده طهمان أيضا ، وهو ضعيف عند البخاري وابن عدي ، وذكره ابن حبان في الثقات ، ولفظ ابن زبالة : «من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي حتى يصلي فيه كان بمنزلة حجة» وأسند هو ويحيى عن سهل بن سعد حديث : «من دخل مسجدي هذا يتعلم فيه خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان كالذي يرى ما يعجبه وهو لغيره» وفي رواية لهما عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه : «من دخل مسجدي هذا لا يدخله إلا ليعمل خيرا أو يتعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن دخله لغير ذلك من أحاديث الناس كان بمنزلة من يرى ما يعجبه وهو في يدي غيره».

وروى ابن ماجه عن أبي هريرة قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن جاءه لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره» ورواه الطبراني من حديث سعد مرفوعا بمعناه ، إلا أنه قال : «من دخل مسجدي ليتعلم خيرا أو ليعلمه» ورواه ابن حبان في صحيحه بلفظ الطبراني لكن من حديث أبي هريرة.

وأسند ابن زبالة عن زيد بن أسلم قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من دخل مسجدى هذا لصلاة أو لذكر الله أو يتعلم خيرا أو يعلمه كان بمنزلة المجاهد في سبيل الله» ولم يجعل ذلك لمسجد غيره ، وعند يحيى أيضا عن كعب أنه قال : «ما من مؤمن يغدو أو يروح إلى المسجد لا يغدو أو لا يروح إلا ليتعلم خيرا أو يعلمه أو يذكر الله أو يذكّر به إلا كان مثله في كتاب الله كمثل الجهاد في سبيل الله ، وما من رجل يغدو أو يروح إلى المسجد لا يغدو ولا يروح إلا لأخبار الناس وأحاديثهم إلا كان مثله في كتاب الله كمثل الرجل يرى الشيء يعجبه ويرى المصلين وليس منهم ، ويرى الذاكرين وليس منهم» ، وعنده أيضا عن أبي سعيد المقبري عن الثقة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا إخال إلا أن لكل رجل منكم

٢٨

مسجدا في بيته» قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : «فو الله لو صليتم في بيوتكم لتركتم مسجد نبيكم ، ولو تركتم مسجد نبيكم لتركتم سننه ، ولو تركتم سننه إذا لضللتم».

وفي الصحيح من حديث ابن عمر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في غزوة خيبر : «من أكل من هذه الشجرة ـ يعني : الثوم ـ فلا يقربن مسجدنا».

قال الكرماني : قال التيمي : قال بعضهم : النهي إنما هو عن مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، من أجل ملائكة الوحي ، والأكثر على أنه عام ، انتهى. وقد حكى ابن بطال القول بالاختصاص عن بعض أهل العلم ووهّاه ، والله أعلم.

الفصل السادس في فضل المنبر المنيف ، والروضة الشريفة

روينا في الصحيحين حديث عبد الله بن زيد المازنيرضي‌الله‌عنه : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» زاد البخاري من حديث أبي هريرة : «ومنبري على حوضي».

وروى أحمد وأبو يعلى والبزار وفيه علي بن زيد وقد وثق عن جابر بن عبد الله مرفوعا : «ما بين بيتي إلى منبري روضة من رياض الجنة ، وإن منبري على ترعة من ترع الجنة».

وروى أحمد برجال الصحيح عن سهل بن سعد مرفوعا : «منبري على ترعة من ترع الجنة» وفيه تفسير الترعة بالباب ، وقيل : الترعة الروضة تكون على المكان المرتفع خاصة ، وقيل : الدرجة.

ورواه يحيى عن أبي هريرة وغيره بلفظ : «على رتعة من رتع الجنة» وكذا هو في رواية لرزين ، وظنه بعضهم تصحيفا فكتب في هامشه «صوابه ترعة» وليس كذلك ، بل معناه صحيح ؛ إذ الرتع الاتساع في الخصب ، والرّتعة ـ بسكون التاء وفتحها ـ الاتساع في الخصب ، وكل مخصب مرتع.

وفي الحديث : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» ، وروى البزار عن معاذ بن الحارث نحوه.

وفي الكبير للطبراني من طريق يحيى الحماني وهو ضعيف عن أبي واقد الليثي مرفوعا : «قوائم منبري رواتب في الجنة» ورواه ابن عساكر وابن النجار ويحيى عن أم سلمة ، وقال المجد : أخرجه عنها النسائي ، وفي رواية لابن عساكر : «وضعت منبري هذا على ترعة من ترع الجنة».

وأسند يحيى عن أبي المعلى الأنصاري وكانت له صحبة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال وهو على المنبر : «إن قدمي على ترعة من ترع الجنة».

٢٩

وعن أبي سعيد الخدري : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو قائم على منبره : «أنا قائم الساعة على عقر حوضي» وفي رواية له : «إني على الحوض الآن».

وأسند ابن زبالة عن نافع بن جبير عن أبيه حديث : «أحد شقي المنبر على عقر الحوض ، فمن حلف عنده على يمين فاجرة يقتطع بها حق امرئ مسلم فليتبوأ مقعده من النار» قال : وعقر الحوض من حيث يصب الماء في الحوض.

