اقتصادنا

اقتصادنا7%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156677 / تحميل: 9853
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

عاماً كان ينقله فيها من حبس لحبس)(١) حتى لفظ آخر أنفاسه مسموما وهو في الحبس.

هذه الأحداث المؤسفة حركت سحابة قاتمة من الحزن داخل نفس الإمام الرضاعليه‌السلام . ومما يعظم الخطب أنه كان مغلوبا على أمره ليس له القدرة على الثأر أو الانتقام ممن عكروا صفو حياته، لقد (كتب له أن يعيش مأساة أبيه من بدايتها وحتى نهايتها، دون أن يملك القدرة على التخفيف من حدتها، حيث لاسبيل له إلى ذلك، وربما كان ينتظر المصير نفسه من عصابة الحكم)(٢) . كان يستشعر الخطر المحدق به، فقد كانت السلطة الحاكمة تضرب طوقا حديديا حوله، ترصد ردود فعله على اعتقال أبيه، فوجد أن الطريق الأسلم هو الاحتكام إلى السلم، منصرفا إلى نشر العلم والمعرفة.

المبحث الثالث: نسله الشريف

هناك اختلاف في كتب الأنساب والتراجم في عدد أولاده، وتحديد أسمائهم، ففي (عمدة الطالب) و (تهذيب الأنساب) نجد أن العقب من علي الرضا بن موسى الكاظمعليهما‌السلام في رجل واحد هو أبو جعفر محمد بن علي(٣) ، بينما نجد صاحب (المجدي في أنساب الطالبيين) يحصر عقبه في

__________________

(١) سيرة الأئمة الاثني عشر / هاشم معروف الحسني، القسم الثاني: ٣٤٢ - ٣٤٣.

(٢) الإمام الرضاعليه‌السلام / محمد جواد فضل اللّه، تاريخ ودراسة: ١٠.

(٣) اُنظر: عمدة الطالب / ابن عَنَبَة، وتهذيب الأنساب / العبيدي: ١٤٨.

٤١

ثلاثة، هم: موسى ومحمد وفاطمة - ويضيف: أما محمد هو أبو جعفر الثاني إمام الشيعة الاثني عشرية، لقبه التقيعليه‌السلام مات أبوه وله أربع سنين(١) . وفي كتاب (لباب الأنساب) أن للرضا ولدا اسمه علي بن علي الرضا(٢) .

ويذهب صاحب (الصواعق المحرقة) إلى أن الرضاعليه‌السلام : توفي عن خمسة ذكور وبنت، أجلُّهم محمد الجواد لكنه لم تطل حياته(٣) . ويذهب الصفدي والذهبي إلى هذا الرأي، ويسرد الصفدي وابن الصباغ أسماءهم، وهم: محمد، الحسن، جعفر، ابراهيم، الحسين، عائشة(٤) .

وعن (العُدد القوية): كان له ولدان محمد وموسى لم يترك غيرهما(٥) .

وقال الشيخ المفيد: مضى الرضاعليه‌السلام ولم يترك ولدا نعلمه إلاّ ابنه الإمام بعده أبا جعفر محمد بن عليعليهما‌السلام (٦) .

والذي يترجح في النظر ما ذكره المفيد، وبه جزم ابن شهرآشوب(٧) ، والطبرسي(٨) ، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري(٩) فالمعلوم لدينا من ابنائه هو الإمام محمد الجواد، واما غيره فلم يثبت، ويؤيد هذا الرأي

__________________

(١) المجدي في أنساب الطالبيين / علي بن محمد العلوي: ١٢٨.

(٢) لباب الأنساب والألقاب والأعقاب / ابن فندق ٢: ٤٤١.

(٣) الصواعق المحرقة / الهيتمي: ٣١١.

(٤) الوافي بالوفيات / الصفدي ٢٢: ٢٤٨، ترجمة رقم (١٨). سير أعلام النبلاء ٩: ٣٩٣، الترجمة ١٢٥، وأيضا: الفصول المهمة: ٢٦٠.

(٥) في رحاب أئمة أهل البيتعليهم‌السلام / السيد محسن الأمين ٤: ٢٦٤.

(٦) الإرشاد ٢: ٢٧١.

(٧) المناقب ٤: ٣٩٧.

(٨) اعلام الورى ٢: ٨٦.

(٩) دلائل الإمامة: ٣٥٩.

٤٢

الرواية الواردة عن حنان بن سدير، قال: قلت لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام : أيكون إمام ليس له عقب؟ فقال أبو الحسن: « اما أنه لا يولد لي إلاّ واحد، ولكن اللّه منشى ء منه ذرية كثيرة ». قال أبو خداش: سمعت هذا الحديث منذ ثلاثين سنة(١) .

واللّه أعلم بواقع الأمر.

* * *

__________________

(١) كشف الغمة ٣: ٩٥.

٤٣

الفصل الثالث

الإمام الرضاعليه‌السلام  بعد تول-يه الإمامة

تعتقد مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام أن الإمامة أمرٌ الهي وجعلٌ رباني لا رأي لأحد فيها من الأمة. وبأن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . إذ الإمامةهي امتداد للنبوة، والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه أيضا يوجب نصب الإمام. وهي أيضاً لطف من اللّه كالنبوة فلابد من أن يكون في كل عصر إمام هادٍ يخلف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وظائفه في هداية البشر.

ولو تعمقنا في النظر قليلاً لوجدنا أن فكرة النص تقوم على دليلين:

الأول: عقلي: ويستدل به على استحالة أن يترك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة فوضى من بعده، وهو الحريص عليها، وقد بيّن لها صغائر الأمور، فكيف يترك مسألة الإمامة أو القيادة دون تعيين؟!. علما بأن الخليفة الأول والثاني قد عينا أشخاصا قبيل وفاتهم لأمر الخلافة.

الثاني: شرعي: حيث استُدلّ بالكثير من الآيات والروايات على ثبوت الإمامة في أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأحد عشر من ولده من بعده.

وعرض جميع الادلة العقلية والنقلية على إمامة أهل البيتعليهم‌السلام بحث طويل وعريض لامجال هنا لاستقصائه، ومن شاء فليراجع كتاب (الشافي

٤٤

في الإمامة) للسيد المرتضىقدس‌سره ، إذ يعد هذا الكتاب بشهادة أعلام الطائفة فريداً في بابه، بل هو كما يقول الشيخ محمد جواد مغنية في تقريظه: إنه صورة صادقة لمعارف المرتضى ومقدرته، أو لمعارف علماء الإمامية وعلومهم في زمنه - على الأصح - عالج المرتضى مسألة الإمامة من جميع جهاتها كمبدأ ديني واجتماعي وسياسي، وأثبت بدليل العقل والنقل الصحيح أنها ضرورة دينية واجتماعية، وأن علياًعليه‌السلام هو الخليفة الحق المنصوص عليه بعد الرسول، وأنه من عارض وعاند فقد عارض الحق والصالح العام. ذكر الشريف جميع الشبهات التي قيلت أو يمكن أن تُقال حول الإمامة وأبطلها بمنطق العقل والحجج الدامغة(١) .

لقد شغل موضوع الإمامة حيزا كبيرا من فكر أئمة أهل البيتعليهم‌السلام لكونها حجر الزاوية في الفكر الإسلامي عامة والشيعي على وجه الخصوص، إضافة إلى كثرة اختلاف الناس حولها، وحاجتهم الماسة إلى القول الفصل فيها، بغية الخروج من مرحلة الحيرة والتساؤل.

وقد حظيت هذه المسألة بأهمية استثنائية عند إمامنا الرضاعليه‌السلام فأجاب عن الاشكالات والشبهات المطروحة إجابةً شافيةً ووافية، نجدها في الرواية التالية: عن القاسم بن مسلم، عن أخيه عبد العزيز بن مسلم، كنا في أيام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام بمرو، فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأدار الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها فدخلت على سيدي ومولاي الرضاعليه‌السلام ، فأعلمته ما خاض الناس فيه، فتبسمعليه‌السلام ثم قال: « يا عبد العزيز، جهل القوم وخدعوا عن

__________________

(١) مقدمة تحقيق كتاب الشافي ١: ١٩ - ٢٠.

٤٥

أديانهم، ان اللّه تبارك وتعالى لم يقبض نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه كملاً فقال عزّوجلّ:( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (١) وأنزل في حجة الوداع وفي آخر عمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاْءِسْلاَمَ دِيناً ) (٢) وأمر الإمامة في تمام الدين، ولم يمضصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بيّن لأمته معالم دينهم، وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد الحق وأقام لهم علياعليه‌السلام علما وإماما، وما ترك شيئا تحتاج إليه الأمة إلاّ بينه، فمن زعم أن اللّه عز وجل لم يكمل دينه، فقد ردّ كتاب اللّه عزّوجلّ، ومن ردّ كتاب اللّه تعالى فهو كافر، هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟ ان الإمامة أجلّ قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالونها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم - إلى أن يقول - فقلّدها علياعليه‌السلام بأمر اللّه عزّوجلّ على رسم ما فرضها اللّه عزّوجلّ، فصارت في ذريته الأصفياء الذين أتاهم اللّه العلم والإيمان بقوله عز وجل:( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالاْءِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّه إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ) (٣) فهي في ولد عليعليه‌السلام خاصة إلى يوم القيامة - إلى أن قال - ان الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الاوصياء، ان الإمامة خلافة اللّه عز وجل وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسينعليهما‌السلام ، ان الإمامة زمام الدين ونظام

__________________

(١) سورة الأنعام: ٦ / ٣٨.

(٢) سورة المائدة: ٥ / ٣.

(٣) سورة الروم: ٣٠ / ٥٦.

٤٦

المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، ان الإمامة أُسّ الإسلام النامي وفرعه السامي ».

ثمّ يورد تشبيهات بليغة وبديعة، فيقول: « الإمام كالشمس الطالعة للعالم وهي بالافق بحيث لاتنالها الأيدي والابصار، الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى والبيد القفار ولجج البحار، الإمام الماء العذب على الظمأ، والدال على الهدى والمنجي من الردى ».

