الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم 0%

الأقسام في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 173

الأقسام في القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف: الصفحات: 173
المشاهدات: 47764
تحميل: 6935

توضيحات:

الأقسام في القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47764 / تحميل: 6935
الحجم الحجم الحجم
الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويشير إلى الأمن بقوله سبحانه :( جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الحَرام قِياماً لِلنّاسِ وَالشَّهْرَ الحَرامَ ) (١) ، وصف البيت بالحرام ، حيث حرّم في مكانه القتال ، وجعل الناس فيه في أمنٍ من حيث دمائهم وأعراضهم وأموالهم

فهذه الآيات تشير إلى مكانة البلد الّذي احتضن البيت الحرام ، ذلك المكان المقدَّس الّذي حاز على أهمِّية بالغة عند المسلمين على اختلاف نِحلِهم ، فإليه يُوجِّه الناس وجوههم في صلواتهم وفي ذبائحهم وعند احتضار أمواتهم

وفضلاً عن ذلك ، فانّه يُعدّ ملتقىً عباديّاً وسياسيّاً لحشودٍ كبيرة من المسلمين ، وما يترتّب عليه من نتائج بنّاءة على صعيد مدِّ جسور الثقة بين كافة النِحل الإسلامية ، وبتبعه حاز البلد على مكانة مقدّسة جعلته صالحاً للقَسَم به

المُقسَم عليه :

المُقسَم عليه للأقسام الأربعة ـ أعني : التين ، الزيتون ، طور سينين ، البلد الأمين ـ هو قوله سبحانه :( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسانَ في أَحْسَنِ تَقْويم * ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلين )

فيقع الكلام في أمرين :

أ ـ ما هو المراد من خلقِ الإنسان في أحسن تقويم ثُمّ ردّه إلى أسفل سافلين ؟

ب ـ ما هي الصلة بين الأقسام الأربعة وهاتين الآيتين ، اللتين هما المُقسَم عليه للأقسام الأربعة ؟

أمّا الأوّل ، فربّما يقال : إنّ المراد من خلق الإنسان في أحسن تقويم هو جَودة

ــــــــــــــــ

(١) المائدة : ٩٧ .

١٦١

خَلْقه واستقامة وجوده ، من صباه إلى شبابه إلى كماله ، فيتمتّع بكمال الصورة وجمال الهيئة وشدّة القوّة ، فلم يزل على تلك الحال حتى يواجَه بالنزول ، أي ردّه إلى الهرم والشيخوخة والكهولة ، فتأخذ قِواه الظاهرة والباطنة بالضَعف ، وتنكس خِلقته ، قال سبحانه : ( وَمَنْ نُعَمِّرهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ) (١)

لكن هذا التفسير لا يناسبه الاستثناء الوارد بعده ، قال سبحانه :( إِلاّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون ) ، أي غير مقطوع

فلو كان المراد من الآية ما جرت عليه سُنّة اللّه تعالى في خلق الإنسان ، فهي سُنّة عامّة تعمّ المؤمن والكافر والصالح والطالح ، مع أنّه يستثني المؤمن الصالح من تلك الضابطة

فالأولى تفسير الآيتين بالتقويم المعنوي ، وردّه إلى أسفل سافلين هو : انحطاطه إلى الشقاء والخسران ، بأن يقال :

إنّ التقويم جعل الشيء ذا قوام ، وقوام الشيء ما يقوم به ويثبت ، فالإنسان بما هو إنسان ، صالح ـ حسب الخلقة ـ للعروج إلى الرفيق الأعلى والفوز بحياة خالدة عند ربّه ، سعيدة لا شَقوَة فيها ، قال سبحانه :( وَنَفْسٍ وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) (٢) ، فإذا آمن بما عَلِم ومارس صالح الأعمال ، رفعه اللّه إليه ، كما قال :( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (٣) ، وقال عزّ اسمه :( يَرفَعِ اللّهُ الّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجات ) (٤)

