اقتصادنا

اقتصادنا5%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156239 / تحميل: 9813
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

اقتصادنا

محمد حسين الزين

١

صدر، محمد باقر، ١٩٣١ ـ ١٩٧٩م. Sadr, Muhammd, Bagir

اقتصادنا / تأليف محمد باقر الصدر؛ تحقيق المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر. قم: پژوهشگاه علمى تخصصى شهيد صدر، ١٤٢٤ ق. ـ ٢٠٠٤م = ١٣٨٢.

٩١٢ ص ـ (تراث الشهيد الصدر؛ ٣) ISBN ٩٦٤-٥٨٦٠-٢٦-١

عربى.

فهرستنويسى بر اساس اطلاعات فيپا.

كتاب حاضر تحت عنوان كنگره بين المللى آيت الله العظمى شهيد صدرقدس‌سره منتشر شده است.

چاب قبلى: الحوزه العلميه قم ، مكتب الإعلام الإسلامى، مركز النشر، ١٣٧٥.

كتابنامه: ص٩٠٠ ـ ٩١٢؛ همچنين به صورت زيرنويس.

١. اسلام واقتصاد. ٢. اقتصاد تطبيقى. الف. پژوهشگاه علمى تخصص شهيد صدر ب. كنگره بين المللى آيت الله العظمى شهيد صدرقدس‌سره . (نخستين ١٣٧٩: تهران).

٧ الف ٤ ص / ٢ / ٢٣٠ BP ٤٨٣٣ / ٢٩٧ ١٣٨٢

كتابخانه ملّى إيران ٣٤١٢١ ـ ٨٢م

٢

كلمة المؤتمر :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين .

منذ منتصف القرن العشرين ، وبعد ليل طويل نشر أجنحته السوداء على سماء الأُمّة الإسلامية لعدّة قرون ، فلفّها في ظلام حالك من التخلّف والانحطاط والجمود ، بدأت بشائر الحياة الجديدة تلوح في أُفق الأُمّة ، وانطلق الكيان الإسلامي العملاق ـ الذي بات يرزح تحت قيود المستكبرين والظالمين مدى قرون ـ يستعيد قواه حتى انتصب حيّاً فاعلاً قويّاً شامخاً بانتصار الثورة الإسلاميّة في إيران تحت قيادة الإمام الخمينيقدس‌سره يقضّ مضاجع المستكبرين ، ويبدّد أحلام الطامعين والمستعمرين .

ولئن أضحت الأُمّة الإسلاميّة مدينة في حياتها الجديدة على مستوى التطبيق للإمام الخمينيقدس‌سره فهي بدون شك مدينة في حياتها الجديدة على المستوى الفكري والنظري للإمام الشهيد الصدرقدس‌سره ، فقد كان المنظّر الرائد بلا منازع للنهضة الجديدة ؛ إذ استطاع من خلال كتاباته وأفكاره التي تميّزت بالجِدة والإبداع من جهة ، والعمق والشمول من جهة أُخرى ، أن يمهّد السبيل للأُمّة ويشقّ لها الطريق نحو نهضة فكرية إسلاميّة شاملة ، وسط ركام هائل من التيّارات الفكرية المستوردة التي تنافست في الهيمنة على مصادر القرار الفكري والثقافي في المجتمعات الإسلاميّة ، وتزاحمت للسيطرة على عقول مفكّريها وقلوب أبنائها المثقّفين .

لقد استطاع الإمام الشهيد السيّد محمّد باقر الصدرقدس‌سره بكفاءةٍ عديمة النظير أن ينازل بفكره الإسلامي البديع عمالقة الحضارة المادّية الحديثة ونوابغها الفكريّين ، وأن يكشف للعقول المتحرّرة عن قيود التبعيّة الفكريّة والتقليد الأعمى زيف الفكر الإلحادي ، وخواء الحضارة المادّية في أُسسها العقائديّة، ودعائمها النظريّة، وأن يثبت فاعليّة الفكر الإسلامي وقدرته العديمة النظري على حلّ مشاكل المجتمع الإنساني المعاصر، والاضطلاع بمهمّة إدارة الحياة الجديدة بما يضمن للبشريّة السعادة والعدل والخير والرفاه .

٣

ثمّ إنّ الإبداع الفكري الذي حقّقته مدرسة الإمام الشهيد الصدر لم ينحصر في إطار معيّن ، فقد طال الفكر الإسلامي في مجاله العام ، وفي مجالاته الاختصاصيّة الحديثة كالاقتصاد الإسلامي والفلسفة المقارنة والمنطق الجديد ، وشمل الفكر الإسلامي الكلاسيكي أيضاً ، كالفقه والأُصول والفلسفة والمنطق والكلام والتفسير والتأريخ ، فأحدث في كل فرع من هذه الفروع ثورةً فكريّة نقلت البحث العلمي فيه إلى مرحلة جديدة متميّزة سواء في المنهج أو المضمون .

ورغم مضيّ عقدين على استشهاد الإمام الصدر ، ما زالت مراكز العلم ومعاهد البحث والتحقيق تستلهم فكره وعلمه ، وما زالت الساحة الفكريّة تشعر بأمسّ الحاجة إلى آثاره العلميّة وإبداعاته في مختلف مجالات البحث والتحقيق العلمي .

ومن هنا كان في طليعة أعمال المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر إحياء تراثه العلمي والفكري بشكل يتناسب مع شأن هذا التراث القيّم .

وتدور هذه المهمّة الخطيرة ـ مع وجود الكمّ الكبير من التراث المطبوع للشهيد الصدر ـ في محورين :

أحدهما : ترجمته إلى ما تيسّر من اللغات الحيّة بدقّة وأمانة عاليتين .

والآخر : إعادة تحقيقه للتوصّل إلى النصّ الأصلي للمؤلّف منزّهاً من الأخطاء التي وقعت فيه بأنواعها من التصرّف والتلاعب والسقط نتيجة كثرة الطبعات وعدم دقّة المتصدّين لها وأمانتهم ، ثمّ طبعه من جديد بمواصفات راقية.

ونظراً إلى أنّ التَّرِكة الفكرية الزاخرة للسيّد الشهيد الصدرقدس‌سره شملت العلوم والاختصاصات المتنوّعة للمعارف الإسلامية وبمختلف المستويات الفكريّة ، لذلك أوكل المؤتمر العالمي للشهيد الصدر مهمّة التحقيق فيها إلى لجنة علمية تحت إشراف علماء متخصّصين في شتّى فروع الفكر الإسلامي من تلامذته وغيرهم ، وقد وُفّقت اللجنة في عرض هذا التراث بمستوى رفيع من الإتقان والأمانة العلميّة ، ولخّصت منهجيّة عملها بالخطوات التالية :

١ ـ مقابلة النسخ والطبعات المختلفة .

٢ ـ تصحيح الأخطاء السارية من الطبعات الأُولى أو المستجدة في الطبعات اللاحقة ، ومعالجة موارد السقط والتصرّف

٤

٣ ـ تقطيع النصوص وتقويمها دون أدنى تغيير في الأُسلوب والمحتوى ، أمّا الموارد النادرة التي تستدعي إضافة كلمة أو أكثر لاستقامة المعنى فيوضع المضاف بين معقوفتين .

٤ ـ تنظيم العناوين السابقة ، وإضافة عناوين أُخرى بين معقوفتين .

٥ ـ استخراج المصادر التي استند إليها السيّد الشهيد بتسجيل أقربها غلى مرامه وأكثرها مطابقة مع النصّ ؛ ذلك لأنّ المؤلّف يستخدم النقل بالمعنى ـ في عددٍ من كتبه وآثاره ـ معتمداً على ما اختزنته ذاكرته من معلومات أو على نوع من التلفيق بين مطالب عديدة في مواضع متفرّقة من المصدر المنقول عنه ، وربّما يكون بعض المصادر مترجماً وله عدّة ترجمات ؛ ولهذا تُعدّ هذه المرحلة من أشقّ المراحل .

٦ ـ إضافة بعض الملاحظات في الهامش للتنبيه على اختلاف النسخ أو تصحيح النصّ أو غير ذلك ، وتُختم هوامش السيّد الشهيد بعبارة (المؤلّفقدس‌سره ) تمييزاً لها عن هوامش التحقيق .

وكقاعدة عامّة ـ لها استثناءات في بعض المؤلّفات ـ يُحال الابتعاد عن وضع الهوامش التي تتولّى عرض مطالب إضافيّة أو شرح وبيان فكرةٍ ما أو تقييمها ودعمها بالأدلّة أو نقدها وردّها .

٧ ـ تزويد كلّ كتاب بفهرس موضوعاته ، وإلحاق بعض المؤلّفات بثبت خاص لفهرس المصادر الواردة فيها .

وقد بسطت الجهود التحقيقيّة ذراعيها على كلّ ما أمكن العثور عليه من نتاجات هذا العالم الجليل ، فشملت كتبه ، وما جاد به قلمه مقدمةً أو خاتمةً لكتب غيره ثمّ طُبع مستقلاًّ في مرحلة متأخرة ، ومقالاته المنشورة في مجلاّت فكريّة وثقافيّة مختلفة ، ومحاضراته ودروسه في موضوعات شتّى ، وتعليقاته على بعض الكتب الفقهيّة ، ونتاجاته المتفرّقة الأُخرى ، ثمّ نُظّمت بطريقة فنّية وأُعيد طبعها في مجلّدات أنيقة متناسقة .

والكتاب الذي بين يدي القارئ الكريم ( اقتصادنا ) كتبه السيّد الشهيد تلبيةً للضرورة الإسلاميّة والحاجة المُلحّة التي برزت في الساحة بعد الغزو الفكري الذي شنّته الحضارة الغربيّة والشرقيّة على الأُمّة الإسلامية ، فوُجد في أبنائها من يأخذ بتلك الأفكار والقيم ويتأثّر بها بحرارة وشغف ، فتصدّى الإمام الصدر في كتابه هذا ـ مضافاً غلى بعض كتاباته الأُخرى ـ لنسف أُسس المدرستين الرأسمالية والماركسيّة ومناقشة مذهبيهما بدقّة علميّة عالية ، وعرض النظريّة الاقتصاديّة في الإسلام .

٥

كانت هذه المحاولة هي البداية الراسخة في مجال التأسيس العلمي للاقتصاد الإسلامي .

يقول الأُستاذ الدكتور محمّد المبارك وهو بصدد الحديث عن الدراسات التي أُنجزت في ميدان الاقتصاد الإسلامي :

( ٤ ـ اقتصادنا للبحّاثة الإسلامي المفكّر السيّد محمّد باقر الصدر ، وهو أوّل محاولة علميّة فريدة من نوعها لاستخراج نظريّة الإسلام الاقتصاديّة من أحكام الشريعة من خلال استعراضها استعراضاً تفصيليّاً بطريقةٍ جمع فيها بين الأصالة الفقهيّة ومفاهيم علم الاقتصاد ومصطلحاته ، وقد جعل المؤلّف كتابه في جزأين كبيرين ، خصّص أوّلهما لعرض المذهبين الرأسمالي والماركسي ومناقشتهما ونقدهما نقداً علميّاً ، والثاني لاستخراج معالم النظريّة الإسلاميّة في الاقتصاد )(١) .

وعلى الرغم من كون هذه المبادرة تأسيسيّة وبدائيّة على حدّ تعبير السيّد الشهيد إلاّ أنّها ظلّت ـ وإلى يومنا هذا ـ أحدث دراسة في مجال الاقتصاد الإسلامي بعد مرور أكثر من أربعة عقود على كتابتها ، وهي ما زالت تنتظر العقول

ـــــــــــــــ

(١) نظام الإسلام ، الاقتصاد ، مبادئ وقواعد : ١٧.

٦

المفكّرة والطاقات الإسلاميّة لمواصلة الطريق الذي فتحه السيّد الشهيد الصدر وإتمام مشروعه في الكشف عن سائر جوانب نظريّة الإسلام في الاقتصاد .

وفي مجال تحقيق المؤتمر للكتاب لا بدّ من التذكير بالنقاط التاليّة :

١ ـ قُسّم الكتاب إلى قسمين : الكتاب الأوّل والكتاب الثاني ؛ وذلك لورود هذا التعبير مراراً في كلام السيّد المؤلّف عن الكتاب .

٢ ـ تمّت المقابلة الدقيقة بين الطبعات المختلفة للكتاب ، فكانت هناك أخطاء تسرّبت إلى بعض الطبعات بادرت اللجنة إلى تصحيحها ، وحصل تقديم وتأخير خاطئين في بعض المقاطع ، فأُعيد ترتيبه الصحيح ، كما أخذت اللجنة بعين الاعتبار ما أضافه السيّد المؤلّف من كلام في أثناء البحث ، ومن تعديلات لفظيّة طفيفة في الطبعات المتأخّرة ، واكتُشفت من خلال هذه المقابلة أُمور مهمّة أُخرى سيتمّ الحديث عنها في النقاط التالية .

٣ ـ يبدو أنّ السيّد المؤلّفقدس‌سره لم يوثّق الأحكام الفقهيّة غالباً في الطبعات الأُولى للكتاب إلاّ بآراء فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وقلّما يعرض الفتاوى السنّية في هذا المجال وقد اغتنم فرصةً بعد ذلك في الطبعات اللاحقة ، فأكثر من تأييد الأحكام الفقهيّة بفتاوى من كبار علماء السنّة أيضاً(١) .

