الأمثال في القرآن الكريم

الأمثال في القرآن الكريم 20%

الأمثال في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-6243-73-8
الصفحات: 291

الأمثال في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 291 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97916 / تحميل: 8234
الحجم الحجم الحجم
الأمثال في القرآن الكريم

الأمثال في القرآن الكريم

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٦٢٤٣-٧٣-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ب :( وَلا تَنْقُضُوا الإيْمان بَعْد تَوكيدها ) فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين ، والظاهر اختصاص الأولى بالعهود التي يبرمها مع الله تعالى ، كما إذا قال : عاهدت الله لأفعلنّه ، أو عاهدت الله أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد الله.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم الله ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيّد الأيمان بقوله : بعد توكيدها ، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين : قسم يطلق عليه لقب اليمين ، بلا عزم في القلب وتأكيد له ، كقول الإنسان حسب العادة والله وبالله.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد ، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين ، يقول سبحانه :( لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الإيْمان ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد ، بقوله :( وَقَد جَعَلتم الله علَيكم كفيلاً انّ الله يعلم ما تَفْعلون ) أي جعلتم الله كفيلاً بالوفاء فمن حلف بالله فكأنّه أكفل الله بالوفاء.

فالحالف إذا قال : والله لأفعلنّ كذا ، أو لأتركنّ كذا ، فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على الله سبحانه ، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه

__________________

١ ـ المائدة : ٨٩.

١٨١

اليمين ، فإن نكث ولم يفِ كان لكفيله أن يؤدبه ، ففي نكث اليمين ، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، قال :( وَلاتَكُونُوا كَالّتى نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدل قُوّة أنكاثاً ) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها وبيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر ، ثمّ تنقض ما غزلته ، وقد عرفت في قوله ب‍ « الحمقاء » فكذلك حال من أبرم عهداً مع الله وباسمه ثمّ يقدم على نقضه ، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين ، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً ، يقول سبحانه :( تَتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمّة ) فقوله « أربى » من الربا بمعنى الزيادة ، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش ، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد ، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه ، كما يقول سبحانه :( إنّما يبلوكم الله به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به ، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هوا لمهتدي.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٣٣٦.

١٨٢

النحل

٣٠

التمثيل الثلاثون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون ) .(١)

تفسير الآيات

« رغد » عيش رغد ورغيد : طيّب واسع ، قال تعالى :( وكلا منها رغداً ) .

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث :

أ : آمنة : أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ، ولا يُشنُّ عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب : مطمئنة : أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار ، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه ، فالاطمئنان رهن الأمن.

____________

١ ـ النحل : ١١٢ ـ ١١٣.

١٨٣

ج :( يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان ) ، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية ، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى ، والدليل على ذلك ، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب :( وَاسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصادِقُون ) .(١) والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الاَصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية ، أعنيبعث الرسول إليها ، كما أشار إليه في الآية الثانية ، بقوله :( وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم ) .

وهوَلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا الله عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية ، أعني : الرسول فكذّبوه ـ كما هو صريح الآية الثانية ـ وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي ، عن حفص بن سالم ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : « إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها ، فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

__________________

١ ـ يوسف : ٨٢.

١٨٤

ويأكلونها ، وهو قول الله :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) ».(١)

وفي رواية أخرى عن زيد الشحّام ، عن الصادقعليه‌السلام قال : كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها ، قال : فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثم قال : إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قالعليه‌السلام : فلمّا فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد ، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلاّ أكلته من شجر أو غيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه وهي القرية التي قال الله تعالى :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .(٢)

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة الله. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية ، فكلّ ذلك كفران لنعم الله.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية ، وأشار إليها

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩١ ، حديث ٢٤٧.

٢ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩٢ ، حديث ٢٤٨.

١٨٥

بآيتين :

الاَُولى :( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .

الثانية :( فَأخذهم العذاب وهم ظالمون ) .

فلنرجع إلى الآية الأولى ، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو أنّه سبحانه جمع في الآية الأولى بين الذوق واللباس ، فقال :( فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الجُوعِ ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم ، بأن يقول : « فأذاقها الله طعم الجوع ».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني : اللباس ، أن يقول : « فكساهم الله لباس الجوع » فلماذا عدل عـن تلك الجملتين إلى جملة ثالثــة لا صلـة لها ـ حسب الظاهر ـ بين اللفظين ؟

والجواب : انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم ، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس ، ولذلك قال :( لباس الجوع والخوف ) ولم يقل « الجوع والخوف » لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع ، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش والخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته ، فقال :( فَأَذاقَهُمُ الله لِباس الجوع والخَوف ) .

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وأمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة ، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

١٨٦

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة ، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه ، ثمّ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون : عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف ، فهو انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله :( أَوَ لَمْ نُمَكّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَيْءٍ ) .(١)

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلاً : فلأنَّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً : لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة ، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً : انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبّة تماديهم في كفرهم ، والسورة مكية إلاّ آيات قليلة ، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف ، لتكون أحوال تلك الأمم عبرة للمشركين من أهل مكة وما والاها.

__________________

١ ـ القصص : ٥٧.

