الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء ٢

الإمام جعفر الصادق عليه السلام0%

الإمام جعفر الصادق عليه السلام مؤلف:
تصنيف: الإمام الصادق عليه السلام
الصفحات: 163

الإمام جعفر الصادق عليه السلام

مؤلف: العلامة الجليل الشيخ محمد الحسين المظفر
تصنيف:

الصفحات: 163
المشاهدات: 64907
تحميل: 7297


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 163 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64907 / تحميل: 7297
الحجم الحجم الحجم
الإمام جعفر الصادق عليه السلام

الإمام جعفر الصادق عليه السلام الجزء 2

مؤلف:
العربية

يا عبد اللّه، اجهد ألا تكنز ذهباً ولا فضّة فتكون من أهل هذه الآية التي قال اللّه عزّ وجلّ :( الذين يكنزون الذهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللّه ) (١) .

ولا تستصغرن من حلو أو فضل طعام تصرفه في بطون خالية ليسكن بها غضب اللّه تبارك وتعالى، واعلم أني سمعت من أبي يحدَّث عن آبائه عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنه سمع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوماً : ما آمن باللّه واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره جايع، فقلنا : اُهلكنا يا رسول اللّه، فقال : من فضل طعاكم ومن فضل تمركم ورزقكم وخلقكم وخرقكم تطفون بها غضب الرب.

فخرج أمير المؤمنين من الدنيا وليس في عنقه تبعة لأحد حتّى لقي اللّه محموداً غير ملوم ولا مذموم، ثمّ اقتدت به الأئمة من بعده بما قد بلغكم، لم يتلطّخوا بشيء من بوائقها صلوات اللّه عليهم أجمعين وأحسن مثواهم.

وقد وجّهت اليك بمكارم الدنيا والآخرة، فإن أنت عملت بما نصحت لك في كتابي هذا ثمّ كانت عليك من الذنوب والخطايا كمثل أوزان الجبال وأمواج البحار رجوت اللّه أن يتحامى عنك جلّ وعزّ بقدرته.

يا عبد اللّه إِيّاك أن تُخيف مؤمناً فإن أبي محمّد حدّثني عن أبيه عن جدّه علي بن أبي طالبعليهم‌السلام أنه كان يقول : مَن نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه اللّه يوم لا ظلَّ إِلا ظلّه، وحشره في صورة الذرّ لحمه وجسده وجميع أعضائه حتّى يورده مورده.

وحدّثني أبي عن آبائه عن علي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : مَن أغاث لهفاناً من المؤمنين أغاثه اللّه يوم لا ظلَّ إِلا ظلّه، وآمنه اللّه يوم الفزع الاكبر، وآمنه عن سوء المنقلب، ومَن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى اللّه له حوائج كثيرة إِحداها الجنّة، ومَن كسا أخاه المؤمن من عري كساه اللّه من سُندس الجنّة واستبرقها وحريرها، ولم يزل يخوض في رضوان اللّه مادام على المكسو منها سلك، ومَن أطعم أخاه من جوع أطعمه اللّه من طيّبات الجنّة، ومَن سقاه من ظمأ سقاه اللّه من الرحيق المختوم، ومَن أخدم أخاه أخدمه اللّه من الولدان المخلّدين وأسكنه مع أوليائه الطاهرين، ومَن حمل أخاه المؤمن من رحله حمله اللّه على ناقة من نوق الجنّة وباهى به الملائكة المقرّبين يوم القيامة، ومَن زوّج

______________________

(١) التوبة : ٣٤.

٤١

أخاه المؤمن امرأة يأنس بها وتشدّ عضده ويستريح اليها زوّجه اللّه من الحور العين، وآنسه بمن أحبّ من الصدّيقين من أهل بيته واخوانه وآنسهم به، ومَن أعان أخاه المؤمن على سلطان جائر أعانه اللّه على إِجازة الصراط عند زلزلة الأقدام، ومَن زار أخاه المؤمن الى منزله لا لحاجة منه اليه كُتب من زوّار اللّه، وكان حقيقاً على اللّه أن يكرم زائره.

يا عبد اللّه وحدّثني أبي عن آبائه عن عليعليه‌السلام أنه سمع من رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لأصحابه يوماً، معاشر الناس إِنه ليس بمؤمن مَن لعن بلسانه ولم يؤمن بقلبه(١) فلا تتبعوا عثرات المؤمنين، فإنه مَن اتبع عثرة مؤمن اتبع اللّه عثراته يوم القيامة وفضحه في جوف بيته.

وحدّثني أبي عن عليعليه‌السلام قال : أخذ اللّه في ميثاق المؤمن ألا يُصدَّق(٢) في مقالته، ولا يُنتصف من عدوّه، ولا يُشفي غيظه إِلا بفضيحة نفسه، لأن كلّ مؤمن ملجم، وذلك لغاية قصيرة وراحة طويلة.

