الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم 33%

الأقسام في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 173

الأقسام في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51701 / تحميل: 7962
الحجم الحجم الحجم
الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقد توفي والتدوين مباح للجميع، وامر عبد اللّه بن العاص ان يكتب عنه في حالتي الرضا والغضب، كما يدعون، انه دون صحيفته المسماة بالصادقة من اقواله وافعاله مباشرة(١) ومن البعيد ان تخفى هذه النصوص على الخليفة، واذا افترضنا بانه كان على علم بها، فلماذا منع من التدوين في حين انه لم يرد عن الخليفة الاول ما يشير الى انه نهى عن ذلك.

وجاء في بعض المصادر التي تعرضت لهذا الموضوع انه منعهم عن تدوين الاحاديث حرصاً على كتاب الله، وانه احرق كتبا ً كانت لبعض الصحابة لهذه الغاية.

فقد روى عنه عروة بن الزبير، انه اراد ان يكتب السنن، فاستفتى اصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاشاروا عليه ان يكتبها فطفق عمر يستخير الله شهراً، ثم اصبح يوماً وقد عزم الله له، فقال: اني كنت اريد ان اكتب السنن، واني ذكرت قوماً قبلكم كتبوا كتباً فانكبوا عليها وتركوا كتاب الله، واني لا اشوب كتاب الله بشيء.

وجاء عنه انه لما حدث ابي بن كعب عن بيت المقدس واخباره انتهره عمر بن الخطاب، وهم بضربه، فاستشهد ابي بجماعة من الانصار ولما شهدوا بانهم سمعوا الحديث من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تركه، فقال له ابي بن كعب: اتتهمني على حديث رسول الله، فقال يا ابا المنذر: والله ما اتهمتك، ولكني كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله ظاهراً الى غير

____________________

(١)لقد تحدثنا عن هذه الصحيفة المزعومة مفصلاً في كتابنا تاريخ الفقه الجعفري، واثبتنا بالارقام انها ليست من احاديث الرسول، بل هي من الكتب التي استولى عليها المسلمون في معركة اليرموك، وكان هو يحدث عن تلك الكتب وينسبها الى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد جمع فيها طائفة من الاحاديث وادعى بانه اخذها من الرسول.

٢١

ذلك من المرويات الكثيرة التي تؤكد أن الخليفة لم يعتمد على الرسول في منعه عن التدوين، وانه قد تفرد بهذا التصرف حرصاً على كتاب الله ، ولكن الرواية التي تنص على انه قد انتهر ابي بن كعب لما حدث عن بيت المقدس، وقوله فيها: اني كرهت ان يكون الحديث عن رسول الله ظاهراً، هذه الرواية تدل على انه كان حريصاً على ان لا ينتشر الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع العلم بان حديث الرسول مكمل للتشريع، ومبين لمجملات القرآن ومخصص لعموماته ومطلقاته، وقد تكفل لكثير من النواحي الاخلاقية والاجتماعية والتربوية، ولو تقصينا الاسباب التي يمكن افتراضها لتلك الرغبة الملحة في بقاء السنة في طي الكتمان لم نجد سبباً يخوله هذا التصرف، ولا نستبعد انه كان يتخوف من اشتهار احاديث الرسول في فضل علي وابنائه (ع).

ويؤكد ذلك ما رواه عبد الرحمن بن الاسود عن ابيه، ان علقمة جاء بكتب من اليمن او مكة تحتوي على طائفة من الاحاديث في فضل اهل البيت (ع)، فاستأذنا على عبد الله بن مسعود فدخلنا عليه ودفعنا اليه الكتب، قال: فدعا الجارية ثم دعا بطشت فيه ماء، فقلنا له: يا ابا عبد الله انظر فيها فان فيها احاديث حساناً، فلم يلتفت، وجعل يمثها في الماء ويقول: نحن نقصّ عليك احسن القصص بما اوحينا اليك هذا القرآن، القلوب اوعية فاشغلوها بالقرآن، وعبد الله بن مسعود كان منحرفاً عن علي (ع) ويساير المنحرفين عنه، كما تؤكد ذلك النصوص التاريخية.

ولو افترضنا ان الخليفة كان حسن النية في هذا الامر، وانه لم يمنع الا بدافع الحرص على كتاب الله، فقد كان من نتائجه، ان اتسع المجال للكذابين والمنحرفين عن المخطط الاسلامي، والمرتزقة ان يضعوا من الاحاديث ما توحيه اليهم الاهواء والمطامع، بالاضافة الى ما ضاع منها

٢٢

بسبب الحروب والغزوات، التي فتكت بالصحابة بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

على ان الذين يحاولون ان يعتذروا عنه، ويقرون المرويات التي تنص على انه خاف ان يختلط الحديث بالقرآن، هؤلاء يسيئون اليه من حيث لا يقصدون، لانه لم يكن قصير النظر ولا محدود التفكير ولا جاهلاً باساليب البيان وبلاغة القول، ويعلم جيداً ان القرآن قد استولى على النفوس وتحكم بمشاعرهم واحاسيسهم، وكان له الاثر البالغ في سير الدعوة وانتشارها، هذا بالاضافة الى وجود الفوارق الكثيرة بين الاسلوبين التي لا تخفى على احد منهم.

ومع التغاضي عن جميع ذلك، فقد كان بالامكان لو كانت النوايا طيبة التفرغ الى جمع الحديث وتدوينه بعد تدوين القرآن الكريم والتثبت من احصائه في مجموعة واحدة بواسطة لجنة مختارة من الامناء المعروفين بالوثاقة والاستقامة، ولو فعلوا ذلك لقطعوا الطريق على كل افاك اثيم، وعلى المرتزقة الذين شوهوا معالم السنة وطمسوا من اضوائها النيرة والصقوا فيها من الموضوعات التي جرت على المسلمين اسوأ انواع البلاء وفرقتهم شيعاً واحزاباً.

ومهما كانت الاسباب التي فرضت على الخليفة ان يقف من السنة هذا الموقف، فالنصوص التاريخية تؤكد بانه لم يكن موفقاً فيه ولم ينجح كل النجاح في هذا التدبير، فقد ظهرت بعض المدونات الاسلامية في فترات متعاقبة من عصر الصحابة وبعده للشيعة وغيرهم، ومن ذلك الجامعة التي الفها علي (ع) وقد تناول فيها جميع ابواب الفقه، واليها كان يرجع الائمة (ع) في احكامهم واقضيتهم في كثير من المناسبات، كما دون عبد الله بن العباس في الفقه والتفسير وغير ذلك من العلوم، وجاء

٢٣

في بعض المرويات انه ترك حمل بعير من مدوناته، وكان يحمل قسماً منها الى مجالسة وحلقات التدريس، وكتب سعيد بن جبير احد تلاميذه كل ما املاه عليه. ومجمل القول ان حركة التدوين بدأت تتسع في الشطر الاخير من عصر الصحابة ولكنها لم تنتشر بين المسلمين الا في اوائل القرن الثاني حينما امر عمر بن عبد العزيز ابا بكر محمد بن حزم بجمع الحديث وتدوينه، وجاء في المذكرة التي وجهها اليه. انظر ما كان من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله او سنة ماضية فاكتبه فاني خفت دروس العلم وضياعه، واكد عليه كما تنص بعض المرويات ان يدون ما روته عمرة بنت عبد الرحمن الانصارية والقاسم بن محمد بن ابي بكر(١) فهب الناس الى التدوين واحسوا بخطر الركود الذي مر عليه في القرن الاول واصبح من الضرورات الملحة بنظر الجميع، لا سيما وقد ندب اليه عمر بن عبد العزيز المعروف بالاعتدال والحرص على الآثار الاسلامية ولكن التدوين الذي كان يومذاك لم يكن مرتباً على ابواب الفقه وفصوله ولم يقتصر الكتاب على موضوع واحد، بل كان المؤلف يحشد في كتابه من جميع المواضيع والاصناف، بما في ذلك التفسير واللغة والادب ونحو ذلك من المواضيع اما التدوين المرتب على الابواب الفقهية فلم يكن قبل اواخر النصف الاول من القرن الثاني، ويدل على ذلك ما اورده الحافظ الذهبي في حوادث ص ١٤٣ قال: وفي هذا العصر شرع علماء الاسلام في تدوين الحديث والفقه والتفسير وغير ذلك من المواضيع، فصنف ابن جريح المتوفى ١٥٠ تصانيفه الكثيرة في مكة، وصنف ابن أبي عروبة المكنى بابي النظر العدوي، وفي خلال ذلك صنف ابو حنيفة في الفقه والرأي، كما صنف حماد بن سلمة وسفيان الثوري والاوزاعي، وعبد الله بن المبارك، وهشيم بن بشير، وغيرهم في فرات متعاقبة تتراوح بين سنة ١٥٠ و ١٧٥ عشرات الكتب

____________________

(١)انظر تاريخ الفقه الجعفري ص ١٧٦ والاضواء ص ٢٢٤

٢٤

في مختلف المواضيع واذا لاحظنا ما انتجته مدرسة الامامين الباقر والصادق (ع) في هذه الفترة من القرن الثاني تقريباً من المدونات التي بلغت ستة آلاف كما احصاها اكثر المؤلفين في هذا الموضوع من الشيعة واشرنا الى مصادرها في كتابنا ( المبادئ العامة في الفقه الجعفري) اذا لاحظنا ذلك ندرك اهمية هذا الدور من ناحية اتساع حركة التأليف وتدوين الآثار الاسلامية وغيرها من آثار الفرس واليونان في مختلف المواضيع، وقد احصى المؤلفون في احوال الرجال والتراجم عدداً كبيراً لجماعة من اصحاب الائمة كصفوان بن يحيى، وشعيب بن اعين الحداد، وهشام بن الحكم، واسماعيل بن موسى بن جعفر (ع) وعبد الله بن المغيرة البجلي الكوفي، وعبد الله بن سنان مولى بني هاشم، ومحمد بن عمير ويونس بن عبد الرحمن، واحمد بن محمد بن عيسى الاشعري، والفضل بن شاذان النيسابوري الى غير ذلك ممن تترواح مؤلفاتهم بين العشرين والثلاثين كتاباً.