١٨٧

الاِسراء

٣١

التمثيل الواحد والثلاثون

( وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) .(١)

تفسير الآيات « الغلُّ » : ما يقيَّد به ، فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال ، ومعنى قوله :( مغلولة إلى عنقك ) أي مقيَّدة به.

« الحسرة » : الغم على ما فاته والندم عليه ، وعلى ذلك يكون محسوراً ، عطف تفسير لقوله « ملوماً » ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه ، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الاِعطاء والبذل ، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك ، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف ، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

__________________

١ ـ الإسراء : ٢٩ ـ ٣٠.

١٨٨

وإن لم يكن منطوقاً ، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء ، فقد تضمّنته آية أخرى في سورة الفرقان ، وهي :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .(١)

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبري أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : قل له : إنّ أمّي تستكسيك درعاً ، فإن قال : حتى يأتينا شيء. ، فقل له : انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه ، فقال ما قالت له ، فنزع قميصه فدفعه إليه ، فنزلت الآية.

ويقال انّهعليه‌السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار ، وقالوا : إنّ محمداً اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة( إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) أي يوسع مرة ويضيق مرة ، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه.(٢)

روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الأحول ، قال : تلا أبو عبد الله هذه الآية :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً ) .

قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أخرى ، فأرخى كفه كلها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى بعضها ، وقال : هذا القوام.(٣)

__________________

١ ـ الفرقان : ٦٧.

٢ ـ مجمع البيان : ٣ / ٤١٢.

٣ ـ البرهان في تفسير القرآن : ٣ / ١٧٣.

١٨٩

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل ٤٥٠ ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتصّ رحيق الاَزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الاِفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله :( وَ اقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير ) .(١)

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية ، فمن جانب يصرح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام .(٢)

ومن جانب آخر يقول الإمام عليعليه‌السلام : « هلك فيّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال ».(٣)

__________________

١ ـ لقمان : ١٩.

٢ ـ حلية الأولياء : ١ / ٨٦.

٣ ـ بحار الأنوار : ٣٤ / ٣٠٧.

١٩٠

فالاِمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساس في الإسلام ، ولعله بذلك سميت الأمة الإسلامية بالاَُمة الوسط ، قال سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ) .(١)

وهناك كلمة قيمة للاِمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حول الاعتدال نأتي بنصها :

دخل الإمام علي العلاء بن زياد الحارثى وهو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأي سعة داره ، قال :

« ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : « وماله؟ » قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : « عليّ به ». فلمّا جاء قال :

« يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟! أنت أهون على الله من ذلك ».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !

قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل ( الحق ) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره ! »(٢)

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٩.

١٩١

الكهف

٣٢

التمثيل الثاني والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً * وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لاََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلداً * فَعَسى رَبّي أَنْ يُوَْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ ماوَُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الحفّ » من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به ، وحفاف الشيء جانباه كأنّهما

__________________

١ ـ الكهف : ٣٢ ـ ٤٣.

١٩٢

أطافا به ، فقوله في الآية( فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله :( ما أظن أن تبيد ) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

« حسباناً » : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله في الريح : « اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً ».

« الصعيد » يقال لوجه الأرض « زلق » أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه :( فتركه صلداً ) (١)

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للمؤمن والكافر بالله والمنكر للحياة الأخروية ، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا ويطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالي :

قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى الموَقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله بالإحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الاَخ الغني على الفقير ، وقال :( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) ، وما هذا إلاّ لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٤.

١٩٣

بهما وبين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار ـ أي تبقى أبداً ـ وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحِّدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، وهذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

و يقول : كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة ؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك وتعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو

١٩٤

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه وهو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الاَخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربي ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز ، بقوله :( المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) .(١)

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أخرى ، وقال :( قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ * يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقينَ * أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإنّا لَمَدِينُونَ * قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم ) .(٢)

إلى هنا تبيّـن مفهوم المثل ، وأمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالاِمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

__________________

١ ـ الكهف : ٤٦.

٢ ـ الصافات : ٥١ ـ ٥٥.

١٩٥

( واضرب لهم ) أي للكفار مع المؤمنين( مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما ) أي للكافر( جنتين ) أي بستانين( من أعناب وحففناهما ) أحدقناهما بنخل( وجعلنا بينهما زرعاً ) يقتات به( كلتا الجنتين آتت أكلها ) ثمرها( لم تظلم ) تنقص( منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً ) يجري بينهما( وكان له ) مع الجنتين( ثمر فقال لصاحبه ) المؤمن( وهو يحاوره ) يفاخره( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) عشيرة( ودخل جنته ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها.( وهو ظالم لنفسه ) بالكفر( قال ما أظن أن تبيد ) تنعدم( هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي ) في الآخرة على زعمك( لاَجدنّ خيراً منها منقلباً ) مرجعاً( قال له صاحبه وهو يحاوره ) يجادله( أكفرت بالذى خلقك من تراب ) لأنّ آدم خلق منه( ثم من نطفة ثمّ سوّاك ) عدلك وصيّرك( رجلاً ) . أمّا أنا فأقول( لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ) عند اعجابك بها( ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ) .( إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ) وصواعق( من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم( أو يصبح ماؤها غوراً ) بمعنى غائراً( فلن تستطيع له طلباً ) حيلة تدركه بها( وأحيط بثمره ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت( فأصبح يقلب كفيه ) ندماً وتحسراً( على ما أنفق فيها ) في عمارة جنته( وهي خاوية ) ساقطة( على عروشها ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم( ويقول يا ليتني ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه( لم أُشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة ) جماعة( ينصرونه من دون الله ) عند هلاكها و( ما كان منتصراً ) عند هلاكها بنفسه( هنالك ) أي يوم القيامة( الولاية ) الملك( لله الحقّ ) .(١)

__________________

١ ـ السيوطي : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.