أخذ اللّه ميثاق المؤمن على أشياء أيسرها مؤمن مثله يقول بمقالته يتعبه ويحسده، والشيطان يغويه ويعينه، والسلطان يقفو أثره ويتبع عثراته، وكافر بالذي هو مؤمن به يرى سفك دمه دَيناً، وإِباحه حريمه غنماً، فما بقاء المؤمن بعد هذا.

يا عبد اللّه وحدّثني أبي عن آبائه عن عليعليه‌السلام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نزل جبرئيلعليه‌السلام فقال : يا محمّد إِن اللّه يقرأ عليك السلام ويقول : اشتققت للمؤمن اسماً من أسمائي سمّيته مؤمناً فالمؤمن منّي وأنا منه، من استهان بمؤمن فقد استقبلني بالمحاربة.

يا عبد اللّه وحدّثني أبي عن آبائهعليهم‌السلام عن عليعليه‌السلام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال يوماً : يا علي لا تناظر رجلاً حتّى تنظر في سريرته، فإن كانت سريرته حسنة فانَّ اللّه عزّ وجلّ لم يكن ليخذل وليّه، وإِن كانت سريرته رديَّة فقد يكفيه مساويه، فلو جهدت أن تعمل به اكثر ممّا عمله من معاصي اللّه عزّ وجلّ ما قدرت عليه.

______________________

(١) يريد أنه من يذكر الناس بسوء بغير ما يعتقده فيهم.

(٢) بالبناء للمفعول.

٤٢

يا عبد اللّه وحدّثني أبي عن آبائه عن عليعليه‌السلام عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : أدنى الكفر أن يسمع الرجل عن أخيه الكلمة ليحفظها عليه يريد أن يفضحه بها، اولئك لا خلاق لهم.

يا عبد اللّه وحدّثني أبي عن آبائه عن عليعليه‌السلام أنه قال : مَن قال في مؤمن ما رأت عيناه وسمعت اُذناه ما يشينه ويهدم مروّته فهو من الذين قال اللّه عزّ وجلّ( إِنَّ الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذابً أليم ) .

يا عبد اللّه وحدّثني أبي عن آبائه عن عليعليه‌السلام أنه قال : من روى عن أخيه المؤمن رواية يريد بها هدم مُروّته وثلبه أوبَقهُ اللّه بخطيئته حتّى يأتي بمخرج ممّا قال، ولن يأتي بالمخرج منه أبداً، ومن أدخل على أخيه المؤمن سُروراً فقد أدخلَ على أهل البيتعليهم‌السلام سُروراً، ومن أدخل على أهل البيت سُروراً فقد أدخل على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سُروراً، ومن أدخل على رسول اللّه سُروراً فقد سرَّ اللّه، فحقيق عليه أن يُدخِله الجنّة حينئذٍ.

ثمَّ إِنّي اُوصيك بتقوى اللّه وإِيثار طاعته والاعتصام بحبله، فإنه من اعتصم بحبل اللّه فقد هُدي الى صراطٍ مستقيم، فاتقِ اللّه ولا تؤثر أحداً على رضاه وهواه، فإنّه وصيّة اللّه عزّ وجلّ الى خلقه، لا يقبل منهم غيرها ولا يعظّم سواها، واعلم أن الخلائق لم يوكلوا بشيء أعظم من التقوى فإنّه وصيّتنا أهل البيت، فإن استطعت ألا تنال شيئاً من الدنيا تُسئل عنه غداً فافعل.

قال عبد اللّه بن سليمان : فلمّا وصل كتاب الصادقعليه‌السلام الى النجاشي نظر فيه فقال : صدَق واللّه الذي لا إِله إِلا هو مولاي، فما عمل أحد بما في هذا الكتاب إِلا نجا فلم يزل عبد اللّه يعمل به في أيام حياته(١) .

______________________

(١) بحار الأنوار : ٧٨/٢٧١/١١٢.

٤٣

فكّر أيها القارئ الكريم في هذه النصائح القدسيّة، وأعد النظر في فقراتها، وانظر ماذا سيبلغه البشر من نهاية السعادة لو وضع الاُمراء وأرباب الدولة هذا الكتاب نُصب أعينهم، ودرج عليه الناس في معاملاتهم بعضهم مع بعض، ولكن البشر لا يزال في سكرته لا يستيقظ لسماع مثل هذه المواعظ.