ثمّ يضيف قائلاً: « فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام ويمكنه اختياره؟ هيهات هيهات ..فكيف لهم باختيار الإمام؟! والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة الرسول وهو نسل المطهرة البتول، لا مغمز فيه في نسب، ولايدانيه ذو حسب، فالنسب من قريش والذروة من هاشم، والعترة من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(١) .

لقد حاول الإمام الرضاعليه‌السلام أن يعيد الوعي الإسلامي الصحيح بشأن الإمامة سيّما بعد تفريط القسم الأعظم من الأمة بها، بحيث أنهعليه‌السلام لم يترك فرصة إلاّ واستغلها في بيان ضرورتها وأدلتها وكشف أبعادها، والطريق اللاحب في انعقادها، ولعلّ أوضح مثل على ذلك، ما جاء عن الحسن بن جهم، قال: حضرت مجلس المأمون يوما وعنده علي بن موسى الرضاعليه‌السلام وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة فسأله بعضهم، فقال له: يا ابن رسول اللّه بأي شيء تصح الإمامة لمدعيها؟ قال: « بالنص والدليل »،

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ١٩٥، ح ١، باب (٢٠).

٤٧

قال له: فدلالة الإمام فيما هي؟ قال: « في العلم واستجابة الدعوة »(١) .

ومن الواضح أن الإمام الرضاعليه‌السلام قد تصدّى للإمامة علناً، وقال بإمامة نفسه وأذعنت له قاعدته، وشهد بذلك خصمه. الأمر الذي يستوجب استجلاء هذه الأمور في ثلاثة مباحث، وهي:

المبحث الأول: النص على الإمام الرضاعليه‌السلام بالإمامة

أولاً: من النصوص الدالة على إمامتهعليه‌السلام :

هناك روايات عديدة من طرق الشيعة الإمامية تؤكد على سلسلة أسماء السلالة الطاهرة للأئمةعليهم‌السلام واحدا بعد الآخر، ويأتي ذكر الإمام الرضاعليه‌السلام في الترتيب الثامن: أخرج الشيخ الصدوق بسند صحيح عن الثقة عبد اللّه بن جندب عن موسى بن جعفرعليه‌السلام ما ينبغي أن يقال في سجدة الشكر وهذا نصّه: « اللهمّ إني أُشهدك وأُشهد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك أنك أنت اللّه ربّي والإسلام سلام ديني ومحمداً نبيي وعلياً والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمّد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والحجّة بن الحسن بن علي أئمتي بهم أتولى ومن أعدائهم أتبرأ »(٢) .

ويمكن الاستشهاد أيضاً بحديث اللوح المتواتر المروي من طرق

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ٢: ٢١٦، ح ١، باب (٤٦).

(٢) من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق ١: ٢١٧ باب (٤٧).

٤٨

جمّة، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، وكذلك عن الإمام السجاد والباقر والصادقعليهم‌السلام ، نكتفي منها برواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام ، قال: « قال أبيعليه‌السلام لجابر بن عبد اللّه الأنصاري: إن لي إليك حاجة، فمتى يخف عليك أن أخلو بك، فأسألك عنها؟ قال له جابر: في أي الأوقات شئت، فخلا به أبيعليه‌السلام فقال له: يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أُمي فاطمة بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما أخبرتك به أُمي أنه في ذلك اللوح مكتوب.

قال جابر: أشهد باللّه، أني دخلت على أُمك فاطمة في حياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهنئها بولادة الحسينعليه‌السلام فوجدت في يدها لوحاً أخضر ظننت أنه زُمرّد، ورأيت فيه كتاباً أبيض شبه نور الشمس، فقلت لها: بأبي أنتِ وأمي يا بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما هذا اللوح؟ فقالت: هذا اللوح أهداه اللّه عزّوجلّ إلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابنَيّ وأسماء الأوصياء من ولدي، فأعطانيه أبيعليه‌السلام ليسرّني بذلك، قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة، فقرأته، وانتسخته فقال أبيعليه‌السلام : فهل لك يا جابر أن تعرضه عليّ، قال نعم، فمشى معه أبيعليه‌السلام حتى انتهى إلى منزل جابر، فأخرج أبيعليه‌السلام صحيفة من رق، قال جابر: فأشهد باللّه أني هكذا رأيته في اللوح مكتوباً: بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من اللّه العزيز الحكيم لمحمد نوره وسفيره وحجابه ودليله نزل به الروح الأمين من عند ربّ العالمين، عظّم يا محمد أسمائي واشكر نعمائي، ولا تجحد آلائي إني لم أبعث نبياً فأكملتُ أيامه وانقضت مدّته، ألا جعلت له وصيّاً، وأني فضلتك على الأنبياء وفضلت وصيك على الأوصياء، وأكرمتك بشبليك بعده وبسبطيك

٤٩

الحسن والحسين فجعلت حسناً معدن علمي بعد انقضاء مدّة أبيه، وجعلت حسيناً خازن وحيي وأكرمته بالشهادة، وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد، وأرفع الشهداء درجة عندي، وجعلت كلمتي التامة معه والحجّة البالغة عنده، بعترته أثيب وأعاقب: أولهم علي سيد العابدين وزين أوليائي الميامين، وابنه شبيه جدّه المحمود محمد الباقر لعلمي والمعدن لحكمي، سيهلك المرتابون في جعفر الراد عليه كالراد عليّ، حق القول مني لأكرمنّ مثوى جعفر ولاسرنّه في أشياعه وأنصاره وأوليائه، انتجبت بعده موسى وانتجبت بعده فتنة عمياء حندس لأن خيط فرضي لا ينقطع وحجتي لا تخفى وويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة عبدي موسى وحبيبي وخيرتي، إن المذكب بالثامن مكذب كل أوليائي، وعلي وليي وناصري، ومن أضع عليه أعباء النبوة وأمنحه بالاضطلاع، يقتله عفريت مستكبر، يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح إلى جنب شر خلقي، حقّ القول مني لاقرنَّ عينيه بمحمد ابنه وخليفته من بعده، فهو وارث علمي ومعدن حكمي وموضع سرّي وحجتي على خلقي وأختم بالسعادة لابنه علي وليي وناصري والشاهد في خلقي، وأميني على وحيي، أخرج منه الداعي إلى سبيلي والخازن لعلمي الحسن، ثم أكمل ذلك بابنه رحمةً للعالمين، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب أُولئك أوليائي حقاً بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس أُولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون » قال عبد الرحمن بن سالم: قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك إلاّ هذا الحديث لكفاك، فصنه إلاّ عن أهله»(١) .

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٤٨، ح ٢ باب (٦).

٥٠

ثانياً: أساليب الإمام الكاظمعليه‌السلام في النصّ على إمامة ولده الرضاعليه‌السلام

مرّت الشيعة بعد وفاة الإمام الكاظمعليه‌السلام بمنعطف خطير. فقد كانعليه‌السلام يمر بظروف خانقة كما أسلفنا، ولذلك تمسك بالتقية وكان تحركه بمنتهى السرية، ومن ثم غيبته الطويلة في السجون، كل ذلك ساعد على انقطاعه عن قاعدته الجماهيرية، وكان الإمام الكاظمعليه‌السلام يدرك المقطع الزمني الحساس والعصيب الذي ستمر به إمامة ولده الرضاعليه‌السلام ، فهناك الأجواء السياسية الملبدة بالغيوم من قبل الحكام، وهناك ذوو الاطماع من علماء السوء الذين سوف يصنعون سياجا هائلاً من التعتيم والتكتم أو التشكيك بإمامة ولده، لذلك لم يأل جهدا ولم يدّخر وسعا في التبليغ لإمامة ولده الرضاعليه‌السلام ، مرة من خلال التلميح بفضائله وكمالاته وأهليته للإمامة، ومرة أخرى من خلال التصريح بها، وتارة يتصل مع أصحابه والثقات من شيعته بصورة فردية، وتارة أخرى يجتمع مع أقربائه وأهل المدينة بصورة جماعية، وأحيانا يشير إلى إمامة ولده بصورة شفوية، وأخرى بصورة كتب أو ألواح يشرح فيها أهلية ولده لمنصب الإمامة ويضمّنها وصاياه به. وبدا لنا من خلال البحث أن الإمام الكاظمعليه‌السلام قد سار حسب خطة مرسومة للتعريف بالرضاعليه‌السلام والإشادة بمنزلته، وقد هدد وأوعد كل من يسقط تحت حوافر الاطماع أو ينساق إلى مهاوي الضياع كالواقفية.

ونحن سوف نغوص في أعماق الروايات الدالة على إمامة الرضاعليه‌السلام ، نحاول أن ندرسها ونسبر أغوارها ونصنفها حسب الغاية التي توخيتْ منها.

٥١

وقد توصلنا من خلال البحث إلى أن الإمام الكاظمعليه‌السلام قد اتبع عدة أساليب للتعريف بإمامة ولده الرضاعليه‌السلام ، هي:

أولاً: أسلوب التلميح الشفوي:

يجد الباحث في هذا الصدد عدداً من الروايات لم تصرح بإمامة الرضاعليه‌السلام ، ولكنها تلمح إلى ذلك من خلال عبارات دقيقة موحية، ويبدو أنها قيلت بظرف خاص لا يساعد على التصريح، كما سنرى في العناوين التالية:

١ - السيادة وانتحال الكنية:

نجد روايات يشيد فيها الكاظمعليه‌السلام بولده الرضاعليه‌السلام بأنه سيد ولده، أو أنه نحله كنيته، فهكذا عبارات توحي - بدون شك - ضمنا إلى استحقاقه للإمامة، لاسيما أن الكناية عند ذوي الألباب أبلغ من التصريح، ويبدو أن أصحاب الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كهشام بن الحكم، ممن يغنيهم التلميح عن التصريح قد أدركوا جيدا ماوراء هذه العبارات من دلالات ..