١٩٦

الكهف

٣٣

التمثيل الثالث والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الهشيم » : ما يكسر ويحطم في يبس النبات ، و « الذر » والتذرية : تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدئ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الاَزهار الرائعة ، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف ، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

__________________

١ ـ الكهف : ٤٥.

١٩٧

على طول السنة ويشاهده الإنسان باُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه :( وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الإنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله :( فأصبح هشيماً ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات( وكان الله على كلّ شيء مقتدراً ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه :( المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا ) .

نعم ، الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأخروية ، قال سبحانه :( وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية.(٢)

__________________

١ ـ مريم : ٧٦.

٢ ـ انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس ٢٥ ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية ٢٠.

١٩٨

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله :( وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الإنسان أكثر شيء جدلاً ) .(١)

والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله :( ولقد صرّفنا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة ومع ذلك( وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً ) أي أكثر شيء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

__________________

١ ـ الكهف : ٥٤.

١٩٩

الحج

٣٤

التمثيل الرابع والثلاثون

( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز ) .(١)

تفسير الآيات

كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية ، ويعربون عن عقيدتهم ، بأنّه لا خالق في الكون سوى الله سبحانه ، وقد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم ) .(٢)

ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية ، وكأنّه سبحانه ـ بزعمهم ـ خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة ، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الاَرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة ، يقول سبحانه :( أَأَرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ) (٣) والآية وإن كانت تفصح عن

____________

١ ـ الحج : ٧٣ ـ ٧٤.

٢ ـ الزخرف : ٩.

٣ ـ يوسف : ٣٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ونهبت كلّ ما كان في ذلك الحرم المقدس من فرش غالية وهدايا ثمينة وغيرها، وحوّلت تلك الزمرة الوحشية البقيع المقدس إلى أرض قفراء موحشة (1) .

كما هجموا بمساحيهم ومعاولهم ووحشيتهم على قبة عبد الله بن عباس في الطائف، ثم استولوا على مكة، فبادروا إلى هدم ما في «المعلى» مقابر قريش من القباب، وهي كثيرة، منها قبة سيدنا عبد المطلب جدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقبة سيدنا أبي طالب عليه‌السلام ، وقبة السيدة خديجة عليها‌السلام ، كما هدموا قبة مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومولد الامام علي عليه‌السلام ، وهدموا قبة زمزم، والقباب التي حول الكعبة، وتتبعوا جميع المواضع فيها آثار الصالحين فهدموها، وكانوا عند الهدم يرتجزون ويضربون بالطبول ويغنون ويبالغون في شتم القبور (2) .

قال العلامة السيد صدر الدين الصدر:

لعمري إنّ فاجعة البقيع

يشيب لهولها فؤود الرضيع

وسوف تكون فاتحة الرزايا

إذا لم يصح من هذا الهجوع

أما من مسلم لله يرعى

حقوق بنية الهادي الشفيع

وقال آخر:

تب لأحفاد اليهود بما جنوا

لم يكسبوا من ذاك إلّا العارا

هتكوا حريم محمد في آله

يا ويلهم قد خالفوا الجبارا

هدموا قبور الصالحين بحقدهم

بعداً لهم قد أغضبوا المختارا

* * *

__________________

(1) أنظر: كشف الارتياب: 287 الفصل التاسع.

(2) أنظر المصدر السابق.

٢٤١

الفصل

السادس عشر

شريكات أم البنين عليها‌السلام

٢٤٢

شريكات أم البنين عليها‌السلام

إنّ لفاطمة الزهراء عليها‌السلام خصائص كثيرة تفوق فيها على الرجال فضلاً عن النساء، فلا يمكن والحال هذه أن نجعل الصديقة في صفّ واحد مع باقي نساء أمير المؤمنين عليه‌السلام ونعتبرهن شريكات لها وذلك لأنها:

أولاً: معصومة، وقد ثبت أنّ المعصومة لا يتزوجها إلّا معصوم، ولو جاز للزم القول بجعل السبيل للفاسق على المعصومة، وهو خلاف رضا الله تعالى، ويأبى الله المنان أن يجعل أمته المطيعة في حكم الرجل ال عاصي، نعم؛ يجوز العكس، فللأنبياء والأئمة عليهم‌السلام أن يتزوجوا غير المعصومات.

وإنّما قلنا أنّ المعصومة لا يتزوجها إلّا معصوم لأنّ المعصومة مصيبة وغير المعصوم مخطىء، وذو العصمة أشرف من غيره، ولا يجوز لأهل الصواب أن يدخلوا في حبائل أهل الخطاء وفرض إطاعة المخطىء ينافي رضا الحق كما ذكرنا.