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على ارتفاع مقام الإنسان وارتقائه بالإيمان والعمل الصالح ، مقاماً عالياً ذا عطاء من اللّه غير مَجذُوذ وقد أشار في آخرهذه السورة إلى العطاء الدائم ، بقوله : ( فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيرُ مَمْنُون )

ــــــــــــــــ

(١) يس : ٦٨

(٢) الشمس : ٧ـ ٨

(٣) فاطر : ١٠

(٤) المجادلة : ١١

١٦٢

وعلى ذلك ، يكون المراد من أسفل سافلين هو تردّي الإنسان إلى الشَقوَة والخسران(١)

وأمّا وجه الصِلة ، فلو قلنا بأنّ المراد من التين الجبل الّذي عليه دمشق ، وبالزيتون الجبل الّذي عليه بيت المَقدِس ـ وهما مَبعثا جَمّ غفير من الأنبياء ـ ، فالصلة واضحة ؛ لأنّ هذه الأراضي أراضي الوحي والنبوّة ، فقد أوحى اللّه سبحانه إلى أنبيائه في هذه الأمكنة ، ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى أحسن تقويم ، ويصدّهم عن التردِّي إلى أسفل سافلين

وبعبارة أُخرى : إنّ هذه الأماكن مبعث الأنبياء ومهبط الوحي ، فهؤلاء بفضل الوحي يَهدون المجتمع الإنساني إلى الرُقيِّ والسعادة الّتي يُعبِّر عنها القرآن بـ( أحْسَن تَقويم ) ، ويحذِّرونه من الانحطاط والسقوط في الهاوية ، الّتي يُعبِّر عنها سبحانه بـ( أَسْفَلَ سافِلين )

إنّما الكلام فيما إذا كان المراد من التين والزيتون الفاكهتين المعروفتين ، اللَتين أقسَمَ اللّه بهما لما فيهما من الفوائد الجَمّة والخواصّ النافعة ، فعندئذٍ لا تخلو الصِلة من غموض ، فليُتَدَبَّر

ولا يخفى أنّ كلّ المخلوقات ، من حيوان ونبات ، توحي بالجلال و الاحترام لها ، وبالجمال وكمال الخلق ، وهي تبدو مُبرمَجة أو مخلوقة هكذا ، لا تحيد عن ذلك

فهل رأيت طيراً لا يبني عشّه أو لا يُطعمُ فراخه ؟! أم رأيت حيواناً لم يهبه اللّه الذكاء والمقدرة على تحصيل رزقه ، أو الدفاع عن نفسه ؟!

حقّاً إنّ هذه المخلوقات لا تعرف الهَزل ، فهي جدّيّة ولكن في وداعة ، غريبة ولكن في جمال ، وبسيطة ولكن في جلال آسِرْ

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ٢٠/٣١٩ـ ٣٢٠

١٦٣

إنّ كُلاًّ منها تسير على الطريق الّتي اختطّها الخالق لها ، طائعة مُلبّية ، وهي تُسبّح بحمد ربّـها كلّها إنّها لا تعرف الكذب أو المصانعة ، بل هي مُتّسقة مع نفسها ومع ما حولها ، بل و مع الكون جميعاً ، في تناغم عجيب وجمال بديع ، فتعالَى اللّه الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين ، والباطن بجلال عزّته عن فكرة المُتوهّمين(١)

ــــــــــــــــ

(١) أسرار الكون في القرآن : ٢٨٣

١٦٤

الفصل العشرون : القَسَم في سورة العاديات

حلف سبحانه في هذه السورة بأُمور ثلاثة : ( العاديات ، المُوريات ، المُغيرات ) ، قال سبحانه :( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (١)

تفسير الآيات :

