اقتصادنا

اقتصادنا5%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156517 / تحميل: 9839
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وقد يكون نهي النبي عن : منع فضل الماء والكلأ(١) أوضح مثالٍ من النصوص على مدى تأثّر عملية الاستنباط من النصّ بالموقف النفسي للممارس فقد جاء في الرواية :( أنّ النبيّ قضى بين أهل المدينة في النخل : لا يُمنع نفع بئر وقضى بين أهل البادية : أنّه لا يُمنع فضل ماء ولا يباع فضل كلأ ) (٢) وهذا النهي من النبي عن منع فضل الماء والكلأ، يمكن أن يكون تعبيراً عن حكم شرعي عام ثابت في كلّ زمانٍ ومكانٍ ، كالنهي عن الميسر والخمر كما يمكن أيضاً أن يعبّر عن إجراءٍ معيّن اتّخذه النبيّ بوصفه ولي الأمر المسئول عن رعاية مصالح المسلمين ، في حدود ولايته وصلاحياته ، فلا يكون حكماً شرعياً عاماً ، بل يرتبط بظروفه ومصالحه التي يقدّرها وليّ الأمر .

وموضوعية البحث في هذا النص النبوي تفرض على الباحث استيعاب كلا هذين التقديرين وتعيين أحدهما على ضوء صيغة النصّ وما يناظره من نصوص .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٠ ، الباب ٧ من أبواب كتاب إحياء المَوَات ، الحديث ٢ .

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٠ ، الباب ٧ من أبواب كتاب إحياء المَوَات ، الحديث ٣ ، مع اختلاف يسير .

٣٤١

وأمّا أولئك الذين يتّخذون موقفاً نفسياً تجاه النصّ بصورة مسبقة فهم يفترضون منذ البدء أن يجدوا في كلّ نصّ حكماً شرعياً عاماً ، وينظرون دائماً إلى النبيّ من خلال النصوص بوصفه أداة لتبليغ الأحكام العامة ، ويهملون دوره الإيجابي بوصفه وليّ الأمر ، فيفسّرون(١) النصّ الآنف الذكر على أساس أنّه حكم شرعي عام(٢) .

وهذا الموقف الخاص في تفسير النصّ لم ينبع من النصّ نفسه ، وإنّما نتج من اعتياد ذهني على صورة خاصة عن النبيّ ، وطريقة تفكير معيّنة فيه درج عليها الممارس ، واعتاد خلالها أن ينظر إليه دائماً باعتباره مبلغاً ، وانطمست أمام عينيه شخصيته الأخرى بوصفه حاكماً ، وانطمست بالتالي ما تعبّر به هذه الشخصية عن نفسها في النصوص المختلفة .

ضرورة الذاتية أحياناً:

ويجب أن نشير في النهاية إلى المجال الوحيد الذي يُسمح به للجانب الذاتي لدى محاولة تكوين الفكرة العامة المحدّدة عن الاقتصاد الإسلامي ، وهو مجال اختيار الصورة التي يُراد أخذها عن الاقتصاد في الإسلام ، من بين مجموع الصور التي تمثّل مختلف الاجتهادات الفقهية المشروعة ، فقد مرّ بنا أنّ اكتشاف المذهب الاقتصادي يتمّ خلال عملية اجتهاد في فهم النصوص وتنسيقها والتوفيق بين مدلولاتها في اطراد واحد ، وعرفنا أنّ الاجتهاد يختلف ويتنوّع تبعاً لاختلاف المجتهدين في طريقة فهمهم للنصوص ، وعلاجهم للتناقضات التي قد تبدو بين بعضها والبعض الآخر ، وفي القواعد والمناهج العامة للتفكير الفقهي التي يتبنّونها

ـــــــــــــــ

(١) راجع مسالك الأفهام ١٢ : ٤٤٦ ، وجواهر الكلام ٣٨ : ١١٩ .

(٢) ويفرّعون على هذا الأساس : أنّ النهي ليس نهي تحريم ، وإنّما هو نهي كراهة ؛ لأنّهم يستبعدون أن يكون منع المالك لفضل مائه حراماً شراعاً ، في كلّ زمان ومكان!! (المؤلّف قدّس سرّه ) .

٣٤٢

كما عرفنا أيضاً أنّ الاجتهاد يتمتّع بصفة شرعية وطابع إسلامي ما دام يمارس وظيفته ويرسم الصورة ويحدّد معالمها ضمن إطار الكتاب والسنة ، ووفقاً للشروط العامة التي لا يجوز اجتيازها .

وينتج عن ذلك كلّه : ازدياد ذخيرتنا بالنسبة إلى الاقتصاد الإسلامي ، ووجود صور عديدة له ، كلّها شرعي ، وكلّها إسلامي ومن الممكن حينئذٍ أن نتخيّر في كلّ مجال أقوى العناصر التي نجدها في تلك الصورة ، وأقدرها على معالجة مشاكل الحياة وتحقيق الأهداف العليا للإسلام وهذا مجال اختيار ذاتي يملك الباحث فيه حرّيته ورأيه ، ويتحرّر عن وصفه مكتشفاً فحسب ، وإن كانت هذه الذاتية لا تعدو أن تكون اختياراً ، وليست إبداعاً ، فهي تحرّر في نطاق الاجتهادات المختلفة ، وليست تحرّراً كاملاً .

وقد مارس هذا الكتاب في بحوث سابقة ، وسيمارس في بحوث مقبلة ، هذا المجال الذاتي ، كما ألمعنا إلى ذلك في المقدمة(١) فليس كلّ ما يعرض من أحكام في هذا الكتاب ويتبنّى ويستدلّ عليه ، نتيجة لاجتهاد المؤلّف شخصياً بل قد يعرض في بعض النقاط لما لا يتّفق مع اجتهاده ، ما دام يعبر عن وجهة نظر اجتهادية أخرى تحمل الطابع الإسلامي والصفة الشرعية .

وأود أن أؤكّد ـ بهذه المناسبة ـ على : أنّ ممارسة هذا المجال الذاتي ، ومنح الممارس حقّاً في الاختيار ضمن الإطار العام للاجتهاد في الشريعة قد يكون أحياناً شرطاً ضرورياً من الناحية الفنّية لعلمية الاكتشاف التي يحاولها هذا الكتاب ، وليس أمراً جائزاً فحسب أو لوناً من الترف والتكاسل عن تحمّل أعباء ومشاقّ الاجتهاد في أحكام الشريعة فإنّ من المستحيل في بعض الحالات اكتشاف النظرية الإسلامية والقواعد المذهبية في الاقتصاد شاملةً كاملةً منسجمة مع بنائها العُلْوي وتفصيلاتها التشريعية وتفريعاتها الفقهية إلاّ على أساس المجال الذاتي للاختيار .

ـــــــــــــــ

(١) مقدّمة الطبعة الأولى .

٣٤٣

وأنا أقول هذا نتيجة لتجربة شخصية عشتها في فترة إعداد هذا الكتاب ، ولعلّ من الضروري أن أجلّيها هنا لأبرز إحدى المشاكل التي يعانيها البحث في الاقتصاد الإسلامي غالباً ، وطريقة تغلّب هذا الكتاب عليها بممارسة المجال الذاتي الآنف الذكر الذي منح لنفسه حقّ ممارسته .

فمن المتّفق عليه بين المسلمين اليوم : أنّ القليل من أحكام الشريعة الإسلامية هو الذي لا يزال يحتفظ بوضوحه وضرورته وصفته القطعية ، بالرغم من هذه القرون المتطاولة التي تفصلنا عن عصر التشريع وقد لا تتجاوز الفئة التي تتمتّع بصفة قطعية من أحكام الشريعة ، الخمسة في المئة من مجموع الأحكام التي نجدها في الكتب الفقهية .

والسبب في ذلك واضح ؛ لأنّ أحكام الشريعة تؤخذ من الكتاب والسنة ، أي : من النص التشريعي ، ونحن بطبيعة الحال نعتمد في صحة كلّ نصّ على نقل أحد الرواة والمحدّثين ـ باستثناء النصوص القرآنية ومجموعة قليلة من نصوص السنّة التي ثبتت بالتواتر واليقين ـ ومهما حاولنا أن ندقّق في الراوي ووثاقته وأمانته في النقل فإنّنا لن نتأكّد بشكلٍ قاطع من صحّة النصّ ما دمنا لا نعرف مدى أمانة الرواة إلاّ تأريخياً ، لا بشكلٍ مباشر ، وما دام الراوي الأمين قد يخطئ ويقدّم إلينا النصّ محرّفاً ، خصوصاً في الحالات التي لا يصل إلينا النصّ فيها إلاّ بعد أن يطوف بعدّة رواة ، ينقله كلّ واحد منهم إلى الآخر ، حتى يصل إلينا في نهاية الشوط وحتى لو تأكدنا أحياناً من صحّة النصّ ، وصدوره من النبيّ أو الإمام ، فإنّنا لن نفهمه إلاّ كما نعيشه الآن ، ولن نستطيع استيعاب جوّه وشروطه ، واستبطان بيئته التي كان من الممكن أن تلقي عليه ضوءاً .

ولدى عرض النصّ على سائر النصوص التشريعية للتوفيق بينه وبينها ، قد نخطئ أيضاً في طريقة التوفيق ، فنقدّم هذا النصّ على ذاك ، مع أنّ الآخر أصحّ في الواقع ، بل قد يكون للنصّ استثناء في نصّ آخر ولم يصل إلينا الاستثناء ، أو لم نلتفت إليه خلال ممارستنا للنصوص ، فنأخذ بالنصّ الأوّل مغفلين استثناءه الذي يفسّره ويخصِّصه .

فالاجتهاد إذن عملية معقّدة ، تواجه الشكوك من كلّ جانب ومهما كانت نتيجته راجحة في رأي المجتهد ، فهو لا يجزم بصحتها في الواقع ، ما دام يحتمل خطأه في استناجها ؛ إمّا لعدم صحّة النصّ في الواقع وإن بدأ له صحيحاً ، أو لخطأ في فهمه ، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص ، أو لعدم استيعابه نصوصاً أخرى ذات دلالة في الموضوع ذهل عنها الممارس أو عاثت بها القرون .

٣٤٤

وهذا لا يعني بطبيعة الحال إلغاء عملية الاجتهاد أو عدم جوازها ، فإنّ الإسلام ـ بالرغم من الشكوك التي تكتنف هذه العملية ـ قد سمح بها ، وحدّد للمجتهد المدى الذي يجوز له أن يعتمد فيه على الظن ، ضمن قواعد تُشرح عادة في علم أصول الفقه ، وليس على المجتهد إثمٌ إذا اعتمد ظنّه في الحدود المسموح بها ، سواء أخطأ أو أصاب .

وعلى هذا الضوء يصبح من المعقول ومن المحتمل أن توجد لدى كلّ مجتهد مجموعة من الأخطاء والمخالفات لواقع التشريع الإسلامي ، وإن كان معذوراً فيها ، ويصبح من المعقول أيضاً أن يكون واقع التشريع الإسلامي في مجموعة من المسائل التي يعالجها موزّعاً هنا وهناك بنسب متفاوتة في آراء المجتهدين ، فيكون هذا المجتهد على خطأ في مسألة وصواب في أخرى ، ويكون الآخر على العكس .

وأمام هذا الواقع الذي شرحناه عن عملية الاجتهاد والمجتهدين ، لا يملك الممارس لعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي ، إلاّ أن ينطلق في اكتشافه من أحكام ثبتت باجتهاد ظنّي معيّن ليجتازها إلى ما هو أعمق وأشمل ، إلى نظريات الإسلام في الاقتصاد ومذهبه الاقتصادي .

ولكن علينا أن نتساءل : هل من الضروري أن يعكس لنا اجتهاد كلّ واحد من المجتهدين ـ بما يضمّ من أحكام ـ مذهباً اقتصادياً كاملاً ، وأُسساً موحّدة منسجمة مع بناء تلك الأحكام وطبيعتها ؟

ونجيب على هذا السؤال بالنفي ؛ لأنّ الاجتهاد الذي يقوم على أساسه استنتاج تلك الأحكام معرّض للخطأ ، وما دام كذلك فمن الجائز أن يضمّ اجتهاد المجتهد عنصراً تشريعياً غريباً على واقع الإسلام ، قد أخطأ المجتهد في استنتاجه ، أو يفقد عنصراً تشريعياً إسلامياً لم يوفّق المجتهد للظفر به في النصوص التي مارسها وقد تصبح مجموعة الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده متناقضة في أسسها بسبب هذا أو ذاك ، ويتعذّر عندئذٍ الوصول إلى رصيد نظري كامل يوحّد بينها ، أو تفسيرٍ مذهبيّ شامل يضعها جميعاً في اطرادٍ واحدٍ .

