اقتصادنا

اقتصادنا7%

اقتصادنا مؤلف:
تصنيف: فقه مقارن
الصفحات: 741

اقتصادنا
  • البداية
  • السابق
  • 741 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 156402 / تحميل: 9829
الحجم الحجم الحجم
اقتصادنا

اقتصادنا

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

بصلاحيات واسعة النطاق، فقد سيطر على جميع أجهزة الدولة فكان دوره في حكومة المأمون كدور البرامكة أيام هارون الرشيد وكان ماهراً في الشؤون السياسية، ويقول فيه إبراهيم بن العباس:

وإذا الحروب غلت بعثت لها

رأياً تفل به كتائبها

رأياً إذا نبت السيوف مضى

عزم به فشفى مضاربها

أجرى إلى فئة بدولتها

وأقام في أخرى نوادبها(1)

وحكى هذا الشعر عن مهارة الفضل في الشؤون السياسية، وأنّه برأيه يستطيع أن يقضي على دولة ويقيم أخرى كما فعل في إسقاط دولة الأمين، وإقامة دول المأمون.

وعلى أيّ حالٍ فقد كان الفضل أحد المفاوضين للإمام الرضاعليه‌السلام في قبوله لولاية العهد، وقد هدّد الإمام، وتوعّده إن رفض ذلك، ونعرض فيما يلي إلى بعض شؤون الإمامعليه‌السلام معه.

عرض كاذب لاغتيال المأمون:

وقام الفضل بن سهل وهشام بن إبراهيم بعملية لخداع الإمام الرضاعليه‌السلام والقضاء عليه، فقد طلبا منه أن يخلّي مجلسه من كل أحد، ليفوضاه في

سر، وأخلى الإمام مجلسه، فاخرج الفضل يميناً مكتوبة بالعتق والطلاق، وما لا كفارة له، وقالا له:

(إنّما جئناك لنقول كلمة الحق والصدق، وقد علمنا أنّ الإمرة أمرتكم، والحق حقّكم يا بن رسول الله، والذي نقوله بألسنتنا عليه ضمائرنا، إلاّ ينعتق ما نملك، والنساء طوالق، وعلينا ثلاثون حجّة راجلين، على أن نقتل المأمون، ونخلص لك الأمر، حتى يرجع الحق إليك...).

____________________

(1) الأغاني 9 / 31 - 32.

٣٤١

ولم يخف على الإمام خداعيهما، وزيف قوليهما، فلو كانا صادقين في القول لقاما بذلك، قبل أن يفاوضا الإمام، وهما يعلمان انهعليه‌السلام يرفض كل محاولة لا يقرّها الإسلام، والتي منها عملية الاغتيال، فزجرهما، وقال لهما: (كفرتما النعمة، فلا تكون لكما السلامة، ولا لي إن رضيت بما قلتما...).

وبادرا نحو المأمون فاخبراه بمقالة الإمام فجزاهما خيراً، وسارع الإمام نحو المأمون، وأعلمه بالأمر، وذلك لتبرير ساحته، وتبيّن للمأمون أن الإمام لا يضمر له سوءاً(1) وأكبر الظن أنّ هذه العملية كانت بتدبير من المأمون للاطلاع على نوايا الإمام تجاهه.

وشاية بالإمام:

وعرضت البحوث الواعية في دراسة التأريخ الإسلامي إلى أنّ الفضل بن سهل لم يكن علوي الفكر(2) ، فقد قام بخطوات رهيبة معادية للإمام الرضاعليه‌السلام ، والتي كان منها وشايته بالإمام إلى المأمون، فقد قال له: (إنّك جعلت ولاية العهد لأبي الحسن، وأخرجتها من بني أبيك والعامة، والعلماء، والفقهاء، وآل عباس لا يرضون بذلك وقلوبهم متنافرة عنك...)(3) .

أرأيتم كيف حرّض الفضل على النكاية بالإمام، والوشاية به فقد ملأ قلب المأمون حقداً وكراهية للإمامعليه‌السلام .

معارضته للإمام:

وكان الفضل شديد المعارضة للإمام، فإذا ذهب الإمام إلى رأي عاكسه، ودعا المأمون إلى نقضه، وكان ذلك ما نقله الرواة أنّ المأمون دخل على الإمام، وقرأ عليه كتاباً، فيه أنّ بعض قوّاته فتحت بعض قرى (كابل)، فقال له الإمام:

(أو سرّك فتح قرية من قرى الشرك؟...).

وسارع المأمون قائلاً:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 167.

(2) يراجع في ذلك إلى كتاب الإمام الرضا للسيد جعفر مرتضى، فقد نفى عن الفضل نسبة التشيّع بصورة جازمة خلافاً لما ذهب إليه ابن خلكان في وفيات الأعيان 3 / 209 وغيره من أنّه كان شيعياً.

(3) عيون أخبار الرضا 2 / 160.

٣٤٢

(أو ليس في ذلك سرور؟...).

والتفت إليه فأرشده إلى موضع السرور الذي ينبغي أن يسلكه قائلاً:

(يا أمير المؤمنين اتق الله في أمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ولاّك الله من هذا الأمر، وخصّك به، فإنّك قد ضيّعت أمور المسلمين، وفوّضت ذلك إلى غيرك يحكم فيهم بغير حكم الله، وقعدت في هذه البلاد - يعني (خراسان) - وتركت بيت الهجرة، ومهبط الوحي، وإنّ المهاجرين والأنصار يظلمون دونك، ولا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة، ويأتي على المظلوم دهر يتعب فيه نفسه، ويعجز عن نفقته، ولا يجد مَن يشكو إليه حاله ولا يصل إليك.

فاتق الله يا أمير المؤمنين في أمور المسلمين، وارجع إلى بيت النبوّة ومعدن المهاجرين والأنصار، أما علمت أنّ والي المسلمين مثل العمود في وسط الفسطاط، من أراده أخذه؟...).

وحكت هذه الكلمات الصراحة والنصيحة الخالصة، وليس فيها أيّ محاباة للمأمون ولا مجاراة لعواطفه وميوله، والتفت إلى الإمام فقال له:

(يا سيدي فما ترى؟...).

وأشار الإمام عليه بالحق الذي فيه نجاته قائلاً:

(أرى أن تخرج من هذه البلاد، وتتحوّل إلى موضع آبائك وأجدادك وتنظر في أمور المسلمين، ولا تكلهم إلى غيرك، فإنّ الله تعالى سائلك عمّا ولاّك...).

واستجاب المأمون لرأي الإمام وقال له:

(نعم ما قلت: يا سيدي، هذا هو الرأي...).

وأمر أن تقدم النوائب(1) للخروج إلى (يثرب)، وبلغ ذلك الفضل فغمّه الأمر، وسارع نحو المأمون فقال له:

(ما هذا الرأي الذي أمرت به؟...).

وعرض المأمون بما أشار عليه الإمامعليه‌السلام ، من اتخاذ المدينة المنورة عاصمة للملك، وانبرى الفضل يفند هذه الفكرة، ويشير عليه بعكس ما أشار عليه الإمام قائلاً:

____________________

(1) النوائب: هي الجيوش والعساكر المعدة للنوائب.

٣٤٣

(يا أمير المؤمنين ما هذا الصواب، قتلت بالأمس أخاك، وأزلت الخلافة عنه، وبنو أبيك معادون لك، وجميع أهل العراق، وأهل بيتك والعرب، ثم أحدثت هذا الحدث الثاني، إنّك ولّيت ولاية العهد لأبي الحسن، وأخرجتها من بني أبيك، والعامة والفقهاء والعلماء وآل العباس لا يرضون بذلك وقلوبهم متنافرة عنك.

فالرأي أن تقيم بخراسان حتى تسكن قلوب الناس على هذا، ويتناسون ما كان من أمر محمّد أخيك، وها هنا مشايخ قد خدموا الرشيد، وعرفوا الأمر فاستشرهم في ذلك، فإن أشاروا بذلك فامضه).

فقال المأمون:

(مَن هم؟...).

فقال الفضل:

مثل علي بن أبي عميران وأبي يونس، والجلودي - هؤلاء الذين نقموا بيعة أبي الحسن، ولم يرضوا بها...).

وأخيراً استجاب المأمون لرأي الفضل، وأعرض عمّا أشار عليه الإمام من اتخاذ (يثرب) عاصمة للملك(1) .

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 160.

٣٤٤

نهاية المطاف

ولم يمض قليل من الوقت على تقليد الإمام الرضاعليه‌السلام لولاية العهد حتى تنكّر له المأمون كأشد ما يكون التنكّر، وأضمر له السوء والغدر، وأخذ يبغي له الغوائل، ويكيده في غلس الليل، وفي وضح النهار، ففرض عليه الرقابة الشديدة، وحبسه في بيته ومنع العلماء والفقهاء من الاتصال به، والانتهال من غير علومه كما منع سواد شيعته من التشرّف بمقابلته.

وقد ورم أنف المأمون، وتميّز غضباً وغيظاً بما يتمتّع به الإمامعليه‌السلام من المكانة العظمى في نفوس المسلمين، وقد ترسّخت وازدادت حينما أُسندت إليه ولاية العهد، فقد رأوا ترسّله، وعدم تكلّفه، وبعده عن مغريات الحياة، وزهده في الدنيا، ومشاركته للناس في آلامهم، وحنوّه على الضعفاء، وعطفه على البؤساء، وسعة علومه، وإحاطته بما تحتاج إليه الأمّة في جميع شؤونها، وشدّة إنابته إلى الله تعالى وتقواه إلى غير ذلك من معالي أخلاقه التي يحار الفكر فيها، والتي هي امتداد ذاتي إلى أخلاق جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي طوّر الحياة، وقضى على جميع التخلّف والانحراف في دنيا العرب والمسلمين.

رأى الناس الأخلاق العلوية الماثلة في الإمام الرضاعليه‌السلام فهاموا

٣٤٥

بحبّه، وآمنوا بإمامته، في حين أنّ المأمون وسائر ملوك بني العباس قد اتصفوا بضد ما اتصف به الإمام فإنّهم من حين أن تقلّدوا الخلافة لم يؤثر عن أي أحد منهم مكرمة أو فضيلة فقد انسابوا وراء شهواتهم وملذاتهم، وأنفقوا الملايين من أموال المسلمين على لياليهم الحمراء، ورحم الله أبا فراس الحمداني الشاعر الملهم والثائر على الظلم والجور فقد قارن في رائعته الخالدة بين الحياة الرفيعة التي عاشها السادة العلويون، وبين الحياة الوضيعة المليئة بالإثم والمنكرات التي عاشها العباسيون يقول:

تمسي التلاوة في أبياتهم سحراً

وفي بيوتكم الأوتار والنغمُ

إذا تلوا آيةً غنّى إمامكم:

(قف بالديار التي لم يعفها قدمُ)

ومنكم عليه أم منهم وكان لكم

شيخ المغنّين إبراهيم، أم لهمُ؟

ما في بيوتهم للخمر معتصر

ولا بيوتهم للشر معتصمُ

ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم

ولا يرى لهم قرد له حشمُ

الركن والبيت والأستار منزلهم

وزمزم والصفا والحجر والحرمُ

إنّ سيرة العلويين مشرقة كالشمس بنور الإيمان، وسيرة خصومهم العباسيين مظلمة قاتمة لا بصيص فيها بنور الإيمان، وهدى الإسلام وعلى أي حال فقد جهد المأمون أن يظهر للمجتمع الإسلامي عدم زهد الإمام الرضاعليه‌السلام في تقليده لولاية العهد إلاّ أنّه باء بالفشل فقد ظهر الإمام عليه كألمع شخصية عرفها العلم الإسلامي في تقواه وورعه، وإقباله على طاعة الله وعبادته، وعدم إشتراكه بأيّ منحى من المناحي السياسية.

