الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم 0%

الأقسام في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 173

الأقسام في القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف: الصفحات: 173
المشاهدات: 47777
تحميل: 6935

توضيحات:

الأقسام في القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47777 / تحميل: 6935
الحجم الحجم الحجم
الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ومن أجل أن نتلافى هذه المشكلة ، نقول :

إنّ أقسام القرآن على قِسمين :

الأوّل : ما نُطلِق عليه الحلف المُفرَد ، والمُراد منه : ما إذا حلف سبحانه بشيءٍ مُفرَد ، و لم يضمّ إليه حلفاً آخر ، سواء تكرَّر في سوَر أُخرى أم لا ، مثلاً : حلف بعُمْر النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحياته مرّةً واحدةً ولم يُقرِن به حلفاً آخر ، بخلاف لفظ الربِّ ، فقد حلف به مفرداً ، ولكنّه تكرّر في بعض السور

الثاني : ما نُطلِق عليه الحلف المُتعدِّد ، والمراد منه : ما إذا حلف سبحانه بأُمور مختلفة ، جمعها في آيةٍ واحدة أو آيتين ، وجعل للجميع جواباً واحداً ، كالحلف بالشمس والقمر إلى أن يصل إلى النفس الإنسانيّة

فنعقد لكلّ حلف مُفرَد فصلاً على حدة ، سواء تكرَّر بهذا النحو في سور أُخرى أم لا ، مُراعين في ذلك الأفضل فالأفضل ، فنُقدِّم الحلف باللّه والربِّ على حياة النبيِّ وعُمْره ، وهو على الملائكة

وأمّا الحلف المُتعدِّد ، فنعقد لكلّ سورة تضمّ ذلك الحلف فصلاً ، كما عقدنا لسورة الشمس فصلاً ، ولسورة الليل فصلاً آخر ، وإن تكرَّر فيه المحلوف فيه ، أعني ( الليل ) ، و بذلك يمتاز هذا المنهج عن سائر المناهج المذكورة ، ويجمع كافَّة محاسنها ، ويُصان عن المؤاخذات الّتي ربّما تُطرَح على المنهجَين الأخيرين

وأخذنا بتقسيم الكتاب إلى قِسمين ، وخصَّصنا القِسم الأوّل بالأحلاف المُفرَدة ، والثاني بالأحلاف المُتعدِّدة ، وإليك إجمال فصول القِسمين :

٢١

القِسْمُ الأوّل ، وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القَسَم بلفظ الجلالة

الفصل الثاني : القَسَم بالربِّ

الفصل الثالث : القَسَم بعُمْرِ النبيِّ

الفصل الرابع : القَسَم بالقرآن الكريم

الفصل الخامس : القَسَم بالعصر

الفصل السادس : القَسَم بالنجم

الفصل السابع : القَسَم بمواقع النجوم

الفصل الثامن : القَسَم بالسماء ذات الحُبُك

القِسْمُ الثاني ، وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القَسَم في سورة الصافّات

الفصل الثاني : القَسَم في سورة الذاريات

الفصل الثالث : القَسَم في سورة الطُور

الفصل الرابع : القَسَم في سورة القلم

الفصل الخامس : القَسَم في سورة الحاقّة

الفصل السادس : القَسَم في سورة المُدَّثِّر

الفصل السابع : القَسَم في سورة القيامة

الفصل الثامن : القَسَم في سورة المُرسَلات

الفصل التاسع : القَسَم في سورة النازعات

الفصل العاشر : القَسَم في سورة التكوير

الفصل الحادي عشر : القَسَم في سورة الانشقاق

الفصل الثاني عشر : القَسَم في سورة البروج

الفصل الثالث عشر : القَسَم في سورة الطارق

٢٢

الفصل الرابع عشر : القَسَم في سورة الفجر

الفصل الخامس عشر : القَسَم في سورة البلد

الفصل السادس عشر : القَسَم في سورة الشمس

الفصل السابع عشر : القَسَم في سورة الليل

الفصل الثامن عشر : القَسَم في سورة الضحى

الفصل التاسع عشر : القَسَم في سورة التين

الفصل العشرون : القَسَم في سورة العاديات

القِسْم الأوّل : القَسَم المُفرَد

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : القَسَمُ بلَفظِ الجَلالة

حلف سبحانه تبارك وتعالى بلفظ الجلالة مرّتين ، ضِمن آيتين من سورة النحل ، وهو أعظم قَسَم ورد في القرآن الكريم

قال سبحانه :

أ ـ( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) .(١)

ب ـ( تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .(٢)

تفسير الآية الأُولى :

دلّت الآية الأُولى على جهل المشركين ، حيث كانوا يجعلون نصيباً ممّا رزقوا للأصنام الّتي لا تضرّ ولا تنفع ، ويتقرَّبون بذلك إليها ، وقال سبحانه :( وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ )

ــــــــــــــــ

(١) النحل : ٥٦

(٢) النحل : ٦٣ .