وفي سنن أبي داود من حديث جابر مرفوعا : «لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار ، أو وجبت له النار» ، ورواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححوه.

وروى النسائي برجال ثقات عن أبي أمامة بن ثعلبة مرفوعا : «من حلف عند منبري هذا يمينا كاذبة استحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا».

وفي الأوسط للطبراني وفيه ابن لهيعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا : «منبري على ترعة من ترع الجنة ، وما بين المنبر وبيت عائشة روضة من رياض الجنة».

وفي الصحيحين حديث ابن عمر : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة».

وروى أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد حديث : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على حوضي».

وروى البزار برجال ثقات عن سعد بن أبي وقاص حديث : «ما بين بيتي ومنبري ، أو قبري ومنبري ، روضة من رياض الجنة» وفي الأوسط للطبراني وفيه متروك عن أنس بن مالك حديث : «ما بين حجرتي ومصلاي روضة من رياض الجنة» وفي رواية لابن زبالة من طريق عائشة بنت سعد عن أبيها «ما بين منبري والمصلى» وفي رواية «ما بين مسجدي إلى المصلى روضة من رياض الجنة» ورواه أبو طاهر بن المخلص في انتقائه ويحيى في أخبار المدينة بلفظ : «ما بين بيتي ومصلاي روضة من رياض الجنة» قال جماعة : المراد به مصلى العيد ، وقال آخرون : مصلاه الذي يصلي فيه في المسجد ، كذا قاله الخطابي.

قلت : ويؤيد الأول أن في النسخة التي رواها طاهر بن يحيى عن أبيه يحيى عقب الحديث المذكور ما لفظه : قال أبي : سمعت غير واحد يقولون : إن سعدا لما سمع هذا الحديث من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى داره فيما بين المسجد والمصلى ، وكذا ما سيأتي في مصلى العيد من رواية ابن شبة عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص.

قلت : وهو شاهد لما سيأتي من عموم الروضة لجميع مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما زيد فيه من جهة المغرب.

٣٠

وروى عبد الله بن أحمد في زوائد المسند برجال الصحيح إلا أن فيهم فليحا ـ وقد روى له الجماعة ، وقال الحاكم : اتفاق الشيخين عليه يقوي أمره ، وقال الساجي : ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال الدارقطني : فليح يختلفون فيه ، وقال بعضهم : إنه كثير الخطأ ـ عن عبد الله بن زيد المازني قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بين هذه البيوت ـ يعني بيوته ـ إلى منبري روضة من رياض الجنة ، والمنبر على ترعة من ترع الجنة».

معنى كون المنبر على الحوض

وقد اختلف في معنى ذلك ؛ فقال الخطابي : معنى قوله : «ومنبري على حوضي» أن قصد منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد الحوض ويوجب الشرب منه ، وهذا قول الباقي ، والثاني : أن منبره الذي كان يقوم عليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يعيده الله كما يعيد سائر الخلائق ، ويكون على حوضه في ذلك اليوم ، واعتمد ذلك ابن النجار ، وحكى ابن عساكر القول بأن المراد منبره بعينه الذي كان في الدنيا ، ثم قال : وهو أظهر ، وعليه أكثر الناس ، فتبع شيخه ابن النجار في ذلك ، والثالث أن المراد منبر يخلقه الله تعالى له في ذلك اليوم ، ويجعله على حوضه.

قلت : ويظهر لي معنى رابع ، وهو أن البقعة التي عليها المنبر تعاد بعينها في الجنة ، ويعاد منبره ذلك على هيئة تناسب ما في الجنة ؛ فيجعل المنبر عليها عند عقر الحوض ، وهو مؤخره ، وعن ذلك عبر بترعة من ترع الجنة ، وذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لأمته للترغيب في العمل في هذا المحل الشريف ليفضي بصاحبه إلى ذلك ، وهذا في الحقيقة جمع بين القولين الأولين ، وسيأتي في الزيارة ما ذكره ابن عساكر من أن الزائر يأتي المنبر الشريف ، ويقف عنده ، ويدعو.

معنى أن الروضة من رياض الجنة

واختلفوا أيضا في معنى ما جاء في الروضة الشريفة ، قال الحافظ ابن حجر : محصل ما أول به العلماء ذلك أن تلك البقعة كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة بما يحصل فيها من ملازمة حلق الذكر ، لا سيما في عهدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فيكون مجازا ، أو المعنى أن العبادة فيها تؤدي إلى الجنة ، فيكون مجازا أيضا ، أو هو على ظاهره ، وأن المراد أنها روضة حقيقة بأن ينقل ذلك الموضع إلى الجنة ؛ ثم قال : وهذه الأقوال على ترتيبها هذا في القوة ، وهو محتمل لتقوية الأول أو الأخير ، والأخير أقواها عندي ، وهو الذي ذهب إليه ابن النجار ، ونقله البرهان ابن فرحون في منسكه عن ابن الجوزي وغيره عن مالك ، فقال : وقوله : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» حمله مالكرحمه‌الله على ظاهره ، فنقل عنه ابن الجوزي وغيره أنها روضة من رياض الجنة تنقل إلى الجنة ، وأنها ليست كسائر

٣١

الأرض تذهب وتفنى ، ووافقه على ذلك جماعة من العلماء ، انتهى ونقله الحطيب ابن حملة عن الداروردي ، وصححه ابن الحاج في مدخله ؛ لأن العلماء فهموا من ذلك مزية عظيمة لهذا المحل.

