الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم 33%

الأقسام في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 173

الأقسام في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51659 / تحميل: 7952
الحجم الحجم الحجم
الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ويَقربُ من الآية الأُولى قوله سبحانه :( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيّاً ما تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الْحُسْنى ) .(١)

فإنّ جعْل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء ، والأمر بدعوة أيٍّ منها ، ربّما يُشعِر بخلوِّه عن معنى العَلَميّة ، وتضمّنه معنى الوصفيّة الموجودة في لفظ ( الإله ) وغيره ، ومثله قوله سبحانه :( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ) .(٢)

فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلّية لا العَلَمية الجزئيّة ، كما هو الظاهر لمَن أمعن فيها

المُقْسَمُ عليه :

إنّ المُقسَم عليه عبارة عن جواب القَسَم ، وهو في تلك الآيات كالتالي :

أ ـ الدعوة إلى تحكيم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتسليم أمام قضائه:( لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ )

ب ـ التأكيد على قدرته سبحانه على أن يأتي بخير منهم :( إنّا لَقادِرُون عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً )

ج ـ التأكيد على حشرِهم وحشرِ الشياطين :( لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطين )

د ـ التأكيد على أنّهم مسؤولون يوم القيامة عن أعمالهم :( لنسئَلنَّهم أَجْمَعين )

هـ ـ التأكيد على إتيان الساعة :( لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالم الغَيب )

و ـ التأكيد على بعثِهم وآبائهم :( لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ )

ز ـ التأكيد على وقوع البعث :( إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ )

ح : التأكيد على أنّ أمر الرزق وما توعدون من الجزاء حقّ :( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ )

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ١١٠

(٢) الحشر : ٢٤

٤١

الصِلَة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه :

الصِلَة بينهما واضحة ، فإنّ المُقسَم عليه في هذه الآيات كان يدور حول أحد أمرين :

أ ـ الدعوة إلى التحكيم إلى النبي ، والتسليم أمام قضائه

ب : كون البعث والحشر والسؤال عن الأعمال أمراً حقّاً

ومن الواضح أنّ كلا الأمرين من شؤون الربوبيَّة ؛ فإنّ الرَبَّ إذا كان سائساً ومُدبِّراً فهو أعلم بصلاح المُدبّر ، فيجب أن يكون مُسلِّماً لأمرِ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهيِه

كما أنّ حياة المربوب من شؤون الرَبّ ، دون فرق بين آجله وعاجله ، فناسب الحلف بالرَبّ عند الدعوة إلى الحشر والنشر

وبعبارة أُخرى : كان المشركون ينكرون التسليم أمام أمره ونهيه ، كما كانوا ينكرون البَعث والنَشر ، ولمّا كان الجميع من شؤون الربوبيّة حلف بالرَبِّ تأكيداً لربوبيّته

ثُمّ أنّ المُقسَم به ـ فيما مضى من الآيات ـ هو لفظ الجلالة أو لفظ الرَبّ ، المُشيرين إلى الواجب الجامع لجميع صفات الكمال والجمال

وثَمَّة آيات ربّما يُستظهَر منها أنّ المُقسَم به هو سبحانه تبارك وتعالى ، لكن بلفظٍ مُبهَم كـ ( ما ) الموصولة ، وقد جاء في آيات أربع :

١ ـ( وَالسَّماءِ وَما بَناها )

٢ ـ( والأرْضِ وما طَحيها )

٤٢

٣ ـ( وَنَفْسٍ وَما سَوّاها ) .(١)

٤ ـ( وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنثى ) .(٢)

وقد اختلفت كلمة المفسّرين في تفسير لفظة ( ما ) ، فالأكثرون على أنّها ( ما ) موصولة ، كناية عن اللّه سبحانه ، وكأنّه سبحانه يقول : ( والسماء والّذي بناها ، والأرض والّذي طحاها ، ونفس والّذي سوّاها ) والواو للقَسَم

وهناك مَن يذهب إلى أنّها ( ما ) مصدريّة ، وكأنّه يقول : ( أُقسِم بالسماء وبنائها ، والأرضِ وطحائها ، والنفس وتسويتِها )