ومهما يكن الأمر فإنّ هذا البحث هو الفصل الأخير من هذا الكتاب، ونعرض فيه إلى الشؤون الأخيرة من حياة الإمامعليه‌السلام ، وفيما يلي ذلك:

نصيحة الإمام للمأمون:

وقدّم الإمامعليه‌السلام نصيحة خالصة للمأمون، نقيّة من كثير من المشاكل السياسية، فقد أشار عليه أن يعفيه من ولاية العهد ويعفي الفضل بن سهل

من الوزارة، وبذلك يتخلّص من كيد العباسيين وبغيهم عليه(1) إلاّ أن المأمون لم يعفهما، وإنّما قام باغتيالهما كما سنعرض ذلك.

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 145.

٣٤٦

عزم المأمون على الرجوع إلى بغداد:

وأخذ المأمون يطيل التفكير، ويقلّب الرأي على وجوهه في الرجوع إلى (بغداد)، عاصمة آبائه، وزينة الشرق، ولكن يصدّه عن تحقيق هذه الأمنية الغالية أمران:

الأول: وجود الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ولي عهده الذي تحقد عليه الأسرة العباسية كأشد ما يكون الحقد، فقد خلعت بيعة المأمون، وبايعت ابن شكلة شيخ المغنّين انتقاماً منه لتقليده للإمام بولاية العهد.

الثاني: وجود وزيره الفضل بن سهل على المسرح السياسي فقد نقم عليه العباسيون، معتقدين أنّه هو الذي حبّذ للمأمون عقد ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام .

ورأى المأمون أن يتخلّص من الإمام والفضل، ويصفّيهما جسدياً ليخلو له الجو، وينال بذلك رضى العباسين، ويزيل عنه سخطهم وانتقامهم، وهذا ما سنعرضه.

حمّام سرخس:

ورأى المأمون أن يتخلّص من الإمام الرضاعليه‌السلام ، ومن الفضل بن سهل دفعة واحدة حتى تخلص له الأسرة العباسية فأوعز إلى عصابة مجرمة من عملائه القيام باغتيال الإمام والفضل في حمّام (سرخس)، وطلب منهما الدخول في الحمّام في وقت واحد، ويكون هو معهما، وذلك لتغطية الأمر، وعدم انكشافه لأيّ أحد، وكان الإمامعليه‌السلام يقظاً حسّاساً فلم تخف عليه هذه المكيدة فرفض إجابته، فكتب المأمون إليه ثانياً يلتمسه، ويترجّاه فأجابه الإمام:

(لست بداخل غداً الحمّام، فإنّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام في هذه الليلة يقول لي: يا علي لا تدخل الحمّام غداً، فلا أرى لك يا أمير المؤمنين، ولا للفضل أن تدخلا الحمّام غداً...).

فأجابه المأمون:

(صدقت يا سيدي، وصدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لست بداخل الحمّام غداً، والفضل فهو أعلم وما يفعله...).

وتتضح مكيدة المأمون بالنسبة إلى الفضل فقد خلاّه وشأنه ليلاقي مصرعه على

٣٤٧

أيدي عصابته.

مصرع الفضل:

وبادر الفضل إلى الحمّام، فحينما دخل فيه تناهبت جسمه سيوف العصابة فخرّ على الأرض صريعاً يتخبّط بدمه، وما هي إلاّ لحظات وإذا به جثّة هامدة لا حراك فيها، وبذلك فقد حقّق المأمون شطراً من مهمّته.

وحينما قتل الفضل سارع أصحابه نحو المأمون ليأخذوا الثأر منه، فقد علموا أنّه هو الذي أوعز بقتله، وبادر حرّاس قصر المأمون إلى غلق أبوابه خوفاً من هجوم الثوّار على المأمون إلاّ أنّ الثوّار حملوا أقبسة من النار لحرق أبواب القصر، ولـمّا علم المأمون بذلك فزع، والتجأ إلى الإمام الرضاعليه‌السلام فاحتمى به، وخرج الإمامعليه‌السلام إلى الثوار، وأمرهم بالانصراف فاستجابوا له، ونجا المأمون ببركة الإمامعليه‌السلام (1) ، أمّا الذين قتلوا الفضل فكانوا خمسة أشخاص من حاشية المأمون كان من بينهم غالب خاله، وقد قبضت عليهم الشرطة، وجاءت بهم إلى المأمون، فقالوا له: أنت أمرتنا بقتله، فقال لهم: أنا أقتلكم بإقراركم، وأمّا ما ادعيتموه من أني أنا أمرتكم بذلك فدعوى ليس لها بينة، ثم أمر بهم فضربت أعناقهم، وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل، وأظهر عليه الحزن الكاذب(2) .

اغتيال الإمام:

وقام المأمون باغتيال إمام المسلمين، سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الرضاعليه‌السلام ، فدس له سمّاً قاتلاً في العنب، أو الرمّان، كما سنذكره، وبذلك فقد قضى المأمون على ألمع شخصية في العالم الإسلامي، كانت مصدر الوعي والفكر في دنيا الإسلام.

أقوال شاذّة:

وحاول بعض المؤرّخين تنزيه المأمون من اقتراف هذه الجريمة النكراء، وأنّه لم يقدم على اغتيال الإمامعليه‌السلام ، وهذه بعض أقوالهم:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 164.

(2) تأريخ أبن خلدون 3 / 249، الكامل 5 / 191 حكيا ذلك قولاً، الآداب السلطانية والدول الإسلامية (ص 218) بحر الأنساب (ص 28).

٣٤٨

1 - موته حتف أنفه:

ذهب (ابن خلدون) إلى أنّ الإمامعليه‌السلام مات حتف أنفه فجأة على أثر عنب أكله(1)، وكذا ذهب غيره إلى هذا القول(2) .

2 - اغتيال العباسيين للإمام:

قال ابن الجوزي: لـمّا رأى العباسيون أنّ الخلافة قد خرجت من أيديهم إلى أولاد علي بن أبي طالب سمّوا علي بن موسى الرضا فتوفّى في قرية من قرى (طوس) يقال لها (سناباد)... وقد زعم قوم أنّ المأمون سمّه، وليس كما ذكر، فإنّ المأمون حزن عليه حزناً لم يحزنه على أحد، وكتب إلى الآفاق يعزّونه(3) .

3 - موته بالسم:

وذكر فريق من المؤرّخين أنّ الإمامعليه‌السلام توفّي مسموماً(4) ولم يذكروا غير ذلك.

هذه بعض الأقوال التي ذكرت وهي شاذة لا نصيب لها من الواقع، فإنّ من المقطوع به هو أنّ المأمون هو الذي اغتال الإمام لا الأسرة العباسية، ولا غيرها، ولم يمت الإمام حتف أنفه، ولقد قدم المأمون على اقتراف هذه الجريمة للتخلّص من الإمام الذي شاع ذكره في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد ظهرت للعيان دلائل إمامته، وهام المسلمون بحبّه؛ وذلك لما يتمتّع به من معالي الأخلاق، وسموا الآداب، والإقبال على الله، والزهد في الدنيا، وغير ذلك من صفاته العظيمة في حين أن المأمون وسائر ملوك بني العباس كانوا خالين من كل نزعة كريمة، وصفة رفيعة.

وعلى أي حال فقد أجمع معظم المؤرّخين والرواة أنّ المأمون هو الذي دسّ السم إلى الإمام لا غيره، فقد اغتال بهذه الطريقة كوكبة من أعلام عصره خاف منهم(5) .

____________________

(1) تأريخ ابن خلدون 3 / 250.

(2) وفيات الأعيان تأريخ الإسلام للذهبي 8 / ورقة 35.

(3) تذكرة الخواص (ص 364) المنتظم 10 / ورقة 67.

(4) البحار.

(5) ذكرنا أسماء الذي اغتالهم المأمون في البحوث السابقة.

٣٤٩

إلى جنّة المأوى:

وامتحن الإمام امتحاناً عسيراً في تقلده لولاية العهد، فقد ضيق عليه المأمون غايد التضييق، ففرض عليه الرقابة الشديدة، وأحاطه بقوى مكثفة من الأمن، وقد سئم الإمام من الحياة، وراح يدعوا الله تعالى أن ينقله من دار الدنيا إلى دار الخلود قائلاً: (اللّهمّ إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت فعجّل لي الساعة...).

واستجاب الله دعاء وليه العظيم فنقله من دار الدنيا المحفوفة بالمكاره والآلام إلى دار الحق، ونعرض إلى كيفية وفاته، فقد دعا الإمامعليه‌السلام في غلس الليل البهيم هرثمة بن أعين، فلمّا مثل عنده قال له: (يا هرثمة هذا آوان رحيلي إلى الله تعالى، ولحوقي بجدي وآبائيعليهم‌السلام ، وقد بلغ الكتاب أجله، وقد عزم هذا الطاغي - يعني المأمون - على سمّي في عنب ورمّان مفروك، فأمّا العنب فإنّه يغمس السلك في السم ويجذبه بالخيط بالعنب، وأمّا الرمان فإنه يطرح السم في كف بعض غلمانه، ويفرك الرمان بيده ليتلطّخ حبّه في ذلك السم، وإنّه سيدعوني في اليوم المقبل، ويقرب إلى الرمان والعنب،، ويسألني أكلها، فآكلها ثم ينفذ الحكم، ويحضر القضاء.

فإذا أنا مت فسيقول: أنا أغسله بيدي، فإذا قال: ذلك، فقل له عنّي: بينك وبينه، أنّه قال لي: لا تتعرّض لغسلي، ولا لتكفيني ولا لدفني، فإنّك إن فعلت ذلك عاجلك من العذاب ما أُخّر عنك، وحلّ بك اليم ما تحذر فإنّه سينتهي.

وأضاف الإمام قائلاً:

فإذا خلّى بينك وبين غسلي حتى ترى، فيجلس في علو من أبنيته مشرفاً على موضع غسلي لينظر، فلا تتعرّض يا هرثمة لشيء من غسلي حتى ترى فسطاطاً أبيض قد ضرب في جانب الدار، فإذا رأيت ذلك فاحملني في أثوابي التي أنا فيها، وضعني من وراء الفسطاط، وقف وراءه، ويكون مَن معك دونك ولا تكشف عني الفسطاط حتى تراني فتهلك.