ثم رأيت في كلام الحافظ ابن حجر ترجيحه في موضع آخر ، فقال في الكلام على الحوض : والمراد بتسمية ذلك الموضع روضة أن تلك البقعة تنقل إلى الجنة فتكون روضة من رياضها ، أو أنها على المجاز لكون العبادة فيه تؤول إلى دخول العابد روضة الجنة ، ثم قال : وهذا فيه نظر ؛ إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة ، والخبر مسوق لمزيد شرف تلك البقعة على غيرها ، انتهى.

قلت : وأحسن من ذلك ما ذهب إليه ابن أبي جمرة من الجمع بين هذا وما قبله ، ومنه استنبطنا ما قدمناه في أمر المنبر ، فإنه لم يعول على ذكر المعنى الأول وقال بعد ذكر المعنيين الأخيرين : الأظهر ـ والله أعلم ـ الجمع بين الوجهين ؛ لأن لكل منهما دليلا يعضده ، أما الدليل على أن العمل فيها يوجب الجنة فلما جاء في فضل مسجدها من المضاعفة ، ولهذه البقعة زيادة على باقي بقعه ، وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة فلإخبارهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن المنبر على الحوض ، لم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره ؛ وأنه حق محسوس موجود على حوضه.

قلت : وفيه نظر ؛ لما قدمناه.

قال : وقد تقرر في قواعد الشرع أن الشرع أن البقع المباركة ما فائدة بركتها لنا والإخبار بذلك إلا تعميرها بالطاعات ؛ قال : ويحتمل وجها ثالثا ؛ وهو أن تلك البقعة نفسها روضة من رياض الجنة كما أن الحجر الأسود من الجنة ؛ فيكون الموضع المذكور روضة من رياض الجنة الآن ؛ ويعود روضة في الجنة كما كان ؛ ويكون للعامل بالعمل فيه روضة في الجنة ؛ قال : وهو الأظهر ؛ لعلو مكانتهعليه‌السلام ؛ وليكون بينه وبين الأبوة الإبراهيمية في هذا شبه ، وهو أنه لما خص الخليل بالحجر من الجنة خص الحبيب بالروضة منها.

قلت : وهو من النّفاسة بمكان ، وفيه حمل اللفظ على ظاهره ، إذ لا مقتضى لصرفه عنه ، ولا يقدح في ذلك كونها تشاهد على نسبة رياض الدنيا فإنه ما دام الإنسان في هذا العالم لا ينكشف له حقائق ذلك العالم لوجود الحجب الكثيفة والله أعلم.

وتخصيص ما أحاطت به البينية المذكورة بذلك إما تعبد وإما لكثرة ترددهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين بيته ومنبره وقرب ذلك من قبره الشريف الذي هو الروضة العظمى كما أشار إليه ابن أبي جمرة أيضا.

وقال الجمال محمد الراساني الريمي : اتفقوا على أن هذا اللفظ معقول المعنى ، مفهوم

٣٢

الحكمة ، وإنما اختلفوا في ذلك المعنى ما هو ، فقيل : اللفظ على حقيقته ، وإن ذلك روضة من رياض الجنة بمعنى أنه بعينه نقل من الجنة ، أو أنه سينقل إليها ، وقيل : مجاز معناه أن العبادة فيه تؤدّي إلى الجنة ، أو لما ينزل فيه من الرحمة وحصول المغفرة ، كما سمي مجالس الذكر رياض الجنة في حديث : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا»(١) وفي رواية لأبي هريرة : «قلت : ما رياض الجنة؟ قال : المساجد ، قلت : وما الرتع؟ قال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله أكبر».

وقال ابن عبد البر : لما كانصلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلس في ذلك الموضع ويجلس الناس إليه للتعلم شبّهه بالروضة ؛ لكريم ما يجتنى فيه ، وأضافها إلى الجنة لأنها تؤول إلى الجنة ، كقوله : «الجنة تحت ظلال السيوف» أي أنه عمل يدخل الجنة.

وقال الخطابي : روضة من رياض الجنة بالطاعة فيه ، كقوله : «عائد المريض في مخرفة الجنة»(٢) أي يرجى له بذلك مخرفة الجنة ؛ فأطلق اسم المسبب على سببه كقوله : «الجنة تحت أقدام الأمهات».

هذا ما نقله الخطيب ابن حملة من المعاني ، ثم تعقب الأخير بأنه لا يبقى حينئذ لهذه الروضة مزية ، وقد فهم الناس من ذلك المزية العظيمة التي بسببها فضلها مالك على سائر البقاع.