ولهذا يجب أن نفرّق بين واقع التشريع الإسلامي كما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبين الصورة الاجتهادية كما يرسمها مجتهد معيّن خلال ممارسته للنصوص فنحن نؤمن بأنّ واقع التشريع الإسلامي في المجالات الاقتصادية ليس مرتجلاً ، ولا وليد نظرات متفاصلة ومنعزلة بعضها عن البعض ، بل إنّ التشريع الإسلامي في تلك المجالات يقوم على أساس موحّدٍ ، ورصيد مشترك من المفاهيم ، وينبع من نظريات الإسلام وعمومياته في شؤون الحياة الاقتصادية .

٣٤٥

وإيماننا بهذا هو الذي جعلنا نعتبر الأحكام بناءً علْوياً يجب تجاوزه إلى ما هو أعمق وأشمل ، وتخطيه إلى الأسس التي يقوم عليها هذا البناء العلْوي وينسجم معها ، ويعبّر عن عمومياتها في كلّ تفصيلاته وتفريعاته ، دون تناقض أو نشاز ولولا الإيمان بأنّ أحكام الشريعة تقوم على أسس موحّدة ، لما كان هناك مبرر لممارسة عملية اكتشاف للمذهب ، من وراء الأحكام التفصيلية في الشريعة .

كل هذا صحيح بالنسبة إلى واقع التشريع الإسلامي وأمّا بالنسبة إلى هذا الاجتهاد أو ذاك من اجتهادات المجتهدين ، فليس من الضروري أن تعكس الأحكام التي يضعها ذلك الاجتهاد مذهباً اقتصادياً كاملاً ، وأساساً نظرياً شاملاً ، ما دام من الممكن فيها أن تضمّ عنصراً غريباً أو تفقد عنصراً أصيلاً بسبب خطأ المجتهد .

وقد يؤدّي خطأ واحدٌ في مجموعة تلك الأحكام إلى قلب الحقائق في عملية الاكتشاف رأساً على عقب ، وبالتالي إلى استحالة الوصول إلى المذهب الاقتصادي عن طريق تلك الأحكام .

ولهذا قد يواجه الممارس لعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي محنة ، هي محنة التناقض بين وصفه مكتشفاً للمذهب ، ووصفه مجتهداً في استنباط الأحكام وذلك فيما إذا افترضنا : أنّ المجموعة من الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده الخاص غير قادرة على الكشف عن المذهب الاقتصادي ، فالممارس في هذه الحالة بوصفه مجتهداً في استنباط تلك الأحكام ، مدفوع بطبيعة اجتهاده إلى اختيار تلك الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده ، لينطلق منها في اكتشافه للمذهب الاقتصادي ولكنّه بوصفه مكتشفاً للمذهب يجب عليه أن يختار مجموعة متّسقة من الأحكام ، منسجمة في اتّجاهاتها ومدلولاتها النظرية ، ليستطيع أن يكتّشف على أساسها المذهب وهو حين لا يجد هذه المجموعة المتّسقة في الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده الشخصي ، يجد نفسه مضطراً إلى اختيار نقطة انطلاق أخرى ، مناسبة لعملية الاكتشاف ولنجسّد المشكلة بصورة أوضح في المثال التالي :

مجتهد رأى أنّ النصوص تربط ملكية الثروات الطبيعية الخام بالعمل ، وتنفي تملّكها بأيّ طريقة أخرى سوى العمل ، ووجد لهذه النصوص استثناءً واحداً في نصّ يقرر في بعض المجالات : التملّك بطريقة أخرى غير العمل .

٣٤٦

إنّ هذا المجتهد سوف تبدو له نتائج النصوص ومعطياتها ـ حسب اجتهاده ـ قلقة غير متّسقة ومصدر هذا القلق وعدم الاتساق : النصّ الاستثنائي ، إذ لولاه لاستطاع أن يكشف على أساس مجموع النصوص الأخرى أنّ الملكية في الإسلام تقوم على أساس العمل فماذا يصنع هذا المجتهد ، وبم يتغلّب على التناقض بين موقفيه الاجتهادي والاكتشافي ؟

إنّ المجتهد الذي يواجه هذا التناقض يحتمل عادة تفسيرين لذلك القلق وعدم الاتساق بين الأحكام التي أدى إليها اجتهاده :

أحدهما : أنّ بعض النصوص التي مارسها غير صحيحة ، كالنصّ الاستثنائي في الفرضية التي افترضناها مثلاً ، بالرغم من توفّر الشروط التي أمر الإسلام باتباع كلّ نصّ تتوفّر فيه وعدم صحّة بعض النصوص أدّى إلى دخول عنصر تشريعي غريب في المجموعة التي يضمّها اجتهاده من أحكام ، وأدّى بالتالي إلى تنافر تلك الأحكام على الصعيد النظري وفي عملية الاكتشاف .

والتفسير الآخر : أنّ هذا التنافر المحسوس بين عناصر المجموعة سطحي ، وليس له واقع ؛ وإنّما نتج إحساس الممارس به عن عدم قدرته على الاهتداء إلى سرّ الوحدة بين تلك العناصر ، وتفسيرها النظري المشترك .

وهنا يختلف موقف الممارس بوصفه مجتهداً يستنبط الأحكام ، عن موقفه بوصفه مكتشفاً للمذهب الاقتصادي فهو باعتباره مجتهداً يستنبط الأحكام لا يمكنه أن يتخلّى في عمله عن الأحكام التي أدّى إليها اجتهاده ، وإن بدت له متنافرة على الصعيد النظري ، مادام يحتمل أن يكون مرّد هذا التنافر إلى عجزه عن استكناه أسرارها وأُسسها المذهبية ولكن تمسّكه بتلك الأحكام لا يعني قطعيتها ، بل هي نتائج ظنّية ، ما دامت تقوم على أساس الاجتهاد الظنّي الذي يبرّر الأخذ بها ، بالرغم من احتمال الخطأ .

وأمّا حين يريد هذا الفقيه أن يتخطّى فقه الأحكام إلى فقه النظريّات ، ويمارس عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام ، فإنّ طبيعة العملية تفرض عليه نوع الأحكام التي يجب أن ينطلق منها ، وتحتّم أن تكون نقطة الانطلاق مجموعة متّسقة ومنسجمة من الأحكام ، فإنّ استطاع أن يجد هذه المجموعة فيما يضمّه اجتهاده الشخصي من أحكام ، وينطلق منها في عملية الاكتشاف لفهم الأسس العامة للاقتصاد الإسلامي ، دون أن يُمنى بتناقض أو تنافر بين عناصر تلك المجموعة ، فهي فرصة ثمينة تتّحد فيها شخصية الممارس بوصفه فقيهاً يستنبط الأحكام ، مع شخصيته بوصفه مكتشفاً للنظريّات .

٣٤٧

وأمّا إذا لم يسعد بهذه الفرصة ، ولم يسعفه اجتهاده بنقطة الانطلاق المناسبة ، فإنّ هذا لن يؤثّر على تصميمه في العملية ، ولا على إيمانه بأنّ واقع التشريع الإسلامي يمكن أن يفسّر تفسيراً نظرياً متّسقاً شاملاً والسبيل الوحيد الذي يتحتّم على الممارس سلوكه في هذه الحالة أن يستعين بالأحكام التي أدّت إليها اجتهادات غيره من المجتهدين ؛ لأنّ في كلّ اجتهاد مجموعة من الأحكام تختلف إلى حدّ كبير عن المجاميع التي تشتمل عليها الاجتهادات الأخرى .

وليس من المنطقي أن نترقّب اكتشاف مذهب اقتصادي وراء كلّ مجموعة من تلك المجاميع ، وإنّما نؤمن بمذهب اقتصادي واحد ، تقوم على أساسه أحكام الشريعة الموجودة ، ضمن تلك المجاميع ، ففي حالة التنافر بين عناصر المجموعة الواحدة ، التي يتبّناها اجتهاد الممارس يتعيّن عليه في عملية الاكتشاف أن يزيل العناصر القلقة ، التي تؤدّي إلى التناقض على الصعيد النظري ، ويستبدلها بنتائج وأحكام في اجتهادات أخرى ، أكثر انسجاماً وتسهيلاً لعملية الاكتشاف ، ويكوّن مجموعة ملفقة من اجتهادات عديدة يتوفّر فيها الانسجام ، لينطلق منها ويخرج في النهاية باكتشاف الرصيد النظري لتلك المجموعة الملفّقة من الأحكام الشرعية .

وأقل ما يقال في تلك المجموعة : أنّها صورة من الممكن أن تكون صادقة كلّ الصدق في تصوير واقع التشريع الإسلامي وليس إمكان صدقها أبعد من إمكان صدق أي صورة أخرى من الصور الكثيرة ، التي يزخر بها الصعيد الفقهي الاجتهادي وهي بعد ذلك تحمل مبرّراتها الشرعية ؛ لأنّها تعبّر عن اجتهادات إسلامية مشروعة ، تدور كلّها في فلك الكتاب والسنّة ولأجل ذلك يصبح بالإمكان للمجتمع الإسلامي أن يختارها في مجال التطبيق من بين الصور الاجتهادية الكثيرة للشريعة ، التي يجب عليه أن يختار واحدة منها .

وهذا كلّ ما يمكن إنجازه في عملية الاكتشاف للاقتصاد الإسلامي عندما يعجز الاجتهاد الشخصي للممارس عن تكوين النقطة المناسبة للانطلاق ، بل إنّ هذا هو كلّ ما نحتاج إليه تقريباً بهذا الصدد وماذا نحتاج بعد أن نكتشف مذهباً اقتصادياً يتمتع بإمكان الصدق والدقّة في التصوير بدرجة لا تقلّ عن حظّ أيّ صورة اجتهادية أخرى ، وتتوفّر فيها مبرّرات النسب الإسلامي باعتبار انتسابها إلى مجتهدين أكفّاء ، وتحمل من الإسلام رخصة التطبيق في الحياة الإسلامية ؟!

٣٤٨

خداع الواقع التطبيقي :

قد دخل المذهب الاقتصادي في الإسلام حياة المجتمع بوصفه النظام السائد في عصر النبوّة ، وعاش على صعيد التطبيق مجسداً في واقع العلاقات الاقتصادية ، التي كانت قائمة بين أفراد المجتمع الإسلامي يومذاك ولأجل هذا يصبح من الممكن ـ خلال عملية اكتشاف الاقتصاد الإسلامي ـ أن ندرسه ونبحث عنه على الصعيد التطبيقي ، كما ندرسه ونبحث عنه على الصعيد النظري فإنّ التطبيق يحدّد ملامح الاقتصاد الإسلامي وخصائصه كما تحدّد نصوص النظرية في مجالات التشريع ولكن النصوص التشريعية للنظرية أقدر على تصوير المذهب من الواقع التطبيقي ؛ لأنّ التطبيق نصّ تشريعي في ظرف معيّن قد لا يستطيع أن يعكس المضمون الضخم لذلك النصّ ، ولا أن يصوّر مغزاه الاجتماعي كاملاً ، فيختلف إلهام التطبيق ومعطاه التصوّري للنظرية عن المعُطى الفكري للنصوص التشريعية نفسها ومرّد هذا الاختلاف إلى خداع التطبيق لحواس الممارس الاكتشافية ، نتيجة لارتباط التطبيق بظروف موضوعية خاصة .

ويكفي مثالاً على هذا الخداع أنّ الممارس الذي يريد أن يتعرّف على طبيعة الاقتصاد الإسلامي من خلال التطبيق ، قد يوحي إليه التطبيق بأنّ الاقتصاد الإسلامي رأسمالي ، يؤمن بالحريّة الاقتصادية ، ويفسح المجال أمام الملكية الخاصة والنشاط الفردي الحرّ، كما ذهب إلى ذلك ـ بكلّ صراحة ـ بعض المفكّرين المسلمين ؛ حين تراءى لهم أفراد المجتمع الذين عاشوا تجربة الاقتصاد الإسلامي وهم أحرار في تصرفاتهم ، لا يحسّون بضغط أو تحديد ، ويتمتّعون بحقّ ملكية أيّ ثروة يتاح لهم الاستيلاء عليها من ثروات الطبيعة ، وبحقّ استثمارها

والتصرف فيها ، وليست الرأسمالية إلاّ هذا الانطلاق الحرّ الذي كان أفراد المجتمع الإسلامي يمارسونه في حياتهم الاقتصادية .