عن الحسين بن نعيم الصحاف، قال: كنت أنا وهشام بن الحكم وعلي ابن يقطين ببغداد فقال علي بن يقطين: كنت عند العبد الصالح موسى بن جعفرعليه‌السلام جالسا، فدخل عليه ابنه الرضاعليه‌السلام فقال: « يا علي، هذا سيد ولدي، وقد نحلته كنيتي »، فضرب هشام براحته جبهته! ثم قال: ويحك! كيف قلت؟ فقال علي بن يقطين: سمعت واللّه منه كما قلت لك، فقال هشام: أخبرك واللّه أن الامر فيه من بعده(١) .

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣١، ح ٣، باب (٤).

٥٢

وقد استخدم الإمام الكاظمعليه‌السلام عبارات ايحائية أخرى، منتقاة بدقة:

عن زياد بن مروان القندي، قال: دخلت على أبي ابراهيمعليه‌السلام وعنده علي ابنه، فقال لي: « يا زياد، هذا كتابه كتابي، وكلامه كلامي، ورسوله رسولي، وما قال فالقول قوله »(١) .

قال الشيخ الصدوق بعد رواية الخبر: إن زياد بن مروان القندي روى هذا الحديث ثم انكره بعد مضي موسىعليه‌السلام وقال بالوقف، وحبس ماكان عنده من مال موسى بن جعفر!

٢ - بيان منزلتهعليه‌السلام :

أولى الإمام الكاظمعليه‌السلام عناية خاصة بولده الرضاعليه‌السلام وأحاطه باهتمام ملحوظ منذ نعومة أظفاره مما جعل الانظار تتجه إليه والألسن تتحدث عنه، ومن الروايات الواردة في هذا الشأن، ما أخرجه الشيخ الصدوق: عن المفضل بن عمر، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام وعلي ابنه في حجره وهو يقبّله ويمصّ لسانه، ويضعه على عاتقه ويضمه اليه، ويقول: « بأبي أنت وأمي، ما أطيب ريحك وأطهر خلقك وأبين فضلك! » قلت: جعلت فداك، لقد وقع في قلبي لهذا الغلام من المودة ما لم يقع لأحد إلاّ لك. فقال لي: « يا مفضل هو مني بمنزلتي من أبيعليه‌السلام ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) »(٣) .

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٩، ح ٢٥، باب (٤)، أعلام الورى ٢: ٤٥.

(٢) سورة آل عمران: ٣ / ٣٤.

(٣) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٢٨٦، ح ٢٨، باب (٤).

٥٣

٣ - الوصية بدفع الحقوق لهعليه‌السلام :

وهي قرينة أخرى على إمامته، لأن الحقوق تعطى - كما هو معروف - للإمام الشرعي لكي يصرفها في مواردها. ولانريد أن نسترسل في إيراد الامثلة على ذلك، ونكتفي بعرض الروايتين التاليتين:

الرواية الأولى : عن الحسن بن علي الخزاز، قال: خرجنا إلى مكة ومعنا علي بن أبي حمزة ومعه مال ومتاع، فقلنا: ما هذا؟ قال: هذا للعبد الصالحعليه‌السلام أمرني أن أحمله إلى علي ابنهعليه‌السلام وقد أوصى اليه.

قال الشيخ الصدوق: إن علي بن أبي حمزة أنكر ذلك بعد وفاة موسى ابن جعفرعليه‌السلام وحبس المال عن الرضاعليه‌السلام (١) !

الرواية الثانية : عن داود بن زربي، قال: جئت إلى أبي ابراهيمعليه‌السلام بمال فأخذ بعضه وترك بعضه، فقلت: أصلحك اللّه، لأي شيء تركته عندي؟! فقال: « إنّ صاحب هذا الأمر يطلبه منك ».

فلمّا جاء نعيهعليه‌السلام بعث إليّ أبو الحسنعليه‌السلام فسألني ذلك المال، فدفعته إليه(٢) .

٤ - الإشارة إلى كون الإمام الرضاعليه‌السلام من الأوصياء:

وهي قرينة إيحائية قوية تضاف إلى سائر القرائن والعلامات الأخرى السابقة، يتضح لنا ذلك من متن الرواية التالية: عن نعيم القابوسي، عن

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٧، ح ٣٧، باب (٤).

(٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٤: ٣٦٨، الكافي ١: ٢٥٠ / ١٣.

٥٤

أبي الحسن موسىعليه‌السلام قال: « ابني عليّ أكبر ولدي، وآثرهم عندي، وأحبهم إليّ، وهو ينظر في الجفر ولم ينظر فيه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ »(١) .

فهنا لم يصرح الإمام الكاظمعليه‌السلام علنا بإمامة ولده الرضاعليه‌السلام ولكن ذكر «الجفر» وكون النظر فيه من اختصاص النبي أو الوصي، فهذه الجملة تعطي إيماءة مهمة على إمامته، وخاصة بعد سبقها بذكر علامات أخرى، ككونه أكبر ولده وأحبهم اليه، وآثرهم عنده، وهي من صفات الإمام الذي يخلف أباه في الإمامة كما جاءت بهذا أحاديث صريحة كثيرة لا حصر لها.

ثانيا: أسلوب التصريح الشفوي

وهنا نجد الإمام الكاظمعليه‌السلام يصرح بصورة لالبس فيها بإمامة ولده، ويحدد القول الفصل حول إمامته بوضوح لا يخفى، وهذا الأسلوب تتوضح خطوطه من خلال روايات عديدة، وبعد دراستنا لها، نلاحظ:

أولا: تصريحهعليه‌السلام بإمامة ولده الرضاعليه‌السلام :

اذ نلاحظ أن الإمام الكاظمعليه‌السلام يغتنم كل مناسبة لكشف النقاب عن إمامة ولده الرضاعليه‌السلام ، ويبدو أنه كان يركز على ثقات أصحابه وشيعته، من أجل تمهيد الطريق أمام إمامة ولده، حاملاً على كتفه عب ء إيصال هذه الأمانة الإلهية الخطيرة، ومدركا في الوقت نفسه بأن هناك من تسوّل له نفسه الخروج عن وصيته بإمامة ابنه، ففي اسناد ينتهي إلى غنام بن القاسم

__________________

(١) اعلام الورى ٢: ٤٤.

٥٥

قال: قال لي منصور بن يونس بن بزرج: دخلت على أبي الحسن - يعني موسى بن جعفرعليهما‌السلام - يوما، فقال لي: « يا منصور، أما علمت ما أحدثت في يومي هذا؟ » قلت: لا، قال: « قد صيّرت عليا ابني وصيي » وأشار بيده الى الرضاعليه‌السلام « وقد نحلته كنيتي، وهو الخلف من بعدي، فادخل عليه وهنّئه بذلك، واعلم أني أمرتك بهذا » قال: فدخلت عليه فهنّئته بذلك وأعلمته أنه أمرني بذلك ثمّ جحد منصور فأخذ الأموال التي كانت في يده وكسرها!(١) .

ثانيا: جواب الإمام الكاظمعليه‌السلام على سؤال (عمن سيخلفه في الإمامة):

كان بعض الشيعة ونتيجة مباشرة لظروف التقية لم تسمع من إمامها الكاظمعليه‌السلام من يخلفه على الإمامة، ولم تطرق سمعها النصوص السابقة من آبائهعليهم‌السلام ، أو سمعت بها وأحبّت التأكد من شخص الإمام كما تحكيه بعض الروايات في هذا المقام، خصوصاً وإن حديث « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » قد تواتر نقله عند الإمامية وصحّت طرقه عند غيرهم، الأمر الذي يؤدي إلى السؤال من الإمام عمن سيلي الأمر بعده ؛ لأجل قطع الظن الحاصل من السماع السابق أو عدمه، باليقين الحاصل من السماع من الإمام مباشرةً، ومن هنا وجهت بعض الشخصيات أسئلة صريحة للإمام الكاظمعليه‌السلام حول من سيخلفه بعد وفاته، فأجابهم الإمام بصورة صريحة لا لبس فيها أن الإمام من بعده علي الرضاعليه‌السلام ابنه، ومن الشواهد عليه، ما جاء عن داود الرقي، قال: قلت لأبي ابراهيم

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٢، ح ٥، باب (٤).

٥٦

- يعني موسى الكاظمعليه‌السلام : فداك أبي، إني قد كبرت وخفت أن يحدث بي حدثٌ ولا ألقاك، فأخبرني من الإمام من بعدك؟ فقال: « ابني عليعليه‌السلام »(١) .

ونظير هذه الرواية ما أسنده الصدوق إلى نصر بن قابوس. قال: قلت لأبي ابراهيم موسى بن جعفرعليهما‌السلام : اني سألت أباكعليه‌السلام من الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنك أنت هو، فأخبرني من الذي يكون بعدك؟ قال: « ابني عليعليه‌السلام »(٢) .

٢ - توسيعهعليه‌السلام دائرة التصريح بإمامة ولده الرضاعليه‌السلام :

لم تقتصر دعوة الإمام الكاظمعليه‌السلام لإمامة ولده الرضاعليه‌السلام على اللقاءات والاتصالات الفردية التي تتم عادة تحت ستار كثيف من الكتمان والسرية، بل جهد في إعلان إمامته أمام الجموع أو الملأ العام، لاسيما وأنه قد أدرك أن حصرها في نطاق ضيق قد لايحقق النتيجة المرجوة، فمن المحتمل أن تكون عرضة للتشكيك أو الإنكار، وقد تعطي مبررا لتنصل أهل الأهواء وملتمسي الأعذار وأصحاب المطامع بالأموال.

من أجل ذلك أخذ الإمام الكاظمعليه‌السلام يجمع في بداية الأمر من يخصه بالقرابة القريبة من ولد علي وفاطمةعليهم‌السلام : عن حيدر بن أيوب، قال: كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا، فيه محمد بن زيد بن علي، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه، فقلنا له: جعلنا اللّه فداك،

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٣، ح ٨، باب (٤).

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٤٠، ح ٢٦، باب (٤).

٥٧

ما حبسك؟ قال: دعانا أبو ابراهيمعليه‌السلام اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته، وأن أمره جائز عليه وله، ثم قال محمد بن زيد: واللّه يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم وليقولن الشيعة به من بعده، قال: حيدر، قلت: بل يبقيه اللّه، وأي شيء هذا؟ قال: يا حيدر، إذا أوصى إليه فقد عقد له الإمامة(١) .