ومن وصاياه لشيعته

قال زيد الشَّحام : قال لي أبو عبد اللّهعليه‌السلام : اقرأ من ترى أنه يطيعني منكم ويأخذ بقولي السلام، واوصيكم بتقوى اللّه عزّ وجلّ والورع في دينكم، والاجتهاد للّه، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحُسن الجوار، فبهذا جاء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أدّوا الأمانة الى من ائتمنكم عليها برَّاً أو فاجراً، فإن رسول اللّه كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعُودوا مرضاهم، وأدّوا حُقوقهم، فإن الرجل منكم اذا ورع في دينه وصدقَ الحديث وأدَّى الأمانة وحسُنَ خُلقه مع الناس قيل : هذا جعفري، ويسرّني ذلك، ويُدخل عليّ منه السرور، وقيل : هذا أدب جعفر، وإِذا كان غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعارُه وقيل : هذا أدب جعفر، فواللّه لحدّثني أبي أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة عليعليه‌السلام فيكون زينها، أدَّاهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، اليه وصاياهم وودائعهم، تُسئل العشيرة عنه، ويقولون : من مثل فلان ؟ إِنّه أدّانا للأمانة، وأصدقنا للحديث(١) .

______________________

(١) الكافي، كتاب العشرة، باب ما يجب من العشرة : ٢/٦٣٦/٥ .

٤٤

وصيّته لمؤمن الطاق *

نقتطف من وصيّته لمؤمن الطاق زهراً غضة، قالعليه‌السلام : يا ابن النعمان إِيّاك والمراء فإنه يحبط عملك، وإِيّاك والجدال فإنه يوبقك، وإِيّاك وكثرة الخصومات فإنها تبعد من اللّه، إِن من كان قبلكم يتعلّمون الصمت وأنتم تتعلّمون الكلام، كان أحدهم اذا أراد التعبّد يتعلّم الصمت قبل ذلك بعشر سنين، فإن كان يحسنه ويصير عليه تعبّد، وإِلا قال : ما أنا لِما أروم بأهل، إِنما ينجو من أطال الصمت عن الفحشاء، وصبر في دولة الباطل على الأذى، اولئك النجباء الأصفياء الأولياء حقاً وهم المؤمنون، واللّه لو قدّم أحدكم ملء الأرض ذهباً على اللّه ثمّ حسد مؤمناً لكان ذلك الذهب ممّا يُكوى به في النار.

يا ابن النعمان إِن أردت أن يصفو لك ودّ أخيك فلا تمازحنّه ولا تمارينّه ولا تباهينّه ولا تشارنّه(١) ولا تطلع صديقك من سرّك إِلا على ما لو اطّلع عليه عدوّك لم يضرّك، فإن الصديق قد يكون عدوّك يوماً.

يا ابن النعمان ليست البلاغة بحدَّة اللسان، ولا بكثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى وقصد الحجّة(٢) .

______________________

(*) محمد بن النعمان الصيرفي الكوفي، وسنذكره في المشاهير، وقد كتبت فيه رسالة مستقلّة.

(١) تخاصمنه.

(٢) البحار : ٧٨/٢٩٢.

٤٥

وصيّته لحمران بن أعين*

قالعليه‌السلام : يا حمران انظر الى من هو دونك، ولا تنظر إِلى من هو فوقك في المقدرة فإن ذلك أقنع لك بما قُسم لك، وأحرى أن تستوجب الزيادة من ربّك، واعلم أن العمل الدائم القليل على اليقين أفضل عند اللّه من العمل الكثير على غير يقين، واعلم أنه لا ورع أنفع من تجنّب محارم اللّه والكفّ عن أذى المؤمنين واغتيابهم، ولا عيش أهنأ من حسن الخُلق، ولا مال أنفع من القنوع باليسير المجزي، ولا جهل أضرّ من العجب(١) .

______________________

(*) سنذكره في المشاهير من وراته.

(١) روضة الكافي، ٨/٢٠٤/٢٣٨.

٤٦

وصيّته للمفضّل بن عمر*

قالعليه‌السلام للمفضّل بن عمر : اوصيك ونفسي بتقوى اللّه وطاعته، فإن من التقوى الطاعة والورع والتواضع للّه والطمأنينة والاجتهاد والأخذ بأمره والنصيحة لرُسله، والمسارعة في مرضاته، واجتناب ما نهى عنه، فإن من يتّقِ اللّه فقد أحرز نفسه من النار بإذن اللّه وأصاب الخير كلّه في الدنيا والآخرة ومن أمر بتقوى اللّه فقد أفلح الموعظة جعلنا اللّه من المتّقين برحمته(١) .

______________________

(*) سيأتي ذكره في المشاهير أيضاً، وهو صاحب التوحيد الذي تقدم ذكره في الجزء الأول ص ١٤٩.

(١) بصائر الدرجات : ٥٢٦/١.

٤٧

وصيّته لجميل بن درّاج*

قالعليه‌السلام لجميل بن درّاج : خياركم سمحاؤكم وشراركم بخلاؤكم، ومن صالح الأعمال البرّ بالاخوان والسعي في حوائجهم، وذلك مرغمة للشيطان وتزحزح عن النيران، ودخول في الجنان، يا جميل اخبر بهذا الحديث غُرر أصحابك قال : فقلت له : جعلت فداك ومَن غُرر أصحابي ؟ قالعليه‌السلام : هُم البارُّون بالاخوان في العُسر واليُسر.

