الأمثال في القرآن الكريم

الأمثال في القرآن الكريم 20%

الأمثال في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
ISBN: 964-6243-73-8
الصفحات: 291

الأمثال في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 291 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97773 / تحميل: 8220
الحجم الحجم الحجم
الأمثال في القرآن الكريم

الأمثال في القرآن الكريم

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٦٢٤٣-٧٣-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

٤. روى الإمام الصادقعليه‌السلام عن جده أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال لقاض « هل تعرف الناسخ من المنسوخ ؟ » ، قال : لا ، قال : « فهل أشرفت على مراد الله عزّ وجل في أمثال القرآن ؟ » ، قال : لا ، قال : « إذاً هلكت وأهلكت ». والمفتي يحتاج إلى معرفة معاني القرآن وحقائق السنن وبواطن الإشارات والآداب والإجماع والاختلاف والإطّلاع على أُصول ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه ، ثم حسن الاختيار ، ثم العمل الصالح ، ثم الحكمة ، ثم التقوى ، ثم حينئذٍ إن قدر.(١)

٥. قال أمير المؤمنين علىعليه‌السلام : « سمّوهم بأحسن أمثال القرآن ، يعنى : عترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا عذب فرات فاشربوا ، وهذا ملح أجاج فاجتنبوا ».(٢)

٦. وقال علي بن الحسينعليهما‌السلام في دعائه عند ختم القرآن :

« اللّهمّ انّك أعنتني على ختم كتابك الذي أنزلته نوراً وجعلته مهيمناً على كل كتاب أنزلته ـ إلى أن قال : ـ اللّهم اجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنساً ، ومن نزعات الشيطان وخطرات الوساوس حارساً ، ولأقْدامِنا عن نقلها إلى المعاصي حابساً ، ولألسنتنا عن الخوض في الباطل من غير ما آفة مخرساً ، ولجوارحنا عن اقتراف الآثام زاجراً ، ولما طوت الغفلة عنّا من تصفح الاعتبار ناشراً ، حتى توصل إلى قلوبنا فهم عجائبه وزواجر أمثاله التي ضعفت الجبال الرواسي على صلابتها عن احتماله ».(٣)

٧. وقال علي بن الحسينعليهما‌السلام في مواعظه : « فاتّقوا الله عباد الله ، واعلموا أنّ الله عزّ وجلّ لم يحب زهرة الدنيا وعاجلها لأحد من أوليائه ولم يرغّبهم فيها وفي عاجل زهرتها وظاهر بهجتها ، وإنّما خلق الدُّنيا وخلق أهلها ليبلوهم فيها أيّهم

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ٢ / ١٢١ ح٣٤ ، باب النهى عن القول بغير علم من كتاب العلم.

٢ ـ بحار الأنوار : ٩٢ / ١١٦ ، الباب ١٢ من كتاب القرآن.

٣ ـ الصحيفة السجادية : من دعائه ٧ عند ختم القرآن.

٢١

أحسن عملاً لآخرته ، وأيم الله لقد ضرب لكم فيه الأمثال وصرّف الآيات لقوم يعقلون ولا قوّة إلاّ بالله ».(١)

٨. وقال الإمام الباقرعليه‌السلام لاَخيه زيد بن علي : « هل تعرف يا أخى من نفسك شيئاً مما نسبتها إليه فتجيئ عليه بشاهد من كتاب الله ، أو حجّة من رسول الله ، أو تضرب به مثلاً ، فانّ الله عز وجلّ أحلَّ حلالاً وحرّم حراماً ، فرض فرائض ، وضرب أمثالاً ، وسنَّ سنناً ».(٢)

٩. روي الكليني عن إسحاق بن جرير ، قال : سألتني امرأة أن استأذن لها على أبي عبد اللهعليه‌السلام فأذن لها ، فدخلت ومعها مولاة لها ، فقالت : يا أبا عبد الله قول الله عزّ وجلّ :( زَيتُونةٍ لا شَرْقيةٍ وَلا غَرْبية ) (٣) ما عني بهذا ؟ فقال : « أيّتها المرأة إنّ الله لم يضرب الأمثال للشجر إنّما ضرب الأمثال لبني آدم ».(٤)

١٠. روى داود بن كثير عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنّه قال : « يا داود إنّ الله خلقنا فأكرم خلقنا وفضلنا وجعلنا أُمناءه وحفظته وخزّانه على ما في السماوات وما في الأرض ، وجعل لنا أضداداً وأعداءً ، فسمّـانا في كتابه وكنّى عن أسمائنا بأحسن الأسماء وأحبها إليه ، وسمّى أضدادنا وأعداءنا في كتابه وكنّى عن أسمائهم وضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه ».(٥)

هذه عشرة كاملة من كلمات أئمّتنا المعصومين حول أمثال القرآن.

__________________

١ ـ الكافي : ٨ / ٧٥.

٢ ـ بحار الأنوار : ٤٦ / ٢٠٤ ، الباب ١١.

٣ ـ النور : ٣٥.

٤ ـ الكافي : ٥ / ٥٥١ ، الحديث ٢ ، باب السحق من كتاب النكاح.

٥ ـ البحار : ٢٤ / ٣٠٣ ، الحديث ١٤.

٢٢

وقد حازت الأمثال القرآنية على اهتمام المفكرين ، فذكروا حولها كلمات تعرب عن أهمية الأمثال ومكانتها في القرآن :

١. قال حمزة بن الحسن الاصبهاني ( المتوفّى عام ٣٥١ هـ ) : لضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء النظائر ، شأن ليس بالخفي في إبراز خفيّات الدقائق ورفع الأستار عن الحقائق ، تريك المتخيَّل في صورة المتحقق ، والمتوهَّم في معرض المتيقن ، والغائب كأنّه مشاهد ، وفي ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة ، وقمع لسورة الجامح الأبيّ ، فإنّه يؤثر في القلوب ما لا يؤثّر وصف الشيء في نفسه ولذلك أكثر الله تعالى في كتابه وفي سائر كتبه الأمثال ، ومن سور الإنجيل سورة تسمّى سورة الأمثال وفشت في كلام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكلام الأنبياء والحكماء.(١)

٢. قال الإمام أبو الحسن الماوردي ( المتوفّى عام ٤٥٠ هـ ) : من أعظم علم القرآن علم أمثاله ، والنّاس في غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال ، وإغفالهم الممثَّلات ، والمثل بلا ممثَّل كالفرس بلا لجام والناقة بلا زمام.(٢)

٣. قال الزمخشري ( المتوفّى عام ٥٣٨ هـ ) في تفسير قوله سبحانه :( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ) (٣) : وضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر ، إلى آخر ما نقلناه عن الاصبهاني.(٤)

٤. وقال الرازي ( المتوفّى عام ٦٠٦ هـ ) : « إن المقصود من ضرب الأمثال انّها

__________________

١ ـ الدرّة الفاخرة في الأمثال السائرة : ١ / ٥٩ ـ ٦٠ والعجب أن هذا النص برمّته موجود في الكشّاف في تفسير قوله سبحانه :( فَما رَبِحَتْ تِجارتهم وَما كانُوا مُهْتَدين مَثَلُهُمْ كَمَثل الَّذي استَوقَدَ ناراً ) ( انظر الكشّاف : ١ / ١٤٩ ).

٢ ـ الإتقان في علوم القرآن : ٢ / ١٠٤١.

٣ ـ البقرة : ١٧.

٤ ـ الكشّاف : ١ / ٧٢.

٢٣

تؤثر في القلوب ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه ، وذلك لأنّ الغرض في المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والغائب بالشاهد ، فيتأكد الوقوف على ماهيته ، ويصير الحس مطابقاً للعقل ، وذلك في نهاية الإيضاح ، ألا ترى أنّ الترغيب إذا وقع في الإيمان مجرّداً عن ضرب مثل له لم يتأكد وقوعه في القلب كما يتأكد وقوعه إذا مُثّل بالنور ، وإذا زهد في الكفر بمجرّد الذكر لم يتأكد قبحه في العقول ، كما يتأكد إذا مثل بالظلمة ، وإذا أخبر بضعف أمر من الأمور وضرب مثله بنسج العنكبوت كان ذلك أبلغ في تقرير صورته من الاِخبار بضعفه مجرّداً ، ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين ، وفي سائر كتبه أمثاله ، قال تعالى :( وَتِلْكَ الأمْثال نَضْرِبها لِلنّاس ) (١) .(٢)

٥. وقال الشيخ عزالدين عبدالسلام ( المتوفّى عام ٦٦٠ هـ ) : إنّما ضرب الله الأمثال في القرآن ، تذكيراً ووعظاً ، فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب ، أو على إحباط عمل ، أو على مدح أو ذم أو نحوه ، فإنّه يدل على الاحكام.(٣)

٦. وقال الزركشي ( المتوفّى عام ٧٩٤ هـ ) : وفي ضرب الأمثال من تقرير المقصود ما لا يخفى ، إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي ، والشاهد بالغائب ، فالمرغب في الإيمان مثلاً ، إذا مثّل له بالنور تأكّد في قلبه المقصود ، والمزهَّد في الكفر إذا مثل له بالظلمة تأكد قبحه في نفسه وفيه أيضاً تبكيت الخصم ، وقد أكثر الله تعالى في القرآن ، وفي سائر كتبه من الأمثال.(٤)

لكن يرد على ما ذكره الزمخشري والرازي والزركشي أنّ ما ذكروه راجع إلى

__________________

١ ـ العنكبوت : ٤٣.

٢ ـ مفاتيح الغيب : ٢ / ٧٢ ـ ٧٣.

٣ ـ الإتقان في علوم القرآن : ٢ / ١٠٤١.

٤ ـ البرهان في علوم القرآن : ١ / ٤٨٨.

٢٤

نفس الأمثال لا إلى الضرب بها ، فانّ الأمثال شيء وضرب الأمثال شيء آخر ، لأنّ إبراز المتخيل بصورة المحقّق ، والمتوهم في معرض المتيقن ، ليس من مهمة ضرب الأمثال ، وإنّما هي مهمة نفس الأمثال ، « وذلك أنّ المعاني الكلية تعرض للذهن مجملة مبهمة ، فيصعب عليه أن يحيط بها وينفذ فيها فيستخرج سرّها ، والمثل هو الذي يفصّل إجمالها ، ويوضّح إبهامها ، فهو ميزان البلاغة وقسطاسها ومشكاة الهداية ونبراسها ».(١)

السابع : الكتب المؤلفة في الأمثال القرآنية

ولأجل هذه الاَهمية التي حازتها الأمثال القرآنية ، قام غير واحد من علماء الإسلام القدامى منهم والجدد ، بتأليف رسائل وكتب حول الأمثال القرآنية نذكر منها ما وقفنا عليه.

