القرآن وإعجازه العلمي

القرآن وإعجازه العلمي0%

القرآن وإعجازه العلمي مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 176

القرآن وإعجازه العلمي

مؤلف: محمد اسماعيل ابراهيم
تصنيف:

الصفحات: 176
المشاهدات: 38891
تحميل: 9273

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 176 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38891 / تحميل: 9273
الحجم الحجم الحجم
القرآن وإعجازه العلمي

القرآن وإعجازه العلمي

مؤلف:
العربية

وإلى أن يرث الله الارض ومن عليها، وذلك لانها خاتمة الرسالات للناس أجمعين وليست بعدها رسالات ولا معجزات أخرى، ويكفى في تفوقها أنها جمعت فأوعت كل ما تحتاج إليه البشرية من أصح العقائد الحقة وأسمى المبادئ القويمة وأرقى المناهج للصلاح والاصلاح والفلاح، وأخلص العبادات الموصلة قولا وعملا إلى رضوان الله تعالى وسعادة الدارين.

وكل الذين هداهم الله ووفقهم إلى قراء‌ة القرآن وتدبر آياته من يوم أن نزل على النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى ما شاء الله يؤمنون بقدسيته ويقرون بروعته البيانية ويشعرون بلمساته الروحية ويأنسون بنفحاته السماوية، ويرجع ذلك إلى حقيقة ذاتية في القرآن تتمثل في كيانه القائم على الحق وفى أسراره العلوية التى تكمن وراء ألفاظه ومعافيه والتى تتجلى في جاذبيته الآلهية التى تأخذ بقلوب مرتليه وسامعيه، وليس أدل على ذلك من أن أبلغ بلغاء العرب من قريش كانوا إذا سمعوا آيات الله تتلى عليهم يستولى على مشاعرهم سحر بلاغتها، وقد بلغ من افتتان بعضهم بها أنهم كانوا يتسللون فرادى في دجى الليل على مقربة من دار النبى ينصتون إلى تلاوة القرآن فتملاهم تلاوته إعجابا وتقديرا واستمتاعا بمافيه من حلاوة وطلاوة وسمو روحى يأخذ بألبابهم، ومن عجيب أمر هؤلاء العرب الذين أنكروا القرآن وإعجازه في الاداء والبيان هم أبناء الامة التى كان لها غرام بالبلاغة والفصاحة حتى أنهم كانوا يعقدون الاسواق الادبية كل عام ليعرض فيها الادباء والشعراء إنتاج مواهبهم ويدعون الحكام للحكم بين الشعراء والادباء لتكريمهم والاحتفال بالنوابغ منهم.

دلائل إعجاز القرآن: اشتمل القرآن الكريم على عدة دلائل قوية وبراهين دامغة على أنه المعجزة الكبرى وأنه آية من آيات الله العظمى الخالدة على الدهر ومن ذلك:

٢١

أولا: بلاغته الفريدة في نظمه ولفظه وأسلوبه ومخالفته لمناهج العرب في فصاحتهم وبلاغتهم التى كانوا يعتزون بنبوغهم فيها، إذا لم يكن شعرا موزونا ولا نثرا مرسلا ولا سجعا مقفى وإنما هو نهج مستقل قائم بذاته في جمال عباراته العذبة وصياغة معانيه السامية التى لم يكن للعرب عهد بمثلها من قبل حتى أن بلغاء‌هم ما كانوا لا يدرون من أى ناحية من نواحيه يتملك مشاعرهم ويستولى على عقولهم وكانوا من فرط حيرتهم في وصفه يقولون عنه إنه السحر وما هو بالسحر.

ثانيا: حفل القرآن بالكثير من قصص الانبياء والرسل وأخبار الامم السابقة وأحوالهم بما يطابق الصادق المؤكد مما جاء في كتب أهل الكتاب من اليهود والنصارى، مع أن النبى صلوات الله وسلامه عليه نشأ أميا لا يقرأ ولا يكتب وقومه يعلمون أنه لم يدرس ولم يتعلم على يد أحد شيئا من العلم، فمن أين له هذه الانباء والمعلومات عن الرسل والانبياء وعن التاريخ القديم للامم والشعوب؟ إنه لا شئ سوى الوحى الذى يوحى إليه من ربه الذى يقول في كتابه العزيز في سورة العنكبوت - آية ٤٨:( وَ مَا کُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ کِتَابٍ وَ لاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِکَ إِذاً لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ‌ ) ، ولما تملكتهم الحيرة في شأن القرآن وروعته افتروا على الله الكذب وأدعوا أن أحد فتيان الروم علمه سرا هذه الاخبار كلها وهذا كذب صراح لان هذا الرومى المزعوم كان أعجميا لا يحسن العربية، ويكذب القرآن افتراء‌هم هذا بقوله تعالى في سورة النحل آية - ١٠٣:( وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ‌ ) .