ويضيف البعض إلى ذلك : أنّ تطعيم الاقتصاد الإسلامي بعناصر لا رأسمالية والقول : بأنّ الإسلام اشتراكي في اقتصاده ، أو يحمل بذوراً اشتراكية ، ليس عملاً أميناً من الممارس ، وإنّما هو مواكبة للفكر الجديد الذي بدأ يسخط على الرأسمالية ويرفضها ، ويدعو إلى تطوير الإسلام بالشكل الذي يمكن أن يستساغ في مقاييس هذا الفكر الجديد .

٣٤٩

وأنا لا أنكر أنّ الفرد في مجتمع عصر النبوّة كان يمارس نشاطاً حرّاً ، ويملك حرّيته في المجال الاقتصادي إلى مدى مهم ، ولا أنكر أنّ هذا قد يعكس وجهاً رأسمالياً للاقتصاد الإسلامي ، ولكنّ هذا الوجه الذي نحسّه خلال النظر من بُعد إلى بعض جوانب التطبيق قد لا نحسّه مطلقاً خلال دراسة النظريّات على الصعيد النظري .

صحيح أنّ الفرد الذي كان يعيش عصر النبوّة يبدو لنا الآن أنّه كان يتمتّع بنصيب كبير من الحرّية ، التي قد لا يميّز الممارس أحياناً بينها وبين الحرّيات الرأسمالية ، ولكن هذا الوهم يتبدّد حين نردّ التطبيق إلى النظرية ، إلى النصوص التشريعية .

والسبب في هذه المفارقة بين النظرية والتطبيق ، بالرغم من أنّ كلاً منهما تعبير عن الآخر بشكلٍ من الأشكال ، يكمن في الظروف التي كان إنسان عصر التطبيق يعيشها ، ونوع الإمكانات التي كان يملكها ، فإنّ المضمون اللارأسمالي للنظرية في الاقتصاد الإسلامي كان مختفياً في مجال التطبيق إلى حدٍ ما ، بقدر ما كانت إمكانات الإنسان وقدرته على الطبيعة ضئيلة ، ويبرز المضمون اللارأسمالي باطّراد ، ويتّضح في مجال التطبيق الأمين للإسلام ، بقدر ما ترتفع تلك الإمكانات وتتّسع تلك القدرة فكلّما امتدت قدرة الإنسان ، وتنوّعت وسائله في السيطرة على الطبيعة ، انفتحت أمامه مجالات أرحب للعمل والتملّك والاستغلال ، واتضح أكثر فأكثر تناقض النظرية في الاقتصاد الإسلامي مع الرأسمالية ، وتجلى مضمونها اللارأسمالي من خلال الحلول التي يضعها الإسلام للمشاكل المستجدّة ، عبر القدرة المتنامية للإنسان على الطبيعة .

فإنسان عصر التطبيق كان يذهب ـ مثلاً ـ إلى منجم ملح أو غيره ، ويحمل ما يشاء من المواد المعدنية ، دون منع من النظرية التي كانت لها السيادة ، ولا معرّضة منها للملكية الخاصة لتلك المواد فماذا يمكن أن توحي به هذه الظاهرة في مجال التطبيق ، إذا فصلت عن دراسة النصّ التشريعي والفقهي بشكل عام ؟ إنها توحي بسيادة الحرّية الاقتصادية في المجتمع بدرجة تشبه الوضع الرأسمالي للحرّية في التملك والاستثمار .

٣٥٠

وأمّا إذا نظرنا إلى النظرية من خلال النصوص ، وجدنا أنّها توحي بشعور معاكس للشعور الذي أوحت به تلك الظاهرة في مجال التطبيق ؛ لأنّ النظرية في نصوصها تمنع أيّ فرد عن تملك المنابع المعدنية للملح أو النفط ، ولا تسمح له باستخراج ما يزيد على حاجته منها(١) وهذا نقيض صريح للرأسمالية التي تتبنّى مبدأ الملكية الخاصة ، وتفسح المجال أمام الفرد ليتملّك المنابع الطبيعية للثروة المعدنية ، واستغلالها استغلالاً رأسمالياً بقصد المزيد من الأرباح .

فهل يمكن لأحدٍ أن يطلق على اقتصاد لا يعترف بحرّية تملك منابع الملح والنفط ، ولا بأخذ المزيد من تلك المنابع ، ممّا يضيّق على الآخرين ويضيّع حقّهم في الانتفاع بالمنبع ، هل يمكن أن يطلق على هذا الاقتصاد اسم : الاقتصاد الرأسمالي ؟! أو أن يبعث في نفوسنا إحساساً باللون الرأسمالي للمذهب نظير ما بعثه التطبيق من إحساس بذلك في نفوس البعض ؟!

فيجب أن نعرف إذن : أنّ إنسان عصر التطبيق كان يستشعر الحرّية في مجالات العمل والاستغلال ، وحتى الاستفادة من منابع الملح والبترول مثلاً ، لأجل أنّه لم يكن يستطيع في الغالب ـ بحكم ظروف الطبيعة ، وانخفاض مستوى وسائله وبدائيتها ـ أن يعمل ويشتغل خارج الحدود المسموح بها من قبل النظرية فهو لا يتمكّن مثلاً أن يستخرج من المادة المعدنية كميات هائلة ـ كالكميات الهائلة التي تستخرج اليوم ـ ؛ لأنّه لم يكن مجهّزاً ضد الطبيعة بما جهز به الإنسان الحديث ، فلا يصطدم في واقع حياته بتحديد الكمّية التي يباح له استخراجها ؛ لأنّه مهما أراد أن يستخرج بوسائله البدائية ، فلن يستخرج في الغالب القدر الذي يضرّ بشِرْكَة الآخرين معه في الانتفاع بالمعدن وإنّما يبرز أثر النظرية بشكل صارخ ، وينعكس تناقضها مع التفكير الرأسمالي ، حين ترفع إمكانات الإنسان ، وتنمو قدرته على غزو الطبيعة ويصبح بإمكان أفراد قلائل أن يستغلّوا معدناً بكامله ، ويجدوا في أسواق العامل المترابطة والمفتوحة كلّها مجالاً لأعظم الأرباح .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٧ ، الباب ٥ من أبواب إحياء الموات ، الحديث٢ ، وراجع شرائع الإسلام ٣ : ٢٧٨ .

٣٥١

وكذلك أيضاً نرى مثل هذا تماماً في النظرية التي لا تسمح للفرد بأن يملك من الثروات الطبيعية والمواد الخام ـ كخشب الغابات مثلاً ـ إلاّ ما يباشر بنفسه حيازته وإنتاجه فإنّ هذه النظرية لا يمكن لإنسان عصر التطبيق أن يحسّ بها في حياته العملية إحساساً واضحاً عميقاً ما دام العمل في ذلك العصر يقوم بصورة عامة على أساس المباشرة وما بحكمها ، ولكن حين تتضخّم الكمية التي يمكن استخراجها وحيازتها تضخّماً هائلاً ، بسبب الأدوات والآلات مع كمية من النقد التي يمكن أن تسدّد منها أجور العمّال ، حين يتمّ كلّ ذلك ، يصبح في مستوى قدرة ذلك الفرد الاعتماد على العمل المأجور في استخراج وحيازة المواد الخام من ثروات الطبيعة .

وهذا ما تمّ فعلاً في الواقع المعاش ، إذ أصبح العمل المأجور والإنتاج الرأسمالي هو الأساس في استخراج وحيازة تلك المواد وعند هذا فقط يظهر بشكل بارز التناقض بين النظرية في الاقتصاد الإسلامي ، وبين الرأسمالية ، ويبدو لكلّ ممارس ـ ما لم يكن أعمى ـ : أنّ النظرية ليست ذات طبيعة رأسمالية ، وإلاّ فأيّ اقتصاد رأسمالي يحارب الأسلوب الرأسمالي في حيازة الثروات الطبيعية ؟‍‍‍!

وهكذا نجد أنّ إنسان عصر الإنتاج الرأسمالي الذي يملك الآلات التي تقطع كميات هائلة من خشب الغابات في ساعة ، وتوجد في محفظته النقود التي تغري المتعطّلين من العمّال بالعمل عنده ، واستخدام تلك الآلات في اقتطاع الخشب ، وتتوفّر لديه وسائط النقل التي تنقل تلك الكميات الضخمة إلى محلات البيع ، وتوجد بانتظاره الأسواق التي تهضم كلّ تلك الكميات إن هذا الفرد هو الذي سيشعر إذا عاش حياة إسلامية ، بمدى مناقضة النظرية في الإسلام لمبدأ الحرية الاقتصادية في الرأسمالية ، حينما لا تسمح له النظرية بإقامة مشروع رأسمالي لاقتطاع الخشب من الغابة ، وبيعه بأغلى الأثمان .

فالنظرية إذن لم تبرز وجهها من خلال التطبيق الذي عاشته ، والفرد الذي عاش تطبيقها لم يتجلّ له وجهها الكامل خلال المشاكل والعمليات التي مارسها في حياته ، وإنّما يبدو ذلك الوجه الكامل من خلال النصوص بصيغها العامة المحدّدة .

وأولئك الذين اعتقدوا بأنّ الاقتصاد الإسلامي رأسمالي يؤمن بالحرّيات الرأسمالية ، قد يكون لهم بعض العذر إذا كانوا قد استلهموا إحساسهم من خلال دراسة إنسان عصر التطبيق ، والقدر الذي كان يشعر به من الحرّية ، ولكنّ هذا إحساس خادع ؛ لأنّ إلهام التطبيق لا يكفي بدلاً عن معطيات النصوص التشريعية والفقهية نفسها ، التي تكتشف عن مضمون لا رأسمالي .

٣٥٢

وفي الواقع : أنّ الاعتقاد بوجود مضمون لا رأسمالي للنظرية الاقتصادية في الإسلام على ضوء ما قدمناه ليس نتيجة تطوير أو تطعيم أو عطاء ذاتي جديد للنظرية ، كما يقول أولئك المؤمنون برأسمالية الاقتصاد الإسلامي ، الذين يتّهمون الاتجاه إلى تفسير الاقتصاد الإسلامي اتجاهاً لا رأسمالياً ، ويقولون عنه : إنّه اتجاه منافق يحاول إدخال عناصر غريبة في الإسلام ، تملقاً للمدّ الفكري الحديث ، الذي شجب الرأسمالية في الحرّية والملكية .

ونحن نملك الدليل التأريخي على تفنيد هذا الاتهام ، وإثبات أمانة الاتجاه اللارأسمالي في تفسير الاقتصاد الإسلامي ، وهذا الدليل هو النصوص التشريعية والفقهية التي نجدها في مصادر قديمة يرجع تأريخها إلى ما قبل مئات السنين ، وقبل أن يوجد العالم الحديث والاشتراكية الحديثة بكلّ مذاهبها وأفكارها .

وحين نبرز الوجه اللارأسمالي للاقتصاد الإسلامي ، الذي يعرضه هذا الكتاب ، ونؤكّد على المفارقات بينه وبين المذهب الرأسمالي في الاقتصاد لا نريد بذلك أن نمنح الاقتصاد الإسلامي طابعاً اشتراكياً ، وندرجه في إطار المذاهب الاشتراكية بوصفها النقيض للرأسمالية ؛ لأنّ التناقض المستقطب القائم بين الرأسمالية والاشتراكية ، يسمح بافتراض قطب ثالث في هذا التناقض ، ويسمح للاقتصاد الإسلامي خاصة أن يحتلّ مركز القطب الثالث ، إذا أثبت من الخصائص والملامح والسمات ما يؤهّله لهذا الاستقطاب في معترك التناقض

وإنما يسمح التناقض بدخول قطب ثالث إلى الميدان لأنّ الاشتراكية ليست مجرّد نفي للرأسمالية ، حتى يكفي لكي تكون اشتراكياً أن ترفض الرأسمالية ، وإنّما هي مذهب إيجابيّ له أفكاره ومفاهيمه ونظريّاته وليس من الحتم أن تكون هذه الأفكار والمفاهيم والنظريّات صواباً إذا كانت الرأسمالية على خطأ ولا أن يكون الإسلام اشتراكياً إذا لم يكن رأسمالياً فليس من الأصالة والاستقلال والموضوعية في البحث ، ونحن نمارس عملية اكتشاف للاقتصاد الإسلامي ، أن نحصر هذه العملية ضمن نطاق التناقض الخاص بين الرأسمالية والاشتراكية ، ويندمج الاقتصاد الإسلامي بأحد القطبين المتناقضين ، فنسرع إلى وصفه بالاشتراكية إذا لم يكن رأسمالياً ، أو بالرأسمالية إذا لم يكن اشتراكياً .