٢٣

وقد حكى سبحانه عملهم هذا في سورة الأنعام ، وقال :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) .(١) فالكفّار لأجل جهلهم بمبدأ الفيض ، كانوا يتقرّبون إلى الآلهة الكاذبة ـ أعني : الأصنام والأوثان ـ بتخصيص شيء ممّا رُزقوا لها ، مع أنّه سبحانه هو الأولى بالتقرّب لا غير ؛ لأنّه مبدأ الفيض ، و ما سواه مُمكن محتاج في وجوده وفعله ، فكيف يتقرَّبون إليه ؟!

والعجب أنّهم يجعلون نصيباً للّه ونصيباً لشركائه ، فما كان للّه فهو يصل إلى شركائهم ، وما كان لشركائهم لا يصل إلى اللّه سبحانه ! وقد حكاه سبحانه في سورة الأنعام وقال :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) .(٢)

وحاصل الآية : أنّهم كانوا يجعلون من الزرع والمواشي حظّاً للّه وحظاً للأوثان ، وقد أسماها سبحانه ( شركائهم ) ، لأنّهم جعلوا الأوثان شركاءهم ، حيث جعلوا لها نصيباً من أموالهم ينفقونه عليها ، فشاركوها في نعمهم

وقد ذكر المُفسّرون في تفسير قوله تعالى( فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ) وجوهاً(٣) :

أوّلها : إنّهم كانوا يزرعون للّه زرعاً وللأصنام زرعاً ، فكان إذا زكا الزرع الّذي زرعوه للّه ، ولم يزك الزرع الّذي زرعوه للأصنام ، جعلوا بعضه للأصنام وصرفوه إليها ، ويقولون إنّ اللّه غنيّ والأصنام أحوج ، وإن زكا الزرع الّذي جعلوه للأصنام ولم يزكِ الزرع الّذي زرعوه للّه ، لم يجعلوا منه شيئاً للّه ، وقالوا : هو غني

وكانوا يُقسِّمون النِعم ، فيجعلون بعضه للّه وبعضه للأصنام ، فما كان للّه أطعموه الضيفان ، وما كان للصنم أنفقوه على الصنم ، وهذا هو المرويّ عن الزجّاج وغيره

ــــــــــــــــ

(١) الأنعام : ١٣٦

(٢) الأنعام : ١٣٦

(٣) لاحظ : مجمع البيان : ٢/٣٧٠

٢٤

ثانيها : إنّه كان إذا اختلط ما جُعل للأصنام بما جُعل للّه تعالى ردّوه ، وإذا اختلط ما جعل للّه بما جُعل للأصنام تركوه ، وقالوا : اللّه أغنى ، وإذا تخرق الماء من الّذي للّه في الّذي للأصنام لم يسدُّوه ، وإذا تخرق من الّذي للأصنام في الّذي للّه سدُّوه ، وقالوا : اللّه أغنى عن ابن عبّاس وقُتادة ، وهو المروي عن أئمّتناعليهم‌السلام

وثالثها : إنّه كان إذا هلك ما جُعل للأصنام بدَّلوه بما جُعل للّه ، وإذا هلك ما جُعل للّه لم يبدّلوه بما جُعل للأصنام عن الحسن والسُدِّي .(١)

وفي الحقيقة أنّ هذا النوع من العمل ، أي : توزيع القربان بين اللّه والآلهة ، كان تزييناً من شركائهم ، وهم الشياطين أو سَدَنة الأصنام ، حيث زيَّنوا لهم هذا العمل وغيره من الأعمال القبيحة ، قال تعالى :( وَكَذَلِكَ زُيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ ـ أي : ليهلكوهم ـوَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) .(٢)

تفسير الآية الثانية :

يقول سبحانه :( تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزيَّنَ لَهُمُ الشَّيطان أَعمالَهُمْ ) فهؤلاء كفروا وضلّوا وكذّبوا الرُسل ، وقد زيّن الشيطان أعمالهم( فهو وليّهم اليوم ) ، أي : الشيطان الّذي زيَّن لهم أعمالهم ، فهو أيضاً يقوم بنفس هذا العمل ، فالوليّ واحد وإن كان المُتولَّى عليه مختلفاً ، وبالتالي إنّ الشيطان وليّهم اليوم في الدنيا ، يتولَّونه ويتَّبعون إغواءه( ولهم عذاب أليم )