وقد تعقب الجمال الريمي الخطيب في ذلك ، وقال : أظهر المعاني تضعيف أجر الطاعات ، وتعليم الناس وجوه الخير ؛ لاتفاق الخطابي وابن عبد البر عليه ، وهما عمدة الأمة في فقه الحديث ، ولأن النظائر تؤيده ، وأما المعنيان الآخران فلم يعزهما الخطيب إلى أحد ، فدل على ضعفهما ، ولم يذكر عياض القول بأن هذا الموضع بعينه نقل من الجنة ، وذكر ما عداه ، فدل على شذوذه ؛ لأن مثل هذا طريقه التوقيف كما جاء في الركن والمقام ، على أن القول به يؤدي إلى إنكار المحسوسات أو الضروريات ، وجواب ما ذكره الخطيب أن المزية ظاهرة ، وهو أن العمل في النظائر المتقدمة يؤدي إلى رياض الجنة ، والعمل في هذا المحل يؤدي إلى روضة أعلى من تلك الرياض.

قلت : إنما حمله على هذا ذهابه إلى أن اسم الروضة يعم جميع مسجدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه إذا

__________________

(١) ارتعوا أي انعموا في خصب وسعة.

(٢) المخرفة : البستان ، والسّكة بين صفين من نخيل ، والطريق الواضح ، جمع مخاريف.

٣٣

ثبت لما زيد فيه حكم المضاعفة تعدى ذلك إليه ، فاختار كون التسمية بذلك مجازية ، ووضع في ذلك كتابا سماه «دلالات المسترشد ، على أن الروضة هي المسجد» وقد صنف الشيخ صفي الدين الكازروني المدني مصنفا في الرد عليه ، وقد لخصتهما مع سلوك طريق الإنصاف بينهما في كتابي الموسوم : «بدفع التعرض والإنكار ، لبسط روضة المختار» وسنذكر الصواب في ذلك ، واستدلاله على ضعف القول بأن ذلك الموضع بعينه نقل من الجنة بأن عياضا لم يذكره عجيب لاحتمال أنه لم يطلع عليه ، وقوله : «إن ذلك طريقه التوقيف كما جاء في الركن» فنقول : أي توقيف أعظم من إخبار الصادق المصدوق بذلك؟ وهو المخبر بأمر الركن والمقام ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فكيف سلمه في الركن والمقام ولم يسلمه هنا؟ والذي فهمه العلماء من الحديث أن هذا الموضع روضة ، سواء كان به ذاكرون ومصلون أم لم يكن ، بخلاف حلق الذكر مثلا ، فإن ذلك يزول عنها بقيامهم ، فالروضة ما هم فيه بخلاف هذه ، ولهذا فسر الرتع هناك بالذكر ، والمراد في حديث : «الجنة تحت أقدام الأمهات» أن لزوم خدمتهن تؤدي إليها ، وقوله : «إن القول بذلك يؤدي إلى ما ذكره» عجيب ، وقد قدمنا السبب المانع من شهود ذلك على حقيقته ، وأي حسن أحسن من القول بأن ذلك روضة من الجنة أكرم الله به نبيه؟ ويؤيده أحاديث المنبر المتقدمة وما سيأتي في أحد وعير ؛ إذ لم يقل أحد إن المراد أن المتعبد عند أحد يفضي به ذلك إلى الجنة ، والمتعبد عند عير يفضي به ذلك إلى النار ، وأما قوله في بيان المزية : «إن العمل في ذلك المحل يؤدي إلى روضة أعلى» فليس في الحديث وصفه بأنه أعلى الرياض ، بل أطلق ذلك ، فإذا ثبت ذلك لغيره فلا خصوصية ، بل قد يقول الذاهب إلى تفضيل مكة : إن العمل فيها يؤدي إلى روضة أعلى وأفضل ، ولظهور مزية تلك البقعة على غيرها بذلك استدل به بعض الأئمة على تفضيل المدينة على مكة بإضافة حديث «لقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها» وتعقبه ابن حزم بأن جعلها من الجنة إنما هو على سبيل المجاز ، إذ لو كانت حقيقة لكانت كما وصف الله الجنة :( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ) [طه : ١١٨] قال : وإنما المراد أن الصلاة فيها تؤدي إلى الجنة كما يقال في اليوم الطيب : هذا يوم من أيام الجنة.