١. « أمثال القرآن » للجنيد بن محمد القواريري ( المتوفّى سنة ٢٩٨ هـ ).

٢. « أمثال القرآن » لاِبراهيم بن محمد بن عرفة بن مغيرة المعروف بنفطويه ( المتوفّـى سنة ٣٢٣ هـ ).

٣. « الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة » لحمزة بن الحسن الاصبهاني ( المتوفّـى ٣٥١ هـ ).

٤. « أمثال القرآن » لأبي على محمد بن أحمد بن الجنيد الاسكافي ( المتوفّى عام ٣٨١ هـ ).

٥. « أمثال القرآن » للشيخ أبي عبد الرحمن محمد بن حسين السلمي النيسابوري ( المتوفّـى عام ٤١٢ هـ ).

__________________

١ ـ تفسير المنار : ١٢٣٧.

٢٥

٦. « الأمثال القرآنية » للاِمام أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي الشافعي ( المتوفّـى سنة ٤٥٠ هـ ).

٧. « أمثال القرآن » للشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ( المتوفّـى سنة ٧٥٤ هـ ). وقد طبعت مؤخّراً.

٨. « الأمثال القرآنية » لعبد الرحمن حسن حنبكة الميداني.

٩. « أمثال القرآن » للمولى أحمد بن عبد الله الكوزكناني التبريزي ( المتوفّـى عام ١٣٢٧ هـ ). المطبوعة على الحجر في تبريز عام ١٣٢٤ هـ.

١٠. « أمثال القرآن » للدكتور محمود بن الشريف.

١١. « الأمثال في القرآن الكريم » للدكتور محمد جابر الفياضي. وقد طبعت مؤخّراً.

١٢. « الصورة الفنية في المثل القرآني » للدكتور محمد حسين علي الصغير. وقد طبعت مؤخّراً.

١٣. « أمثال قرآن » ( بالفارسية ) لعلي أصغر حكمت. وقد طبعت مؤخّراً.

١٤. « تفسير أمثال القرآن » ( بالفارسية ) للدكتور إسماعيل إسماعيلي. وقد طبعت مؤخّراً.

الثامن : تقسيم الأمثال القرآنية إلى الصريح والكامن

ذكر بدر الدين الزركشي ان الأمثال على قسمين : ظاهر وهو المصرّح به ، وكامن وهو الذي لا ذكر للمثل فيه وحكمه حكم الأمثال.(١)

وقد نقل السيوطي ذلك النص بنفسه وحاول تفسير المثل الكامن ، وقال ما

__________________

١ ـ البرهان في علوم القرآن : ١ / ٥٧١.

٢٦

هذا نصّه : فمن أمثلة الأوّل ، قوله تعالى :( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذي اسْتَوقَدَ ناراً ...) (١) ضرب فيها للمنافقين مثلين : مثلاً بالنار ومثلاً بالمطر ـ ثمّ قال ـ : وأما الكامنة : فقال الماوردي : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم ، يقول : سمعت أبي يقول : سألت الحسين بن فضل ، فقلت : إنّك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن ، فهل تجد في كتاب الله : « خير الأمور أوسطها » ؟ قال : نعم في أربعة مواضع :

قوله تعالى :( لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ ) .(٢)

وقوله تعالى :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لم يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُروا وكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوا ماً ) .(٣)

وقوله تعالى :( وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) .(٤)

وقوله تعالى :( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبيلاً ) .(٥)

قلت : فهل تجد في كتاب الله « من جهل شيئاً عاداه » ؟ قال : نعم ، في موضعين :

( بَل كَذّبُوا بما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ) .(٦)

__________________

١ ـ البقرة : ١٧ ـ ٢٠.

٢ ـ البقرة : ٦٨.

٣ ـ الفرقان : ٦٧.

٤ ـ الإسراء : ٢٩.

٥ ـ الإسراء : ١١٠.

٦ ـ يونس : ٣٩.

٢٧

( وَإِذ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَديم ) .(١)

قلت : فهل تجد في كتاب الله « احذر شر من أحسنت إليه » ؟ قال : نعم.

( وما نَقمُوا إلاّ أن أغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ) .(٢)

قلت : فهل تجد في كتاب الله « ليس الخبر كالعيان » ؟ قال : في قوله تعالى :( قالَ أَوَ لَمْ تُوَْمِن قال بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبي ) .(٣)

قلت : فهل تجد « في الحركات البركات » ؟ قال : في قوله تعالى :( وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبيلِ اللهِ يَجِدْ في الأرْضِ مُراغَماً كَثيراً وَسَعَة ) .(٤)

قلت : فهل تجد « كما تدين تدان » ؟ قال : في قوله تعالى :( مَنْ يعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه ) .(٥)

قلت : فهل تجد فيه قولهم « حين تَقْلي تدري » ؟ قال :( وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حينَ يَرَونَ العَذابَ مَن أَضلُّ سَبِيلاً ) .(٦)

قلت : فهل تجد فيه : « لا يُلدغ المؤمن من جحر مرّتين » ؟ قال :( هَلْ آمنُكُمْ عَليهِ إلا كَما أَمِنتُكُمْ عَلى أَخيهِ مِنْ قَبْلُ ) .(٧)

قلت : فهل تجد فيه « من أعان ظالماً سُلّط عليه » ؟ قال :( كَتَبَ عَليهِ أنَّهُ مَنْ

__________________

١ ـ الأحقاف : ١١.

٢ ـ التوبة : ٧٤.

٣ ـ البقرة : ٢٦٠.

٤ ـ النساء : ١٠٠.

٥ ـ النساء : ١٢٣.

٦ ـ الفرقان : ٤٢.

٧ ـ يوسف : ٦٤.

٢٨

تَوَلاّهُ فَأنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعير ) .(١)

قلت : فهل تجد فيه قولهم : « ولا تلد الحية إلا حيّة » ؟ قال : قوله تعالى :( وَلا يَلِدُوا إلا ف اجِراً كَفّاراً ) .(٢)

قلت : فهل تجد فيه : « للحيطان آذان » ؟ قال :( وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ ) .(٣)

قلت : فهل تجد فيه : « الجاهل مرزوق والعالم محروم » ؟ قال :( مَنْ كانَ فِي الضَّلالةِ فلَيَمْدُد لَهُ الرَّحْمنُ مَدّاً ) .(٤)

قلت : فهل تجد فيه : « الحلال لا يأتيك إلا قوتاً ، والحرام لا يأتيك إلا جزافاً » ؟ قال :( إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَومَ سَبْتِهِمْ شُرّعاً وَيَومَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهم ) (٥) .(٦)

وقد أخذ عليه « بأنّه لو حققْتَ النظر فيما أورده الماوردي ، لما وجدت مثلاً قرآنياً واحداً بالمعنى الذي يراد التعبير عنه بأنّه مثل كامن ، على أنّ الماوردي لم ينقل عن الحسين بن الفضل بأنّ متخيّره هذا مثل كامن ، ولاسمَّى الماوردي ذلك به ، وإنّما أورد رواية للمقارنة بما يمكن أن يعد أمثالاً من كلام العرب والعجم ، ووضع قائمة مختارة ازاءه من كتاب الله بما يبذّ كلامهم ويعلو على أمثالهم.

فالتسمية إذن اختارها السيوطي متابعاً فيها الزركشي. وطبّق عليها هذه

__________________

١ ـ الحج : ٤.

٢ ـ نوح : ٢٧.

٣ ـ التوبة : ٤٧.

٤ ـ مريم : ٧٥.

٥ ـ الأعراف : ١٦٣.

٦ ـ الإتقان في علوم القرآن : ٢ / ١٠٤٥ ـ ١٠٤٦.

٢٩

الأمثلة. فهي فيما عنده أمثال كامنة ولكنّه من الواضح أن هذه العبارات القرآنية لا تدخل في باب الأمثال ، فإن اشتمال العبارة على معنى ورد في مثل من الأمثال ، لا يكفي لإطلاق لفظ المثل على تلك العبارة ، فالصيغة الموروثة ركن أساس في المثل ، لذلك نرى أنّ اصطلاح العلماء على تسمية هذه العبارات القرآنية ( أمثالاً كامنة ) محاولة لا تستند على دليل نصّي ولا تاريخي.(١)

تفسير آخر للمثل الكامن :

ويمكن تفسير المثل الكامن بالتمثيلات التي وردت في الذكر الحكيم من دون أن يقترن بكلمة « مثل » أو « كاف » التشبيه ، ولكنّه في الواقع تمثيل رائع لحقيقة عقلية بعيدة عن الحسن المجسّد بما في التمثيل من الأمر المحسوس ، ومن هذا الباب قوله سبحانه :

١.( أَفَمَنْ أسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيرٌ أَمْ مَن أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بهِ في نارِ جَهَنَّم وَاللهُ لا يَهْدي القَوم الظّالِمين ) .(٢)

إنّه سبحانه شبَّه بنيانهم على نار جهنم بالبناء على جانب نهر هذا صفته ، فكما أنّ من بنى على جانب هذا النهر فإنّه ينهار بناءه في الماء ولا يثبت ، فكذلك بناء هؤلاء ينهار ويسقط في نار جهنم ، فالآية تدلّ على أنّه لا يستوي عمل المتقي وعمل المنافق ، فإنّ عمل المؤمن المتقي ثابت مستقيم مبني على أصل صحيح ثابت ، وعمل المنافق ليس بثابت وهو واهٍ ساقط.(٣)

____________

١ ـ الصورة الفنية في المثل القرآني : ١١٨ ، نقلاً عن كتاب « الأمثال في النثر العربي القديم ».

٢ ـ التوبة : ١٠٩.

٣ ـ مجمع البيان : ٣ ٧٣.

٣٠

٢.( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَروا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدخُلُونَ الجنَّةَ حتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِين ) .(١)

كانت العرب تمثّل للشيء البعيد المنال ، بقولهم : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ، وحتى يَبْيَضَّ القار ، إلى غير ذلك من الأمثال.

يقول الشاعر :

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

ولكنّه سبحانه مثّل لاستحالة دخول الكافر الجنّة بأنّهم يدخلون لو دخل الجمل في ثقب الاِبرة ، وقال : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ، معبراً عن كونهم لا يدخلون الجنة أبداً.

ففي الآية تمثيل وليس لها من لفظ المثل وحرف التشبيه أثر.