ـــــــــــــــ

(١) ولعلّ هذه الخطوة من المؤلّف كانت علاجاً للملاحظة التي أبداها الأُستاذ محمّد المبارك على منهجيّة الكتاب. إذ قال: (وحبّذا لو أنّ المؤلّف لم يقتصر في الآراء الفقهيّة التي استند إليها على المذهب الجعفري وحده كما فعل غالباً وجعله شاملاً للمذاهب الفقهيّة الأُخرى ، إذن لكانت الصورة أكمل وأتمّ ، وإن كان هذا لا ينقص من قيمة الكتاب باعتباره معبّراً عن النظريّة الإسلاميّة ؛ لاشتراك المذاهب كلّها في هذه الآراء اشتراكاً يكاد يكون تامّاً ، ولكنّ توسيع الإطار له دلالته البعيدة وأثره المفيد ) ( نظام الإسلام ، الاقتصاد ، مبادئ وقواعد عامّة : ١٧ ) .

٧

وبدهيٌ أنّ اللجنة أثبتت هذه الإضافات ـ كسائرها ـ في تحقيقها للكتاب .

٤ ـ كتب المؤلّف مقدّمةً للكتاب الثاني طُبعت في بعض الطبعات(١) ، ولم تثبّت في الطبعات المتأخّرة ، ولم تعرف اللجنة سبب ذلك والمقدّمة تحتوي على ما يتعلّق بمنهجيّة المؤلّف في بحوث الكتاب الثاني من إشارات مهمّة ذُكر بعضها في مقدّمة الطبعة الأُولى ، ولكنّها على الرغم من ذلك تشتمل على فوائد قيّمة أُخرى دعت اللجنة لإدراجها في هذه الطبعة المحقّقة .

٥ ـ اضطربت الطبعات المختلفة للكتاب في ضبط ملاحقه ، فحذف بعضها وحصل اشتباه في تحديد مواقع سائرها فحقّقت اللجنّة النظر في ذلك ، وأثبتت المحذوف منها ، وأعادت المثبتة إلى مواقعها الصحيحة .

كما أنّ هناك ملحقاً ظفرت اللجنة به يعود موضوعه إلى( مبحث الجُعالة في كتاب اقتصادنا ) لم يطبع ضمن الكتاب في كلّ طبعاته ، فأدرجته في هذه الطبعة حرصاً على إتمام الفائدة .

٦ ـ قامت اللجنة بمحاولة واسعة لاستخراج النصوص المنقولة في الكتاب من مصادرها ، سواء في عرض الاقتصاد الماركسي والرأسمالي أو في شرح الاقتصاد الإسلامي ، كما أنّها أحالت القرّاء الراغبين في تحقيق البحوث إلى المصادر المناسبة الموضّحة للبحث .

وأدرجت اللجنّة أسماء المصادر ـ بما فيها المصادر الحديثيّة والفقهيّة ـ

ـــــــــــــــ

(١) راجع طبعة دار الفكر سنة ١٩٧٣م.

٨

كاملة لكي تحدّد وتعرف حتّى لدى غير المختصّين (١) .

ولا يفوتنا أن نشيد بالموقف النبيل لورثة السيّد الشهيد كافّة ، سيّما نجله البارّ (سماحة الحجّة السيّد جعفر الصدر حفظه الله) في دعم المؤتمر وإعطائهم الإذن الخاصّ في نشر وإحياء التراث العلمي للشهيد الصدرقدس‌سره .

وأخيراً نرى لزاماً علينا أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى اللجنة المشرفة على تحقيق تراث الإمام الشهيد ، والعلماء والباحثين كافّة الذين ساهموا في إعداد هذا التراث وعرضه بالأُسلوب العلمي اللائق ، سائلين المولى عزّ وجلّ أن يتقبّل جهدهم ، وأن يمنّ عليهم وعلينا جميعهاً بالأجر والثواب ، إنّه سمع مجيب .

ـــــــــــــــ

(١) وبهذا عولجت الملاحظة الثانية التي سجّلها الأُستاذ محمّد المبارك على الكتاب ، حيث قال: ( وثمّة أمر آخر ، فإنّ المؤلّف ـ حفظه الله ـ حين يذكر مصادره ومراجعه يذكرها بأسمائها المختصرة المعروفة عند أهل المذهب ، كأن يذكر كتاب التحرير أو الإرشاد أو الإيضاح... ) ( نظام الإسلام ، الاقتصاد ، مبادئ وقواعد عامّة : ١٧ ) .

المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدرقدس‌سره

أمانة الهيئة العلميّة

٩

[ مقدّمة الطبعة الثانية ]

بسم الله الرحمن الرحيم

يسرّني أن أقدّم للطبعة الثانية لكتاب (اقتصادنا ) وقد ازددت إيماناً واقتناعاً بأنّ الأمّة قد بدأت فعلاً تنفتح على رسالتها الحقيقية التي يمثلّها الإسلام ، وتدرك بالرغم من ألوان التَضليل الاستعماري أنّ الإسلام هو طريق الخلاص ، وأنّ النظام الإسلامي هو الإطار الطبيعي الذي يجب أن تحقّق حياتها و تفجّر طاقاتها ضمنه و تنشئ كيانها على أساسه.

وقد كان بودّي أن تتاح لي فرصة للتوسّع في بعض مواضيع الكتاب ، وتسليط المزيد من الأضواء على عدد من النقاط التي تناولها ، ولكنّي إذ لا أجد الآن مجالاً للحديث عن بحوث الكتاب فلن أدع هذه المناسبة دون كلمة عن موضوع الكتاب ذاته ، وصلة هذا الموضوع الخطير بحياة الأمّة ومشاكلها وأهمّيتها المتنامية على مرّ الزمن على الصعيد الإسلامي والصعيد البشري على السواء

فالأمّة على الصعيد الإسلامي وهي تعيش جهادها الشامل ضدّ تخلّفها وانهيارها ، وتحاول التحرّك السياسي والاجتماعي نحو وجود أفضل وكيان أرسخ واقتصاد أغنى وأرفه ، سوف لن تجد أمامها عقيب سلسلة من محاولات الخطأ والصواب إلاّ طريقاً واحداً للتحرّك ، وهو التحرّك في الخط الإسلامي ، ولن تجد إطاراً تضع ضمنه حلولها لمشاكل التخلّف الاقتصادي سوى إطار النظام الاقتصادي في الإسلام

والإنسانية على الصعيد البشري ، وهي تقاسي أشدّ ألوان القلق والتذبذب بين تيّارين عالَميَّين ملغّمين بقنابل الذرّة والصواريخ ووسائل الدمار ، لن تجد لها خلاصاً إلاّ على الباب الوحيد الذي بقي مفتوحاً من أبواب السماء ، وهو الإسلام ولنأخذ في هذه المقدّمة الصعيد الإسلامي بالحديث .

١٠

على الصعيد الإسلامي :

حينما أخذ العالم الإسلامي ينفتح على حياة الإنسان الأوروبي ويذعن لإمامته الفكرية وقيادته لموكب الحضارة بدلاً عن إيمانه برسالته الأصيلة وقيمومَتها على الحياة البشرية ، بدأ يدرك دوره في الحياة ضمن إطار التقسيم التقليدي لبلاد العالم الذي درج عليه الإنسان الأوروبي ، حين قسّم العالم على أساس المستوى الاقتصادي للبلد وقدرته المنتجة إلى : بلاد راقية اقتصادياً ، وبلاد فقيرة أو متخلّفة اقتصادياً وكانت بلاد العالم الإسلامي كلّها من القسم الثاني ، الذي كان يجب عليه ، في منطق الإنسان الأوروبي ، أن يعترف بإمامة البلاد الراقية ويفسح المجال لها لكي تنفُث روحها فيه ، وتخطط له طريق الارتفاع

وهكذا دشّن العالم الإسلامي حياته مع الحضارة الغربية بوصفه مجموعة من البلاد الفقيرة اقتصادياً ، ووعى مشكلته على أساس أنّها هي التخلّف الاقتصادي عن مستوي البلاد المتقدّمة الذي أتاح لها تقدّمها الاقتصادي زعامة العالم ، ولقّنته تلك البلاد المتقدمة أنّ الأسلوب الوحيد للتغلّب على هذه المشكلة والالتحاق بركب البلاد المتقدّمة ، هو اتّخاذ حياة الإنسان الأوروبي تجربة رائدة وقائدة وترسّم خطوات هذه التجربة لبناء اقتصاد كاملٍ شاملٍ قادرٍ على الارتفاع بالبلاد الإسلامية المتخلّفة إلى مستوى الشعوب الأوروبية الحديثة

وقد عبّرت التبعية في العالم الإسلامي لتجربة الإنسان الأوروبي الرائد للحضارة الحديثة عن نفسها بأشكالٍ ثلاثة مترتبة زمنياً ، ولا تزال ـ هذه الأشكال الثلاثة ـ متعاصرة في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي .

الأوّل : التبعية السياسية التي تمثّلت في ممارسة الشعوب الأوروبية الراقية اقتصادياً حكم الشعوب المتخلّفة بصورة مباشرة .

الثاني : التبعية الاقتصادية التي رافقت قيام كيانات حكومية مستقلّة من الناحية السياسية في البلاد المتخلّفة ، وعبّرت عن نفسها في فسح المجال للاقتصاد الأوروبي لكي يلعب على مسرح تلك البلاد بأشكال مختلفة ويستثمر موادها الأولية ويملأ فراغاتها برؤوس أموال أجنبية ، ويحتكر عدداً من مرافق الحياة الاقتصادية فيها بحجّة تمرين أبناء البلاد المتخلّفين على تحمّل أعباء التطوير الاقتصادي لبلادهم .

١١

الثالث : التبعية في المنهج التي مارستها تجارب عديدة في داخل العالم الإسلامي ، حاولت أن تستقل سياسياً وتتخلّص من سيطرة الاقتصاد الأوروبي اقتصادياً وأخذت تفكّر في الاعتماد على قدرتها الذاتية في تطوير اقتصادها والتغلّب على تخلّفها ، غير أنّها لم تستطع أن تخرج في فهمها لطبيعة المشكلة التي يجسدها تخلّفها الاقتصادي عن إطار الفهم الأوروبي لها فوجدت نفسها مدعوة لاختيار نفس المنهج الذي سلكه الإنسان الأوروبي في بنائه الشامخ لاقتصاده الحديث

وبالرغم من اختلافات نظرية كبيرة نشأت بين تلك التجارب خلال رسم المنهج و تطبيقه ، فإنّ هذه الاختلافات لم تكن دائماً إلاّ اختلافاً حول اختيار الشكل العام للمنهج من بين الأشكال المتعدّدة التي اتّخذها المنهج في تجربة الإنسان الأوروبي الحديث ، فاختيار المنهج الذي سلكته التجربة الرائدة للإنسان الأوروبي الحديث كان موضع وفاق ؛ لأنّه ضريبة الأمانة الفكرية للحضارة الغربية ، وإنما الخلاف في تحديد شكل واحد من أشكالها

وتواجه التجارب الحديثة للبناء الاقتصادي في العالم الإسلامي ـ عادة ـ شكلين لتجربة البناء الاقتصادي في الحضارة الغربية الحديثة ، وهما : الاقتصاد الحرّ القائم على أساس رأسمالي ، والاقتصاد المخطط القائم على أساس اشتراكي فإنّ كلاًّ من هذين الشكلين قد عاش تجربة ضخمة في بناء الاقتصاد الأوروبي الحديث .

والصيغة التي طرحت للبحث على مستوي التطبيق في العالم الإسلامي على الأكثر : ما هو الشكل الأجدر بالأتباع من هذين الشكلين ، وأقدر على إنجاح كفاح الأمة ضدّ تخلّفها الاقتصادي وبناء اقتصاد رفيع على مستوى العصر ؟

و كان الاتّجاه الأقدم حدوثاً في العالم الإسلامي يميل إلى اختيار الشكل الأوّل للتنمية وبناء الاقتصاد الداخلة للبلاد ، أي : الاقتصاد الحر القائم على أساس رأسمالي ؛ نتيجة لأنّ المحور الرأسمالي للاقتصاد الأوروبي كان أسرع المحورين للنفوذ إلى العالم الإسلامي واستقطابه كمراكز نفوذ

١٢

وعبر صراع الأمّة سياسياً مع الاستعمار ومحاولتها التحرّر من نفوذ المحور الرأسمالي ، وجدت بعض التجارب الحاكمة أنّ النقيض الأوروبي للمحور الرأسمالي هو المحور الاشتراكي ، فنشأ اتجاه آخر يميل إلى اختيار الشكل الثاني للتنمية ، أي : التخطيط القائم على أساس اشتراكي ؛ نتيجة للتوفيق بين الإيمان بالإنسان الأوروبي كرائد للبلاد المتخلّفة ، وواقع الصراع مع الكيان السياسي للرأسمالية ، فما دامت تبعية البلاد المتخلّفة للبلاد الراقية اقتصادي تفرض عليها الإيمان بالتجربة الأوروبية كرائد ، وما دام الجناح الرأسمالي من هذه التجربة يصطدم مع عواطف المعركة ضدّ الواقع الاستعماري المعاش ، فليؤخذ بالتخطيط الاشتراكي بوصفه الشكل الآخر للتجربة الرائدة .