ــــــــــــــــ

(١) مجمع البيان : ٢/٣٧٠

(٢) الأنعام : ١٣٧

٢٥

إلى هنا انتهينا من تفسير الآيتين ، فلنذكر المُقسَم به ، وجواب القَسَم ، وما هي الصِلة بينهما

المُقْسَم به :

المُقسَم به في الآيتين هو لفظ الجلالة ، الّذي جاء ذكره في القرآن الكريم حوالي ٩٨٠ مرَّة

وقد ذهب غير واحد من أصحاب المعاجم إلى أنّ أصله ، ( إله ) ، فحُذفت همزته وأُدخل عليه الألف واللام ، فخصّ بالباري تعالى ، قال تعالى :( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ) .(١)

ثُمّ إنّ ( إله ) إمّا من أَلَه يَألَه ، فهو الإله بمعنى المعبود ، أو من أَلِه ـ بالكسر ـ أي تحيّر ، لتَحيّر العقول في كُنهه

أقول : سيوافيك بأنّ الإله ليس بمعنى المعبود ، وأنّ مَن فسَّره به فقد فسَّره بلازم المعنى ، وعلى فرض ثبوته ، فلفظ الجلالة عَلَم بالغَلَبَة ، وليس فيه إشارة إلى هذه المعاني من العبادة والتحيّر ، وقد كان مستعملاً دائراً على الألسن قبل نزول القرآن ، تعرفه العرب في العصر الجاهلي ، يقول سبحانه:

ــــــــــــــــ

(١) مريم : ٦٥

٢٦

  ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه ) (١) ، فقد أشار بلفظ الجلالة إلى خالق السماوات والأرض دون تبادر مفهوم العبادة أو التحيّر منه

وممّا يدلّ على كونه عَلَماً : أنّه يُوصَف بالأسماء الحُسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من دون عكس ، فيُقال : اللّه الرحمن الرحيم ، أو يُقال : عِلمُ اللّه ورِزقُ اللّه ، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها ، ولا يُؤخَذ منه ما يُوصَف به شيء منها ، وهذا يدلّ على أنّه عَلَم وليس بوَصْف ، فيكون اسماً للذات الواجبة الوجود ، المُستجمِعة لجميع صفات الكمال

ولهذا اللفظ في جميع الألسنة معادل ، كلفظة ( خدا ) في لُغة الفُرْس ، و( god ) في لغة الإفرنج ، و ( تاري ) في لغة الترك .(٢)

جواب القَسَم :

أمّا جواب القَسَم في الآية الأُولى فهو عبارة عن قوله :( لتُسئلنّ عمّا كنتم تفترون )

كما أنّ جوابه في الآية الثانية هو قوله :( لَقَدْ أرْسلنا إِلى أُمَمٍ من قَبْلك )

فقد أقسَمَ سبحانه في هاتين الآيتين بلفظ الجلالة لغاية التأكيد على أمرين :

أ ـ أنّهم مسؤولون يوم القيامة عن افترائهم الكذب

ب ـ أنّّه سبحانه لم يترك الخلق سُدى ، بل أرسل إليهم رُسلاً ، لكن الشيطان حال بينهم و بين أُمَمهم ، وتشهد على ذلك سيرة عاد و ثمود ، بل اليهود والنصارى والمجوس

ــــــــــــــــ

(١) الزخرف : ٨٧

(٢) انظر : الميزان : ١/١٨

٢٧

ما هي الصلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه ؟

هذا هو المُهمّ في أقسام القرآن ، وقد أُهمل في كثير من التفاسير ، ويمكن أن يُقال :

أمّا الآية الأُولى : فالقَسَم بلفظ الجلالة لأجل أنّ المشركين كانوا يجعلون للّه نصيباً ممّا زرعوا من الحرث والأنعام ، وكانوا يقولون : هذا للّه ، فناسب أن يُقسِم به ؛ لأجل أنّه افتراء عظيم

وأمّا الآية الثانية : فلأنّه جاء في ذيل جواب القَسَم ولاية الشيطان ، كما قال :( فهو وليّهم اليوم ) ، وبما أنّ الولاية للّه سبحانه ، كما قال تعالى :( هنالِكَ الولايةُ للّهِ الحقِّ ) (١) ، ناسبَ الحلف باللّه ، الّذي هو الوليّ دونَ الشيطان ، كما عليه المشركون

ــــــــــــــــ

(١) الكهف : ٤٤

٢٨

الفصل الثاني : القَسَمُ بالرَبِّ

أقسَمَ سبحانه بلفظ ( رَبّ ) بصُورٍ مختلفة :