وجاء عن محمد بن مسعود العياشي انه انفق على تدوين العلم ثلاثمائمة الف دينار، وان داره كانت تعج بالناس، وهم بين ناسخ وقارئ ومقارن ولو كتب البقاء لمؤلفات الشيعة في القرنين الثاني والثالث، لكانت دور الكتب اغنى ما تكون بالآثار الشيعية، ولكن الظروف التي احاطت بهم، والحروب الدامية التي كانت في الغالب تستهدف دمائهم وآثارهم كل ذلك قد ساهم في تبديد تلك الثورة الغنية بالكنوز والنفائس، وليس ادل على ذلك من اقدام الحكام والغزاة، وبخاصة الايوبيين منهم على حرق المكتبات الشيعية مباشرة. كمكتبة الطوسي، والوزير (نصر سابور بن اردشير) وزير بهاء الدولة، ومكتبة الازهر التي اسسها الفاطميون في مصر وحشدوا فيها مئات الالوف من المجلدات في مختلف المواضيع وبقيت اكثر من قرنين من الزمن منهلاً كريماً لرواد العلم من

٢٥

مختلف الاقطار الى ان جاء عهد الايوبيين الذي استهدف الشيعة وآثارهم اكثر من أي شيء آخر ذلك العهد الذي مثل فيه صلاح الدين وابناؤه الجريمة باقبح صورها واشكالها الى غير ذلك من دور الكتب التي كانت اكثر محتوياتها من كتب الشيعة وآثارهم.

ومهما كان الحال فلم يطرأ على التدوين تطور قبل نهاية القرن الثاني، وبنهايته شرع فريق من العلماء بتطويره فافردوا احاديث الرسول عن آراء الصحابة وأقضيتهم، ووزعوا الاحاديث على ابواب الفقه وفصوله حسب المناسبات ومضى العلماء على ذلك، فألف احمد بن حنبل جامعه، واسحاق بن راهويه وغيرهما عشرات الكتب وظلت حركة التدوين تتسع الى ان دخلت طوراً جديداً، هو طور الاختيار والتنقيح، وكان اول من اتجه الى هذه الناحية من السنة محمد بن اسماعيل البخاريرحمه‌الله .

قال الحافظ بن حجر في مقدمة فتح الباري على صحيح البخاري، ولما رأى البخاري هذه التصانيف ورواها وانتشق رياها واستجلى محياها وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت الصحيح وغيره والكثير منها يشمله التضعيف، حرك همته لجمع الحديث الصحيح، فألف كتابه المعروف بصحيح البخاري، كما الف كل من مسلم، وابو داود سليمان بن الاشعت السجستاني، والترمذي والنسائي، وابن ماجة، ومحمد بن يزيد كتبهم الستة المعروفة بين اعلام السنة بالصحاح خلال القرنين الثالث واوائل القرن الرابع، وكان لمحمد بن اسماعيل البخاري الفضل الاكبر في هذا الاتجاه من التأليف، لانه اول من حرك همته لتحري الاحاديث الصحيحة ودونها في صحيحه سنة ٢٥٠ تقريباً، وآخرهم النسائي احمد بن شعيب المتوفى سنة ٣٠٣ شهيداً في مكة كما في رواية الذهبي وغيره.

وجاء في سبب وفاته. انه خرج من مصر وافداً على دمشق فاجتمع

٢٦

عليه المحدثون والقراء وغيرهم، وفي بعض مجالسه سأله بعضهم، ايهما افضل علي ام معاوية؟ فقال على الفور: اما رضي معاوية ان يخرج رأساً برأس حتى يفضل، وجاء عنه انه قال: والله لا اعرف له فضيلة الا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله له: (لا اشبع الله بطنك) فداسوه بارجلهم واخرجوه من الشام مضروراً، فتوجه نحو مكة المكرمة وتوفي بها متأثراً بما اصابه، وجاء في ترجمته انه قال: دخلت الشام، والمنحرف عن علي (ع) بها كثير فصنفت كتاب الخصائص رجوت بذلك ان يهديهم الله(١) .

وفي هذا الدور الذي ظهر فيه اصحاب الصحاح ودونوا صحاحهم، نجد بين المؤلفين من الشيعة من هو اكثر انتاجاً واحسن تنظيماً من غيرهم، كما تؤكد ذلك كتب الرجال والحديث التي تعرضت لمؤلفات الشيعة في الفترة الواقعة بين عصر البخاري والنسائي، وبخاصة المؤلفات الفقهية الموزعة على ابواب الفقه وفصوله، واشتهر من بينهم القميون بتصلبهم وتشددهم على كل متهم بالانحراف عن العقيدة، كمحمد بن عيسى بن عبد الله الاشعري شيخ القميين في القرن الثالث على حد تعبير علماء الرجال ومحمد بن احمد بن ابي قولويه، ومحمد بن اسماعيل بن بشير البرمكي، ومحمد بن خالد الاشعري القمي، ومحمد بن علي بن محبوب احد الشيوخ الاجلاء في قم، وصاحب المؤلفات الكثيرة في مختلف المواضيع وقد احصى له النجاشي والمامقاني في تنقيح المقال نحواً من ثلاثين مؤلفاً وفي كتابه الجامع تعرض لجميع ابواب الفقه من الطهارة الى الديات والحدود، ومن هذه الطبقة محمد بن الحسن بن فروخ الصفار المعروف بالوثاقة وحسن السيرة وسلامة العقيدة، والمعاصر للامامين الهادي والعسكري (ع)، كما عاصر البخاري وغيره من اصحاب الصحاح، الى غير ذلك من العشرات الذين اتجهوا الى تصفية الحديث وتصنيفه على

____________________

(١)انظر شذرات الذهب لابن العماد ج ٢ ص ٢٤٠

٢٧

ابواب الفقه وفصوله، وقد احصى النجاشي لبعضهم اكثر من تسعين كتاباً.

وجاء في الفهرست لابن النديم: ان الفضل بن شاذان النيسابوري ترك نحواً من ١٨٠ كتاباً من مؤلفاته في مختلف المواضيع، وبلغ الحال بالقميين وغيرهم انهم كانوا يخرجون من قم كل متهم بالغلو والانحراف عن التشيع السليم ويرفضون مروياتهم مهما كان نوعها. وبالتالي فقد اتجهوا الى التأليف في احوال الرواة، ووضعوا اصول علم الرجال والدراية حتى لا تختلط مرويات المنحرفين والمتهمين بمرويات الموثوقين من الشيعة المعتدلين في تشيعهم وعقائدهم، ومن هؤلاء علي بن الحسين بن علي بن فضال. فقد جاء في الفهرست للشيخ الطوسي. انه ممن يعتمد على قوله في الرجال، ويستند اليه في الجرح والتعديل، واكد هذه الحقيقة في منتهى المقال، واستنتج بعضهم انه من المؤلفين في الرجال.

ومنهم الفضل بن شاذان، فقد نص جماعة ان له كتباً في الرجال واحوال الرواة، ومنهم محمد بن احمد بن داود بن علي شيخ القميين في زمانه كما نص على ذلك النجاشي، والعلامة في الخلاصة.

وجاء في الفهرست، انه الف كتاباً في الممدوحين، والمذمومين في رجال الحديث.

ومنهم محمد بن الحسن ابو عبد الله المحاربي، قال النجاشي، والعلامة في الخلاصة. انه كان خبيراً باحوال الرواة والف في هذا الموضوع كتاباً عرض فيه احوالهم ومراحل حياتهم.

ومنهم نصر بن الصباح المكني بابى قاسم من اهالي بلخ فقد الف كتاباً في احوال الرواة والناقلين للحديث كما الف في العقائد وغيرها.