قال : يا جميل أما أن صاحب الجميل يهون عليه ذلك، وقد مدح اللّه عزّ وجلّ صاحب القليل فقال :( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومَن يوقَ شحّ نفسه فاولئك هُم المفلحون ) (١) .

______________________

(*) سنذكره في المشاهير إِن شاء اللّه تعالى.

(١) خصال الصدوق رحمه اللّه، باب الثلاثة، والآية ٩ من سورة الحشر.

٤٨

وصيّته للمعلّى بن خنيس

قال للمعلّى بن خنيس وقد أراد سفراً : يا معلّى أعزز باللّه يعززك، قال : بماذا يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قالعليه‌السلام : يا معلّى خف اللّه تعالى يخف منك كلّ شيء، يا معلّى تحبّب الى اخوانك بصلتهم، فإن اللّه تعالى جعل العطاء محبّة، والمنع مبغضة، فأنتم واللّه إِن تسألوني وأعطيكم أحبّ إِليّ من ألا تسألوني فلا أعطيكم فتبغضوني، ومهما أجرى اللّه عزّ وجل لكم من شيء على يدي فالمحمود هو اللّه تعالى ولا تبعدون من شكر ما أجرى اللّه لكم على يدي(١) .

وصيّته لسفيان الثوري*

قال سفيان : لقيت الصادق ابن الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام ، فقلت : يا ابن رسول اللّه أوصني، فقال لي : يا سفيان لا مروَّة لكذوب، ولا أخٌ لملول، ولا راحة لحسود، ولا سؤدد لسيّئ الخُلق.

فقلت : يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زدني، فقال لي : يا سفيان ثق باللّه تكن مؤمناً، وارض بما قسم اللّه لك تكن غنيّاً، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً، ولا تصحب الفاجر يُعلّمك من فُجوره، وشاور في أمرك الذين يخشون اللّه عزّ وجل.

______________________

(١) مجالس الشيخ الطوسي، المجلس /١١.

(*) مرّ ذكره في مناظرته في الجزء الأول وفي زهده وسيأتي في الأعلام الذين رووا عنهعليه‌السلام من السنّة.

٤٩

فقلت : يا ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : زدني، فقال لي : يا سفيان من أراد عِزَّاً بلا عشيرة، وغِنىً بلا مال ، وهيبةً بلا سلطان فلينتقل من ذُلّ معصية اللّه إِلى عِزّ طاعته(١) .

وقال للصادق مرّة : لا أقوم حتّى تحدّثني، قال له : أنا اُحدّثك وما كثرة الحديث لك بخير، يا سفيان اذا أنعم اللّه عليك بنعمة فأحببت بقاءها ودوامها فاكثر من الحمد والشكر عليها، فإن اللّه عزّ وجلَّ قال في كتابه :( لئن شكرتم لأزيدنكم ) (٢) واذا استبطأت الرزق فاكثر من الاستغفار فإن اللّه تعالى قال في كتابه :( استغفروا ربّكم إِنه كان غفّاراً يُرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنّات ويجعل لكم أنهاراً ) (٣) .

يا سفيان إذا أحزنك أمرٌ من سلطان أو غيره فاكثر من : لا حول ولا قوّة إِلا باللّه، فإنها مفتاح الفرج وكنز من كنوز الجنّة، فعقد سفيان بيده وقال : ثلاث وأيّ ثلاث(٤) .

______________________

(١) بحار الأنوار : ٧٨/١٩٢/٦.

(٢) إِبراهيم : ٧.

(٣) البقرة : ١٧١.

(٤) حلية الأولياء لأبي نعيم : ٣/١٩٣.

٥٠

وصيّته لعنوان البصري*

كان عنوان البصري يختلف الى مالك بن أنس فأحبّ أن يأخذ عن الصادقعليه‌السلام فلمّا ورد عليه قال له الصادقعليه‌السلام : إِني رجل مطلوب ومع ذلك لي أوراد في كلّ ساعة من آناء الليل والنهار فلا تشغلني عن وردي وخُذ عن مالك واختلف اليه كما كنت تختلف اليه، يقول : فاغتممت، فدخلت مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلّمت عليه ثمّ رجعت من الغد الى الروضة وصلّيت فيها ركعتين وقلت : أسألك يا اللّه يا اللّه أن تعطف عليّ قلب جعفر وترزقني من علمه ما أهتدي به الى صراطك المستقيم، ولمّا عِيلَ صبري وضاق صدري قصدت جعفراً فلمّا حضرت بابه استأذنت عليه فخرج خادم له فقال : حاجتك ؟ فقلت : السلام على الشريف، فقال : هو قائم في مصلاه، فجلست بحذاء بابه، فما لبثت إِلا يسيراً إِذ خرج خادم فقال : ادخل على بركة اللّه، فدخلت وسلّمت عليه فردَّ السلام وقال : اجلس غفر اللّه لك، فجلست فأطرق مليّاً ثمّ رفع رأسه وقال : أبو مَن ؟ قلت : أبو عبد اللّه، قال ثبّت اللّه كنيتك ووفّقك يا أبا عبد اللّه، ما مسألتك ؟ فقلت في نفسي لو لم يكن لي من زيارته والتسليم غير هذا الدعاء لكان كثيراً، ثمّ رفع رأسه وقال : ما مسألتك ؟ فقلت : سألت اللّه أن يعطف قلبك عليّ ويرزقني من علمك، وأرجو أن اللّه تعالى أجابني في الشريف ما سألته، فقال : يا أبا عبد اللّه ليس العلم بالتعلّم إِنما هو نور يقع في قلب من يريد اللّه تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أوّلاً في نفسك حقيقة العبوديّة واطلب العلم باستعماله واستفهم اللّه يفهمك، قلت :