وإنّه - أي المأمون - سيشرف عليك، ويقول لك: يا هرثمة أليس زعمتم أنّ

٣٥٠

الإمام لا يغسّله إلاّ إمام مثله، فمَن يغسّل أبا الحسن علي بن موسى، وابنه محمد بالمدينة من بلاد الحجاز ونحن بـ‍ (طوس)؟

فإذا قال ذلك: فقل له: إنّا نقول: إنّ الإمام لا يجب أن يغسله إلا إمام مثله، فإن تعدّى متعد فغسل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدي غاسله، ولا بطلت إمامة الإمام الذي بعده، بأن غلب على غسله أبيه، ولو ترك أبو الحسن على بن موسى الرضا (ع) بالمدينة لغسّله ابنه محمد ظاهراً مكشوفاً، ولا يغسله الآن أيضاً إلاّ هو من حيث يخفى، فإذا ارتفع الفسطاط فسوف تراني مدرجاً في أكفاني، فضعني على نعشي، واحملني، فإذا أراد أن يحفر قبري، فإنّه سيجعل قبر أبيه هارون الرشيد قبلة لقبري، ولا يكون ذلك أبداً، فإذا ضربت المعاول ينب عن الأرض(1) ولم يحفر لهم منها شيء، ولا مثل قلامة ظفر، فإذا اجتهدوا في ذلك وصعب عليهم، فقل لهم عني: إنّي أمرتك أن تضرب معولاً واحداً في قبلة قبر أبيه هارون الرشيد، فإذا ضربت تقذفه في الأرض إلى قبر محفور، وضريح قائم، فإذا انفرج القبر فلا تنزلني حتى يفور من ضريحه الماء الأبيض فيملئ منه ذلك القبر... فإذا غار الماء فأنزلني في ذلك القبر وألحدني في ذلك الضريح(2) .

وأمر الإمامعليه‌السلام هرثمة بحفظ ما قاله، فأجابه هرثمة إلى ما أراد، وفي اليوم الثاني بعث المأمون خلف الإمام، فلمّا حضر عنده قام إليه فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه إلى جانبه، وأقبل عليه يحادثه، وأمر بعض غلمانه أن يأتيه بعنب ورمّان، قال هرثمة: فلم أستطع الصبر وأصابتني رعدة.

وناول المأمون الإمام العنقود من العنب، وقال له: (يا بن رسول الله ما رأيت عنبا أحسن من هذا؟...).

فرد عليه الإمام:

(ربّما كان عنبا حسناً منه في الجنة...).

وطلب من الإمام أن يتناول منه شيئاً فامتنععليه‌السلام منه، فصاح المأمون:

____________________

(1) ينسب عن الأرض أي يمتنع ولا يؤثر فيها.

(2) عيون أخبار الرضا 2 / 247، وقريب منه في نور الأبصار (ص 145).

٣٥١

(لعلّك تتهمنا بشيء؟...).

وتناول المأمون ثلاث حبّات، ثم رمى به، وقام، فقال له المأمون:

(إلى أين؟...).

فنظر إليه الإمام، وقال له بنبرات خافته:

(إلى حيث وجهتني...)(1) .

وسارع الإمام إلى الدار، وقد تفاعل السم في جميع أجزاء بدنه، وقد أيقن بنزول الرزء القاصم، وبعث إليه المأمون يطلب منه وصيته ونصيحة له، فقالعليه‌السلام لرسوله:

(قل له: يوصيك أن لا تعطي أحداً ما تندم عليه...)(2).

وسرى السم في جميع أجزاء بدن الإمام، وأخذ يعاني من أقسى الآلام وقد علم أنّ لقاءه بربّه لقريب فأخذ يتلو آيات من الذكر الحكيم، ويستغفر الله تعالى، ويدعو للمؤمنين، ويقول الرواة: إنّه لما ثقل حاله امتنع أهل بيته وأصحابه من الأكل والشرب، فالتفتعليه‌السلام إلى ياسر وقال له:

(هل أكل الناس شيئاً؟...).

فردّ عليه بصوت خافت حزين النبرات قائلاً: (مَن يأكل مع ما أنت فيه).

فانتصبعليه‌السلام ثم قال: هاتوا المائدة، ولم يدع أحداً من حشمه إلاّ أجلسه على المائدة، وجعل يتفقّد واحداً بعد واحد، ولـمّا فرغوا من تناول الطعام، أمر بحمله إلى النساء، ولـمّا فرغوا من الأكل أغمي عليه(3) .

وفي غلس الليل البهيم كان الإمام يتلوا آيات من الذكر الحكيم، وكان آخر آية قرأها قوله تعالى:( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (4) ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) (5) ثم فاضت نفسه الزكية إلى بارئها(6)

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 243.

(2) عيون التواريخ 3 / 227.

(3) عيون أخبار الرضا 2 / 241.

(4) سورة آل عمران: آية 154.

(5) سورة الأحزاب: آية 38.

(6) عيون أخبار الرضا 2 / 241.

٣٥٢

تحفّها ملائكة الرحمن، وتستقبلها في رياض الخلد أرواح الأنبياء والأوصياء، لقد أظلمت الدنيا بفقده، وأشرقت الآخرة بقدومه، وكانت وفاته رزءاً على

العلماء والفقهاء ورجال الفكر الذين كانوا ينتهلون من نمير علومه، كما كانت وفاته رزءاً شعبياً عامّاً، فقد فقدت الأوساط الشعبية مَن كان يسهر على مصالحهم، ويناضل عن قضاياهم.

لقد انتقل الإمام إلى حضيرة القدس بعد ما أدى رسالة ربّه، فلم يشترك بأي عمل إيجابي في جهاز دولة المأمون، ورفض أي تعاون معه، وقد سلب بذلك شرعية حكومة المأمون وأنّها لم تكن قائمة على حكم الله تعالى، وقد عانى من أجل ذلك جميع ألوان الاضطهاد حتى قضى عليه المأمون.

رياء المأمون:

وأظهر المأمون الحزن، والجزع الكاذب، على وفاة الإمام فقد خرج حافياً، حاسراً، يضرب على رأسه، ويقبض على لحيته، ويبكي، وقد رفع عقيرته ليسمعه الناس قائلاً:

(ما أدري أي المصيبتين أعظم عليّ، فقدي لك، وفراقي إيّاك، أو تهمة الناس لي أنّي اغتلتك وقتلتك...)(1) .

لقد أظهر المأمون الأسى على وفاة الإمامعليه‌السلام لتبرير ساحته ودفع التهمة عنه بأنّه هو الذي اغتاله، ولكن سرعان ما انكشف رياؤه، واتضح للمجتمع بأنّه هو المسؤول عن اغتياله.

إخفاء موت الإمام:

وأخفى المأمون موت الإمامعليه‌السلام يوماً وليلة(2) ، وفيما أحسب أنّه استعد لحالة الطوارئ، والخوف من الانتفاضة الشعبية عليه، فقد أوعز إلى رجال من أمنه، وقوّاته المسلحة بالاستعداد لكل حادث يحدث.

تشييع جثمان الإمام:

وشيّع جثمان الإمام تشييعاً حافلاً لم تشاهد مثله (خراسان) في جميع أدوار

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 2 / 241.

(2) مقاتل الطالبيين (ص 567)، إرشاد المفيد (ص 316).

٣٥٣

تأريخها، فقد أغلقت الدوائر الرسمية، والمحلاّت التجارية، وهرع الناس بجميع طبقاتهم إلى تشييع الجثمان المقدّس، وهم ما بين باكٍ وواجم، ورفعت الأعلام السود، وسالت الدموع كل مسيل، وتعالى الصراخ من كل جانب على الفقيد العظيم الذي كان ملاذاً لهم، ويتقدّم النعش المأمون وهو حاسر، وخلفه الوزراء وكبار رجال الدولة، وقادة الجيش، وهم يذكرون فضائل الإمام، وما مُنيت به الأمة من الخسارة العظمى بفقده.

في مقرّه الأخير:

وجيء بالجثمان المقدّس تحت هالة من التكبير والتعظيم إلى مقرّه الأخير، فحفر له قبر بالقرب من قبر هارون قاتل أبي الإمام فواراه المأمون فيه، وقد وارى معه كل ما تسمو به الإنسانية من الصفات الرفيعة، والنزعات الكريمة.

وأقبلت الجماهير تعزّي المأمون، وسائر العلويين والعباسيين على مصابهم الأليم، وقد نخر الأسى والحزن قلوب الجميع، فقد فقدوا إمام المسلمين، وسيّد المتقين والمنيبين، ومن الجدير بالذكر أنّ المأمون سئل عن السبب في دفن الإمام إلى جانب قبر أبيه؟ فأجاب: ليغفر الله لهارون بجواره للإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد فنّد ذلك الشاعر الملهم دعبل الخزاعي بقوله:

أربع بطوس على قبر الزكي بها

إن كنت تربع من دين على وطرِ

ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا

على الزكي بقرب الرجس من ضررِ

هيهات كل امرئ رهن بما كسبت

له يداه فخذ ما شئت أو فذرِ

قبران في طوس خير الناس كلهم

وقبر شرهم هذا من العبرِ

إقامة المأمون على قبر الإمام:

وأقام المأمون عند القبر الشريف ثلاثة أيام صائماً نهاره، قارئاً للقرآن الكريم، ويترحّم على الإمامعليه‌السلام ؛ وذلك لتنزيهه من اقتراف هذه الجريمة، وإظهار إخلاصه وحبه للإمام، إلاّ أنّ ثوب الرياء يشف عمّا تحته، فقد ظهر للجميع زيف ذلك، وأنّه لا واقع لحزنه المزعوم.

المأمون مع هرثمة:

ودعا المأمون هرثمة بن أعين، وطلب منه أن يحدثه بما سمع من الإمام وما قاله له في سمّه بالعنب والرمان، وجعل هرثمة يحدثه بذلك والمأمون يصفر وجهه مرة،

٣٥٤

ويحمر أخرى وهو يقول بنبرات تقطر أسى وحسرات على ما اقترفه في حق الإمام قائلاً: (ويل للمأمون من الله، ويل له من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويل له من علي بن أبي طالب، ويل للمأمون من فاطمة الزهراء، ويل للمأمون من الحسن والحسين، ويل للمأمون من علي بن الحسين، ويل للمأمون من محمد بن علي، ويل للمأمون من جعفر بن محمد، ويل له من موسى بن جعفر، ويل للمأمون من علي بن موسى الرضا... هذا والله الخسران المبين!

وأمر المأمون هرثمة بكتمان قول الإمام معه، وعدم إذاعته، وتلا قول الله تعالى:( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ) (1) .

والويل للمأمون على ما اقترفه من عظيم الذنب، فقد اغتال سيد المسلمين، وإمام المتقين وفلذّة من كبد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

عمر الإمام:

أمّا عمر الإمامعليه‌السلام الحافل بالمكرمات والفضائل فقد اختلف المؤرّخون في مدّته، وهذه بعض الأقوال:

1 - 47 سنة(2) .

2 - 48 سنة(3) .

3 - 49 سنة(4) .

4 - 50 سنة(5) .

5 - 51 سنة(6) .

6 - 55 سنة(7) .

____________________

(1) أعيان أخبار الرضا 2 / 249.

(2) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 78.

(3) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 78.

(4) عيون التواريخ 3 / ورقة 226 كشف الغمة 3 / 56.

(5) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 78.

(6) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 78.

(7) أصول الكافي 1 / 486 كفاية الطالب (ص 458)، نور الأبصار (ص 144)، بحر الأنساب (ص 28).

٣٥٥

7 - 57 - و 49 يوماً أو 79 يوماً(1) .