ومن ثم وسع نطاق الوصية إلى دائرة القرابة الأبعد كولد جعفر بن أبي طالب من الرجال والنساء، فعن عبد اللّه بن الحارث وأمه من ولد جعفر بن أبي طالب، قال: بعث إلينا أبو ابراهيمعليه‌السلام فجمعنا ثم قال: « أتدرون لم جمعتكم؟ » قلنا: لا، قال: « اشهدوا أنّ عليا ابني هذا وصيّي، والقيّم بأمري، وخليفتي من بعدي، من كان له عندي دَين فليأخذه من ابني هذا، ومن كانت له عندي عدة فليستنجزها منه، ومن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه »(٢) .

ويبدو من الرواية التالية أنه قد وسع من نطاق الدعوة لإمامة ولده الرضاعليه‌السلام ، بحيث شملت المدينة بصورة عامة، وبذلك انتقل إلى مدار جديد من أجل إشهاد أكبر عدد ممكن من الأفراد على استحقاق ابنه للإمامة، ليقطع الطريق على كل الأعذار، ويزيل جميع الشكوك التي تساور الأذهان المريضة في هذا الشأن: عن حسين بن بشير، قال: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام ابنه علياعليه‌السلام كما أقام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياعليه‌السلام يوم

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٧، ح ١٦، باب (١).

(٢) اعلام الورى ٢: ٤٥، الكافي ١: ٢٤٩ / ٧، عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٦، ح ١٤، باب (٤).

٥٨

غدير خم، فقال: « يا أهل المدينة » أو قال: « يا أهل المسجد، هذا وصيي من بعدي »(١) .

ثالثاً: أسلوب الكتابة

حشد الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام كل الحجج والادلة على إمامة ولده الرضاعليه‌السلام من بعده، ولم يقتصر على عرضها في اللقاءات الفردية والجماعية التي تكون عادة بصورة شفوية، من خلال كلامه المباشر مع الناس أفرادا أو جماعات، حيث يختار عبارات منتقاة بعناية حسب مايسمح به الظرف السياسي السائد، اذ يشير تلميحا أو تصريحا إلى إمامة الرضاعليه‌السلام ، ويظهر أنه لم يكتف بالأسلوب الشفوي كوسيلة اعلامية سائدة بل أردفه بأسلوب تحريري، من خلال كتابة الالواح والكتب، حتى تكون الحجة أبلغ. ولايخفى بان الكلام المكتوب يكون أكثر وقعا وتأثيرا في النفوس من الكلام الشفوي الذي يكون - احيانا - عرضة للتأويل والتزوير. يتضح لنا هذا الأسلوب من خلال الروايتين التاليتين:

الرواية الأولى : عن عبد الرحمن بن الحجاج، قال: أوصى أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام إلى ابنه عليعليه‌السلام ، وكتب له كتابا أشهد فيه ستين رجلاً من وجوه أهل المدينة(٢) .

الرواية الثانية : عن الحسين بن المختار، قال: لما مرّ بنا أبو الحسنعليه‌السلام بالبصرة خرجت إلينا منه «ألواح» مكتوب فيها: « عهدي إلى أكبر

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٧، ح ١٧، باب (٤).

(٢) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٧، ح ١٧، باب (٤).

٥٩

ولدي »(١) . ومعلوم أن الإمام الرضاعليه‌السلام أكبر ولد الإمام الكاظمعليه‌السلام .

أسلوب الوصية:

جارى الإمام الكاظمعليه‌السلام الاسلوب المتَّبَع عند الأئمةعليهم‌السلام في الوصية لأولادهم من بعدهم، ويبدو أن الإمام الكاظمعليه‌السلام في وصيته لولده الرضاعليه‌السلام كان يخشى عليه من حسد إخوته ومنافستهم إيّاه، أو كان يخشى عليه من السلطات الحاكمة التي ترصد بدقة من يخلفه في أمره، لذلك كانت وصيته له اتخذت أسلوبين:

الأسلوب العام:

عندما أوصى لولده الرضاعليه‌السلام في الظاهر، ولأجل التمويه أشرك معه بنيه، حتى لا يتحسّسوا منه، ولا تكشف السلطة من يخلفه.

الأسلوب الخاص:

فقد أوصى الإمام الكاظمعليه‌السلام للرضاعليه‌السلام خاصة، وأفرده بالوصية وحده، يظهر كل من الشكلين في الرواية التالية ذات الدلالة:

عن يزيد بن سليط قال: لقيت أبا ابراهيمعليه‌السلام ونحن نريد العمرة في بعض الطريق ...قال: « أخبرك يا أبا عمارة، اني خرجت من منزلي فأوصيت إلى ابني فلان وأشركت معه بنيّ في الظاهر، وأوصيته في الباطن، وأفردته وحده، ولو كان الأمر إليّ لجعلته في القاسم لحبّي إيّاه ورأفتي عليه، ولكن ذاك إلى اللّه يجعله حيث يشاء ».

عند التمعّن في هذه الرواية نكتشف أن السبب في انتخاب الإمام

__________________

(١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١: ٣٩، ح ٢٤، باب (٤)، وفي اعلام الورى ٢: ٤٦، الفصل الثاني: أن الالواح خرجت وهو في الحبس.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

ولكي نستوعب تفصيلات هذه الفكرة يجب أن نحدّد الجانب المتطوّر من حياة الإنسان الاقتصادية ، ومدى تأثيره على الصورة التشريعية التي تنظّم تلك الحياة .

فهناك في الحياة الاقتصادية علاقات الإنسان بالطبيعة ، أو الثروة ـ التي تتمثّل في أساليب إنتاجه لها ـ وسيطرته عليها وعلاقات الإنسان بأخيه الإنسان ، التي تنعكس في الحقوق والامتيازات التي يحصل عليها هذا أو ذاك .

والفارق بين هذين النوعين من العلاقات : أنّ الإنسان يمارس النوع الأوّل من العلاقات ، سواء كان يعيش ضمن جماعة أم كان منفصلا عنها ، فهو يشتبك على أيّ حال مع الطبيعة في علاقات معيّنة يحدّدها مستوى خبرته ومعرفته ، فيصطاد الطير ، ويزرع الأرض ، ويستخرج الفحم ، ويغزل الصوف بالأساليب التي يجيدها فهذه العلاقات بطبيعتها لا يتوقف قيامها بين الطبيعة والإنسان على وجوده ضمن جماعة وإنّما أثر الجماعة على هذه العلاقات أنّها تؤدّي إلى تجميع خبرات وتجارب متعدّدة ، وتنمية الرصيد البشري لمعرفة الطبيعة ، وتوسعة حاجات الإنسان ورغباته تبعاً لذلك .

وأمّا علاقات الإنسان بالإنسان التي تحدّدها الحقوق والامتيازات والواجبات ، فهي بطبيعتها تتوقّف على وجود الإنسان ضمن الجماعة فما لم يكن الإنسان كذلك لا يُقدِم على جعل حقوق له وواجبات عليه فحقّ الإنسان في الأرض التي أحياها ، وحرمانه من الكسب بدون عمل عن طريق الرِّبا ، وإلزامه بإشباع حاجات الآخرين من ماء العين التي استنبطها إذا كان زائداً على حاجته كلّ هذه العلاقات لا معنى لها إلاّ في ظلّ جماعة .

والإسلام ـ كما نتصوّره ـ يميّز بين هذين النوعين من العلاقات فهو يرى أنّ علاقات الإنسان بالطبيعة أو الثروة ، تتطوّر عبر الزمن ؛ تبعاً للمشاكل المتجدّدة التي يواجهها الإنسان باستمرار وتتابع خلال ممارسته للطبيعة والحلول المتنوعة التي يتغلب بها على تلك المشاكل وكلّما تطوّرت علاقاته بالطبيعة ازداد سيطرة عليها ، وقوّة في وسائله وأساليبه .

وأمّا علاقات الإنسان بأخيه ، فهي ليست متطوّرة بطبيعتها ؛ لأنّه تعالج مشاكل ثابتة جوهرياً ، مهما اختلف إطارها ومظهرها فكلّ جماعة تسيطر خلال علاقاتها بالطبيعة على ثروة تواجه مشكلة توزيعها ، وتحديد حقوق الأفراد والجماعة فيها ، سواء كان الإنتاج لدى الجماعة على مستوى البخار والكهرباء ، أم على مستوى الطاحونة اليدوية .

٦٦١

ولأجل ذلك يرى الإسلام : أنّ الصورة التشريعية التي ينظّم بها تلك العلاقات وفقاً لتصوّراته للعدالة قابلة للبقاء والثبات من الناحية النظرية ؛ لأنّها تعالج مشاكل ثابتة فالمبدأ التشريعي القائل ـ مثلاً ـ : إنّ الحقّ الخاص في المصادر الطبيعية يقوم على أساس العمل يعالج مشكلة عامّة يستوي فيها عصر المحراث البسيط وعصر الآلة المعقّدة ؛ لأنّ طريقة توزيع المصادر الطبيعية على الأفراد مسألة قائمة في كلا العصرين .

والإسلام في هذا يخالف الماركسية ، التي تعتقد أنّ علاقات الإنسان بأخيه تتطوّر تبعاً لتطوّر علاقاته بالطبيعة وتربط شكل التوزيع بطريقة الإنتاج ، وترفض إمكان بحث مشاكل الجماعة إلاّ في إطار علاقته بالطبيعة ، كما مرّ بنا عرضه ونقده في بحوث الكتاب الأوّل من اقتصادنا .

ومن الطبيعي ـ على هذا الأساس ـ أن يقدّم الإسلام مبادئه النظرية والتشريعية ، بوصفها قادرة على تنظيم علاقات الإنسان بالإنسان في عصور مختلفة .

ولكن هذا لا يعني جواز إهمال الجانب المتطوّر ، وهو علاقات الإنسان بالطبيعة وإخراج تأثير هذا الجانب من الحساب ، فإنّ تطوّر قدرة الإنسان على الطبيعة ، ونمو سيطرته على ثرواتها ، يطوّر وينمي باستمرار خطر الإنسان على الجماعة ، ويضع في خدمته باستمرار إمكانات جديدة للتوسع ولتهديد الصورة المتبنّاة للعدالة الاجتماعية .