ولكنّ الرأي الأوّل هو الأقرب ؛ لاَنّ سياق الآية يؤيّد ذلك ، لأنّه سبحانه يقول :( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) (٣) ، فالفاعل هو الضمير المُستَتِر الراجع إلى ( ما ) الموصولة الواردة في الآيات الثلاث المتقدّمة ، والّذي يصلح للفاعليّة هو الموصول من ( ما ) ، لا المصدر وسيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن الحلفِ بما ورد في هذه الآيات

ــــــــــــــــ

(١) الشمس : ٥ـ٧

(٢) الليل : ٣

(٣) الشمس : ٨

٤٣

الفصل الثالث : القَسَمُ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

حلف القرآن الكريم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرَّتين ، فتارة بعُمْره وحياته ، وأُخرى بوَصفه وكونه شاهداً ويقع البحث في مقامين :

المقام الأوّل : الحلف بعُمْر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

حلفَ سبحانه بحياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة واحدة ، وقال حينما عرضَ قصّة لوط :( قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) .(١)

تفسير الآيات :

أخبر سبحانه في هذه السورة أنّ الملائكة لمّا خرجوا من عند إبراهيم ، أتوا لوطاً يبشِّرونه بهلاكِ قومه ، ولمّا حلّوا ضيوفاً عند لوط ، فرحَ الفُجّار بورودهم ، فقال لهم لوط مُشيراً إلى بناته : ( إنّ هؤلاء بناتي ) فتزوجوهنّ ( إن كنتم فاعلين ) وكانت لكم رغبة في التزويج ، ولكنّ قوم لوط أعرضوا عمّا اقترح عليهم نبيّهم لوط ، وكانوا مُصرّين على الفجور بهم ، غافلين عن أنّ العذاب سيُصيبهم ، واللّه سبحانه يحلف بحياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقول :( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، فلا يُبصرون طريق الرشد( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) أي : الصوت الهائل ،( مُشرِقين ) أي : في حال شروق الشمس

ــــــــــــــــ

(١) الحجر : ٧١ـ ٧٣

٤٤

المُقسَم به :

المُقسَم به هو عبارة عن العُمْر ، أعني في قوله : ( لعَمْرك ) يقول الراغب : العَمْر والعُمْر اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة ، فإذا قيل طال عُمْره ، فمعناه عمارة بدنه بروحه ، إلى أن قال : والعَمْر والعُمْر واحد ، لكن خُصَّ القَسَم بالعَمْر دون العُمْر ، كقوله سبحانه :( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ )

وأمّا العُمْر ، فكما في قوله سبحانه : ( فطالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُر ) ، وفي آية أُخرى : ( لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُركَ سِنين )

فاللفظان بمعنى واحد ، لكن يختصّ القَسَم بواحد منهما .(١)

المُقسَم عليه :

هو قوله :( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، والمُراد : أُقسم بحياتك وبقائك يا محمد ، إنّهم لفي سكرتهم وانغمارهم في الفحشاء والمُنكَر متحيِّرين لا يُبصرون طريق الرشد

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه :

قال ابن عبّاس : ما خلق اللّه (عزَّ وجلّ) وما ذرَأ ولا برَأ نفساً أكرم عليه من محمد ، وما سمعتُ اللّه أقسمَ بحياة أحد إلاّ بحياته ، فقال لعَمْرك .(٢)

وجه الصِلة أنّه سبحانه بعث الأنبياء عامّة ، والنبيّ الخاتم خاصّة ؛ لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة ، وإيقاظهم من السكرة الّتي تعمُّ الناس ، وبما أنّ القوم كانوا في سكرتهم يعمهون ، وفي ضلالتهم مستمرّون ، حلف سبحانه تبارك وتعالى بعُمْر النبيّ الّذي هو مصباح الهداية ، والدليل إلى الصراط المستقيم

ــــــــــــــــ

(١) المفردات : ٣٤٧ ، مادّة عَمَرَ

(٢) مجمع البيان : ٣/٣٤٢

٤٥

المقام الثاني : الحلف بوَصف النبي وأنّه شاهد :

حلف القرآن الكريم في سورة البروج بالشاهد والمشهود ، وقال :( وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُروج * وَالْيَومِ المَوعُودِ * وشاهدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصحابُ الأُخدُود ) .(١)

أمّا المشهود ، فسيوافيك في فصل القَسَم في سورة القيامة أنّ المراد منه يوم القيامة ، بشهادة قوله سبحانه :( ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود ) .(٢)