ومنشأ هذا الاختلاف هو الاختلاف في تأريخ ولادتهعليه‌السلام ويرى السيد الأمين أنّ منشأ هذا التضارب هو التسامح بعد السنة الناقصة سنة كاملة(2) .

رثاء الإمام:

كان نبأ وفاة الإمام كالصاعقة على رؤوس المسلمين، فقد تلقوا النبأ المؤلم بأسى، وحزن عميق، فقد فقدوا بموته ما كانوا يأملونه، ويحلمون به من رجوع الخلافة الإسلامية إلى معدنها الأصيل، ويتخلّصون من ذئاب البشرية، وأئمّة الظلم والجور، ويقام في ربوعهم العدل السياسي والعدل الاجتماعي، لقد خابت الآمال بموت الإمام العظيم، وقد نخر الحزن القلوب، وسالت الدموع كل مسيل، وقد انبرت كوكبة من الشعراء فرثوا الإمام بذوب روحهم، وكان من بينهم ما يلي:

1 - أشجع بن عمرو السلمي:

ورثى أشجع بن عمرو السلمي الإمام بقصيدة عصماء حكت حزنه العميق على فقد إمام المسلمين، وصورت مدى الخسارة الكبرى التي مُني بها العالم الإسلامي، وهذا نصّها:

يا صاحب العيس يحدي في أزمّتها

اسمع وأسمع غداً يا صاحب العيسِ

إقر السلام على قبر بطوس ولا

تقر السلام، ولا النعمى على طوسِ

فقد أصاب قلوب المسلمين بها

روع وأفرخ فيها روع إبليسِ

وأخلست واحد الدنيا وسيّدها

فأيّ مختلس منّا ومخلوسِ

ولو بدا الموت حتى يستدير به

لاقى وجوه رجال دونه شوسِ

بؤساً لطوس فما كانت منازله

ممّا تخوّفه الأيام بالبؤسِ

معرّس حيث لا تعريس ملتبس

يا طول ذلك من نأي وتعريسِ

إنّ المنايا أنالته مخالبها

ودونه عسكر جمّ الكراديسِ

أوفى عليه الردى في خيس أشبله

والموت يلقى أبا الأشبال في الخيسِ

ما زال مقتبساً من نور والده

إلى النبي ضياء غير مقبوسِ

في منبت نهضت فيه فروعهم

بباسقٍ في بطاح الملك مغروسِ

____________________

(1) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 78.

(2) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 78.

٣٥٦

والفرع لا يرتقي إلاّ على ثقةٍ

من القواعد والدنيا بتأسيسِ

لا يوم أولى بتخريق الجيوب ولا

لطم الخدود ولا جدع المعاطيسِ

من يوم طوس الذي نادت بروعته

لنا النعاة وأفواه القراطيسِ

حقّاً بأنّ الرضا أودى الزمان به

ما يطلب الموت إلاّ كل منفوسِ

ذا اللحظتين وذا اليومين، مفترش

رمسا كآخر في يومين مرموسِ

بمطلع الشمس وافته منيّته

ما كان يوم الردى عنه بمحبوسِ

يا نازلاً جدثاً في غير منزله

ويا فريسة يوم غير مفروسِ

صلّى عليك الذي قد كنت تعبده

تحت الهواجر في تلك الأماليسِ

لولا مناقضة الدنيا محاسنها

لما تقايسها أهل المقاييسِ

أحلّك الله داراً غير زائلة

في منزل برسول الله مأنوسِ(1)

أرأيتم هذه الأحزان الموجعة التي حلت بالعالم الاسلامي على فقد واحد الدنيا وسيدها الامام العظيم؟!

لقد صور أشجع السلمي برائعته مدى الخسارة العظمى التي مني بها المسلمون، والتي هي جديرة بشق الجيوب ولطم الخدود، فقد أودى الزمان بقائد الأمة، وسيدها وإمامها.

وقد ذاعت هذه القصيدة، وحفظها الناس فخاف أشجع فغير ألفاظها وجعلها في الرشيد(2).

2 - دعبل الخزاعي:

وبكي دعبل الخزاعي شاعر أهل البيت الإمام الرضاعليه‌السلام أمر البكاء ورثاه بذوب روحه، وكان مما قاله في رثائه له هذه القصيدة:

هو النفس إلاّ أنّ آل محمّدٍ

لهم دون نفسي في الفؤاد كمين

أضرّ بهم إرث النبي فأصبحوا

يساهم فيه ميتة ومنون

دعتهم ذئاب من أميّة وانتحت

عليهم دراكاً أزمة وسنون

وعاثت بنو العباس في الدين عيثة

تحكّم فيه ظالم وظنين

وسمّوا رشيداً ليس فيهم لرشده

وها ذاك مأمون وذاك أمين

____________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 568 - 570).

(2) مقاتل الطالبيين (ص 568).

٣٥٧

فما قبلت بالرشد منهم رعاية

ولا لولي بالإمامة دين

رشيدهم غاو، وطفلاه بعده

لهذا رزايا دون ذاك مجون

ألا أيّها القبر الغريب محلّه

بطوس عليك الساريات هتون

شككت فما أدري أمسقى شربة

فأبكيك أم ريب الردى فيهون

وأيهما ما قلت: إن قلت شربة

وإن قلت موت إنّه لقمين

أتعجب للأجلاف أن يتخيّفوا

معالم دين الله وهو مبين

لقد سبقت فيهم بفضلك آية

لدي ولكن ما هناك يقين(1)

وقال في رثاء الإمام:

ألا ما لعيني بالدموع استهلّتِ

ولو فقدت ماء الشؤون لقرّتِ

على مَن بكته الأرض واسترجعت له

رؤوس الجبال الشامخات وذلّتِ

وقد أعولت تبكي السماء لفقده

وأنجمها ناحت عليه وكلّتِ

رزينا رضي الله سبط نبينا

فأخلفت الدنيا له وتولّتِ

فنحن عليه اليوم أجدر بالبكا

لمرزئة عزّت علينا وجلّتِ

وما خير دنيا بعد آل محمّدٍ

ألا لا نباليها إذا ما اضمحلّتِ

تجلت مصيبات الزمان ولا أرى

مصيبتنا بالمصطفين تجلّتِ(2)

وممّا قاله في رثاء الإمام:

يا حسرة تتردد

وعبرة ليس تنفد

على علي بن موسى

بن جعفر بن محمّد

قضى غريباً بطوس

مثل الحسام المجرّد

يا طوس طوباك قد

صرت لابن أحمد مشهد

ويا جفوني استهلّي

ويا فؤادي توقّد(3)

ومن رثائه للإمام هذه المقطوعة:

لقد رحل ابن موسى بالمعالي

وسار بسيره العلم الشريفُ

وتابعه والدين طرّاً

كما يتتبع الألف الأليفُ

____________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 571).

(2) ديوان دعبل (ص 99).

(3) ديوان دعبل (ص 101).

٣٥٨

فيا وفد الندى عودوا خفاف ال‍

حقائب لا تليد ولا طريفُ

وقد كنّا نؤمّل أن سيبقى

إمام هدى له رأي حصيفُ

ترى سكناته فتقول: عز

وتحت سكونه الفضل المنيفُ

له سمحاء تغدو كل يومٍ

بنائلة وسارية تطوفُ

فأهدى ريحه قدر المنايا

مزار دونه نأي قذوفُ

فقل للشامتين به رويداً

فما تبقي امرأ يمشي الحتوفُ

سررتم بافتقاد فتىً بكاه

رسول الله والدين الحنيفُ(1)

وقال في رثائه:

يا نكبة جاءت من الشرق

لم تتركن منّي ولم تبقِ

موت علي بن موسى الرضا

من سخط الله على الخلقِ

وأصبح الإسلام مستعبراً

لثلمة باينة الرتقِ

سقى الغريب المبتنى قبره

بأرض طوس مسبل الودقِ

أصبح عيني مانعاً للكرى

وأولع الأحشاء بالخفقِ(2)

وحكى هذا الرثاء لوعة دعبل، وحزنه العميق على وفاة إمام المسلمين وسيد المتقين الإمام الرضاعليه‌السلام الذي ترك فقده ثلمة في الإسلام.

3 - ابن المشيع المدني:

وممّن اكتوى بنار الحزن على فقد الإمامعليه‌السلام ابن المشيع المدني قال في رثاء الإمام:

يا بقعة بها سيدي

ما مثله في الناس من سيّدِ

مات الهدى من بعده والندى

وشمر الموت به يقتدي(3)

لا زال غيث الله يا قبره

عليك منه رائحاً مغتدي

كان لنا غيثاً به نرتوي

وكان كالنجم به نهتدي

إنّ عليّ بن موسى الرضا

قد حلّ والسودد في ملحدِ

____________________

(1) ديوان دعبل (ص 108).

(2) ديوان دعبل (ص 108 - 109).

(3) قال المجلسي: في البحار: (وشمر الموت) لعلّ المعنى أنّ الموت شمر ذيلة وتهيأ لإماتة سائر الأخلاق الحسنة، أو الخلائق.

٣٥٩

يا عين فابكي بدمٍ بعده

على انقراض المجد والسودد(1)

4 - الخوافي:

ومن الشعراء الذي رثوا الإمامعليه‌السلام علي بن أبي عبد الله الخوافي قال:

يا أرض طوس سقاك الله رحمته

ماذا حويت من الخيرات يا طوس

طابت بقاعك في الدنيا وطيبها

شخص ثوى بسناآباد مرموس(2)

شخص عزيز على الإسلام مصرعه

في رحمة الله مغمور ومغموس

يا قبره أنت قبر قد تضمّنه

حلم وعلم وتطهير وتقديس

فخراً فإنّك مغبوط بجثّته

وبالملائكة الأبرار محروس(3)

5 - الضبي:

ومن جيّد ما رثى به الإمام هذه القصيدة للشاعر الضبي قال الشيخ الصدوق وجدتها في كتاب لمحمد بن حبيب الضبي، وأكبر الظن أنّها له كما أعلن ذلك في آخر القصيدة:

قبر بطوس به أقام إمامُ

حتم إليه زيارة ولمامُ

قبر أقام به السلام وإن غدا

تهدى إليه تحية وسلامُ

قبر سنا أنواره تجلو العمى

وبتربه قد تدفع الأسقامُ

قبر يمثّل للعيون محمد

ووصيه والمؤمنون قيامُ

خشع العيون لذا وذاك مهابة

في كنهها تتحيّر الأفهامُ

قبر إذا حلّ الوفود بربعه

رحلوا وحطت عنهم الآثامُ

وتزوّدوا أمن العقاب وأومنوا

من أن يحل عليهم الإعدام

الله عنه به لهم متقبل

وبذاك عنهم جفّت الأقلامُ

إن يغن عن سقي الغمام فإنّه

لولاه لم تسق البلاد غمامُ

قبر علي بن موسى حلّه

بثراه يزهو الحل والإحرامُ

فرض إليه السعي كالبيت الذي

من دونه حق له الإعظامُ

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 3 / 250.

(2) المرموس: المدفون.