قلت : لا يلزم من ثبوت عدم الجوع والعري لمن حل في الجنة ثبوته لمن حل في شيء أخرج منها ؛ إذ يلزمه أن ينفي بذلك عن حجر المقام كونه من الجنة حقيقة ، ولا قائل به ، ومسألة عموم الروضة لجميع مسجدهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات خلاف ؛ فقد قال الأقشهري : سئل أبو جعفر بن نصر الداودي المالكي عن قوله : «ما بين بيتي ومنبري روضة» فقال : هو روضة كله ، ونقل الريمي عن الخطيب ابن حملة أنه قال : قوله «ما بين بيتي» مفرد مضاف قد يفيد العموم في بيوته ، ثم ذكر بيان مكان بيوته ، ثم قال : ولهذا قال السمعاني في أماليه : لما فضّل الله مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرفه وبارك في العمل فيه وضعفه سماه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٤

روضة من رياض الجنة ، فتراه جعل المسجد كله روضة ، والمشهور أن المراد بيت خاص ، وهو بيت عائشةرضي‌الله‌عنها ؛ للرواية الأخرى «ما بين قبري ومنبري» قال ابن خزيمة : أراد بقوله ما بين بيتي الذي أقبر فيه ؛ إذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبر في بيته الذي كانت تسكنه عائشة ، قال الخطيب : فعلى هذا تسامت ـ يعني الروضة ـ حائط الحجرة من القبلة والشمال من جهة الحجرة ، ولا تزال تقصر إلى جهة المنبر ، أو توجد المسامتة مستوية فلينظر ، هذا كله كلام الخطيب.

قلت : فتلخص من ذلك ثلاثة آراء : الأول : أنها المسجد الموجود في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الثاني : أنها ما سامت المنبر والحجرة فقط ، فتتسع من جهة الحجرة وتضيق من جهة المنبر لما تقدم في مقداره ، وتكون منحرفة الأضلاع لتقدم المنبر في جهة القبلة وتأخر الحجرة في جهة الشام ، فتكون كشكل مثلث ينطبق ضلعاه على قدر المنبر ، الثالث : أنها ما سامت كلا من طرفي الحدين ، فتشمل ما سامت المنبر من مقدم المسجد في جهة القبلة وإن لم يسامت الحجرة ، ويشمل ما سامت الحجرة من جهة الشمال ، وإن لم يسامت المنبر ، فتكون مربعة ، وهي الأروقة الثلاثة : رواق المصلى الشريف ، والرواقان بعده ، وذلك هو مسقف مقدم المسجد في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه قد تحرر لنا في هذه العمارة التي أدركناها أن صف أسطوان الوفود ـ وهي التي كانت إلى رحبة المسجد كما سيأتي ـ واقع خلف الحجرة سواء ، حتى إن الأسطوانة التي تلي مربعة القبر في صفها الداخلة في الزور بعضها داخل في جدار الحجرة الشامي كما سيأتي بيانه.

وأما أدلة هذه الأقوال فقد استدل الريمي للأول بأشياء غالبها ضعيف مبناه على أن إطلاق الروضة من قبيل المجاز لما في ذلك من المضاعفة ونحوه ، وأحسنها ما أشار إليه الخطيب ابن حملة وأيده الريمي بأشياء ، فقال : قوله «بيتي» من قوله «ما بين بيتي» مفرد مضاف ، فيفيد العموم في سائر بيوتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كانت بيوته مطيفة بالمسجد من القبلة والمشرق ـ وفيه بيت عائشة ـ والشام كما سيأتي عن ابن النجار وغيره ، ولم يكن منها في جهة المغرب شيء ، فعرف الحد من تلك الجهة بالمنبر الشريف ، فإنه كان في آخر جهة المغرب بينه وبين الجدار يسير ؛ لأن آخره من تلك الجهة الأسطوانة التي تلي المنبر ، والمنبر على ترعة من ترع الجنة ، فقد حدد الروضة بحدود المسجد كلها.

قلت : وهو مفرع على ما ذكره ابن النجار في تحديد المسجد من جهة المغرب ، وقد مشيت عليه في تواليفي قبل أن أقف على ما قدمته في حد المسجد ، وقد مشى على ذلك الزين المراغي فقال : ينبغي اعتقاد كون الروضة لا تختص بما هو معروف الآن ، بل تتسع إلى حد بيوتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ناحية الشام ، وهو آخر المسجد في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فيكون كله روضة ، وهذا

٣٥

إذا فرعنا على المفرد المضاف للعموم ، وقد رجحه في كتب الأصول جماعة ، ثم ذكر ما تقدم.

قلت : وفاتهم الجميع الاستدلال بحديث زوائد مسند أحمد المتقدم بلفظ «ما بين هذه البيوت» يعني بيوته «إلى منبري روضة من رياض الجنة» والعجب أن المعتنين بأمر الروضة لم يذكروه ، مع أن فيه غنية عن التمسك بكون المفرد المضاف يفيد العموم ، فقد ناقش الصفي الكازروني في ذلك بأشياء : منها أن رواية «ما بين قبري ومنبري» بينت المراد من البيت المضاف. قلت : ليته قال رواية : «ما بين المنبر وبيت عائشة» لأنه يلزم عليه أن يكون الروضة بعرض القبر فقط ، والتخصيص بذلك بعيد ، ومن قال : «إن المراد من البيت القبر» ليس مراده والله أعلم إلا أن رواية القبر لعدم إبهامها تعين البيت ، ولعله مراد الصفي ، ولهذا قال الطبري : وإذا كان قبرهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيته اتفقت معاني الروايات ، ولم يكن بينها خلاف ، انتهى ، ولك أن تقول : رواية «قبري» ورواية «حجرة عائشة» من قبيل إفراد فرد من العام ، وذكره بحكم العام ، وهو لا يقتضي التخصيص على الأصح ، بل يقتضي الاهتمام بشأن ذلك الفرد ، على أن القرطبي قال : الرواية الصحيحة «بيتي» ويروى «قبري» وكأنه بالمعنى ، والله أعلم.