ولكلّ من الاتجاهين أدلّته التي يبرّر بها وجهة نظره ؛ فالاتجاه الأوّل يبرّر عادة التقدّم العظيم الذي حصلت عليه الدول الأوروبية الرأسمالية ، وما أحرزته من مستويات في الإنتاج والتصنيع نتيجة لانتهاج الاقتصاد الحرّ كأُسلوب للتنمية ، و يضيف إلى ذلك : أنّ بإمكان البلاد المتخلفة إذا انتهجت نفس الأسلوب وعاشت نفس التجربة أن تختصر الطريق وتقفز في زمن أقصر إلى المستوى المطلوب من التنمية الاقتصادية ؛ لأنّها سوف تستفيد من خبرات التجربة الرأسمالية للإنسان الأوروبي وتستخدم كل القدرات العلمية الناجزة التي كلّفت الإنسان الأوروبي مئات السنين حتى ظفر بها

والاتجاه الثاني يفسّر اختياره للاقتصاد المخطّط على أساس اشتراكي بدلاً عن الاقتصاد الحرّ بأنّ الاقتصاد الحرّ إن كان قد استطاع أن يحقّق للدول الأوروبية الرائدة في العالم الرأسمالي مكاسب كبيرة وتقدّماً مستمراً في التكنيك والإنتاج ونمواً متزايداً للثروة الداخلية للبلاد ، فليس بالإمكان أن يؤدّي دوراً مماثلاً للبلاد المتخلّفة اليوم ؛ لأنّ البلاد المتخلّفة تواجه اليوم تحدّياً اقتصادياً هائلاً يمثّله التقدّم العظيم الذي أحرزته دول الغرب ، وتقابل إمكانات هائلة منافسة لا حدّ لها على الصعيد الاقتصادي ، بينما لم تكن الدول المتقدّمة فعلاً تواجه هذا التحدّي الهائل ، وتقابل هذه الإمكانات المنافسة حين بدأت عملية التنمية الاقتصادية وشنّت حربها ضدّ أوضاع التخلّف الاقتصادي ، واتخذت من الاقتصاد الحرّ منهجاً وأسلوباً ، فلا بدّ للبلاد المتخلّفة اليوم من تعبئة كلّ القوى والطاقات لعملية التنمية الاقتصادية بصورة سريعة ومنظّمة في نفس الوقت ، وذلك عن طريق الاقتصاد المخطّط القائم على أساس اشتراكي .

١٣

ويعتمد كلّ من الاتجاهين في تفسيره لِما يمنى به من فشل في مجال التطبيق على الظروف المصطنعة التي يخلقها المستعمرون في المنطقة لكي يعرقلوا فيه عمليات النمو ، ولا يسمح لنفسه على أساس ذلك أن يفكّر حين الإحساس بالفشل في أيّ منهج بديلٍ للشكلين التقليديّين اللذين اتخذتهما التجربة الأوروبية الحديثة في الغرب والشرق ، بالرغم من وجود بديل جاهز لا يزال يعيش نظرياً وعقائدياً في حياة الأمّة وإن كان منعزلاً عن مجال التطبيق ، وهو المنهج الإسلامي والنظام الاقتصادي في الإسلام

و أنا لا أريد هنا أن أقارن بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي من وجهة نظر اقتصادية مذهبية ؛ فإنّ هذا ما أتركه للكتاب نفسه ، فقد قام كتاب( اقتصادنا ) بدراسة مقارنة بهذا الصدد ، وإنّما أريد أن أُقارن بين الاقتصاد الأوروبي بكلا جناحيه الرأسمالي والاشتراكي والاقتصاد الإسلامي من ناحية قدرة كل منهما على المساهمة في معركة العالم الإسلامي ضدّ التخلّف الاقتصادي ، ومدى قابلية كلّ واحد من هذه المناهج ليكون إطاراً لعملية التنمية الاقتصادية

ونحن حين نخرج من نطاق المقارنة بين هذه المناهج الاقتصادية في محتواه الفكري والمذهبي إلى المقارنة بينها في قابليتها التطبيقية لإعطاء إطار للتنمية الاقتصادية ، يجب أن لا نقيم مقارنتنا على أساس المعطيات النظرية لكلّ واحد من تلك المناهج فحسب ، بل لا بدّ أن نلاحظ بدقّة الظروف الموضوعية للأمّة وتركيبها النفسي والتأريخي ؛ لأنّ الأمّة هي مجال التطبيق لتلك المناهج فمن الضروري أن يُدرس المجال المفروض للتطبيق وخصائصه وشروطه بعناية ليلاحظ ما يقدّر لكلّ منهج من فاعلية لدى التطبيق كما أنّ فاعلية الاقتصاد الحرّ الرأسمالي أو التخطيط الاشتراكي في تجربة الإنسان الأوروبي لا تعني حتماً أنّ هذه الفاعلية نتيجة للمنهج الاقتصادي فحسب لكي تتوفّر متى اتبع نفس المنهج ، بل قد تكون الفاعلية ناتجة عن المنهج باعتباره جزءاً من كلّ مترابط وحلقة من تأريخ ، فإذا عزل المنهج عن إطاره وتأريخه لم تكن له تلك الفاعلية ولا تلك الثمار

١٤

ومن خلال دراسة مقارنة للمذاهب الاقتصادية المتعددة وإمكانات نجاحها عملياً في العالم الإسلامي يجب إبراز حقيقة أساسية يرتبط بها تقدير الموقف إلى درجة كبيرة ، وهي أنّ حاجة التنمية الاقتصادية إلى منهج اقتصادي ليست مجرّد حاجة إلى أطار من أطر التنظيم الاجتماعي تتبنّاه الدولة فحسب لكي يمكن أن توضع التنمية ضمن هذا الإطار أو ذاك بمجرد تبنّي الدولة له والتزامها به ، بل لا يمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضدّ التخلّف أن تؤدّي دورها المطلوب إلاّ إذا اكتسبت إطاراً يستطيع أن يدمج الأمّة ضمنه ، وقامت على أساس يتفاعل معها فحركة الأمّة كلّها شرط أساسي لإنجاح أيّ تنمية وأيّ معركة شاملة ضدّ التخلّف ؛ لأنّ حركتها تعبير عن نموّها ونموّ إرادتها وانطلاق مواهبها الداخلية ، وحيث لا تنمو الأمّة لا يمكن أن تُمارس عملية تنمية ، فالتنمية للثروة الخارجية والنموّ الداخلي للأمّة يجب أن يسيرا في خطّ واحد

و تجربة الإنسان الأوروبي الحديث هي بالذات تعبير تأريخي واضح عن هذه الحقيقة ؛ فإنّ مناهج الاقتصاد الأوروبي كإطارات لعملية التنمية لم تسجّل نجاحها الباهر على المستوى المادّي في تأريخ أوروبا الحديث إلاّ بسبب تفاعل الشعوب الأوروبية مع تلك المناهج وحركتها في كلّ حقول الحياة وفقاً لاتجاه تلك المناهج ومتطلباتها واستعدادها النفسي المتناهي خلال تأريخ طويل لهذا الاندماج والتفاعل

فحين نريد أن نختار منهجاً أو إطاراً عامّاً للتنمية الاقتصادية داخل العالم الإسلامي يجب أن نأخذ هذه الحقيقة أساساً ونفتش في ضوئها عن مركّب حضاري قادر على تحريك الأمّة وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضدّ التخلّف ، ولا بدّ حينئذٍ أن نُدخل في هذا الحساب مشاعر الأمّة ونفسيتها وتأريخها وتعقيداتها المختلفة

ومن الخطأ ما يرتكبه كثير من الاقتصاديين الذين يدرسون اقتصاد البلاد المتخلّفة وينقلون إليها المناهج الأوروبية للتنمية دون أن يأخذوا بعين الاعتبار درجة إمكان تفاعل شعوب تلك البلاد مع هذه المناهج ، ومدى قدرة هذه المناهج المنقولة على الالتحام مع الأمّة .

١٥

فهناك مثلاً الشعور النفسي الخاص الذي تعيشه الأمّة في العالم الإسلامي تجاه الاستعمار الذي يتّسم بالشكّ والاتهام والخوف نتيجة لتأريخ مرير طويل من الاستغلال والصراع ، فإنّ هذا الشعور خلق نوعاً من الانكماش لدى الأمّة عن المعطيات التنظيمية للإنسان الأوروبي ، وشيئاً من القلق تجاه الأنظمة المستمدّة من الأوضاع الاجتماعية في بلاد المستعمرين وحساسية شديدة ضدّه ، وهذه الحساسية تجعل تلك الأنظمة ، حتى لو كانت صالحة ومستقلّة عن الاستعمار من الناحية السياسية ، غير قادرة على تفجير طاقات الأمّة وقيادتها في معركة البناء فلا بدّ للأمّة ـ إذن ـ بحكم ظروفها النفسية التي خلقها عصر الاستعمار وانكماشها تجاه ما يتّصل به أن تقيم نهضتها الحديثة على أساس نظام اجتماعيٍّ ومعالم حضارية لا تمتّ إلى بلاد المستعمرين بنسب

وهذه الحقيقة الواضحة هي التي جعلت عدداً من التكتلات السياسية في العالم الإسلامي تفكّر في اتخاذ القومية فلسفة وقاعدة للحضارة وأساساً للتنظيم الاجتماعي ؛ حرصاً منها على تقديم شعارات منفصلة عن الكيان الفكري للاستعمار انفصالاً كاملاً ، غير أنّ القومية ليست إلاّ رابطة تأريخية ولغوية ، وليست فلسفة ذات مبادئ ولا عقيدة ذات أُسس ، بل حيادية بطبيعتها تجاه تخلّف الفلسفات والمذاهب الاجتماعية والعقائدية والدينية، وهي لذلك بحاجة إلى الأخذ بوجهة نظر معيّنة تجاه الكون والحياة ، وفلسفة خاصة تصوغ على أساسها معالم حضارتها ونهضتها وتنظيمها الاجتماعي .

ويبدو أنّ كثيراً من الحركات القومية أحسّت بذلك أيضاً ، وأدركت أنّ القومية كمادة خام بحاجة إلى الأخذ بفلسفة اجتماعية ونظام اجتماعي معيّن ، وحاولت أن توفّق بين ذلك وبين أصالة الشعار الذي ترفعه وانفصاله عن الإنسان الأوروبي ، فنادت بالاشتراكية العربية ، نادت بالاشتراكية لأنّها أدركت أنّ القومية وحدها لا تكفي بل هي بحاجة إلى نظام ، ونادت بها في إطار عربي تفادياً لحساسية الأمّة ضدّ أيّ شعار أو فلسفة مرتبطين بعالم المستعمرين ، فحاولت عن طريق توصيف الاشتراكية بالعربية تغطية الأجنبي المتمثّل في الاشتراكية من الناحية التأريخية والفكرية ، وهي تغطية فاشلة لا تنجح في استغفال حساسية الأمّة ؛ لأنّ هذا الإطار القَلِق ليس إلاّ مجرّد تأطير ظاهري وشكليّ للمضمون الأجنبي الذي تمثّله الاشتراكية ، وإلاّ فأيّ دور يلعبه هذا الإطار في مجال التنظيم الاشتراكي ؟! وأيّ تطوير للعامل العربي في المواقف ؟! وما معنى أنّ العربية ، كلغةٍ وتأريخ أو دم وجنس ، تطوّر فلسفة معينة للتنظيم الاجتماعي ؟! بل كلّ ما وقع في المجال التطبيقي نتيجة للعامل العربي .