وثانياً: كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر أمير المؤمنين عليه‌السلام أحياناً فيقول: يا علي أطع فاطمة ويأمر فاطمة فيقول: أطيعي علياً.

وإنّما يأمر علياً بطاعتها لعصمتها وصواب رأيها ولأنها لا تخطأ، وكأنّ رأي فاطمة رأي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذا قال عليه‌السلام : «عاشرت فاطمة تسع سنين فلم تسخطني ولم أسخطها».

٢٤٣

وثالثاً: في البحار «إنّ الله حرّم النساء على علي ما دامت فاطمة حية» (1) .

ولو لم يكن أمير المؤمنين لم يكن لأحد أن يتزوجها لما ورد في الحديث «لو لم يكن علي لما كان لفاطمة كفؤ آدم فمن دونه».

ورابعاً: لأنّها عليها‌السلام سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين فكيف - إذن - تقاس بغيرها من النساء وتسمى لها شريكة؟!

ولكننا - بالرغم من ذلك - سنتعرض إلى ذكر شيء من فضائلها وحياتها باعتبار عدم إمكان التفكيك بينها وبين أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فالاتحاد المعنوي النبوي والعلوي جار في وجود سيدة العصمة فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، ولا شك أنّ فاطمة خلقت لأجل علي وأنّ علياً خلق لأجلها، وأنهما كفوان ومتحدان لا يفترقان في عالم الأبدية بلا شائبة وريبة.

فمقام فاطمة تالي المرتبتين، والنقطة بين الخطين، والواقفة بين الحدّين، ولازمة بالمعية منذ المبدأ في عالم الأنوار مشاركة دون انفكاك (2) ، وليس باعتبار أن أم البنين عليها‌السلام أو غيرها من نساء أمير المؤمنين عليه‌السلام شريكات لها.

* * *

__________________

(1) البحار 43 / 15 ح 14 باب 2.

(2) أنظر: الخصائص الفاطمية للكجوري ترجمة سيد علي أشرف 1 / 522.

٢٤٤

فاطمة الزهراء عليها‌السلام

فضائل الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها‌السلام :

مما لا شك فيه أنّ فضائل الصديقة الطاهرة، أم الأبرار، لا تعدّ ولا تحصى، وهي الكوثر الذي لا ينضب، غير أننا سنذكر شيئاً منها تيمّناً وتبرّكاً.

1 - عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد يمشين أمام فاطمة كالحجاب لها إلى الجنة (1) .

2 - عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال:... يا علي خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم.. وأفضلهن فاطمة (2) .

3 - عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: يا فاطمة أبشري فانّ الله - تعالى - اصطفاك على نساء العالمين، وعلى نساء الاسلام، وهو خير دين (3) .

4 - روى مجاهد قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ فاطمة شجنة مني، يسخطني ما أسخطها، ويرضيني ما أرضاها (4) .

__________________

(1) البحار 43 / 37 ح 40 باب 3.

(2) البحار 43 / 36 ح 39 باب 3.

(3) المصدر نفسه.

(4) البحار 43 / 51 ح باب 3، عن كشغ الغمة، عن معالم العترة.

٢٤٥

5 - وروى مجاهد أيضاً قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أخذ بيد فاطمة عليها‌السلام : من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني، وهي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله (1) .

6 - في كتاب نوادر الراوندي قال: قال علي عليه‌السلام : استأذن أعمى على فاطمة عليها‌السلام فحجبت.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لم حجبتيه وهو لا يراك؟

فقالت: إن لم يكن يراني فأنا أراه، وهو يشمّ الريح.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أشهد أنك بضعة مني (2) .

7 - في سنن الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (3) .

8 - في ينابيع المودة عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ابنتي فاطمة حوراء إنسية لم تحض ولم تطمث، إنّما سماها الله فاطمة لأنّ الله فطمها وفطم ولدها ومحبيها عن النار (4) .

9 - عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش يا أهل الجمع؛ نكّسوا رؤوسكم وغضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد على الصراط ومعها سبعون ألف جارية من الحور العين كالبرق اللامع (5) .

__________________

(1) البحار 43 / 54 ج 48 باب 3.

(2) البحار 43 / 91 ح 16 باب 4.

(3) سنن الترمذي 5 / 703 ح 3878.

(4) ينابيع المودة 2 / 121 رقم 354 باب 56.

(5) البحار 43 / 53 ح 48 باب 3.

٢٤٦

10 - عن أنس وأبي عروة الأسلمي والخدري أنّه لما نزلت آية التطهير جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أربعين صباحاً إلى باب فاطمة وهو يتلو هذه الآية ويقول: أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم.

وفي رواية: تسعة أشهر يسلم عليهم ويقرأ آية التطهير ويدعو لهم ويقول: الصلاة (1) .

11 - عن ابن عباس قال: قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : رأيت ليلة المعراج هذه الكلمات مكتوبة على سرادق العرض: لا الله إلّا الله، محمد رسول الله، علي حبيب الله، الحسن والحسين صفوة الله، فاطمة أمة الله، على باغضهم لعنة الله (2) .

12 - في حديث طويل قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إن الله - تبارك وتعالى - بنى جنة لعلي وفاطمة عليهم‌السلام (3) .