فالمبدأ التشريعي القائل مثلاً : إنّ مَن عَمل في أرض وأنفق عليه جهداً حتى أحياها ، فهو أحقّ بها من غيره يعتبر في نظر الإسلام عادلاً ؛ لأنّ من الظلم أن يساوى بين العامل الذي أنفق على الأرض جهده ، وغيره ممّن لم يعمل فيها شيئاً ولكن هذا المبدأ بتطوّر قدرة الإنسان على الطبيعة ونموّها ، يصبح من الممكن استغلاله ففي عصر كان يقوم إحياء الأرض فيه على الأساليب القديمة ، لم يكن يتاح للفرد أن يباشر عمليات الإحياء إلاّ في مساحات صغيرة وأمّا بعد أن تنمو قدرة الإنسان وتتوفّر لديه وسائل السيطرة على الطبيعة ، فيصبح بإمكان أفراد قلائل ممّن تؤاتيهم الفرصة أن يحيوا مساحة هائلة من الأرض باستخدام الآلات الضخمة ويسيطروا عليها ، الأمر الذي يزعزع العدالة الاجتماعية ومصالح الجماعة فكان لا بدّ للصورة التشريعية من منطقة فراغ يمكن ملؤها حسب الظروف ، فيسمح بالإحياء سماحاً عاماً في العصر الأوّل ، ويمنع الأفراد في العصر الثاني ـ منعاً تكليفياً ـ عن ممارسة الإحياء إلاّ في حدود تتناسب مع أهداف الاقتصاد الإسلامي وتصوّراته عن العدالة .

٦٦٢

وعلى هذا الأساس وضع الإسلام منطقة الفراغ في الصورة التشريعية التي نظمّ بها الحياة الاقتصادية ، لتعكس العنصر المتحرّك وتواكب تطوّر العلاقات بين الإنسان والطبيعة ، وتدرأ الأخطار التي قد تنجم عن هذا التطوّر المتنامي على مرّ الزمن .

منطقة الفراغ ليست نقصاً :

ولا تدلّ منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية ، أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث بل تعبّر عن استيعاب الصورة وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة ؛ لأنّ الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً ، وإنّما حُدّدت للمنطقة أحكامه بمنح كلّ حادثة صفتها التشريعية الأصيلة ، مع إعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية حسب الظروف فإحياء الفرد للأرض مثلاً عملية مباحة تشريعياً بطبيعتها ، ولوليّ الأمر الحقّ المنع عن ممارستها ، وفق لمقتضيات الظروف .

الدليل التشريعي :

والدليل على إعطاء ولي الأمر صلاحيات كهذه لملء منطقة الفراغ ، هو النصّ القرآني الكريم :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) .

وحدود منطقة الفراغ التي تتّسع لها صلاحيات أولي الأمر ، تضمّ في ضوء هذا النصّ الكريم كلّ فعلٍ مباحٍ تشريعياً بطبيعته ، فأيّ نشاط وعمل لم يرد نصّ تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه يسمح لوليّ الأمر بإعطائه صفة ثانوية ، بالمنع عنه أو الأمر به فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته أصبح حراماً ، وإذا أمر به أصبح واجباً وأمّا الأفعال التي ثبت تشريعي تحريمها بشكل عام ، كالرِّبا مثلاً ، فليس من حقّ وليّ الأمر ، الأمر بها كما أنّ الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه ، كإنفاق الزوج على زوجته ، لا يمكن لوليّ الأمر المنع عنه ؛ لأنّ طاعة أولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامة فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة الاقتصادية هي التي تشكّل منطقة الفراغ .

ـــــــــــــــ

(١) سورة النساء : ٥٩ .

٦٦٣

نمـاذج :

وفي النصوص المأثورة نماذج عديدة لاستعمال وليّ الأمر صلاحياته في حدود منطقة الفراغ ، وهذه النماذج تلقي ضوءاً على طبيعة المنطقة وأهمية دورها الإيجابي في تنظيم الحياة الاقتصادية ولهذا نستعرض فيما يلي قسماً من تلك النماذج مدعماً بالنصوص :

أ ـ جاء في النصوص : أنّ النبي نهى عن منع فضل الماء والكلأ فعن الإمام الصادق أنّه قال :( قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل : أنّه لا يمنع فضل ماء وكلأ ) (١) .

وهذا النهي نهي تحريم كما يقتضيه لفظ النهي عرفاً وإذا جمعنا إلى ذلك رأى جمهور الفقهاء القائل : بأنّ مَنع الإنسان غيره من فضلِ ما يملكه من ماء وكلأ ليس من المحرّمات الأصيلة في الشريعة كمنع الزوجة نفقتها ، وشرب الخمر ، أمكننا أن نستنتج : أنّ النهي من النبي صدر عنه بوصفه وليّ الأمر .

فهو ممارسة لصلاحية في ملء منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف ؛ لأنّ مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية ، فألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلأهم للآخرين ، تشجيع للثروات الزراعية والحيوانية .

وهكذا نرى أنّ بذل فضل الماء والكلأ فعل مباح بطبيعته وقد ألزمت به الدولة إلزاماً تكليفياً ، تحقيقاً لمصلحة واجبة

ـــــــــــــــ

(١) الفروع من الكافي ٥ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، باب الضرار ، الحديث ٦ ، مع اختلاف .

٦٦٤

ب ـ ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النهي عن بيع الثمرة قبل نضجها(١) . ففي الحديث عن الصادقعليه‌السلام : أنّه سُئل عن الرجل يشتري الثمرة المسمّاة من أرض ، فتهلك ثمرة تلك الأرض كلّها ؟ فقال :( قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانوا يذكرون ذلك ، فلمّا رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة ، ولم يحرّمه ولكنّه فعل ذلك من أجل خصومتهم ) (٢) وفي حديث آخر :أنّ رسول الله أحلّ ذلك فاختلفوا فقال : لا تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها (٣) .

فبيع الثمرة قبل بدو صلاحها عملية مباحة بطبيعتها ، وقد أباحتها الشريعة الإسلامية بصورة عامة ولكنّ النبيّ نهى عن هذا البيع بوصفه وليّ الأمر ؛ دفعاً لما يسفر عنه من مفاسد وتناقضات .

ج ـ ونقل الترمذي عن رافع بن خديج أنّه قال : ( نهانا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أمر كان لنا نافعاً ، إذا كانت لأحدنا أرض أن يعطيها ببعض خراجه أو بدراهم ، وقال :إذا كانت لأحدكم أرض فليمنحها أخاه ، أو ليزرعها )(٤) .

ونحن حين نجمع بين قصّة هذا النهي ، واتفاق الفقهاء على عدم حرمة كراء الأرض في الشريعة بصورة عامة ، ونضيف إلى ذلك نصوصاً كثيرة واردة عن الصحابة ، تدلّ على جواز إجارة الأرض ، نخرج بتفسير معيّن للنصّ الوارد في خبر رافع بن خديج ، وهو أنّ النهي كان صادراً من النبي بوصفه وليّ الأمر وليس حكماً شرعياً عامّاً .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٢١٥ ، الباب الأوّل من أبواب بيع الثمار ، الحديث ١٤ .

(٢) وسائل الشيعة ١٨ : ٢١٠ ، الباب الأوّل من أبواب بيع الثمار ، الحديث ٢ .

(٣) وسائل الشيعة ١٨ : ٢١١ ، الباب الأوّل من أبواب بيع الثمار ، الحديث ٤ .

(٤) صحيح الترمذي ٦ : ١٥٥ ، الحديث ١٣٨٨ ، والجامع الصحيح ( هو سنن الترمذي) ٣ : ٦٦٨ ، الحديث ١٣٨٤ .

٦٦٥

فإجارة الأرض بوصفها عملاً من الأعمال المباحة بطبيعتها ، يمكن النبي المنع عنها باعتباره وليّ الأمر منعاً تكليفيّاً ؛ وفقاً لمقتضيات الموقف .

د ـ جاءت في عهد الإمامعليه‌السلام إلى مالك الأشتر أوامر مؤكّدة بتحديد الأسعار ، وفقاً لمقتضيات العدالة فقد تحدث الإمام إلى واليه عن التجّار ، وأوصاه بهم ، ثمّ عقّب ذلك قائلاً :(وَاعْلَمْ ـ مَعَ ذلِكَ ـ أَنَّ فِي كَثِيٍر مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً ، وَشُحّاً قَبِيحاً ، وَاحْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ ، وَتَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ ، وَذلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ ، وَعَيْبٌ عَلَى الْوُلاَةِ فَامْنَعْ مِنَ الاحْتِكَارِ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ مَنَعَ مِنْهُ وَلْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً : بِمَوَازِينِ عَدْلٍ ، وَأَسْعَارٍ لاَ تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ) (١) .

ومن الواضح فقهياً : أنّ البائع يباح له البيع بأيّ سعر أحب ، ولا تمنع الشريعة منعاً عامّاً عن بيع المالك للسلعة بسعر مجحف فأمر الإمام بتحديد السعر ، ومنع التجّار عن البيع بثمن أكبر ، صادر منه بوصفه وليّ الأمر فهو استعمال لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ ، وفقاً لمقتضيات العدالة الاجتماعية التي يتبنّاها الإسلام .

ـــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ٤٣٨ .

٦٦٦

الملاحق(١)

بحثٌ في : استثناءات من ملكية المسلمين لأراضي الفتح

حكم الأرض العامِرة بعد تشريع حكم الأنفال :

في الأوساط الفقهية رأيٌ يميز بين نوعين من الأرض العامرة حال الفتح :

أحدهما : الأرض التي كان إعمار الكفّار لها متقدّماً زمنياً على تشريع ملكية الإمام للأنفال بما فيها الأرض الميتة ، كما إذا كانت الأرض معمورة منذ الجاهلية .