______________________

(*) ليس له ذكر في كتب رجالنا.

٥١

يا شريف فقال : قُل يا أبا عبد اللّه، قلت : يا أبا عبد اللّه ما حقيقة العبوديّة ؟ قال : ثلاثة أشياء، ألا يرى العبد لنفسه فيما خوّله اللّه مُلكاً، لأن العبيد لا يكون لهم مُلك، يرون المال مال اللّه يضعونه حيث أمرهم اللّه به ولا يدبر العبد تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره اللّه تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم يرَ العبد لنفسه فيما خوّله اللّه تعالى مُلكاً هانَ عليه الانفاق فيما أمره اللّه تعالى أن ينفق فيه، وإِذا فوّض العبد تدبير نفسه على مُدبّره هانت عليه مصائب الدنيا وإِذا اشتغل العبد بما أمره اللّه تعالى ونهاه لا يتفرّغ منهما الى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا اكرم اللّه العبد بهذه الثلاث هانت عليه الدنيا وابليس والخلق، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب ما عند الناس عزّاً وعلوّاً، ولا يدع أيامه باطلاً، فهذا أول درجة التقى، قال اللّه تبارك وتعالى :( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين ) .(١)

قلت : يا أبا عبد اللّه أوصني، قال : اوصيك بتسعة أشياء، فإنها وصيّتي لمريدي الطريق الى اللّه تعالى، واللّه أسأل أن يوفّقك لاستعمالها، ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإِيّاك والتهاون بها، قال عنوان : ففرَّغت قلبي له، فقال : أمّا اللواتي في الرياضة فإيّاك أن تأكل ما لا تشتهيه، فإنه يورث الحماقة والبله، ولا تأكل إِلا عند الجوع، واذا اكلت فكل حلالاً وسمّ اللّه واذكر حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ما ملأ آدميّ وعاءً شرّاً من بطنه» ، فاذا كان ولا بدّ فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لِنَفسه، وأمّا اللواتي في الحلم، فمن قال لك : إِن قلت واحدة سمعت عشراً، فقل له : إِن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل له : إِن كنت

______________________

(١) القصص : ٨٣.

٥٢

صادقاً فيما تقول فاسأل اللّه أن يغفر لي، وإِن كنت كاذباً فيما تقول فاللّه أسأل أن يغفر لك، ومَن وعدك بالخناء فعده بالنصيحة والرعاء، وأمّا اللواتي في العلم، فاسأل العلماء ما جهلت، وإِيّاك أن تسألهم تعنُّتاً وتجربةً، وإِيّاك أن تعمل برأيك شيئاً، وخُذ بالاحتياط في جميع ما تجد اليه سبيلاً، واهرب من الفُتيا هربَك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً. قُم عنّي يا أبا عبد اللّه فقد نصحت لك ولا تفسد عليّ وردي فإني امرؤ ضنين بنفسي، والسلام على من اتبع الهُدى»(١) .

مِن ثمين وصاياه

ما اكثر الغالي من نصائحه والثمين من وصاياه، فإنه لم يترك نهجاً للنصح إِلا سلكه، ولا باباً للارشاد إِلا ولَجه، فتارةً يحثّنا على التقوى والورع والاجتهاد وطول السجود والركوع، ويقول : كونوا دُعاة الى انفسكم بغير ألسنتكم، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً(٢) .

واُخرى يريد منّا أن نرتقي فوق تلك الرتب فنكون من أرباب الشكر والدعاء والتوكّل فيقول : من اُعطي ثلاثاً لم يمنع ثلاثاً، من اُعطي الدعاء اُعطي الاجابة، ومن اُعطي الشكر اُعطي الزيادة، ومن اُعطى التوكُّل اُعطي الكفاية، ثمّ قال : أتلوت كتاب اللّه عزّ وجلّ :( ومن يتوكّل على اللّه فهو حسبه ) (٣) وقال :( ولئن شكرتم لأزيدنكم ) (٤) وقال :( ادعوني أستجب لكم ) .(٥)

______________________

(١) بحار الأنوار : ١/٢٢٤/١٧.