13 - قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله فطم ابنتي وولديها ومن أحبهم من النار (4) .

14 - روى النسفي عن علي عليه‌السلام قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للحسن والحسين عليهما‌السلام : أنتما كفتا الميزان، وفاطمة لسانه، ولا تعدل الكفتان إلّا باللسان، ولا يقوم اللسان إلّا على الكفتين، أنتما الأمان ولأمكما الشفاعة (5) .

* * *

__________________

(1) أنظر: البحار 37 / 79 ح 48 باب 50.

(2) المناقب للخوارزمي: 302 ح 297.

(3) كفاية الطالب: 320 - 321 باب 89.

(4) البحار 43 / 18 ح 18 باب 2، الصواعق المحرقة: 160 باب 11 الفصل الأول الآية العاشرة.

(5) أنظر الحديث وما سبقه مما ذكرناه وغيرها في الخصائص الفاطمية 2 / 545 وما قبلها وما بعدها.

٢٤٧

ولادتها ووفاتها عليها‌السلام :

ولدت عليها‌السلام في مكة المكرمة في (20 جمادي الثاني) في السنة الخامسة للبعثة النبوية المباركة (1) .

فعاشت مع أبيها «8» سنين في مكة و «10» في مدينة المنورة.

وتوفيت شهيدة بعد وفاة أبيها بـ «75» يوماً في الثالث من جمادي الثانية سنة (11 للهجرة).

* * *

__________________

(1) أنظر: المناقب لابن شهر آشوب 3 / 357، دلائل الإمامة: 10، أصول الكافي 1 / 458، كشف الغمة 2 / 75.

٢٤٨

لماذا غصبت فدك؟!

فدك في القرآن:

قال الله تعالى: ( وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ... ) (1) .

الافاءة؛ الإرجاع، من الفيء بمعنى الرجوع.

ولامعنى: والذي أرجعه الله إلى رسوله من أموال بني النضير - خصه به وملّكه وحده إياه - فلم تسيروا عليه فرساً ولا إبلاً بالركوب حتى يكون لكم فيه حق، بل مشيتم إلى حصونهم مشاة لقربها من المدينة، ولكن الله يسلّط رسله على من يشاء، والله على كلّ شيء قدير، وقد سلّط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على بني النضير فله فيئهم يفعل فيه ما يشاء.

وقوله: ( مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ... )

__________________

(1) سورة الحشر: الآيتان 6 - 7.

٢٤٩

ظاهره أنّه بيان لموارد صرف الفىء المذكور في الآية السابقة مع تعميم الفيء لفيء أهل القرى أعم من بني النضير وغيرهم.

وقوله: ( فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ) أي منه ما يختص بالله، والمراد صرفه وانفاقه في سبيل الله ما يراه الرسول، ومنه ما يأخذه الرسول لنفسه.

وقوله: ( وَلِذِي الْقُرْبَىٰ ) المراد بذي القربى قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا معنى لحمله على قرابة عامة المؤمنين، وهو ظاهر.

والمراد باليتامى الفقراء منهم كما يشعر به ال سياق، وإنّما أفرد وقدّم على «المساكين» مع شموله له للاعتناء بأمر اليتامى.

وقد ورد عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المراد بذي القربى أهل البيت، واليتامى والمساكين وابن السبيل منهم.

وفي المجمع: روى المنهال بن عمر عن علي بن الحسين عليه‌السلام قلت: وقوله: ( وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) قال: هم قربانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا (1) .

وروى ابن بابويه عن أبي سعيد الحذري قال: لما نزلت ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا فاطمة لك فدك.

وعن علي بن الحسين عليه‌السلام قال: اقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة عليها‌السلام فدك.

وعن ابان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال: قلت: كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطى فاطمة عليها‌السلام فدك؟

قال: كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقفها، فأنزل الله - تبارك وتعالى - ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) فأعطاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حقها.

__________________

(1) أنظر: الميزان 19 / 211 ذيل الآية الشريفة.

٢٥٠

قلت: رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أعطاها؟

قال: بل الله - تبارك وتعالى - أعطاها.

وقد تظاهرت الرواية من طرق أصحابنا بذلك، وثبت أنّ ذا القربى: علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام (1) .

فدك في نهج البلاغة:

قال مولى الموحدين أمير المؤمنين في كتابه لعثمان بن حنيف (2) :

«.. بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك، والنفس مظانها في غد جدث، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها، وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر وسدّ فرجها التراب المتراكم، وإنّما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق».

قال ابن أبي الحديد: وهذا الكلام كلام شاكٍ متظلّم (3) .

قوله تعالى: ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) (4) :

عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث: إنّ الله - تبارك وتعالى - لما فتح على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فدك وما والاها، لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فأنزل الله على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(1) البحار 29 / 215 باب جوامع الاحتجاج في أمر فدك.

(2) نهج البلاغة كتاب: 45.

(3) شرح نهج البلاغة 16 / 208.

(4) سورة الاسراء: الآية 26.

٢٥١

( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) ولم يدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من هم، فراجع في ذلك جبرائيل عليه‌السلام ، وراجع جبرائيل ربّه، فأوحى الله: أن إدفع فدك إلى فاطمة عليها‌السلام .