١٦

إنّ هذا العامل أصبح يعني في مجال التطبيق استثناء ما يتنافى من الاشتراكية مع التقاليد السائدة في المجتمع العربي ، والتي لم تحن الظروف الموضوعية لتغييرها ، كالنزعات الروحية بما فيها الإيمان بالله ، فالإطار العربي ـ إذن ـ لا يعطي الاشتراكية روحاً جديدة تختلف عن وضعها الفكري والعقائدي المُعاش في بلاد المستعمرين ، وإنّما يراد به التعبير عن استثناءات معيّنة ، وقد تكون موقوتة ، والاستثناء لا يغيّر جوهر القضية والمحتوى الحقيقي للشعار ، ولا يمكن لدعاة الاشتراكية العربية أن يميّزوا الفوارق الأصيلة بين اشتراكية عربية واشتراكية فارسية واشتراكية تركية ، ولا أن يفسّروا كيف تختلف الاشتراكية بمجرّد إعطائها هذا الإطار القومي أو ذاك ، لأن الواقع أنّ المضمون والجوهر لا يختلف وإنّما هذه الأطر تعبّر عن استثناءات قد تختلف من شعب إلى آخر تبعاً لنوعية التقاليد السائدة في تلك الشعوب

وبالرغم من أنّ دعاة الاشتراكية العربية قد فشلوا في تقديم مضمون حقيقي جديد لهذه الاشتراكية عن طريق تأطيرها بالإطار العربي ، فإنّهم أكّدوا بموقفهم هذا تلك الحقيقة التي قلناها ، وهي أنّ الأمّة بحكم حساسيتها الناتجة عن عصر الاستعمار لا يمكن بناء نهضتها الحديثة إلاّ على أساس قاعدة أصيلة لا ترتبط في ذهن الأمّة ببلاد المستعمرين أنفسهم

وهنا يبرز فارق كبير بين مناهج الاقتصاد الأوروبي التي ترتبط في ذهن الأمّة بإنسان القارّة المستعمرة ، مهما وضعت لها من إطارات ، وبين المنهج الإسلامي الذي يرتبط في ذهن الأمّة بتأريخها وأمجادها الذاتية ويعبّر عن أصالتها ولا يحمل أيّ طابع لبلاد المستعمرين ، فإنّ شعور الأمّة بأنّ الإسلام هو تعبيرها الذاتي وعنوان شخصيتها التأريخية ومفتاح أمجادها السابقة يعتبر عاملاً ضخماً جداً لإنجاح المعركة ضدّ التخلّف وفي سبيل التنمية ، إذا استمد لها المنهج من الإسلام واتخذ من النظام الإسلامي إطاراً للانطلاق

وإلى جانب الشعور المعقّد للأمّة في العالم الإسلامي تجاه الاستعمار وكلّ المناهج المرتبطة ببلاد المستعمرين يوجد هناك تعقيد آخر يشكّل صعوبة كبيرة أيضاً في طريق نجاح المناهج الحديثة للاقتصاد الأوروبي إذا طبّقت في العالم الإسلامي ، وهو التناقض بين هذه المناهج والعقيدة الدينية التي يعيشها المسلمون

١٧

وهنا لا أريد أن أتحدث عن هذا التناقض لكي أقارن بين وجهة النظر الدينية ووجهة النظر التي تتبنّاها تلك المناهج وأحاول أن أفضّل الأُولى على الثانية ـ أي : إنّي لا أريد أن أبحث هذا التناقض بحثاً عقائدياً مذهبياً ـ وإنّما أحاول إبراز هذا التناقض بين مناهج الإنسان الأوروبي والعقيدة الدينية للإنسان المسلم بوصفها قوّة تعيش داخل العالم الإسلامي بقطع النظر عن أيّ تقييم له ، فإنّ هذه القوّة مهما قدّرنا لها من تفكّك وانحلال نتيجة لعمل الاستعمار ضدّها في العالم الإسلامي لا يزال لها أثرها الكبير في توجيه السلوك وخلق المشاعر وتحديد النظرة نحو الأشياء .

وقد عرفنا قبل لحظات أنّ عملية التنمية الاقتصادية ليست عملية تمارسها الدولة وتتبنّاها وتشرّع لها فحسب ، وإنّما هي عملية يجب أن تشترك فيها ـ وتساهم بلون وآخر ـ الأمّة كلّها فإذا كانت الأمّة تحسّ بتناقض بين الإطار المفروض للتنمية وبين عقيدة لا تزال تعتزّ بها وتحافظ على بعض وجهات نظرها في الحياة فسوف تحجّم بدرجةٍ تفاعلها مع تلك العقيدة عن العطاء لعملية التنمية والاندماج في إطارها المفروض

وخلافاً لذلك لا يواجه النظام الإسلامي هذا التعقيد ، ولا يُمنى بتناقض من ذلك القبيل ، بل إنّه إذا وُضع موضع التطبيق سوف يجد في العقيدة الدينية سنداً كبيراً له وعاملاً مساعداً على إنجاح التنمية الموضوعة في إطاره ؛ لأنّ أساس النظام الإسلامي أحكام الشريعة الإسلامية ، وهي أحكام يؤمن المسلمون عادة بقدسيتها وحرمتها ووجوب تنفيذها بحكم عقيدتهم الإسلامية وإيمانهم بأنّ الإسلام دين نزل من السماء على خاتم النبيّينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما من ريب في أنّ من أهمّ العوامل في نجاح المناهج التي تتّخذ لتنظيم الحياة الاجتماعية احترام الناس لها وإيمانهم بحقّها في التنفيذ والتطبيق

وهب أنّ تجربة للتنمية الاقتصادية على أساس مناهج الاقتصاد الأوروبي استطاعت أن تقضي على العقيدة الدينية وقوّتها السلبية تجاه تلك المناهج ، فإنّ هذا لا يكفي للقضاء على كل البناء العُلْوي الذي قام على أساس تلك العقيدة عبر تأريخ طويل امتد أكثر من أربعة عشر قرناً ، وساهم على درجة كبيرة في تكوين الإطار النفسي والفكري للإنسان داخل العالم الإسلامي كما أنّ القضاء على العقيدة الدينية لا يعني إيجاد الأرضية الأوروبية لتلك المناهج التي نجحت على يد الإنسان الأوروبي ؛ لأنّها وجدت الأرضية الصالحة لها والقادرة على التفاعل معها .

١٨

فهناك في الواقع أخلاقية إسلامية تعيش بدرجة وأخرى داخل العالم الإسلامي ، وهناك أخلاقية الاقتصاد الأوروبي التي واكبت الحضارة الغربية الحديثة ونسجت لها روحها العامة ومهّدت لنجاحها على الصعيد الاقتصادي

والأخلاقيتان تختلفان اختلافاً جوهرياً في الاتجاه والنظرة والتقييم ، وبقدر ما تصلح أخلاقية الإنسان الغربي الحديث لمناهج الاقتصاد الأوروبي تتعارض أخلاقية إنسان العالم الإسلامي معها ، وهي أخلاقية راسخة لا يمكن استئصال جذورها بمجرد تمييع العقيدة الدينية .

والتخطيط ـ أيّ تخطيط للمعركة ضدّ التخلف ـ كما يجب أن يدخل في حسابه مقاومة الطبيعة في البلد الذي يراد التخطيط له [و] درجة تمرّدها على عمليات الإنتاج ، كذلك يجب أن يدخل في حسابه مقاومة العنصر البشري ومدى انسجامه مع هذا المخطّط أو ذاك .

إنّ الإنسان الأوروبي ينظر إلى الأرض دائماً لا إلى السماء ، وحتى المسيحية ـ بوصفها الدين الذي آمن به هذا الإنسان مئات السنين ـ لم تستطع أن تتغلّب على النزعة الأرضية في الإنسان الأوروبي ، بل بدلاً عن أن ترفع نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل إله المسيحية من السماء إلى الأرض ويجسّده في كائن أرضي

وليست المحاولات العلمية للتفتيش عن نسب الإنسان في فصائل الحيوان وتفسير إنسانيته على أساس التكييف الموضوعي من الأرض والبيئة التي يعيش فيها أو المحاولات العلمية لتفسير الصرح الإنساني كلّه على أساس القوى المنتجة التي تمثّل الأرض وما فيها من إمكانات ـ ليست هذه المحاولات إلاّ كمحاولة استنزال الإله إلى الأرض في مدلولها النفسي وارتباطها الأخلاقي بتلك النظرة العميقة في نفس الإنسان الأوروبي إلى الأرض ، وإن اختلفت تلك المحاولات في أساليبها وطابعها العلمي أو الأسطوري .

وهذه النظرة إلى الأرض أتاحت للإنسان الأوروبي أن ينشئ قيماً للمادة والثروة والتملّك تنسجم مع تلك النظرة .

وقد استطاعت هذه القيم التي ترسّخت عبر الزمن في الإنسان الأوروبي أن تعبّر عن نفسها في مذاهب اللذّة والمنفعة التي اكتسحت التفكير الفلسفي الأخلاقي في أوروبا ؛ فإنّ لهذه المذاهب بوصفها نتاجاً فكرياً أوروبياً سجّلَ نجاحاً كبيراً إلى الصعيد الفكري الأوروبي لها مغزاها النفسي ودلالتها على المزاج العام للنفس الأوروبية

١٩

وقد لعبت هذه التقييمات الخاصة للمادة والثروة والتملّك دوراً كبير في تفجير الطاقات المختزنة في كلّ فرد من الأمّة ووضع أهداف لعملية التنمية تتفق مع تلك التقييمات وهكذا سرت في كل أوصال الأمّة حركة دائبة نشيطة مع مطلع الاقتصاد الأوروبي الحديث لا تعرف الملل أو الارتواء من المادة وخيراتها وتملّك تلك الخيرات .

كما أنّ انقطاع الصلة الحقيقة للإنسان الأوروبي بالله تعالى ونظرته إلى الأرض بدلاً عن النظرة إلى السماء انتزع من ذهنه أي فكرة حقيقية عن قيمومة رفيعة من جهة أعلى أو تحديدات تفرض عليه من خارج نطاق ذاته ، وهيّأه ذلك نفسياً وفكرياً للإيمان بحقّه في الحرّية ، وغمره بفيض من الشعور بالاستقلال والفردية ، الأمر الذي استطاعت بعد هذا أن تترجمه إلى اللغة الفلسفية أو تعبّر عنه على الصعيد الفلسفي فلسفة كبرى في تأريخ أوروبا الحديثة ، وهي الوجودية ؛ إذ توّجت تلك المشاعر التي غمرت الإنسان الأوروبي الحديث بالصيغة الفلسفية ، فوجد فيها إنسان أوروبا الحديث أماله وأحاسيسه

وقد قامت الحرّية بدور رئيسي في الاقتصاد الأوروبي ، وأمكن لعملية التنمية أن تستفيد من الشعور الراسخ لدى الإنسان الأوروبي بالحرّية والاستقلال والفردية في نجاح الاقتصاد الحرّ بوصفه وسيلة تتفق مع الميول الراسخة في نفوس الشعوب الأوروبية وأفكارها ، وحتى حينما طرح الاقتصاد الأوروبي منهجاً اشتراكياً حاول فيه أن ينطلق من الشعور بالفردية والأنانية أيضاً مع تحويلها من فرديّة شخص إلى فردية طبقية .

وكلّنا نعلم أنّ الشعور العميق بالحرّية كان يوفّر شرطاً أساسيا لكثير من النشاطات التي ساهمت في عملية التنمية وهو انعدام الشعور بالمسؤولية الأخلاقية الذي لم تكن تلك النشاطات لتتمّ بدونه .

والحرّية نفسها كانت أداة لانفتاح الإنسان الأوروبي على مفهوم الصراع ؛ لأنّها جعلت لكلّ إنسان أن ينطلق دون أن يحده في انطلاقه شيء سوى وجود الشخص الآخر الذي يقف في الطرف المقابل كمحدّد له ، فكان كلّ فرد يشكّل بوجوده النفي لحرّية الشخص الآخر

٢٠

وهكذا نشأت فكرة الصراع في ذهن الإنسان الأوروبي وقد عبّرت هذه الفكرة عن نفسها على الصعيد الفلسفي كما رأينا في سائر الأفكار الأساسية التي كونت مزاج الحضارة الغربية الحديثة عبرت هذه الفكرة ـ فكرة الصراع ـ عن نفسها في الأفكار العلمية والفلسفية عن تنازع البقاء كقانون طبيعي بين الأحياء ، أو عن حتمية الصراع الطبقي داخل المجتمع ، أو عن الديالكتيك وتفسير الكون على أساس الأطروحة ونقضيها والمركّب الناجم عن الصراع بين النقيضين إنّ كل هذه الاتجاهات ذات الطابع العلمي أو الفلسفي هي قبل كلّ شيء تعبير عن واقع نفسي عام وشعور حاد لدى إنسان الحضارة الحديثة بالصراع

وكان للصراع أثره الكبير في توجيه الاقتصاد الأوروبي الحديث وما واكبه من عمليات التنمية سواء ما اتخذ منه الشكل الفردي وعبّر عن نفسه بالتنافس المحموم وغير المحدود بين المؤسسات والمشاريع الرأسمالية الشخصية في ظل الاقتصاد الحر التي كانت تنمو وتنمي الثروة الكلّية من خلال صراعه وتنافسها على البقاء ، أو ما اتخذ منه الشكل الطبقي وعبّر عن نفسه بتجمّعات ثورية تتسلّم مقاليد الإنتاج في البلاد وتحرّك كل الطاقات لصالح التنمية الاقتصادية

هذه هي أخلاقية الاقتصاد الأوروبي وعلى هذه الأرضية استطاع هذا الاقتصاد أن يبدأ حركته ويحقّق نموّه ويسجّل مكاسبه الضخمة .

وهذه الأخلاقية تختلف عن الأخلاقية التي تعيشها الأمّة داخل العالم الإسلامي ؛ نتيجة لتأريخها الديني ، فالإنسان الشرقي الذي ربّته رسالات السماء وعاشت في بلاده ومرّ بتربية دينية مديدة على يد الإسلام ينظر بطبيعته إلى السماء قبل أن ينظر إلى الأرض ، ويؤخذ بعالم الغيب قبل أن يؤخذ بالمادة والمحسوس .

وافتتانه العميق بعالم الغيب قبل عالم الشهادة هو الذي عبّر عن نفسه على المستوى الفكري في حياة المسلمين باتجاه الفكر في العالم الإسلامي إلى المناحي العقلية من المعرفة البشرية دون المناحي التي ترتبط بالواقع المحسوس

وهذه الغيبية العميقة في مزاج الإنسان المسلّم حدّدت من قوّة أغراء المادة للإنسان المسلم وقابليتها لأثارته الأمر الذي يتّجه بالإنسان في العالم الإسلامي حين يتجرّد عن دوافع معنوية للتفاعل مع المادة وإغرائه باستثماره إلى موقف سلبي تجاهها يتّخذ شكل الزهد تارة والقناعة أخرى والكسل ثالثة !