ثالثا: لم يقتصر القرآن على ذكر أخبار أحوال الامم الماضية وأنبيائهم ورسلهم وما جرى من الحوادث التى مضى عليها زمن طويل بل أخبر كذلك عن أمور سوف تقع في المستقبل وقد تحقق فعلا وقوعها، ومن ذلك ما أخبر به

٢٢

القرآن عن دولة الروم المسيحية التى غلبتها دولة الفرس الوثنية أولا، ثم أخبر القرآن بأن دولة الروم المغلوبة سوف تنتصر بعد بضع سنين كما جاء ذلك في قوله تعالى في سورة الروم آية ١ - ٤:( ألم، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ‌ ) .

ومن ذلك أيضا ما أخبر به القرآن عن وعد الله لرسوله بأنه سوف يفتح مكة ويدخل المسجد الحرام، وقد تحقق ذلك فعلا بعد فترة وجيزة من الزمن فقال تعالى في سورة الفتح آية - ٢٧:( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَکُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذٰلِکَ فَتْحاً قَرِيباً ) .

رابعا: ما تضمنه القرآن من أمور دينية ما كان العرب يعرفون عنها شيئا مثل عقيدة التوحيد وإلايمان بالغيب وبيوم القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار والملائكة وغيرها من المسائل الاخرى الخاصة بالتشريع ومعرفة الحلال والحرام والحقوق والواجبات للاسرة والوطن ثم بيان ما يجب على الانسان من مكارم الاخلاق وروح الاخوة والتعاون والبر والتقوى مما يؤدى إلى سعادة الدارين.

وكان النبى صلوات الله وسلامه عليه يتلو على الناس ما أنزل إليه بلسان عربى مبين في موضوعات أخرى شتى وهو الامى الذى لم يدرس من أمور التشريع ولا من أمور الغيب ولا من أصول الاخلاق أو علم النفس أو علم الاجتماع شيئا، فمن أين له هذا الكنز الفياض بهذه العلوم والمعارف في دقة وروعة وإحكام؟ أنه النبوة الموحية إليه بهذا كله من عند الله تعالى.

٢٣

خامسا: لقد انطوى الكريم على آيات بينات كثيرة فيها حقائق علمية غاية في الاصالة والموضوعية فيما يتعلق بالكون والسماوات والارض والنجوم والكواكب التى تجرى في أفلاكها وتعاقب الليل والنهار ثم ما جاء عن خلق الانسان وتطوره جسما وعقلا وروحا ثم ما ذكره عن النبات والحيوان والحشرات كما أن القرآن تكلم عن السحب والامطار والعواصف والجبال والاشجار والانهار والبحار وغير ذلك من الكائنات والمخلوقات كبيرها وصغيرها وكل ذلك لم يكن الانسان قبل نزول القرآن ولا بعد نزوله بزمن طويل يعلم عن حقائقه شيئا ولا يدرى من أسبابه وأسراره أى شئ بل ظل ذلك كله سرا مطويا عن العقل البشرى إلى أن جاء‌ت عصور النهضة العلمية التى أخذ الانسان خلالها يدرس ويبحث وينقب بحثا عن الحقائق الكونية والكشف عن أسرارها ونواميسها شيئا فشيئا حتى صارت لديه حصيلة قيمة من العلوم والمعارف والقوانين والنظريات التى عن طريقها بدأ الانسان يعرف ما جاء به القرآن منها وذلك قبل نهضته العلمية الحديثة بزمن بعيد.

سادسا: أن القرآن الكريم وقد مضى على نزوله حتى الآن نحو أربعة عشر قرنا لم يظهر في نصوصه ولا في معانيه أو مراميه أى خلل أو تناقض أواضطراب أو قصور فيما عبر به عن الحياة الدنيا وأحوالها أو ما جاء به من حقائق ومبادئ وتشريع وأحكام ونظام وقد حاول أعداء الاسلام خلال هذه القرون وبعد أن قرأوا القران مرارا ونخلوه وغربلوه.

تكرارا لكى يجدوا فيه أى ثغرة من خطأ أو نقص أو ضعف في أى شئ فما وجدوا فيه غير الحق الصراح والعقائد القويمة والهداية الشاملة في أروع ظواهرها وبواطنها ويقول الله تعالى في سورة النساء آية - ٨٢:( وَ لَوْ کَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً کَثِيراً )

٢٤

ويتجلى إعجاز القر آن بصفة خاصة في وجهين هامين من إعجازه: أولهما ما يتعلق بمنهاجه البيانى وثانيهما منهاجه العلمى.

أما منهاجه البيانى فقد لمسه العرب لانهم كانوا أول من خوطبوا به وأدركوا ما في آياته من بلاغة وفصاحة وجزالة في ألفاظه ومعانيه، وقد أقروا بعجزهم عن تحديه، وظل إعجازه البيانى قائما في الجزيرة العربية طيلة عصر النبوة وما بعده إلى ما شاء الله تعالى.