٢٨

ومنهم محمد بن خالد البرقي ومحمد بن مسعود السمرقندي المعروف بالعياشي وغيرهم ممن نص اصحاب الفهارس على انهم قد الفوا في احوال الرجال ووضعوا اصول علم الدراية في القرن الثالث واوائل القرن الرابع، وقد اكد ذلك الشيخ الطوسي في العدة، وجاء فيها ان الطائفة ميزت الرجال الناقلين لهذه الاخبار فوثقوا الثقات منهم، وضعفوا الضعفاء، وفرقوا بين من يعتمد على حديثه وروايته، ومن لا يعتمد عليه، ومدحوا الممدوحين، وذموا المذمومين، وقالوا فلان متهم في حديثه، التي وصفوا وفلان كذاب، وفلان مخلط ومخالف في المذهب والاعتقاد الى غير ذلك من الطعون التي وصفوا بها الرواة والمحدثين، واضاف الى ذلك انهم صنفوا في ذلك الكتب، واستثنوا الرجال من جملة ما رووه من التصانيف في فهارسهم، حتى ان واحداً منهم اذا انكر حديثاً نظر في اسناده وضعفه بروايته واصبحت هذه الطريقة عادة لهم لا تنخرم ولولا ان العمل بما يسلم من الطعون جائز، لا يكون فائدة لما شرعوا فيه من التضعيف والتوثيق(١) هؤلاء وغيرهم من المؤلفين في الحديث واحوال الرجال وشروط الرواية واقسامها الذين بذلوا كل ما لديهم من الامكانيات لتصفية الحديث من الموضوعات ومن المشتبهات هؤلاء وضعوا الاساس للمتأخرين، وكانوا الركيزة التي اعتمدها المحمدون الثلاثة، محمد بن يعقوب الكليني، ومحمد بن بابويه الصدوق، ومحمد بن الحسن الطوسي في اختيار مجاميعهم الاربعة(٢) تلك المؤلفات التي اعتمد مؤلفوها على كتب القميين وغيرهم من اصحاب الائمة وتلاميذهم كالاصول الاربعة التي كانت بمجموعها محلاً لثقة الرواة والمحدثين، من حيث معرفتهم بمؤلفيها ووثوقهم بصحة ما فيها من المرويات، هذا بالاضافة

____________________

(١)ص ٥٣ من العدة.

(٢)الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسي.

٢٩

الى القرائن الاُخرى التي اعتمد عليها المحمدون الثلاثة بالنسبة لبعض المرويات، وان لم تكن من حيث اسانيدها مستوفية لشروط العمل بالرواية، ومن جملتها مطابقة مضمون الرواية للنص القرآني، او للسنة الصحيحة، او لما اجمعت الطائفة عليه، او لموافقته لحكم العقل، او لغير ذلك من القرائن التي تؤكد مضمون الخبر وان رواه من لا يصح الاعتماد على مروياته(١) .

ومجمل القول ان المحدثين من الشيعة نشطوا في تصفية الحديث من الموضوعات ومن مرويات المنحرفين في عقائدهم والمندسين بين صفوف الشيعة ووضعوا النواة الاولى لعلمي الرجال والدراية والفوا فيهما، قبل ان يقوم البخاري ورفاقه من اصحاب الصحاح بمهمة تصفية الحديث وتصنيفه، واصبح علم الرجال والدراية من العلوم التي يتوقف عليها استنباط الاحكام من الادلة، لان الحديث هو المصدر الثاني للاحكام بعد كتاب الله، ولولاه لم يتم التشريع ولميبلغ تلك المرتبة العالية من الاحاطة والشمول التي تناولت جميع المواضيع ووضعت الحلول لجميع مشاكل الحياة على اختلاف تطورها ومراحلها.

____________________

(١)العدة للشيخ الطوسي ص ٥٣ .الفصل الثاني : في أصناف الحديث

٣٠

٣١

٣٢

الفصل الثاني: في أصناف الحديث

لقد قسم الباحثون في الحديث واحوال الرواة الخبر الى قسمين متواتر وآحاد، وتحدثوا عنهما من حيث معناهما، واقسامهما وشرائط الاعتماد عليهما باسهاب في مؤلفاتهم الموضوعة لهذه الغاية، واختلفت آراؤهم في كثير من النظريات والافكار المتعلقة بهذه المواضيع كما هو الحال في جميع المباحث التي يدخلها عنصر الاجتهاد، ومما لا شك فيه ان تحديد التواتر وشروطه، واخبار الآحاد واصنافها، وما يتعلق بذلك من المواضيع التي تتصل بعلمي الرجال والدراية مباشرة، هذه المواضيع وما يتعلق بها تتسع لاختلاف الانظار وتضارب الآراء ولذلك لا يصح ان ننسب رأياً الى الشيعة او السنة في هذه المواضيع وغيرها من المواضيع الاجتهادية الا اذا اتفق الاكثر عليه، او كان معبراً عن رأي الاغلبية منهم، اما نسبته الى احد الفريقين الشيعة او السنة لمجرد وجوده في كتاب، او لمجرد كونه يعبر عن رأي بعض الافراد، او الجماعات، فهو من الاغلاط التي وقع فيها اكثر المؤلفين.

وعلى جميع الاحوال فالتواتر هو عبارة عن اخبار جماعة كثيرة يستحيل عادة اتفاقهم على الكذب، ولو انضمت بعض القرائن الى المخبرين

٣٣

بحيث كان حصول العلم مستنداً الى المجموع لا يمنع ذلك من حجية التواتر.

ولو اخبر جماعة بشيء، ولكنهم لم يبلغوا الحد الموجب للعلم لا يصدق التواتر بالمعنى المصطلح عليه بينهم، كما وان العلم لو لم يستند الى الكثرة بان حصل العلم به من الخارج، او حصل العلم من اخبار ثلاثة او اربعة معروفين بالصدق والامانة، او كان خبر الكثيرين موافقاً لدليل مقطوع به ومعمول بمقتضاه كل ذلك ليس من التواتر المقابل للآحاد.

بل لا بد وان يكون العلم مستفاداً من اخبار جماعة يستحيل عليهم بحسب العادة ان يتفقوا على الكذب وكما ذكرنا لا يمنع من حصول التواتر وجود بعض القرائن المؤيدة لاخبارهم حتى ولو كان العلم الحاصل منه مستنداً الى الجميع.

وقال الشيخ الطوسي في تحديد معنى التواتر: ان الخبر اذا لم يكن من باب ما يجب وقوع العلم عند حصوله، واشتراك العقلاء، وجاز وقوع الشبهة به، هو ان يراد به جماعة قد بلغت من الكثرة حداً لا يصح معه ان يتفق الكذب منها عن المخبر الواحد، ولا بد بالاضافة الى ذلك من العلم بانه لم يجمعها على الكذب جامع كالتوطؤ وما يقوم مقامه، ولا بد ايضاً من العلم بان المخبر الاول على يقين من امره لم يخبر وهو متردد او غافل عما اخبر به، هذا اذا لم يكن بين الجماعة وبين المخبر الاول واسطة، فان كان بينهما واسطة لا بد من مراعاة هذه الشروط في جميع الوسائط حتى ينتهي الحال الى نفس المخبر الاول(١) .

____________________

(١)انظر العدة للطوسي ص ٣١

٣٤

ولا بد في العلم الحاصل من التواتر من الشروط التالية.

الاول ان لا يكون السامع عالماً بمضمون الخبر، كما لو اخبر الجماعة شخصاً عما شاهده وعلم به مباشرة، وقد عللوا ذلك بان خبر الجماعة لو افاد العلم في هذه الحالة، فاما ان يكون عين العلم الحاصل له بالمشاهدة، او غيره، فان كان عينه، يكون من تحصيل الحاصل، وان كان غيره يلزم اجتماع المثلين، ولا يصح في مثل هذا ان نفترض كون الخبر مؤكداً ومقوياً للعلم الحاصل عن طريق الحس والمشاهدة لان العلم الحاصل للسامع عن هذا الطريق يكون ضرورياً، والضروري لا يقبل الترديد والتشكيك ولا الزيادة والنقصان.

الشرط الثاني ان لا يكون الخبر مسبوقاً بشبهة تخالف مضمونه في ذهن السامع، وان لا يكون السامع معتقداً خلاف مدلوله تقليداً او لسبب آخر، اذ لا يمكن حصول العلم من الخبر غالباً الا اذا كان ذهن السامع خالياً عن الشبهة والمعتقدات المخالفة له مهما بلغ رواته من الكثرة.

الشرط الثالث ان يستند المخبرون الى الحس، فلو كان اخبارهم مستنداً الى حكم عقلي او نص قرآني او غيرهما لا يكون من التواتر المقابل للأحاد.

الرابع، ان تكون جميع الوسائط عالمة بمضمون الخبر، بنحو يستند علم الطبقة الاولى الى الحس والمشاهدة، والثانية الى التواتر الحاصل باخبار الطبقة الاولى، والثالثة من اخبار الثانية، وهكذا بالنسبة الى بقية الطبقات.