فدعاها رسول الله فقال لها: يا فاطمة إنّ الله أمرني أن أدفع اليك فدك.

فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك... (1) .

وروى الثعلبي في «كشف البيان» وجلال الدين السيوطي في الجزء الرابع من تفسيره عن الحافظ ابن مردويه أحمد بن موسى المفسر المتوفى سنة (352 هـ)، وعن أبي سعيد الحذري، وكذلك روى الحاكم الحسكاني، وابن كثير عماد الله بن إسماعيل بن عمر الدمشقي فقيه الشافعية في تاريخه، والشيخ سليمان القندوزي البلخي الحنفي في الباب «39» من ينابيع المودة عن تفسير الثعلبي، وجمع الفوائد، وعيون الأخبار: أنّه لما نزل قوله: ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة فدك.

فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت تأخذ من غلتها مقدار القوت وتنفق الباقي في سبيل الله بين فقراء بني هاشم وغيرهم.

وفي عيون الأخبار في حديث:.. قول الله ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ) خصوصية خصهم الله العزيز الجبار بها، واصطفاهم على الأمة، فلمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ادعو ليفاطمة.

فدعيت له فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا فاطمة.

قالت: لبيك يا رسول الله.

فقال: هذه فدك هي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وهي لي خصة دون المسلمين، فقد جعلتها لك لما أمرني الله به، فخذيها لك ولولدك (2) .

__________________

(1) تفسير نور الثقلين 4 / 173 ح 158.

(2) تفسير نور الثقلين 4 / 174 ح 156، ولأمير المؤمنين عليه‌السلام احتجاجات كثيرة في قضية فدك فمن شاء فليراجع في الاحتجاج للطبرسي.

٢٥٢

حدود فدك:

في المناقب عن كتاب أخبار الخلفاء: إنّ هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر: حدّ فدكاً حتى أردّها اليك، فيأبى، حتى ألحّ عليه.

فقال عليه‌السلام : لا آخذها إلّا بحدودها.

قال: وما حدودها؟

قال: إنّ حددتها لم تردّها.

قال: بحق جدّك إلّا فعلت.

قال: أما حدّ الأول فعدن.

فتغير وجه الرشيد وقال: إيهاً.

قال: والحد الثاني سمرقند.

فأربد وجهه.

قال: والحدّ الثالث إفريقية.

فاسودّ وجهه وقال: هنيه.

قال: والرابع سيف البحر ما يلي الخزر وأرمينية.

قال الرشيد: فلم يبق لنا شيء، فتحوّل إلى مجلسي.

قال موسى: قد أعلمتك أنّني إن حددتها لم تردّها.

فعند ذلك عزم على قتله.

وفي رواية ابن أسباط أنّه قال:

أما الحدّ الأول فعريش مصر.

والثاني: دومة الجندل.

والثالث: أحد.

والرابع: سيف البحر.

٢٥٣

فقال: هذا كله؟! هذه الدنيا.

فقال عليه‌السلام : هذا كان في أيدي اليهود بعد موت أبي هالة فأفاءه الله على رسوله بلا خيل ولا ركاب فأمره الله أن يدفعه إلى فاطمة عليها‌السلام (1) .

قال المجلسي: هذان التحديدان خلاف المشهور بين اللغويين... ولعل مراده عليه‌السلام أن تلك كلّها في حكم فدك، وكأن الدعوى على جميعها وإنّما ذكروا فدك على المثال أو تغليباً.

عمر يمزق وثيقة فدك:

في الاختصاص (2) عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل: لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجلس أبو بكر مجلسه بعث إلى وكيل فاطمة - صلوات الله عليها - فأخرجه من فدك، فأتته فاطمة عليها‌السلام ، وبعد احتجاجات طويلة قال أبو بكر: صدقت.

قال: فدعا بكتاب فكتبه لها بردّ فدك، فخرجت والكتاب معها، فلقيها عمر فقال: يا بنت محمد ما هذا الكتاب الذي معك؟

فقالت: كتاب كتب لي أبو بكر بردّ فدك.

فقال: هلميه إليّ، فأبت أن تدفعه اليه، فرفسها برجله - وكانت عليها‌السلام حاملة بابن اسمه المحسن - فأسقطت المحسن من بطنها، ثم لطمها، فكأني أنظر إلى قرط في أذنها حين نقفت، ثم أخذ الكتاب خرقه.

فمضت ومكثت خمسة وسبعين يوماً مريضة مما ضربها عمر، ثم قبضت.

فلما حضرتها الوفاة دعت علياً - صلوات الله عليه - فقالت: إما تضمن وإلا أوصيت إلى الزبير.

__________________

(1) بحار الأنوار 29 / 200 - 201 ح 41.

(2) الاختصاص: 183 - 185.

٢٥٤

فقال علي عليه‌السلام : أنا أضمن وصيتك يا بنت محمد.

قالت: سألتك بحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أنا متّ أن لا يشهداني (تعني عليها‌السلام أبا بكر وعمر) ولا يصليا عليّ.

قال: فلك ذلك (1) .

فلما قبضت - صلوات الله عليها - دفنها ليلاً في بيتها، وأصبح أهل المدينة يريدون حضور جنازتها، وأبو بكر وعمر كذلك.