(٢) الكافي، باب الورع.

(٣) الطلاق : ٣.

(٤) إِبراهيم : ٧.

(٥) المؤمن : ٦٠.

٥٣

ويرشدنا الى الأرفع من هذا منزلة فيقول : اذا أراد أحدكم ألا يسأل اللّه شيئاً إِلا أعطاه فلييأس من الناس كلّهم، ولا يكون له رجاء إِلا عند اللّه، فإذا علم اللّه عزّ وجلّ ذلك من قلبه لم يسأل اللّه شيئاً إِلا أعطاه(١) .

وطوراً يرغّبنا في الأخلاق الكريمة والصفات الفاضلة فيشير الى التواضع ويصف لنا بعض مواضعه فيقول : من التواضع أن ترضى من المجلس دون المجلس، وأن تُسلّم على من تلقى، وأن تترك المراء(٢) وإِن كنت محقاً، ولا تحبّ أن تُحمد على التقوى(٣) .

ويذكر عدَّة خصال يزدان بها المرء ويسمو بها مرتقى عليّاً فيقول لأصحابه : اسمعوا منّي كلاماً هو خير من الدُهم الموقّفة(٤) لا يتكلّم أحدكم بما لا يُعنيه، وليدع كثيراً من الكلام فيما يعنيه، حتّى يجد له موضعاً، فرُبّ متكلّم في غير موضعه جنى على نفسه بكلامه، ولا يمارينّ أحدكم سفيهاً ولا حليماً، فإن من مارى حليماً أقصاه، ومن مارى سفيهاً أرداه، واذكروا أخاكم اذا غاب عنكم بأحسن ما تحبّون أن تذكروا به اذا غبتم، واعملوا عمل من يعلم أنه مجازى بالإحسان(٥) .

ويصف لنا حُسن الخُلق بما يدفعنا على المسارعة بالتخلّق به فيقول : اذا خالطت الناس فإن استطعت ألا تخالط أحداً منهم إِلا كانت يدك العليا عليه

______________________

(١) الكافي، باب الاستغناء عن الناس.

(٢) الجدال.

(٣) الكافي، باب التواضع.

(٤) الدهم : الخيل الشديدة السواد، والموقّفة - بتضعيف القاف جمع موقف كعظم - من الخيل الأبرش أعلى الاُذنين، كأنهما منقوشان بالبياض.

(٥) مجالس الشيخ الطوسي، المجلس /٢.

٥٤

فافعل، فإن العبد يكون فيه بعض التقصير من العبادة ويكون له حُسن الخُلق، فيبلغه اللّه بخُلقه درجة الصائم القائم(١) .

وما اكثر ما يحثّ به على التجمُّل بلباس الخُلق الحسن، وقرينة السخاء ومن ذلك قوله : إِن اللّه ارتضى لكم الاسلام ديناً فاحسنوا صحبته بالسخاء وحُسن الخُلق(٢) .

وأوصانا على لسان المفضّل بن عمر الجعفي بخصال ست لا توزن بقيمة، قال له : اوصيك بستّ خِصال تبلغهنّ شيعتي، قال : وما هي يا سيّدي ؟ قالعليه‌السلام :«أداء الأمانة الى من ائتمنك، وأن ترضى لأخيك ما ترضى لنفسك، واعلم أن للاُمور أواخر فاحذر العواقب، وأن للاُمور بغتات فكن على حذر، وإِيّاك ومرتقى جبل سهل اذا كان المنحدر وعراً، ولا تعِدنّ أخاك وعداً ليس في يدك وفاؤه» (٣) قُل لي برّبك أيّ خِصالٍ هذه !! وكم حملنا على أمثالها ممّا يجعلنا في مصافّ الملائكة المقرّبين ؟ ولكن أين السامع.

ونهانا عن خِصالٍ بارتكابها الضعة والسقوط، فقالعليه‌السلام : لا تمزح فيذهب نُورك، ولا تكذب فيذهب بهاؤك. وإِيّاك وخِصلتين : الضجر والكسل، فإنك إِن ضجرت لا تصبر على حق، وإِن كسلت لم تؤدّ حقاً.

وقالعليه‌السلام : وكان المسيحعليه‌السلام يقول : من كثر همّه سقم بدنه، ومن ساء خُلقه عذَّب نفسه، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر كذبه ذهب بهاؤه، ومن لاحى الرجال ذهبت مروَّته(٤) .

______________________

(١) الكافي، باب حسن الخلق.

(٢) الكافي، باب كظم الغيظ، وباب المكارم.

(٣) بحار الأنوار : ٧٨/٢٥٠/٩٤.

(٤) بحار الأنوار : ٧٨/١٩٩/٢٦.