اما العدد الذي يتحقق به التواتر، فالظاهر ان اكثر المؤلفين في علم الحديث لا يشترطون عدداً معيناً فيه، وكل ما في الامر لا بد فيه من

٣٥

الكثرة التي يحصل من اخبارها العلم بمضمون الخبر، والعلم قد يحصل احياناً من اخبار العشرة، واحياناً لا يحصل من اخبار العشرين والثلاثين والاكثر من ذلك.

اما تحديدها باكثر من اربعة كما نسب الى القاضي الباقلاني، وباكثر من عشرة كما جاء عن (الاصطخري)، وباثني عشر مخبراً عدد نقباء بني اسرائيل، وباكثر من عشرين كما جاء عن أبي الهذيل العلاف، وبسبعين كما جاء عن بعض المحدثين وبثلاثمائة عدد اصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر كما نص على ذلك بعضهم، هذه التقديرات كلها لاهل السنة، ولا وجود لها في كتب الشيعة، والظاهر اتفاقهم على عدم تحديده بعدد معين(١) .

ومهما كان الحال فالخبر المتواتر، اما ان يكون متواتراً بلفظه ومعناه، كما لو اتفق المخبرون على نقل الحديث بلفظ واحد، واما ان يكون متواتراً من حيث المعنى، كما لو اختلفت الفاظ المخبرين مع وحدة المعنى، وحصل العلم بذلك المعنى من الفاظهم المختلفة بواسطة دلالة الخبر على المعنى بالتضمن او الالتزام، او بالمطابقة اذا كانت الالفاظ المختلفة مشتركة في معنى واحد، وهذا النوع من التواتر الذي اطلقوا عليه اسم التواتر المعنوي موجود ومطّرد بين المرويات في الفروع والاصول، اما التواتر اللفظي في جميع مراحله ووسائطه هذا النوع من التواتر ربما يكون قليلاً ونادراً بين المرويات عن الائمة والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كما يبدو ذلك بعد التتبع والاستقصاء، وقد بالغ بعضهم فانكر وجوده من الاساس.

قال الشيخ عبد الصمد في رسالته التي الفها في علم الدراية: المتواتر

____________________

(١)انظر مقباس الهداية للمامقاني، والعدة للطوسي وغيرهما من مؤلفات الشيعة في علم الحديث.

٣٦

هو ما رواه جماعة يحصل العلم بقولهم، للقطع بعدم امكان تواطؤهم على الكذب عادة، ويشترط ذلك في كل طبقاته صحيحاً كان أوْلا، واضاف الى ذلك: وهذا لا يكاد يعرفه المحدثون في الاحاديث لقلته، وهو كالقرآن وظهور النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والقبلة والصلات وعدد الركعات، والحج ونصب الزكوة ونحو ذلك(١) وتشبيه التواتر بهذه الامور الثابتة بالضرورة من دين الاسلام، هذا التشبيه يشعر بان التواتر في الحديث يكاد ان يكون في حكم المعدوم من حيث ندرته وعدم وجوده بين المرويات عن النبي والائمة (ع).

____________________

(١)انظر الوجيزة للشيخ عبد الصمد الحارثي ص ٧٦

٣٧

التواتر عند محدثي السنة

لا يجد المتتبع في المؤلفات الشيعية والسنية حول الحديث واصنافه وحالاته فروقاً جوهرية بين الفريقين في المراد في المتواتر وشروطه واقسامه، واذا استثنينا التقديرات المختلفة التي نقلناها عن السنة تلك التقديرات التي لا يتحقق التواتر باقل منها على حد زعمهم، اذا استثنينا هذه الناحية نجد انهم يلتقون التقاء كاملاً في جميع النواحي المتعلقة به

قال الدكتور صبحي الصالح في كتابه علوم الحديث: فالمتواتر هو الحديث الصحيح الذي يرويه جمع يحيل العقل والعادة تواطئهم على الكذب عن جمع مثلهم في اول السند وآخره ووسطه، واضاف الى ذلك. ان التواتر ينقسم الى لفظي ومعنوي فاللفظي هو ان يتفق المخبرون على الفاظ الحديث في جميع الوسائط، والمعنوي، يرجع الى اتفاقهم على المعنى مع الاختلاف في الالفاظ الحاكية للمعنى، ولم يستبعد الرأي الذي يرجح كثرة الاحاديث المتواترة لفظاً ومعنى، وعد منها حديث انشقاق القمر، وحديث من كذب عليّ معتمداً فليتبوأ مقعده من النار من حيث ان الذين رووا هذا الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بلغوا اثنين وسبعين صحابياً كما جاء عن بعض المحدثين وحديث الترغيب في بناء المساجد، والشفاعة، وانين الجذع، والمسح على الخفين، والاسراء، والمعراج، ونبع الماء بين اصابعه واطعام الجيش الكبير من الزاد القليل الذي لا يكفي عادة لاثنين

٣٨

او ثلاثة، الى غير ذلك من المرويات الكثيرة التي نص جماعة من محدثي السنة على تواترها لفظاً ومعنى، كما جاء ذلك عن السيوطي في تدريب الراوي، والحافظ بن حجر في شرح النخبة وغيرهما.

وفي مقابل هؤلاء المغالين في اعطاء هذه المرويات صفة التواتر، نص جماعة على ندرة التواتر اللفظي، وارجع الامثلة التي ذكرناها الى القسم الثاني من قسمي التواتر، وهو المعنوي، نظراً للاختلاف الواقع في الفاظها بين المحدثين.

ومهما كان الحال، فلم اجد فيما ذكره الفريقان ما يشير الى بعد المسافة بينهما في هذه المسألة، وفيما يتعلق بكميات الاخبار المتواترة بين المرويات المدونة في كتب الحديث عند الطرفين، فكل منهما يدعي وجود كمية كبيرة من مروياته تحمل هذا الاسم، ولكن المحدثين من الشيعة يعترفون بندرة التواتر اللفظي بين مروياتهم عن الرسول والائمة (ع) بينما بالغ جماعة من محدثي السنة في كمية هذا النوع من التواتر بين مروياتهم.

٣٩

اخبار الآحاد واصنافها

لقد اصطلح المؤلفون في علم الحديث على تقسيم الخبر من حيث رواته الى متواتر وآحاد، وعدوا كل حديث لا تتوفر فيه شروط التواتر من نوع الآحاد، سواء كان الراوي له واحداً، او اكثر.

وخبر الواحد ينقسم من حيث رواته الى مستفيض ومشهور وغريب، وعزيز، كما ينقسم من حيث متنه الى اقسام كثيرة، كما سنبين ذلك في خلال هذا الفصل الذي وضعناه لبيان الحديث واقسامه واصنافه وحد المستفيض عندهم ان يرويه اكثر من ثلاثة في جميع مراحله، سواء رووه بلفظ واحد، او بالفاظ مختلفة مع وحدة المعنى، كما نص على ذلك اكثر المحدثين.

ونص بعضهم على انه لو اختلفت الفاظه يخرج عن كونه مستفيضاً، وفرق جماعة بين المشهور والمستفيض، بأن الخبر لا يوصف بالاستفاضة الا اذا رواه اكثر من ثلاثة في جميع مراحله حتى ينتهي الى الطبقة الاخيرة ويوصف بالشهرة ولو كان الراوي الاول له واحداً، على شرط ان يشتهر بين الطبقة الثانية، ويرويه جماعة عن الراوي الاول، وجماعة عن الطبقة الثانية وهكذا.

ومن امثلته الحديث المعروف المروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (الاعمال بالنيات) فان هذا الحديث معدود من الاحاديث المشهورة، مع ان الذي

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

الفصل الثامن : القَسَمُ في سورةِ المُرسَلات

لقد حلفَ سبحانه بأوصاف الملائكة وقال :

أ ـ( وَالمُرسَلاتِ عُرْفاً )

ب ـ( فَالعاصِفاتِ عَصْفاً )

ج ـ( وَالنّاشِراتِ نَشْراً )

د ـ( فَالفارِقاتِ فَرْقاً )

هـ ـ( فَالْمُلْقِياتِ ذِكراً * عُذْراً أو نُذْراً * إِنَّما تُوعَدونَ لَواقعٌ ) (١)

حلفَ سبحانه في هذه الآيات بأُمور يعبّر عنها بـ : ( المُرسَلات ، فالعاصِفات ، والناشرات ، فالفارقات ، فالملقيات ذكراً ، عُذراً أونُذراً )

وقد اختلفت كلمة المُفسّرين في تفسير هذه الأقسَام ، وقد غلب عليهم تفسيرها بالرياح المُرسلة العاصفة الناشرة ، بَيْدَ أنّ وحدة السِياق تبعثنا إلى تفسيرها بأمر واحد تنطبق عليه هذه الصفات ، فنقول :