٣.( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإذْنِ رَبّهِ وَالّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُون ) .(٢)

إنّ هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر فأخبر بأنّ الأرض كلّها جنس واحد ، إلا أنّ منها طيّبة تلين بالمطر ، ويحسن نباتها ويكثر ريعها ، ومنها سبخة لا تنبت شيئاً ، فإن أنبتت فممّـا لا منفعة فيه ، وكذلك القلوب كلّها لحم ودم ثمّ منها ليّن يقبل الوعظ ومنها قاسٍ جافٍ لا يقبل الوعظ ، فليشكر الله تعالى من لانَ قلبه بذكره.(٣)

__________________

١ ـ الأعراف : ٤٠.

٢ ـ الأعراف : ٥٨.

٣ ـ مجمع البيان : ٢ / ٤٣٢.

٣١

وفي ذيل الآية( كَذلِكَ نُصَرّفُ الآيات ) إلمام إلى كونه تمثيلاً ، كما في الآية التالية.

٤. قال سبحانه :( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلّ الثَّمراتِ وَأَصابَهُ الكِبَر وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعفاءُ فَأَصابَها إعصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون ) .(١)

أخرج البخاري عن ابن عباس ، قال : قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فيمن ترون هذه الآية نزلت( أَيَوَدُّ أَحدكُمْ أَنْ تَكُون لَهُ جَنَّة مِنْ نَخيل وَأَعْناب ) ؟

قالوا : الله أعلم ، فغضب عمر ، وقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء ، فقال : يابن أخي : قل ولا تحقِّر نفسك ، قال ابن عباس : ضربت مثلاً لعملٍ ، قال عمر : أي عمل ؟ قال ابن عباس : لرجل غني عمل بطاعة الله ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.(٢)

وحصيلة البحث : إنّ التمثيل الوارد في القرآن الكريم ، تارة يقترن بكلمة المثل ، وأخرى يقترن به مع لفظ الضرب حيث اختار سبحانه مادة الضرب لقسم كبير من أمثال القرآن ، وثالثة بحرف كاف التشبيه ، ورابعة بذكر مادة المثل بدون اقتران بواحد منهما مثل قوله :( وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يخْرجُ نَباتهُ بِإذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لا يَخرجُ إلا نَكِداً ) .(٣)

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٦.

٢ ـ صحيح البخاري : التفسير : تفسير سورة البقرة ، باب قوله :( أيودّ أحدكم ) رقم ٤٢٦٤.

٣ ـ الأعراف : ٥٨.

٣٢

التاسع : ما هو المراد من ضرب المثل ؟

قد استعمل الذكر الحكيم كلاً من لفظي « المَثَل » و « المِثْل » في غير واحد من سوره وآياته حتى ناهز استعمالهما ثمانين مرة ، إلاّ أنّ الثاني يزيد على الأوّل بواحد. والأمثال جمع لكليهما ويميّزان بالقرائن قال سبحانه :( إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) (١) وهو في المقام ، جمع المِثْل لشهادة أنّه يحكم على آلهتهم بأنّها مثلهم في الحاجة والاِمكان.

وقال سبحانه :( تِلْكَ الأمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لعلّهُمْ يَتفَكَّرُون ) .(٢)

فاقتران الأمثال بلفظ الضرب ، دليل على أنّه جمع مَثَل. إلاّ أنّ المهم هو دراسة معنى « الضرب » في هذا المورد ونظائره ، فكثيراً ما يقارن لفظ المثل لفظ الضرب ، يقول سبحانه :( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً ) .(٣) وقال سبحانه :( وَلَقَدْ ضَرَبْنا للنّاسِ في هذا القُرآن مِنْ كُلّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرون ) .(٤)

وقد اختلفت كلمتهم في تفسير لفظ « الضرب » في هذا المقام ، بعد اتّفاقهم على أنّه في اللغة بمعنى إيقاع شيء على شيء ، ويتعدّى باليد أو بالعصى أو بغيرهما من آلات الضرب ، قال سبحانه :( أَنِ اضْرِب بِعَصاكَ الْحَجَر ) (٥) وقد ذكروا وجوهاً :

الأوّل : إنّ الضرب في هذه الموارد بمعنى المَثَل ، والمرا د هو التَمثيل ، وهو

__________________

١ ـ الأعراف : ١٩٤.

٢ ـ الحشر : ٢١.

٣ ـ إبراهيم : ٢٤.

٤ ـ الزمر : ٢٧.

٥ ـ الأعراف : ١٦٠.

٣٣

خيرة ابن منظور واستشهد بقوله :( واضْربْ لَهُمْ مَثَلاً أَصحابَ القَرْيَةِ إذْ جاءَها الْمُرسَلُون ) (١) أي مثّل لهم مثلاً وهو حال أصحاب القرية ، وقال :( يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالباطِل ) (٢) أي يمثل الله الحقّ والباطل.(٣) وهذا خيرة صاحب القاموس أيضاً.

الثاني : إنّ الضرب بمعنى الوصف والبيان ، وقد حُكي عن مقاتل بن سليمان ، وفسر به قوله سبحانه :( وضَرَبَ الله مَثلاً عَبداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلى شَيء ) .(٤)

واستشهد بقول الكميت :

وذلك ضرب أخماس أريدت

لأسداس عسى أن لا تكونا(٥)

الثالث : إنّ الضرب بمعنى الاعتماد والتثبيت ، وهو خيرة الشيخ الطوسي(٦) ( ٣٨٥ ـ ٤٦٠ هـ ) ، والزمخشري ،(٧) والآلوسي ،(٨) ( المتوفّى عام ٠٧٢١ ) فقد فسّروا به قوله سبحانه :( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) .(٩)

الرابع : إن الضرب في المقام من باب الضرب في الأرض وقطع المسير ،

__________________

١ ـ يس : ١٣

٢ ـ الرعد : ١٧.

٣ ـ لسان العرب : ٢ / ٣٧ ، مادة ضرب.

٤ ـ النحل : ٧٥.

٥ ـ تفسير الطبري : ١ / ١٧٥.

٦ ـ التبيان في تفسير القرآن : ٧ / ٣٠٢.

٧ ـ الكشّاف : ٢ / ٥٥٣.

٨ ـ روح المعاني : ١ / ٢٠٦.

٩ ـ الحج : ٧٣.

٣٤

وضرب المثل عبارة عن جعله سائراً في البلاد كقولك : ضرب في الأرض إذا صار فيها ، ومنه سُمِّيَ الضارب مضارباً.(١)

فإذا كان الضرب بمعنى قطع الأرض وطيّها ، فضرب المثل عبارة عن جعله شيئاً سائراً بين الأقوام والشعوب يمشي ويسير حتى يستوعب القلوب.

وفي المقام كلمة لابن قيم ، يوضّح فيها أكثر هذه الاحتمالات :

ضرب الله سبحانه لعباده ، الأمثال ، وضرب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لاَُمّته الأمثال ، وضرب الحكماء والعلماء والمؤدّبون الأمثال ، فما معنى ضرب المثل ؟

قد يكون مشتقّاً من قولك ( ضرب في الأرض ) أي سار فيها.

فمعنى ضرب المثل جعله ينتشر ويذيع ويسير في البلاد. وإلى هذا ذهب أبو هلال في مقدمة كتابه.(٢)

وقد يكون معنى « ضرب المثل » نصبه للناس بإشهاره لتستدلّ عليه خواطرهم كما تستدلّ عيونهم على الأشياء المنصوبة. واشتقاقه حينئذٍ من قولهم : ( ضربت الخباء ) إذا نصبته.

وقوله تعالى :( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالباطل ) (٣) أي ينصب منارهما ويوضح أعلامهما ليعرف المكلّفون الحق بعلاماته فيقصدوه ، ويعرفون الباطل فيجتنبوه ، كما قال الشريف الرضيّ ( ٣٥٩ ـ ٤٠٦ هـ ) في كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن » :

__________________

١ ـ الحكم والأمثال : ٧٩.

٢ ـ انظر مقدمة كتاب جمهرة الأمثال.

٣ ـ الرعد : ١٧.

٣٥

وقد يفهم من ضرب المثل صنعه وإنشاؤه ، فيكون مشتقّاً من ضرب اللّبْنِ وضرب الخاتم.

أو قد يكون من الضرب بمعنى : إبقاء شيء على شيء.(١)

ومنه ضرب الدراهم : أي إيقاع النموذج الذي به الصّكُ على الدراهم لتنطبع به ، فكأنّ المثل مطابق للحالة ، أي للصفة التي جاء لإيضاحها ، وخلاصة القول : ضرب المثل مأخوذ : إمّا من :

١. ضرَب في الأرض بمعنى : سار.

٢. ضربه : نصبه للناس وأشهره.

٣. ضرب : صنع وأنشأ.

٤. ضرب : إبقاء شيء على مثال شيء.(٢)

وبذلك يُعلم تفسير قوله سبحانه :( ...وَقالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انْظُر كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) .(٣)

نرى أنّ المشركين وصفوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بكونه رجلاً مسحوراً ، فيردّ عليه سبحانه باستنكار ويقول :( انظر ـ أيّها النبي ـكيف ضربوا لك الأمثال ) أي كيف وصفوك بأنّك مسحور مع أنّ سيرتك تشهد على خلاف ذلك ، وما تتلو من الآيات كلامه سبحانه لا صلة له بالسحر وإنّ ما يجدونه خلاَّباً للعقول وآخذاً بمجامع القلوب فإنّه هو لأجل عذوبته وجماله وإعجازه الخارق وأين هو من السحر ؟!

__________________

١ ـ تلخيص البيان في مجازات القرآن : ١٠٧.

٢ ـ الأمثال في القرآن الكريم : ٢٠ ـ ٢١.

٣ ـ الفرقان : ٨ ـ ٩.

٣٦

وعلى ذلك فالمعنى المناسب لتفسير الآية ، هو تفسير الضرب بالوصف ، وقد تقدّم أنّ الوصف أحد معانيه ، وأقرّ به ابن منظور : أن انظر كيف وصفوك بكونك مسحوراً.

وأمّا تفسيره بالتمثيل بأن يقال : انظر كيف مثّلوا لك المثال أو التمثيل ، فغير تام ، لأنّ وصف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بكونه « مسحوراً » ، لا مثَل سائر ، ولا تمثيل قياسي.

ونظيره تفسيره بقطع الأرض ، لأنّ المشركين ما وصفوه به ليشهّروه حتى يصير قولهم « سيراً في الأرض ».