٢١

وقد روّضته هذه الغيبية على الشعور برقابة غير منظورة قد تعبّر في وعي المسلم التقي عن مسؤولية صريحة بين يدي الله تعالى وقد تعبّر في ذهن مسلم آخر عن ضمير محدّد وموجّه وهي على أيّ حال تبتعد بإنسان العالم الإسلامي عن الإحساس بالحرّية الشخصية والحرّية الأخلاقية بالطريقة التي أحسّ به الإنسان الأوروبي

ونتيجة لشعور الإنسان المسلم بتحديد داخلي يقوم على أساس أخلاقي لصالح الجماعة التي يعيش ضمنها يحسّ بارتباط عميق بالجماعة التي ينتسب إليها وانسجام بينه وبينها ، بدلاً عن فكرة الصراع التي سيطرت على الفكر الأوروبي الحديث وقد عزّز فكرة الجماعة لدى الإنسان المسلم الإطار العالمي لرسالة الإسلام الذي ينيط بِحَمَلة هذه الرسالة مسؤولية وجودها عالمياً وامتدادها مع الزمان والمكان ، فإنّ تفاعل إنسان العالم الإسلامي على مرّ التأريخ مع رسالة عالمية منفتحة على الجماعة البشرية يرسّخ في نفسه الشعور بالعالمية والارتباط بالجماعة وهذه الأخلاقية التي يعيشها إنسان العالم الإسلامي إذا لاحظناها بوصفها حقيقة ماثلة في كيان الأمّة يمكن الاستفادة منها في المنهجة للاقتصاد داخل العالم الإسلامي ووضعه في إطار يواكب تلك الأخلاقية ؛ لكي تصبح قوّة دفع وتحريك كما كانت أخلاقية مناهج الاقتصاد الأوروبي الحديث عاملاً كبيراً في إنجاح تلك المناهج لما بينهما من انسجام .

فنظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء قبل الأرض يمكن أن تؤدّي إلى موقف سلبي تجاه الأرض وما في الأرض من ثروات وخيرات يتمثّل في الزهد أو القناعة أو الكسل إذا فصلت الأرض عن السماء ، وأمّا إذا أُلبست الأرض إطار السماء وأعطي العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة فسوف تتحوّل تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محرّكة وقوّة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي وبدلاً عما يحسّه اليوم المسلم السلبي من برود تجاه الأرض أو ما يحسّه المسلم النشيط الذي يتحرّك وفق أساليب الاقتصاد الحرّ أو الاشتراكي من قلق نفسي في أكثر الأحيان ولو كان مسلماً متميعاً ، سوف يولد انسجام كامل بين نفسية إنسان العالم الإسلامي ودوره الايجابي المرتقب في عملية التنمية.

٢٢

ومفهوم إنسان العالم الإسلامي عن التحديد الداخلي والرقابة الغيبية الذي يجعله لا يعيش فكرة الحرّية بالطريقة الأوروبية يمكن أن يساعد إلى درجة كبيرة في تفادي الصعاب التي تنجم عن الاقتصاد الحرّ والمشاكل التي تواجهها التنمية الاقتصادية في ظلّه عن تخطيط عام يستمدّ مشروعيته في ذهن إنسان العالم الإسلامي من مفهومه عن التحديد الداخلي و الرقابة غير المنظورة ، أي : يستند إلى مبررات أخلاقية

والإحساس بالجماعة والارتباط بها يمكن أن يساهم إلى جانب ما تقدّم في تعبئة طاقات الأمّة الإسلامية للمعركة ضدّ التخلّف إذا أعطي للمعركة شعار يلتقي مع ذلك الإحساس كشعار الجهاد في سبيل الحفاظ على كيان الأمّة وبقائها الذي أعطاه القرآن الكريم حين قال :( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ) (١) ، فأمر بإعداد كلّ القوى الاقتصادية التي يمثّلها مستوى الإنتاج باعتباره جزءاً من معركة الأمّة وجهادها للاحتفاظ بوجودها وسيادتها

وهنا تبرز أهمية الاقتصاد الإسلامي بوصفه المنهج الاقتصادي القادر على الاستفادة من أخلاقية إنسان العالم الإسلامي التي رأيناها وتحويلها إلى طاقة دفع وبناء كبيرة في عمليات التنمية وإنجاح تخطيط سليم للحياة الاقتصادية

فنحن حينما نأخذ بالنظام الإسلامي سوف نستفيد من هذه الأخلاقية ونستطيع أن نعبّأها في المعركة ضدّ التخلّف على عكس ما إذا أخذنا بمناهج في الاقتصاد ترتبط نفسياً وتأريخيّاً بأرضية أخلاقية أخرى .

وقد أخذ بعض المفكرين الأوروبيين يدركون هذه الحقيقة أيضاً ويلمّحون إليها معترفين بأنّ مناهجهم لا تتفق مع طبيعة العالم الإسلامي ، واذكر كمثال على ذلك( جاك أُوستروى ) فقد سجّل هذه الملاحظة بكلّ وضوح في كتابه(التنمية الاقتصادية) بالرغم من أنّه لم يستطع أن يبرّز التسلسل الفنّي والمنطقي لتكوّن الأخلاقية الأوروبية وتكوّن الأخلاقية الإسلامية وترتب حلقاتها ، ولا الأبعاد الكاملة لمحتوى كل من الأخلاقيّتين ، وتورّط في عدّة أخطاء ، وبالرغم من

ـــــــــــــــ

(١) سورة الأنفال : ٦٠ .

٢٣

إمكان الاعتماد بصورة كاملة في إبراز هذه الأخطاء على ما كتبه الأستاذ الجليل محمّد المبارك في مقدّمة الكتاب ، والأستاذ الدكتور نبيل صبحي الطويل الذي ترجم الكتاب إلى العربية ، فإنّ بودي أن أتوسع في فرصة مقبلة بهذا الصدد مكتفياً الآن بالقول بأنّ اتجاه إنسان العالم الإسلامي إلى السماء لا يعني بمدلوله الأصيل استسلام الإنسان للقدر واتكاله على الظروف والفرص وشعوره بالعجز الكامل عن الخلق والإبداع كما حاول ذلك ( جاك أُوستروي ) ، بل إنّ هذا الاتجاه لدى الإنسان المسلم يعبّر في الحقيقة عن مبدأ خلافة الإنسان في الأرض فهو يميل بطبيعته إلى إدراك موقفه في الأرض باعتباره خليفة لله ولا أعرف مفهوماً أغنى من مفهوم الخلافة لله في التأكيد على قدرة الإنسان وطاقاته التي تجعل منه خليفة السيد المطلق في الكون ، كما لا أعرف مفهوماً أبعد من مفهوم الخلافة لله عن الاستسلام للقدر والظروف ؛ لأنّ الخلافة تستبطن معنى المسؤولية تجاه ما يُستخلف عليه ولا مسؤولية بدون حرّية وشعور بالاختيار والتمكّن من التحكّم في الظروف ، وإلاّ فأي استخلاف هذا إذا كان الإنسان مقيداً أو مسيّراً ؟!

ولهذا قلنا إنّ إلباس الأرض إطار السماء يفجّر في الإنسان المسلم طاقاته ويثير إمكاناته ، بينما قطع الأرض عن السماء يعطّل في الخلافة معناها ويجمّد نظرة الإنسان المسلم إلى الأرض في صيغة سلبية ، فالسلبية لا تنبع عن طبيعة نظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء بل عن تعطيل قوى التحريك الهائلة في هذه النظرة بتقديم الأرض إلى هذا الإنسان في إطار لا ينسجم مع تلك النظرة .

وإضافة إلى كل ما تقدّم ، نلاحظ أنّ الأخذ بالإسلام أساساً للتنظيم العام يتيح لنا أن نقيم حياتنا كلّها بجانبيها الروحي والاجتماعي على أساس واحد ؛ لأنّ الإسلام يمتدّ إلى كلا الجانبين بينما تقتصر كثير من المناهج الاجتماعية الأخرى غير الإسلام على جانب العلاقات الاجتماعية والاقتصادية من حياة الإنسان ومُثُله ، فإذا أخذنا مناهجنا العامة في الحياة من مصادر بشرية بدلاً عن النظام الإسلامي لم نستطع أن نكتفي بذلك عن تنظيم آخر للجانب الروحي ، ولا يوجد مصدر صالح لتنظيم حياتنا الروحية إلاّ الإسلام فلا بدّ حينئذ من إقامة كلّ من الجانبين الروحي والاجتماعي على أساس خاص به ، مع أنّ الجانبين ليسا منعزلين أحدهما عن الآخر ، بل هما متفاعلان إلى درجة كبيرة ، وهذا التفاعل يجعل إقامتهما على أساس واحد أسلم وأكثر انسجام مع التشابك الأكيد بين النشاطات الروحية والاجتماعية في حياة الإنسان .

محمّد باقر الصدر

العراق ـ النجف الأشرف

٢٤

مقـدّمة الطبعة الأولى

كلمة المؤلّف :

كنّا ـ يا قرائي الأعزاء ـ على موعد منذ افترقنا في كتاب فلسفتنا ، فقد حدّثتكم : أنّ( فلسفتنا ) هي الحلقة الأولى من دراستنا الإسلامية ، بوصفه دراسة تعالج الصرح الإسلامي الشامخ ، الصرح العقائدي للتوحيد ، وتتلوه بعد ذلك الدراسات التي تتعلّق بالبُنيات الفوقية في ذلك الصرح الإسلامي ؛ لتكتمل لنا في نهاية المطاف صورة ذهنية كاملة عن الإسلام ، بوصفه عقيدة حيّة في الأعماق ، ونظاماً كاملاً للحياة ، ومنهجاً خاصاً قي التربية والتفكير .

قلنا هذا في مقدّمة( فلسفتنا ) ، وكنّا نقدّر أن يكون( مجتمعنا ) هو الدراسة الثانية في بحوثنا ، نتناول فيها أفكار الإسلام عن الإنسان وحياته الاجتماعية ، وطريقته في تحليل المركّب الاجتماعي وتفسيره ، لننتهي من ذلك إلى المرحلة الثالثة ، إلى النظم الإسلامية للحياة التي تتّصل بأفكار الإسلام الاجتماعية ، وترتكز على صرحه العقائدي الثابت ولكن شاءت رغبة القرّاء الملحّة أن نؤجّل( مجتمعنا ) ونبدأ بإصدار( اقتصادنا ) ؛ عجلةً منهم في الإطلاع على دراسة مفصّلة للاقتصاد الإسلامي ، في فلسفته وأسسه وخطوطه وتعاليمه

وهكذا كان ، فتوفّرنا على أنجاز( اقتصادنا ) محاولين أن نقدّم فيه الصورة الكاملة نسبياً عن الاقتصاد الإسلامي ـكما نفهمه اليوم ـ من مصادره وينابيعه .

وكنت أرجو أن يكون لقاؤنا هذا أقرب ممّا كان ، ولكن ظروفاً قاهرة اضطرّت إلى شيء من التأخير ، بالرغم من الجهود التي بذلتها بالتضامن مع عضدي المفدّى العلاّمة الجليل السيدمحمّد باقر الحكيم ، في سبيل إنجاز هذه الدراسة ووضعها بين أيديكم في أقرب وقت ممكن .

وبودّي أن أقول هنا وفي المقدّمة شيئاً عن كلمة( اقتصادنا ) ، أو كلمة :الاقتصاد الإسلامي ، الذي تدور حوله بحوث الكتاب ، وما أعنيه بهذه الكلمة حين أطلقها ؛ لأنّ كلمة الاقتصاد ذات تأريخ طويل في التفكير الإنساني ، وقد أكسبها ذلك شيئاً من الغموض نتيجة للمعاني التي مرّت بها ، وللازدواج في مدلولها بين الجانب العلمي من الاقتصاد والجانب المذهبي فحين نريد أن نعرف مدلول الاقتصاد الإسلامي بالضبط ، يجب أن نميّز علم الاقتصاد عن المذهب الاقتصادي ، وندرك مدى التفاعل بين التفكير العلمي والتفكير المذهبي ، لننتهي من ذلك إلى تحديد المقصود من الاقتصاد الإسلامي ، الذي نتوفّر على دراسته في هذا الكتاب

٢٥

فعلم الاقتصاد : هو العلم الذي يتناول تفسير الحياة الاقتصادية وأحداثها وظواهرها ، وربط تلك الأحداث والظواهر بالأسباب والعوامل العامة التي تتحكّم فيها .

وهذا العلم حديث الولادة ، فهو لم يحدث ـ بالمعني الدقيق للكلمة ـ إلاّ في بداية العصر الرأسمالي ، منذ أربعة قرون تقريباً ، وإن كانت جذوره البدائية تمتد إلى أعماق التأريخ ، فقد ساهمت كلّ حضارة في التفكير الاقتصادي بمقدار ما أتيح لها من إمكانات ، غير أنّ الاستنتاج العلمي الدقيق الذي نجده لأوّل مرّة في علم الاقتصاد السياسي مدين للقرون الأخيرة .