إنّما الكلام في الشاهد ، فالمراد منه هو : النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بشهادة أنّه سبحانه وصفَه بهذا الوصف ثلاث مرّات ، وقال :

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) .(٣)

( إنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ ) .(٤)

( إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) .(٥)

ــــــــــــــــ

(١) البروج : ١ـ٤

(٢) هود : ١٠٣

(٣) الأحزاب : ٤٥

(٤) المُزَّمّل : ١٥

(٥) الفتح : ٨

٤٦

والآيات صريحة في حقّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي بعض الآيات عرَّفه بأنّه ( شهيداً ) ، ويقول :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) .(١)

( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) .(٢)

هذه الآيات تُعرب عن أنّ المُقسَم به هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بما أنّه شاهِد على أعمال أُمّته ، وشهيداً عليها

سُئل الحسن بن عليعليهما‌السلام عن معنى الشاهد والمشهود في قوله سبحانه :( وشاهدٍ وَمَشْهُود ) ، فقال :( أمّا الشاهد فمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أما سمعته يقول : ( إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً ) وقال تعالى : ( ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود ) ؟! ) .(٣)

معنى الشهادة وكيفيَّة شهادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أمّا الشهادة ، فقد فسَّرها الراغب وقال : الشهود والشهادة : الحضور مع المشاهدة ، إمّا بالبصر أو بالبصيرة ، وقد يُقال للحضور مُفرداً ، وقد نقل القرآن شهادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قومه يوم القيامة ، فقال :( يا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآنَ مَهْجُوراً ) .(٤)

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ١٤٣

(٢) النحل : ٨٩

(٣) البحار : ١/١٣

(٤) الفرقان : ٣٠

٤٧

هذه حقيقة قرآنيّة في حقّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره ، ولا يمكن إنكارها ؛ للتصريح بها في غير واحد من الآيات ، قال تعالى :

( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هؤُلاءِ شَهيداً ) .(١)

وقال تعالى :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُون ) .(٢)

وقال عزَّ اسمُه :( وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداء ) .(٣)

والشهادة فيها مُطلَقة ، وظاهر الجميع ـ على إطلاقها ـ هو الشهادة على أعمال الأُمَم ، وعلى تبليغ الرُسل كما يومئ إليه ، قوله تعالى :( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرسَلين ) .(٤)

وظَرف الشهادة وإن كان هو الآخرة ، لكنّ الشهداء يتحمّلوها في الدنيا قال سبحانه :( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد ) .(٥)

وعلى ضوء ذلك يُثار هذا السؤال في الذهن ، وهو :

إنّ الشهادة من الحضور ، ولم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهراً مع جميع الأُمّة ، بل كان بمَعزلٍ عنهم إلاّ شيئاً لا يُذكَر ، فكيف يشهد وهو لم يحضر الواقعة ، أي أفعال أُمّته قاطبة ؟!

وهناك إشكال آخر أكثر غموضاً ، وهو : أنّ الشهادة على ظاهر الأعمال ليست مفيدة يوم القيامة ، بل الشهادة على باطن الأعمال ، من كون الصلاة للّه أو للرياء وللسمعة ، وأنّ إيمانه هل كان إيماناً نابعاً من صميم ذاته أو نفاقاً لأجل حطام الدنيا ، فهذا النوع من الأعمال لا يمكن الشهادة عليها ، حتى بنفس الحضور عند المشهود عليه

ــــــــــــــــ

(١) النساء : ٤١

(٢) النحل : ٨٤

(٣) الزمر : ٦٩

(٤) الأعراف : ٦

(٥) المائدة : ١١٧ .

٤٨

وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ لشهداء الأعمال عامّة ، والنبيّ الخاتم خاصّة ، قدرة غيبيّة خارقة ، يطّلع من خلالها على أعمال العباد ظاهرها وباطنها ، وذلك بقُدرة من اللّه سبحانه

وعلى ذلك ، فهذه الشهادة عبارة عن الاطّلاع على أعمال الناس في الدنيا ، من سعادة أو شقاء ، وانقياد وتمرّد ، وإيمان وكفر ، وأداء ذلك في الآخرة ، يوم يستشهد اللّه من كلّ شيء حتى من أعضاء الإنسان ، وعند ذلك يقوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول :( يا رَبِّ إِنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآن مَهْجُوراً )