تارةً حلف به بلفظ ( فلا وربّك )

وأُخرى حلف به مقروناً بلفظ ( لا ) وقال : ( فلا أُقسم )

وثالثة حلف به بلفظ ( فوَرَبّك )

ورابعة بلفظ ( بلى ورَبِّـي )

وخامسة بلفظ ( إي ورَبِّي )

وسادسة بلفظ ( فو رَبِّ السماء والأرض )

وعلى أيّة حال ، فالمُقسَم به هو الرَبّ ، وإليك الآيات :

١ ـ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) .(١)

٢ ـ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب إِنّا لَقادِرُونَ * عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحنُ بِمَسْبُوقينَ ) .(٢)

٣ ـ( فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطين ) .(٣)

ــــــــــــــــ

(١) النساء : ٦٥

(٢) المعارج : ٤٠ ـ ٤١

(٣) مريم : ٦٨

٢٩

٤ ـ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * عَمّا كانُوا يَعْمَلُون ) .(١)

٥ ـ( وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَربّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِم الْغَيب ) .(٢)

٦ ـ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بلى وَربّي لَتُبعثُنّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤَنَّ بما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلى اللّهِ يَسير ) .(٣)

٧ ـ( وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبّي انّهُ لحقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزين ) (٤)

٨ ـ( فَوَرَبِّ السَّماءِ والأرض إنّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أنّكُمْ تَنْطِقُون ) (٥)

تفسير الآيات :

تُشير الآية الأُولى إلى مَقامٍ من مقامات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ له ـ حسب ما دلّ عليه الكتاب و السُنّة في إدارة رحى المُجتمع ـ مقامات ثلاثة :

أ ـ السياسية وتدبير الأُمور : يقول سبحانه :( الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) (٦) ، ويقول في حقِّ النبي خاصّة :( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٧) ، وليس الأولى بالمؤمنين من أنفسهم ـ فضلاً عن أموالهم ـ غير السائس الحاكم العامّ

ــــــــــــــــ

(١) الحجر : ٩٢ـ ٩٣

(٢) سبأ : ٣

(٣) التغابن : ٧

(٤) يونس : ٥٣

(٥) الذاريات : ٢٣

(٦) الحجّ : ٤١

(٧) الأحزاب : ٦

٣٠

ب ـ القضاءُ وفضُّ الخصومات : يقول سبحانه في حقّ داود :( يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) (١) ، وفي حقّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :( َإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) .(٢)

ج ـ الإفتاء وبيان الأحكام : يقول سبحانه :( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة ) .(٣)

وقد كان الرسول ـ بنصِّ هذه الآيات ـ جامعاً لهذه المقامات الثلاثة ، فكان سائساً وحاكماً ، وقاضياً وفاضّاً للخصومات ، ومُفتياً ومُبيّناً للأحكام

ومن الواضح بمكان أنّ فضّ الخصومات لا يتحقَّق إلاّ بقضاء قاض مُطاع رأيه ونافذ فَصْله ، وقد كان بعض المُنتمين إلى الإسلام لم يُعيروا أهمِّيّة لقضائه ، فنزلت الآية تأمر أوّلاً بإطاعته وأنّ كلّ رسول واجب الطاعة ، يقول سبحانه :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاع بِإِذْنِ اللّه ) .(٤)

ثُمّ تُشير الآية التالية إلى أنّ الإيمان لا يكتمل إلاّ بالانصياع ، والتسليم القلبي لما يقضي به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمَن شهد الشهادتين وأذعن بهما ، ومع ذلك يجد في نفسه حرجاً في قضاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمْره ، فليس بمؤمن ، يقول سبحانه :( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) .(٥)

ــــــــــــــــ

(١) ص : ٢٦

(٢) المائدة : ٤٢

(٣) النساء : ١٧٦

(٤) النساء : ٦٤

(٥) النساء : ٦٥

٣١

فالآية تدلّ على أنّ الإيمان لا يكتمل بنفس الإذعان واليقين بالتوحيد والرسالة ، ما لم ينضمّ إليهالتسليم القلبي ؛ ولذلك ترى أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه‌السلام يصف الإسلام بالنحو التالي ويقول : ( لأَنْسُبَنَّ الإِسْلامَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي ، الإِسْلامُ هُوَ التَّسْلِيمُ ) . (١)

وتُشير الآية الثانية إلى أنّه سبحانه قادر على أن يُهلك المشركين ويأتي بقوم آخرين( خيراً منهم ) ، من دون أن يكون مغلوباً ، قال :( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب إِنّا لَقادِرُونَ * عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحنُ بِمَسْبُوقينَ )