فخرج اليهما علي عليه‌السلام فقالا له: ما فعلت بابنة محمد؟! أخذت في جهازها يا أبا الحسن؟

فقال علي عليه‌السلام : قد والله دفنتها.

قالا: فما حملك على أن دفنتها ولم تعلمنا بموتها؟

قال: هي أمرتني.

فقال عمر: والله لقد هممت بنبشها والصلاة عليها.

فقال علي - صلوات الله عليه -: أما والله مادام قلبي بين جوانحي وذوالفقار في يدي فانك لا تصل إلى نبشها، فأنت أعلم.

فقال أبو بكر: اذهب فانه أحقّ بها منا وانصرف (2) .

موقف القرآن والنبي والأئمة ممن آذى فاطمة عليها‌السلام :

قال الله تبارك وتعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ) (3) .

__________________

(1) أنظر: حلية الاولياء 2 / 43، المستدرك للحاكم 3 / 163، أسد الغابة 5 / 254، الاستيعاب 2 / 751، المقتل للخوارزمي 1 / 83، إرشاد الساري للقسطلاني 6 / 326، الاصابة 4 / 378 - 380، تاريخ الخميس 1 / 313، الامامة والسياسة 1 / 14 وغيرها....

(2) البحار 29 / 192.

(3) سورة الاحزاب: الآية 57.

٢٥٥

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله».

وقالت فاطمة عليها‌السلام : فوالله لقد آذيتماني (1) .

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مخاطباً فاطمة عليها‌السلام : إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك (2) .

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من تأثم أن يلعن من لعنه الله فعليه لعنة الله (3) .

وقال الصادق عليه‌السلام : من شكّ في كفر أعدائنا والظالمين لنا فهو كافر (4) .

وروى الصدوق باسناد معتبر - بشهادة المجلسي - عن ابن عباس قال: إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان جالساً؛ إذ أقبل الحسن عليه‌السلام ، فلما رأه بكى ثم قال: إليّ إليّ يا بني.. ثم أقبل الحسين.. ثم أقبلت فاطمة.. ثم أقبل أمير المؤمنين.. فسأله أصحابه.. فأجابهم فكان مما قاله لهم:

.. وأما ابنتي فاطمة، فانها سيدة نساء العالمين...

إلى أن قال: وإني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بعدي، كأني بها وقد دخل الذل بيتها، وانتهكت حرمتها، وغصب حقها، ومنعت إرثها، وكسر جنبها، وأسقطت جنينها، وهي تنادي، يا محمداه، فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية....

إلى أن قال: ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة....

إلى أن قال: فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم عليّ محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة.

__________________

(1) الامامة والسياسة 1 / 13 - 14.

(2) أنظر: المستدرك للحاكم 3 / 154، تذكرة الخواص: 175، المقتل للخوارزمي 1 / 52، كفاية الطالب: 219، كنز العمال 7 / 111، الصواعق المحرقة: 105.

(3) رجال الكشي: 529 ح 1012.

(4) بحار الانوار 27 / 62.

٢٥٦

يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ذلك: اللهم العن من ظلمها، وعاقب من غصبها، وذلل من أذلّها، وخلّد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها، فتقول الملائكة عند ذلك: آمين (1) .

قال الرضا عليه‌السلام : كمال الدين ولايتنا والبراءة من عدونا (2) .

فاطمة خيرة الله فلماذا ظلموها؟:

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : رأيت مكتوباً على باب الجنة فاطمة خيرة الله (3) .

وصية الصديقة عليها‌السلام :

روي أنّ أبا جعفر عليه‌السلام أخرج سفطاً أو حقّاً، وأخرج منه كتاباً فقرأه، وفيه وصية فاطمة عليها‌السلام :

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصيت به فاطمة بنت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أوصت بحوائطها السبعة إلى علي بن أبي طالب، فان مضى فإلى الحسن، فان مضى فإلى الحسين، فان مضى فإلى الأكابر من ولدي».

شهد المقداد بن الاسود، والزبير بن العوام، وكتب علي بن أبي طالب (4) .

الواقدي: إنّ فاطمة لما حضرتها الوفاة أوصت علياً أن لا يصلي عليها أبو بكر وعمر فعمل بوصيتها.

__________________

(1) فرائد السمطين 2 / 34 - 35، الأمالي للصدوق: 99 - 100، إثبات الهداة 1 / 280 - 281، إرشاد القلوب: 195، بحار الانوار 28 / 37 - 39 و 43 / 172 - 173، العوالم 11 / 391 - 392، المحتضر: 109.

(2) بحار الانوار 27 / 58.

(3) تاريخ بغداد 1 / 259.

(4) البحار 43 / 185 ح 18.

٢٥٧

وأوصت إلى علي بثلاث:

أن يتزوج بابنة أختها أمامة لحبها أولادها.

وأن يتخذ نعشاً لأنّها كانت رأت الملائكة تصوروا صورته، ووصفته له.

وأن لا يشهد أحد جنازتها ممن ظلمها.

وأن لا يترك أن يصلي عليها أحد منهم (1) .