وأما منهاجه العلمى فقد كان إعجازا ممتدا على مدى العصور وإلى أن يرث الله الارض ومن عليها، وذلك لما اشتمل عليه القرآن من علوم كونية وحقائق علمية وتشريعية لم تكن معروفة في عصر النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيظل هذا المنهاج العلمى هو معجزة الاجيال كلها بما يظهر منها تباعا.

ومنهج الاعجاز البيانى يتمثل في تأليف كلماته وتآخيها، وتلاقيها في عباراته المنسجمة وفى نظمها المحكم ورنينها الموسيقى، وقد جاء‌ت المعانى القرآنية مؤاخية للالفاط وكأن الالفاظ قطعت لها وسويت على حجمها، ومن أمثلة التناسق بين الالفاظ ومعانيها قوله تعالى:(والصبح إذا تنقس) فإن استعمال لفظ تنفس لا يمكن أن يوضع مكانه لفظ آخر ليؤدى معناها، وذلك لان التنفس يندرج فيه ثلاثة معان تتصل بالحياة الدائمة المستمرة أولها التنفس بمعنى الحياة وثانيها حركتها واستمرارها وثالثها تدرجها في الظهور شيئا فشيئا، فلو وضعت كلمة أشرق بدل تنفس أو أصبح أو أنار أو أضاء لا تقوم مقام تنفس ولا تغنى غناء‌ها.

ومثل آخر للعبارات التى ترد في القرآن ولها معان لا يحل محلها أى تعبير آخر

٢٥

كما في قوله تعالى:( وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَکَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ، وَ لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَ لٰکِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ کَمَثَلِ الْکَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُکْهُ يَلْهَثْ ذٰلِکَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ کَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَکَّرُونَ‌ ) (الاعراف ١٧٥ - ١٧٦).

وتصور هذه الآيات رجلا أتاه الله العلم بالآيات الموجبة للتصديق بالحق، وأن هذه الآيات أحاطت بقلبه ونفسه كما يحيط الاهاب أى الجلد بالجسم ولكنه ترك الاخذ بالهدى استجابة لداعى الشيطان، وصار من الضالين الذين أغواهم إبليس اللعين فكان مثله كمثل الكلب يلهث دائما، إن ترك يلهث، وإن حمل عليه يلهث، فكل كلمة في هذة الآيات تؤدى معنى لا تعنى عنه كلمة أخرى مهما حاول الانسان ذلك، والعبارات صادقة ومطابقة للحال في تصوريها.

وأما المنهج العلمى من الاعجاز فهو موضوع هذا الكتاب بالذات وسوف فعرض له مجموعة من الآيات التى تبين كيف حفل القرآن بأصول العلوم المتصلة بنشأة الكون وخلق الانسان والكائنات كلها، وكيف أنه طلب منا التفكر والتدبر في أسرارها وحكمتها.

القرآن والعلم: فليس غريبا ولا عجيبا أن يأتى القرآن وهو المعجزة الكبرى بكل الموافقات والمطابقات لكل ما وصلت إليه العلوم الحديثة من نتائج ووصل إليها العلماء بعد مئات السنين من الدراسة والبحث والتأمل لانه كلام الله العليم بالسر وأخفى في ملكه العظيم وإن كثيرا من القضايا الاجتماعية والسياسية والحربية والتشريعية

٢٦

والاخلاقية وغيرها جاء بها القرآن قبل أن تكون شيئا مذكورا في معارف الانسان وقت نزول القرآن ثم ظهرت معالمها واضحة بعد موت النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بزمن طويل، بل أن في القرآن ما هو أكثر من الاعجاز العلمى ألا وهو ما أخبر به القرآن في عدة آيات بأمور لم يكن أحد يعلم أسرارها الغيبية مثل ما حدث في الملاء الاعلى قبل ظهور الانسان عندما خلق الله آدمعليه‌السلام وما كان من سجود الملائكة له وهبوطه إلى الارض وخلافته فيها، فهل ذلك كله من علم محمد رسول الله حتى يذكره لنا مفصلا؟ كلا أنه كتاب الله الذى يتحدث عن علم الله المحيط يكل شئ.

المصحف كيف توحد وانتشر: إن كلام الله المنزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورا أو آيات متفرقة في في مدى ثلاث وعشرين سنة والمنقول تواترا صحيحا والمتعبد به تلاوة وعملا والمجموع كله بين دفتى المصاحف من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس، كان في أول الامر وعلى عهد النبى مكتوبا على رقاع متفرقة من الجلد أو العظم أو جريد النخل أو قطع الحجارة كما كان محفوظا في صدور الصحابة الذين حفظوه عن ظهر قلب، فلما قامت حروب الردة في خلافة أبى بكر الصديق وقتل فيها أكثر الصحابة المجيدين لحفظ القرآن، هال هذا الامر عمر بن الخطاب وأشار على أبى بكر بجمع الرقاع ونسخها، فستجاب أبوبكر لذلك وأمر زيدا بن ثابت وهو من أبرز كتاب الوحى أن يقوم بجمع القرآن من الرقاع المكتوب عليها ومن صدور الحفاظ فنسخه وحفظت هذه الاصول المنسوخة عند أبى بكر فلما مات حفظتها السيدة حفصة إبنة عمر عندها، وفى عهد سيدنا عثمان بن عفان ظهرت بعض اختلافات في القراء‌ات بين المسلمين فرأى عثمان منعا لهذه الاختلافات أن