٣٥٣

وسوف تتجلّى خلال البحوث المقبلة أصالة الاقتصاد الإسلامي ، ومناقضته للاشتراكية في موقفه من الملكيّة الخاصة واحترامه لها ، واعترافه ـ في حدود مستمدّة من نظرّيته العامة ـ بمشروعية الكسب الناتج عن ملكيّة مصدر من مصادر الإنتاج غير العمل بينما لا تعترف الاشتراكية بمشروعية الكسب الناتج عن ملكية أيّ مصدر من مصادر الإنتاج ، إلاّ العمل المباشر وهذا في الحقيقة هو التناقض بين النظرية الإسلامية والنظرية الاشتراكية في الاقتصاد وكلّ مظاهر التناقض بينهما إنّما تنبع من هذا المنطلق الذي سيتّضـح أكثر فأكثر حين نباشـر التفصيـلات ، ونضـع النقاط علـى الحـروف .

الكتاب الثاني ٢

نظرية توزيع ما قبل الإنتاج

١ ـ الأحكام .

٢ ـ النظرية .

٣ ـ الملاحظات .

نظرية توزيع ما قبل الإنتاج ١

الأحكام

توزيع الثروة على مستَوَيين .

مصادر الطبيعة للإنتاج

٣٥٤

توزيع الثروة على مستويين(١)

توزيع الثروة يتمّ على مستويين :

ـــــــــــــــ

(١) تتردّد في هذا الفصل عدّة مصطلحات ، يجب تحديد معناها منذ البدء :

أ ـ ( مبدأ الملكية المزدوجة ) وهو المبدأ الإسلامي في الملكية ، الذي يؤمن بأشكال ثلاثة لها وهي : الملكية الخاصة ، وملكية الدولة ، والملكية العامة .

ب ـ ( مِلكية الدولة ) : وتعني تملّك المنصب الإلهي في الدولة الإسلامية ، الذي يمارسه النبيّ أو الإمام ، للمال على نحوٍ يخوّل لولي الأمر التصرّف في رقبة المال نفسه وفقاً لما هو مسئول عنه من المصالح ، كـ : تملّكه للمعادن مثلاً .

ج ـ ( الملكية العامة ) : وهي تملّك الأمّة أو الناس جميعاً لمال من الأموال .

وكذلك تشمل الملكية العامة الأموال التي تكون رقبتها مِلكاً للدولة ولكن لا يسمح لها بالتصرف في رقبة المال نفسه ؛ لورود حقّ عام للأمة أو الناس جميعاً على المال يفرض الانتفاع به مع الاحتفاظ برقبته ، فالمركّب من ملكية الدولة والحقّ العام للأمّة أو للناس جميعاً في الاحتفاظ برقبة المال نطلق عليه اسم : ( الملكية العامة ) أيضاً ، وبهذا يعرف أنّ ملكية الدولة والملكية العامة كمصطلحين لهذا الكتاب يناظران تقريباً مصطلحي الأموال الخاصة للدولة والأموال العامة للدولة في لغة القانون الحديث د ـ ( ملكية الأمة ) : وهي نوع من الملكية العامة ، وتعني ملكية الأمة الإسلامية بمجموعها وامتدادها التأريخي لمال من الأموال ، كملكية الأمّة الإسلامية للأرض العامرة المفتوحة بالجهاد .

هـ ـ ( ملكية الناس ) : وهي أيضاً نوع من الملكية العامة ، ونطلق هذا الاسم على كلّ مالٍ لا يسمح لفردٍ أو جهةٍ خاصة بتملّكه ، ويسمح للجميع بالانتفاع به ، فما كان من هذا القبيل من الأموال نطلق عليه اسم : الملكية العامة للناس فالملكية العامة للناس في مصطلح هذا الكتاب تعني : أمراً سلبياً ، وهو عدم السماح للفرد أو الجهة الخاصة بتملّك المال وأمراً إيجابياً ، وهو : السماح للجميع بالانتفاع به ، وذلك كما في البحار والأنهار الطبيعية .

و ـ ( الملكية العامة ) أيضاً : وقد نطلق اسم الملكية العامة على ما يشمل الحقلين معاً ، حقل ملكية الدولة ، وحقل الملكية العامة المتقدّمين ؛ للتعبير بذلك عمّا يقابل الملكية الخاصة .

ز ـ ( الملكية الخاصة ) : ونعني بها حين نطلقها في هذا الكتاب ، اختصاص الفرد ـ أو أيّ جهة محدودة النطاق ـ بمال معيّن ، اختصاصاً يجعل له مبدئياً الحقّ في حرمان غيره من الانتفاع به ، بأيّ شكل من الأشكال ، ما لم توجد ضرورة وحالة استثنائية ، نظير ملكية الإنسان لِما يحتطبه من خشب الغابة أو يغترفه من ماء النهر .

ح ـ ( الحقّ الخاص ) : ونعني به حين نطلقه في هذا البحث : درجة من اختصاص الفرد بالمال تختلف عن الدرجة التي تعبّر عنها الملكية في مدلولها التحليل والتشريعي فالملكية : اختصاص مباشر بالمال والحق : اختصاص ناتج عن اختصاص آخر ، وتابع له في استمراره ومن الناحية التشريعية تؤدّي الملكية إلى إعطاء المالك حقّ حرمان غيره من الاستفادة بملكه ، بينما لا يؤدّي الحق الخاص إلى هذه النتيجة ، بل يبقى للغير الاستفادة من المال بشكل تنظّمه الشريعة ط ـ (الإباحة العامة ) : وهي حكم شرعي يُسمح بموجبه لأيّ فردٍ بالانتفاع بالمال وتملّكه ملكية خاصة والمال الذي تثبت فيه هذه الإباحة يعتبر من المباحات العامة ، كالطير في الجو ، والسمك في البحر (المؤلّفقدس‌سره )

٣٥٥

أحدهما : توزيع المصادر المادّية للإنتاج .

والآخر : توزيع الثروة المنتَجة .

فمصادر الإنتاج هي : الأرض ، والمواد الأولية ، والأدوات اللازمة لإنتاج السلع المختلفة ؛ لأنّ هذه الأمور جميعاً تساهم في الإنتاج الزراعي أو الصناعي أو فيهما معاً .

وأمّاالثروة المنتجة فهي : السلع التي تنجز خلال عمل بشري مع الطبيعة ، وتنتج عن عملية تركيب بين تلك المصادر المادّية للإنتاج.

فهناك إذن ثروة أوليّة وهي : مصادر الإنتاج ، وثروة ثانوية وهي : ما يظفر به الإنسان عن طريق استخدام تلك المصادر ، من متاع وسلع .

والحديث عن التوزيع يجب أن يستوعب كلتا الثروتين : الثروة الأمّ ، والثروة البنت ، مصادر الإنتاج ، والسلع المنتجة .

ومن الواضح أن توزيع المصادر الأساسية للإنتاج يسبق عملية الإنتاج نفسها ؛ لأنّ الأفراد إنّما يمارسون نشاطهم الإنتاجي وفقاً للطريقة التي يقسّم بها المجتمع مصادر الإنتاج ، فتوزيع مصادر الإنتاج قبل الإنتاج وأمّا توزيع الثروة المنتَجة فهو مرتبط بعملية الإنتاج ، ومتوقّف عليها ؛ لأنّه يعالج النتائج التي يسفر عنها الإنتاج .

والاقتصاديون الرأسماليون ، حتى يدرسون في اقتصادهم السياسي قضايا التوزيع ضمن الإطار الرأسمالي لا ينظرون إلى الثروة الكلّية للمجتمع ، وما تضمّهمن مصادر إنتاج ، وإنما يدرسون توزيع الثروة المنتجة فحسب ، أيّ الدخل الأهلي لا مجموع الثروة الأهلية ويقصدون بالدخل الأهلي : مجموع السلع والخدمات المنتجة ، أو بتعبير أصرح : القيمة النقدية لمجموع المنتوج في بحر سنة مثلاً ، فبحث التوزيع في الاقتصاد السياسي هو بحث توزيع هذه القيمة النقدية على العناصر التي ساهمت في الإنتاج ، فيحدّد لكلّ من رأس المال ، والأرض ، والمنظّم ، والعامل ، نصيبه على شكل فائدة وريع ، وربح وأجور .

ولأجل ذلك كان من الطبيعي أن تسبق بحوث الإنتاج بحث التوزيع ؛ لأنّ التوزيع مادام يعني تقسيم القيمة النقدية للسلع المنتَجة على مصادر الإنتاج وعناصره ، فهو عملية تعقب الإنتاج ، إذ ما لم تنتج سلعة لا معنى لتوزيعها أو توزيع قيمتها. وعلى هذا الأساس نجد أنّ الاقتصاد السياسي يعتبر الإنتاج هو الموضوع الأوّل من مواضيع البحث ، فيدرس الإنتاج أوّلاً ، ثمّ يتناول قضايا التوزيع .

٣٥٦

وأمّا الإسلام فهو يعالج قضايا التوزيع على نطاق أرحب وباستيعاب أشمل ؛ لأنّه لا يكتفي بمعالجة توزيع الثروة المنتجة ، ولا يتهرّب من الجانب الأعمق للتوزيع ، أي : توزيع مصادر الإنتاج ، كما صنعت الرأسمالية المذهبية ، إذ تركت مصادر الإنتاج يسيطر عليها الأقوى دائماً ، تحت شعار الحرية الاقتصادية ، التي تخدم الأقوى وتمهّد له السبيل إلى احتكار الطبيعة ومرافقها ، بل إنّ الإسلام تدخّل تدخّلاً إيجابياً في توزيع الطبيعة ، وما تضمنه من مصادر إنتاج ، وقسّمها إلى عدّة أقسام ، لكلّ قسم طابعه المميّز من الملكية الخاصة ، أو الملكية العامة ، وملكية الدولة ، أو الإباحة العامة ووضع لهذا التقسيم قواعده ، كما وضع إلى صف ذلك أيضاً القواعد التي يقوم على أساسها توزيع الثروة المنتَجة ، وصمم التفصيلات في نطاق تلك القواعد .

ولهذا السبب تصبح نقطة الانطلاق ، أو المرحلة الأولى في الاقتصاد الإسلامي هي : التوزيع بدلاً من الإنتاج ، كما كان في الاقتصاد السياسي التقليدي ؛ لأنّ توزيع مصادر الإنتاج نفسها يسبق عملية الإنتاج ، وكل تنظيم يتّصل بنفس عملية الإنتاج أو السلع المنتجة يصبح في الدرجة الثانية .

وسوف نبدأ الآن بتحديد موقف الإسلام من توزيع المصادر الأساسية ، توزيع الطبيعة بما تضمّه من ثروات .

المصدر الأصيل للإنتاج :

وقبل أن نبدأ بالتفصيلات التي يتمّ توزيع المصادر الأساسية وفقاً لها ، يجب أن نحدّد هذه المصادر.

ففي الاقتصاد السياسي يذكر عادة أنّ مصادر الإنتاج هي :

١ ـ الطبيعة .

٢ ـ رأس المال .

٣ ـ العمل ، ويضمّ التنظيم الذي يمارسه المنظّم للمشروع .

غير أنّنا إذ نتحدّث عن توزيع المصادر في الإسلام وأشكال ملكيّتها لا بدّ لنا أن نستبعد من مجال البحث المصدرين الأخيرين ، وهما : رأس المال ، والعمل .

٣٥٧

أمّا رأس المال فهو في الحقيقة ثروة منتجة ، وليس مصدراً أساسياً للإنتاج ، لأنّه يعبّر اقتصادياً عن كلّ ثروة تمّ إنجازها وتبلورت خلال عمل بشري لكي تساهم من جديد في إنتاج ثروة أخرى فالآلة التي تنتج النسيج ليست ثروة طبيعية خالصة ، وإنّما هي مادّة طبيعية كيّفها العمل الإنساني خلال عملية إنتاج سابقة ونحن إنّما نبحث الآن في التفصيلات التي تنظم توزيع ما قبل الإنتاج ، أي توزيع الثروة التي منحها الله لمجتمع قبل أن يمارس نشاطاً اقتصادياً وعملاً إنتاجياً فيها ومادام رأس المال وليد إنتاج سابق ، فسوف يندرج توزيعه في بحث توزيع الثروة المنتجة ، بما تضمّه من سلع استهلاكية وإنتاجية .

وأمّا العمل فهو العنصر المعنوي من مصادر الإنتاج ، وليس ثروة مادّية تدخل في نطاق الملكية الخاصة أو العامة .

وعلى هذا الأساس تكون الطبيعة وحدها من بين مصادر الإنتاج موضوع درسنا الآن ؛ لأنّها تمثّل العنصر المادّي السابق على الإنتاج .