٥٥

وممّا أوصى به أصحابه قوله : تزاوروا فإن في زيارتكم إِحياءً لقلوبكم وذكراً لأحاديثنا، وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض، فإن أخذتم بها رشدتم ونجوتم، وإِن تركتموها ظللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم(١) .

أقل : حقّاً إِن الرشد والنجاة بالتمسّك بأقوالهم، والضلال والهلاك بالصفح عن نصائحهم، لأنهم لم يدَعوا سبيلاً للإرشاد إِلا دلّوا عليه، ولا طريقاً للإضلال إِلا نهوا عنه.

وقالعليه‌السلام : اجعلوا أمركم هذا للّه(٢) ولا تجعلوه للناس، فإنه ما كان للّه فهو للّه، وما كان للناس فلا يصعد الى السماء، ولا تخاصموا بدينكم، فإن المخاصمة ممرضة للقلب، إِن اللّه عزّ وجل قال لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ اللّه يهدي من يشاء ) (٣) وقال( أفأنت تكره الناس حتّى يكونوا مؤمنين ) (٤) ذروا الناس فإن الناس قد أخذوا عن الناس وإِنكم أخذتم عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن عليعليه‌السلام ولا سواء، وأني سمعت أبي يقول : اذا كتب اللّه على عبد أن يدخله في هذا الأمر كان أسرع اليه من الطير الى وكره(٥) .

أقول : فكم كانت محاججات مبتنية على اُصول صحيحة يفحم بها أحد الجانبين فلا ينقلب عمّا كان عليه مع وضوح الحقّ لديه وتجلّي الحقيقة، وكم من مُلحد أو كافر اعتنق دين الاسلام بأقلّ دلالة، وأدنى سبب.

______________________

(١) الكافي، باب تذاكر الاخوان.

(٢) أحسبه يريد به ولاء أهل البيت.

(٣) القصص : ٥٦.

(٤) يونس : ٩٩.

(٥) الكافي، باب ترك دعاء الناس.

٥٦

وقالعليه‌السلام وهو يريد من أصحابه التوطين والنظر الى الأمر من بعيد : اصبروا على الدنيا فإنما هي ساعة، فما مضى منه فلا تجد له ألماً ولا سروراً، وما لم يجئ فلا تدري ما هو، وإِنما هي ساعتك التي أنت فيها، فاصبر فيها على طاعة اللّه، واصبر فيها عن معصية اللّه(١) .

أقول : إِن هذه الكلمة تصوّر لك حال المرء في هذه الحياة، لأن الماضي منسى حزناً كان أو سروراً، والآتي مجهول لا يُدرى، وإِنما المرء ابن ساعته، وصبر ساعة سهل، سواء كانت طاعة فيأتي بها، أو معصية فيصفح عنها، فالإنسان في كلّ ساعة هو لتلك الساعة، والى هذا أشار الشاعر بقوله :

ما مضى فات والمؤمّل غيب

ولك الساعة التي أنت فيها

وقالعليه‌السلام : اجعل قلبك(٢) قريباً برّاً، وولداً مواصلاً، واجعل عملك والداً تتبعه، واجعل نفسك عدوّاً تجاهده، واجعل مالك عارية تردها(٣) .

وقالعليه‌السلام : إِن قدرت ألا تُعرف فافعل، ما عليك ألا يثني عليك الناس، وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس اذا كنت محموداً عند اللّه(٤) .

وقال يحثُّ على الدعاء : الدعاء يردّ القضاء ما ابرم ابراماً، فاكثر من الدعاء فإنه مفتاح كلّ رحمة، ونجاح كلّ حاجة، ولا ينال ما عند اللّه عزّ وجل إِلا بالدعاء، وأنه ليس باب يكثر قرعه إِلا ويوشك أن يُفتح لصاحبه(٥) .

______________________

(١) بحار الأنوار : ٧٨/٣١١.

(٢) أحسب أنه يريد من القلب ههنا - العقل - فإنه جاء ذلك كثيراً في الأحاديث.

(٣) البحار، في أحواله ج ١١.

(٤) بحار الأنوار : ٧٨/٢٢٤/٩٥.

(٥) الكافي، باب الدعاء يردّ البلاء والقضاء.

٥٧

وقال، وما أشرفها كلمة : لا تطعنوا في عيوب من أقبل اليكم بمودَّته ولا توقفوه على سيّئة يخضع لها، فإنها ليست من أخلاق رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا من أخلاق أوليائه(١) .

وقالعليه‌السلام ، وما أنفعها كلمة : احسنوا النظر فيما لا يسعكم جهله وانصحوا لأنفسكم، وجاهدوا في طلب ما لا عُذر لكم في جهله، فإن لدين اللّه أركاناً لا تنفع من جهلها شدَّة اجتهاده في طلب ظاهر عبادته، ولا يضرّ من عرفها فدان بها حسن اقتصاده، ولا سبيل الى أحد الى ذلك إِلا بعون من اللّه عزّ وجلّ(٢) .