العاشر : الأمثال القرآنية وانسجامها مع البيئة

لا شكّ أنّ كلّ خطيب يتأثر بالظروف التي يعيش فيها ، وبسهولة يمكن فرز كلام المدني عن القروي ، وكلامهما عن كلام البدوي ، وما ذاك إلاّ لأنّ البيئة تُعدّ أحد الأضلاع الثلاثة التي تُكوّن شخصية الإنسان ، ومن هذا الجانب أصبح بإمكان المحقّق الخبير بالتاريخ أن يميز الشعر الجاهلي عن الشعر في العصر الاِسلامي ، والشعر في العصر الأموي عن الشعر في العصر العباسي ، وما هذا إلاّ نتيجة انعكاسات البيئة على التراث الاَدبي ، ولكن القرآن بما أنّه كلامه سبحانه قد تنزّه عن هذه الوصمة ، لأنّ الله سبحانه خالق كلّ شيء فهو منزَّه من أن يتأثر بشيء سواه.

ومع ذلك كلّه نزلت الأمثال القرآنية لهداية الناس ولذلك رُوعيَ فيها الغايات التي نزلت لأجلها ، فنجد ان الطابع المكي يعلو هامة الأمثال المكية ، والطابع المدني يعلو هامة الأمثال المدنية.

أمّا الأمثال المكية ، فكانت دائرة مدار معالجة الأدواء التي ابتلي بها

٣٧

المجتمع المكى لا سيما وانّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يجادل المشركين ويسفّه أحلامهم ويدعوهم إلى الإيمان بالله وحده ، وترك عبادة غيره ، والإيمان باليوم الآخر ، ففي خِضمّ هذا الصراع يأتي القرآن بأروع مثل ويشبّه آلهتهم المزعومة التي تمسّكوا بأهدابها ببيت العنكبوت الذي لا يظهر أدنى مقاومة أمام النسيم الهادئ ، وقطرات المطر ، وهبوب الرياح.

يقول سبحانه :( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولياء كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيتاً وإِنَّ أَوهَنَ الْبُيُوتِ لَبيتُ العَنْكَبُوتِ لو كانُوا يَعْلَمون ) .(١)

فقد شبّه آلهتهم التي اتخذوها حصوناً منيعة لأنفسهم بخيوط العنكبوت ، وبذلك صغّرهم وذلّلهم.

كما أنّه سبحانه في آية أخرى شبّه آلهتهم بالذباب ، وقال :( يا أَيُّهَا النّاس ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا له إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ولَوِ اجْتَمَعوا لَهُ وإن يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوب ) .(٢)

فقد كانت قريش تعبد ٣٦٠ إلهاً يطلونها بالزعفران فيجفّ ، فيأتى الذباب فيختلسه فلا يقدرون عن الدفاع عن أنفسهم ، ففي هذا الصدد ، قال سبحانه :( ضعف الطالب والمطلوب ) أي الذباب والمدعوّ.

فأي مثل أقرع من تشبيه آلهتهم بهذه الحشرة الحقيرة.ولقد مضى على الناس منذ ضرب لهم كتاب الإسلام هذا المثل أربعة عشر قرناً ، وما يزال المثل القرآني يتحدَّى كل جبروت الغزاة وعبقرية العلماء ، وما يزال على الذين غرّهم الغرور بما حقّق إنسان العصر الحديث من معجزات العلم ، أن ينسخوا ذلك ، بأن يجتمعوا

__________________

١ ـ العنكبوت : ٤١.

٢ ـ الحج : ٧٣.

٣٨

فيخلقوا ذباباً ، أو يستنقذوا شيئاً سلبتهم إيّاه هذه الحشرة الضئيلة التي تقتلها ذرّة من هواء مشبع بمُبيد الحشرات ، وتستطيع مع ذلك أن تسلب مخترع المبيد حياته ، بلمسة هيّنة خاطفة تحمل إليه جرثومة داء مميت.(١)

هذا في مجال الردِّ على عبادتهم للاَوثان والأصنام ، أمّا في مجال ركونهم إلى الدنيا والاِعراض عن الآخرة ، يستعرض مثلاً يشير فيه إلى أنّ الدنيا ظل زائل وليست خالدة ، قال سبحانه :( إِنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرض مِمّا يَأكُلُ النّاسُ وَالأنْعامُ حَتّى إذا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَها وَ ازّيّنَتْ وَظَنّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَليها أَتاها أَمْرُنا لَيلاً أو نَهاراً فَجَعَلْناها حَصيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفكَّرُون ) .(٢)

هذا بعض ما يمكن أن يقال حول الأمثال التي نزلت في مكة.

وأمّا الأمثال التي نزلت في المدينة ، فقد نجد فيها الطابع المدني لأجل انّها بصدد علاج الأدواء التي ابتلي بها المجتمع يومذاك وهي الأدواء الخلقية مكان الشرك والوثنية ، أو مكان إنكار الحياة الأخروية ، فلذلك ركّز الوحي على معالجة هذا النوع من الأدواء بالتمثيلات التي سنشير إليها.

فقد كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في مهجره مبتلياً بالمنافقين الذين كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام بغية الاِطاحة بالحكومة الإسلامية الفتيّة ، وفي هذا الصدد نرى أنّ الأمثال المدنية تطرّقت في آيات كثيرة إلى المنافقين وبيّنت خطورة موقفهم على الإسلام والمسلمين ، فتارة يضرب الله سبحانه لهم مثلاً بالنار وأخرى بالمطر ، يقول سبحانه :( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ

__________________

١ ـ الصورة الفنية في المثل القرآني : ٩٩ ، نقلاً عن كتاب « القرآن وقضايا الإنسان » لبنت الشاطئ.

٢ ـ يونس : ٢٤.

٣٩

ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلماتٍ لا يُبْصِرُون * صُمّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون * أَوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوتِ وَاللهُ مُحيطٌ بِالكافِرين ) .(١)

كان المجتمع المدني يضمُّ في طيّاته طوائف ثلاث من اليهود وهم : بنو قينُقاع ، وبنو النضير ، وبنو قُريظة ؛ وقد جبلوا على المكر والحيلة والغدر ، وكانوا يقرأون سمات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في توراتهم ، ويمرّون عليها مرار الأمي الذي لا يجيد القراءة والكتابة ، وهذه السمة أدت إلى أن يشبّههم سبحانه بالحمار الذي يحمل أسفاراً قيّمة دون أن يستفيدوا منها شيئاًً ، يقول سبحانه :( مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُوا التَّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَومَ الظالِمين ) .(٢)

وأمّا المسلمون الذين عاصروا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فكانوا بحاجة إلى هداية إلهية تصلح أخلاقهم ، فقد كان البعض منهم ينفقون أموالهم رئاءً دون ابتغاء مرضاة الله ، أو ينفقونها بالمنّ والأذى ، فنزل الوحي الإلهي بمثل خاص يبيّن موقف المنفق في سبيل الله ، والمنفق بالمنِّ والأذى أو رئاء الناس ، قال سبحانه :( مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مائةُ حَبّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَليم ) .(٣)

وقال سبحانه :( يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لاتُبْطِلُوا صَدقاتِكُمْ بِالمَنّ وَالأذى كَالّذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُؤمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفوانٍ عَليه

__________________

١ ـ البقرة : ١٧ ـ ١٩.

٢ ـ الجمعة : ٥.

٣ ـ البقرة : ٢٦١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

ثورات العلويين. وغيرهم:

فأبو السرايا ـ الذي كان يوماً ما من حزب المأمون(١) ـ خرج بالكوفة. وكان هو وأتباعه لا يلقون جيشاً إلا هزموه، ولا يتوجهون إلى بلدة إلا دخلوها(٢) .

ويقال: إنه قد قتل من أصحاب السلطان، في حرب أبي السرايا فقط، مئتا ألف رجل، مع أن مدته من يوم خروجه إلى يوم ضربت عنقه لم تزد على العشرة أشهر(٣) .

وحتى البصرة، معقل العثمانية(٤) ، قد أيدت العلويين، ونصرتهم،

____________

(١) ففي الطبري ج ١٠ ص ٢٣٦، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٥، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٧٩، طبعة ثالثة: أن المأمون قال لهرثمة: (مالأت أهل الكوفة، والعلويين، وداهنت، ودسست إلى أبي السرايا، حتى خرج، وعمل ما عمل، وكان رجلا من أصحابك إلخ.) واتهام هرثمة بهذا مهم فيما نحن فيه أيضاً.

(٢) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، ومقاتل الطالبيين ص ٥٣٥.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٥٥٠، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٤٥.

(٤) الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٧٣، وسيأتي كلام محمد بن علي العباسي. المتعلق بهذا الموضوع، عن قريب..

١٦١

فقد خرج فيها زيد النار(١) ، ومعه علي بن محمد، كما خرج منها من قبل على المنصور إبراهيم بن عبد الله..

وفي مكة، ونواحي الحجاز: خرج محمد بن جعفر، الذي كان يلقب بـ‍ (الديباج) وتسمى بـ‍ (أمير المؤمنين)(٢) .

وفي اليمن: إبراهيم بن موسى بن جعفر..

وفي المدينة: خرج محمد بن سليمان بن داوود، بن الحسن بن الحسين، ابن علي بن أبي طالب.

وفي واسط: التي كان قسم كبير منها يميل إلى العمانية ـ خرج جعفر ابن محمد، بن زيد بن علي. والحسين بن إبراهيم، بن الحسن بن علي.

وفي المدائن: محمد بن إسماعيل بن محمد..

بل إنك قد لا تجد قطراً، إلا وفيه علوي يمني نفسه، أو يمنيه الناس بالثورة ضد العباسيين ـ حسبما نص عليه بعض المؤرخين ـ حتى لقد اتجه أهل الجزيرة، والشام، المعروفة بتعاطفها مع الأمويين،

____________

(١) سمي بذلك. لأنه حرق دور العباسيين في البصرة بالنار، وكان إذا أتي برجل من المسودة، أحرقه بثيابه.. على ما ذكره الطبري ج ١١ ص ٩٨٦، طبع ليدن، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٧٧، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٣٤٦.

وفي الروايات أن الرضاعليه‌السلام أظهر الاستياء من فعل أخيه زيد. ولعل سبب ذلك أنه بالإضافة إلى أنه أقدم في ثورته على أعمال تنافي أحكام الدين، وتضر إضراراً بالغاً بقضية العلويين العادلة.. كان يمالئ الزيدية،.. أو لأنه أراد إبعاد شر المأمون عن زيد، وإبعاد التهمة عن نفسه، بأنه هو المدبر لأمر أخيه. أو لعل كل ذلك قد قصد.