( العادِيات ) : من العَدْوِ وهو الجري بسرعة

( الضَبْح ) : صوت أنفاس الخيل عند عَدوها ، وهو المعهود المعروف من الخيل ومعنى الآية : أُقسم بالخيل الّتي تعدو وتَضبح ضبحاً

( فَالمُوريات قدحاً ) : فالموريات من الإيراء ، وهو إخراج النار ، والقَدْح : الضَرْب ، يقال : قَدَحَ فأورى : إذا أخرج النار بالقَدْحِ ، والمراد بها الخيل الّتي تُخرِج النار بحوافرها حين ضربها الأحجار

( فالمُغيرات صبحاً ) : الإغارة الهجوم على العدوِّ بغتَةً بالخيل ، وهي صفة أصحاب الخيل ، ونسبتها إلى الخيل بالمجاز والمناسبة ، والمعنى : أُقسِم بالخيل المُغيرة على العَدوِّ بغتَةً في وقت الصُبح

( فَأَثَرْنَ بهِ نَقْعاً ) : والنَقْع الغبار ، والمراد إثارة الغبار حين العَدْو ؛ لِما في الإغارة على العَدُوِّ بالخيل من إثارة الغبار ، والضمير في ( به ) يرجع إلى العَدْوِ المُستفاد من قوله :( والعاديات ) ، والباء للسببيَّة

ــــــــــــــــ

(١) العاديات : ١ـ ٨

١٦٥

( فوَسَطْنَ به جَمعاً ) : فلو قلنا بتشديد السين ، يكون المعنى حاصروا الأعداء ، ولكنّ القراءة المعروفة هي بلا تشديد الفعل ، فيكون معناه : أي صاروا في وسط الأعداء ، بما أنّ هجومها كان مُباغِتاً خاطفاً ، استطاعت في بضعٍ من اللَحظات أن تشقَّ صفوف العَدُوِّ وتشنّ حملتها في قلبه ، وتُشتِّت جَمْعَه

ثُمّ الضمير إمّا يرجع إلى العَدْوِ المُستفاد من قوله :( والعاديات ) ، أو إلى النَقْعِ ، فيكون المعنى : فوَسَطن صباحاً ، أو في خِضمِّ النَقْع ، صفوف الأعداء

ويحتمل أن يرجع الضمير إلى الصُبح ، ويكون الباء بمعنى ( في ) ، أي : وَسَطن في الصبح جَمْعاً

وعلى كلّ حال ، فالآيات تحلف بالخيول الّتي تُسرع إلى ميدان الجهاد ، بسرعة حتى تضبح ويتطاير الشَرَر من تحت حوافرها باستدامة ضرب الحافر للأحجار ، وعند انجلاء الصُبح تشنّ هجوماً شديداً يُثير الغبار في كلِّ جانب ، ثُمّ تتوغَّل إلى قلب العَدُوِّ وتُشتِّت صفوفه

وهذا يُعرب أنّ الجهاد له منزلة عظيمة ، إلى حدِّ استحقَّ أن يُقسَم بخيوله والشَرَر الّذي يتطاير من حوافرها ، والغبار الّذي تثيره في الهواء

هذا كلّه حول الإقسام ، وأمّا جواب القَسَم ، فهو قوله :( إِنَّ الإنسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود ) ، والكَنُود : اسم للأرض الّتي لا تُنبِت ، ويُطلَق على الإنسان الكافر والبخيل ، فكأنّه جُبِل على نكران الحقّ وجُحوده ، وعدم الإقرار بما لَزِمه من شكر خالقه والخضوع له يقول سبحانه :( إِنَّ الإنسانَ لَكَفُور ) (١) ، وهو إخبار عمّا في طبعِ الإنسان من اتّباع الهوى والانكباب على الدنيا ، والانقطاع بها عن شُكر ربّه ، وفيه تعريض للقوم المُغار عليهم ، بأنّهم كانوا كافرين بنعمة الإسلام ، وهذا على وجه يُشهِد الإنسان على كفران نفسه ، كما يقول :( وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهيد )

ــــــــــــــــ

(١) الحجّ : ٦٦ .