والآخر الأرض التي يرجع عمرانها حال الفتح إلى تأريخ متأخّر عن زمان ذلك التشريع ، كما إذا فتح المسلمون أرضاً عامرة في سنة خمسين للهجرة ، وكان بدء عمرانها بعد نزول سورة الأنفال ، أو بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلاً .

فالنوع الأوّل من الأرض العامرة حال الفتح يملكه المسلمون ملكيّة عامة وأمّا النوع الثاني فلا يملكه المسلمون ، وإنّما هو ملك الإمام .

قال الفقيه المحقّق صاحب الجواهر في بحوث الخمس من كتابه(١) :( إطلاق الأصحاب والأخبار ملكيّة عامر الأرض المفتوحة عَنوة للمسلمين ، يراد به ما أحياه الكفّار من المَوات قبل أن يجعل الله الأنفال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلاّ فهو له أيضاً ، وإن كان معموراً وقت الفتح ) . وخالف ذلك في بحوث إحياء الموات من كتابه(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) جواهر الكلام ١٦ : ١١٨ .

(٢) المصدر السابق ٣٨ : ١٧ .

٦٦٧

والباعث على التمييز فقهياً بين هذين النوعين من الأرض العامرة حال الفتح ، هو التسليم المسبق بنقطتين ، وهما كما يلي :

أ ـ أنّ الكافر لا يملك الأرض بالإحياء بعد تشريع حكم الأنفال ؛ لأنّ الأرض تصبح بموجب هذا التشريع مِلكاً للإمام ، وهو لم يأذن للكافر بالإحياء لكي يملك الأرض التي يحييها .

ب ـ أنّ المسلمين إنّما يغنمون ويملكون شرعاً بالفتح أموال الكفّار ، لا أموال الإمام التي في سيطرتهم .

ويستخلص من ذلك : أنّ الأرض التي أحياها الكافر بعد تشريع حكم الأنفال تظلّ مِلكاً للإمام ، ولا يملكها الكافر بالإحياء ، كما تقرّره النقطة الأولى ، فإذا فتحها المسلمون لم يملكوها ؛ لأنّها ليست من أموال الكافر ، بل من أموال الإمام ، وهم إنّما يملكون ما يغنمونه من الكفار ، كما مرّ في النقطة الثانية .

وهذا الرأي الذي يستهدف التمييز بين هذين النوعين يحتاج إلى شيء من التمحيص ؛ لأنّنا إذا درسنا النصوص التشريعية التي تمنح المسلمين الأموال التي أخذوها بالسيف من الكفّار ، بما فيها الأرض ، نجد أنفسنا بين فرضيّتين :

أحدهما : أن تكون الأموال الممنوحة للمسلمين بالفتح في هذه النصوص : كلّ مالٍ كان مِلكاً أو حقّاً في الدرجة السابقة للكافر

والأخرى : أن تكون الأموال الممنوحة في تلك النصوص : كلّ ما أخذ من الكافر وانتزع من سيطرته بالفتح ، بقطع النظر عن طبيعة العلاقة الشرعية للكافر بالمال .

فعلى الفرضية الأولى في فهم تلك النصوص يجب ـ لكي يتاح تطبيقه على مال من الأموال المغتنمة ـ أن نثبت بصورة مسبقة : أنّ هذا المال كان مِلكاً أو حقّاً للكافر لكي يحصل المسلمون على ملكيّته بالفتح .

٦٦٨

وخلافاً للنقطة الأولى التي نفت حقّ الكافر فيما يحييه من الأرض بعد تشريع حكم الأنفال نعتقد : أنّ إحياء الكافر للأرض يورثه حقّاً فيه كالمسلم ، وإن ظلّت رقبة الأرض مِلكاً للإمام ، وفقاً للنصّ القائل : من أحيى أرضاً فهو أحقّ بها ، دون تمييز بين المسلم وغيره .

وعلى هذا الضوء يصبح فتح المسلمين للأرض سبباً في انتقال هذا الحقّ من الكافر إلى الأمّة ، فتكون الأرض حقّاً عامّاً للمسلمين ، ورقبتها تظلّ مِلكاً للإمام ، ولا تعارض بين الأمرين .

وأمّا إذا أخذنا بالفرضية الثانية في تفسير نصوص الغنيمة ، فسوف تكون هذه النصوص شاملة للأرض التي يغنمها المسلمون من الكافر ، ولو لم تكن ملكاً أو حقّاً للكافر قبل الفتح ؛ لأنّ أساس تملّك المسلمين على هذا الضوء هو انتزاع المال من سيطرة الكافر خارجاً ، وهذا حاصل .

وسوف يؤدّي بنا هذا إلى مواجهة التعارض بين إطلاق نصوص الغنيمة ، وإطلاق دليل مِلكية الإمام ؛ لأنّ الأرض التي أحياها الكافر بعد تشريع حكم الأنفال ثمّ فتحها المسلمون تعتبر ـ بوصفها مالاً منتزعاً من الكافر بالفتح ـ مندرجة في نصوص الغنيمة ، وبالتالي مِلكاً عاماً للمسلمين ، وتعتبر ـ بوصفها أرضاً مَيتَة حين تشريع حكم الأنفال ـ مندرجة في دليل مِلكية الإمام للأرض المَيتة ، وبالتالي مِلكاً له .

ومن الضروري ـ فقهياً ـ في أمثال هذه الحالة ، الدقيق في تحديد ما هو القدر الذي مُني بالمعارضة من مدلول النصوص ، لنتوقّف عن الأخذ به نتيجة للتعارض ، مع الأخذ بسائر أجزاء المدلول .

ونحن إذا لاحظنا المعارضة هنا ، وجدنا أن نقطة ارتكازها هي اللام في قولهم :( كلّ أرض مَيتة للإمام ) وقولهم ـ مثلاً ـ : ما أخذ بالسيف للمسلمين

٦٦٩

و ( اللام ) بطبيعتها لا تدلّ على الملكية ، بلى على الاختصاص ، وإنّما تدلّ على الملكية بالإطلاق وهذا يعني أنّ التعارض بين إطلاقي اللامين ؛ لأنّهما تؤدّيان إلى مِلكيّتين مختلفتين ، فيسقط الإطلاقان وتبقى الدلالة على أصل الاختصاص ثابتة ، إذ لا مانع من افتراض اختصاصين بالأرض التي أحياها الكافر بعد تشريع حكم الأنفال ، ثمّ فتحها المسلمون :

أحدهما : اختصاص الإمام على مستوي الملكية ، والآخر اختصاص المسلمين على مستوى الحقّ (١) .

ـــــــــــــــ

(١) وبتعبير آخر : أنّ التعارض في الحقيقة ليس بين إطلاق عنوان (الغنيمة) في نصوص ملكية المسلمين ، وإطلاق عنوان (الأرض المَيتَة) في نصوص ملكية الإمام ، ليتعيّن الالتزام بخروج مادّة التعارض ـ وهي الأرض التي نتكلّم عنها ـ ، أمّا عن هذه النصوص رأساً ، وإمّا عن تلك كذلك وإنّما التعارض في الحقيقة بين إطلاق (اللام) في هذه النصوص ، وإطلاقها في تلك ، لأنّ هذين الإطلاقين هما اللذان يؤدّيان إلى اجتماع الملكيّتين على مملوك واحد ، وقانون المعارضة يقتضي التساقط بمقدارها لا أكثر ، فيسقط إطلاق اللام المفيد للملكية في كلّ من الطائفتين ، ويبقى أصل اللام الدال على مطلق الاختصاص وحينئذٍ نثبت اختصاص المسلمين بالأرض التي وقعت مادّة التعارض بنفس (اللام) في نصوص الغنيمة ، لأنّ هذا المقدار لم يكن له معارض ونثبت اختصاص الإمام بتلك الأرض اختصاصاً مِلكياً ، بالعموم الفوقي الدال على أنّ الأرض كلّها للإمام ؛ لأنّ العام يكون مرجعاً بعد تساقط الخاصيّن

وقد يتوهّم خلافاً لما قلناه : أنّ المُتعيّن عند المعارضة بين الطائفتين تقديم دليل ملكية الإمام ؛ لأنّ الاستيعاب في بعض نصوصه بأداة العموم ، كما في قوله : ( كلّ أرض مَيتَة للإمام ) دون أخبار الأرض الخراجية ، فإنّ دلالتها على الاستيعاب بالإطلاق .

والجواب : أنّ إطلاق أخبار الأراضي الخراجية لا يعارض العموم الأفرادي في قوله : ( كلّ أرض مََيتَة ) ، وإنّما يعارض إطلاقه الأزماني لما بعد الفتح ، بمعنى : أنّ الأرض العامرة المفتوحة كانت إلى حين الفتح داخلة في دليل مِلكية الإمام بلا معارض فطرف المعارضة إذن هو الإطلاق الأزماني في دليل ملكية الإمام لا العموم الأفرادي الذي هو بالوضع ، وحتى الإطلاق الأزماني قد عرفت أنّ مرجع طرفيته للمعارضة بالدقّة إلى كون إطلاق (اللام) طرفاً للمعارضة ولهذا لو فرض عدم وجود إطلاق في اللام يدلّ على الملكية لما بقيت معارضة ، لا مع العموم الأفرادي ، ولا مع الإطلاق الأزماني (المؤلّف قدّس سرّه) .

٦٧٠

وبهذا ننتهي إلى نفس النتيجة التي انتهينا إليها على أساس الفرضية الأولى ويمكننا أن نعمّم هذه النتيجة على جميع الأراضي العامرة المفتوحة عَنوة حتى ما كان منها قد عمّره الكافر وأحياه قبل زمن نزول آية الأنفال ؛ لأنّ آية الأنفال جاءت جواباً على سؤال عن الحكم الشرعي للأنفال فهي جملة خبرية ، والجملة الخبرية بمدلولها يمكن أن تعبّر عن قضية كليّة تشمل الأفراد السابقة والحاضرة والمستقبلة .