١ ـ( المُرْسَلاتِ عُرفاً ) أي : أُقسِم بالجماعات المُرسَلات من ملائكة الوحي ، والعُرْف ـ بالضمِّ فالسكون ـ الشَعرُ الثابت على عُنق الفرس ، وتُشبّه به الأُمور إذا تتابعت ، يقال : جاءُوك كعُرفِ الفَرس ، يقول سبحانه :( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ

ــــــــــــــــ

(١) المُرسَلات : ١ ـ ٧

١٢١

بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) (١) ، ومع ذلك فقد فُسّر بالرياح المُرسلة المُتتابعة

٢ ـ( فَالعاصِفاتِ عَصْفاً ) والعصف هو سرعة السَير ، والريح العاصفة بمعنى سرعة هبوبها ، والمراد : أُقسم بالملائكة الّذين يُرسلون مُتتابعين فيُسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة

ومع ذلك فُسّر بالرياح الشديدة الهبوب

٣ ـ( وَالنّاشِراتِ نَشْراً ) قسم آخر ، والمراد : نشر الصحيفة والكتاب ، والمعنى : أُقسم بالملائكة الناشرين للصحف ، المكتوب عليها الوحي للنبي ليَتلقّاه ، ومع ذلك فقد فُسِّرت بالرياح الّتي تنشر السَحاب نشراً للغيث كما تلقحه للمطر

٤ ـ( فَالفارِقات فَرقاً ) .المراد به : الملائكة الّذين يفرِّقون بين الحقّ والباطل ، والحلال والحرام ، وذلك لأجل حمل الوحي المُتكفّل ببيان الحقّ والباطل ، ومع ذلك فقد فُسّر بالرياح الّتي تفرّق بين السحاب فتُبدِّده

٥ ـ( فَالْمُلْقياتِ ذِكراً ) المراد به : الملائكة ، تُلقِي الذكر على الأنبياء ، وتلقيه الأنبياء إلى الأُمم

وعلى ذلك ، فالمراد بالذكر هو : ( القرآن ) ، يقرءونه على النبيّ ، أو مُطلَق الوحي النازل على الأنبياء المَتلوّ عليهم

ثُمّ يُبِّن أنّ الغاية من إلقاء الوحي أحد الأمرين : إمّا الإعذار أو الإنذار ، والإعذار : الإتيان بما يصير به معذوراً ، والمعنى : إنّهم يُلقون الذكر ليكون عُذراً لعباده المؤمنين بالذكر ، وتخصيصاً لغيرهم

ــــــــــــــــ

(١) النحل : ٢

١٢٢

وبعبارة أُخرى ، يُلقون الذكر ليكون إتماماً للحُجّة على المُكذِّبين ، وتخويفاً لغيرهم ، هذا هو الظاهر من الآيات

وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله :( إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِع ) ، وما موصولة ، والخطاب لعامّة البشر ، والمراد : إنّما توعدون يوم القيامة ، بما فيه من العقاب والثواب ، أمر قطعي وواقع وإنّما عبَّر بواقع دون كائن ، لأنّه أبلغ في التحقّق

ثُمّ إنّ الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه واضحة ؛ لأنّ أهمّ ما تحمله الملائكة وتلقيه هو الدعوة إلى الإيمان بالبعث والنشور ، ويؤيّد ذلك قوله :( عُذراً أو نُذراً ) ، أي إتماماً للحُجّة على الكُفّار وتخويفاً للمؤمنين ، كلّ ذلك يدلّ على معادٍ قطعيّ الوقوع ، يحتجّ به على الكافر ، ويجزي به المُؤمن

وهناك بيان للعلاّمة الطباطبائي ، حيث يقول : من لطيف صُنعة البيان في هذه الآيات الستِّ أنّها مع ما تتضمّن الأقسام لتأكيد الخبر الّذي في الجواب ، تتضمّن الحُجّة على مضمون الجواب ، وهو وقوع الجزاء الموعود ، فإنّ التدبير الربوبي الّذي يُشير إليه القَسَم ، أعني : إرسال المُرسَلات العاصفات ، ونشرها الصحف وفَرقِها ، وإلقاءها الذِكر للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تَدبيرٌ لا يتمّ إلاّ مع وجود التكليف الإلهي ، والتكليف لا يتمّ إلاّ مع تَحتّم وجود يوم معه للجزاء ، يجازي فيه العاصي والمطيع من المُكلّفين

فالّذي أقسَمَ تعالى به من التدبير ، لتأكيد وقوع الجزاء الموعود ، هو بعينه حُجّة على وقوعه ، كأنّه قيل : اُقسِم بهذه الحُجّة أنّ مدلولها واقع(١)

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ٢٠/١٤٧

١٢٣

الفصل التاسع : القَسَمُ في سورة النازعات

حلفَ سبحانه بأوصاف الملائكة خمس مرّات ، وقال :

( وَالنّازِعـاتِ غَرْقــاً )

( وَالنّاشِطاتِ نَشْـطاً )

( وَالسّابِحاتِ سَبْحـاً )

( فَالسّابِقـاتِ سَبْقــاً )

( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ الرِّاجِفَةُ * تَتْبَعُها الرّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَومَئذٍ واجِفَةٌ * أَبْصارُها خاشِعَةٌ ) (١)

حلفَ سبحانه في هذه السورة بطوائف وصفها بـ : النازعات ، الناشطات ، السابحات ، السابقات ، المُدبِّرات

النازعات : من النَزْعِ ، يُقال : نَزَعَ الشيء ، جذبه من مَقرِّه ، كنزعِ القوس عن كنانته

والناشطات : من النَشْطِ وهو النزع أيضاً ، ومنه حديث أُمّ سلمة : ( فجاء عمّار ـ وكان أخاها من الرضاعة ـ ونشط زينب من حجرها ) ، أي : نَزَعها

ونشطَ الوحشُ من بلد إلى بلد ، إذا خرج

ــــــــــــــــ

(١) النازعات : ١ ـ ٩ .

١٢٤

والسابحات : من السَبح السريع في الماء وفي الهواء ، ويُقال : سَبَحَ سَبْحاً وسِباحَة ، واستعير لمَرِّ النجوم في الفلك ، ولجَري الفرس

والسابقات : من السَبق

والمُدبِّرات : من التدبير

وأمّا الغَرق ، اسم أُقيم مقام المصدر ، وهو الإغراق ، يُقال : غَرِقَ في النزع ، إذا استوفى في حدِّ القوس وبالغ فيه

هذه هي معاني الألفاظ ، وأمّا مصاديقها ، فيحتمل أن تكون هي الملائكة ، فهي على طوائف بين نازع وناشط وسابح وسابق ومُدبِّر ، قال الزمخشري : أقسَمَ سبحانه بطوائف الملائكة الّتي تنزع الأرواح من الأجساد ، وبالطوائف الّتي تنشطها ، أي تخرجها ، وبالطوائف الّتي تسبح في مُضيّها ، أي تسرع فتسبق إلى ما أُمروا به ، فتُدبِّر أمراً من أُمور العباد ، ممّا يصلحهم في دينهم أو دنياهم(١)

والمُقسَم عليه محذوف ، وهو ( لتُبعَثنَّ ) ، يدلّ عليه ما بعده من ذكر القيامة

ولا يخفى أنّ الطائفة الثانية على هذا التفسير نفس الطائفة الأُولى ، فالملائكة الّذين ينزعون الأرواح من الأجساد ، هم الّذين ينشطون الأرواح ويخرجونها ، ولكن يمكن التفريق بينهما ، بأنّ الطائفة الأُولى هم الموكّلون على نزع أرواح الكُفّار من أجسادهم بقَسوة وشدّة ، بقرينة قوله غرقاً ، وقد عرفت معناه ، وأمّا الناشطات ، هم المُوكلون بنزع أرواح المؤَمنين برِفْقٍ وسهولة

والسابحات هم الملائكة الّتي تقبض الأرواح ، فتُسرِع بروح المؤَمن إلى الجّنة ، وبروح الكافر إلى النار ، والسَبح الإسراع في الحركة ، كما يقال للفَرسِ : سابح ، إذا أسرع في جَريه

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ٣/٣٠٨

١٢٥

والسابقات وهم ملائكة الموت ، تسبق بروح المؤَمن إلى الجنّة ، وبروح الكافر إلى النار

فالمُدبِّرات أمراً ، المراد مطلَق الملائكة المُدبّرين للأُمور ، ويمكن أن يكون قِسم من الملائكة ، لكلّ وظيفة يقوم بها ، فعزرائيل مُوكّل بقبض الأرواح ، وغيره موكَّل بشيء من التدبير

ثُمّ إنّ الأشدَّ انطباقاً على الملائكة هو قوله :( فالمُدَبِّراتِ أمْراً ) ، وهو قرينة على أنّ المراد من الأخيرين هم الملائكة

وبذلك يُعلَم أنّ سائر الاحتمالات الّتي تعجّ بها التفاسير ، لا تلائم السياق ، فحِفظُ وحدة السياق يدفعنا إلى القول بأنّهم الملائكة