(٢) وليس في العلويين ـ باستثناء الإمام عليعليه‌السلام طبعاً ـ قبله، ولا بعده، من تسمى بـ‍ (أمير المؤمنين) غيره، كما في مروج الذهب ج ٣ ص ٤٣٩.

و (الديباجة) لقب لأكثر من واحد من العلويين..

١٦٢

وآل مروان.. إلى محمد بن محمد العلوي، صاحب أبي السرايا، فكتبوا إليه: أنهم ينتظرون أن يوجه إليهم رسولاً، ليسمعوا له، ويطيعوا(١) ..

وأما ثورات غير العلويين، فكثيرة أيضاً، وقد كان من بينها ما يدعو إلى: (الرضا من آل محمد)، كثورة الحسن الهرش سنة ١٩٨(٢) ه‍.

وسواها ولا مجال لنا هنا للتعرض إليها. ومن أرادها فعليه بمراجعة الكتب التاريخية المتعرضة لها(٣) .

الزعيم العباسي الأول يعترف:

هذا مع أن أكثر تلك الأقطار لم تكن تؤيد العلويين، ولا تدين لهم بالولاء باعتراف الزعيم العباسي الأول: محمد بن علي بن عبد الله، والد إبراهيم الإمام، حيث قال لدعاته:

(.. أما الكوفة وسوادها: فهناك شيعة علي، وولده. وأما البصرة، وسوادها: فعثمانية، تدين بالكف. وأما الجزيرة: فحرورية مارقة،

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٥٣٤.. راجع في بيان ثورات العلويين: البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٤، إلى ص ٢٤٧، واليعقوبي ج ٣ ص ١٧٣، ١٧٤، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤٣٩، ٤٤٠، ومقاتل الطالبيين، والطبري. وابن الأثير، وأي كتاب تاريخي شئت، لترى كيف أن الثورات في الفترة الأولى من عهد المأمون، قد عمت جميع الأقطار والأمصار..

(٢) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٤، والطبري ج ١١ ص ٩٧٥، طبع ليدن.

(٣) وقد تغلب حاتم بن هرثمة على أرمينية، وكان هو السبب في خروج بابك الخرمي. وتغلب نصر بن شبث على كيسوم، وسمسياط، وما جاورها، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي، وكثرت جموعه، ولم يستسلم إلا في سنة ٢٠٧ ه‍. وهناك أيضاً حركات الزط. وثورة بابك. وثورة المصريين التي كانت بين القيسية المناصرة للأمين واليمانية المناصرة للمأمون. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لتتبعه..

١٦٣

وأعراب كأعلاج، ومسلمون أخلاقهم كأخلاق النصارى. وأما الشام: فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان، وطاعة بني مروان، عداوة راسخة، وجهل متراكم، وأما مكة والمدينة: فغلب عليهما أبو بكر، وعمر، ولكن عليكم بأهل خراسان الخ..)(١) .

ونقل عن الأصمعي أيضاً كلام قريب من هذا(٢) .

دلالة هامة:

ومن بعض ما قدمناه في الفصول المتقدمة، سيما فصل: موقف العباسيين من العلويين، وأيضاً مما ذكرناه هنا نستطيع أن نستكشف أن حق العلويين بالخلافة والحكم، قد أصبح من الأمور المسلمة لدى الناس، في القرن الثاني، الذي يعد من خير القرون.. حيث لم تكن عقيدة عامة الناس قد استقرت بعد على هذه العقيدة المتداولة لدى أهل السنة اليوم، والتي أشرنا إلى أنها العقيدة التي وضع أسسها معاوية.. وعليه.

فما يدعيه أهل السنة اليوم من أن عقيدتهم في الخلافة قد وصلت إليهم يداً بيد، إلى عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير صحيح على الإطلاق، بل إن الشيخ محمد عبده يرى: إن رسوخ عقيدة: (إن حق الخلافة لأهل البيت، وشيوع ذلك في العرب خاصة). هو الذي دعا المعتصم إلى تشييد ملكه على الترك، وغيرهم من العجم، يقول الشيخ محمد عبده: (كان الإسلام ديناً عربياً، ثم لحقه العلم فصار علماً عربياً، بعد أن كان

____________

(١) البلدان للهمداني ج ٢ ص ٣٥٢، وأحسن التقاسيم للمقدسي ص ٢٩٣، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ١ ص ٢٠٤، والسيادة العربية، والشيعة والإسرائيليات ص ٩٣، ولا بأس بمراجعة: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج ١ ص ١٠٢.

(٢) روض الأخيار، المنتخب من ربيع الأبرار ص ٦٧، والعقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٦، ص ٢٤٨.

١٦٤

يونانيا، ثم أخطأ خليفة في السياسة، فاتخذ من سعة الإسلام سبيلا إلى ما كان يظنه خيراً: ظن أن الجيش العربي قد يكون عوناً لخليفة علوي، لأن العلوي ألصق ببيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأراد أن يتخذ له جيشاً أجنبيا من الترك والديلم وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، ويصطنعها بإحسانه، فلا تساعد الخارج عليه، ولا تعين طالب مكانه من الملك..)(١) .

عودة على بدء:

وعلى كل حال.. فإننا إذا أردنا تقييم تلك الثورات، التي كانت تواجه الحكم العباسي، فإننا سوف نجد: أن ما كان يكمن فيه الخطر الحقيقي هو ثورات العلويين، لأنها كانت تظهر في مناطق حساسة جداً.

في الدولة، ولأنها كانت بقيادة أولئك الذين يمتلكون من قوة الحجة، والجدارة الحقيقية، ما ليس لبني العباس فيه أدنى نصيب..

وكان في تأييد الناس لهم. واستجابتهم السريعة لدعوتهم دلالة واضحة على شعور الأمة. بمختلف طبقاتها، وفئاتها تجاه حكم العباسيين، ونوعية تفكيرها تجاه خلافتهم، وعلى مدى الغضب الذي كان يستبد بالنفوس، نتيجة استهتار العباسيين، وظلمهم، وسياساتهم الرعناء، مع الناس عامة. ومع العلويين بشكل خاص.

وقد كان المأمون يعلم أكثر من أي شخص آخر، كم سوف يكون حجم الكارثة، لو تحرك الإمام الرضا ـ الذي اهتبل فرصة الحرب بينه وبين أخيه، لتحكيم مركزه، وبسط نفوذه ضد الحكم القائم..

____________

(١) الإسلام والنصرانية للشيخ محمد عبده.

١٦٥

الناس لم يبايعوا المأمون كلهم بعد:

وبعد كل ما تقدم.. فإن من الأهمية بمكان، أن نشير هنا، إلى أن العلويين، وقسما كبيراً من الناس، بل وعامة المسلمين، لم يكونوا قد بايعوا المأمون أصلاً:

فأما أهل بغداد، فحالهم في الخلاف عليه أشهر من أن يذكر، وقد قدمنا في أول هذا الفصل عبارته في رسالته، التي كان قد أرسلها للعباسيين في بغداد..

وأما أهل الكوفة ـ التي كانت دائما شيعة علي وولده ـ فلم يبايعوا له، بل بقوا على الخلاف عليه، إلى أن ذهب أخو الإمام الرضاعليه‌السلام !! العباس بن موسى، يدعوهم، فقعدوا عنه، ولم يجبه إلا البعض منهم، وقالوا: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك. فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك، أجبناك.)(١) .

ويلاحظ هنا: كيف قد اختير رجل علوي، وأخو الإمام الرضاعليه‌السلام بالذات، ليرسل إلى الكوفة، المعروفة بالتشيع للعلويين.. ويلاحظ أيضاً: أن رفضهم الاستجابة له، إنما كان لأجل أن الدعوة تتضمن الدعوة للمأمون العباسي.

وأما أهل المدينة، ومكة، والبصرة، وسائر المناطق الحساسة في الدولة، فقد تقدم ما يدل على حقيقة موقفهم منه، ومن نظام حكمه. وقد كتب المأمون نفسه بخط يده، في وثيقة العهد للإمام يقول: (.. ودعا أمير المؤمنين ولده، وأهل بيته، وقواده، وخدمه، فبايعوا مسارعين.. إلى أن قال: فبايعوا معشر أهل بيت أمير المؤمنين، ومن بالمدينة المحروسة، من قواده، وجنده، وعامة المسلمين لأمير المؤمنين، وللرضا من بعده، علي بن موسى..) والوثيقة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

فقوله: (لأمير المؤمنين، وللرضا من بعده.) يدل دلالة واضحة على أن عامة المسلمين ما كانوا قد بايعوا بعد: (لأمير المؤمنين)، فضلاً عن: (أهل المدينة المحروسة..).

____________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٩٠، وتجارب الأمم ج ٦ المطبوع مع العيون والحدائق ص ٤٣٩، وفي تاريخ الطبري ج ١١ ص ١٠٢٠، طبع ليدن، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٤٨: أنه قد أجابه قوم كثير منهم، ولكن قعد عنه الشيعة وآخرون.. لكن ظاهر حال الكوفة التي كانت دائما شيعة علي وولده هو أن المجيبين له كانوا قلة. كما ذكر ابن الأثير.

١٦٦

وحتى لو أنهم كانوا قد بايعوا له، فإن بيعتهم هذه، وجودها كعدمها، إذ إن عصيانهم، وتمردهم عليه، وعلى حكمه، لم يكن ليخفى على أحد.. بعدما قدمناه من ثوراتهم تلك. التي كانت تظهر من كل جانب ومكان. وكان كلما قضى على واحدة منها تظهر أخرى داعية لما كانت تدعو إليه تلك، أي إلى: (الرضا من آل محمد)، أو إلى أحد العلويين، الذين يشاهد المأمون عن كثب قدرتهم، وقوتهم، ونفوذهم الذي كان يتزايد باستمرار يوماً عن يوم.. ولم تستقم له في الحقيقة سوى خراسان.

نعم بعد أن عاد إلى بغداد، وكان قد قوي أمره، واتسع نفوذه، بدأ الناس يبايعونه في الأقطار، ويتعللون بأن امتناعهم إنما كان ظاهرياً، وأنهم كانوا في السر معه، وعلى ولائه، على ما صرح به اليعقوبي في تاريخه.

المأمون يدرك حراجة الموقف:

تلك هي باختصار حالة الحكم العباسي بشكل عام. وحالة المأمون، وظروفه في الحكم بشكل خاص.. في تلك الفترة من الزمن.. وقد اتضح لنا بجلاء: أن الوضع كان بالنسبة إلى المأمون، ونظام حكمه، قد ازداد سوءاً، بعد وصول المأمون إلى الحكم، وتضاعفت الأخطار، التي كان يواجهها، وأصبح ـ هو وعرشه ـ في مهب الريح. وتحت رحمة الأنواء..