٢٧

يدون مصحفا واحدا مأخوذا من الاصول المحفوظة عند حفصة وأن ينسخ منها عدة مصاحف أعدها وأرسلها إلى الامصار الاسلامية ثم أحرق جميع الرقاع الاخرى كما أعدم كل ما سوى المصحف الموحد حتى لا يفتح باب الزيادة أو النقص أو التحريف في كتاب الله وخاصة بعد اختلاط العرب بأهالى البلاد غير العربية التى فتحوها وبذلك تحقق قول الله تعالى: إنا أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون).

وسوف يبقى القرآن إلى ما شاء الله المعجزة الآلهية الخالدة وسوف يبقى كلام الله عزيزا بقدسيته غنيا بنفسه متلالا بآياته التى كلما مضى عليها الزمن إزدادت إشراقا وبهاء لانها أنوار آلهية وضاء‌ة وطاقة علوية خلاقة وقوة روحية وثابة تدفع كل من يؤمن بها إلى العمل والجهاد والرقى حسا ومعنى، ولا يغيب عن البال أن كتاب الله حليف العلم والعلماء، وعدو الجهل والجهلاء وداعية الهدى والاهتداء ثم هو كتاب الله الذى لا يرضى مطلقا عن الجمود والركود والاستخذاء وما كان في أى حال أو في أى عهد من عهود الزمان متعارضا أو متناقضا مع أصول العلم ومناهج الحكمة ونواميس الكون بل إنه كلما اكتشف العلماء جديدا من كليات العلوم وأصولها أو أى شئ من كنوز الحكمة وجدوا لها في كتاب الله مواضع وإشارات تنم عليها وتدل عليها.

إن هذا القرآن هو كلام الله الحق وقد وعد المسلمين فيه بالتمكن في الارض والاستخلاف فيها بقوله تعالى:(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنكم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدوننى لا يشركون بى شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) فماذا جرى ونحن المسلمون المخاطبون بهذه الآيات وقد تخطانا هذا الوعد بأن يستخلفنا الله في الارض؟ أما آن لنا معاشر

٢٨

المسلمين ونحن في كثرة من العدد ووفرة من الموارد أن نتحد ونتعاون ونستعيد أمجادنا بأن نتعلم كل ما هيأ الله في الارض من علم، وما يلهم به من عمل وصناعة ورقى مادى واختراع لكي نعد أنفسنا لحياتنا العصرية التى لا تتفوق فيها الامم إلا بالايمان وبالعلم وتطبيقاته، ولدينا من الحوافز القوية من كتاب الله وسنة رسوله ما يجعلنا خير أمة أخرجت الناس.

وفى ختام هذا الباب يطيب لى أن أسجل ما سبق لى أن كتبته ونشرته في كتابى(مع الله) في باب كلام الله وهو القرآن ما يأتى بأسلوب الشعر الحر: كلام الله يتلوه أهل الذكر على مكث فيحدون هديه أجمل ما يكون.

وهم يرددون تلاوته آناء اليل وأطراف النهار ما استطاعوا ولا يسأمون.

وكل الذين يرتلونه بفهم يحسون قدسيته فتقشعر منهم الجلود ثم تلين.

وكل الذين يتدبرون آياته يلهمون من أسراره وأهدافه أكثر وأمتنع مما يعلمون.

وكل الذين يتفرغون لدراسته تنكشف لهم كنوز قيمة من العلوم والفنون وهكذا كل من يقرأ القرآن بفهم يجد فيه ينابيع من التقى تروى قلوب المؤمين.

فتعلق ياأخى بحبل القرآن وأحرص على تلاوته وفهمه ولا تكن عنه من الغافلين لقد أنزل الله كتابه وقال له: كن لقرائك الابرار شفاء لما في الصدور.

وكن نورا يهتدى به من يتعلمه ويحفظه ويتلوه خاشعا في مساء وبكور.

وكن أيها القن آن مذكرا بالغيب وبحقيقة الحساب يوم البعث والنشور.

وكن أيها القرآن معلما ومرشدا للناس بأن الآخرة هى دار القرار والمصير وأن هذه الحياة الدنيا متاع قليل، فلا يلههم الامل عن مآلهم بالغفلة والغرور.

وأن الله سبحانه حسيب رقيب لا يغفل عن صغير من عملهم أو كبير.