اختلاف المواقف المذهبية من توزيع الطبيعة :

والإسلام في علاجه لتوزيع الطبيعة يختلف عن الرأسمالية والماركسية في العموميات وفي التفاصيل فالرأسمالية تربط ملكية مصادر الإنتاج ، ومصير توزيعها ، بأفراد المجتمع أنفسهم ، وما يبذله كلّ واحد منهم من طاقات وقوى ـ داخل نطاق الحرية الاقتصادية الموفّرة للجميع ـ في سبيل الحصول على أكبر نصيب ممكن من تلك المصادر ، فتسمح لكلّ فردٍ بتملّك ما ساعده الحظّ وحالفه التوفيق على الظفر به ، من ثروات الطبيعة ومرافقها .

وأمّا الماركسية فهي ترى تبعاً لطريقتها العامة في تفسير التأريخ : أنّ ملكية مصادر الإنتاج تتّصل اتصالاً مباشراً بشكل الإنتاج السائد ، فكلّ شكل من أشكال الإنتاج هو الذي يقرّر ـ في مرحلته التأريخية ـ طريقة توزيع المصادر المادّية للإنتاج ، ونوع الأفراد الذين يجب أن يملكوها ويظلّ هذا التوزيع قائماً حتى يدخل التأريخ في مرحلة أخرى ، ويتّخذ الإنتاج شكلاً جديداً ، فيضيق هذا الشكل الجديد ذرعاً بنظام التوزيع السابق ويتعثّر به في طريق نموّه وتطوّره ، حتى يتمزّق نظام التوزيع القديم بعد تناقض مريرٍ مع شكل الإنتاج الحديث ، وينشأ توزيع جديد لمصادر الإنتاج ، يحقّق لشكل الإنتاج الحديث الشروط الاجتماعية التي تساعده على النموّ والتطوّر فتوزيع مصادر الإنتاج يقوم دائماً على أساس خدمة الإنتاج نفسه ، ويتكيّف وفقاً لمتطلّبات نموّه وارتقائه .

٣٥٨

ففي مرحلة الإنتاج الزراعي من التأريخ كان شكل الإنتاج يحتّم إقامة توزيع المصادر على أساس إقطاعي ، بينما تفرض المرحلة التأريخية للإنتاج الصناعي الآلي إعادة التوزيع من جديد على أساس امتلاك الطبقة الرأسمالية لكلّ مصادر الإنتاج ، وفي درجة معيّنة من نموّ الإنتاج الآلي يصبح من المحتوم تبديل الطبقة الرأسمالية بالطبقة العاملة ، وإعادة التوزيع على هذا الأساس .

والإسلام لا يتّفق في مفهومه عن توزيع ما قبل الإنتاج مع الرأسمالية ، ولا مع الماركسية فهو لا يؤمن بمفاهيم الرأسمالية عن الحرّية الاقتصادية ، كما مرّ بنا في بحث (مع الرأسمالية ) وكذلك لا يقرّ الصلة الحتمية ، التي تضعها الماركسية بين ملكية المصادر وشكل الإنتاج السائد ، كما رأينا في بحث (اقتصادنا في معالمه الرئيسية ) وهو لذلك يحدّ من حرّية تملّك الأفراد لمصادر الإنتاج ، ويفصل توزيع تلك المصادر عن شكل الإنتاج ؛ لأنّ المسألة في نظر الإسلام ليست مسألة أداة إنتاج تتطلّب نظاماً للتوزيع يلائم سيرها ونموّها ، لكي يتغيّر التوزيع كلّما استجدّت حاجة الإنتاج إلى تغيير ، وتوقف نموّه على توزيع جديد ، وإنّما هي مسألة إنسان له حاجات وميول يجب إشباعها في إطار يحافظ على إنسانيّته وينمّيها والإنسان هو الإنسان ، بحاجاته العامة وميوله الأصيلة ، سواء كان يحرث الأرض بيديه ، أو يستخدم قوى البخار والكهرباء ، ولذا يجب أن يتمّ توزيع المصادر الطبيعية للإنتاج بشكل يكفل إشباع تلك الحاجات والميول ، ضمن إطار إنساني يتيح للإنسان أن ينمّي وجوده وإنسانيته داخل الإطار العام .

فكلّ فردٍ ـ بوصفه إنساناً خاصاً ـ له حاجات لا بدّ من إشباعها ، وقد أتاح الإسلام للأفراد إشباعها عن طريق الملكية الخاصة التي أقرّها ووضع لها أسبابها وشروطها .

وحين تقوم العلاقات بين الأفراد ، ويوجد المجتمع ، يكون لهذا المجتمع حاجاته العامة أيضاً التي تشمل كلّ فرد بوصفه جزءاً من المركب الاجتماعي ، وقد ضمن الإسلام للمجتمع إشباع هذه الحاجات ، عن طريق الملكية العامة لبعض مصادر الإنتاج .

وكثيراً ما لا يتمكّن بعض الأفراد من إشباع حاجاتهم عن طريق الملكية الخاصة فيُمنى هؤلاء بالحرمان ، ويختلّ التوازن العام ، وهنا يضع الإسلام الشكل الثالث للملكية ، ملكية الدولة ، ليقوم ولي الأمر بحفظ التوازن العام .

وهكذا يتمّ توزيع المصادر الطبيعية للإنتاج ، بتقسيم هذه المصادر إلى حقول الملكية الخاصة ، والملكية العامة ، وملكية الدولة .

٣٥٩

مصادر الطبيعة للإنتاج :

ويمكننا تقسيم المصادر الطبيعية للإنتاج في العالم الإسلامي إلى عدّة أقسام :

١ ـ الأرض : وهي أهمّ ثروات الطبيعة ، التي لا يكاد الإنسان يستطيع بدونها أن يمارس أيّ لون من ألوان الإنتاج .

٢ ـ المواد الأولية التي تحويها الطبقة اليابسة من الأرض ، كالفحم والكبريت والبترول والذهب والحديد ، ومختلف أنواع المعادن .

٣ ـ المياه الطبيعية التي تعتبر شرطاً من شروط الحياة المادّية للإنسان ، وتلعب دوراً خطيراً في الإنتاج الزراعي والمواصلات .

٤ ـ بقية الثروات الطبيعية ، وهي محتويات البحار والأنهار من الثروات التي تستخرج بالغوص أو غيره، كاللآليء والمرجان ، والثروات الطبيعية التي تعيش على وجه الأرض من حيوان ونبات ، والثروات الطبيعية المنتشرة في الجو، كالطيور والأوكسجين ، والقوى الطبيعية المنبثّة في أرجاء الكون ، كقوة انحدار الشلالات من الماء التي يمكن تحويلها إلى تيّار كهربائي ، ينتقل بواسطة الأسلاك إلى أيّ نقطة ، وغير ذلك من ذخائر الطبيعة وثروتها .

[١] الأرض

طبّقت الشريعة على الأراضي التي تضمّها دار الإسلام الأشكال الثلاثة للملكية ، فحكمت على قسم منها بالملكية العامة ، وعلى قسم آخر بملكية الدولة ، وسمحت للملكية الخاصة بقسم ثالث .

وهي في تشريعاتها هذه تربط نوع ملكية الأرض بسبب دخولها في حوزة الإسلام ، والحالة التي كانت تسودها حين أصبحت أرضاً إسلامية فملكية الأرض في العراق تختلف عن ملكية الأرض في إندونيسيا ؛ لأنّ العراق وإندونيسيا يختلفان في طريقة انضمامها إلى دار الإسلام ، كما أنّ العراق نفسه ـ مثلاً ـ تختلف بعض أراضيه عن بعض في نوع الملكية ، تبعاً للحالة التي كانت تسود هذه الأرض وتلك عندما دشّن العراق حياته الإسلامية .

٣٦٠

[ أقسام الأراضي الإسلامية ]

ولكي ندخل في التفصيلات نقسّم الأرض الإسلامية إلى أقسام ، ونتحدّث عن كلّ قسم منها ونوع الملكية فيه :

١ ـ الأرض التي أصبحت إسلامية بالفتح

الأرض التي أصبحت إسلامية بالفتح هي : كلّ أرض دخلت دار الإسلام نتيجة للجهاد المسلّح في سبيل الدعوة ، كأراضي العراق ومصر وإيران وسورية وأجزاء كثيرة من العالم الإسلامي .

وهذه الأراضي ليست جميعاً سواء في حالتها لحظة الفتح الإسلامي ، فقد كان فيها العامر الذي تجسّدت فيه جهود بشرية سابقة قد بذلت في سبيل استثمار الأرض للزراعة ، أو غيرها من المنافع البشرية وكان فيها العامر طبيعياً ، دون تدخّل مباشر من الإنسان كالغابات الغنيّة بأشجارها التي استمدّت غناها من الطبيعة لا من إنسان يوم الفتح كما كان فيها أيضاً الأرض المهملة ، التي لم يمتدّ إليها الأعمار البشري حتى عصر الفتح ، ولا الأعمار الطبيعي، ولذا تسمّى ميتة في العرف الفقهي ؛ لأنّها لا تنبض بالحياة ولا تزخر بأيّ نشاط

فهذه أنواع ثلاثة للأرض مختلفة تبعاً لحالتها وقت دخولها في تأريخ الإسلام .

وقد حكم الإسلام على بعض هذه الأنواع بملكية العامة ، وعلى بعضها الآخر بملكية الدولة ، كما سنرى .

أ ـ الأرض العامرة بشرياً وقت الفتح :

إذا كانت الأرض عامرة بشرياً وقت اندماجها في تأريخ الإسلام ، وداخلة في حيازة الإنسان ونطاق استثماره فهي ملك عام للمسلمين جميعاً ، من وُجِد منهم ومن يُوجد ، أي : أنّ الأمة الإسلامية بامتدادها التأريخي هي التي تملك هذه الأرض ، دون أيّ امتياز لمسلمٍ على آخر في هذه الملكية العامة ولا يسمح للفرد بتملّك رقبة الأرض ملكية خاصة .

وقد نقل المحقق النجفي في الجواهر ـ عن عدّة مصادر فقهية كالغنية(١)

ـــــــــــــــ

(١) غنية النزوع : ٢٠٤ ـ ٢٠٥ .

٣٦١

والخلاف(١) والتذكرة(٢) ـ : أنّ فقهاء الأمامية مجمعون على هذا الحكم ، ومتّفقون على تطبيق مبدأ الملكية العامة على الأرض المعمورة حال الفتح(٣) كما نقل الماوردي(٤) عن الإمام مالك : القول بأنّ الأرض المفتوحة تكون وقفاً على المسلمين منذ فتحها ، بدون حاجة إلى إنشاء صيغة الوقف عليها من ولي الأمر ، ولا يجوز تقسيمها بين الغانمين وهو تعبير آخر عن الملكية العامة للأمّة .

أدلّة الملكية العامة وظواهرها :

ونصوص الشريعة وتطبيقاتها واضحة في تقرير مبدأ الملكية العامة لهذا النوع من الأرض كما يظهر من الروايات التالية :

١ ـ في الحديث عن الحلبي قال: ( سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق عن السواد ما منزلته ؟ فقال : هو لجميع المسلمين ، لمن هو اليوم ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم ، ولمن لم يُخلق بعد فقلنا : الشراء من الدهّاقين ؟ فقال : لا يصلح إلاّ أن يشتري منهم على أن يصيّرها للمسلمين فإذا شاء وليّ الأمر أن يأخذها أخذها . قلنا : فإن أخذها منه ؟ قال : يرّد إليه رأس ماله وله ما أكل من غلّتها بما عمل ) (٥) .

٢ ـ وفي حديث عن أبي الربيع الشامي عن الإمام جعفر الصادق قال :

( لا تشتروا من أرض السواد شيئاً إلاّ من كانت له ذمّة ، فإنّما هو فيء للمسلمين ) (٦) .

ـــــــــــــــ

(١) الخلاف ٥ : ٥٣٤ ، المسألة ٢٣ .

(٢) تذكرة الفقهاء ٩ : ١٨٣ .

(٣) جواهر الكلام ٢١ : ١٥٧ .

(٤) الأحكام السلطانية ٢ : ١٣٧ .

(٥) الاستبصار ٣ : ١٠٩ ، الحديث الأوّل .

(٦) المصدر المتقدّم : الحديث ٢ وفيه : ( لا تشتر )

٣٦٢

وأرض السواد في العرف السائد يومذاك هي : الجزء العامر من أراضي العراق التي فتحها المسلمون في حرب جهادية وإنّما أطلق المسلمون هذا الاسم على الأرض العراقية ؛ لأنّهم حين خرجوا من أرضهم القاحلة في جزيرة العرب يحملون الدعوة إلى العالم ، ظهرت لهم خضرة الزرع والأشجار في أراضي العراق ، فسمّوا خضرة العراق سواداً ؛ لأنّهم كانوا يجمعون بين الخضرة والسواد في الاسم(١) .