وأمّا المذهب الاقتصادي للمجتمع : فهو عبارة عن الطريقة التي يفضّل المجتمع اتّباعها في حياته الاقتصادية ، وحلّ مشاكلها العملية

وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نتصوّر مجتمعاً دون مذهب اقتصادي ؛ لأنّ كلّ مجتمع يمارس إنتاج الثروة وتوزيعها لا بدّ له من طريقة يتّفق عليه في تنظيم هذه العمليات الاقتصادية ، وهذه الطريقة هي التي تحدّد موقفه المذهبي من الحياة الاقتصادية

ولا شكّ في أنّ اختيار طريقة معيّنة لتنظيم الحياة الاقتصادية ليس اعتباط مطلقاً ، وإنّما يقوم دائماً على أساس أفكار ومفاهيم معينة ، ذات طابع أخلاقي أو علمي أو أيّ طابع آخر وهذه الأفكار والمفاهيم تكوّن الرصيد الفكري للمذهب الاقتصادي القائم على أساسها وحين يُدرس أيّ مذهب اقتصادي يجب أن يُتناول من ناحية : طريقته في تنظيم الحياة الاقتصادية ، ومن ناحية أخرى : رصيده من الأفكار والمفاهيم التي يرتبط المذهب بها فإذا درسنا ـ مثلاً ـ المذهب الرأسمالي القائل بالحرية الاقتصادية ، كان لزاماً علينا أن نبحث الأفكار والمفاهيم الأساسية ، التي يقوم على أساسها تقديس الرأسمالية للحريّة وإيمانها بها وهكذا الحال في أيّ دراسة مذهبية أخرى

ومنذ بدأ علم الاقتصاد السياسي يشقّ طريقه في مجال التفكير الاقتصادي ، أخذت بعض النظريات العلمية في الاقتصاد تكوّن جزءاً من هذا الرصيد الفكري للمذهب

فالتجاريون (١) مثلاً ـ وهم طلائع التفكير الاقتصادي الحديث ـ حين زعموا

ـــــــــــــــ

(١) راجع : الرأسمالية الناشئة : ٦١ ـ ٦٤ .

٢٦

أنّهم فسّروا من ناحية علمية كمّية الثروة لدى كل أمّة بـ : المقدار الذي تملكه من النقد ، استخدموا هذه الفكرة في وضع مذهبهم التجاري ، فدعوا إلى تنشيط التجارة الخارجية بوصفها الأداة الوحيدة لجلب النقد من الخارج ، ووضعوا معالم سياسة اقتصادية تؤدّي إلى زيادة قيمة البضائع المصدّرة على قيمة البضائع المستوردة ؛ لتدخل إلى البلاد نقود بقدر الزيادة في الصادرات .

والطبيعيون (١) حين جاؤوا بتفسير جديد للثروة ، قائم على أساس الإيمان بـ : أنّ الإنتاج الزراعي وحده هو الإنتاج الكفيل بتنمية الثروة وخلق القيم الجديدة ، دون التجارة والصناعة وضعوا ـ في ضوء التفسير العلمي المزعوم ـ سياسة مذهبية جديدة ، تهدف إلى العمل على ازدهار الزراعة وتقدّمها ؛ بوصفها قوام الحياة الاقتصادية كلّها .

و( مالتس ) حين قرّر في نظريته الشهيرة على ضوء إحصاءاته العلمية : أنّ نمو البشر أسرع نسبياً من نمو الإنتاج الزراعي ، ممّا يؤدّي ـ حتماً ـ إلى مجاعة هائلة في مستقبل الإنسانية ، لزيادة الناس على المواد الغذائية تبنّى الدعوة إلى تحديد النسل ، ووضع لهذه الدعوة أساليبها السياسية والاقتصادية والأخلاقية

وحين فسّرالاشتراكيون قيمة السلعة : بالعمل المنفق على إنتاجها شجبوا الربح الرأسمالي ، وتبنّوا المذهب الاشتراكي في التوزيع ، الذي يجعل الناتج من حقّ العامل وحده ؛ لأنّه الخالق الوحيد للقيمة التي يتمتّع بها الناتج

وهكذا أخذت جملة من النظريات العلمية تؤثّر على النظرة المذهبية ، وتُنير

ـــــــــــــــ

(١) راجع : الاقتصاد الإسلامي مدخل ومنهاج : ٩٣ .

٢٧

الطريق أمام الباحثين المذهبيين (١) .

وجاء بعد ذلك دورماركس ، فأضاف إلى الرصيد الفكري للمذهب الاقتصادي شيئاً جديداً ، وهو علم التأريخ أو ما أسماه بـ :المادّية التأريخية ، التي زعم فيها : أنّه كشف القوانين الطبيعية التي تتحكّم في التأريخ ، واعتبر المذهب نتاجاً حتمياً لتلك القوانين فلكي نعرف المذهب الاقتصادي الذي يجب أن يسود في مرحلة معيّنة من التأريخ ، يجب أن نرجع إلى تلك القوانين الحتمية لطبيعة التأريخ ونكشف عن مقتضياتها في تلك المرحلة(٢) .

ولأجل ذلك آمنماركس : بالمذهب الاشتراكي والشيوعي ، بوصفه النتاج الحتمي لقوانين التأريخ التي بدأت تتمخّض عنه في هذه المرحلة من حياة الإنسان وبهذا ارتبط المذهب الاقتصادي بدراسة علم التأريخ ، كما ارتبط قبل ذلك ببعض الدراسات في علم الاقتصاد السياسي

وعلى هذا الأساس ، فنحن حين نطلق كلمة :( الاقتصاد الإسلامي ) لا نعني بذلك علم الاقتصاد السياسي مباشرة ؛ لأنّ هذا العلم حديث الولادة نسبياً ، ولأنّ الإسلام دينُ دعوةٍ ومنهجُ حياة ، وليس من وظيفته الأصيلة ممارسة البحوث العلمية وإنّما نعني بالاقتصاد الإسلامي : المذهب الاقتصادي للإسلام ، الذي

ـــــــــــــــ

(١) يجب أن نلاحظ هنا : أنّ كثيراً من النظريات العلمية في الاقتصاد السياسي ذات موقف سلبي بحت من المذهب ، كالنظريات التي تشرح نقاطاً من الحياة الاقتصادية موضوعة في إطار مذهبي ثابت ، وإنّما تتأثر النظرة المذهبية مباشرة بالنظريات التي تعالج نقاطاً مطلقة في الحقل الاقتصادي ، لا نقاطاً نسبية موضوعة في الإطار المذهبي الخاصّ أو ذاك (المؤلّف قدّس سرّه) .

(٢) راجع : البيان الشيوعي : ٥١ ـ ٥٢ ، و ٦٥ ، ٧٨ .

٢٨

تتجسّد فيه الطريقة الإسلامية في تنظيم الحياة الاقتصادية ، بما يملك هذا المذهب ويدلّ عليه من رصيد فكري ، يتألّف من أفكار الإسلام الأخلاقية والأفكار العلمية الاقتصادية أو التأريخية التي تتّصل بمسائل الاقتصاد السياسي أو بتحليل تأريخ المجتمعات البشرية

وهكذا فنحن نريد بالاقتصاد الإسلامي : المذهب الاقتصادي منظوراً إليه في إطاره الكامل ، وفي ارتباطه بالرصيد الفكري الذي يعتمد عليه ، ويفسر وجهة نظر المذهب في المشاكل التي يعالجها

وهذا الرصيد الفكري يتحدّد لدينا وفقاً لبيانات مباشرة في الإسلام ، أو للأضواء التي يلقيها نفس المذهب على مسائل الاقتصاد والتأريخ فإنّ المزاج العلمي للإسلام في بحوث علم الاقتصاد السياسي ، أو في بحوث المادّية التأريخية وفلسفة التأريخ يمكن أن يُدرس ويُستكشف من خلال المذهب الذي يتبنّاه ويدعو إليه .

فحينما نريد أن نعرف مثلاً : رأي الإسلام من الناحية العلمية في تفسير قيمة السلعة وتحديد مصدرها ، وكيف تتكوّن للسلعة قيمتها ؟ وهل تُكتسب هذه من العمل وحده أو من شيء آخر ؟ يجب أن نتعرّف على ذلك من خلال وجهة نظر الإسلام المذهبية إلى الربح الرأسمالي ، ومدى اعترافه بعدالة هذا الربح .

وحينما نريد أن نعرف : رأي الإسلام في حقيقة الدور الذي يلعبه كلّ من رأس المال ووسائل الإنتاج والعمل في عملية الإنتاج يجب أن ندرس ذلك من خلال الحقوق التي أعطاها الإسلام لكلّ واحد من هذه العناصر في مجال التوزيع ، كما هو مشروع في أحكام : الإجارة ، والمضاربة ، والمساقاة ، والمزارعة ، والبيع ، والقرض

وحين نريد أن نعرف : رأي الإسلام فينظرية مالتس ـ الآنفة الذكر ـ عن زيادة السكان ، يمكننا أن نفهم ذلك في ضوء موقفه من تحديد النسل في سياسته العامة .

وإذا أردنا أن نستكشف : رأي الإسلام في المادّية التأريخية وتطوّرات التأريخ المزعومة فيها ، يمكننا أن نكشف ذلك من خلال الطبيعة الثابتة للمذهب الاقتصادي في الإسلام ، وإيمانه بإمكان تطبيق هذا المذهب في كلّ مراحل التأريخ التي عاشها الإنسان منذ ظهور الإسلام ، وهكذا

والآن ، بعد أن حدّدنا مدلول الاقتصاد الإسلامي بالقدر الذي يُيَسّر فهم الدراسات المقبلة ، يجب أن نتحدّث بشكل خاطف عن فصول الكتاب :

٢٩

فالكتاب يتناول في الفصل الأوّل المذهب الماركسي ونظراً إلى أنّه يملك رصيداً علمياً يتمثّل في المادّية التأريخية ، فقد درسنا أولاً هذا الرصيد الفكري ثمّ انتهينا من ذلك إلى نقد المذهب بصورة مباشرة ، وخرجنا من ذلك بنسف الأسس العلمية المزعومة التي يقوم عليها الكيان المذهبي للماركسية.

وأمّا الفصل الثاني : فقد خصص لدرس الرأسمالية ونقدها ، في أسسها وتحديد علاقتها بعلم الاقتصاد السياسي

وتبدأ دراسة الاقتصاد الإسلامي بصورة مباشرة منالفصل الثالث ، فنتحدّث في هذا الفصل عن مجموعة من الأفكار الأساسية لهذا الاقتصاد ، ثمّ ننتقل إلى التفاصيل في الأصول الأخرى ، لنشرح نظام التوزيع ونظام الإنتاج في الإسلام ، بما يشتمل عليه النظامان من تفاصيل عن تقسيم الثروات الطبيعية ، وتحديدات الملكية الخاصة ، ومبادئ التوازن ، والتكافل ، والضمان العام ، والسياسة المالية ، وصلاحيات الحكومة في الحياة الاقتصادية ، ودور عناصر الإنتاج : من العمل ورأس المال ووسائل الإنتاج ، وحقّ كلّ واحد منها في الثروة المنتجة ، وما إلى ذلك من الجوانب المختلفة ، التي تشترك بجموعها في تقديم الصورة الكاملة المحدّدة عن الاقتصاد الإسلامي

وأخيراً ، فقد بقيت عدّة نقاط تتّصل ببحوث الكتاب ، وخاصة الفصول الأخيرة التي تستعرض تفصيلات الاقتصاد الإسلامي ، يجب تسجيلها منذ البدء :

١ ـ إنّ الآراء الإسلامية فيما يتّصل بالجوانب الفقهية من الاقتصاد الإسلامي ، تُعرض في هذا الكتاب عرضاً مجرّداً عن أساليب الاستدلال وطرق البحث العلمي في الدراسات الفقهية الموسّعة وحين تسند تلك الآراء بمدارك إسلامية من آيات وروايات لا يقصد من ذلك الاستدلال على الحكم الشرعي بصورة علمية ؛ لأنّ البرهنة على الحكم بآية أو رواية لا يعني مجرّد سردها ، وإنّما يتطلّب عمقاً ودقّة واستيعاباً بدرجة لا تلتقي مع الغرض الذي أُلّف لأجله هذا الكتاب ، وإنّما نرمي من وراء عرض تلك الآيات والروايات ـ أحياناً ـ إلى إيجاد خُبرة عامّة للقارئ بالمدارك الإسلامية .

٢ ـ الآراء الفقهية التي تعرض في الكتاب لا يجب أن تكون مستنبطة من المؤلّف نفسه ، بل قد يعرض الكتاب لآراء تخالف من الناحية الفقهية اجتهاد الكاتب في المسألة ، وإنّما الصفة العامة التي لوحظ توفّرها في تلك الآراء هي : أن تكون نتيجة لاجتهاد أحد المجتهدين ، بقطع النظر عن عدد القائلين بالرأي وموقف الأكثرية منه

٣٠

٣ ـ قد يعرض الكتاب أحكاماً شرعية بشكل عام دون أن تتناول تفصيلاتها ، وبعض الفروض الخارجة عن نطاقها ، نظراً إلى أنّ الكتاب لا يتّسع لكلّ التفاصيل والتفريعات .