وهكذا القرآن على منوال الهدى ينسج الوعظ وعلى محور التقوى يدور.

٢٩

والقرآن معجزة الله الباقية من المعجزات التى جاء‌ت وأنتهى أمرها بزمانها.

ومعجزة القرآن جاء‌ت كاملة خالدة لندوم إلى ما شاء الله تعالى لدوامها.

وكل الكتب السماوية السابقة حرفت ولم يبق غير الاطلال من جلال أصولها.

أما القرآن الكريم فهو باق على الدهر لا يتغير وآياته حافظة لرسمها ونصوصها.

أليس في ذلك ما يقنع أهل الشك بالدليل القاطع على صدق آياته وإعجازها.

وكم من جاجدين حاقدين يتمنون لو يعثرون على تناقص أو نقص في كمالها.

وقد مضت القرون وما وجد المنقبون في آيات القرآن غير الحق في طياتها.

٣٠

الباب الثانى: القرآن روح الدعوة الاسلامية ومحور ثقافتها

قد جاء‌كم من الله نور وكتاب مبين.

إن القرآن الكريم منذ نزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يومنا هذاو هو ركيزة التوحيد الخالص وكنز العقائد الايمانية ومصدر الاحكام الشرعية ودليل الحقائق الكونية كما أنه الملهم بالفتوحات الالهية والباعث على الجهاد والاجتهاد في العبادة والطاعات، والحافز للعقول إلى التفكر في خلق السماوات والارض وغير ذلك من المجالات المتعلقة بالحسيات والمعنويات، فهو بحق مدار لكل حركات فكرية أو نهضات إصلاحية أو أعمال عمرانية وتقدمية على مدى الزمن.

٣١

الله هو الخلاق العظيم

خلق الله الاكوان كلها من العدم، وأبدع صنعها وأتقن كل شئ من ظواهرها وخوافيها وجلائها ودقائقها، ولا تخفى عليه ذرة من مقوماتها وسننها ونواميسها فإذا ذكر سبحانه عنها شيئا في قرآنه فهو قول العليم الخبير الذى لا يعزب عن علمه شئ منها في الارض ولا في السماء، والقرآن بهذه المزايا الربانية هو المرجع الجامع لكل علم نافع أو نهج قويم يوصل إلى سعادة الدارين، والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول في حديث له:(من ابتغى الهدى في غير القرآن أضله الله).

ولا يتاح للبشرية إن تنتفع بالقرآن وتهتدى بنوره إلا إذا فهمت نصوصه لفظا ومعنى عن طريق تفسير واضح قائم على حقائقه المؤكدة التى تبين مقاصده ومراميه بغير تأويل له يراد به غايات دنيوية أو منافع ذاتية، ولهذا عنى المسلمون بتفسير القرآن واهتموا بفهم حقائقه اهتماما عظيما على مدى العصور، ولابد لنا قبل

٣٢

الكلام عن موضوع الاعجاز العلمى للقرآن أن نمهد بنبذة موجزة عن التفسير ووسائله وأهدافه اتجاهاته المختلفة المنازع.

القرآن كتاب الله المبين

يقول الله تبارك وتعالى في وصف القرآن بأنه كتاب مبين في عدة آيات منها:( ألم، الر تِلْکَ آيَاتُ الْکِتَابِ الْمُبِينِ‌ ) (يوسف آية - ١)( قَدْ جَاءَکُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ کِتَابٌ مُبِينٌ‌ ) (المائدة آية - ١٥)( وَ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْکُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ ) (النور آية - ٣٤)( وَ أَنْزَلْنَا إِلَيْکَ الذِّکْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَکَّرُونَ‌ ) (النحل آية - ٤٤).

وهذه الآيات ومثيلاتها تبين بكل وضوح أن القرآن بين ولا يحتاج إلى تبيين وقد نزل على العرب بلغتهم التى يعرفون ألفاظها وأساليبها وبلاغتها، وإذا كان في القرآن شئ مجمل أو شئ غامض المعنى فكان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يفسره، هذا مع العلم بأن كثيرا من الآيات القرآنية يفسر بعضه بعضا.

تفسير القرآن

التفسير علم من العلوم الدينية التى يقصد به إيضاح القرآن وتبيانه للكشف عن مراميه وأسراره، وقد وضع المفسرون له قديما وحديثا المؤلفات الكثيرة للشرح ألفاظه بما يتفق مع سياق المنهج القرآنى وإظهار المعانى التى وراء الالفاظ سواء في ذلك المعانى الحقيقية أو المعانى المجازية، وفى ذلك يقول الله تعالى في سورة الفرقان آية ٣٣:( وَ لاَ يَأْتُونَکَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاکَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً ) ،

٣٣

وكان النبى صلوات الله وسلامه عليه أول مفسرا للقرآن لاصحابه فيما يتعلق بالآيات التى تحتاج إلى تفصيل لما أجمل فيها من أحكام أو إيضاح لما غمض فيها من معان دقيقة.