فجواب القَسَم قوله( إِنّا لَقادِرُون ) ، وقوله( وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقين ) عطف على جواب القَسَم ، والمُراد بالسبقِ الغَلَبَة ، أي : وما نحن بمَغلوبين ، ويُمكن أن يكون السبق بمعناه ، والمراد : وما نحن بمَسبوقين بفوت عقابنا إيّاهم ، فإنّهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا

والتعبير بالمشارق والمغارب لأجل أنّ للشمس في كلِّ يوم من أيّام السنة الشمسيّة مشرقاً ومغرباً ، لا تعود إليهما إلى مثل اليوم من السنة القابلة ، كما أنّه من المحتمل أن يكون المراد بها مشارق جميع النجوم ومغاربها

ومن عجيب الأمر أنّ في الآية على قِصرها وجوهاً من الالتفات

ففي قوله :( فلا أُقْسِم ) التفات من التكلُّم مع الغير الوارد في قوله :( إِنّا خَلَقْناكُمْ ) إلى التكلُّم وحده ، والوجه فيه تأكيد القَسَم بإسناده إلى اللّه نفسه

وفي قوله : ( بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِب ) التفات من التكلّم وحده ، إلى الغَيبَة ، و الوجه فيه الإشارة إلى صفة من صفاته تعالى ، هي المبدأ في خلق الناس جيلاً بعد جيل ، وهي ربوبيَّته للمشارق و المغارب ؛ فانّ الشروق بعد الشروق والغروب بعد الغروب ، يلازم مرور الزمان الّذي له مدخليّه تامّة في تكوّن الإنسان جيلاً بعد جيل ، وسائر الحوادث العَرَضيّة المُقارنة له

ــــــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : قسم الحِكم ، الحكمة ١٢٥

٣٢

وفي قوله :( إِنّا لَقادِرُون ) التفات(١) من الغَيبَة إلى التكلُّم مع الغير ، والوجه فيه الإشارة إلى العظمة المناسبة لذكرِ القدرة ، وفي ذكر ربوبيّته للمشارق والمغارب إشارة إلى تعليل القدرة ، وهو أنّ الّذي ينتهي إليه تدبير الحوادث في تكوّنها ، لا يعجّزه شيء من الحوادث ـ الّتي هي أفعاله ـ عن شيء منها ، ولا يمنعه شيء من خلقه من أن يُبدله بخير منه ، وإلاّ شاركه المانع في أمر التدبير ، واللّه سبحانه لا شريك له في أمر التدبير .(٢)

وأمّا الآية الثالثة : فلمّا ذكر سبحانه الوَعد والوعيد والبعث والنشور ، أردفه بقول مُنكِر البعث ، وردَّ عليهم بأوضح بيان وأجلى برهان ، وقال :( أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) (٣) ، والمراد أولا يذكر أنّ النشأة الأُولى دليل على إمكان النشأة الثانية ؟! ثُمّ أكَّده بقوله :( فوَرَبّك ) يا محمد( لنَحشِرنّهم والشياطين ) ، أي : لنَجمَعنَّهم ولنَبْعثنّهم من قبورهم مُقرَنين بأوليائهم من الشياطين

وأمّا الآية الرابعة : فسياق الآية يُندِّد بالمُقْتَسمين ، ويقول : ( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمين ) (٤) ، ثُمّ يصفهم بقوله : ( الّذِينَ جَعَلُوا الْقُرآنَ عِضِين ) (٥) ، والعِضِين جمع عِضَة ، والتَعْضية التفريق ، فهم الّذين جزّؤوا القرآن أجزاء ، فقالوا تارةً : سِحْر ، وأُخرى : أساطير الأوَّلين ، وثالثة : مُفترى ، وبذلك صدّوا الناس عن الدخول في دين اللّه ، وعلى ذلك يكون المراد من المُقتسمين هم : كُفّار قريش

ــــــــــــــــ

(١) الالتفات في علم البيان عبارة عن : الانتقال من الغَيْبَة إلى الخطاب ، ومن الخطاب إلى الغَيْبَة ، ومن الغَيْبَة إلى التكلّم ، كما في قوله سبحانه :( مالِكِ يَوم الدِّين * إِيّاكَ نَعْبُد ) ، وقوله سبحانه :( حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم ) ، وقوله سبحانه :( وَاللّهُ الّذي أَرسلَ الرياح فتثير سَحاباً فَسُقْناهُ ) ففي الآية الأُولى عدول من الغيبة إلى الخطاب ، وفي الثانية من الخطاب إلى الغيبة ، وفي الثالثة من الغيبة إلى التكلّم .