وإذا كان ليس من الصعب علينا: أن نتصور مدى الخطر الذي كان يتهدد المأمون، وخلافته، وبالتالي مستقبل الخلافة العباسية بشكل عام.. فإنه من الطبيعي أن لا يكون من الصعب على المأمون أفعى الدهاء والسياسة أن يدرك ـ بعمق، إلى أي حد كان مركزه ضعيفاً، وموقفه حرجاً، حيث إنه هو الذي كان يعيش ـ أكثر من أي إنسان آخر ـ في ذلك الخضم الزاخر بالمشاكل، والمتاعب، والأخطار. وخصوصاً وهو يواجه الثورات. وبالأخص ثورات العلويين، أقوى خصوم الدولة العباسية، تظهر من كل جانب ومكان، وكل ناحية من نواحي مملكته. كما أنه لم يكن ليصعب عليه أن يدرك أن الكثير من المشاكل التي يعاني منها إنما كان نتيجة السياسات الرعناء. التي انتهجها أسلافه، مع الناس عامة، ومع العلويين خاصة. وأن يدرك أن الاستمرار في تلك السياسة. أو حتى مجرد الإهمال، والتواني في علاج الوضع، سوف يكون من أبسط نتائجه أن تلقى خلافة العباسيين على أيدي العلويين نفس المصير الذي لقيته خلافة الأمويين على أيدي أسلافه من قبل..

١٦٧

ماذا يمكن للمأمون أن يفعل:

ولكن.. وبعد أن نجح المأمون في الوصول إلى ما كان يتمناه، وهو الحكم والسلطان، وإذا كان لا يرضى به بنو أبيه، ولا العلويون، ولا العرب، وإذا كان حتى غير العرب، ضعفت ثقتهم به، وتزعزع مركزه في نفوسهم.

وأيضاً.. إذا كانت ثورات العلويين، فضلاً عن غيرهم.. تظهر من كل جانب ومكان.. وإذا كان الكثيرون، بل عامة المسلمين لم يبايعوا له بعد..

وهكذا إلى آخر ما تقدم. فهل يمكن للمأمون أن يقف تجاه كل تلك العواصف، والأنواء التي تتهدده، ونظام حكمه، مكتوف اليدين؟!

وماذا يمكن للمأمون بعد هذا أن يفعل، ليبقى محتفظا بالحكم والسلطان، الذي هو أعز ما في الوجود عليه؟!.

هذا ـ ما سوف نحاول الإجابة عليه في الفصل التالي.

ظروف البيعة وأسبابها

إنقاذ الموقف!. كيف؟!

قد قدمنا في الفصل السابق لمحة عن ظروف المأمون في الحكم، وأشرنا إلى أن الوضع كان يزداد سوءا يوماً عن يوم.. وإلى أنه كان لا بد للمأمون من التحرك، والعمل بسرعة، شرط أن لا يزيد الفتق اتساعا، والطين بلة. وأن يستعمل كل ما لديه من حنكة ودهاء، في سبيل إنقاذ نفسه، ونظام حكمه، وخلافة العباسيين بشكل عام..

وكان المأمون يدرك: أن إنقاذ الموقف يتوقف على:

١ ـ إخماد ثورات العلويين، الذين كانوا يتمتعون بالاحترام والتقدير، ولهم نفوذ واسع في جميع الفئات والطبقات..

٢ ـ أن يحصل من العلويين على اعتراف بشرعية خلافة العباسيين. وليكون بذلك قد أفقدهم سلاحا قويا، لن يقر له قرار، إذا أفقدهم إياه..

١٦٨

٣ ـ استئصال هذا العطف، وذلك التقدير والاحترام. الذي كانوا يتمتعون به، وكان يزداد يوماً عن يوم ـ استئصاله ـ من نفوس الناس نهائياً، والعمل على تشويههم أمام الرأي العام، بالطرق، والأساليب التي لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات، حتى لا يقدرون بعد ذلك على أي تحرك، ولا يجدون المؤيدين لأية دعوة لهم، وليكون القضاء عليهم بعد ذلك نهائياً ـ سهلاً وميسوراً..

٤ ـ اكتساب ثقة العرب ومحبتهم..

٥ ـ استمرار تأييد الخراسانيين، وعامة الإيرانيين له.

٦ ـ إرضاء العباسيين، والمتشيعين لهم، من أعداء العلويين.

٧ ـ تعزيز ثقة الناس بشخص المأمون، الذي كان لقتله أخاه أثر سيء على سمعته، وثقة الناس به.

٨ ـ وأخيراً.. أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من تلك الشخصية الفذة، التي كانت تملأ جوانبه فرقاً، ورعباً.. وأن يتحاشى الصدام المسلح معها. ألا وهي شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام ، وأن يمهد الطريق للتخلص منها، والقضاء عليها، قضاء مبرماً، ونهائياً.

لا بد من الاعتماد على النفس:

وبعد هذا.. فإن من الواضح أن المأمون كان يعلم قبل كل أحد، أنه:

لم يكن يستطيع أن يستعين في مواجهة تلك المشاكل بالعباسيين، بني أبيه، بعد أن كانوا ينقمون عليه، قتله أخاه، العزيز عليهم، وعلى العرب، وبعد مواقفه، التي تقدم بيان جانب منها تجاههم.. وأيضاً. بعد أن كانوا لا يثقون به، ولا يأمنون جانبه، بسبب موقفهم السابق منه.

والأهم من ذلك أنه لم يكن فيهم الرجال الكفاة، الذين يستطيع

١٦٩

أن يعتمد عليهم(١) ، يدلنا على ذلك أنهم بعد أن ثاروا على المأمون، بسبب بيعته للرضاعليه‌السلام ، لم يجدوا فيهم شخصاً أعظم، وأكفأ من ابن شكلة المغني، فبايعوه، مع أنه من أصحاب المزامير والبرابط. وفيه يقول دعبل:

نـعر ابـن شكلة بالعراق وأهله

فـهفا إلـيه كـل أطـلس مائق

إن كـان إبـراهيم مضطلعا بها

فـلتصلحن مـن بـعده لمخارق

ولـتصلحن من بعد ذاك لزلزل

ولـتصلحن مـن بـعده للمارق

أنـى يـكون وليس ذاك بكائن

يرث الخلافة فاسق عن فاسق(٢)

كما أنه عندما أصبح إبراهيم هذا خليفة، قال بعض الأعراب، عندما جاء الخبر بأنه: لا مال عند الخليفة ليعطي الجند، الذين ألحوا في طلب أعطياتهم، قال: (فليخرج الخليفة إلينا، فليغن لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات، فتكون عطاءهم، ولأهل هذا الجانب مثلها..) فقال في ذلك دعبل ـ شاعر المأمون ـ يذم إبراهيم بن المهدي:

يـا معشر الأجناد لا تقنطوا

خذوا عطاياكم، ولا تسخطوا

فـسوف يـعطيكم حـنينية

لا تدخل الكيس، ولا تربط

والـمـعبديات لـقـوادكم

ومـا بـها مـن أحد يغبط

فـهكذا يـرزق أصـحابه

خـليفة مصحفه البربط(٣)

____________

(١) وقد كان بينهم الكثيرون في أول عهد الدولة العباسية. ونقصد بـ‍ (الكفاءة) هنا: الكفاءة الظاهرية، التي يقرها منطق الجبارين المتغطرسين، لا الكفاءة الحقيقية التي يريدها الله، وجاء بها محمد. وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.

(٢) وفيات الأعيان، طبع سنة ١٣١٠ ه‍ ج ١ ص ٨. والورقة لابن الجراح ص ٢٢، ومعاهد التنصيص ج ١ ص ٢٠٥، والشعر والشعراء ص ٥٤١، والكنى والألقاب ج ١ ص ٣٣٠. والأطلس: هو الرجل يرمى بالقبيح..

(٣) معاهد التنصيص ج ١ ص ٢٠٥، ٢٠٦، وشرح ميمية أبي فراس ص ٢٨١، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٩٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٤٣، والغدير ج ٢ ص ٣٧٧، والأغاني ج ١٨ ص ٦٨، و ص ١٠١ طبع دار الفكر، والورقة لابن الجراح ص ٢٢، ونزهة الجليس ج ١ ص ٤٠٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٦، والحنينيات: منسوبة إلى حنين النجفي العبادي. المغني المشهور، والمعبديات: منسوبة إلى معبد المغني المشهور، والبربط: ملهاة، تشبه العود، وهو فارسي معرب. وأصله: بربت: لأن الضارب يضعه على صدره.. انتهى عن نزهة الجليس.

١٧٠

وإذا كان لا يستطيع أن يستعين ببني أبيه العباسيين، فبالأحرى أن لا يستطيع أن يستعين على حل مشاكله بالعلويين، والمتشيعين لهم، بعد أن كانوا هم أساس البلاء والعناء له، والذين يخلقون له أعظم المشاكل، ويضعون في طريق حكمه أشق العقبات.

وأما العرب: فهو أعرف الناس بحقيقة موقفهم منه.

والخراسانيون: لا يستطيع أن يعتمد على ثقتهم به طويلا، بعد أن كشف لهم عن حقيقته وواقعه الأناني البشع، بقتله أخاه، وإبعاده طاهرا بن الحسين، مشيد أركان حكمه، عن مسرح السياسة: (ولقد ذكره الرضا بذلك. عندما استعرض معه حقيقة الوضع القائم آنذاك.).

أي الأساليب أنجع:

وبعد ذلك.. فإنه من الواضح أنه:

لم يكن لينقذ الموقف القسوة والعنف، وهو الذي يعاني المأمون من نتائجه السيئة ما يعاني.

ولا المنطق والحجاج، لأن العلويين ـ بناء على ما شاع عند الأمة، بتشجيع من خلفائها، من أن السبب في استحقاق الخلافة، هو القربى النسبية منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إن العلويين بناء على هذا: أقوى حجة من العباسيين، لأنهم يمتلكون اعترافاً صريحاً منهم بأن المستحق للخلافة هو الأقرب نسبا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

هذا.. وإذا ما أراد العباسيون، أو غيرهم الاحتجاج بالأهلية والجدارة لقيادة الأمة. فإن العلويين لا يدانيهم أحد في ذلك، وذلك لما كانوا يتمتعون به من الجدارة والأهلية الذاتية لقيادة الأمة قيادة صالحة وسليمة..