فإذا كانت الشهادة بهذا المعنى ، فلا ينالها إلاّ الأمثَل فالأمثَل من الأُمّة ، لا الأُمّة بأسرِها

وعلى ضوء ذلك ، يكون المراد من قوله سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً ) (١) هم الكاملين من الأُمّة ، لا المُتوسّطين وما دونهم

وأمّا نسبة الشهادة إلى قاطبة أُمّة النبي في قوله تعالى :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسطاً ) ، فليس بشيء بديع ، إذ ربّما يكون الوصف لبعض الأُمّة ويُنسَب الحكم إلى جميعهم ، كما في قوله سبحانه في حقّ بني إسرائيل :( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) ، على الرغم من أنّ الملوك فيهم لم يكن يتجاوز عددهم عدَد الأصابع

وثَمّة حديث منقول عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، في تفسير قوله تعالى : ( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً ) يؤيِّد هذا المعنى ( الشهادَة للأمْثَل ): ( فإن ظنَنتَ أنّ اللّه عَني بهذه الآية جميع أهل القبلة من المُوحِّدين ، أفترى أنّ مَن لا تجوز شهادته في الدنيا على صاعٍ من تمر يَطلبُ اللّهُ شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمَم الماضية ؟!

كلاّ ، لم يعنِ اللّه مثل هذا من خَلْقه

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ١٤٣

٤٩

يعني الأُمّة الّتي وجبت لها دعوة إبراهيم ( كُنْتُم خَير أُمّة أُخرِجَت للناسِ ) ، وهم الأُمّة الوسطى ، وهم خير أُمّة أُخرجت للنّاس ) .(١)

الحلف بالنبيّ كناية :

ربّما يحلف القرآن الكريم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كناية قال سبحانه :( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَد * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَد * وَوالدٍ وَما وَلَد * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ في كَبَد ) .(٢)

والحِلُّ بمعنى المُقِيم ، وكأنّه سبحانه يقول : وأنتَ يا محمد مُقيم به ، وهو مَحلّك ، وهذا تنبيه على شَرفِ البلد بشَرفِ مَن حلَّ به ، وهو الرسول الداعي إلى توحيده وإخلاص عبادته ، وبيان أنّ تعظيمه له وقَسَمه به لأجله ، ولكونه حالاًّ فيه ، كما سُمِّيت المدينة ( طيبة ) لأنّها طابت به حيّاً وميتاً(٣)

وكأنّ الآية تُشير إلى المَثلِ المعروف ( شَرفُ المكانِ بالمَكين ) ، وأنّ قداسةَ مكّة ، والداعي إلى الحلف بها ، هو احتضانها للنبي

يقول العلاّمة الطباطبائي : والحِلّ مصدر كالحلول بمعنى الإفاضة والاستقرار في مكان ، والمصدر بمعنى الفاعل ، والمعنى : أُقسِمُ بهذا البلد ، والحال أنّك حالّ به مُقيم فيه ، وفي ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلوله فيها وكونها مولده ومقامه(٤)

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ١/٣٣٢

(٢) البلد : ١ـ٤

(٣) مجمع البيان : ١٠|٤٩٢

(٤) الميزان : ٢٠/٢٨٩

٥٠

الفصل الرابع : القَسَمُ بالقرآنِ الكَريم

القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الّذي أنزلَه سبحانه على رسوله ليكون للعالمين نذيراً ، وبما أنّ القرآن كتاب هداية للناس ، فقد نال من الكرامة بمكان حلف به سبحانه ، فتارة بلفظ ( القرآن ) وأُخرى بلفظ ( الكتاب )

فقد حلف بالقرآن في ثلاث آيات :

( يس * وَالقُرآنِ الحَكيم * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * على صراطٍ مُسْتَقيم ) .(١)

( ص وَالقُرآنِ ذي الذِّكْر * بَلِ الَّذينَ كَفَرُوا في عِزَّة وَشِقاق * كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلهِِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوا وَلاتَ حينَ مَناص * وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّاب * أَجَعلَ الآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنّ هذا لشيءٌ عُجاب ) .(٢)

( ق وَالقُرآنِ المَجيد * بَلْ عَجِبُوا أنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الكافِرُونَ هذا شَيءٌ عَجيب ) .(٣)