وبذلك يتّضح ضعف التفسير التالي :

المراد بالنازعات : الملائكة القابضين لأرواح الكفّار ، وبالناشطات : الوحش ، وبالسابحات : السفن ، وبالسابقات : المنايا ، تسبق الآمال ، وبالمُدبّرات : الأفلاك

ولا يخفى أنّه لا صِلة بين هذه المعاني وما وقع جواباً للقَسَم ، وما جاء بعده من الآيات الّتي تذكر يوم البعث وتحتجّ على وقوعه

والآيات شديدة الشَبَه سياقاً بما مرّ في مفتتح سورة الصافّات والمُرسَلات ، والظاهر أنّ المراد بالجميع هم الملائكة

يقول العلاّمة الطباطبائي : وإذ كان قوله : ( فالمُدبّرات أمْراً ) مُفتتحاً بفاء التفريع ، الدالّة على تفرّع صفة التدبير على صفة السبق ، وكذا قوله :( فَالسّابِقاتِ سَبْقاً ) مقروناً بفاء التفريع الدالّة على تفرع السبقِ على السبح ، دلّ ذلك على مُجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث :( وَالسّابِحاتِ سَبحاً * فَالسّابِقاتِ سَبْقاً *

١٢٦

فَالمُدبِّراتِ أَمْراً ) ، فمدلولها أنّهم يُدبّرون الأمر بعدما سبقوا إليه ، ويسبقون إليه بعد ما سبحوا ـ أي أسرعوا إليه عند النزول ـ ، فالمراد بالسابحات والسابقات هنّ المُدبّرات من الملائكة ، باعتبار نزولهم إلى ما أُمروا بتدبيره (١)

تدبير الملائكة :

إنّ القرآن الكريم يُعرِّف اللّه سبحانه هو المُدبِّر ، والتوحيد في التدبير من مراتبه ، فلَه الخلق والتدبير ، ولكنّ هذا لا ينافي أن يكون بينه سبحانه وبين عالم الخلق وسائط في التدبير ، يُدبِّرون الأُمور بإرادته ومشيئته ، ويؤدُّون علل الحوادث وأسبابها في عالم الشهود ، والآيات الواردة حول تدبير الملائكة كثيرة ، تدلّ على أنّهم يقومون بقبض الأرواح وإجراء السؤال ، وإماتة الكلّ بنفخ الصور وإحيائهم بذلك ، ووضع الموازين والحساب ، والسوق إلى الجنّة والنار

كما أنّهم وسائط في عالم التشريع ، حيث ينزلون مع الوحي ، ويدفعون الشياطين عن المداخلة فيه ، وتسديد النبي وتأييد المؤمنين

وبالجُملة هم :( عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُون ) .(٢)

فاللّه سبحانه يجري سُنَنه ومشيئته بأيديهم ، فيقبض الأرواح بواسطتهم ، ويُنزِل الوحي بتوسيطهم ، وليس لواحد منهم في عملهم أيّ استقلال واستبداد ، وفي الحقيقة جنوده سبحانه يقتفون أمره(٣)

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في حقّ الملائكة :( مِنْهُمْ سُجُودٌ لا

ــــــــــــــــ

(١) لميزان : ٢٠/١٨١

(٢) الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٧

(٣) الميزان : ٢٠/١٨٨ ، نقل بتلخيص

١٢٧

يَرْكَعُونَ ، وَرُكُوعٌ لا يَنْتَصِبُونَ ، وَصَافُّونَ لا يَتَزَايَلُونَ ، وَمُسَبِّحُونَ لا يَسْأَمُونَ ، لا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَلا سَهْوُ الْعُقُولِ ، وَلا فَتْرَةُ الأَبْدَانِ وَلا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ ، وَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَأَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ ، وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ ، وَمِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَالسَّدَنَةُ لأَبْوَابِ جِنَانِهِ ، وَمِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ ، وَالْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ ، وَالْخَارِجَةُ مِنَ الأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ ، وَالْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ ، نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ ، مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ ، مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ وَأَسْتَارُ الْقُدْرَةِ ، لا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ وَلا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ ، وَلا يَحُدُّونَهُ بِالأَمَاكِنِ وَلا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِر ) (١)

وقد عرفت أنّ المُقسَم عليه هو كـ ( تُبْعَثنَّ ) ، وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه هو ما قدَّمناه في الفصل السابق ، وهي أنّ الملائكة هم وسائط التدبير وخلق العالم ، وتدبيره لم يكن سُدى ولا عبثاً ، بل لغاية خاصّة ، وهو عبارة عن بعث الناس ومحاسبتهم وجزائهم بما عملوا

ــــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : ١٩ ـ ٢٠ ، الخطبة الأولى

١٢٨

الفصل العاشر : القًسَمُ في سورة التكوير

قد حلف سبحانه في سورة التكوير بالكواكب بحالاتها الثلاث ، مُضافاً إلى الليل المُدبِر ، والصبح المُتنفِّس ، وقال :

( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوارِ الكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ * مطاعٍ ثَمَّ أَمِين ) (١)

تفسير الآيات :

أشار سبحانه إلى الحلف الأول ، أي الحلف بالكواكب بحالاتها الثلاث ، بقوله :

الخُنَّس ، الجَوار ، الكُنَّس

كما أشار إلى الحلف بالليل إذا أدبر ، بقوله :( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَس )

وإلى الثالث ، أي الصبح المُتنفّس ، بقوله :( والصُّبْحِ إِذا تَنَفَّس )

وجاء جواب القَسَم في قوله :( إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم ) ، فوصف الرسول بصفات خمس : كريم ، ذي قوّة ، عند ذي العرش مَكين ، مُطاع ، ثَمّ أمين

فلنرجع إلى إيضاح الأقسام الثلاثة ، ثُمَّ نُعرِّج إلى بيان الرابطة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه

أمّا الحلف الأوّل ، فهو رهن تفسير الألفاظ الثلاثة

فقد ذكر سبحانه أوصافاً ثلاثة :

ــــــــــــــــ

(١) التكوير : ١٥ ـ ٢١

١٢٩

الأوّل : الخُنَّسْ : وهو جمع خَانِس ، كالطُلَّب جمع طالِب ، فقد فسَّره الراغب في مفراداته بالمُنقبِض ، قال سبحانه :( مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الخَنّاس ) أي : الشيطان الّذي يَخنس ، أي ينقبِض إذا ذُكِر اللّه تعالى

وقال تعالى :( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّس ) ، أي : بالكواكب الّتي تَخنس بالنهار

وقيل : الخُنَّس من ( زُحَل ، والمُشتري ، والمرّيخ ) ؛ لأنّها تخنس في مجراها ، أي ترجع

وأخنستُ عنه حقّه ، أي أخّرْتُه(١)

فاللفظ هنا بمعنى الانقباض أو التأخّر ، ولعلّهما يرجعان إلى معنى واحد ، فانّ لازم التأخّر هو الانقباض

الثاني : الجَوَار : جمع جارية ، والجَري السير السريع ، مُستعار من جَريِ الماء

قال الراغب : الجَري ، المَرّ السريع ، وأصله كمَرِّ الماء

قال سبحانه :( وَمِنْ آياتِهِ الجوارِ فِي البَحْرِ كالأعْلام ) (٢) ، أي : السفينة الّتي تجري في البحر

الثالث : الكُنَّسْ : جمع كَانِس ، والكُنوس : دخول الوحش ـ كالظبي والطير ـ كَناسه ، أي بيته الّذي اتَّخذه لنفسه واستقراره فيه ، وهو كناية عن الاختفاء

فالمُقسَم به في الواقع هي الجواري ، بما لها من الوصفين : الخُنوس والكنوس ، وكأنّه قال : فلا أُقسِم بالجوار الخُنَّس والكُنَّس ، فقد ذهب أكثر المفسِّرين أنّ المراد من الجواري الّتي لها هذان الوصفان هي الكواكب الخمسة السيَّارة الّتي في منظومتنا الشمسيّة ، والّتي يمكن رؤيتها بالعين المُجرَّدة ، وهي : ( عطارد ، الزهرة ، المرّيخ ، المُشتري ، زُحَل ) ، ويُطلق عليها السيّارات المُتغيِّرة

ــــــــــــــــ

(١) مفردات الراغب : مادّة خنس

(٢) الشورى : ٣٢

١٣٠

وتسمية هذه الخمسة بالسيّارات والبواقي بالثابتات ، لا يعني نفي الجري والحركة عن غيرها ، إذ لاشكّ أنّ الكواكب جميعها مُتحرّكات ، ولكنّ الفواصل والثوابت بين النجوم لو كانت ثابتة غير مُتغيّرة ، فتطلق عليها الثابتات ، ولو كانت مُتغيِّرة ، فتُطلق عليها السيّارات ، فهذه السيّارات الخمسة تتغيَّر فواصِلها عن سائر الكواكب