وأما النص فمن هو ذلك الذي يجرؤ على الاستدلال به، وهو يرى أنه كله في صالح آل علي، وأئمة أهل البيت منهم بالخصوص.

وهكذا.. نرى ويرى المأمون: أنه لم يكن لينقذ الموقف أي من تلك الأساليب، ولا غيرها من الطرق والأساليب الملتوية، واللا إنسانية، التي اتبعها أسلافه من قبل.

وإذن.. فلا بد وأن يعود السؤال الأول ليطرح نفسه بكل جدية.

والسؤال هو: ماذا يمكن للمأمون إذن أن يفعل؟! وكيف يقوي من دعائم حكمه، الذي هو بالنسبة إليه كل شيء، وليس قبله، ولا بعده شيء.. حتى لا يطمع فيه طامع، ولا تزعزعه العواصف، ولا تنال منه الأنواء، مهما كانت هوجاء وعاتية؟!.

١٧١

خطة المأمون:

وكان أن اتبع المأمون من أجل إنقاذ موقفه، الذي عرفت أنه يتوقف على نقاط ثمانية.. ومن أجل الاحتفاظ بالخلافة لنفسه، وأن تبقى في بني أبيه ـ كان أن اتبع ـ أسلوباً جديداً، وغيبيا، لم يكن مألوفاً، ولا معروفاً من قبل.. وأحسب أن لم يتوصل إليه إلا بعد تفكير طويل، وتقييم عام وشامل للوضع الذي كان يعيشه، والمشاكل التي كان يواجهها.

لقد كانت خطته غريبة وفريدة من نوعها، وكانت في غاية الإتقان، والإحكام في نظره.

فبينما نراه من جهة:

لا يذكر أحداً من الخلفاء، ولا غيرهم من الصحابة بسوء، بل هو يتحرج من المساس بغير الصحابة، وحتى بأولئك الذين كان حالهم في الخروج على الدين، وتعاليم الشريعة، معروفاً ومشهوراً (كالحجاج بن يوسف)! وذلك من أجل أن لا يثير عواطف أولئك الذين يلتقي معهم فكرياً وسياسياً، ومصلحياً، والذين سوف يكونون له في المستقبل الدرع الواقي، والحصن الحصين..

فاستمع إليه يقول ـ كما يروي لنا التغلبي المعاصر له: (.. وظنوا أنه لا يجوز تفضيل علي إلا بانتقاص غيره من السلف! والله، ما أستجيز أن أنتقص الحجاج بن يوسف، فكيف بالسلف الطيب؟!)(١) . وكذلك نراه يركن إلى رأي يحيى بن أكثم، الذي قال له ـ عندما أراد الإعلان بسب معاوية على المنابر ـ: (والرأي أن تدع الناس كلهم على ما هم عليه، ولا تظهر أنك تميل إلى فرقة من الفرق، فإن ذلك أصلح في السياسة، وأحرى في التدبير..)، ثم يدخل عليه ثمامة، فيقول له المأمون: (يا ثمامة، قد علمت ما كنا دبرناه في معاوية، وقد عارضنا رأي هو أصلح في تدبير المملكة، وأبقى ذكراً في العامة الخ.)(٢) . وأيضاً.. نرى شعره الذي يرويه لنا غير واحد:

أصبح ديني الذي أدين به

ولست منه الغداة معتذرا

حب علي بعد النبي ولا

أشـتم صديقا ولا عمرا

____________

(١) عصر المأمون ج ١ ص ٣٦٩، نقلاً عن: تاريخ بغداد، لابن طيفور ج ٦ ص ٧٥.

(٢) المحاسن والمساوي ص ١٤١، وضحى الإسلام ج ٢ ص ٥٨، و ج ٣ ص ١٥٢، و ١٥٦، وعصر المأمون ج ١ ص ٣٧١، والموفقيات ص ٤١، وكتاب بغداد ص ٥٤.

١٧٢

ثـم ابن عفان في الجنان مع

الأبرار ذاك القتيل مصطبرا

ألا ولا أشـتم الـزبير ولا

طـلحة إن قـال قائل غدرا

وعـائش الأم لـست أشتمها

من يفتريها فنحن منه برا(١)

ونراه أيضاً يتجسس على عبد الله بن طاهر، ليعلم: هل له ميل إلى آل أبي طالب أو لا(٢) .

ونراه يقدم على قتل الرضاعليه‌السلام ، وإخوته، وآلاف من العلويين غيرهم، ويصدر أمراً لأمرائه، وقواده بالقضاء عليهم، وفض جمعهم، كما سيأتي.

ونراه كذلك.. يرسل إلى عامله على مصر، يأمره بغسل المنابر، التي دعي عليها لعلوي (هو الإمام الرضاعليه‌السلام ).. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لاستقصائه..

بينما نراه كذلك..

نراه من جهة ثانية

يقدم على الإعلان ببراءة الذمة ممن يذكر معاوية بن أبي سفيان بخير أي أنه أراد أن يجعل تفضيل عليعليه‌السلام ، والبراءة من معاوية ديناً رسمياً، يحمل الناس كلهم عليه، كما كان الحال بالنسبة لقضية خلق القرآن..

وقضية الإعلان بسب معاوية، وإن كان الإقدام عليه في سنة ٢١٢ ه‍. لكن تفضيله علياً، على جميع الخلق، وتقربه لولده، وإظهاره التشيع

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٧، وفوات الوفيات ج ١ ص ٢٤١، ما عدا البيت الرابع.

(٢) الطبري ج ١١ ص ١٠٩٤، طبع ليدن، والعقد الفريد للملك السعيد ص ٨٤، ٨٥، وتجارب الأمم ج ٦ المطبوع مع العيون والحدائق ص ٤٦١.

١٧٣

والحب لهم(١) إنما كان من أول أيامه. يدلنا على ذلك أمور كثيرة، ويكفي هجاء ابن شكلة له، وهجاؤه لابن شكلة شاهداً على ذلك. فضلاً عن الكثير من الأمور الأخرى غيره.

ثم نراه بعد ذلك يبيح المتعة، ويصف الخليفة الثاني، عمر بن

____________

(١) قال في النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٢٠١، ٢٠٢،، ومثله في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٠٨، وغيرهما: (أن المأمون كان يبالغ في التشيع، ويقول: إن أفضل الخلق بعد النبي علي بن أبي طالب. وأمر أن ينادى ببراءة الذمة ممن يذكر معاوية بخير، لكنه لم يتكلم في الشيخين بسوء بل كان يترضى عنهما، ويعتقد إمامتهما).

وهذا بعينه هو مذهب المعتزلة في بغداد ابتداء من بشر بن المعتمر، وبشر بن غياث المريسي وغيرهم من معتزلة بغداد، حتى لقد قال بشر المريسي المعتزلي المعروف على ما في البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٩:

قـد قـال مأموننا وسيدنا

قولاً له في الكتب تصديق

إن عـلياً أعني أبا حسن

خـير من قد أقلت النوق

بـعد نبي الهدى، وإن لنا

أعـمالنا والقرآن مخلوق

وصرح بأنه يذهب مذهب المعتزلة كثيرون، منهم: البداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٧٥، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٥، وإمبراطورية العرب ص ٦٠٠، وغيرهم، بل لقد قال خيري حماد، في تعليقته على ص ٦٠١، من إمبراطورية العرب بقوله: (أجمعت كتب التاريخ العربي على أن المأمون مال إلى الأخذ بمذهب المعتزلة، فقرب أتباع هذا المذهب إليه إلخ.)، ويدل على ذلك أيضاً أقوال. وأشعار المأمون المتقدمة.. ولعل وصف بعض المؤرخين بالتشيع هو الذي أوهم البعض بأن المأمون كان يتشيع بالمعنى المعروف للتشيع، فجزم بذلك، وبدأ يحشد الدلائل، والشواهد، التي لا تسمن، ولا تغني من جوع، وقد غفل عن أنهم يقصدون بكلمة (التشيع) المعنى اللغوي، لا المعنى الخاص المعروف الآن..

وبعد.. فإن من الواضح: أن عقيدة المأمون تلك، لم تكن تثمر على الصعيد العملي العام، فإنه كان من السياسيين. الذين لا ينطلقون في سلوكهم، ومواقفهم الخارجية ن منطلقات عقائدية، ومفاهيم إنسانية. وإنما يكون المنطلق لهم في مواقفهم، وتصرفاتهم، هو ـ فقط ـ مصالحهم الشخصية، وما له مساس في استمرار فرض سلطتهم، وتأكيد سيطرتهم..

١٧٤

الخطاب بـ‍ (جعل)(١) ، أو نحو ذلك.

ونراه أيضاً أنه عندما سأل أصحابه عن: أنبل من يعلمون نبلاً، وأعفهم عفة، فقال له علي بن صالح: (أعرف القصة في عمر بن الخطاب، فأشاح بوجهه، وأعرض، وذكر كلاما ليس من جنس هذا الكتاب، فنذكره، إلخ..)(٢) على حد تعبير البيهقي.. وذكر طيفور: أن أبا عمر الخطابي دخل على المأمون: فتذاكروا عمر بن الخطاب فقال المأمون: إلا أنه غصبنا، فقال له أبو عمر يا أمير المؤمنين، يكون الغصب إلا بحق يد فهل كانت لكم يد، قال فسكت المأمون عنه، واحتملها له (٣) .

ولكن اعتراض الخطابي اعتراض بارد وتوجيه فاسد فهل الخلافة من الأموال أم هي حق جعله الله لهم؟ ولا ندري سر سكون المأمون عنه، واحتماله منه، إلا ما قدمناه..

بل إن الأهم من ذلك كله.. أننا نراه يصف الخلفاء الثلاثة، وغيرهم من الصحابة بأنهم: (ملحدين) ناسياً، أو متناسياً كل أقواله السابقة، وخصوصاً شعره، وقوله: إنه يتحرج حتى من تنقص

____________

(١) وفيات الأعيان ترجمة يحيى بن أكثم ج ٢ / ٢١٨ ط سنة ١٣١٠ ه‍ والسيرة الحلبية ج ٣ / ٤٦ والنص والاجتهاد ص ١٩٣، وفي قاموس الرجال ٩ / ٣٩٧، نقلاً عن الخطيب في تاريخ بغداد: أنه كان يقول: (ومن أنت يا أحول الخ..) ولا يخفى أنهم أرادوا تلطيف العبارة بقدر المستطاع، فحرفوها إلى ما ترى.