وبكلمة أخرى : أنّ دليل ملكية المنصب الإلهي للأنفال لو كان لسانه لسان إنشاء الملكية وجعلها ، فلا يمكن للملكية المجعولة بهذا الدليل أن يكون لها وجود سابق على ذلك الدليل ، وأمّا إذا كان سياقه سياق الجملة الخبرية فبالإمكان أن يكون إخباراً عن ثبوت ملكية المنصب لكلّ أرض مَيتة على نحو تكون كلّ أرض يحييها الكافر مِلكاً للإمام ، ويكسب الكافر حقّ الإحياء فيها فإذا فتحت عَنوة غنم المسلمون حقّ الكافر وتحوّل إلى حقّ عام مع بقاء الرقبة ملكاً للإمام ، وهذا ما يناسب العموم في رواية الكابلي(١) وغيرها(٢) ، الدال على أنّ الأرض كلّها للإمام .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٤ ، الباب ٣ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ٢ .

(٢) منها ما في المصدر السابق ٩ : ٥٤٨ ، الباب ٤ من أبواب الأنفال ، الحديث ١٢ .

٦٧١

هل يستثنى الخمس من الأرض المفتوحة ؟

بقي علينا أن نعرف أنّ الأرض المفتوحة هل تشملها فريضة الخمس ، أو يحكم بملكيّة المسلمين لها جميعاً ، دون استثناء الخمس ؟

ولعلّ كثيراً من الفقهاء يذهبون إلى ثبوت الخمس ؛ تمسّكاً بإطلاقات أدلّة خمس الغنيمة ، التي تقتضي شمولها لغير المنقول من الغنائم أيضاً(١) .

وخلافاً لذلك ، يذهب جملة من الفقهاء إلى نفي الخمس ، بدعوى : أنّ إطلاق أدلّة خمس الغنيمة لا بدّ من الخروج عنها ، بلحاظ إطلاق دليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة ، المقتضي لنفي الخمس فيها(٢) .

والتحقيق : أنّ مقصود النافين من التمسّك بإطلاق دليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة أمّا أن يكون هو تقديم هذا الدليل على إطلاق أدلّة خمس الغنيمة ، أو مجرّد إيقاع المعارضة بين إطلاقي الدليلين ، والاكتفاء بتساقط الإطلاقين في مقام نفي ثبوت الخمس

فإن أريد الأوّل ، فهو يتوقّف على كون دليل مِلكية المسلمين للأرض المفتوحة أخصّ من أدلةّ خمس الغنيمة ليقدّم عليها بالتخصيص وهذه الأخصيّة فيها بحث ؛ لأنّ الملاك في تشخيص الأخص إن كان أخصيّة الموضوع الرئيسي في احد الدليلين من الموضوع الرئيسي في الآخر فالأخصية في المقام ثابتة ؛ لأنّ الموضوع الرئيسي في دليل ملكية المسلمين هو الأرض المفتوحة والموضوع الرئيسي في أدلّة خمس الغنيمة هو الغنيمة ، ومن المعلوم أنّ الأرض المفتوحة أخصّ من طبيعيِّ الغنيمة ، لأنّها نوع خاص منها .

ـــــــــــــــ

(١) شرائع الإسلام ١ : ٣٢٢ وقواعد الأحكام ١ : ٤٩٢ .

(٢) راجع : الحدائق الناظرة ١٢ : ٣٢٥ .

٦٧٢

وإن كان الملاك في الأخصيّة ملاحظة مجموع الجهات والقيود الدخيلة في الحكم ، فالنسبة في المقام بين الدليلين العموم من وجه ؛ لأنّها تلاحظ حينئذٍ بين عنوان خمس الغنيمة وعنوان الأرض المغنومة ، ومادّة الاجتماع بينهما خمس الأرض المغنومة ، ومادّتا الافتراق هما خمس غير الأرض من طرف ، وغير الخمس من بقية الأرض المغتنمة من طرف آخر والظاهر أنّه ليس هناك ميزان كلّي في تشخيص الأخصيّة ، بل يختلف الحال باختلاف الموارد عرفاً كما فصّلنا في الأصول .

وإن أريد الثاني ـ أي : إيقاع المعارضة بين إطلاقي الدليلين والالتزام بالتساقط مع الاعتراف بعدم الأخصية ـ فيرد عليه : أنّه لو سلم التعارض ، فيمكن أن يقال : بتقديم إطلاق أدلّة خمس الغنيمة ، على إطلاق دليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة بوجهين :

أحدهما : أنّ في أدلّة خمس الغنيمة الآية الكريمة الواردة في الخمس ، وقد حقّقنا في محلّه : أنّ المعارض للكتاب بنحو العموم من وجه يسقط عن الحجية في مادّة الاجتماع ، ويتقدّم عليه العام أو المطلق القرآني ، وفق للنصوص الآمرة بطرح ما خالف الكتاب .

والوجه الآخر : إنّ شمول دليل ملكيّة المسلمين لمادّة الاجتماع بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، وشمول جملة من أدلّة خمس الغنيمة للأرض المفتوحة بالعموم ، كرواية أبي بصير :( كلّ شيء قوتل عليه ، على شهادة أنْ لا إله إلاّ الله ، ففيه الخمس ) (١) ، وكذلك الآية الكريمة أمّا الرواية فإنّها مصدّرة بأداة العموم ، وهي

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٩ : ٤٨٧ ، ما يجب فيه الخمس ، الباب ٢ ، الحديث ٥ ، مع اختلاف .

٦٧٣

(كلّ) ، وأمّا الآية فهي وإن لم تشتمل على أداة العموم ، ولكن كلمة :( مِّن شَيْءٍ ) في قوله :( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ ) (١) تقوم مقام أداة العموم في الدلالة عرفاً على تصدّي الآية للاستيعاب بمدلوله اللفظي والعموم اللفظي يقدّم في مورد المعارضة على الإطلاق الثابت بمقدمات الحكمة .

وهكذا نعرف : أنّ الجواب عن التمسّك بإطلاقات أدلّة خمس الغنيمة ، يحتاج إلى تقريب آخر .

والتحقيق : عدم ثبوت الخمس في الأرض المفتوحة(٢) ، كما بَنينا عليه في بحوث الكتاب ، وذلك لأنّ روايات الغنيمة ليس فيها ما يصلح للاستدلال بإطلاقه على ثبوت الخمس في الأرض المفتوحة ، إلاّ رواية أبي بصير المتقدّمة ؛ لأنّ غيرها بين ما يكون ضعيف السند في نفسه ، كروايات حصر الخمس في خمسة(٣) ، أو ساقطاً بالمعارضة ، كرواية ابن سنان :( لا خُمس إلا في الغنائم خاصة ) (٤) ، أو محفوفاً بالقرينة على الاختصاص بغير الأرض من الغنائم ، كالروايات الدالّة على إخراج خمس الغنيمة ، وتقسيم الباقي على المقاتلين(٥) ، فإنّ التقسيم على المقاتلين قرينة على أنّ موردها الغنائم المنقولة .

وهكذا نعرف أنّ الإطلاق ينحصر في رواية أبي بصير ، مضافاً إلى إطلاق

ـــــــــــــــ

(١) سورة الأنفال : ٤١ .

(٢) راجع : الحدائق الناظرة ١٢ : ٣٢٥ .

(٣) وسائل الشيعة ٩ : ٤٨٦ ـ ٤٨٩ ، الباب ٢ من أبواب ما يجب فقيه الخمس ، الحديث ٢ و٤ و٩ و١١ ز ووجه ضعفها إرسالها .

(٤) المصدر السابق : ٤٨٥ ، ٤٩١ ، الحديث ١ و ١٥ مع اختلاف يسير .

(٥) المصدر السابق : ٤٨٩ ، الحديث ١٠

٦٧٤

الغنيمة في الآية الكريمة ، فهذان الإطلاقان هما عمدة الدليل على ثبوت الخمس ، ولا يتمّ شيء منهما بعد التدقيق .

أمّا الآية : فلأنّ عنوان الغنيمة فيها قد فسّر ـ في صحيحة ابن مهزيار ـ بالفائدة التي يستفيدها المرء(١) ، وعلى ضوء هذا التفسير يكون الموضوع في الآية عبارة عن : الفوائد المالية الشخصية ، ودليل ملكية المسلمين للأرض المفتوحة يخرجها عن كونها فائدة شخصية ، فلا يصدق عليها عنوان الغنيمة بالمعنى المفسّر في الصحيحة ، فلا يبقى للآية إطلاق يشمل الأرض المفتوحة عَنوة .

وأمّا رواية أبي بصير ، فالجواب عنها من وجهين :

الأوّل : أنّ الآية الكريمة بلحاظ صحيحة ابن مهزيار التي فسّرتها تكون مقيِّدة لرواية أبي بصير ، بما إذا صدق على المال عنوان الفائدة الشخصية ؛ وذلك لأنّ الآية تقضي أنّ خمس الغنيمة ثابت بعنوان الفائدة ، ورواية أبي بصير تقتضي أنّه ثابت بعنوان كون المال ممّا قوتل عليه بلا دخل لعنوان الفائدة في ذلك ، فكلّ منهما يدلّ ـ بمقتضى إطلاقه ـ على أنّ العنوان المأخوذ فيه هو تمام الموضوع لخمس الغنيمة ومع دوران الأمر بين الإطلاقين يتعيّن رفع اليد عن الإطلاق في رواية أبي بصير ، وتقييده بعنوان الفائدة ؛ وذلك لأنّ التحفّظ على الإطلاق فيها ، والالتزام بعدم دخل عنوان الفائدة رأساً في موضوع خمس الغنيمة ، يؤدّي : إمّا إلى إخراج خمس الغنيمة عن إطلاق الآية وصرفها إلى بقية موارد الخمس ، أو إلى الإلتزام بأنّ الآية وإن كانت شاملة لخمس الغنيمة إلاّ أنّ العنوان المأخوذ فيه وهو الفائدة لا دخل له في موضوع هذا الخمس أصلاً ، وكلا الأمرين باطل .

أمّا إخراج خمس الغنيمة عن إطلاق الآية ، فلوضوح أنّ خمس الغنيمة هو

ـــــــــــــــ

(١) المصدر السابق : ٥٠١ ـ ٥٠٣ ، الباب ٨ من أبواب ما يجب فيه الخمس ، الحديث ٥ .