إذا عرفت ذلك ، فهذه الجواري الخمس لها خنوس وكنوس ، وقد فُسّرا بأحد وجهين :

الأوّل : أنّها تختفي بالنهار ، وهو المراد من الخُنَّس ، وتظهر بالليل وهو المراد من الكُنَّس

يُلاحَظ عليه : أنّ تفسير ( الخُنَّس ) بالاختفاء لا يناسب معناها اللغوي ، أعني : الانقباض والتأخّر ، إلاّ أن يكون كناية عن الاختفاء

كما أنّ تفسير ( الكُنَّس ) بالظهور ، خلاف ما عليه أهل اللغة في تفسيره بالاختفاء ، وما ربّما يُقال : من أنّها تظهر في أفلاكها كما تظهر الظباء في كنسها(١) ، لا يخلو من إشكال ؛ فأنّ الظباء لا تظهر في كنسها ، بل تختفي فيها

ولو سَّمنا ذلك ، فالأولى أن تُفسر الجواري بمُطلَق الكواكب ، لا الخمسة المُتغيّرة

ــــــــــــــــ

(١) تفسير المراغي : ٣٠/٥٧

١٣١

الثاني : أن يُقال : إنّ خنوسَها وانقباضها كناية عن قرب فواصلها ، ثُمّ هي تجري وتستمرّ في مجاريها ، وكنوسها عبارة عن قربها و تراجعه

قال في اللسان : وكَنسَت النجوم كَنساً ، كنوساً : استمرّت من مجاريها ثُمَّ انصرفت راجعة(١)

وعلى ذلك ، فاللّه سبحانه يحلف بهذه الأنجم الخمسة بحالاتها الثلاث المُترتّبة في الليل ، وهي أنّها على أحوالٍ ثلاثة

مُنقبضات حينما تقرب فواصلها ، ثُمّ أنّها بالجري يبتعِد بعضها عن بعض ، ثُمّ ترجع بالتدريج إلى حالتها الأُولى ، فهي بين الانقباض والابتعاد بالجري ، ثُمّ الرجوع إلى حالتها الأُولى

( واللّيل إِذا عَسْعَس ) : وقد فُسِّر ( عَسْعَس ) بإدبار الليل وإقباله ، فإقباله في أوّله وإدباره في آخره

والظاهر أنّ المراد هو إقباله

قال الزَجَّاج : عَسْعَس الليل إذا أقبل ، وعَسْعَس إذا أدبر ، ولعلّ المراد هو الثاني ، بقرينة الحلف الثالث أعني :( وَالصُّبح إِذا تَنَفَّس ) ، والمراد من تَنَفَّس الصبح هو انبساط ضوئه على الأُفق ، ودفعه الظلمة الّتي غشيَته ، وكأنّ الصبح موجود حيوي يغشاه السواد عند قبض النَفَس ، ويعلوه الضوء والانبساط عند التنفّس قال الشاعر :

حتى إذا الصبْح لها تَنَفَّسـا

وانجابَ عنها لَيلُها وعَسْعَس

هذا كلّه حول المُقسَم به ، وأمّا المُقسَم عليه ، فهو قوله :( إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم )

ــــــــــــــــ

(١) لسان العرب : مادّة كنس

١٣٢

الضمير في قوله :( إِنَّهُ لَقَولُ رَسُولٍ كَريم ) يرجع إلى القرآن ، بدليل قوله :( لقولُ رَسُولٍ ) ، والمراد من( رسول ) هو جبرائيل ، وكون القرآن قوله لا ينافي كونه قول اللّه ، إذ يكفي في النسبة أدنى مناسبة ، وهي أنّه أنزله على قلب سيّد المرسلين قال سبحانه :( قُلْ مَنْ كانَ عَدُوّاً لِجِبْريلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّه ) (١) ، وقال :( نَزلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِين ) (٢)

ثُمّ إنّه سبحانه وصفه بصفات ستّ :

١ ـ رسول : يدلّ على وساطته في نزول الوحي إلى النبيِّ

٢ ـ كريم : عزيز بإعزاز اللّه

٣ ـ ذي قوّة : ذي قُدرة وشدَّة بالغة ، كما قال سبحانه :( عَلَّمَهُ شَديدُ القُوى * ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوى ) (٣)

٤ ـ عِنْدَ ذِي الْعَرش مَكين : أي صاحب مكانة ومنزلة عند اللّه ، وهي كونه مقرَّباً عند اللّه

٥ ـ مُطاع : عند الملائكة ، فله أعوان يأمرهم وينهاهم

٦ ـ أمين : لا يخون بما أُمِر بتبليغه ما تحمّل من الوحي

وعطف على جواب القَسم قوله :( وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُون ) (٤) ، والمراد هو نبيّنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكأنّ صاحبه حلف بما حلف ، للتأكيد على أمرين :

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ٩٧

(٢) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤

(٣) النجم : ٥ ـ ٦

(٤) التكوير : ٢٢

١٣٣

أ ـ القرآن نزل به جبرائيل

ب ـ إنّ محمّداً ليس بمجنون

ثُمّ إنّ الصلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه هي : أنّ القرآن ـ المُقسَم عليه ـ حاله كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم ، فكما أنّ لهذه الكواكب انقباض وجَري وتراجع ، فهكذا حال الناس مع هذا القرآن ، فهُم بين منقبض من سماع القرآن ، وجار وسار مع هُداه ، ومُدبِر عن هديه إلى العصر الجاهلي

ثُمّ إنّ القرآن أمام المُستعدّين للهداية كالصبح في إسفاره ، فهو لهم نور وهداية ، كما أنّه للمُدبرين عنه كالليل المُظلِم ، وهو عليهم عمى ، واللّه العالم

ثُمَّ إنّ في اتّهام أمين الوحي بالخيانة ، والنبي الأعظم بالجنون ، دلالة واضحة على بلوغ القوم القسوة والشقاء حتى سوَّغت لهم أنفسهم هذا العمل ، فزيَّن لهم الشيطان أعمالهم

وأخيراً نودًّ الإشارة إلى كلمة قيّمة لأحد علماء الفَلَك ، نكشف من خلالها عظمة تلك الكواكب والنجوم ، حيث يقول :

لا يستطيع المرء أن يرفع بصره نحو السماوات العلى إلاّ ويَغْضِي إجلالاً ووقاراً ، إذ يرى ملايين من النجوم الزاهرة الساطعة ، ويراقب سيرها في أفلاكها وتنقّلها في أبراجها ، وكلّ نجم وأيّ كوكب ، وكلّ سَديم وأي سيّار ، إنّما هو دنياً قائمة بذاتها ، أكبر من الأرض وما فيها وما عليها وما حولها(١)

ــــــــــــــــ

(١) اللّه والعلم الحديث : ٢٥

١٣٤

الفصل الحادي عشر : القَسَم في سورة الانشقاق

حلف سبحانه تبارك و تعالى بأُمور أربعة : ( الشَفَق ، والليل ، وما وَسَقَ ، و القمر ) ، فقال :( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ *وَاللَّيلِ وَما وَسَقَ * وَالقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ * فَما لَهُمْ لا يُؤمِنُونَ * وَإِذا قُرِىََ عَلَيْهِمُ الْقُرآنَ لا يَسْجُدُون ) (١)

تفسير الآيات :

الشَفَق : هو الحمرة بين المغرب والعشاء الآخرة ، والمراد منه في الآية الحمرة الّتي تبقى عند المغرب في الأُفق ، وقيل : البياض فيه

والوَسَق : جمع المُتفرّق ، يقال : وَسَقْتُ الشيء إذا جَمعتَه ، ويُسمّى القدر المعلوم من الحمل ـ كحمل البعير ـ وَسَقاً ، فيكون المعنى : والليل و ما جَمَعَ وضَمَّ ممّا كان منتشراً بالنهار ، وذلك أنّ الليل إذا أقبل آوى كلّ شيء إلى مأواه ، وربّما يقال : بمعنى ( ما ساق ) ؛ لأنّ ظلمة الليل تسوق كلّ شيء إلى مَسكنِه

واتَّسَقَ : من الاتّساق ، بمعنى الاجتماع والتكامل ، فيكون المراد امتلاء القمر

والطَبَق : الحال ، والمراد لتركبنّ حالاً بعد حال ، ومنزلاً بعد منزل ، وأمراً بعد أمر

ــــــــــــــــ

(١) الانشقاق : ١٦ ـ ٢١

١٣٥

وحاصل معنى الآيات :

لا أُقسِم بالشَفَق ،وقد ذكرنا حديث ( لا ) ، وأنّ معنى الجملة هو الحلف ، ومعناه أُقسِم بالحمرة الّتي تظهر في الأُفق الغربي عند بداية الليل ، وما يظهر بعد الحمرة من بياض