٣ ـ وفي خبر حمّاد : أنّ الإمام موسى بن جعفر قال :( وليس لمن قاتل شيء من الأرضين ولا ما غلبوا عليه ، إلاّ ما احتوى عليه العسكر ، والأرض التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوتة متروكة في يدي من يعمّرها ويحييها ويقوم عليها على ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحقّ ؛ النصف والثلث والثلثين على قدر ما يكون لهم صالحاً ولا يضرّهم ) (٢) .

ويعني بذلك أنّ ولي الأمر يدع الأراضي المفتوحة عنوة إلى القادرين على استثمارها من أفراد المجتمع الإسلامي ، ويتقاضى منهم أجرة على الأرض ؛ لأنّها ملك مجموع الأمّة ، فحينما ينتفع الزارعون باستثمارها يجب عليهم تقديم ثمن انتفاعهم إلى الأمّة وهذا الثمن أو الأجرة هو الذي أطلق عليه في الخبر اسم :الخراج

٤ ـ وجاء في الحديث : أنّأبا بردة سأل الإمام جعفر عن شراء الأرض من أرض الخراج ، فقال :( ومن يبيع ذلك وهي أرض المسلمين ؟! ) (٣) .

ـــــــــــــــ

(١) راجع لسان العرب ٤ : ١٢٠ ، مادّة ( خضر ) .

(٢) الروع من الكافي ٥: ٤٤ ـ ٤٥ ، الحديث ٤

(٣) الاستبصار ٣ : ١٠٩ ، الحديث ٤ .

٣٦٣

وأرض الخراج تعبير فقهيٌّ عن الأرض التي نتحدّث عنها ؛ لأنّ الأرض التي تفتح وهي عامرة يفرض عليها خراج ، كما مرّ في الخبر السابق ، وتسمّى لأجل ذلك: أرضاً خراجية .

٥ ـ وفي رواية أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام وهو يشرح أقسام الأرض وأحكامها :( وما أُخذ بالسيف فذلك إلى الإمام ، يقبّله بالذي يرى ) (١) .

٦ ـ وفي تأريخ الفتوح الإسلامية : أن الخلفية الثاني طولب بتقسيم الأرض المفتوحة بين المحاربين من الجيش الإسلامي على أساس مبدأ الملكية الخاصة ، فاستشار الصحابة ، فأشار عليهعليّ عليه‌السلام بعدم التقسيم(٢) وقال له معاذ بن جبل :

( إنّك إن قسّمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم ، ثمّ يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد ، أو المرأة ، ثمّ يأتي من بعدهم قوم يسدّون من الإسلام مسدّاً وهم لا يجدون شيئاً ، فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم )(٣) .

 فقضىعمر بتطبيق مبدأ الملكية العامة ، وكتب إلى سعد بن أبي وقاص:

( أمّا بعد فقد بلغني كتابك أنّ الناس قد سألوا أن تقسّم بينهم غنائمهم وما أفاء الله عليهم ، فانظر ما أجلبوا به عليك في العسكر من كراع أو مال ، فاقسمه بين من حضر من المسلمين ، واترك الأرضين والأنهار لعمّالها ؛ ليكون ذلك في أُعطيات المسلمين ؛ فإنا لو قسّمناها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شيء )(٤) .

ـــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام ٤ : ١١٩ ، باب الخراج وعمارة الأرضيين ، الحديث ٢ ، وفيه : ( للإمام ) .

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ : ١٥١ .

(٣) فتوح البلدان ١ : ١٧٩ ، الحديث ٤٠٨ .

(٤) السير الكبير ٣ : ١٠٣٩ .

٣٦٤

وقد ذهب جماعة في تفسير إجراءات الخلفية الثاني إلى القول : بأنّ السواد ملك لأهله ـ كما جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد(١) ـ لأنّه حين ردّه عليهم عمر صارت لهم رقاب الأرض ، وتعيّن حقّ المسلمين في الخراج ، فالملكية العامة تعلّقت بالخراج لا برقبة الأرض

وقد قال بعض المفكّرين الإسلاميين المعاصرين ، ممّن أخذ بهذا التفسير : إنّ هذا تأميم للخراج وليس تأميماً للأرض .

ولكنّ الحقيقة : أنّ قيام إجراءات عمر على أساس الإيمان بمبدأ الملكية العامة ، وتطبيقه على رقبة الأرض ، كان واضحاً كلّ الوضوح ، ولم يكن ترك الأرض لأهلها اعترافاً منه بحقّهم في ملكيّتها الخاصة ، وإنّما دفعها إليهم مزارعة أو إجارة ، ليعملوا في أراضي المسلمين وينتفعوا بها ، نظير خراج يقدّمونه إليهم .

والدليل على ذلك ما جاء في كتاب الأموال لأبي عبيد :من أنّ عتبة ابن فرقد اشترى أرضاً على شاطئ الفرات ، ليتّخذ فيها قضباً ، فذكر ذلك لعمر فقال : ممّن اشتريتها ؟ قال : من أربابها فلما اجتمع المهاجرون والأنصار عند عمر قال : هؤلاء أهلها ، فهل اشتريت منهم شيئاً ؟ قال : لا ، قال : فارددها على من اشتريتها منه ، وخذ مالك (٢) .

٧ ـ وعن أبي عون الثقفي في كتاب الأموال، أنّه قال : أسلم دهقان على عهد عليعليه‌السلام ، فقام الإمام عليه الصلاة والسلام وقال :( أما أنت فلا جزية عليك ، وأما أرضك فلنا ) (٣) .

ـــــــــــــــ

(١) انظر : الأموال : ٧٢ ، الحديث ١٤٦ .

(٢) الأموال : ٩٩ ، الحديث ١٩٦ .

(٣) الأموال : ١٠٣ ، الحديث ٢٠٦ .

٣٦٥

٨ ـ وفي البخاري عن عبد الله قال :( أعطى النبي خيبراً ليهودٍ أن يعملوها ويزرعوها ، ولهم شطر ما يخرج منها ) (١) وهذا الحديث يشعّ بتطبيق رسول الله صلى الله عليه وآله لمبدأ الملكية العامة على خيبر ، بوصفها مفتوحة في الجهاد ، بالرغم من وجود روايات معارضة(٢) ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان قد قسّم الأرض بين المحاربين خاصة على أساس مبدأ الملكية الخاصة بدلاً عن تطبيق مبدأ الملكية العامة ، لَمَا دخل مع اليهود في عقد مزارعة بوصفه حاكماً ، فإنّ دخوله بهذا الوصف في العقد يشير إلى أنّ الأرض كان أمرها موكولاً إلى الدولة لا إلى الإفراد الغانمين أنفسهم .

وقد ذكر بعض المفكّرين الإسلاميين : أنّ حادثة معاملة خيبر هذه دليل قطعي على أنّ من حقّ الدولة أن تمتلك أموال الأفراد ، الأمر الذي يقرر جواز التأميم في الإسلام ؛ لأنّ القاعدة العامة في الفيء تقسيمه على المقاتلين ، فالاحتفاظ به للدولة دون تقسيم على مستحقّيه تخويل للدولة في أن تضع يدها على حقوق رعاياها متى رأت في ذلك مصلحة تقتضيها سعادة المجموع ، فصح إذن : أنّ للدولة حقّ تأميم الملكيّات الخاصة .

ولكنّ الحقيقة أنّ احتفاظ الدولة بالأراضي المفتوحة ، وعدم تقسيمها بين المقاتلين كما تقسّم سائر الغنائم ، ليس تطبيقاً لمبدأ التأميم ؛ وإنّما هو تطبيق لمبدأ الملكيّة العامة ، فإنّ الأرض المفتوحة لم تشرع فيها الملكية الخاصة ، وتقسيم الفيء : (الغنيمة ) مبدأ وضعه الشارع في الغنائم المنقولة فقط فالملكية العامة للأرض المفتوحة ـ إذن ـ طابعٌ أصيلٌ لها في التشريع الإسلامي ، وليست تأميماً وتشريعاً ثانوياً بعد تقرير مبدأ الملكية الخاصة .

وعلى أيّ حالٍ ، فإنّ أكثر النصوص التي قدّمناها تقرّر : أنّ رقبة الأرض ـ أي : نفس الأرض ـ ملك لمجموع الأمّة يتولّى الإمام رعايتها بوصفه وليّ الأمر ، ويتقاضى من المنتفعين بها خراجاً خاصاً ، يقدّمه المزارعون أجرة على انتفاعهم بالأرض والأمّة هي التي تملك الخراج ؛ لأنّها ما دامت تملك رقبة الأرض فمن الطبيعي أن تملك منافعها وخراجها أيضاً .

ـــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ٣ : ١٣٨ ، باب المزارعة مع اليهود .

(٢) سيأتي عن قريب البحث عنها .

٣٦٦

مناقشة لأدلّة الملكية الخاصة :

وفي الباحثين الإسلاميين ـ معاصرين وغير معاصرين ـ من يتّجه إلى القول بخضوع الأرض المفتوحة عنوة لمبدأ التقسيم بين المقاتلين على أساس الملكية الخاصة ، كما تقسّم سائر الغنائم بينهم(١) .

ويعتمد هؤلاء فقهياً على أمرين :

أحدهما : آية الغنيمة .

والآخر : ما هو المأثور من سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تقسيم غنائم خيبر .

أمّا آية الغنيمة فهي قوله في سورة الأنفال :( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (٢) .

وهي في رأي هؤلاء تقتضي بظاهرها : أنّ كلّ ما غُنم يخمّس ، وبالتالي يقسّم الباقي منه على الغانمين دون فرقٍ بين الأرض وغيرها من الغنائم ولكنّ الحقيقة أنّ قصارى ما تدلّ عليه الآية الكريمة هو وجوب اقتطاع خمس الغنيمة بوصفها ضريبة تتقاضاها الدولة لصالح ذي القربى والمساكين والأيتام وابن السبيل ولنفترض أنّ هذه الضريبة تقتطع من الأرض أيضاً ، فإنّ ذلك لا يشرح بحالٍ من الأحوال مصير الأخماس الأربعة الأخرى ، ولا نوع الملكية التي يجب أن تطبّق عليها ؛ لأنّ الخمس ـ باعتباره ضريبة لصالح فئات معيّنة من الفقراء وأشباههم ـ كما يمكن أن يفرض لحساب هذه الفئات على ما يملكه المحاربون ملكية خاصة من الغنائم المنقولة ، كذلك يمكن أن يفرض لحساب تلك الفئات أيضاً ، على ما تملكه الأمّة ملكية عامة من الأرض المفتوحة فلا توجد إطلاقاً صلة بين التخميس والتقسيم فقد يخضع مال لمبدأ التخميس ولكن ليس من الضروري أن يقسّم بين المحاربين على أساس الملكية الخاصة ، فآية التخميس لا تدلّ على التقسيم بين المحاربين إذن .

ـــــــــــــــ

(١) جواهر الكلام ٢١ : ١٥٧ ، نقل ذلك عن بعض أهل السنّة .

(٢) سورة الأنفال : ٤١ .

٣٦٧

وبكلمة أخرى : أنّ الغنيمة التي تتحدّث عنها آية الغنيمة إمّا أن تكون بمعنى الغنيمة الحربيّة ، أي : ما تمّ الاستيلاء عليه بالحرب ، وإمّا أن تكون بمعنى الغنيمة الشرعية ، أي : ما تملّكه الإنسان بحكم الشارع من أموال ، فإذا فسّرنا الكلمة بالمعنى الأوّل فليس في الآية الكريمة أيّ دلالةٍ على أنّ غير الخمس من الغنيمة يعتبر ملكاً للمحاربين في كلّ الحالات ، وإذا فسّرنا الكلمة بالمعنى الثاني كانت الآية بنفسها تفترض ملكية المخاطبين للمال كموضوع لها ، فكأنّها قالت : إذا ملكتم مالاً فالخمس ثابت فيه وفي هذه الحالة لا يمكن أن تعتبر الآية دليلاً على ملكية المحاربين للغنيمة ؛ لأنّها لا تحقّق موضوعها ولا تثبت شرطها .

وأمّا المأثور من سيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تقسيم غنائم خيبر ، فهو الدليل الثاني الذي استند إليه هؤلاء المؤمنون بتقسيم الأرض بين المحاربين خاصة(١) ، اعتقاداً منهم بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طبّق على أراضي خيبر مبدأ الملكية الخاصة ، وقسّمها بين المحاربين الذين فتحوها .

ـــــــــــــــ

(١) انظر : سنن أبي داود ٣ : ١٦٠ ، الحديث ٣٠١٥ .