٤ ـ يؤكّد الكتاب دائماً على الترابط بين أحكام الإسلام ، وهذا لا يعني أنّها أحكام ارتباطية وضمنية بالمعني (الأُصولي) ، حتى إذا عطّل بعض تلك الأحكام سقطت سائر الأحكام الأخرى ، وإنّما يقصد من ذلك : أنّ الحكمة التي تُستهدف من وراء تلك الأحكام لا تُحقّق كاملةً دون أن يطبّق الإسلام ، بوصفه كُلاًّ لا يتجزّأ، وإن وجب في واقع الحال امتثال كلّ حكم بقطع النظر عن امتثال حكم آخر أو عصيانه .

٥ ـ توجد تقسيمات في الكتاب في بعض جوانب الاقتصاد الإسلامي ، لم ترد بصراحة في نصٍّ شرعي ، وإنّما انتزعت من مجموع الأحكام الشرعية الواردة في المسألة ، ولذلك فإنّ تلك التقسيمات تتبع في دقّتها مدى انطباق تلك الأحكام الشرعية عليها .

٦ ـ جاءت في الكتاب ألفاظ قد يساء فهمها ! ولهذا شرحنا مدلولها وفقاً لمفهومنا عنها ؛ خوفاً من الالتباس ، كملكية الدولة التي تعني في مفهومنا : كلّ مال كان ملكاً للمنصب الإلهي في الدولة ، فهو ملك للدولة ولمن يشغل المنصب أصالة أو وكالة ، التصرّف فيه وفقاً لما قرره الإسلام .

وبعد ، فإنّ هذا الكتاب لا يتناول السطح الظاهري للاقتصاد الإسلامي فحسب ، ولا يعني بصبّه في قالب أدبي حاشد بالكلمات الضخمة والتعميمات الجوفاء وإنّما هو محاولة بدائية ـ مهما أوتي من النجاح وعناصر الابتكار ـ للغوص إلى أعماق الفكرة الاقتصادية في الإسلام ، وصبّها في قالب فكري ليقوم على أساسها صرح شامخ للاقتصاد الإسلامي ، ثري بفلسفته وأفكاره الأساسية ، واضح في طابعه ومعالمه واتجاهاته العامّة ، محدّد في علاقته وموقفه من سائر المذاهب الاقتصادية الكبرى ، مرتبط بالتركيب العضوي الكامل للإسلام ..

فيجب ـ إذن ـ أن يُدرس هذا الكتاب بوصفه بذرة بدائية لذلك الصرح الإسلامي ، ويُطلب منه أن يفلسف الاقتصاد الإسلامي في نظرته إلى الحياة الاقتصادية وتأريخ الإنسان ، ويشرح المحتوى الفكري لهذا الاقتصاد

( وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (١) .

ـــــــــــــــ

(١) سورة هود : ٨٨ .

محمّد باقر الصدر

النجف الأشرف

٣١

الكتاب الأوّل

مع الماركسيّة

مع الرأسماليّة

اقتصادنا في معالمه الرئيسة

الكتاب الأوّل ١

مع الماركسيّة

نظريّة المادّية التأريخيّة

المذهب الماركسي

مع الماركسية ١

نظريّة المادّية التأريخيّة

١ ـ تمهيد

٢ ـ النظرية على ضوء الأسس الفلسفية

٣ ـ النظرية بما هي عامة

٤ ـ النظرية بتفاصيلها

٣٢

١ ـ تمهيد

حين نتناول الماركسية على الصعيد الاقتصادي ، لا يمكننا أن نفصل بين وجهها المذهبي المتمثّل في الاشتراكية والشيوعية الماركسية ، ووجهها العلمي المتمثّل في المادّية التأريخية أو المفهوم المادّي للتأريخ ، الذي زعمت الماركسية أنّها حدّدت فيه القوانين العلمية العامة المسيطرة على التأريخ البشري ، واكتشفت في تلك القوانين النظام المحتوم لكلّ مرحلةٍ تأريخية من حياة الإنسان ، وحقائقها الاقتصادية المتطوّرة على مرّ الزمن .

وهذا الترابط الوثيق بين المذهب الماركسي والمادّية التأريخية ، سوف ينكشف خلال البحوث الآتية أكثر فأكثر ؛ إذ يبدو في ضوئها بكلّ وضوح أنّ الماركسية المذهبية ليست في الحقيقة إلاّ مرحلة تأريخية معيّنة ، وتعبيراً محدوداً نسبياً عن المفهوم المادّي المطلق للتأريخ ، فلا يمكن أن نصدر حكماً في حقّ الماركسية المذهبية بصفتها مذهباً له اتجاهاته وخطوطه الخاصة ، إلاّ إذا استوعبنا الأُسس الفكرية التي ترتكز عليها ، وحدّدنا موقفنا من المادّية التأريخية بوصفها القاعدة المباشرة للمذهب ، والهيكل المنظِّم لقوانين الاقتصاد والتأريخ ، التي تملي ـ في زعم الماركسية ـ على المجتمع مذهبه الاقتصادي ، وتصنع له نظامه في الحياة ، طبقا لمرحلته التأريخية وشروطه المادّية الخاصة .

والمادّية التأريخية إذا أدّت امتحانها العلمي ونجحت فيه ، كانت هي المرجع الأعلى في تحديد المذهب الاقتصادي والنظام الاجتماعي لكلّ مرحلة تأريخية من حياة الإنسان ، وأصبح من الضروري أن يُدرس كلّ مذهبٍ اقتصاديٍّ واجتماعي من خلال قوانينها ، وفي ضوئها ، كما وجب أن يرفض تصديق أيّ مذهب اقتصادي واجتماعي يزعم لنفسه القدرة على استيعاب عدّة أدوار تأريخية مختلقة ، كالإسلام المؤمن بإمكانية إقامة المجتمع وعلاقاته الاقتصادية والسياسية على أساسه ، بقطع النظر عمّا طرأ على المجتمع من تغيير في شروطه المدنية والمادّية خلال أربعة عشر قرناً ، ولأجل هذا يقررأنجلز ـ على أساس المادّية التأريخية ـ بوضوح :

٣٣

( إنّ الظروف التي يُنتِج البشر تحت ظلّها تختلف بين قطر و آخر ، وتختلف في القطر الواحد من جيل لآخر ، لذا فليس من الممكن أن يكـون للأقطار كافّة ، وللأدوار التأريخية جمعاء ، اقتصادٌ سياسي واحد )(١) .

وأمّا إذا فشلت المادّية التأريخية في أداء مهمّتها العلمية المزعومة ، وثبت ـ لدى التحليل ـ أنّها لا تعبّر عن القوانين الصارمة الأبدية للمجتمعات البشرية ، فمن الطبيعي عندئذٍ أن تنهار الماركسية المذهبية المرتكزة عليها ، ويصبح من الممكن علمياً ـ عند ذاك ـ أن يتبنّى الشخص المذهب الذي لا تقرّه قوانين المادّية التأريخية ، كالمذهب الإسلامي ، ويدعو إليه بل وأن يزعم له من العموم وقدرة الاستيعاب ما لا يتّفق مع منطق الماركسية في التأريخ .

ولهذا ، نجد لزاماً على كلّ باحث مذهبي في الاقتصاد ، أن يلقي نظرة شاملة على المادّية التأريخية ، لكي يبرّر وجهة نظره المذهبية ، ويستطيع أن يحكم في حقّ الماركسية المذهبية حكماً أساسياً شاملاً.

ـــــــــــــــ

(١) ضد دوهرنك ٢ : ٥ .

٣٤

وعلى هذا الأساس سوف نبدأ في بحثنا ـ مع الماركسية ـ بالمادّية التأريخية ، ثمّ نتناول المذهب الماركسي ، الذي يرتكز عليها ، وبمعني آخر ندرس :

أولاً : علم الاقتصاد والتأريخ الماركسي .

وثانياً : مذهب الماركسية في الاقتصاد

نظريّات العامل الواحد

والمادّية التأريخية طريقة خاصة في تفسير التأريخ تتّجه إلى تفسيره بعاملٍ واحد ، وليس هذا الاتّجاه في المادّية التأريخية فريداً من نوعه ؛ فقد جنح جمهور من الكتّاب والمفكّرين إلى تفسير المجتمع والتأريخ بعامل واحد من العوامل المؤثّرة في دنيا الإنسان ، إذ يعتبرونه المفتاح السحري الذي يفتح مغاليق الأسرار ، ويمتلك الموقف الرئيسي في عمليات التأريخ ، ويفسّرون العوامل الأخرى على أنّها مؤثّرات ثانوية تتّبع العامل الرئيسي في وجودها وتطوّرها ، وفي تقلّباتها واستمراريّتها .

فمن ألوان هذا الاتجاه إلى توحيد القوّة المحرّكة للتأريخ في عامل واحد : الرأي القائل بالجنس كسبب أعلى في المضمار الاجتماعي ، فهو يؤكّد أنّ الحضارات البشرية ، والمدنيّات الاجتماعية ، تختلف بمقدار الثروة المذخورة في صميم الجنس ، وما ينطوي عليه من قوى الدفع والتحريك ، وطاقات الإبداع والبناء ، فالجنس القوي النقي المحض هو مبعث كلّ مظاهر الحياة في المجتمعات الإنسانية منذ الأزل إلى العصر الحديث ، وقوام التركيب العضوي والنفسي في الإنسان ، وليس التأريخ إلاّ سلسلة مترابطة من ظواهر الكفاح بين الأجناس والدماء التي تخوض معركة الحياة في سبيل البقاء ، فيكتب فيها النصر للدم النقي القوي ، وتموت في خضمّه الشعوب الصغيرة وتضمحل وتذوب ؛ بسبب ما تفقده من طاقات في جنسها ، وما تخسره من قابلية المقاومة النابعة من نقاء الدم

ومن تفسيرات التأريخ بالعامل الواحد : المفهوم الجغرافي للتأريخ ، الذي يعتبر العامل الجغرافي والطبيعي أساساً لتأريخ الأمم والشعوب ، فيختلف تأريخ الناس باختلاف ما يكتنفهم من العوامل الجغرافية والطبيعية ؛ لأنّها هي التي تشقّ لهم طريق الحضارة الراقية ، وتوفّر لهم أسباب المدنية ، وتفجّر في عقولهم الأفكار البنّاءة أحياناً ، وتوصد في وجوههم الأبواب وتفرض عليهم السير في مؤخّر القافلة البشرية أحياناً أخرى فالعامل الجغرافي هو الذي يكيّف المجتمعات بما يتّفق مع طبيعته ومتطلّباته

٣٥

وهناك تفسير ثالث بالعامل الواحد ، نادى به بعض علماء النفس ، قائلاً : إنّ الغريزة الجنسية هي السرّ الحقيقي الكامن وراء مختلف النشاطات الإنسانية التي يتألّف منها التأريخ والمجتمع ، فليست حياة الإنسان إلاّ سلسلة من الاندفاعات الشعورية ، أو اللاشعورية ، عن تلك الغريزة

وآخر هذه المحاولات ، التي جنحت إلى تفسير التأريخ والإنسان بعامل واحد ، هي المادّية التأريخية التي بشّر بهاكارل ماركس ، مؤكّداً فيها : أنّ العامل الاقتصادي هو العامل الرئيسي والرائد الأوّل للمجتمع في نشوئه وتطوّره ، والطاقة الخلاقة لكلّ محتوياته الفكرية والمادّية ، وليست شتى العوامل الأخرى إلاّ بُنيات فوقية في الهيكل الاجتماعي للتأريخ ، فهي تتكيّف وفقاً للعامل الرئيسي ، وتتغيّر بموجب قوّته الدافعة التي يسير في ركبها التأريخ والمجتمع

وكلّ هذه المحاولات لا تتّفق مع الواقع ولا يقرّها الإسلام ؛ لأنّ كلّ واحد منها قد حاول أن يستوعب بعاملٍ واحد تفسير الحياة الإنسانية كلّها ! وأن يهب هذا العامل من ادوار التأريخ وفضول المجتمع ما ليس جديراً به لدى الحساب الشامل الدقيق .

والهدف الأساسي من بحثنا هذا هو : دراسة المادّية التأريخية من تلك المحاولات ، وإنّما استعرضناها جميعاً لأنّها تشترك في التعبير عن اتّجاه فكريّ في تفسير الإنسان المجتمعي بعاملٍ واحد .

العامل الاقتصادي أو المادّية التأريخية

ولنكوّن الآن فكرة عامّة عن المفهوم الماركسي للتأريخ ، الذي يتبنّى العامل الاقتصادي بصفته المحرّك الحقيقي لموكب البشرية في كلّ الميادين .