ومع مرور الزمن صار التفسير علما ضروريا لفهم كتاب الله فهما صحيحا، وهو علم قائم ومدون منذ عهد التابعين للصحابة، ولا ريب أن القرآن مقصود بذاته لكل مسلم لوجوب تلاوته والتعبد به والاستماع إليه والتفقه فيه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، مع الاجتهاد في فهم الروابط التى تربط معانى القرآن بما ورد في السنة النبوية من أحاديث توضحها.

وقد تجمعت من مجهودات المفسرين للقرآن قديما وحديثا حصيلة ضخمة من شروح قيمة تدعو للاعجاب التقدير لهؤلاء العلماء الاجلاء الذين خدموا كتاب الله بما لم يخدم به أى كتاب عرفه الناس في هذه الدنيا، فقد خدموه ظبطا وشرحا واستنباطا وتقديرا وإعزازا وإكبارا على مدى أربعة عشر قرنا سوف تتلوها إن شاء الله قرون أخرى حتى يرث الله الارض ومن عليها، ومع كل هذه لدراسات والتفسيرات والشروح المستفيضة للقرآن فإنه ما يزال كنزا لا ينفد من العلوم الربانية المنطوية في ثناياه، والتى سوف تظهر رويدا رويدا مع التعمق في بحاره والغوص وراء جواهره ولآلئة المكتونة فيه، ويقول الله تعالى في سورة فصلت آية ٥٣:( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) .

مراحل التفسير ومناهجه

يمكن القول بأن علم التفسير مر بعدة مراحل كان لكل مرحلة منهاجها العلمى الموافق لاحوال الزمان والمكان للانسان وعلى مبلغ تفتح القلوب واستنارة

٣٤

العقول التى استجابت لدولة العلم في تطورها واتساع آفاقها وازدهار ثمارها، وهذه المراحل هى:

أولا: مرحلة التفسير المأثور عن النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثانيا: مرحلة التفسير المأثور عن أقوال الصحابة وتلاميذهم من التابعين.

ثالثا: مرحلة التفسير المعتمد على اللغة لانها أداة التعبير.

رابعا: مرحلة التفسير المعتمد على رأى التابعين وتأويلاتهم واجتهاداتهم.

خامسا: مرحلة التفسير العصرى لبعض الآيات ذات المفاهيم العلمية أو التشريعية.

في ضوء العلوم الحديثة التى اتسع مجال أبحاثها وما زال يتسع يوما بعد يوم.

وإليك توضيحا لكل مرحلة منها: التفسير المأثور عن النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كان النبى صلوات الله وسلامه عليه هو المفسر الاول للقرآن وكان تفسيره شاملا لكل ما جاء فيه من عبادات ومعاملات ومعتقدات وكل ما يتعلق بالمجتمع الانسانى، ابتداء من الاسرة إلى الجماعة إلى الامة وعلاقة الحاكم بالمحكوم وعلاقة المسلمين بغيرهم من الامم في الحرب والسلم، وقد وردت عن النبى أحاديث صحيحة توضح وتفسر ما جاء في القرآن زيادة في الايضاح والبيان وهى الاحايث المتواترة بالسند الصحيح ولذلك كانت السنة النبوية خير مفسر للقرآن الكريم.

التفسير المأثور عن أقوال الصحابة وتلاميذهم والتابعين لهم: يعتمد هذا التفسير أولا وقبل كل شئ على ما سمعه الصحابة من مفسره الاول وهو النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد حفظوا هذا التفسير ووعوه لانهم كانوا

٣٥

أول من سمع القرآن عقب نزوله والنبى يتلوه عليهم، وكانوا أول من علموا أسباب نزول كل آية ومناسباتها، وكان ذلك خير معين لهم على فهم المقصود من كل آية فهما صحيحا، وكانوا يعنون كل العناية بتفسير كل ما يتعلق بالامور الدينية من حيث العقائد والعبادات وأركان الاسلام وأصوله وأحكامه لان هذا في نظرهم هو جوهر الدين، وما كانوا يشغلون عقولهم بالحقائق الكونية وأسرارها ونواميسها ولا يفكرون في أمرها إلى بقدر ما تدل عليه في نظرهم من قدرة الله تعالى وعظمته، وما كانوا يهتمون بالقصص القرآنى ولا الخوض في شئ من أخباره إلا بقدر ما أتى به القرآن ولا يتعدون نطاقه ولا يلتفتون إلى ما يقوله القصاص الذين زادوا فيه كلاما دخيلا عليه من الاسرائيليات وخلافها.