ومنها : أن القرافي حمل إطلاق عموم اسم الجنس على ما يقع منه على القليل والكثير كالماء والمال ، بخلاف ما لا يصدق إلا على الواحد كالعبد والبيت والزوجة فلا يعم ، ولهذا لو قال عبدي حر أو امرأتي طالق لا يعم سائر عبيده ونسائه ، قال : ولم أره منقولا. قلت : قال التاج السبكي : خالف بعض الأئمة في تعميم اسم الجنس المعرف(١) والمضاف ، والصحيح خلافه ، وفصل قوم بين أن يصدق على القليل والكثير فيعم ، أو [لا](٢) فلا ، واختاره ابن دقيق العيد ، انتهى.

فقد جعل ما بحثه القرافي وجها ثالثا مفصلا ، وذلك يأبى حمل إطلاق المطلقين عليه ، فما بحثه منقول ، لكن الصحيح خلافه ، وما استدل به من عدم عموم عبدي حر وامرأتي طالق جوابه من أوجه ذكرناها في دفع التعرض ، وأحسنها ما أشار إليه الأسنوي من أن عدم العموم في ذلك لكونه من باب الأيمان ، والأيمان يسلك فيها مسلك العرف ، انتهى. ونقل

__________________

(١) في جميع المطبوعات «المعروف».

(٢) ما بين [] زيادة يقتضيها السياق.

٣٦

الأزرقي في نفائسه عن ابن عبد السلام أنه قال : الذي تبين لي طلاق الجميع وعتق الجميع ، وفي كتب الحنابلة نص أحمد على أنه لو قال من له زوجتان أو عبيد «زوجتي طالق ، أو عبدي حر» ولم ينو معيّنا ، وقع الطلاق والعتق على الجميع ، تمسكا بالقاعدة المذكورة ، فقد جرى ابن عبد السلام والحنابلة على مقتضى ذلك ؛ فهذه الطرق من أحسن الأدلة ، ولكن على شمول الروضة لما بين المنبر والبيوت الشريفة فهو رأي آخر ، وقد قدمنا من الحديث ما يصرح به ، ويؤيده ما أشار إليه الريمي من أن المقتضى لكون ذلك روضة كثرة ترددهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، وكان يصلي قبل تحويل القبلة في طرفه الذي يلي الشام ، ومتهجّده كما سيأتي في جهة المشرق إلى الشام أيضا ، ومنبره الشريف في نهاية هذا الموضع المحدود من جهة المغرب ، ومصلاه الشريف بمقدمه وبه الأساطين الآتية ذوات الفضل.

وأما الرأي الثاني فدليله التمسك بظاهر لفظ البينية الحقيقية ، وحمل البيت على حجرة عائشةرضي‌الله‌عنها ، ويضعفه أن مقدم المصلى الشريف يلزم خروجه عن اسم الروضة حينئذ ؛ لخروجه عن موازاة طرفي المنبر والحجرة ، مع أن الظاهر أن معظم السبب في كون ذلك روضة تشرفه بجبهته الشريفة ، على أني لم أر هذا القول لأحد ، وإنما أخذته من تردد الخطيب ابن حملة المتقدم.

وأما الرأي الثالث فهو ظاهر ما عليه غالب العلماء وعامة الناس ، ووجهه حمل البيت على ما في الرواية الأخرى من ذكر حجرة عائشة ، وجعل ما تقدم في أمر خروج مقدم المصلى الشريف دليلا على أن المراد من البينية ما حاذى واحدا من الطرفين ، وأن المراد مقدم المسجد المنتهي من جهة مؤخر الحجرة الشريفة لصف أسطوان الوفود كما قدمناه ، وفي كلام الأقشهري إشارة له ، وهذا إنما علمناه في العمارة التي سنذكرها ، ولم يكن معلوما قبل ذلك ، ولهذا قال المجد في الباب الأول في فصل الزيارة من كتابه ما لفظه : ثم يأتي ـ يعني الزائر ـ إلى الروضة المقدسة ، وهي ما بين القبر والمنبر طولا ، ولم أر من تعرض له عرضا ، والذي عليه غلبة الظنون أنه من المحراب إلى الأسطوانة التي تجاهه ، وأنا لا أوافق على ذلك ، وقد بينته في موضعه من هذا الكتاب ، وذكرت أن الظاهر من لفظ الحديث يقتضي أن يكون أكثر من ذلك ؛ لأن بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بجميع مرافق الدار كان أكثر من هذا المقدار ، انتهى.