١٦٦

ثُمّ إنّه يدلّل شهادته على ذلك بقوله :( وَإِنَّهُ لحُبّ الخَير لَشَديد ) ، والمراد من الخير المال

ثُمّ إنّ هذه الآيات لا تنافي ما دلَّت عليه آية الفطرة ، قال سبحانه :( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ حَنيفاً فِطْرَة اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيها لا تَبديلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّم وَلكِنّ أَكْثَر النّاسِ لا يَعْلَمُون ) (١)

وجه عدم التنافي : أنّ الإنسان كما جُبِل على الخير ، جُبل على الشَرِّ أيضاً ، فكما ألهَمَها تقواها ، ألهَمَها فجورها ، وكما أنّه هداه إلى النَجدين ولكنّ السعادة هي مَن يستخدم قوى الخير ويتجنّب قوى الشرِّ

والحاصل ، أنّ الآيات القرآنية على صنفين : فصِنف يصف الإنسان بصفات سلبيّة ، مثل قوله : ( لَيَئُوسٌ ) (٢) ( لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) (٣) ( عَجُولاً ) (٤) ( كَفُوراً ) (٥) ( أكثرَ شيءٍ جَدلاً ) (٦) ، ( ظَلُوماً جَهُولاً ) (٧) ( لَكَفُورٌ مُبِينٌ ) (٨) ( هَلُوعاً ) (٩) إلى غير ذلك من الصفات السلبيّة الواردة في القرآن الكريم

ــــــــــــــــ

(١) الروم : ٣٠

(٢) هود : ٩

(٣) إبراهيم : ٣٤

(٤) الإسراء : ١١

(٥) الإسراء : ٦٧

(٦) الكهف : ٥٤

(٧) الأحزاب : ٧٢

(٨) الزخرف : ١٥

(٩) المعارج : ١٩

١٦٧

وصنف آخر يصفه بصفات إيجابيّة ، تجعله في قمّة الكرامة والعَظمة ، فقد بلغت به الكرامة أنّه صار :( مسجوداً للملائكة ) (١) ،( مخلوقاً بفطرة اللّه ) (٢) ، ( مُنشَأ بأحسن تقويم ) (٣) ،( مُفضّلاً على كثير من المخلوقات ) (٤) ،( حاملاً لأمانة اللّه ) (٥) ،( سائراً في البرِّ والبحر ومرزوقاً من الطيِّبات ومُكرَماً عند اللّه ) (٦) إلى غير ذلك من الآيات الّتي تصف الإنسان بصفات إيجابيّة

ولا منافاة بين الصنفين من الآيات ؛ وذلك لأنّ تلك الكرامة إنّما هي للإنسان الّذي تمتّع بكلا الوَصفين ، فهو عندما يُلبّي نداء العقل والشرع ، يَنَل كرامته العُليا ، ويكون مظهراً لقوله :( وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفضيلاً ) (٧) ، ولو خضع لدعوة النفس والهوى ، يكون مظهراً للصفات السلبيّة ، ( كفوراً ، يؤوساً ، هلوعاً ، كنوداً ، إلى غير ذلك من الصفات الذميمة )

فالكمال كلّ الكمال لإنسانٍ تكمُن فيه قوى الخير والشرّ ، فيُقوّي إحداهما على الأُخرى بإرادة واختيار ، دون أيّ وازع ، فلو جُبل على إحدى القوّتين دون الأُخرى لما استحقّ المدح ولا اللوم ، دون ما إذا كان فيه أرضيّة الخير والشرّ ، فيُعالج أرضيّة الشرّ بتوجيهها نحو الخير والكمال ؛ ولذلك نرى أنّه سبحانه يستثني ـ بعد الحُكم على الإنسان بقوله :( ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ

ــــــــــــــــ

(١) الأعراف : ١١

(٢) الروم : ٣٠

(٣) التين : ٤

(٤) الإسراء : ٧٠

(٥) الأحزاب : ٧٢

(٦) الإسراء : ٧٠

(٧) الإسراء : ٧٠

١٦٨

سافِلين ) ـ الفئة المؤمنة العاملة بالصالحات ، ويقول : ( إِلاّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون ) (١)

إلى هنا تبيّن المُقسَم به والمُقسَم عليه

بقي الكلام في الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه ، فنقول :

إنّه سبحانه بعث الأنبياء لهداية الناس ، فمنهم مَن يهتدي بكتابه وسُنّته ، فهذه الطائفة تكفيها قوّة المنطق ، وثَمّة طائفة أُخرى لا تهتدي ، بل تُثير العراقيل في سبيل دعوة الأنبياء ، فهداية هذه الطائفة رهن منطق القوّة ، ولذلك يقول سبحانه :( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلنا بِالبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتاب وَالمِيزان لِيَقُوم النّاس باِلقِسْط وَأَنْزَلْنا الحَديد فيهِ بَأْسٌ شَديدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاس ) (٢)

فهذه الآية مؤلَّفة من فقرتين :

الفقرة الأُولى : الّتي تتضمّن البحث عن إرسال الرسل بالبيّنات وإنزال الكتب والميزان ، راجعة إلى مَن له أهليّة للهداية ، فيكفيه قوّة المنطق

والفقرة الثانية : أعني :( وَأَنْزَلْنَا الحَديد ) ، فهي راجعة إلى مَن لا يستلهم من نداء العقل والفطرة ولا يهتدي ، بل يثير الموانع ، فلا يُجدِي معهم سوى الحديد الّذي هو رمز منطق القوَّة

وبذلك يعلم وجه الصِلة بين إنزال الحديد وإرسال الكتب ، وبهذا تبيَّن أيضاً وجه الصِلة بين الإقسام والمُقسَم عليه ، ففي الوقت الّذي كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يَعِظُ ويبعث رجال الدعوة لإرشاد الناس ، اجتمعت طائفة لمُباغَتَة المسلمين والهجوم على المدينة ، والإطاحة بالدولة الإسلامية الفتيَّة ، فبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاً مع سَريّة ، فأمر أن تُسرج الخيل في ظلام الليل وتُعدّ إعداداً كاملاً ، وحينما انفلق الفجر ، صلّى بالناس الصبح وشنَّ هجومه وباشر ، وما انتبه العَدُوّ حتى وجد نفسه تحت وطأة خيل جيش الإسلام

ــــــــــــــــ

(١) التين : ٥ـ ٦

(٢) الحديد : ٢٥

١٦٩

فهذه الطائفة لا يُصلِحهم إلا العاديات والمُوريات والمُغيرات ، الّتي تهاجمهم كالصاعقة

نقل الفيض الكاشاني في تفسيره عن تفسير القمّي ، عن الصادقعليه‌السلام :( إنّها [سورة العاديات]نزلتْ في أهل وادي اليابس ، اجتمعوا اثنا عشر ألف فارس وتعاقدوا وتعاهدوا وتواثقوا ، أن لا يتخلّف رجل عن رجل ، ولا يخذل أحد أحداً ، ولا يفرّ رجل عن صاحبه ، حتى يموتوا كلّهم على حلفٍ واحد ، ويقتلوا محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام

إلى أن قال :