(٢) الميزان : ٢٠/٢٢

(٣) مريم : ٦٧

(٤) الحجر : ٩١

(٥) الحجر : ٩٠

٣٣

ويحتمل أن يكون المراد هم اليهود والنصارى ، الّذين فرّقوا القرآن أجزاءً وأبعاضاً ، وقالوا : نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض

وعلى أيّة حال ، الّذين كانوا بصدَد إطفاء نور القرآن بتبعيضه أبعاض ؛ ليصدُّوا عن سبيل اللّه ، فهؤلاء هم المقصودون ، ثُمّ حلف سبحانه وقال :( فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعين َ* عَمّا كانُوا يَعْمَلُون ) من تبعيض القرآن و صدِّ الناس عن الإيمان به

وأمّا الآية الخامسة : فتَذكُر إنكار المشركين لإتيان الساعة ويوم القيامة ، وهم ينكرونه مع ظهور عموم مُلكه سبحانه ، وعلمه بكلّ شيء

وقد كان سبب إنكارهم هو زَعمهم أنّ الإنسانَ يبلى جسده بعد الموت ، وتختلط أجزاؤه بأجزاء أبدان أُخرى ، على نحوٍ لا تتميَّز ، فكيف يمكن إعادته ؟!

فأجاب سبحانه في الآية مُشيراً إلى علمه الواسع ، ويقول :( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) .(١)

فقوله :( لا تَأْتِينَا السّاعَة ) حكاية لقول المشركين

وقوله :( قل بلى وربّي ) أمر للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يُجيبهم بأنّ إتيان الساعة أمر قطعي

وأمّا ما تُشكّكون به من اختلاط أجزاء الأموات بعضها ببعض ، فهو أمر سهل أمام سِعَة علمه سبحانه بالغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، فهو يعلم بذرَّات بدن كلّ إنسان ويُميِّزه عن غيره ، ومع علمه سبحانه فالأجزاء ثابتة في كتاب مبين ، لا تتغيَّر ولا تتبدَّل

ــــــــــــــــ

(١) سبأ : ٣

٣٤

وأمّا الآية السادسة : يقول سبحانه :( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) .(١)

تُشير الآية إلى إنكار الوَثنيِّين ، الّذين كانوا ينكرون البَعْث ، فأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإجابة على إنكارهم بإثبات ما نَفَوه من الكلام مقروناً بأصناف التأكيد بالقَسَم واللام والنون ، وقال :( وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ )

وأشار في ذيل الآية إلى أنّ البعث أمر يسير عليه تعالى ، وأنّ ما طرحوه من شبهات حول البعث فهي ـ في الواقع ـ شبهات لا تصمد أمام قدرة اللّه وعلمه الواسع

وأمّا الآية السابعة : أعني قوله سبحانه :( وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إي وَرَبّي إنّهُ لحَقّ وما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين ) .(٢)

سياق الآية يوحي إلى أنّ المشركين كانوا يستخبرون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن نزول العذاب أو وقوع البعث ، فأمره سبحانه بأن يُجيب مؤكداً ، فقال :( قلْ إي ورَبِّي إنّه لحَقّ ) ، وقد أكَّد الكلام بالقَسَم والجملة الاسميّة ، و( إنّ ) المُشبَّهة ، و( اللام ) ، ثُمّ أشار إلى أنّ الكافرين لا يعجزونه سبحانه عمّا أراد ، وقال :( وَما أَنْتُمْ بِمُعجِزين ) ، وفي سورة المعارج قال مكانه :( وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقين )

ــــــــــــــــ

(١) التغابن : ٧

(٢) يونس : ٥٣

٣٥

وأمّا الآية الثامنة :( فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) .(١)

فالضمير في قوله : ( إنّه ) يعود إلى الرِزق والوَعد ، الواردين في الآية المُتقدِّمة ، قال سبحانه :( وَفِي السَّماءِ رِزْقكُمْ وَما تُوعَدُون ) والمراد من الوعد هو الجنَّة

ثُمّ أشار( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) ، وكما أنّ العِلم بهذا الأمر ـ أي : النطق ـ أمر ملموس لا شُبهة فيه ، فهكذا الرِزق والوعد ، من قَبيل تشبيه المعقول بالمحسوس