فالماركسية تعتقد أنّ الوضع الاقتصادي لكلّ مجتمع هو الذي يحدّد أوضاعه الاجتماعية ، والسياسية ، والدينية ، والفكرية ، وما إليها من ظواهر الوجود الاجتماعي والوضع الاقتصادي بدوره له سببه الخاص به ككلّ شيءٍ في هذه الدنيا ، وهذا السبب ـ السبب الرئيسي لمجموع التطوّر الاجتماعي ، وبالتالي لكلّ حركة تأريخية في حياة الإنسان ـ هو وضع القوّة المنتجة ووسائل الإنتاج فوسائل الإنتاج هي القوّة الكبرى ، التي تصنع تأريخ الناس وتطوّرهم وتنظّمهم

وهكذا تضع الماركسية يدها على رأس الخيط ، وتصل إلى تسلسلها الصاعد إلى السبب الأوّل في الحركة التأريخية بمجموعها

٣٦

وهنا يبدو سؤالان : ما هي وسائل الإنتاج ؟ وكيف تنشأ عنها الحركة التأريخية والحياة الاجتماعية كلّها ؟

وتجيب الماركسية على السؤال الأوّل : بأنّ وسائل الإنتاج هي الأدوات التي يستخدمها الناس في إنتاج حاجاتهم المادّية ، ذلك أنّ الإنسان مضطر إلى الصراع مع الطبيعة في سبيل وجوده ، وهذا الصراع يتطلّب وجود قويّ وأدوات معيّنة يستعملها الإنسان في تذليل الطبيعة واستثمار خيراتها وأوّل أداة استخدمها الإنسان في هذا المجال هي : يده وذراعه ، ثمّ أخذت الأداة تظهر في حياته شيئاً فشيئاً ، فاستفاد من الحجر بصفته كتلةٍ ذات ثقل خاص في القطع والطحن والطرق واستطاع بعد مرحلةٍ طويلة من التأريخ أن يثبّت هذه الكتلة الحجرية على مِقبَض فنشأت المطرقة وأصبحت اليد تستخدم في تكوين الأداة المنتجة ، لا في الإنتاج المباشر ، وصار الإنتاج يعتمد على أدوات منفصلة ، وأخذت هذه الأدوات تنمو وتتطوّر كلّما ازدادت سلطة الإنسان على الطبيعة ، فصنَع الفؤوس والحِراب والسكاكين الحجرية ، ثمّ تمكّن بعد ذلك أن يخترع القوس والسهم ويستعملهما في الصيد .

وهكذا تدرّجت القوى المنتجة تدرجاً بطيئاً خلال آلاف السنين ، حتى وصلت إلى مرحلتها التأريخية الحاضرة ، التي أصبح فيها البخار والكهرباء والذَّرَّة هي الطاقات التي يعتمد عليها الإنتاج الحديث فهذه هي القوى المنتجة التي تصنع للإنسان حاجاته المادّية .

وتجيب الماركسية على السؤال الثاني أيضاً : بأنّ الوسائل المنتجة تولّد الحركة التأريخية طبقاً لتطوّراتها وتناقضاتها وتشرح ذلك قائلةً : إنّ القوى المنتجة في تطوّر ونمو مستمر ـ كما رأينا ـ وكلّ درجة معيّنة من تطوّر هذه القوى والوسائل لها شكل خاص من أشكال الإنتاج فالإنتاج الذي يعتمد على الأدوات الحجرية البسيطة يختلف عن الإنتاج القائم على السهم والقوس ، وغيرهما من أدوات الصيد ، وإنتاج الصائد يختلف عن إنتاج الراعي أو المزارع ، وهكذا يصبح لكلّ مرحلة من تأريخ المجتمع البشري أسلوبه الخاص في الإنتاج ؛ وفقاً لنوعية القوى المنتجة ، ودرجة نموّها وتطوّرها.

ولمّا كان الناس في نضالهم مع الطبيعة لاستثمارها في إنتاج الحاجات المادّية ليسوا منفردين ، منعزلاً بعضهم عن بعض ، بل يُنتِجون في جماعات وبصفتهم أجزاء من مجتمع مترابط ، فالإنتاج دائماً ومهما تكن الظروف إنتاج اجتماعي. ومن الطبيعي حينئذٍ أن يقيم الناس بينهم علاقات معيّنة ؛ بصفتهم مجموعة مترابطة خلال عملية الإنتاج .

٣٧

وهذه العلاقات ـ علاقات الإنتاج ـ التي تقوم بين الناس بسبب خوضهم معركة موحّدة ضدّ الطبيعة ، هي في الحقيقة علاقات المِلكيّة ، التي تحدّد الوضع الاقتصادي وطريقة توزيع الثروة المُنتَجة في المجتمع .

وبمعني آخر : تحدّد شكل الملكية ـ المشاعية ، أو العبودية ، أو الإقطاعية ، أو الرأسمالية ، أو الاشتراكية ـ ونوعية المالك ، وموقف كلّ فرد من الناتج الاجتماعي وتعتبر هذه العلاقات (علاقات الإنتاج ، أو علاقات الملكية ) ـ من وجهة رأي الماركسية ـ الأساس الواقعي الذي يقوم عليه البناء العُلوي للمجتمع كلّه ، فكلّ العلاقات السياسية ، والحقوقية ، والظواهر الفكرية ، والدينية ، مرتكزة على أساس علاقات الإنتاج ( علاقات الملكية ) ؛ لأنّ علاقات الإنتاج ، هي التي تحدّد شكل الملكية السائد في المجتمع ، والأسلوب الذي يتمّ بموجبه تقسيم الثروة على أفراده وهذا بدوره ، هو الذي يحدّد الوضع السياسي ، والحقوقي والفكري والديني بصورة عامّة .

ولكن إذا كانت كلّ الأوضاع الاجتماعية تنشأ وفقاً للوضع الاقتصادي ، وبتعبير آخر : تنشأ وفقاً لعلاقات المِلكية(علاقات الإنتاج) ، فمن الضروري أن نتساءل عن علاقات الإنتاج هذه : كيف تنشأ ؟ وما هو السبب الذي يكوّن ويكيّف الوضع الاقتصادي للمجتمع ؟

وتجيب المادّية التأريخية على ذلك : أنّ علاقات الإنتاج (علاقات المِلكية) ، تتكوّن في المجتمع بصورة ضرورية وفقاً لشكل الإنتاج ، والدرجة المعيّنة التي تعيشها القوى المنتجة فلكلّ درجة من نموّ هذه القوى علاقات مِلكية ووضع اقتصادي يطابق تلك الدرجة من تطوّرها فالقوى المنتِجة هي التي تُنشئ الوضع الاقتصادي الذي تتطلّبه ، وتفرضه على المجتمع ، ويتولّد عن الوضع الاقتصادي وعلاقات المِلكية ـ عندئذٍ ـ جميع الأوضاع الاجتماعية التي تُطابق ذلك الوضع الاقتصادي و تتّفق معه .

ويستمر الوجود الاجتماعي على هذه الحال حتى تبلغ قوى المجتمع المنتِجة درجةً جديدة من النموّ والتطوّر ، فتدخل في تناقض مع الوضع الاقتصادي القائم ؛ لأنّ هذا الوضع إنّما كان نتيجة للمرحلة ، أو الدرجة ، التي تخطّتها قوى الإنتاج إلى مرحلة جديدة ، تتطلّب وضعاً اقتصادياً جديداً ، وعلاقات ملكية من نمط آخر ، بعد أن أصبح الوضع الاقتصادي السابق معيقاً لها عن النموّ وهكذا يبدأ الصراع بين القوى المنتِجة لوسائل الإنتاج في مرحلتها الجديدة من ناحية ، وعلاقات المِلكية والأوضاع الاقتصادية التي خلّفتها المرحلة السابقة لقوى الإنتاج من ناحية أخرى .

٣٨

وهنا يأتي دور الطبقية في المادّية التأريخية فإنّ الصراع بين القوى المنتجة النامية وعلاقات المِلكية القائمة ، ينعكس على الصعيد الاجتماعيدائماً ، في الصراع بين طبقتين :

أحداهما : الطبقة الاجتماعية التي تتّفق مصالحها مع نموّ القوى المنتجة ، ومستلزماته الاجتماعية

والأخرى : الطبقة الاجتماعية التي تتّفق مصالحها مع علاقات الملكية القائمة ، وتتعارض منافعها مع متطلّبات المدّ التطوّري للقوى المنتجة

ففي المرحلة التأريخيةالحاضرة ـ مثلاً ـ يقوم التناقض بين نموّ القوى المنتِجة ، والعلاقات الرأسمالية في المجتمع ويشبّ الصراع تبعاً لذلك بين الطبقة العاملة التي تقف إلى صف القوى المنتِجة في نموّها ، وترفض ـ بإصرار ووعي طبقي ـ علاقات الملكية الرأسمالية ، وبين الطبقة المالكة ، التي تقف إلى جانب العلاقات الرأسمالية في المِلكية ، وتستميت في الدفاع عنها .

وهكذا يجد التناقض ، بين قوى الإنتاج وعلاقات الملكية ـ دائماً ـ ، مدلوله الاجتماعي ، في التناقض الطبقي

ففي كيان المجتمع ـ إذن ـ تناقضان :

الأوّل : التناقض بين نموّ القوى المنتِجة وعلاقات المِلكية السائدة ، حين تصبح معيقة لها عن التكامل .

والثاني : التناقض الطبقي بين طبقة من المجتمع تخوض المعركة لحساب القوى المنتجة ، وطبقة أخرى تخوضها لحساب العلاقات القائمة وهذا التناقض الأخير هو التعبير الاجتماعي والانعكاس المباشر للتناقض الأوّل .

ولما كانت وسائل الإنتاج هي القوى الرئيسية في دنيا التأريخ ، فمن الطبيعي أن تنتصر في صراعها ، مع علاقات المِلكية ومخلّفات المرحلة القديمة ، فتقضي على الأوضاع الاقتصادية التي أصبحت في تناقض معها ، وتقيم علاقات وأوضاعاً اقتصادية تواكبها في نموّها وتنسجم مع مرحلتها

ومعنى ذلك بالتعبير الاجتماعي : أنّ الطبقة الاجتماعية التي كانتتقف في المعركة إلى صف القوى المنتجة ، هي التي يكتب لها النصر على الطبقة الأخرى التي كانت تناقضها وتحاول الاحتفاظ بعلاقات المِلكية كما هي .

٣٩

وحين تنتصر قوى الإنتاج على علاقات المِلكية ، وبمعنى آخر : تفوز الطبقة الحليفة لوسائل الإنتاج على نقيضتها ، حينئذٍ تتحطّم علاقات الملكية القديمة ، ويتغيّر الوجه الاقتصادي للمجتمع وتغيّر الوضع الاقتصادي بدوره يزعزع كلّ البناء العُلوي الهائل للمجتمع ؛ من سياسةٍ ، وأفكارٍ ،وأديانٍ ، وأخلاق ؛ لأنّ هذه الجوانب كلّها كانت تقوم على أساس الوضع الاقتصادي ، فإذا تبدّل الأساس الاقتصادي تغيّر وجه المجتمع كلّه .

والمسألة لا تنتهي عند هذا الحدّ ! فإنّ التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاتالملكية ، أو التناقض بين الطبقتين الممثِّلَتَين لتلك القوى والعلاقات ، إنّ هذا التناقض وإنْ وجد حلّه الآني في تغيّر اجتماع شامل ، غير أنّه حلٌّ موقوت ؛ لأنّ القوى المنتِجة تواصل نموّها وتطوّرها حتى تدخل مرّة أخرى في تناقض مع علاقات الملكية والأوضاع الاقتصادية الجديدة ، ويتمخّض هذا التناقض عن ولادة طبقة اجتماعية جديدة تتّفق مصالحها مع النموّ الجديد في قوى الإنتاج ومتطلّباته الاجتماعية بينما تصبح الطبقة التي كانت حليفة لقوى الإنتاج خصماً لها منذ تلك اللحظة التي بدأت الوسائل المنتجة تتناقض مع مصالحها ، وما تحرص عليه من علاقات الملكية ، فتشتبك الطبقتان في معركة جديدة ، كمدلول اجتماعي للتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الملكية وينتهي هذا الصراع إلى نفس النتيجة التي أدّى إليها الصراع السابق ، فتنتصر قوى الإنتاج على علاقات المِلكية ، وبالتالي تنتصر الطبقة الحليفة لها ، ويتغير تبعاً لذلك الوضع الاقتصادي ، وكل الأوضاع الاجتماعية .

وهكذا ، فإنّ علاقات المِلكية ، والأوضاع الاقتصادية ، تظلّ محتفظةبوجودها الاجتماعي ما دامت القوى المنتِجة تتحرّك ضمنها وتنمو ، فإذا أصبحت عقبة في هذا السبيل أخذت التناقضات تتجمّع حتى تجد حلّها في انفجار ثوري ، تخرج منه وسائل الإنتاج منتصرة وقد حطّمت العقبة من أمامها ، وأنشأت وضعاً اقتصادياً جديداً ، لتعود بعد مدّة من نموّها ، إلى مصارعته من جديد ؛ طبقاً لقوانين الديالكتيك ، حتى يتحطّم ويندفع التأريخ إلى مرحلة جديدة .

المادّية التأريخية والصفة الواقعة :

وقد دأب الماركسيون على القول بـ : أنّ المادّية التأريخية هي الطريقة العلمية الوحيدة لإدراك الواقع الموضوعي ، التي قفزت بالتأريخ إلى مصافّ العلوم البشرية الأخرى ، كما حاول بعض الكتّاب الماركسيين ـ بإصرار ـ اتهام المناوئون للمادّية التأريخية والمعارضين لطريقتها ، في تفسير الإنسان المجتمعي : بأنّهم أعداء علم التأريخ ، وأعداء الحقيقة الموضوعية ، التي تدرسها المادّية التأريخية وتفسّرها ويبرّر هؤلاء اتهامهم هذا بـ : أنّ المادّية التأريخية تقوم على أمرين :

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741