ــــــــــــــــ

(١) يس : ١ـ٤

(٢) ص : ١ـ٥

(٣) ق : ١ـ٢

٥١

كما حلف سبحانه بلفظ الكتاب مرّتين ، وقال :

( حم * وَالكِتاب الْمُبين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرينَ * فِيها يُفرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيم * أَمراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرسِلين ) .(١)

( حم * وَالْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكيمٌ ) .(٢)

وقبل الخوض في تفسير الآيات نذكر أُموراً :

الأوّل : أنّه سبحانه صدَّر هذه الأقسام بالحروف المُقطَّعة كما هو واضح ، وهذا يؤيّد أنّ كلمة ( يس ) من الحروف المُقطَّعة

والحروف المُقطّعة : عبارة عن الحروف الّتي صُدِّرَ بها قِسم من السور ، يجمعها قولنا : ( صراط علي حق نمسكه )

وعند التحليل يرجع إلى :

ا ، ح ، ر ، س ، ص ، ط ، ع ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، هـ ، ي

والعجب أنّ هذه الحروف هي نصف الحروف الهجائية !

الثاني : ما هو المراد من الحروف المقطعة ؟

افتتح القرآن الكريم قِسماً من السور بحروف مُقطّعة ، أعني السور التالية :

١ ـ البقرة ، ٢ ـ آل عمران ، ٣ ـ الأعراف ، ٤ ـ يونس ، ٥ ـ هود ، ٦ ـ يوسف ، ٧ ـ الرعد ، ٨ ـ إبراهيم ، ٩ ـ الحجر ، ١٠ ـ مريم ، ١١ ـ طه ، ١٢ ـ الشعراء ، ١٣ ـ النمل ، ١٤ ـ القصص ، ١٥ ـ العنكبوت ، ١٦ ـ الروم ، ١٧ ـ لقمان ، ١٨ ـ السجدة ، ١٩ ـ يس ، ٢٠ ـ ص ، ٢١ ـ غافر ، ٢٢ ـ فُصّلت ، ٢٣ ـ الشورى ، ٢٤ ـ الزخرف ، ٢٥ ـ الدخان ، ٢٦ ـ الجاثية ، ٢٧ ـ الأحقاف ، ٢٨ ـ ق ، ٢٩ ـ القلم

فهذه السور الّتي يبلغ عددها ٢٩ سورة ، اُفتتحت بالحروف المُقطّعة

ــــــــــــــــ

(١) الدخان : ١ـ٥

(٢) الزخرف : ١ـ٤

٥٢

وقد تطرَّق المُفسِّرون إلى بيان ما هو المقصود من هذه الحروف ، وذكروا وجوهاً كثيرة ، نقلها فخر الدِّين الرازي في تفسيره الكبير تربو على عشرين وجهاً(١)

وها نحن نقدِّم المختار ثُمَّ نلمِّح إلى بعض الوجوه

إلماع إلى مادَّة القرآن :

إنّ القرآن الكريم تحدّى المشركين بفصاحته وبلاغته ، وعذوبة كلماته ورصانة تعبيره ، وادّعى أنّ هذا الكتاب ليس من صنع البشر ، بل من صنع قدرة إلهيّة فائقة لا تبلغ إليها قدرة أيِّ إنسان ، ولو بلغ في مضمار البلاغة والفصاحة ما بلغَ

ثُمّ أنّه أخذ يورد في أوائل السور قِسْماً من الحروف الهجائيّة ؛ للإلماع إلى أنّ هذا الكتاب مؤلّف من هذه الحروف ، وهذه الحروف هي الّتي تلهجون بها صباحاً ومساءً فلو كنتم تزعمون أنّه من صُنْعي فاصنعوا مثله ؛ لأنّ المواد الّتي تركّب منها القرآن كلّها تحت أيديكم ، واستعينوا بفصحائكم وبُلغائكم ، فإن عجزتم ، فاعلموا أنّه كتاب مُنزَّل من قبل اللّه سبحانه على عبد من عباده ، بشيراً ونذيراً

وهذا الوجه هو المرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وهو خيرة جَمْع من المُحقّقين ، وإليك ما ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المقام :