حكى الزمخشَري عن الأصمعي قال : أقبلتُ من جامع البصرةِ فطلع أعرابي على قعود له ، فقال : ممَّن الرجل ؟ قلتُ : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلتَ ؟ قلتُ : من موضع يُتلَى فيه كلام الرحمان ، فقال : اتل عليَّ ، فتلوتُ ( والذاريات ) ، فلمّا بلغتُ قوله :( وَفِي السَّماءِ رزْقكُمْ ) قال : حَسْبُك ، فقام إلى ناقته فنحرها ووَزَّعها على مَن أقبلَ وأدبَر ، وعمدَ إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووَلَّى

فلمّا حَجَجتُ مع الرشيد ، طَفََقْتُ أطوف ، فإذا أنا بمَن يهتف بي بصوت رقيق ، فالتفتُّ فإذا أنا بالإعرابي قد نحلَ واصفرّ ، فسلّم عليَّ و استقرأ السورة ، فلمّا بلغتُ الآية ، صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربُّنا حقّاً ، ثُمّ قال : وهل غير هذا ؟ فقرأتُ :( فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ) ، فصاح وقال : يا سبحان اللّه ، مَن ذا الّذي أغضب الجليل حتى حلف ، لم يصدِّقوه بقوله حتى ألجَؤوه إلى اليمين ! قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه .(٢)

إلى هنا تمَّ تفسير الآيات الّتي أقسَمَ فيها سبحانه بربوبيّته ، وإليك الكلام في المُقسَمِ به ، والمُقَسمِ عليه

ــــــــــــــــ

(١) الذاريات : ٢٣

(٢) الكشّاف : ٣/١٦٩ .

٣٦

المُقسَمُ به :

إنّ المُقسَم به في هذه الآيات الثمان هو الرَبّ ، والربّ أصله من رَببَ ، يقول صاحب القاموس : رَبُّ كلّ شيء مالِكه ومُستحقّه وصاحبُه ، يُقال : رَبّ الأمر أصلحه

يقول ابن فارس : الرَبُّ ، المالِك ، الخالق ، الصاحب ، و الرَبّ المُصلح للشيء ، يقال : رَبَّ فلان ضيعته ، إذا قام على إصلاحها

والرَبُّ المُصلِح للشيء ، واللّه (جلَّ ثناؤه) الرَبُّ ؛ لأنّه مُصلِح أحوال خَلقِه ، والرابُّ : الّذي يقوم على أمر الرَبيب

هذه الكلمات ونظائرها مبثوثة في كتب القواميس واللغة ، وهي ظاهرة في أنّ للرَبِّ معاني مختلفة ، حتى أنّ الكاتب المودودي تصوّر أنّ لهذه اللفظة خمسة معانٍ ، وذكر لكلِّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن

ولكن الحقّ أنّه ليس لتلك اللفظة إلاّ معنى واحد ، والجميع مصاديق متعدِّدة لهذا المعنى ، أو صوَر مُبسَّطة للمعنى الواحد ، وإليك هذه الموارد والمصاديق :

١ ـ التربية : مثل رَبُّ الولد ، رَبَّاه

٢ ـ الإصلاح والرعاية : مثل رَبّ الضيعة

٣ ـ الحكومة والسياسة : مثل فلان قد رَبّ قومه ، أي ساسَهم وجعلهم ينقادون له

٤ ـ المالِك : كما جاء في الخبر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرَبّ غنمٍ أم رَبّ إبل ؟

٥ ـ الصاحب : مثل قوله : رَبُّ الدار ، أو كما يقول القرآن الكريم :( فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذا الْبَيْت ) .(١)

لا ريب أنّ هذه اللفظة قد استُعملت في هذه الموارد ، ولكن جميعها ترجع إلى أصل واحد وهو : مَن فُوِّض إليه أمر الشيء المربوب ، فلو قيل لصاحب الدار ومالكها : رَبُّ الدار ، فلأنّ أمرها مفوَّض إليه ، ولو أطلق على المُصلِح و السائس ، فلأنّ بيد هؤلاء أمر التدبير والإدارة والتصرّف

ــــــــــــــــ

(١) قريش : ٣

٣٧

فلو قال يوسف في حقِّ عزيز مصر :( إِنَّهُ رَبِّي أَحسَنَ مَثْواي ) (١) ، فلأجل أنّ يوسف نشأ في أحضانه وقام بشؤونه ، ولو وصف القرآن اليهودَ والنصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً ، وقال :( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (٢) ، فلأجل أنّهم تسلّموا زمام سلطة التشريع ، وتصرّفوا في الأموال والأعراض كيفما شاءُوا

إنّه سبحانه وصف نفسه بقوله :( ربُّ السَّماواتِ والأرض ) (٣) ، وقال أيضاً :( رَبُّ الشِعرى ) (٤) ، كلّ ذلك لأنّه تعالى مُدبِّرها ومديرها ، ومُصلِح شؤونها والقائم عليها