والمعروف بالشَفَقِ في لسان الأُدباء هو الحمرة ، ولذلك يُشبِّهون دماء الشهداء بالشَفق ، غير أنّه ربّما يستعمل في البياض الطارئ على الحمرة ، الّذي هو آية ضعف الشَفَق ونهايته

وأُقسم بالليل ، لما فيه من آثار و أسرار عظيمة ، فلولا الليل لما كان هناك حياة كالضياء ، فكلّ من الليل والنهار دعامتا الحياة ، قال سبحانه :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جعلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمداً إِلى يَوْمِ القِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُون * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرمداً إِلى يَومِ القِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيرُ اللّهِ يَأتِيكُمْ بِلَيلٍ تَسْكُنُون فيهِ أَفَلا تبصِرُون ) (١)

ثُمّ إنّه سبحانه أشار إلى ما يترتَّب على الليل والنهار من البركات ، فقال :( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ) (٢) ، فخلق النهار لطلب الرزق والمعاش ، كما خلق الليل لرفع التعب عن البدن بالنوم فيه والسكن إليه ، وسيوافيك التفصيل في الفصول القادمة إن شاء اللّه

وأقسَمَ بما وَسَقَ ، أي : بما جمع الليل ، ولعلّه إشارة إلى عودة الإنسان والحيوانات والطيور إلى أوكارها عند حلول الليل ، فيكون الليل سَكَناً عامّاً للكائنات الحيّة

حلف بالقمر عند اتّساقه واكتماله في الليالي الأربع ؛ لما فيه من روعةٍ وجمال ، ولذلك يُشبَّه الجميل بالقمر ، مضافاً إلى نوره الهادئ الرقيق ، الّذي يُغطّي سطح الأرض ، وهو من الرقّة واللطافة بمكانٍ لا يَكسر ظلمة الليل ، وفي الوقت نفسه يُنير الطُرق و الصحاري

ــــــــــــــــ

(١) القصص : ٧١ ـ ٧٢

(٢) القصص : ٧٣

١٣٦

فهذه أقسام أربعة بينها ترتّب خاصّ ، فإنّ الشفق أوّل الليل ، يطلع بعده القمر في حالة البَدْر ، فهذه الموضوعات الأربع أُمور كونيّة يقع كلّ بعد الآخر ، حاكية عن عظمة الخالق

وأمّا المُقسَم عليه فهو قوله سبحانه :( لَتَرْكَبُنَّ طَبقاً عَنْ طَبَق ) ، وهي إشارة إلى المراحل الّتي يمرّ بها الإنسان في حياته ، وأوضحها هي الحياة الدنيويّة ، ثُمّ الموت ثُمّ الحياة البرزخيّة ، ثُمّ الانتقال إلى الآخرة ثُمّ الحياة الأُخرويّة ، ثُمّ الحساب والجزاء

وفي هذه الآية إلماع إلى ما تقدّم في الآية السادسة من هذه السورة ، أعني قوله سبحانه :( يا أَيُّهَا الإنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) (١)

والكدح بمعنى السعي ، والعناء يتضمّن معنى السير

فالآية تشير إلى أنّ الحياة البشريّة تتزامن مع التعبِ والعناء ، ولكن الغاية منها هو لقاء اللّه سبحانه ، وكأنّ هذا الكدح باقٍ إلى حصول الغاية ، أي لقاء جزائه من ثواب وعقاب ، أو لقاء اللّه بالشهود

وأمّا وجه الصِلة وهو : بيان أنّ الأشواط الّتي يمرّ بها الإنسان أُمور مترتِّبة متعاقبة ، كما هو الحال في المُقسَم به ، أعني الشفق الّذي يعقبه الليل الدامس ويليه ظهور القمر

توضيحه : إنّ القرآن يُحدِّث عن أُمور متتابعة الوقوع ، وبذات تسلسل خاصّ ، فعندما تغيب الشمس يظهر الشفق مُعلِناً عن بداية حلول الليل ، الّذي تتَّجه الكائنات الحية إلى بيوتها وأوكارها ، ثُمّ يخرج القمر بدراً تاماً

ــــــــــــــــ

(١) الانشقاق : ٦

١٣٧

فإذا كان المُقسَم به ذات أُمور متسلسلة ، يأتي كلّ بعد الآخر ، فالطبقات الّتي يركبها الإنسان مثل المُقسَم به ، مُترتِّبة متتالية ، فيبدأ بالدنيا ثُمّ إلى عالم البرزخ ، ومنه إلى يوم القيامة ومنه إلى يوم الحساب

وبذلك يُعلَم وجه استعجابه سبحانه عن عدم إيمانهم ، حيث قال :( فَما لَهُمْ لا يُؤمِنُون ) ، فانّ هذا النظام الرائع في الكون ، وحياة الإنسان من صباه إلى شبابه ومن ثمّ إلى هرمه ، لدليل واضح على أنّ عالم الخِلقة يُدبَّر تحت نظر خالق مدبِّر ، عارف بخصوصيّات الكون

يقول أحد علماء الطبيعة في هذا الصدَد : إنّ جميع ما في الكون يشهد على وجود اللّه سبحانه ، ويدلّ على قدرته وعظمته ، وعندما نقوم ـ نحن العلماء ـ بتحليل ظواهر هذا الكون ودراستها ، حتى باستخدام الطريقة الاستدلالية ، فإنّنا لا نفعل أكثر من ملاحظة آثار أيادي اللّه وعظمته ذلك هو اللّه الّذي لا نستطيع أن نصل إليه بالوسائل العلمية المادِّية وحدها ، ولكننا نرى آياته في أنفسنا وفي كلّ ذرة من ذرَّات هذا الوجود(١)

ــــــــــــــــ

(١) اللّه يتجلّى في عصر العلم : ٢٦ .

١٣٨

الفصل الثاني عشر : القَسَم في سورةِ البروج

حلف سبحانه في سورة البروج بأُمورٍ أربعة :

أ ـ( السَّماءُ ذات البُرُوج ) : المنازل

ب ـ( اليَوم المَوعُود ) : القيامة

ج ـ شاهد

د ـ مشهود

قال سبحانه :( وَالسَّماءِ ذاتِ البُروجِ * وَاليَومِ المَوعُودِ * وشاهدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصحابُ الأُخدُودِ * النارِ ذاتِ الوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ * وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمْؤمِنينَ شُهُودٌ * وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاّ أَنْ يُؤمِنُوا بِاللّهِ العَزيزِ الحَمِيد ) (١)

فأقسمَ سبحانه بالعالم العُلوي وهو : السماء وما فيها من المنازل ، الّتي هي أعظم الأمكنة وأوسعها ، ثمّ أقسم بأعظم الأيّام وأجلّها ، الّذي هو مظهر مُلْكه وأمره ونهيه ، وثوابه وعقابه ، ومجمَع أوليائه وأعدائه ، والحكم بينهم بعلمه وعدله

ثُمّ أقسمَ بكلّ شاهد ومشهود ـ إذا كان اللام للجنس ـ فيكون المراد : كلُّ مُدرِك ومُدرَك وراعٍ ومَرعيّ ، والمصداق البارز له هو النبي الّذي سُمِّي شاهداً كما سيوافيك ، كما أنّ المصداق البارز للمشهود هو يوم القيامة

فلنرجع إلى تفسير الآيات

ــــــــــــــــ

(١) البروج : ١ ـ ٨

١٣٩

تفسير الآيات :

أمّا السماء : فكلّ شيء عَلاكَ فهو سماء ، قال الشاعر في وصف فَرَسِه :

وَأَحمَرَ كَالديباجِ أَمّا سَماؤُهُ

فَرَيّا وَأَمّا أَرضُهُ فَمُحولُ

وقال بعضهم : كلّ سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء ، وبالإضافة إلى ما فوقها فأرض وسُمّي المطر سماءً لخروجه منها

وأمّا البروج : واحدها بُرْج ، ويُطلق على الأمر الظاهر ، وغلب استعماله في القصر العالي لظهوره للناظرين ، ويُسمّى البناء المعمول على سور البلد للدفاع بُرجاً

والمراد هنا مواضع الكواكب من السماء

وربّما يُفسّر بالمنازل الاثنى عشر للقمر ؛ لأنّ القمر يصير في كلّ بُرجٍ يومين وثلث يوم ، وذلك ثمانية وعشرون يوماً ، ثُمّ يستَتِر ليلتين ثُمّ يظهر

وربّما يفسّر بمنازل الشمس في الشمال والجنوب ، ولكن الأولى ما ذكرناه ( منازل النجوم على وجه الإطلاق )

واليوم الموعود : عَطف على السماء ، وهو يوم القيامة الّذي وعد اللّه سبحانه أن يجمع فيه الناس ، ويوم الفصل والجزاء الّذي وعد اللّه به على ألسنة رُسله ، وفيه يتفرَّد ربّنا بالمُلك والحُكم

وقد وُعِد اللّه سبحانه به في القرآن الكريم غير مرَّةٍ وقال :

( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين ) (١)

ــــــــــــــــ

(١) يونس : ٤٨

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173