فخرجَ عليعليه‌السلام ومعه المهاجرون والأنصار ، وسار بهم غير سير أبي بكر ، وذلك أنّه أعنف بهم في السير ، حتى خافوا أن ينقطعوا من التَعَب وتحفى دوابّهم ، فقال لهم : لا تخافوا ، فإنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمرَني بأمرٍ ، وأخبرني أنّ اللّه سيَفتح عليَّ وعليكم ، فابشروا فإنّكم على خيرٍ وإلى خير ، فطابتْ نفوسهم وقلوبهم ، وساروا على ذلك السير التَعِب حتى إذا كانوا قريباً منهم ، حيث يرونهم ويروهم ، أمر أصحابه أن ينزلوا ، وسمع أهل وادي اليابس بمَقدَم عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وأصحابه ، فأخرجوا إليهم منهم مئتي رجل ، شاكّين بالسلاح ، فلمّا رآهم عليعليه‌السلام ، خرج إليهم في نفرٍ من أصحابه

فقالوا لهم : مَن أنتم ، ومن أين أنتم ، ومن أين أقبلتُم ، وأين تريدون ؟

قال : أنا علي بن أبي طالب ، ابن عمّ رسول اللّه وأخوه ، ورسوله إليكم

ادعوكم إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، ولكم إن آمنتم ما للمسلمين ، وعليكم ما على المسلمين من خيرٍ وشرّ

فقالوا له : إيّاك أرَدنا ، وأنت طَلِبَتنا قد سمعنا مقالتك ، فخُذ حذرَك واستعدّ للحرب العَوان ، واعلم أنّا قاتلوك وقاتلوا أصحابك ، والموعد فيما بيننا وبينك غداً ضحوة ، وقد اعذرنا فيما بيننا وبينك

فقال لهم عليعليه‌السلام : وَيلَكم ، تُهدّدوني بكثرتِكم وجَمعِكم ؟! فأنا أستعين باللّه وملائكته والمسلمين عليكم ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العلي العظيم

فانصرفوا إلى مراكزِهم وانصرف عليّ إلى مركزِه ، فلمّا جَنَّه الليل ، أمر أصحابه أن يُحسنوا إلى دوابِّهم ، ويُقْضِموا ويُسرِجوا ، فلمّا انشقَّ عمود الصبح ، صلّى بالناس بغلس ، ثُمَّ غارَ عليهم بأصحابه ، فلم يعلموا حتى وطأهم الخيل ، فما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتليهم وسبى ذراريهم واستباح أموالهم وخرَّب ديارهم ، وأقبل بالأُسارى والأموال معه

١٧٠

فنزل جبرائيل وأخبر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما فتح اللّه على عليّعليه‌السلام وجماعة المسلمين

فصعدَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنبرَ فحمد اللّه وأثنى عليه ، وأخبر الناس بما فتح اللّه على المسلمين ، وأعلمَهُم أنّه لم يُصَب منهم إلاّ رجلين ، ونزل فخرج يستقبل عليّاًعليه‌السلام في جميع أهل المدينة من المسلمين ، حتى لَقِيه على ثلاثة أميال من المدينة ، فلمّا رآه عليعليه‌السلام مُقبِلاً ، نزلَ عن دابّته ، ونزل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى التزمه وقَبَّل ما بين عينيه ، فنزل جماعة المسلمين إلى عليعليه‌السلام حيث نزل رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقبلَ بالغنيمة والأُسارى ، و ما رزقهم اللّه من أهل وادي اليابس

ثُمّ قال جعفر بن محمدعليهما‌السلام :ما غنمَ المسلمون مثلها قطّ ، إلاّ أن يكون من خيبر ، فإنّها مثل خيبر ، وأنزل اللّه تعالى في ذلك اليوم هذه السورة :

( وَالعاديات ضَبحاً ) يعني بالعاديات : الخيل تعدُو بالرجال ، والضَبح صيحتها في أعِنَّتِها ولَجمِها .

( فالمُوريات قَدحاً * فالمُغيرات صُبحاً ) فقد أخبرك أنّها غارت عليهم صُبحاً .

( فأثَرنَ به نَقعاً ) قال : يعني الخيل يأثرنَ بالوادي نَقْعَاً .

( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ )

قال : يعنيهما قد شهدا جميعاً وادي اليابس وكانا لحُبِّ الخير حريصَين ) (١) .

بلغ الكلام إلى هنا في شهر جمادي الأُولى

من شهور عام ١٤٢٠ هـ من الهجرة النبويّة

في قم المَحميّة وحوزتها المَصونَة

وتمّ بيد مُؤلّفه الآثِم المحتاج إلى ربِّه العاصم جعفر السُبحاني

ابن الفقيه الشيخ محمد حسين الخياباني التبريزي تغمَّده اللّه برحمته الواسعة

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الصافي : ٥ / ٣٦١ ـ ٣٦٥.

١٧١

الفهرست

القُرآنُ والآفاق اللامُتَناهية ٢

إلماعٌ إلى بعض آفاقه اللامتناهية : ٤

بحوثٌ تمهيديَّة في أقسام القرآن. ٦

الحديث الأوّل : ١٢

الحديث الثاني : ١٣

منهجنا في تفسير أقسام القرآن : ١٧

القِسْم الأوّل : القَسَم المُفرَد ٢٣

الفصل الأوّل : القَسَمُ بلَفظِ الجَلالة ٢٣

تفسير الآية الأُولى : ٢٣

تفسير الآية الثانية : ٢٥

الفصل الثاني : القَسَمُ بالرَبِّ.. ٢٩

الصِلَة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه : ٤٢

الفصل الثالث : القَسَمُ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم..... ٤٤

المقام الأوّل : الحلف بعُمْر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٤٤

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه : ٤٥

المقام الثاني : الحلف بوَصف النبي وأنّه شاهد : ٤٦

معنى الشهادة وكيفيَّة شهادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٤٧

الحلف بالنبيّ كناية : ٥٠

الفصل الرابع : القَسَمُ بالقرآنِ الكَريم. ٥١

الثاني : ما هو المراد من الحروف المقطعة ؟ ٥٢

إلماع إلى مادَّة القرآن : ٥٣

الفصل الخامس : القَسَمُ بالعَصْر ٦٦

الفصل السادس : القَسَم بالنَجْم. ٧٠

١٧٢

الفصل السابع : القسم بمواقع النجوم ٧٣

الفصل الثامن : القَسَمُ بالسماءِ ذات الحُبُك.. ٧٧

القسم الثاني : القَسَم المُتَعدِّد ٨٠

الفصل الأوّل : القَسَم في سورة الصافّات.. ٨٠

الصافّات والقَسَم بالملائكة : ٨٣

الفصل الثاني : القَسَم في سورة الذاريات.. ٨٦

الفصل الثالث : القَسَم في سورة الطُور ٩٠

الفصل الرابع : القَسَم في سورة القَلَم. ٩٦

الفصل الخامس : القَسَمُ في سورة الحاقَّة ١٠٣

الفصل السادس : القَسَم في سورة المُدّثِّر ١٠٨

الفصل السابع : القَسَم في سورة القِيامة ١١١

الفصل الثامن : القَسَمُ في سورةِ المُرسَلات.. ١٢١

الفصل التاسع : القَسَمُ في سورة النازعات.. ١٢٤

الفصل العاشر : القًسَمُ في سورة التكوير ١٢٩

الفصل الحادي عشر : القَسَم في سورة الانشقاق. ١٣٥

الفصل الثاني عشر : القَسَم في سورةِ البروج. ١٣٩

الفصل الثالث عشر : القَسَم في سورة الطارِق. ١٤٤

الفصل الرابع عشر : القَسَم في سورة الفجر ١٤٧

الفصل السابع عشر : القَسَم في سورةِ اللَيل. ١٥٢

الفصل الثامن عشر : القسم في سورة الضحى. ١٥٤

الفصل التاسع عشر : القَسَم في سورة التِين. ١٥٧

الفصل العشرون : القَسَم في سورة العاديات.. ١٦٥

١٧٣