ولم يذكر في الموضع الذي أحال عليه شيئا ، وقوله «من المحراب إلى الأسطوانة التي تجاهه» كأنه يريد به الأسطوان المخلق وما حاذاها ؛ فتكون الروضة على ذلك التقدير الرواق الأول منها فقط ، وهو غلط ؛ لأن الحجرة الشريفة متأخرة عن ذلك لجهة الشام ؛ وصف

٣٧

الأسطوان المذكور محاذ لطرف جدارها القبلي. وقال ابن جماعة : قد تحرر لي طول الروضة ، ولم يتحرر لي عرضها ، يريد أن طولها من المنبر إلى الحجرة ، وهو كما قال ابن زبالة ثلاثة وخمسون ذراعا وشبرا ، وقال في موضع آخر : أربعة وخمسون ذراعا وسدس.

قلت : وما ذكره أولا أقرب إلى الصواب كما اختبرناه ، فإني ذرعت بحبل من صفحة المنبر القبلية إلى طرف الحجرة القبلية فكان ثلاثة وخمسين ذراعا.

وذكر ابن جماعة ذراعا أقل من هذا ، وكأنه ذرع على الاستقامة ، ولم يعتبر الذرع من الطرفين المذكورين ، فقال : وذرعت ما بين الجدار الذي حول الحجرة الشريفة وبين المنبر فكان أربعا وثلاثين ذراعا وقيراطا بذراع العمل. قلت : وذلك نحو اثنين وخمسين ذراعا بذراع اليد الذي قدمنا تحريره ، وأما قول من قال : «إن طول الروضة اليوم ينقص عن خمسين ذراعا بثلثي ذراع» فلا وجه له إلا أن يكون اعتبر بذراع اليد المفرط الطول ، والله أعلم.

وأما نهاية الحجرة فلم تكن معلومة لابن جماعة وغيره ، وعليها يتوقف بيان العرض ، ولهذا قال الريمي : لا ندري الحجرة في وسط البناء المحيط بها أم لا؟ ولا ندري إلى أين ينتهي امتدادها؟ وغالب الناس يعتقدون أن نهايتها في محاذاة أسطوان عليرضي‌الله‌عنه ، ولهذا جعلوا الدرابزين الذي بين الأساطين ينتهي إلى صفها ، واتخذوا الفرش لذلك فقط ، والصواب ما قدمناه ؛ فقد انجلى الأمر ولله الحمد.

الفصل السابع

في الأساطين المنيفة

الأسطوان المخلق

منها الأسطوان الذي هو علم على المصلى الشريف ، ويعرف بالمخلق ، وقد قدمنا قول ابن زبالة «المخلق نحو من ثلثيها» وقول ابن القاسم «إن المصلى الشريف حيث الأسطوان المخلق» وبينا أن المراد أنها أقرب أسطوان إليه ، وأن الجذع الذي كان يخطب إليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتكئ عليه كان هناك ، وأن الأسطوان الموجود اليوم متقدم على المحل الأول ، وأن المحل الأصلي هو موضع كرسي الشمعة التي عن يمين الإمام الواقف في المصلى الشريف ، فمن أراد التبرك بذلك فليصل هناك.

وروى ابن زبالة عن يزيد بن عبيد أنه كان يأتي مع سلمة بن الأكوع إلى سبحة الضحى ، فيعمد إلى الأسطوان دون المصحف فيصلي قريبا منهما ، فأقول : ألا تصلي هاهنا؟ وأشير له إلى بعض نواحي المسجد ، فيقول : إني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحرى هذا المقام ، وهذا الحديث في الصحيحين ، ولفظ البخاري «كنت آتي مع سلمة بن الأكوع ، فيصلي عند الأسطوان التي عند المصحف ، فقلت : يا أبا سلمة أراك تتحرى الصلاة عند هذه

٣٨

الأسطوانة ، قال : فإني رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحرى الصلاة عندها» ولفظ مسلم عن سلمة أنه كان يتحرى موضع المصحف يسبح(١) فيه ، وذكر أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتحرى ذلك ، وقد قدمنا في الكلام على المصلى الشريف ما يبين أن المراد هذه الأسطوانة.

أسطوان القرعة

ومنها أسطوان القرعة ، وتعرف بأسطوان عائشةرضي‌الله‌عنها ، وبالأسطوان المخلق أيضا ، وبأسطوان المهاجرين.

روينا في كتاب ابن زبالة عن إسماعيل بن عبد الله عن أبيه أن عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم وثالثا كان معهما دخلوا على عائشةرضي‌الله‌عنها فتذاكروا المسجد ، فقالت عائشة : إني لأعلم سارية من سواري المسجد لو يعلم الناس ما في الصلاة إليها لاضطربوا عليها بالسهمان(٢) ، فخرج الرجلان وبقي ابن الزبير عند عائشة ، فقال الرجلان : ما تخلف إلا ليسألها عن السارية ، ولئن سألها لتخبرنه ، ولئن أخبرته لا يعلمنا ، وإن أخبرته عمد لها إذا خرج فصلى إليها ، فاجلس بنا مكانا نراه ولا يرانا ، ففعلا ، فلم ينشب أن خرج مسرعا فقام إلى هذه السارية فصلى إليها متيامنا إلى الشق الأيمن منها ، فعلم أنها هي ، وسميت أسطوانة عائشة بذلك ، وبلغنا أن الدعاء عندها مستجاب ، هذا لفظ ابن زبالة.