التفسير القائم على اللغة ومعاجمها اللغوية: إن معرفة اللغة العربية هى بلا شك الاساس في فهم القرآن لان الالفاظ القرآنية في ذاتها هى الوعاء له وهى أداة التعبير عن معانى القرآن وأهدافه ولا يمكن الاستغناء عن معرفتها، ومعلوم أن القبائل العربية وقت نزول القرآن لم تكن موحدة اللغة أو اللهجة بل كانت لكل قبيلة ألفاظها وتعابيرها الخاصة بها في إطار اللغة العربية العام، وقد امتازت قبيلة قريش بأنها وسط بين هذه اللغات واللهجات ولذا أنزل القرآن بها لانها أقومها لسانا، وأعذبها بيانا، ولذلك كانت لغة القرآن هى أصح وأدق الاصول اللغوية والبيانية وصارت هى المقياس والميزان لكل ما يراد الاستشهاد على صحة عربيته.

وقد اتجهت عناية المسلمين وغيرهم من المستشرقين إلى دراسة مفردات القرآن الكريم وشرحها ووضع المعاجم والفهارس لالفاظه الغريب منها وغير الغريب للدلالة على معانيها لان القرآن أتى بألفاظ جديدة لم تكن معروفة ولا مألوفة قبل

٣٦

الاسلام ولها مدلولات خاصة مثل كلمات الشرك والنفاق والصور والحشر والاعراف والصراط والعرش والكرسى وغيرها مما لا عهد للعرب بها، وقد وضح النبى معانيها بجلاء للصحابة وغيرهم، وقد استعمل القرآن ألفاظا من لغات أخرى مثل كلمات الجبت وحصب وأرائك وهى ألفاظ حبشية، وكلمات السجل والسرادق وزنجبيل وهى ألفاظ معربة من الفارسية، وكلمات قسط والرقيم والدراهم وفردوس وهى كلمات رومية الاصل، وكلمات صلوات ولينا وفوم وهى من أصل عبرى، وأمثال هذه الكلمات الغربية أصلا والدخيلة على اللغة العربية لابد لها من معاجم تبين المقصود منها، هذا مع ملاحظة أن أمما كثيرة غير عربية دخلت الاسلام وهى لا تعرف العربية كما أن عامة المسلمين الذين لم ينالوا قسطا كافيا من الثقافة بحاجة شديدة إلى فهم معانى الالفاظ القرآنية من المعاجم اللغوية التى هى خير وسيلة لشرحها.

مرحلة التفسير بالرأى

وهو التفسير القائم على اجتهاد التابعين للصحابة ومن جاء بعدهم من العلماء الاتقياء ذوى الفطن وهم الذين اتخذوا من سعة علومهم باللغة وإلمامهم بأصول الشريعة وفهمهم لروح الدعوة الاسلامية اتخذوا من ذلك وسيلة للتمحيص والتخريج واستنباط آراء وشروح مفصلة لقضايا وردت في القرآن بطريق الاشارة إليها أو الاجمال لها، وقد فتح ذلك باب التفكر والتدبر في آيات الله وعدم الاقتصار على ظواهرها وعلى آراء السلف فقط في تفسيرها بل حاولوا الاجتهاد والتعمق في فهمها واستخراج المعانى الدقيقة المنطوية عليها بحيث لا يخالف هذا الاجتهاد روح الشريعة وأهدافها.

وكان أول من استعمل رأية في التفسير الامام بن جرير الطبرى وذلك بعد

٣٧

استعراضه لمختلف التفاسير في زمنه وتمحيصها وترجيح بعضها على بعض وإيداء رأيه الخاص مستعينا في ذلك باللغة وأسرارها وبمعرفته لتقاليد العرب وآدابهم وثقافته الواسعة في فهم طبائع الاشياء، وقد سلك مسلكه الامام الزمخشرى ومن جاء بعده ممن استعملوا عقولهم وخبراتهم وعلومهم في تفسيرهم القرآن، وكذلك فعل أئمة المذاهب الاربعة في تمحيص القرآن وفهمه واستنباط الاحكام منه.

وقد أجاز هذا التفسير بالرأى الامام الغزالى وغيره ما دام الرأى لا يخالف القرآن ولا يعارض السنة النبوية ويحقق ما أمر به الله في قوله تعالى في سورة محمد آية ٢٤:( أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ؟ ) وفى هذا تحريض على التدبر والتفكر في القرآن بقلوب مفتوحة وعقول مستنيرة غير مغلقة.

وأنه على الرغم من الدعوة إلى تعقل آيات الله والتعمق في معانيها إلا أن هناك من المحاذير ما يمنع بل يحرم تحريما باتا استعمال الرأى إذا كان هذا الرأى نابعا عن هوى شخصى في نفس المفسر ما يتنافى مع الشرع ويأباه العرف، أو كان رأيا صادرا عن تحميل الآيات ما لا تتحمله لاقرار مذهب معين يتعصب له المفسر ويقحمه إقحاما لا مبرر له أصلا في نصوص الآيات لان ذلك يفتح أمام القلوب المريضة المجالات للتهجم على القرآن بما لم ينزل به الله سلطانا.