(3) عيون أخبار الرضا 2 / 251.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

لو لم يمضها لردع عنها فلا بدّ إذن ـ لدى الاستدلال بالسيرة العقلائية ـ من الجزم بعدم صدور الردع ؛ ليتحقّق العلم بالإمضاء، والجزم بعدم صدور الردع لا يتحقّق مع وجود ما يحتمل دلالته في الأخبار على الردع ، ولو لم يكن تامّاً سنداً ؛ لأنّ مجرد احتمال وروده بنحو الردع من الشارع يكفي لعدم حصول الجزم بالإمضاء فالخبر الضعيف وإن لم يكن حجّة ولكنّه يكفي ـ في جملة من الموارد ـ لإسقاط حجيّة السيرة ، والمنع عن الجزم بالإمضاء وهذه نكتة عامة يجب أن تلاحظ في جملة من موارد الاستدلال بالسيرة العقلائية .

وبناء عليها نقول في المقام : إنّ الروايات العديدة والواردة تارة بلسان : أنّ الناس شركاء في الماء(١) ، وأخرى : بلسان : النهي عن منع فضل الماء ، وثالثة بلسان : النهي عن بيع القناة بعد الاستغناء عنها تؤدّي على أقلّ تقدير إلى احتمال ورود الردع عن الاختصاص المطلق ، المسمّى بالملكيّة

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٧ من أبواب إحياء المَوات ، الحديث الأوّل ، الصفحة ٤١٩ ، الباب ٧

٧٠١

بحثٌ في : وجوب إعارة القناة عند الاستغناء عنها( ١٠ )

وهناك من يوقع المعارضة بين هذه الطائفة ، وبين ما دلّ على جواز بيع القناة، كخبر الكاهلي ، قال :( سأل رجل أبا عبد الله وأنا عنده : عن قناة بين قوم ، لكلّ رجل منهم شرب معلوم ، فاستغنى رجل منهم عن شربه ، أيبيع بحنطةٍ أو شعير ؟ قال : يبيعه بما شاء ، هذا ممّا ليس فيه شيء ) (١) .

وبعد إيقاع المعارضة ، يجمع بينهما بحمل الروايات الناهية على الكراهة .

ولكن التحقيق : أنّ هذا الجمع غير تامّ ؛ إذ لو فرض التعارض بينهما وورودهما في موضوع واحدٍ ، فكيف يوفّق بين النهي ولو بمعنى الكراهة ، وبين قوله :( هذا ممّا ليس في شيءٍ ) الظاهر جدّاً في خلوّه من كلّ حزازة وشبهةٍ ؟!

والتحقيق في الجمع بين الطائفتين : أنّ الطائفة الناهية ، كموثقة أبي بصير المذكورة في المتن ، تدلّ على أمرين :

أحدهما : وجوب الإعارة وبذل القناة مجّاناً لأجل أن ينتفع بها المستعير عند إشباع صاحب القناة حاجته

والثاني : عدم جواز بيعها والطائفة الثانية ، التي منها خبر الكاهلي المتقدّم آنفاً ، لا تنافي الأمر الأوّل بوجه ، لأنّها تدلّ على عدم وجوب إعارة القناة للغير ، وإنّما تدل على جواز بيعها وجواز بيعها لا يستلزم عدم وجوب إعارتها .

ولا يتوهّم في المقام : الملازمة ، بدعوى : أنّه لو كان يجب إعارته مجّاناً لما كان هناك داع لاشترائها ، ولم يبقَ موضع لبيعها ، لأنّ من يريد اشتراءها يمكنه

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤١٨ ، الباب ٦ من أبواب إحياء المَوات ، الحديث ٢ .

٧٠٢

الاستغناء عن شرائها باستعارتها مجّاناً ، مادام صاحب القناة ملزماً بإعارتها مجّاناً فنفس فرض البيع والحكم بجوازه ، ملازم مع عدم وجوب الإعارة ، لكي يتحقّق الداعي العقلائي للشراء فإنّه يندفع هذا التوهّم بأنّ وجوب الإعارة لا يجعل الاشتراء لغواً ؛ لأنّ الشخص قد لا يكتفي بمجرّد الانتفاع المبذول له مجّاناً بالإعارة ، بل يريد أن يكون له حقّ الأولوية في القناة ، كما كان لصاحبها الذي استغنى عنها وهذا الحقّ إنّما ينقل بالبيع والشراء .

وعليه : فالطائفة الدالّة على جواز البيع لا تنافي وجوب الإعارة أصلاً نعم ، تقع المعارضة بين هذه الطائفة الدالّة على جواز البيع ، وبين الطائفة الناهية ؛ بلحاظ مدلولها الثاني ، وهو النهي عن بيع القناة وحلّ هذه المعارضة : أنّ الطائفة الناهية عن البيع والآمرة بالإعارة يحتمل في نهيها عن البيع وجهان :

أحدهما : أنّه نهي حقيقيٌ عن البيع بقول مطلق .

وثانيهما : أنّه نهي عن البيع في قِبال الإعارة بمعنى أنّ من يريد أن يستعير منك القناة لا تضطره إلى الشراء ، ولا تبعها عليه ، بل أعره إياها مجّاناً ، فهو نهي عن البيع في مورد طلب الإعارة ، لا نهي عن البيع مطلقاً ، حتى فيما إذا كان مقصود المشتري أن يكتسب حقّ الاختصاص بها ، كما يقرّبه جعله في قِبال الإعارة فإن كان النهي بالمعنى الأوّل ، وقعت المعارضة بينها وبين الطائفة الدالّة على جواز البيع وإن كان بالمعنى الثاني فلا معارضة .

وحينئذٍ ينبغي أن يقال : أنّ ظهور الطائفة الدالّة على الجواز ، أقوى من ظهور النهي عن البيع في الطائفة الأخرى في المعنى الأوّل ، لو كان له ظهوره في ذلك ولم نقل بتردّده بين المعنيين ، أو ظهوره في الثاني ، فيقدّم ظهور الجواز وينتج من مجموع الطائفتين وجوب إعارة الزائد على الحاجة من القناة مجّاناً للآخرين وجواز بيعها ، المنتج لانتقال حقّ الاختصاص والأولوية إلى المشتري .

٧٠٣

إلحاق المعدن بالأرض( ١١ )

نعني بذلك : أنّ المعدن كالأرض من هذه الناحية ، لأنّ دليل الحقّ أو التملّك الثابت في المعدن لبّي ، فلا يمكن التمسّك بإطلاقه ، والاستصحاب يمكن منع جريانه لأكثر من وجه واحد .

فإن قيل : أنّ الأخبار الواردة في خمس المعدن التي تأمر المستخرج للمعدن بدفع الخمس تدلّ بالإطلاق أو الالتزام على كون المستخرج مالكاً لغير الخمس من المعدن ، وعليه يكون الدليل على تملّك الفرد للمعدن لفظياً لا لبّياً .

قلنا : إنّ تلك الأخبار ليست في مقام البيان من ناحية حكم المعدن ، وحقّ الشخص المستخرج فيه ، لتتمسّك بها لإثبات ذلك الحقّ في موارد الشكّ في ثبوته ، وإنّما هي بصدد بيان ثبوت الخمس ، في مورد يملك الفرد فيه المعدن بالاستخراج ، فلا يمكن إثبات نفس الملكيّة بقاءً أو حدوثاً في مورد الشكّ بها ، ومورد الكلام فيها المادّة المستخرجة لا رقبة المعدن .

٧٠٤

الطير يملك بالصيد وإن لم تتم حيازته ( ١٢ )

إنّ إطلاق قول الإمام الرضاعليه‌السلام في الصحيح :( من صاد ما هو مالك لجناحيه ، لا يَعرِف له طالباً فهو له ) (١) . يدلّ على ما تقدّم في الكتاب(٢) ؛ لأنّه يقرّر : أنّ الطير يحكم به للصائد بمجرّد تحقق عنوان الصيد ، سواء تحقّقت الحيازة أو لا فيشمل صورة انفكاك الصيد عن الحيازة ، كما في الفرضية التي بينّاها في الكتاب ومدلول ذلك أنّ الصيد بنفسه سبب كالحيازة ، ومردّ هذا من الناحية النظرية إلى تملّك الصياد للفرصة التي خلقها عمله .

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٣ : ٣٨٨ ، الباب ٣٦ من أبواب الصيد ، الحديث الأوّل .

(٢) راجع مبحث : أساس التملّك في الثروات المنقولة .

٧٠٥

الفرق بين التملّك بالصيد والتملّك بالحيازة ( ١٣ )

والدليل الفقهي على ذلك إطلاق قول الإمام الصادق (ع) في الصحيح :( إذا ملك الطائر جناحيه فهو لمن أخذه ) (١) . فإنّ هذا الإطلاق يشمل ما إذ كان هذا الطائر المالك لجناحيه ، قد استحقّه قبل ذلك شخص آخر بالصيد ، ثمّ استرد امتناعه وطار .

فإنّ قيل : إنّ هذا الإطلاق مقيّد بما جاء في رواية محمّد بن الفضيل وغيرها :( قال : سألته عن صيد الحمامة تساوي نصف درهم أو درهماً ، قال : إذا عرفت صاحبه فردّه عليه ) (٢) .

قلنا : إنّ هذا النصّ وأمثاله ، وإنّ كان مقيّداً للمطلق السابق ، ولكن مورده هو ما إذا كان الطير قد دخل في حيازة صاحبه السابق ، وذلك بقرينة قوله( رده عليه ) فإنّ الأمر بالردّ ظاهر في : أنّ المفروض هو العلم بسبق يد الغير عليه وأمّا فرض الاستحقاق بمجرّد الصيد ، دون الحيازة ، كما في الصورة التي بيناها ، فلا ينطبق عليه النصّ الوارد في الرواية محمّد بن الفضيل ، لعدم صدق عنوان الردّوعليه : فينتج ـ بعد ملاحظة المطلق مع رواية ابن الفضيل ـ التفضيل بين ما إذا كان الطير المالك لجناحيه قد حازه شخص سابقاً وملكه بالحيازة ، وبين ما إذا كان قد ملكه واستحقّه بمجرّد الصيد ففي الأوّل لا يحلّ الطير لمن يصطاده ثانياً ، وفي الثاني يحلّ

ـــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة ٢٣ : ٣٨٩ ، الباب ٣٧ من أبواب الصيد ، الحديث الأوّل .

(٢) المصدر السابق : ٣٨٨ ـ ٣٨٩ ، الباب ٣٦ من أبواب الصيد ، الحديث ٢ .

٧٠٦

بحثٌ في : تملّك الشخص لِما يحوزه المتبرّع أو الوكيل أو الأجير ( ١٤ )

يمكن تصنيف البحث إلى جهاتٍ ثلاث :

الجهة الأولى : فيما إذا حاز الفرد لآخر تبرّعاً دون وكالة أو إجارة ، فهل يملك الآخر أو لا ؟

والجواب على هذا : يجب أن يكون بعد الفراغ عن تعقّل إضافة الحيازة بوجه ما إلى غير المباشر ، وذلك بأنّ يقصد المباشر الاستيلاء على مال تمهيداً لاستيلاء الغير وانتفاعه به ، فتكون حيازة المباشر للمال ذات إضافة إلى ذلك الشخص تجعله يوصف بأنّه محازٌ له ، فيتّجه السؤال عن تملّك المُحاز له للمال المُحاز .