وفي الأوسط للطبراني عن عائشةرضي‌الله‌عنها قالت : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن في مسجدي لبقعة قبل هذه الأسطوانة لو يعلم الناس ما صلوا فيها إلا أن تطير لهم قرعة ، وعند عائشة جماعة من أبناء الصحابة فقالوا : يا أم المؤمنين وأين هي؟ فاستعجمت عليهم ، فمكثوا عندها ساعة ثم خرجوا وثبت عبد الله بن الزبير فقالوا : إنها ستخبره بذلك المكان ، فارقبوه في المسجد حتى تنظروا حيث يصلي ، فخرج بعد ساعة فصلى عند الأسطوانة التي صلى إليها عامر بن عبد الله بن الزبير ، فقيل لها : أسطوانة القرعة.

قال عتيق : وهي الأسطوانة التي هي واسطة بين القبر والمنبر : عن يمينها إلى المنبر أسطوانتان ، وبينها وبين القبر أسطوانتان ، وبينها وبين الرحبة أسطوانتان ، وهي واسطة بين ذلك ، وهي تسمى أسطوانة القرعة ، هذا لفظ الأوسط.

__________________

(١) السّبحة : صلاة التطوع وهي مواضع السجود.

(٢) السهم : القدح يقارع به أو يلعب به في الميسر ، أي الحظ والنصيب ، وما يفوز به الظافر بالقرعة.

٣٩

وقال ابن زبالة : حدثني غير واحد من أهل العلم منهم الزبير بن حبيب أن الأسطوان التي تدعى أسطوان عائشة هي الثالثة من المنبر ، والثالثة من القبر ، والثالثة من القبلة ، والثالثة من الرحبة ، أي قبل زيادة الرواقين الآتي ذكرهما المتوسطة للروضة أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى إليها بضع عشرة المكتوبة ثم تقدم إلى مصلاه الذي وجاه المحراب في الصف الأوسط ، أي الرواق الأوسط ، وأن أبا بكر وعمر والزبير بن العوام وعامر بن عبد الله كانوا يصلون إليها ، وأن المهاجرين من قريش كانوا يجتمعون عندها ، وكان يقال لذلك المجلس مجلس المهاجرين ، انتهى.

وقد ذكر ابن النجار هذه الرواية عن الزبير بن حبيب ، وزاد : وقالت عائشة فيها : لو عرفها الناس لاضطربوا على الصلاة عندها بالسهمان ، فسألوها عنها فأبت أن تسميها ، فأصغى إليها ابن الزبير فسارّته بشيء ، ثم قام فصلى إلى التي يقال لها أسطوان عائشة ، قال : فظن من معه أن عائشة أخبرته أنها تلك الأسطوانة ، فسميت أسطوان عائشة ، قال : وأخبرني بعض أصحابنا عن زيد بن أسلم قال : رأيت عند تلك الأسطوانة موضع جبهة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رأيت دونه موضع جبهة أبي بكر ، ثم رأيت دون موضع جبهة أبي بكر موضع جبهة عمر ، ويقال : الدعاء عندها مستجاب ، هذا لفظ رواية ابن النجار عقب ما قدمناه من رواية ابن زبالة. وزاد فيما ذكره ابن زبالة عقب قوله : «إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى إليها المكتوبة بضع عشرة ، ثم تقدم إلى مصلاه اليوم» ما لفظه : وكان يجعلها خلف ظهره ، قلت : ولم أره في كلام غيره ، والظاهر أن مراده أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستند إليها إذا جلس هناك ، لا أنه يجعلها خلف ظهره إذا صلى ؛ لما ذكره عن زيد بن أسلم من أنه رأى موضع جبهة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عندها ، ووصف هذه الأسطوانة بالمخلقة يؤخذ مما تقدم عن ابن زبالة من قول أبي هريرة «وكان مصلاهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي يصلي فيه بالناس إلى الشام من مسجده أن تضع موضع الأسطوان المخلقة خلف ظهرك ثم تمشي إلى الشام» إلى آخر ما تقدم قلت : وهذه الأسطوان بصف الأساطين التي خلف الإمام الواقف بالمصلى الشريف ، وهي الثالثة من القبلة وكانت الثالثة أيضا من رحبة المسجد كما تقدم ، وذلك قبل أن يزاد في مسقف مقدم المسجد الرواقان الآتي بيانهما في رحبته ، وبهما صارت خامسة من الرحبة.

أسطوان التوبة

ومنها أسطوان التوبة ، وتعرف بأسطوان أبي لبابة بن عبد المنذر أخي بني عمرو بن عوف الأوسي أحد النقباء ، واسمه رفاعة ، وقيل غير ذلك ، سميت به لأنه ارتبط إليها حتى أنزل الله توبته كما قدمناه في غزوة بني قريظة.

وقال الأقشهري : اختلف أهل السير والتفسير في ذنب أبي لبابة ، فقال قوم : كان من

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228