٦٧٥

القدر المتيقّن من الآية ؛ لأنّه مورد عمل النبيّ بالآية وتطبيقه لها ، فلا يمكن الالتزام بخروجه وأمّا إلغاء العنوان المأخوذ في موضوع الآية ـ أي : الغنيمة بمعنى الفائدة الشخصية ـ فهو غير صحيح أيضاً ؛ لأنّه متى دار الأمر بين إلغاء العنوان المأخوذ في أحد الدليلين عن الموضوعية رأساً ، وبين تقييد العنوان المأخوذ في الدليل الآخر ، تعيّن الثاني وفي المقام الأمر كذلك ، فلا محيص عن الالتزام بتقييد موضوع رواية أبي بصير بعنوان الفائدة .

فإن قيل : إنّ هذا يلزم منه أيضاً إلغاء العنوان المأخوذ في موضوع رواية أبي بصير ، أي : عنوان ما قوتل عليه ؛ لأنّ الفائدة بنفسها ملاك للخمس ، حتى في غير مورد القتال .

قلنا : لا يلزم ذلك ، بل يبقى عنوان القتال دخيلاً في موضوع خمس الغنيمة على حدّ دخالة عنوان المعدنية في موضوع خمس المعدن وأثره هو ثبوت الخمس في تمام المال من دون استثناء المؤنة ، بخلاف عنوان الفائدة بمفرده ، فإنّه ملاك للخمس بعد الاستثناء لا في التمام .

فاتّضح أنّ التحفظ على الإطلاق في الرواية الذي يقتضي كون العنوان المأخوذ فيها تمام الموضوع ، يوجب إلغاء العنوان المأخوذ في الآية بالنسبة إلى خمس الغنيمة رأساً ، وإمّا تقييد إطلاق الرواية بالآية بعد تفسيرها ، والالتزام بأنّ خمس الغنيمة موضوعه مركّب من القتال وصدق عنوان الفائدة ، فليس فيه محذور إلغاء العنوان رأساً

وإذا ثبت ذلك سقط الاستدلال بالرواية ؛ لأنّ عنوان الفائدة الشخصية لا يصدق على الأرض بعد فرض كونها وقفاً عامّاً على نوع المسلمين إلى يوم القيامة .

هذا كلّه في الوجه الأوّل للجواب عن الاستدلال برواية أبي بصير .

٦٧٦

وأمّا الوجه الثاني في الجواب ، فحاصله : أنّ إطلاق رواية أبي بصير معارض بالروايات الدالّة بإطلاقها على ملكية المسلمين لتمام الأرض المفتوحة ، وهي قسمان:

أحدهما : أخذ فيه عنوان الأرض المأخوذة بالسيف .

والآخر : أخذ فيه عنوان أرض السواد .

أمّا القسم الأوّل : فهو على فرض كون النسبة بينه وبين رواية أبي بصير العموم من وجه ، محكوم له ولا يمكن أن يعارضه ؛ لأنّ الإطلاق فيه بمقدّمات الحكمة ، والعموم في رواية أبي بصير وضعي .

وأمّا القسم الثاني : فحيث أنّ العنوان فيه أرض السواد ، وهو عَلَمٌ لأرض كانت محدودة في الخارج ، فيكون شموله بالظهور اللفظي لا بمقدّمات الحكمة ، وحينئذٍ يصلح لمعارضة رواية أبي بصير ومعنى هذا : أنّ رواية أبي بصير إنّما تقع طرفاً للمعارضة في المرتبة الأولى مع القسم الثاني خاصة وبعد تساقط الطرفين تصل النوبة إلى القسم الأوّل بلا معارض ؛ لأنّ القسم الأوّل باعتبار كونه محكوماً في نفسه لأصالة العموم في رواية أبي بصير يستحيل أن يقع طرفاً للمعارضة معها في المرتبة الأولى ، لكي يسقط مع سقوطها .

وقد يناقش في دلالة خبر أبي بصير بطريقة أخرى كما في تعليقة المحقّق الإصفهاني(١) ، وهي المنع عن عمومها للأرض بقرينة ما جاء عقيب فقرة الاستدلال المتقدّمة ، وهو قوله :( ولا يحلّ لأحد أن يشتري من الخمس شيئاً حتى يصل إلينا حقّنا ) ، فإنّ هذا قرينة على أنّ المقصود بالغنيمة الأموال المنقولة ؛ لأنّها هي التي يمكن أن تباع ، وأمّا الأرض المفتوحة عَنوة فلا تباع ولا تشترى .

ـــــــــــــــ

(١) حاشية المكاسب ٣ : ٤٧ .

٦٧٧

وهذه المناقشة ليست واردة ؛ وذلك : لأنّ الغاية المتمثّلة في قوله :( حتى يصل إلينا حقّنا ) إذا قيل بأنّ لها مفهوماً دالاً على انتفاء طبيعي الحكم في المُغيّى بتحقّق الغاية تكون دالة على جواز البيع إذا وصل إليهم حقّهم ، وهذا يعني أن مورد الكلام غنيمة يجوز بيعها في نفسها فتتمّ القرينة المذكورة ، وأمّا إذا أنكرنا مفهوم الغاية ـ كما هو المختار في علم الأصول(١) ـ وقلنا أنّ الغاية إنّما تدلّ على انتفاء شخص الحكم المُغيّى عند وجودها ، فالفقرة المشار إليها إنّما تدلّ على أنّه بوصول حقّهم إليهم تزول حرمة البيع الناشئة من ثبوت حقّهم ، ولا ينافي ذلك ثبوت حرمة أخرى أحياناً بسبب الحقّ العام للمسلمين كما في الأرض .

ـــــــــــــــ

(١) راجع بحوث في علم الأصول ٣ : ٢١٢ .

٦٧٨

بحثٌ في : شمول حكم الأرض الخراجية لمَوات الفتح (٢)

قد يقال ـ كما في الرياض ـ : إنّ النصوص الدالّة على أنّ الأرض المَيتَة من الأنفال وملكٌ للإمام ، معارضة ـ على نحو العموم من وجه ـ بالنصوص المتقدّمة الدالّة على أنّ الأرض المأخوذة بالسيف للمسلمين وملتقى المعارضة هو الأرض المَيتَة المفتوحة عَنوة ؛ لأنّها بوصفها مَيتَة تشمله نصوص ملكية الإمام ، وبوصفها مفتوحة عَنوة تندرج في نصوص ملكية المسلمين للأرض الخراجية ، القائلة : أنّ ما أخذ بالسيف للمسلمين(١) فما هو المبرّر فقهياً للأخذ بنصوص ملكية الإمام وتطبيقها على الأرض المفتوحة إذا كانت مَيتَة ، وإهمال نصوص ملكيّة المسلمين وإطلاقها ؟!

وقد يجاب عن هذا الاعتراض : بأنّ نصوص ملكية المسلمين موضوعها ما يغتنم من الكفّار ، والمغتَنم من الكفّار هو أموالهم المملوكة لهم والأراضي المَوات ليست مملوكة لأحدٍ منهم ، وإنّما يملكون الأراضي التي يعمرونها فالموات إذن خارجة عن موضوع تلك النصوص .

وهذا الجواب إنّما يصح على أساس الفرضية الأولى من الفرضيتين ، اللتين سبقتا في الملحق الأوّل بشأن موضوع نصوص الغنيمة ، وأمّا إذا أخذنا بالفرضية الثانية ، وقلنا : إنّ الغنيمة ما أخذ بالسيف من الكفّار خارجاً ، فلا يتوقّف عندئذٍ

ـــــــــــــــ

(١) رياض المسائل ٧ : ٥٤٩ ـ ٥٥٠ .

٦٧٩

صدق الموضوع في نصوص الغنيمة ، على أن يكون المال المغتنم ملكاً للكافر وإنّما يكفي في صدقه كون المال تحت استيلاء الكفار ، لكي يصدق أخذه منهم .

فكلّ مال انتزع من سيطرة الكفّار بالحرب فهو غنيمة ، سواء كان مِلكاً لأحدهم أم لا ، ومن الواضح : أنّ الموات من بلدٍ كافر تعتبر تحت سيطرة الكفار في ذلك البلد ، فباحتلالها من قبل المسلمين يصدق عليها أنّه أخذت بالسيف ولو لم تكن ملكاً لواحد معيّن من الأعداد فالمعارضة بنحو العموم من وجه ثابتة .

ولكن تُقدَّم مع ذلك نصوص ملكية الإمام ، لأحد الأسباب الفنيّة الآتية :

أولاً : أنّ نصوص ملكية الإمام يمكن تصنيفها إلى مجموعتين :

إحداهما : جاءت بهذا النصّ :الأرض المَيتَة أو الخربة للإمام (١) .

والأخرى جاءت بنصّ آخر وهو :أنّ الأرض التي لا ربّ لها للإمام (٢) .

ومن الواضح أنّ المجموعة الثانية من نصوص ملكية الإمام ، لا يمكن أن تعارض نصوص الأرض الخراجية الدالّة على ملكية المسلمين في مستوى المجموعة الأولى ، لكي تسقط المجموعتان ـ في محلّ التعارض ـ في درجة واحدة وذلك لأنّ نصوص الأرض الخراجية الدالّة على ملكية المسلمين للأرض المفتوحة حاكمة بحد نفسها على المجموعة الثانية ، إذ تُخرج الأرض عن كونها ممّا لا ربّ لها ، وتجعل المسلمين ربّاً لها فالمجموعة الثانية ـ إذن ـ يستحيل أن تقع طرفاً للمعارضة مع أخبار ملكية المسلمين ؛ لأنّ المحكوم لا يعارض الدليل الحاكم ونتيجة ذلك : أنّ التعارض في الدرجة الأولى يتركّز بين نصوص ملكية المسلمين ، والمجموعة الأولى من نصوص ملكيّة الإمام وبعد التساقط نصل إلى المجموعة الثانية من نصوص ملكية الإمام بدون معارض ، ولو بضم الاستصحاب

ـــــــــــــــ

(١) و (٢) وسائل الشيعة ٩ : ٥٢٣ ، الباب الأوّل من أبواب الأنفال .

٦٨٠

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741