والجواب : بالنفي ؛ وذلك لعدم وجود شيء من العناصر التي يحتمل فقهياً أنّها تبرّر تملّك غير الحائز لمّا يحوزه من أموال بلا عقد إجارة ولا وكالة ، ونفس الحيازة إنّما تبرّر ملكيّة الحائز لا غيره ، والمُحاز له ليس حائزاً فلا يوجد بالإضافة إليه سبب الملكية ، سواء كان السبب مجرّد ممارسة عملية الحيازة ، أيّ المظهر المادّي لها ، أو الحيازة التي يمارسها الحائز بشكلٍ هادفٍ وبقصد الانتفاع بما يحوز ، فعلى كلاً التقديرين لا يوجد مبرّر لتملّك المُحاز له تلك الثروة التي حازها غيره .

أمّا على الأساس الأوّل ، الذي يجعل من الجانب المادّي للحيازة سبب كافياً للملكية ، فلأنّ المُحاز له لم يصدر منه أيّ استيلاء ليكتسب عن طريقه الملكية وإمّا على الأساس الثاني فكذلك أيضاً ؛ لأنّ الاستيلاء عنصر أساسي في السبب المملّك على أيّ حال ، وهو لا يوجد في المُحاز له .

٧٠٧

وقصارى الفرق بين الأساسين : أنّ الحائز المباشر الذي قصد بالحيازة غيره يملك المال المُحاز على الأساس الأوّل ؛ لأنّ الجانب المادّي من الحيازة قد تحقّق منه ، وأمّا على الأساس الثاني فلا يملكه .

الجهة الثانية : فيما إذا وكّل فردٌ غيره في الحيازة له ، فحاز الوكيل لموكّله وهذا هو نفس الغرض السابق ، مع زيادة فرض الوكالة ، فبعد الفراغ عن عدم تملّك المُحاز له في الفرض السابق يتركّز الكلام هنا في سببية الوكالة ، لتملّك الموكّل لِما يحوزه الوكيل من ثروات الطبيعة .

وما يمكن أن يقال في تبرير هذه السببية هو : أنّ فعل الوكيل ينتسب بالوكالة إلى الموكّل ، فتكون حيازة الوكيل حيازة للموكِّل كما يكون بيع الوكيل بيعاً لموكِّله ، فيتمّ بذلك سبب الملكية بالنسبة إلى الموكّل .

والجواب على هذا البيان : أنّ انتساب فعل الوكيل إلى الموكّل إنّما هو في الأمور الاعتبارية كالبيع والهبة والإجارة لا في الأمور التكوينية التي يكون انتسابها تكوينياً فبالوكالة يصدق على الموكّل أنّه باع كتابه إذ باعه وكيله ، ولكن لا يصدق عليه أنه زار فلاناً إذا وكّل شخصاً في زيارته ؛ لأنّ انتساب الزيارة للزائر تكويني ، بخلاف انتساب البيع إلى البائع فإنّه اعتباري قابل للتوسعة عرفاً بالوكالة والحيازة بوصفها استيلاءً خارجياً هي من نوع الزيارة التي لا تنتسب إلى غير الزائر بمجرّد الوكالة ، وليست من قبيل البيع والهبة .

وعلى هذا الأساس نقول : إنّ صحّة الوكالة في الأمور الاعتبارية المشروعة بأدّلتها ، كالبيع ونحوه من المعاملات ، على وفق القاعدة ، ويكفي فيها نفس الأدلّة الأوّلية العامة كدليل صحّة البيع من المالك مثلاً ؛ لأنّ الوكالة ـ نظراً إلى أنّها تؤدّي إلى انتساب بيع الوكيل إلى الموكل ـ تحقّق بذلك مصداقاً لإطلاق الدليل الأوّلي الدالّ على صحّة البيع بلا حاجة إلى دليل شرعي خاص يدلّ على صحّة الوكالة .

وأمّا في غير الأمور الاعتبارية ، فحيث أنّ مجرّد الوكالة لا يحقّق توسعة في الانتساب التكويني ، فتحتاج صحّة الوكالة وتنزيل عمل الوكيل منزلة عمل الموكِّل في الآثار الشرعية إلى دليل خاص ، ولا يكفي الدليل الأوّلي الدالّ على ترتب تلك الآثار على أسبابها .

٧٠٨

وحيث إنّه لا إطلاق في أخبار الوكالة ، فالأصل يقتضي عدم ترتب آثار فعل الموكّل على فعل الوكيل في الأمور التكوينية ، ما لم يقم دليل خاص على التنزيل التعبّدي من قبل الشارع وفي باب الحيازة لم يقم دليل خاص من هذا القبيل ، فتلغوا بالوكالة فيها(١) .

ـــــــــــــــ

(١) فإن قيل : إنّ مردّ الوكالة في جميع الأمور الاعتبارية إلى تنزيل فعل الوكيل منزلة فعل الموكّل ، وإسناد بيع الوكيل إلى الموكِّل إنّما هو باعتبار هذا التنزيل ، فتتوقّف صحّة الوكالة في أيّ مورد سواء كان اعتبارياً كالبيع أو تكوينياً كالحيازة على قيام دليل على التنزيل الشرعي الابتدائي أو التنزيل العقلاني المُمضى شرعاً ولا يكفي التمسّك بنفس الأدلّة الأوّلية الدالّة على صحّة بيع المالك ، أو على التملّك بالحيازة فلا فرق ـ إذن ـ بين الأمور الاعتبارية والتكوينية من حيث الاحتياج إلى دليل آخر على ثبوت التنزيل الشرعي تأسيساً أو إمضاء .

قلنا : إنّ تصحيح الوكالة في موارد الأمور الاعتبارية والإنشائية كالبيع ونحوه ، ليس بملاك تنزيل فعل الوكيل وبيعه منزلة فعل الموكّل وبيعه ؛ وذلك لأنّنا في موارد الوكالة في الأمور الاعتبارية نرى صحّة إسناد البيع الصادر من الوكيل إلى المالك حقيقة ، فإذا بيع دار زيد من قبل وكيله ، صحّ لزيد أن يقول : بعت داري ، ولنا أن نقول : زيد باع داره ومن الواضح : أنّ تنزيل فعل الوكيل منزلة فعل الموكّل غاية أثره أنّه يكون حاكماً على الدليل الأوّلي الدالّ على بيع المالك ، وموسّعاً لموضوعه ، ومدرجاً لبيع الوكيل فيه بالتعبّد والحكومة ، ولا يوجب صحّة إسناد البيع إلى المالك حقيقة ؛ لأنّ باب التوسعة في دائرة الحكم غير باب التوسعة في دائرة الإسناد والاستعمال ، كما هو الحال في سائر موارد الأدلّة الحاكمة ، فالدليل الدالّ على تنزيل الاحتمال منزلة العلم ـ مثلاً ـ لا يصحّح إسناد العلم إلى الشاكّ حقيقة ، وإن أوجب توسعة دائرة أحكام العلم .

وهكذا نعرف : أنّ تصحيح الوكالة في الأمور الاعتبارية ليس من باب التنزيل ؛ لأنّ التنزيل لا يصحّح الإسناد والتوسعة في دائرة الاستعمال حقيقة ، فلا بدّ من الالتزام بوجه في معنى الوكالة في الأمور الاعتبارية يلتئم مع ما هو المرتكز عرفاً من صحة إسناد بيع الوكيل إلى المالك حقيقة وهذا الوجه هو : أن يكون مردّ التوكيل ـ بالارتكاز العرفي ـ إلى إنشاء مضمون المعاملة على سبيل التعليق .

فتوكيّل المالك في بيع داره ، معناه : إنشاء بيعها على تقدير بيع الوكيل للدار بحيث يكون إنشاء المالك للبيع فعلياً ، ومتضمّناً في نفس إنشاء التوكيل بالارتكاز ، ويكون المنشأ معلّقاً على حصول البيع من الوكيل فعلى هذا يصحّ إسناد البيع حينئذٍ إلى المالك حقيقة ، عند حصول البيع من الوكيل .

فإن قيل : إنّ التعليق في المنشأ يوجب البطلان في البيع ونحوه من المعاملات .

قلنا : إنّ كون التعليق موجباً للبطلان ليس له دليل لفظي ، وإنّما دليله أحد أمرين : إمّا الإجماع التعبّدي على ذلك ، وإمّا أنّ المعاملة المعلّقة في مقام الإنشاء مخالفة للارتكاز العرفي ، الذي يصبح سبباً في انصراف المطلقات نظير ـ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) ـ عنها وكلا الأمرين غير موجود في هذا التعليق الذي فسّرنا به الوكالة أمّا الإجماع فهو منعقد على صحّة الوكالة بمعناها الارتكازي ، والمفروض أنّ المعنى الارتكازي يتضمّن التعليق .

٧٠٩

الجهة الثالثة : فيما إذا استأجر فرد غيره لحيازة المباحات ، فهل يملك المستأجر ما يحوزه الأجير أو لا ؟

وهذه الجهة يمكن تقسيمها إلى فرعين .

أحدهما : فيما إذا تعلّقت الإجارة بحصّة خاصة من الحيازة ، وهي حيازة الأجير للمستأجر بحيث يملك المستأجر على الأجير هذه الحصّة من العمل .

والفرع الآخر : ما إذا تعلّقت الإجارة بطبيعي الحيازة .

أمّا الفرع الأوّل : وهو ما إذا تعلّقت الإجارة بالحيازة للمستأجر ، فتارة يفرض أنّ الأجير يحقّق حصّة أخرى من الحيازة ، كما إذا حاز لنفسه وأخرى يفرض أنّه يجوز للمستأجر وفقاً لما استأجره عليه .

ففي الفرض الأوّل لا ريب في عدم تملّك المستأجر لما حازه الأجير ؛ لأنّ الحيازة التي وقعت منه ليست مملوكة له ، ولا مستندة إلى عقد الإجارة ليتوهّم ملكيّته لنتائجها .

وأمّا الفرض الثاني من الفرع الأوّل : وهو ما إذا حاز الأجير للمستأجر وفقاً لعقد الإجارة ، فليس هناك ما يميّزه بالبحث فقهياً عن الفرع الثاني ، وهو ما إذا تعلّقت الإجارة بطبيعي الحيازة إذ لا يوجد فيه ما يحتمل كونه مبرّراً لتملّك المستأجر للثروة التي يحوزها الأجير إلاّ عقد الإجارة ، فلو قيل في هذا الفرض : بأنّ المستأجر يملك ما يحوزه أجيره ، فإنّما ذلك على أساس عقد الإجارة وهذا الأساس بنفسه ثابت في الفرع الثاني أيضاً .

وهكذا يجب تركيز البحث عن الفرض الثاني من الفرع الأوّل ، وعن الفرع الثاني في هذه النقطة ، وهي : أنّ عقد الإجارة هل يكون سبباً لتملّك المستأجر الثروة الطبيعية التي يحوزها أجيره ؟

ومن الواضح فقهياً : أنّ المدلول الابتدائي لعقد الإجارة ودوره الأصيل هو : منح المستأجر ملكيّة منفعة العين المستأجرة ، كالسكنى في إجارة الدار ومنفعة الأجير في استئجار العامل ، ومنفعة الأجير هي عمله بما هو حيثية قائمة به كقيام حيثية الانتفاع بالسكنى بالدار المستأجرة.