العِشرة :

كان من الجميل النافع أن نجمع وصاياه ومواعظه حسب الموضوعات. ولئن فاتنا ذلك كلّه فلا يفوتنا بعضه، فنحن ذاكرون الآن نبذاً في بعض الموضوعات ممّا هو في متناول أيدينا. ونبتدئ بالعِشرة.

لا شكّ أن الانسان من غريزته المحاكاة والتقليد لمعاشريه وأقرانه، فإن كانوا أخياراً اقتبس منهم محاسنهم، وإِن كانوا أشراراً انطبع بمساوئهم وذلك طبعاً في الأكثر الغالب من البشر، ولأجله وجّه إِمامنا نصيحته الى الناس فقالعليه‌السلام :

إِيّاكم وعِشرة الملوك وأبناء الدنيا ففي ذلك ذهاب دينكم ويعقبكم نفاقاً، وذلك داء ردي لا شفاء له، ويورث قساوة القلب ويسلبكم الخشوع.

وعليكم بالإشكال من الناس(٣) والأوساط من الناس فعندهم تجدون

______________________

(١) روضة الكافي.

(٢) إرشاد الشيخ المفيد طاب ثراه، في أحوالهعليه‌السلام : ص ٢١٣.

(٣) أحسبه يريد بالإشكال الأمثال أي عليكم بأمثالكم من الناس دون الأعلون.

٥٨

معادن الجواهر، وإِيّاكم أن تمدُّوا أطرافكم الى ما في أيدي أبناء الدنيا، فمن مدَّ طرفه الى ذلك طال حُزنه ولم يشفِ غيظه واستصغر نعمة اللّه عنده، فيقلّ شكره للّه، وانظر الى من هو دونك فتكون لأنعم اللّه شاكراً، ولمزيده مستوجباً، ولجوده ساكناً (١) .

الاستباق الى الخيرات :

إن تهيئة العمل الصالح فرصة لا ينبغي إِضاعتها، ولربّما كانوا تقويتها مدعاة للندم، وشؤون الحياة كلّها فُرص تمرُّ ليس في أيدينا إِعادتها، لأن آلاف الأسباب المهيّئة لظرف العمل اكثرها خارج عن قدرتنا وإِرادتنا، ولكن حثَّ أبو عبد اللّهعليه‌السلام على انتهاز مثل هذه الفرص السوانح فقال :

«إِذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخّره، فإن اللّه عزّ وجلّ ربّما اطّلَعَ على العبد وهو على شيء من الطاعة فيقول : وعزّتي وجلالي لا اُعذّبك بعدها أبداً» والكمات الواردة عنه في ذلك كثيرة.

وكما حَثَّ على المسارعة الى الخير عند العزيمة عليه نهى عن امضاء العزيمة اذا كانت في المعصية فقالعليه‌السلام :

«واذا هممت بسيّئة فلا تعملها فإنه ربّما اطّلع على العبد وهو على شيء من المعصية فيقول : وعزّتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبداً» (٢) .

ووصاياه في مثل ذلك لا يحيط بها الحصر.

______________________

(١) كتاب زيد النرسي، وهو من الاصول المعتبرة، وما يزال مخطوطاً.

(٢) وسائل الشيعة : ١/١٨.

٥٩

التفقّه في الدين

إِن التفقّه في الدين طريق لعبادته تعالى، وبه الاحتفاظ بنظام الشريعة الاسلاميّة وقوانينها، بل الدين الاسلامي إِنما يقوم ويدوم بفقهاء شريعته العالمين بأحكامه المناضلين عنه، ومن ههنا جاء عن الصادقعليه‌السلام حديث جمّ عن التفقّه وقد سلف في (١ - ١٤٣) شيء من ذلك ونضيف هنا أحاديث اُخرى، قالعليه‌السلام :

«العامل على غير بصيرة كالساير على السراب بقيعة لا يزيده سرعة سيره إِلا بُعداً» وقال :«لا خير فيمن لا يتفقّه من أصحابنا» وعنه«لا يسع الناس حتّى يسألوا ويتفقّهوا» (١) وقالعليه‌السلام :«اذا أراد اللّه بعبد خيراً فقّهه في الدين» وقال :«الكمال كلّ الكمال : التفقّه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة» (٢) .

ولعظم خطر الفقاهة وأثرها في الدين الاسلامي قالعليه‌السلام عن شأن الفقيه وموته :«ما من أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى ابليس من موت فقيه» وعنه :«اذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الاسلام ثلمة لا يسدّها شيء» (٣) .

______________________

(١) بحار الأنوار : ١/٢٢١/٦١.

(٢) الكافي، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء.

(٣) بحار الأنوار : ١/٢٢٠/٥٦.

٦٠