٣٦٨

ولكنّا نشك في صواب هذا الاعتقاد كلّ الشك ، حتى لو افترضنا صحّة الروايات التأريخية التي تحدّثت عن تقسيم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيبراً على المقاتلين ؛ لأنّ التأريخ العام الذي ينقل هذا يحدثنا عن ظواهر أخرى في سيرته الرائدة تساهم في فهم القواعد التي طبّقها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على غنائم خيبر .

فهناك ظاهرة احتفاظ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجزء كبير من خيبر لمصالح الدولة والأمّة ، فقد جاء في سنن أبي داود ، عن سهل بن أبي حشمة :( أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم خيبر نصفين ، نصفاً لنوائبه وحاجاته ، ونصفاً بين المسلمين ، قسّمها بينهم على ثمانية عشر سهماً ) (١) .

وعن بشير بن يسار مولى الأنصار، عن رجال من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا ظهر على خيبر قسّمها على ستّة وثلاثين سهماً ، جمع كلّ سهم مئة سهم ، فكان لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللمسلمين النصف من ذلك ، وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس )(٢) .

وعن ابن يسار أنّه قال :( لمّا أفاء الله على نبيّه خيبر ، قسّمها على ستّة وثلاثين سهماً ، جمع كلّ سهم مئة سهم ، فعزل نصفها لنوائبه وما ينزل به : (الوطيحة) و(الكتيبة) وما أحيز معهما ، وعزل النصف فقسّمه بين المسلمين : (الشقّ) و ( النطأة ) وما أحيز معهما ، وكان سهم رسول الله فيما أحيز معهما ) (٣) .

وهناك ظاهرة أخرى ، وهي : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمارس بنفسه السيطرة على أراضي خيبر ، بالرغم من تقسيم جزء منها على الأفراد ، إذ باشر الاتّفاق مع اليهود على مزارعة الأرض ، ونصّ على أنّ له الخيار في إخراجهم متى شاء .

ـــــــــــــــ

(١) سنن أبي داود ٣ : ١٥٩ ، الحديث ٣٠١٠ .

(٢) المصدر السابق ، الحديث ٣٠١٢ .

(٣) المصدر السابق : ١٥٩ ـ ١٦٠ ، الحديث ٣٠١٣ .

٣٦٩

فقد جاء في سنن أبي داود :( أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يُجلي اليهود عن خيبر ، فقالوا : يا محمّد دعنا نعمل في هذه الأرض ، ولنا الشطر ما بدا لك ، ولكم الشطر ) (١) .

وفي سنن أبي داود أيضاً عن عبد الله بن عمر :( أنّ عمر قال : أيّها الناس إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عامل يهود خيبر على أنّا نخرجهم إذا شئنا ، فمن كان له مال فليلحق به ، فإنّي مخرج يهود خيبر ، فأخرجهم ) (٢) .

وعن عبد الله بن عمر أيضاً أنّه قال :( لمّا افتتحت خيبر سألتْ يهودٌ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن يقرّهم على أن يعملوا على النصف ممّا خرج منها ، فقال رسول الله : أقرّكم فيها على ذلك ما شئنا ، فكانوا على ذلك ، وكان التمر يقسم على السهمان في نصف خيبر ، ويأخذ رسول الله الخمس ) (٣) .

ونقل أبو عبيد في كتاب الأموال عن ابن عبّاس أنّه قال :( دفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيبر ـ أرضها ونخلها ـ إلى أهلها مقاسمةً على النصف ) (٤) .

ونحن إذا جمعنا بين هاتين الظاهرتين من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بين احتفاظه بجزءٍ كبيرٍ من خيبر لمصالح المسلمين وشؤون الدولة ، وبين ممارسته بوصفه

ـــــــــــــــ

(١) سنن أبي داود ٣ : ١٥٧ ، الحديث ٣٠٠٦ .

(٢) المصدر السابق : ١٥٨ ، الحديث ٣٠٠٧

(٣) المصدر السابق ، الحديث ٣٠٠٨ .

(٤) الأموال : ٩٧ ، الحديث ١٩١ .

٣٧٠

ولي الأمر لشؤون الجزء الآخر أيضاً ، الذي نفترض أنّه قد قسّمه بين المقاتلين إذا جمعنا بين ذلك كلّه ، نستطيع أن نضع للسيرة النبوية تفسيراً ينسجم مع النصوص التشريعية السابقة ، التي تقرّر مبدأ الملكية العامة في الأرض المفتوحة ، فإنّ من الممكن أن يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد طبّق على أرض خيبر مبدأ الملكية العامة ، الذي يقتضي تملّك الأمّة لرقبة الأرض ، ويحتّم لزوم استخدامها في مصالح الأمّة وحاجاتها العامة .

والحاجات العامة للأمّة يومئذٍ كانت من نوعين :أحدهما : تيسير نفقات الحكومة ، التي تنفقها خلال ممارستها لواجبها في المجتمع الإسلامي .والآخر: إيجاد التوازن الاجتماعي ورفع المستوى العام ، الذي كان متردّياً إلى درجة قالت السيدة عائشة في وصفه :( إنّا لم نشبع من التمر حتى فتح الله خيبر ) (١) .

فإنّ هذه الدرجة من التردّي التي تقف حائلاً دون تقدّم المجتمع الفتي ، وتحقيق مثله في الحياة ، يعتبر علاجها حاجة عامة للأمة .

وقد حقّقت السيرة النبوية إشباع كلا النوعين من الحاجات العامّة للأمّة ؛فالنوع الأوّل ضمن النبيّ إشباعه بالنصف الذي حدّثتنا الروايات السابقة عن تخصيصه للنوائب والوفود ونحو ذلكوالنوع الثاني من الحاجات عولج عن طريق تخصيص ريع النصف الآخر من أرض خيبر لمجموعة كبيرة من المسلمين ؛ ليساعد ذلك على تجنيد الطاقات العامة في المجتمع الإسلامي ، وفسح المجال

ـــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ١٠ : ٤٦٩ ، الحديث ٣٠١٣٢ وفيه ( عن عائشة قالت : لمّا فتح الله علينا خيبر قلت : يا رسول الله ، الآن نشبع من التمر ) ! .

٣٧١

أمامها لمستوى أرفع فلم يكن يعني تقسيم نصف خيبر على عدد كبير من المسلمين منحهم ملكية رقبة الأرض ، وإخضاعها لمبدأ الملكية الخاصة ، وإنّما هو تقسيم للأرض باعتبار ريعها ومنافعها مع بقاء رقبتها ملكاً عاماً .

وهذا هو الذي يفسّر لنا مباشرة ولي الأمر للتصرفات التي تتّصل بأرض خيبر ، بما فيها سهام الأفراد ؛ لأنّ رقبة الأرض ما دامت ملكاً للأمّة فيجب أن يكون وليّها هو الذي يتولّى شؤونها .

كما يفسّر لنا شمول التقسيم لبعض الأفراد ، ممّن لم يساهم في معركة خيبر ، كما نصّ على ذلك عدد من المحدّثين والمؤرّخين(١) ، فإنّ هذا يعزّز موقفنا في تفسير هذا التقسيم على أساس محاولة إيجاد التوازن في المجتمع بدلاً عن تفسيره بوصفه تطبيقاً لمبدأ توزيع الغنيمة على المقاتلين الذي لا يسمح بمشاركة غيرهم .

وتوجد آية أخرى استدل بها بعض القائلين بالملكية الخاصة ، وهي قوله تعالى :( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا ) (٢) .

على أساس أنّ الآية اعتبرت الأرض ميراثاً للجماعة التي خاطبتهم وهم المؤمنون المعاصرون لنزول الآية ، وهذا ينفي ملكيّتها للأمّة على امتدادها ، وقد ساوت الآية بين الأرض والأموال وساقتها مساقاً واحداً وهذا يعني أنّ الوارث للأموال هو الوارث للأرض ، ومن الواضح أنّ الأموال تختص بالمقاتلين فكذلك الأرض .

ونلاحظ بهذا الصدد : أنّ الآية الكريمة قد عطفت على أرضهم وأموالهم أرضاً وصفتها بأنّها لم يطأها المسلمون والمقصود بهذه الأرض : إمّا الأرض التي لم يوجف عليها بخيل ولا رِكاب وفرّ أهلها خوفاً من المسلمين ، وأمّا الأرض التي

ـــــــــــــــ

(١) راجع الكامل في التأريخ ٣ : ٢٢٤ .

(٢) سورة الأحزاب : ٢٧ .

٣٧٢

كانت من المقدر أن تفتح بعد ذلك ، كأراضي الفرس والروم ، كما قيل في كتب التفسير(١) .

فإذا أخذنا بالفرضية الأولى في تفسير هذه الفقرة ـ كما هو الظاهر ؛ لأنّ الآية تدلّ على أنّها قد تمّ توريثها فعلاً للمسلمين ـ كانت تعبيراً عن نوع من الأنفال الذي ترجع ملكية إلى الله ورسوله لا إلى المسلمين ، وهذا يشكّل قرينة على أنّ المقصود بإرث المسلمين لتلك الأشياء انتقال السيطرة والاستيلاء إليهم لا انتقال الملكية بالمعنى الشرعي ، فلا تكون في الآية دلالة على نوع الملكية للأرض.

وإذ أخذنا بالفرضية الثانية في تفسير تلك الفقرة ، كانت قرينة على أنّ الآية ليست متجهة نحو المعاصرين نزولها فحسب ، بل نحو الأمّة على امتدادها ؛ لأنّ فتح الأراضي في المعارك المستقبلة قد لا يشهده المعاصرون بوصفهم أفراداً وإنّما يشهدونه بوصفهم تعبيراً عن الأمّة الممتدّة تأريخياً ، فيتناسب توريث الأرض في الآية الكريمة عندئذٍ مع الملكية العامة للمسلمين .

وأمّا الاستناد إلى وحدة السياق لإثبات أنّ من ملكوا الأرض هم بعينهم من ملكوا الأموال ـ أي : المقاتلين خاصة ـ فهو غير صحيح ؛ لأنّه يؤدّي إلى جعل الآية خطاباً للمقاتلين خاصة ، مع أنّ ظاهر الآية الكريمة الاتجاه نحو الجماعة المسلمة المعاصرة كلّها ، فلا بدّ من إعطاء التوريث معنى غير التمليك بالمعنى الحرفي الذي يختصّ بالمقاتلين في الأموال المغتَنَمة ، وهو إمّا السيطرة أو دخول ملكية تلك الأشياء في حوزتهم سواء اتّخذت شكل الملكية الخاصة أو العامة ، فتكون الآية الكريمةفي قوّة قولنا : ومكّنكم من أرضهم وأموالهم ،أو قولنا : وضممنا ملكية أرضهم وأموالهم إلى حوزتكم . فلا تكون في الآية دلالة على أنّ المالك بالمعنى الحرفي للكلمة واحد في الأموال وفي الأراضي .

ـــــــــــــــ

(١) انظر : مجمع البيان ٤ : ٣٥١ ، والكشّاف ٣ : ٥٣٤ .

٣٧٣

والنتيجة التي نخرج بها من كلّ ذلك هي : أنّ الأرض المفتوحة مملوكة بالملكية العامة للمسلمين ، إذا كانت عامة حال الفتح(*) وهي باعتبارها ملكاً عاماً للأمّة ووقفاً على مصالحها العامة لا تخضع لأحكام الإرث ، ولا ينتقل ما يملكه الفرد المسلم منه ـ بوصفه فرداً من الأمّة ـ إلى ورثته ، بل لكلّ مسلم الحقّ فيها بوصفه مسلماً فحسب .

وكما لا تورث الأرض الخراجية لا تباع أيضاً ؛ لأنّ الوقف لا يجوز بيعهفقد قال الشيخ الطوسي في المبسوط : إنّه لا يصح التصرف ببيع فيها وشراء ، ولا هبةٍ ، ولا معاوضة ، ولا تمليك ، ولا إجارة ولا إرث (١) .

وقال مالك : ( لا تقسّم الأرض ؛ وتكون وقفاً يصرف خراجها في مصالح المسلمين ، من أرزاق المقاتلة وبناء القناطر والمساجد ، وغير ذلك من سُبل الخير ) (٢) .

وحين تسلّم الأرض إلى المزارعين لاستثمارها ، لا يكتسب المزارع حقّاً شخصياً ثابتاً في رقبة الأرض ، وإنّما هو مستأجر يزرع الأرض ويدفع الأجرة أو الخراج ، وفقاً للشروط المتّفق عليها في العقد وإذا انتهت المدّة المقرّرة انقطعت صلته بالأرض ، ولم يجز له استثمارها والتصرّف فيها إلاّ بتجديد العقد ، والاتفاق مع وليّ الأمر مرّة أخرى .

ـــــــــــــــ

(*) راجع الملحق رقم ١.