وهذا البيان يكشف النقاب عن المعنى الحقيقي للرَبِّ ، وهو المعنى الجامع بين هذه الموارد ، أعني : مَن فُوِّض إليه أمر الشيء من حيث الخلق و التدبير والتربية ، وبذلك يُعلَم ما في كلام ابن فارس من تفسيره بالخالق ، فإنّه خلطَ بين المعنى ولازمه ، فالخالق ليس من معاني الرَبّ

نعم ، خالق كلّ شيء يُعدّ مُربِّياً ومُدبِّراً

وثَمَّة نكتة جديرة بالاهتمام ، وهي : أنّ الوهابيِّين قسَّموا التوحيد إلى ( التوحيد في الربوبيَّة ) و ( التوحيد في الإلوهيّة ) ، وفسَّروا الأوّل بالتوحيد في الخالقيّة ، بمعنى الاعتقاد بأنّ للكون خالقاً واحداً ، و فسَّروا الثاني بالتوحيد في العبادة ، بمعنى أنّه ليس في الكون إلاّ معبودٌ واحدٌ

ولكنّهم أخطأوا في كلا الاصطلاحين

ــــــــــــــــ

(١) يوسف : ٢٣

(٢) التوبة : ٣١

(٣) الرعد : ١٦

(٤) النجم : ٤٩

٣٨

أمّا الأوّل : فلأنّ التوحيد في الربوبيَّة غير التوحيد في الخالقيّة ؛ فانّ الخالقية شيء ، والتدبير والإصلاح شيء آخر ، واللّه سبحانه وإن كان خالقاً ومُدبِّراً ، لكنّه لا يكون دليلاً على وحدة المفهومَين في الخارج

فالعرب في عصر الجاهليّة كانوا مُوحّدين في الخالقية ، وكان منطِق الجميع ما حكاه سبحانه بقوله :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلقَ السَّماواتِ والأَرْض ليقُولُنَّ خَلَقَهُنّ َالْعَزِيزُ العَلِيم ) .(١)

وفي الوقت نفسه ، لم يكونوا موحِّدين في الربوبيَّة ، يقول سبحانه :( وَاتَّخذوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) (٢) ، فكانوا يعتقدون بأنّ العِزّة والتدبير من شؤون المُدبِّر ، قال سبحانه :( واتَّخذوا مِنْ دُونِ اللّه آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُون ) (٣) ، فكانوا يَرون أنّ النصر بيد الآلهة ، خلافاً للموحِّد في أمر التدبير ، فهو يرى أنّ العزَّةَ والنصر بيد اللّه سبحانه ، قال تعالى :( فَلِلّهِ العِزَّةُ جَميعاً ) (٤) ، وقال تعالى :( وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيز الْحَكيم ) (٥) ، إلى غير ذلك من الآيات الحاكية عن توغّلهم في الشركِ في أمر التدبير

ــــــــــــــــ

(١) الزخرف : ٩

(٢) مريم : ٨١

(٣) يس : ٧٤

(٤) فاطر : ١٠

(٥) آل عمران : ١٢٦

٣٩

وأمّا الثاني : فلأنّ التوحيد في الأُلوهيّة غير العبادة ، فهو مبنيّ على أنّ الإله بمعنى المعبود ، والعبادة من لوازم الإله

ولكنّه بعيد عن الصواب ؛ لأنّ ما يتبادر من لفظ الجلالة هو المُتبادَر من لفظ الإله ، غير أنّ الأوّل جزئي موضوع لفرد واحد ، والثاني كُلّي وإن لم يوجد له مصداق آخر

والّذي يدلّ على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود ، هو أنّه ربّما يُستعمَل لفظ الجلالة مكان الإله على وجه الكُلّيّة والوَصفيّة ، دون العلميّة ، فيصحّ وضع أحدهما مكان الآخر ، كما في قوله سبحانه :( وَهُوَ اللّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُون ) .(١)

فإنّ وِزانَ هذه الآية وِزان ، قوله سبحانه :

( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وِفِي الأرضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكيمُ الْعَليم ) .(٢)

( وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ) .(٣)

( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .(٤)

ولا يخفى أنّ لفظ الجلالة في هذه الموارد وما يُشابهها يُراد منه ما يُرادِف الإله على وجه الكلّيّة ، أي ما معناه : ( أنّه هو الإله الّذي يتَّصف بكذا وكذا )

ــــــــــــــــ

(١) الأنعام : ٣

(٢) الزخرف : ٨٤

(٣) النساء : ١٧١

(٤) الحشر : ٢٣ـ ٢٤

٤٠