وهذا يعني في موضوع البحث : أنّ ما يملكه المستأجر بصورة رئيسيّة إنّما هو فعل الأجير ، أيّ حيازته بما هي منفعة قائمة به وأمّا موضوع الحيازة ـ أي : الثروة المُحازة ـ فهو إن كان يملكه المستأجر فليس ذلك مدلولاً مباشراً لعقد الإجارة ، بل لا بدّ أن يكون نتيجة لتملّكه للحيازة ، كما إذا افترضنا أن تملّك الحيازة يلزم منه فقهياً تملّك موضوعها ، أي : المال المُحاز .

٧١٠

وهكذا يتعيّن علينا أن نبحث هذه الناحية فقهياً ؛ لكي نرى أنّ تملّك الحيازة هل يكون سبباً أو ملازماً بلون من الألوان لتملّك المال المُحاز ؟

وعلى الصعيد الفقهي عدّة أمور يمكن الاستناد إليها في تبرير هذه السببية ، والاستدلال على أنّ ملكيّة المستأجر لحيازة الأجير سبب في تملّكه لما يحوزه الأجير من أموال ، وهي كما يلي :

الأوّل : ما هو المعروف في كتاب الجواهر(١) وغيره(٢) ، من أنّ المُحاز نتيجة للحيازة التي يملكها المستأجر ، فيملك المال المُحاز بتبع ملكيته للحيازة ؛ لأنّ الذي يملك الأصل يملك نتائجه .

وهذا الدليل يبيّن ببيانين :

أحدهما : أنّ المال المُحاز نماء لعمل الحيازة المملوك للمستأجر ، فهو كنماء الشجرة ، فكما أنّ مالك الشجرة يملك ثمرتها بسبب ملكيته للشجرة ، كذلك المستأجر يملك الخشب الذي حازه أجيره من الغابة ، بسبب ملكيّته للحيازة التي مارسها الأجير .

والآخر : أنّ الحيازة كالخياطة ، فكما أنّ أثر الخياطة مملوك بملك الخياطة كذلك أثر الحيازة بعد جعل الشارع لها سبباً مملوك بملك الحيازة ، وكون الأثر تارة هيئة ، وأخرى عيناً ، غير فارق ؛ لأنّ منفعة كلّ شيء بحسبه .

أمّا البيان الأوّل : فهو غير صحيح ، لوضوح الفرق بين نسبة المال المُحاز إلى الحيازة ونسبة الثمرة إلى الشجرة فإنّ الثمرة نماء طبيعي للشجرة ، وأمّا الخشب المُحاز فهو ليس نماءً للحيازة بوجه من الوجوه ، وإنّما الذي ينتج عن الحيازة وقوع الخشب تحت السيطرة لا الخشب نفسه ، والدليل إنّما دلّ على أنّ من يملك شيئاً يملك نماءه الطبيعي ، كثمر الأشجار وبيض الدجاج ، وأمّا النماء بالمعنى المجازي الذي قد يطلق هنا على الخشب المُحاز فلا دليل على تملّكه بتملّك الحيازة .

وأمّا البيان الثاني فيرد عليه :

أوّلاً : أنّ اثر الخياطة ليس مملوكاً بنفس عقد الإجارة ، فلو أنّ شخصاً

ـــــــــــــــ

(١) راجع : جواهر الكلام ٢٦ : ٣٣٤ .

(٢) انظر : مسالك الأفهام ٤ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩ .

٧١١

استأجر الخياط لخياطة قطعة من الصوف قميصاً له ، فهو لا يملك أثر الخياطة ، وهو الهيئة الخاصة التي بها يكون الصوف قميصاً بسبب عقد الإجارة ، وإنّما يملك الهيئة بنفس ملكيّة للصوف الثابتة قبل عقد الإجارة ؛ لأنّ ملكيّة المادّة في الشرع هي ملكية لجميع ما يطرأ عليها من هيئات محضة ، وليس للهيئة ملكية مستقلّة .

ولهذا لو افترضنا أنّ قطعة الصوف ليست للمستأجر ، وإنّما هي لشخص آخر باح له التصرّف فيها لم يكن المستأجر يملك بعقد الإجارة هيئة الثوبية ، وهذا يعني أنّ أثر عمل الأجير ـ كهيئة الثوب مثلاً ـ إنّما يكون مِلكاً للمستأجر إذا حصل في مادّة مملوكة له في الدرجة السابقة على عقد الإجارة ، وفي موضع البحث حيث أنّ الخشب المُحاز لم يكن مملوك للمستأجر قبل الإجارة ، بل هو من المباحات العامة ، فقياسه بأثر الخياطة باطل لوجود الفارق .

وثانياً : أنّ أثر الحيازة المقابل للهيئة الناتجة عن الخياطة ، ليس هو نفس الخشب ، بل ملكيّة الخشب المترتبة شرعاً على الحيازة فملكية المال المُحاز في موارد الحيازة هي التي تقابل نفس الهيئة الحاصلة من الخياطة فلو أريد قياس الحيازة بالخياطة وقطعنا النظر عن الاعتراض الأوّل ، لكانت نتيجة ذلك أن يملك المستأجر ملكية الخشب ، لا نفس الخشب ، وهذا لا معنى له .

الثاني : أنّ حيازة الأجير لمّا كانت مملوكة للمستأجر فهي حيازته في الحقيقة ، فالمستأجر يملك الخشب المُحاز ، بوصفه حائزاً له بنفس حيازة أجيره .

واعتراضنا على هذا الوجه :

أوّلاً : إنّ ملكية المستأجر لحيازة الأجير تحقّق إضافة الحيازة إلى المستأجر بإضافة الملكية ، لا على حدّ إضافة الفعل إلى فاعله ، بحيث يكون المستأجر حائزاً بحيازة أجيره ، وما هو سبب تملّك فرد للمال إنّما هو كونه حائزاً له لا كونه مالكاً لحيازته .

٧١٢

وثانياً : لو سلّمنا انتساب نفس الفعل ـ وهو الحيازة ـ إلى المستأجر بسبب ملكيّته له ، فلا يجدي أيضاً ؛ لأنّ دليل التملّك بالحيازة ليس دليل لفظياً له إطلاق ليتمسّك بإطلاقه ، وإنّما هو دليل لبّي ، يقتصر فيه على القدر المتيقّن .

وأمّا دعوى الإجماع على أنّ المستأجر يملك ما يحوزه أجيره فهي دعوى غير مقطوع بصحّتها ، ولو سلّمناها لَما كفى الإجماع المذكور لإثبات الملكية في موضع البحث ؛ لأنّ من المحتمل استناد كثير من المجمعين إلى الاعتقاد بأنّ قواعد الإجارة تقتضي ذلك ، إيماناً منهم بالملازمة بين ملكية الحيازة وملكية موضوعها وحيث إنّا لا نقرّ هذا الأساس ، فلا يكون الإجماع بالنسبة إلينا تعبّدياً .

الثالث : أنّ السيرة العقلانية ـ أو العرف العام ـ قائمة على تملّك المستأجر لِما يحوزه الأجير من الأموال .

ويمكن لأحد أن يقول : إنّ هذه السيرة لم تتوفّر لدينا الأسباب التي تكفي للعلم بوجودها وامتدادها وانتشارها في عصر التشريع ، إلى درجة يستكشف إمضاؤها من عدم وصول الردع عنها .

وإذا اعترفنا بهذه السيرة ، ووجاهة الاستدلال بها فهي إنّما تدلّ في الموارد التي يعلم بشمول السيرة لها ؛ لأنّها دليل لبي فلا يمكن الاستدلال بها ـ حينئذٍ ـ إلاّ فيما إذا قصد الأجير بالحيازة تملك المستأجر ، ولا تشمل صورة ما إذا لم يحز الأجير بنيّة المستأجر ؛ لأنّ هذه الصورة ليست متيقّنة من السيرة جزماً .

الرابع : دعوى دلالة عمومات وإطلاقات صحة الإجارة على المطلوب ، وذلك لأنّها تدلّ على صحة الإجارة في موضع البحث بالمطابقة ، وتدلّ على تملّك المستأجر لما يحوزه الأجير بالالتزام ، وإلاّ لكانت الإجارة لغواً ، وبل منفعة عائدة إلى المستأجر ، ولكانت لأجل ذلك باطلة فصحّتها ملازمة مع تملك المستأجر للمال المُحاز .

٧١٣

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّ انتفاع المستأجر بعمل الأجير لا ينحصر بتملّكه للمال المُحاز ، بل قد يتعلّق غرض عقلائي بنفس الحيازة ، واقتطاع الخشب من الغابة أو بتملّك الأجير نفسه فالإجارة ليست سفهيّة على أيّ حال .

وثانياً : أنّه لو سلّم كون الإجارة سفهيّة ، وأنّ الإجارة السفهيّة خارجة تخصّصاً أو تخصيصاً عن أدلّة صحّة الإجارة ، فلا يصحّ التمسّك بهذه الأدلّة لإثبات صحّتها ، فضلاً عن إثبات تملّك المستأجر للمال المُحاز ؛ لأنّه من التمسّك بالعام أو المطلق في الشبهة المصداقية .

أضف إلى ذلك إمكان التشكيك في وجود إطلاقات في أدلّة الإجارة ؛ لأنّ أخبار الباب الصحيحة ليس فيها ما يكون مسوقاً لبيان أصل صحّة الإجارة بقول مطلق ليتمسّك بإطلاقها وآية :( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) (١) تدلّ على اللزوم ، ولا تدلّ على الصحّة ، لا مطابقة ولا التزاماً وقوله :( إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ ) (٢) ، مختصّ بالتجارة ، وهي ظاهرة في البيع والشراء ولا تشمل مطلق العقود التمليكية .

الخامس : ما جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام من أنّه قال :( من آجر نفسه فقد حظر على نفسه الرزق ) (٣) .

وهذا يدلّ على أنّ المستأجر يملك ما يحوزه أجيره ، وإلاّ لما صحّ هذا الكلام على الإطلاق ، ولَمَا صدق على من آجر نفسه للحيازة ونحوها .

ـــــــــــــــ

(١) سورة المائدة : ١ .

(٢) سورة النساء : ٢٩ .

(٣) وسائل الشيعة ١٩ : ١٠٣ ، الباب ٢ من أبواب كتاب الإجارة ، الحديث الأوّل .

٧١٤

فإطلاق النصّ وشموله لكلّ أجير ، دليل على أنّ المال المُحاز يملكه المستأجر لا الأجير .

ويرد عليه : ـ إضافة إلى إمكان المناقشة في دلالة النصّ ـ : أنّ هذا النصّ لم يرد بسندٍ صحيح ، وطرقه كلّها غير صحيحة فيما أعلم(١) ، فلا يمكن الاعتماد عليه .

وهكذا نعرف ـ على ضوء جميع هذا المناقشات ـ : أنّ ملكية المستأجر لحيازة الأجير ليست سبباً في تملّكه للأموال التي يحوزها أجيره(٢) .

ـــــــــــــــ

(١) راجع وسائل الشيعة ١٧ : ٢٣٨ ، الباب ٦٦ من أبواب ما يكتسب به .