(١)المبسوط ٢ : ٣٤ .

(٢) بداية المجتهد ١ : ٤٠١ .

٣٧٤

وقد أكدّ ذلك بكلّ وضوح الفقيه الأصفهاني في تعليقه على المكاسب ،نافياً اكتساب الفرد أيّ حقّ شخصيٍّ في الأرض الخراجية ، زائداً على حدود إذن ولي الأمر في عقد الإجارة الذي يسمح له بالانتفاع بالأرض واستثمارها ، نظير أجرة خلال مدّة محدّدة (١) .

وإذا أهملت الأرض الخراجية حتى خربت وزالت عمارتها ، لم تفقد بذلك صفة الملكية العامة للأمّة ولذلك لا يسمح لفرد بإحيائها إلاّ بإذن من ولي الأمر ، ولا ينتج عن إحياء الفرد لها حقّ خاص في رقبة الأرض ، لأنّ الحقّ الخاص بسبب الأحياء إنّما يوجد في أراضي الدولة التي سنتحدّث عنها فيما يأتي ، لا في الأرض الخراجية التي تملكها الأمّة ملكية عامة كما صرح بذلك المحقّق صاحب البُلغة في كتابه(٢) .

فالمساحات التي لحقها الخراب من الأراضي الخراجية ، تظلّ خراجية وملكاً للمسلمين ، ولا تصبح ملكاً خاصاً للفرد ، بسبب إحيائه وأعماره لها .

ويمكننا أن نستخلص من هذا العرض : أنّ كلّ أرض تُضمّ إلى دار الإسلام بالجهاد ، وهي عامرة بجهود بشرية سابقة على الفتح تطبق عليها الأحكام الشرعية الآتية :

أوّلا : تكون ملكاً عاماً للأمّة ، ولا يباح لأيّ فرد تملّكها والاختصاص بها(٣) .

ثانياً : يعتبر لكلّ مسلم حقّ في الأرض ، بوصفه جزءاً من الأمّة ، ولا يتلقّى نصيب أقربائه بالوراثة(٤) .

ـــــــــــــــ

(١) حاشية المكاسب ٣ : ١٩ ـ ٢٠ .

(٢) بلغة الفقيه ١ : ٣٥٠ وما بعدها

(٣) و (٤) جواهر الكلام ٣٨ : ١٧ .

٣٧٥

ثالثاً : لا يجوز للأفراد إجراء عقد على نفس الأرض ، من بيع وهبة ونحوها(١) .

رابعاً : يعتبر وليّ الأمر هو المسئول عن رعاية الأرض واستثمارها ، وفرض الخراج عليها عند تسليمها للمزارعين(٢) .

خامساً : الخراج الذي يدفعه المزارع إلى ولي الأمر ، يتبع الأرض في نوع الملكية فهو ملك للأمّة كالأرض نفسها(٣) .

سادساًً : تنقطع صلة المستأجر بالأرض عن انتهاء مدّة الإجارة ، ولا يجوز له احتكار الأرض بعد ذلك .

سابعا ً: أنّ الأرض الخراجية إذا زال عنها العمران وأصبحت مواتاً لا تخرج عن وصفها مِلكاً عاماً ، ولا يجوز للفرد تملّكها عن طريق إحيائها وإعادة عمرانها من جديد(٤)

ثامناً : يعتبر عمران الأرض حال الفتح الإسلامي بجهود أصحابها السابقين شرطاً أساسياً للملكية العامة والأحكام الآنفة الذكر ، فما لم تكن معمورة بجهد بشري معيّن ، لا يحكم عليها بهذه الأحكام .

وعلى هذا الأساس ، نصبح اليوم في مجال التطبيق بحاجة إلى معلومات تأريخية واسعة عن الأراضي الإسلامية ، ومدى عمرانها ، لنستطيع أن نميّز في ضوئها المواضع التي كانت عامرة وقت الفتح ، عن غيرها من المواضع المغمورة

ـــــــــــــــ

(١) جواهر الكلام ٣٨ : ١٧ .

(٢) إرشاد الأذهان ١ : ٣٤٧ ـ ٣٤٨ .

(٣) جواهر الكلام ٢١ : ١٦٦ .

(٤) جواهر الكلام ٣٨ : ١٨ .

٣٧٦

ونظراً إلى صعوبة توفر المعلومات الحاسمة بهذا الصدد اكتفى كثير من الفقهاء بالظنّ ، فكلّ أرض يغلب على الظنّ أنّها كانت معمورة حال الفتح الإسلامي تعتبر ملكاً للمسلمين(١) .

ولنذكر على سبيل المثال محاولات بعض الفقهاء لتحديد نطاق الأرض الخراجية المملوكة ملكية عامة من أراضي العراق ، التي فتحت في العقد الثاني من الهجرة : فقد جاء في كتاب (المنتهى )للعلامة الحلّي :

( أنّ أرض السواد هي الأرض المفتوحة من الفرس ، التي فتحها عمر بن الخطاب ، وهي سواد العراق وحدّه في العرض : من مقطع الجبال بحلوان إلى طرف القادسية ، المتصل بالعذيب من أرض العرب ومن تخوم الموصل طولاً إلى ساحل البحر ببلاد عبادان ، من شرقي دجلة وأمّا الغربي الذي يليه البصرة فإنّما هو إسلامي ، مثل شط عمرو بن العاص وهذه الأرض ( أي : الحدود التي حدّدها ) فتحت عنوة فتحها عمر بن الخطاب ، ثمّ بعث إليها بعد فتحها ثلاثة أنفس : عمار بن ياسر على صلاتهم أميراً، وابن مسعود قاضياً ووالياً على بيت المال ، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض وفرض لهم في كلّ يوم شاة ، شطرها مع السواقط لعمار ، وشطرها للآخرين ، وقال : ما أرى قرية تؤخذ منها كلّ يوم شاة إلاّ سرع خرابها .

ومسح عثمان أرض الخراج ، واختلفوا في مبلغها فقال المسّاح : اثنان وثلاثون ألف ألف جريب. وقال أبو عبيدة: ستة وثلاثون ألف ألف جريب )(٢) .

وجاء في كتاب الأحكام السلطانية لأبي يعلى (٣) : ( أنّ حدّ السواد طولاً : من حديثة الموصل إلى عبادان وعرضاً من عذيب القادسية إلى حلوان يكون طوله (١٦٠) فرسخاً وعرضه (٨٠) فرسخاً ، إلاّ قريّات ـ قد سمّاها أحمد ، وذكرها أبو عبيد : الحيرة ، ويانقيا ، وأرض بني صلوبا ، وقرية أخرى ـ كانوا صلحاً .

ـــــــــــــــ

(١) انظر : مسالك الأفهام ١٢ : ٢٩٣ .

(٢) منتهى المطلب (ط. حجرية) ٢ : ٩٣٧ .

(٣) الأحكام السلطانية ٢ : ١٧٣ .

٣٧٧

وروى أبو بكر بإسناده عن عمر أنّه كتب : ( أنّ الله عزّ وجلّ فتح ما بين العذيب إلى حلوان ) .

وأمّا العراق فهو في العرض مستوعب لعرض السواد عرفاً ، ويقصر عن طوله في العرض ؛ لأنّ أوّله في شرقي دجلة : (العلث ) وعن غربيها (حربي ) ، ثمّ يمتدّ إلى آخر أعمال البصرة من جزيرة عبادان ، فيكون طوله (١٢٥) فرسخاً يقصر عن طول السواد بـ (٣٥) فرسخاً ، وعرضه (٨٠) فرسخاً كالسواد .

قال قدامة بن جعفر : يكون ذلك مكسّراً : عشرة آلاف فرسخ ، وطول الفرسخ : (١٢) ألف ذراع بالذراع المرسلة ويكون بذارع المساحة : تسعة آلاف ذراع ، فيكون ذلك إذا ضرب في مثله ، وهو تكسير فرسخ في فرسخ (٢٢) ألف جريب و(٥٠٠) جريب ، فإذا ضرب ذلك في عدد الفراسخ وهي (١٠٠٠٠) فرسخاً بلغ مئتي ألف ألف وخمسة وعشرين ألف ألف جريب ، يسقط منها بالتخمين : مواضع التلال ، والآكام ، والسباخ ، والآجام ، ومدارس الطرق والمحاج ، ومجاري الأنهار ، وعراص المدن والقرى ، ومواضع الأرحاء والبحيرات ، والقناطر ، والشاذروانات والبيادر ومطارح القصب وأتانين الآجر وغير ذلك ، وهو : ٧٥ ألف ألف جريب يصير الباقي من مساحة العراق مئة ألف ألف جريب وخمسين ألف ألف جريب ، يراح منها النصف ويكون النصف مزروعاً ، مع ما في الجميع من النخل والكرم والأشجار وإذا أضفت إلى ما ذكره قدامة في مساحة العراق ما زاد عليها من بقية السواد ، وهو(٣٥) فرسخاً كانت

٣٧٨

الزيادة على تلك المساحة قدر ربعها ، فيصير ذلك مساحة جميع ما يصلح للزرع والغرس من أرض السواد وقد يتعطّل منه بالعوارض والحوادث ما لا ينحصر ) .

ب ـ الأرض المَيتَة حال الفتح :

وإذا لم تكن الأرض عامرة حين دخولها في الإسلام لا بشرياً ولا طبيعياً فهي ملك للإمام ـ وهذا ما نصطلح عليه باسم : ملكية الدولة ـ وليست داخلة ضمن نطاق الملكية الخاصة ، وبذلك كانت تتّفق مع الأرض الخراجية في عدم الخضوع لمبدأ الملكية الخاصة ، ولكنّها تختلف عنها مع ذلك في شكل الملكية ؛ فالأرض العامرة حال الفتح تعتبر حين ضمها إلى حوزة الإسلام ملكاً عامّاً للأمة ، والأرض المَيتَة تعتبر حين دخولها في دار الإسلام ملكاً للدولة .

الدليل على ملكية الدولة للأرض المَيتَة :

والدليل التشريعي على ملكية الدولة للأرض المَيتَة حين الفتح هو : أنّها من الأنفال ، كما جاء في الحديث(١) والأنفال عبارة : عن مجموعة من الثروات التي حكمت الشريعة بملكية الدولة لها في قوله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (٢) وقد روى الشيخ الطوسي في التهذيب بشأن نزول هذه الآية : أنّ بعض الأفراد سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعطيهم شيئاً من الأنفال ، فنزلت الآية تؤكد مبدأ ملكية الدولة ، وترفض تقسيم الأنفال بين الأفراد على

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٥٢٤ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث ٤ .

(٢) سورة الأنفال : ١.

٣٧٩

أساس الملكية الخاصة (١) .

وتملّك الرسول للأنفال يعبّر عن تملك المنصب الإلهي في الدولة لها ، ولهذا تستمر ملكية الدولة للأنفال وتمتد بامتداد الإمامة من بعده ، كما ورد في الحديث عن عليعليه‌السلام : أنّه قال :( إنّ للقائم بأمور المسلمين الأنفال التي كانت لرسول الله ، قال الله عزّ وجلّ : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ ) ، فما كان لله ولرسوله فهو للإمام ) (٢) فإذا كانت الأنفال ملكاً للدولة ـ كما يقرّره القرآن الكريم ـ وكانت الأرض غير العامرة حال الفتح من الأنفال فمن الطبيعي أن تندرج هذه الأرض في نطاق ملكية الدولة وعلى هذا الأساس ورد عن الصادقعليه‌السلام ، بصدد تحديد ملكية الدولة (الإمام) :أنّ المَوَات كلّها هي له ، وهو قوله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ ـ أن تعطيهم منه ـ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ ) (٣) .

وممّا قد يشير إلى ملكية الدولة للأراضي المَوَات أيضاً ، ما ورد في الحديث : من أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( ليس للمرء إلاّ ما طابت به نفس إمامه ) (٤) . وقد استدلّ أبو حنيفة بهذا الحديث على أنّ المَوَات لا يجوز إحياؤها والاختصاص بها دون إذن الإمام(٥) ، وهذا يتفق تماماً مع ملكية الإمام للمَوَات ، أو مِلكيّة الدولة بتعبير آخر(*) .

ـــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام ٤ : ١٢٦ ، باب تمييز أهل الخمس ، الحديث ٥ .

(٢) وسائل الشيعة ٩ : ٥٣٠ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال ، الحديث ١٩ .

(٣) المصدر السابق : ٥٢٩ ، الحديث ١٧ .

(٤) كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق ٢ : ١٢٦ ، والمبسوط ٢٣ : ١٦٧ .

(٥) راجع المحلّى ٨ : ٢٣٤ .

(*) راجع : الملحق رقم ٢ .

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741