غسلها عليها‌السلام عند الوفاة:

روى أحمد بن حنبل باسناده قال: قالت أم سلمة امرأة أبي رافع: اشتكت فاطمة شكواها التي قبضت فيها، وكنت أمرّضها، فأصبحت يوماً أسكن ما كانت، فخرج علي إلى بعض حوائجه فقالت: اسكبي لي غسلاً، فسكبت، فقامت واغتسلت أحسن ما يكون من الغسل، ثم لبست أثوابها الجدد، ثم قالت: افرشي فراشي وسط البيت، ثم استقبلت القبلة ونامت، وقالت: أنا مقبوضة، وقد اغتسلت فلا يكشفني أحد، ثم وضعت خدّها على يدها وماتت (2) .

وروي: لما حضرتها الوفاة قالت لأسماء: إنّ جبرئيل أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما حضرته الوفاة بكافور من الجنة، فقسمه أثلاثاً: ثلثاً لنفسه، وثلثاً لعلي، وثلثاً لي، وكان أربعين درهماً فقالت: يا أسماء أئتيني ببقية حنوط والدي من موضع كذا وكذا فضعيه عند رأسي، فوضعته، ثم تسجت بثوبها وقالت: انتظريني هنيهة وادعيني فان أجبتك وإلّا فاعلمي أني قد قدمت على أبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فانتظرتها هنيهة ثم نادتها فلم تجبها فنادت: يا بنت محمد ال مصطفى، يا بنت أكرم من حملته النساء، يا بنت خير من وطىء الحصى، يا بنت من كان من ربّه قاب قوسين أو أدنى.

__________________

(1) البحار 43 / 182 ح 16.

(2) البحار 43 / 183.

٢٥٨

قال: فلم تجبها، فكشفت الثوب عن وجهها فاذا بها قد فارقت الدنيا، فوقعت عليها تقبلها وهي تقول: فاطمة إذا قدمت على أبيك رسول الله فاقرئيه عن أسماء بنت عميس السلام.

فبينا هي كذلك إذ دخل الحسن والحسين فقالا: يا أسماء ما ينيم أمنا في هذه الساعة؟

قالت: يا ابني رسول الله ليست أمكما نائمة، قد فارقت الدنيا، فوقع عليها الحسن يقبلها مرة ويقول: يا أماه كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني.

قالت: وأقبل الحسين يقبل رجلها ويقول: يا أماه أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن ينصدع قلبي فأموت.

قالت لهما أسماء: يا ابني رسول الله انطلقا إلى أبيكما علي فأخبراه بموت أمكما، فخرجا حتى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء، فابتدرهما جميع الصحابة فقالوا: ما يبكيكما يا ابني رسول الله، لا أبكى الله أعينكما، لعلكما نظرتما إلى موقف جدّكما فبكيتما شوقاً اليه.

فقالا: لا؛ أو ليس قد ماتت أمنا فاطمة صلوات الله عليها.

قال: فوقع علي عليه‌السلام على وجهه يقول: بمن العزاء يا بنت محمد؟ كنت بك أتعزّى ففيم العزاء من بعدك.

ثم قال:

لكلّ اجتماع من خليلين فرقة

وكلّ الذي دون الفراق قليل

وإنّ افتقادى فاطماً بعد أحمد

دليل على أن لا يدوم خليل (1)

__________________

(1) البحار 43 / 186 - 187.

٢٥٩

أبناء رسول الله يودّعون أمهم:

قال علي عليه‌السلام : والله لقد أخذت في أمرها وغسلتها في قميصها ولم أكشف عنها، فوالله لقد كانت ميمونة طاهرة مطهرة، ثم حنطتها من فضلة حنوط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكفنتها وأدرجتها في أكفانها، فلما هممت أن أعقد الرداء ناديت يا أم كلثوم! يا زينب! يا سكينة! يا فضة! يا حسن! يا حسين! هلموا تزودوا من أمكم، فهذا الفراق واللقاء في الجنة.

فأقبل الحسن والحسين عليه‌السلام وهما يناديان واحسرتا لا تنطفىء أبداً من فقد جدنا محمد المصطفى وأمنا فاطمة الزهراء؛ يا أم الحسن يا أم الحسين إذا لقيت جدنا محمد المصطفى فاقرئيه منا السلام وقولي له: إنّا قد بقينا بعدك يتيمين في دار الدنيا.

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّي أشهد الله أنها قد حنت وأنّت ومدّت يديها وضمتهما إلى صدرها ملياً، وإذا بهاتف من السماء ينادي: يا أبا الحسن إرفعهما عنها فلقد أبكيا - والله - ملائكة السماوات، فقد اشتاق الحبيب إلى المحبوب.

أمير المؤمنين عليه‌السلام يودع فاطمة عليها‌السلام :

عن الحسين بن علي عليه‌السلام قال: لما قبضت فاطمة عليها‌السلام دفنها أمير المؤمنين عليه‌السلام سرّاً، وعفا على موضع قبرها، ثم قام فحوّل وجهه إلى قبر رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم قال:

السلام عليك يا رسول الله عني، والسلام عليك عن ابنتك، وزائرتك، والبائتة في الثرى ببقعتك، والمختار الله لها سرعة اللحاق بك، قلّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري، وعفا عن سيدة نساء العالمين تجلدي؛ إلّا أنّ في التأسي لي بسنتك في فرقتك موضع تعزّ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك، وفاضت نفسك بين نحري وصدري.

بلى؛ وفي كتاب الله لي أنعم القبول ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ) قد استرجعت

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291