هذا.. وقد يرى البعض: أن تفضيله علياً، وإعلانه بسب معاوية، وإباحته المتعة، وقوله بخلق القرآن، ليس إلا لإشغال الناس بعضهم ببعض، وصرف الناس عن التفكير بالخلافة، التي هي أعز ما في الوجود عليه، والتي ضحى من أجلها بأخيه، وأشياعه، ووزرائه، وقواده. وكذلك من أجل صرف الناس عن أهل البيتعليهم‌السلام ، وإبعادهم عنهم.. ولعل هذا الرأي لا يعدم بعض الشواهد التاريخية، التي تؤيده، وتدعمه.

(٢) المحاسن والمساوي ص ١٥٠.

(٣) كتاب بغداد ص ٥١.

١٧٥

الحجاج، كيف بالسلف الطيب، فاستمع إليه يقول، على ما يرويه لنا البيهقي:

ومن غاو يغص علي غيظاً

إذا أدنـيت أولاد الـوصي

يـحاول أن نـور الله يطفى

ونـور الله فـي حصن أبي

فقلت: أليس قد أوتيت علماً

وبـان لك الرشيد من الغوي

وعـرفت احتجاجي بالمثاني

وبالمعقول والأثر الجلي(١)

بـأية خـلة، وبـأي معنى

تفضل (ملحدين) على (علي)

عـلي أعـظم الـثقلين حقاً

وأفضلهم سوى حق النبي(٢)

بل وزاد على ذلك وضرب العقيدة التي تقدم أن العباسيين قد أتوا بها لمقابلة العلويين وروجوا لها من أن الحق كان للعباس وأنه أجاز علياً فصحت خلافته وذلك بأن أظهر تقديم علي على العباس فقد قال السندي بن شاهك للفضل بن الربيع يوماً عن المأمون: (سمعته اليوم قدم علي بن أبي طالب على العباس بن عبد المطلب، وما ظننت أني أعيش حتى أسمع عباسياً يقول هذا، فقال الفضل له: تعجب من هذا؟ هذا والله كان قول أبيه قبله)(٣) ولكن الظاهر: أن أباه كان يكتم ذلك حتى خفي على مثل السندي المقرب، لكن الآن قد اضطرت السياسة المأمون إلى الجهر بذلك، وإظهاره.

وهكذا.. فإن المأمون لم يكن يرى أن بين كل تصرفاته المتقدمة أي تناقض، أو منافاة، بل كانت كلها في نظره صحيحة، ومنطقية، لأنها كانت في ظروف مختلفة، وكان لا بد له من مسايرة تلك الظروف، والانسجام معها، فلا مانع عنده، من أن يقرب العلويين إليه، ويتظاهر بإكرامهم، وتقديرهم.. في يوم.. ثم منعهم من الدخول عليه، واضطهدهم، وقتلهم بالسم تارة، وبالسيف أخرى في يوم آخر.. وهكذا.

____________

(١) القوي خ ل.

(٢) المحاسن والمساوي، طبع دار صادر ص ٦٨، وطبع مصر ج ١ / ١٠٥.

(٣) كتاب بغداد ص ٧.

١٧٦

وأيضاً. لا بد من خطوة أخرى.

ولكن ذلك وحده لم يكن كافياً لإخماد ثورات العلويين، ولا لتحقيق كافة الأهداف، التي قدمنا، وسيأتي شطر منها. فكانت خطوته التالية غريبة ومثيرة في نفس الوقت، لكنها إذا ما أخذت الظروف آنذاك بنظر الاعتبار يتضح أنها كانت طبيعية للغاية. ألجأته إليها الظروف والأحداث.

وتلك الخطوة هي: (أخذ البيعة للإمام علي الرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده..) وجعله أمير بني هاشم طراً، عباسيهم، وطالبيهم(١) ، ولبس الخضرة.

لم يبق إلا خيار واحد:

ومن نافلة القول هنا: أن نقول: إن ذلك يدل على فهم المأمون للداء، مما ساعده على معرفة الدواء، الذي تجرعه المأمون ـ رغم مرارته القاسية، التي لم تكن لتقاس أبداً بما سوف يعقبها من راحة وطمأنينة وهناء ـ تجرعه ـ بكل رضا، ورجولة، وشجاعة.

إن المأمون ـ على ما أعتقد ـ وإن كان قد ثقل عليه أمر البيعة لرجل غريب، ومن أسرة هي أقوى وأخطر المنافسين للحكم العباسي في تلك الفترة.. ولكن ما الحيلة له بعد أن لم يعد أمامه أي خيار في ذلك. إلا إذا أراد أن يتغابى أو يتعامى عن ذلك الواقع المزري الذي وصلت إليه خلافته، التي أصبحت ظلا، لا يلبث أن تلتهمه أشعة الشمس المشرقة، فتحوله إلى سراب.

____________

(١) غاية الاختصار ص ٦٨.

١٧٧

ما الحيلة له.. بعد أن رأى أنه لن تنقاد له الرعية والقواد، ولن تستقيم له الأمور إلا إذا أقدم على مثل تلك اللعبة الجريئة.

ولقد صرح المأمون نفسه للريان، بعد أن أخبره الريان بأن الناس يقولون: بأن البيعة للإمام كانت من تدبير الفضل بن سهل ـ صرح بقوله: (.. ويحك يا ريان، أيجسر أحد أن يجئ إلى خليفة، قد استقامت له الرعية، والقواد، واستوت له الخلافة، فيقول له: إدفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟ أيجوز هذا في العقل؟!(١) ).

مع رسالة الفضل بن سهل للإمام:

وكاتب الإمام، وألح عليه، وكاتبه الفضل بن سهل أيضاً.. وبما أن في رسالة الفضل مواضع جديرة بالملاحظة، فقد أحببت أن أشير ـ باختصار ـ إلى بعض ما يمكن استخلاصه من هذه الرسالة.

كما أنني أوردت نص هذه الرسالة بتمامه مع الوثائق الهامة، ليطلع القارئ عليها بنفسه، ويستخلص منها ما يراه مناسباً وضرورياً..

أما الملاحظات التي رأيت أن من الضروري الإشارة إليها هنا، فتتلخص بما يلي:

____________

(١) أعيان الشيعة ج ٤ قسم ٢ ص ١١٣، والبحار ج ٤٩ / ١٣٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥١، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٥.

١٧٨

ملاحظات لا بد منها:

أول ما يطالعنا في هذه الرسالة هو استعمال الفضل لكلمة: (الرضا)، التي تنص وثيقة العهد، وغيرها: على أن المأمون هو الذي جعلها لقباً للإمامعليه‌السلام ـ كما سيأتي ـ.. فإطلاق الفضل بن سهل لكلمة (الرضا) عليهعليه‌السلام يجعلنا نقول ـ إن لم نقل أنه كان لقباً مشهوراً ومعروفاً له ـ: إن جعل المأمون هذا اللفظ لقباً رسميا للإمامعليه‌السلام كان بوحي من ذي الرياستين نفسه. وإن كان يمكن أن يقال عكس ذلك تماماً: أي أن استعمال الفضل لهذه الكلمة كان بإيحاء من المأمون.

وثانياً: إننا بينما نرى الرسالة تشتمل على تطمين الإمامعليه‌السلام : بأن قضية ولاية العهد ليست لعبة من المأمون، وإنما هي من آثار سعي ذي الرئاستين، الأمر الذي لا داعي معه للخوف والوجل على الإطلاق ـ بينما الرسالة تشتمل على ذلك ـ نراها تنص على أن قضية ولاية العهد أمر قد قضي بليل. وعلى أن هناك تصميم من ذي الرئاستين والمأمون على إمضاء هذا الأمر.

وهذا يعني: أن الممانعة والمقاومة لا تجدي ولا تفيد، ولذا فإن من الأفضل لهعليه‌السلام أن يكف عن ذلك، ويمتنع عنه.

وهذا ما أشار إليه الفضل بقوله: (.. وإن كتابي هذا عن إزماع من أمير المؤمنين، عبد الله الإمام المأمون ومني الخ..).

وثالثاً: يلاحظ: أن الرسالة تتناسب في صياغتها، وانتقاء جملها وألفاظها مع ذوق الإمامعليه‌السلام ومذهبه العقائدي، ومذهب شيعته.

وتنسجم مع ما يدعيه هو، ويدعيه آباؤه، وكان قد اشتهر وشعاع بين الناس: من أن الحق في خلافة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم دون غيرهم. وأن الغير ـ أياً كانوا ـ ظالمون لهم، ومعتدون عليهم في هذا الحق.

ثم يحاول الفضل أن يفهم الإمام: أنه وإن كان هو والمأمون

قد صمما على توليته العهد، لكنه يقول له، لكن السر في ذلك مختلف بيني وبين المأمون، فأنا أقول فيك: أنك ابن رسول الله، وأنك المهتدي، والمقتدى، وأرى أن ذلك إرجاع لحقك إليك، ورد لمظلمتك عليك. أما المأمون: فهو يراك شريكاً في أمره، وشقيقاً في نسبه، وأولى الناس بما تحت يده.

١٧٩

فالفضل يحاول بهذا أن يتقرب من الإمام، ويكتسب محبته وثقته. ولعل إظهار هذا الاختلاف، مما اتفق عليه كل من المأمون والفضل. وهكذا كان السياسيون، وما زالوا يتكلمون مع أندادهم باللغة، التي يرون أنها توصلهم إلى أهدافهم. وتحقق لهم مأربهم.

ورابعاً: وأخيراً.. إنه بعد أن يطلب منه أن لا يضع الرسالة من يده، حتى يصير إلى باب المأمون!. نراه يضمن الرسالة إشارة واضحة: إلى أن ذلك منهعليه‌السلام يوجب صلاح الأمة به.. وما ذلك إلا لأنه كان يعلم، كما كان الكل يعلم: أنه إذا تأكد لدى الإمامعليه‌السلام : أن صلاح الأمة متوقف على عمل ما من جهته، فإنه لا يتوانى، ولا يألو جهداً في العمل بوظيفته، والقيام بواجبه.. هذا بالإضافة إلى أن في ذلك إشارة للحالة العامة، التي وصفناها في بعض فصول هذا الكتاب.

ملاحظات هامة:

هذا.. وقبل الخوض في تفصيل أسباب البيعة، لا بد من ملاحظة:

أ ـ: إن من الطبيعي أن يثير تصرفه هذا حفيظة العباسيين، الذين ناصبوه العداء، وشجعوا أخاه الأمين عليه، ولسوف يزيد من حنقهم، وغضبهم: حتى إنهم رضوا بإبراهيم بن شكلة المغني خليفة عليهم، عندما سمعوا بهذا النبأ الذي كان له وقع الصاعقة عليهم.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291