(٢) وقد يلاحظ على ما سبق : أنّ تملّك المستأجر للثروة التي يحوزها أجيره يكفي في ثبوته فقهياً عدم توفّر دليل على تملك الأجير الممارس للحيازة لها ؛ لأنّ الأجير وإن باشر الحيازة ولكن الدليل على أنّ الحيازة سبب للملكية ليس إلاّ السيرة العقلائية ـ لضعف الأخبار الواردة في هذا الباب دلالة وسنداً ـ ولا نعلم أنّ السيرة العُقلائية في عصر التشريع كانت تمنح الأجير ملكية الثروة المُحازة ، فإذا لم يثبت تملّك الأجير للثروة تعين أن يكون المستأجر هو المالك .

ولكن هذه الملاحظة لا تبرّر ملكية المستأجر للثروة حتى إذا تمّت وسلّمنا معها بعدم وجود دليل على ملكية الأجير ، فإنّ عدم توفّر هذا الدليل لا يعني توفّره من الناحية المقابلة .

ويمكن أن نضيف إلى ذلك :

أنّ هذا الملاحظة لا تطّرد في موارد الإحياء التي جاء فيها النصّ القائل : ( من أحيا أرض فهي له ) ؛ لأنّ الدليل هناك متوفّر على أنّ صاحب الحقّ هو المُحيي للأرض ، والمحيي هو الأجير ؛ لأنّه الذي مارس عملية الإحياء ، فيكون الحقّ له بموجب إطلاق النصّ فتأمّل (المؤلّف قدّس سرّه)

٧١٥

بحثٌ في : أنّ المالك بالحيازة هو المُحاز له لا الحائز ( ١٥ )

قد يكون من الأفضل القول : بأنّ الثروة الطبيعية إذا حازها الشخص لفردٍ آخر مَلكها ذلك الفرد المُحاز له ، لا على أساس أنّ المباشر للحيازة وكيل عنه أو أجير له ، بل مجرّد كونه مُحازاً له هو السبب في تملّكه ؛ لأنّ الدليل على التملّك بالحيازة إنّما هو السيرة ، التي يمكن أن يقال : أنّها قائمة على تُملِّك المُحاز له سواء كان هو الحائز أو غيره فتملُّك المُحاز له ليس بوصفه حائزاً ليعترض عليه بما تقدّم ـ في الجهة الأولى من الملحق السابق ـ من أنّ المُحاز له ليس حائزاً بوصفه موكّلاً أو مستأجراً ، ليعترض عليه بما مرّ ـ في الجهتين الأخيرتين من الملحق السابق ـ من أنّ عقد الوكالة أو عقد الإجارة لا يقتضي ذلك .

وإذا تمّ هذا فمعناه أنّ غير الممارس للحيازة إنّما يملك الثروة المُحازة في صورة واحدة ، وهي : ما إذا قصد الممارس أن يحوز له ، وأمّا في غير هذه الصورة فلا يملك غير الممارس الثروة المُحازة ، ولا يبرّر تملّكه له كون المباشر وكيلاً عنه أو أجيراً له ؛ لأنّا عرفنا في الملحق السابق أنّ صحّة الوكالة في الأمور التكوينية تحتاج إلى دليل خاص وهو ليس موجودا ً. وإنّ عقد الإجارة إنّما يقتضي تملّك المستأجر لحيازة الأجير بما هي عمل من أعماله لا لموضوع الحيازة ، أي : الثروة المُحازة .

٧١٦

الجُعالة في كتاب اقتصادنا(١) ( ١٦ )

الجُعالة هي كما يقال عادةً : الالتزام بعوضٍ على عملٍ ، كما إذا قال صاحب المال : من خاطَ ثوبي فله درهم ، ومن فتّش عن كتابي الضائع فله دينار فالخياطة والتفتيش عن الكتاب الضائع عملان يلتزم صاحب الثوب والكتاب بالمكافأة عليهما بدرهم أو بدينار ، وإذا مارسها شخص استحقّ العوض المفروض في الجُعالة ، بمعنى أنّ العامل يملك في موارد الجُعالة العوض بالعمل وأمّا صاحب المال فهو لا يملك العمل على العامل ، ولهذا يختلف عن المستأجر الذي يملك عمل أجيره بموجب عقد الإجارة ، كما أوضحنا ذلك في الكتاب الثاني من اقتصادنا ، الصفحة ٦٧٦ .

وقد قلنا في ذلك الكتاب ( ص ٦٨٨ ) : إنّ العامل قد يفرض له في الجُعالة عوض منفتح مرتبط بأرباح الجاعل ، كما إذا كان الجاعل من منتجي الأسِرّة الخشبيّة فيجعل لكلّ من يعمل من ألواحه سريراً نصف ما سوف يجنيه من الأرباح ، فترتبط مكافأة العامل بنتائج العمليّة وأرباحها ارتفاعاً وانخفاضاً .

كما قلنا أيضاً : إنّ تاجر الأسِرّة الخشبيّة هذا لا يمكن أن يفرض مكافأة من هذا القبيل لأدوات الإنتاج ، فلا يصحّ أن يقول : من أعانني بجهازٍ لتقطيع الخشب فله عليّ كذا .

ـــــــــــــــ

(١) لم يطبع هذا الملحق في كتاب اقتصادنا وقد كتبه المؤلّف الشهيد نظراً إلى بعض الأسئلة التي تلقّاها بهذا الشأن ، فأدرجناه هنا إتماماً للفائدة (لجنة التحقيق) .

٧١٧

ونظراً إلى بعض الأسئلة التي تلقّيتها بهذا الشأن أردت أن أوضّح الفكرة من الناحية الفقهيّة في كلٍّ من هاتين النقطتين:

أمّا النقطة الأولى ـ وهي علاقة تاجر الأسِرّة بالعامل في الجُعالة ـ فتوضيحها : أنّ الجُعل الذي يفرضه تاجر الأسِرّة للعامل في الجُعالة يمكن تصويره بأنحاء :

١ ـ أن يجعل له نصف الخشب الذي يملكه التاجر فعلاً ، وذلك بأن يقول التاجر : من عمل سريراً من خشبي هذا فله نصف هذا الخشب وفي هذه الحالة يكون العوض شخصيّاً وعيناً خارجيّة معيّنة ولا إشكال فيه .

٢ ـ أن يجعل له مالاً في الذمّة يحدّد بكونه مساوياً لنصف الثمن أو الربح الذي سوف يحصل عليه التاجر عند بيع السرير لو أراد بيعه ، بمعنى : أنّ تاجر الأسرّة يقول : من عمل سريراً من خشبي هذا فله في ذمّتي مالٌ بقدر نصف الثمن الذي سوف يتاح الحصول عليه عند بيع السرير بعد إكمال صنعه .

وفي هذه الحالة يكون العوض أمراً في الذمّة ، ولا إشكال فيه إلاّ من ناحية أنّ العوض هنا غير محدّد تحديداً كاملاً ، فبناءً على عدم اشتراط تعيين العوض في باب الجُعالة ـ كتعيين الأجرة في الإجارة ـ لا مانع من الالتزام بصحّة هذه الجُعالة .

٣ ـ أن يجعل التاجر نصف الثمن الشخصي الذي سوف يحصل عليه عند بيع السرير ، لا مالاً في ذمّته يعادل النصف ، أو يفرض له نصف الربح العيني الذي سوف يوجد في البضاعة .

ولا بدّ لتحقيق هذه الصورة من الالتفات إلى شيء ، وهو : أنّ العامل في باب الجُعالة يملك الجعل بإتيانه للعمل ، ففيما إذا كان الجعل نصف الثمن الذي سوف يحصل عليه البائع لا نتصوّر ملكيّة العامل لشيء على التاجر ؛ لأنّ الجعل

٧١٨

ليس عيناً شخصيّة مملوكة للتاجر فعلاً ليملكها العامل بالعمل ، ولا مالاً في ذمّته ليعقل تملّك العامل له بعد إنجاز عمله .

وهذا الإشكال نظير الإشكال في إجارة الأرض وجعل الأجرة شيئاً من حاصلها ، فإنّ الأجرة في هذا الفرض ليست عيناً خارجيّةً وشيئاً خارجيّاً موجوداً في ملك المستأجر فعلاً ، ولا مالاً في ذمّته ليصبح بعقد الإجارة مِلكاً للمؤجّر ، فمن اختار بطلان الإجارة بهذا النحو لأجل هذا الإشكال لَزمه في محلّ الكلام أيضاً ؛ لأنّ الجعل في الصورة المشار إليها كالأجرة في تلك الإجارة ، لا هو أمرٌ خارجي مملوك فعلاً للجاعل ولا شيء في ذمّته ، فأيّ شيء يملك العامل على الجاعل بالعمل ؟ ومن لم يأخذ بهذا الإشكال بعين الاعتبار في باب الإجارة يمكنه البناء على صحّة الجُعالة في المقام أيضاً .

هذا هو ملخّص الكلام في النقطة الأولى .

وأمّا النقطة الثانية ـ وهي علاقة تاجر الأسرّة بأداة الإنتاج ـ فتوضيحها : أنّ الجُعالة هنا تتصوّر على أنحاء أيضاً بلحاظ ما يجعل بإزائه الجعل :

الأوّل : أن يكون الجعل بإزاء منفعة أداة الإنتاج ، بأن يقول تاجر الأسرّة : إنّي أجعل ديناراً لمن انتفع بالأداة التي يملكها في تقطيع الخشب ، وهذا الجُعالة باطلة ؛ لأنّ الجُعالة لا بدّ أن تتضمّن جعلاً على عمل لا على منافع لأموال ، فلا يمكن فرض المجعول له منفعة أداة الإنتاج .

الثاني : بأن يكون الجعل بإزاء تمليك صاحب الأداة منفعة أداته لتاجر الأسرّة ، والفرق بين هذا وسابقه : أنّ الجعل هنا يكون على عمل ، وهو تمليك المنفعة من قبل صاحب الأداة ، لا على منفعة المال ولكنّ الإشكال في تصوّر تمليك المنفعة من قبل صاحب الأداة ، فإنّه إن كان تمليكاً مجّانيّاً بعنوان الهبة فهو يتوقّف على القول بصحّة الهبة في المنافع وعدم اختصاصها بالأعيان ، كما هو

٧١٩

المعروف وإن كان تمليكاً بعنوان الإجارة فهو خلاف المفروض ونظيره : أن يفرض الجعل على إباحة مالك الأداة للتصرّف فيها والانتفاع بها لا على تمليك منافعها وعلى أيّ حال لا يكون الجعل بإزاء مساهمة أداة الإنتاج في العمليّة ، بل بإزاء عمل يصدر من مالك الأداة ، وهو التمليك أو الإباحة ، ولهذا يستحقّه ولو لم تساهم الأداة في الإنتاج أصلاً .

الثالث : أن يكون الجاعل هو مالك الأداة لا تاجر الأسرّة ، بأن يقول مالك الأداة : من أعطاني نصف هذا الخشب فله منفعة هذه الأداة جعلاً ، بحيث تكون منفعة الأداة والعمل الذي جعل له هذا الجعل هو إعطاء تاجر الأسرّة نصف الخشب لمالك الأداة ، أي تمليكه نصف الخشب ، ولا يأتي فيه الإشكال السابق في هبة المنافع ؛ لأنّ هذا يدخل في باب هبة الأعيان لا المنافع ، ولكنّ منفعة الأداة في هذا الفرض تكون بنفسها مكافأة ، والكلام إنّما هو في تحديد نوع مكافأتها لا في صيرورتها مكافأة على شيءٍِ آخر .

٧٢٠

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741