ولئن كان بعض العلماء أجاز التفسير بالرأى والتأويل استنادا إلى دعاء النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابن عباس بأن يفقههه الله في الدين ويعلمه التأويل إلا أن ذلك التوسع في التأويل قد فتح باب الشطط في التخيل والتصور وأوقع الكثير من المؤولين في مزالق خطيرة في فهم الآيات وتحميلها معانى بعيدة عنها ومن ذلك

٣٨

ما يفسر به الشيعة بعض الآيات على هواهم لاعتقادهم بأن للقرآن ظاهرا وباطنا وأن الباطن له عدة بواطن لا يعرفها حق المعرفة إلا الامام المعصوم الذى يعتقدون أنه يوحى إليه وأنه يسمع الكلام الموحى به ولكنه لا يرى من يكلمه.

ومن أمثلة تفاسيرهم وتأويلاتهم ما ورد مرويا عن الامام الباقر في شرح قوله تعالى:(من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون، ومن جاء بالسيئة فكبت وجوهم في النار) أنه فسر الحسنة بأنها هى معرفة الامام وحب آل البيت وأن السيئة هى إنكار الامام وبغض آل البيت، وكذلك ما روى عن جعفر الصادق في قوله:(فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) أنه فسرها بأن أعمال الناس تعرض على الائمة من آل البيت.

وقد كان هناك فريق من علماء المسلمين يستمعون إلى ما يقوله أهل الكتاب من اليهود والنصارى نقلا عن كتبهم المقدسة فيصدقونها ويعتمدون عليها في تفسيرهم للقرآن، والحقيقة أن كتب أهل الكتاب وتفسيرها قد دخلها التحريف والتغيير على يد رجال الدين السابقين الذين حرفوها ودسوا فيها ما ليس منها طعما في حطام الدنيا أو إرضاء للحكام كما أنها عندما ترجمت من لغاتها الاصلية إلى اللغات الاخرى فقدت الكثير من حقائقها ومعانيها الاصلية، وذلك علاوة على ما خالط تفسير هذه الكتب من أساطير وخرافات وإسرائيليات كان خليقا بعلماء المسلمين الذين اعتمدوا عليها ألا يركنوا إليها ويحشروها في تفاسيرهم وفاتهم أن المقصود من هذه الاسرائيليات هو الافتراء على الدين الاسلامى بما هو براء منه ونتج عن ذلك تحقيق ما أراده أعداء الاسلام من البلبلة والتضليل، ومن أمثلة ذلك ما جاء في تفسر الثعالبى وغيره.

وكان الاحرى بالعلماء القدامى الذين عاشوا في العصور المضطربة إجتماعيا والمتأخرة عقليا أن يتنبهوا إلى ما جاء في كتاب الله من الحض على فهم القرآن

٣٩

والتدبر في الآيات ومعانيها بفكر قويم وعقل سليم غير متأثر بترهات أو فلسفات دخيلة على الاسلام من معتقدات الامم التى دخلت في الاسلام وخلطوا عقائدهم ومبادئهم الخاطئة ومفاهيمهم المنكرة في ساحة الاسلام النقية الخالية من الخرافات.

لماذا تتفاوت تفاسير القرآن

إن تراث التفاسير الذى خلفه السلف يختلف بعضه عن بعض في اتجاهاتها ومشاربها إختلافا واضحا، ومنشأ ذلك هو إختلاف مصادر الثقافة التى تأثر بها أصحاب هذه التفاسير، فمن غلبت عليه النزعة الدينية توسع في شرح العقيدة وأركان الاسلام، ومنهم من غلبت عليه الناحية اللغوية من بلاغة وبيان فأولى هذه الابحاث اهتمامه في تفسيره منهم من غلبت عليه النزعة الفقهية التشريعية فانصرف إلى استنباط الاحكام والقوانين الدينية في المعاملات والحقوق والواجبات ومنهم من تعلقت نفسه بالعبادة والتصوف والنظر إلى الحياة الدنيا يعين الزهد فيها والتأمل في تقلباتها والاعتبار بصرفها فاجتهد في تفسير الآيات على منهج الوعظ والتذكير بخشية الله والعمل على مرضاته والاخلاص في طاعته.

وبعض التفاسير القديمة مليئة بالكثير من الآراء التى لا تخلو من الخطأ والصواب والراجح منها والمرجوح والقوى والضعيف، كما أن بعض المفسرين قديمهم حديثهم لهم في تفسير الآيات آراء متعددة ومتشعبة، وقد تكون للآية الواحدة في نظرهم عدة وجوه مختلفة، وواجب المفسر في العصر الحديث أن يمحص ويقارن بين هذه الآراء ويكشف عن الآراء الضعيفة منها ليبين عوامل الضعف والخطأ فيها، وقد يقتضى الامر البحث عن رأى آخر أقرب للحق والصواب دون مجافاة أو معارضة لنصوص الدين ومنهجه ولا بأس من الاستعانة بكل ما هو صحيح تماما من القوانين العلمية.

٤٠