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢/٥ـ ٨

٥٣

أ ـ روى الصدوق بسنده عن الإمام العسكريعليه‌السلام ، أنّه قال :( كذَّبتْ قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا : هذا سِحر مُبين تقوَّله ، فقال اللّه : ( الم * ذلِكَ الكتاب ) أي : يا محمّد ، هذا الكتاب الّذي أنزلته إليك هو الحروف المُقطّعة الّتي منها ( الم ) ، وهو بلُغَتِكم وحروف هجائكم ، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا بذلك بسائر شهدائكم ، ثُمّ بيَّن أنّهم لا يقدرون عليه ، بقوله : ( لَئِن اجْتَمَعتِ الإنْس وَالجِنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَو كانَ بَعضهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيراً ) (١) ) . (٢)

وبه قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني (٢٥٤ـ ٣٢٢هـ) ـ من كبار المُفسّرين ـ حيث قال : إنّ الّذي عندنا أنّه لمّا كانت حروف المُعجَم أصل كلام العرب ، وتحدَّاهم بالقرآن ، وبسورة من مثله ، أراد أنّ هذا القرآن من جنس هذه الحروف المُقطّعة ، تعرفونها وتقتدرون على أمثالها ، فكان عجزكم عن الإتيان بمثل القرآن وسورة من مثله دليلاً على أنّ المنع والتعجيز لكم من اللّه على أمثالها ، وأنّه حُجّة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال : وممّا يدلّ على تأويله ، أنّ كلّ سورة افتُتحَت بالحروف الّتي أنتم تعرفونها بعدها إشارة إلى القرآن ، يعني : أنّه مؤلّف من هذه الحروف ، الّتي أنتم تعرفونها وتقدرون عليها

ثُمّ سأل نفسه وقال : إن قيل : لو كان المراد هذا ، لكان قد اقتصر اللّه تعالى على ذكر الحروف في سورة واحدة ؟!

فقال : عادة العرب التكرار عند إيثار إفهام الّذي يخاطبونه(٣)

واختاره الزمخشري (٤٦٧ـ ٥٣٨هـ) في تفسيره ، وقال : واعلم أنّك إذا تأمَّلت ما أورده اللّه (عزّ سُلطانه) في الفواتح من هذه الأسماء ، وجدتها نصف أسامي حروف المُعجَم : ( ١٤ ) سِواه ، وهي : الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة ، على عدد حروف المعجم !

ثُمّ إذا نظرت في هذه الأربعة عشر ، وجدتها مُشتمِلة على أنصاف أجناس الحروف !

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ٨٨

(٢) تفسير البرهان : ١/٥٤ ، تفسير الآية الثالثة من سورة البقرة ، رقم : ٩

(٣) تاريخ القرآن للزنجاني : ١٠٦

٥٤

بيان ذلك :

إنّ فيها من المهموسة نصفها : الصاد والكاف والهاء والسين والحاء

ومن المهجورة نصفها : الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون

ومن الشديدة نصفها : الألف والكاف والطاء والقاف

ومن الرخوة نصفها : اللام والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون

ومن المُطبقة نصفها : الصاد والطاء

ومن المنفتحة نصفها : الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون

ومن المُستعلِية نصفها : القاف والصاد والطاء

ومن المُنخفضة نصفها : الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء و الياء والعين والسين والحاء والنون

ومن حروف القَلْقَلة نصفها : القاف والطاء

ثُمّ إذا استقريت الكَلِم وتراكيبها ، رأيت الحروف الّتي ألغى اللّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة ، مكثورة بالمذكورة منها ، فسبحان الّذي دقَّت في كلّ شيء حكمته ، وقد علمت أنّ معظم الشيء وجُلّه ينزل منزلة كلّه ، وهو المُطابق للطائف التنزيل

٥٥

فكأنّ اللّه (عزّ اسمه) عدّد على العرب الألفاظ الّتي منها تراكيب كلامهم ؛ إشارة إلى ما ذكرتُ من التَبْكيتِ لهم ، وإلزام الحُجّة إيّاهم(١)

ومن المُتأخّرين مَن بيَّن هذا الوجه ببيانٍ رائع ، ألا وهو المُحقّق السيّد هبة الدِّين الشهرستاني (١٣٠١ـ ١٣٨٦هـ) ، قال ما هذا نصّه :

إنّ القرآن مجموعة جُمَل ليست سوى صبابة أحرف عربيّة ، من جنس كلمات العرب ، ومن يسير أعمال البشر ، وقد فاقت مع ذلك عبقريّةً ،

وكلّما كان العمل البشري أيسر صدوراً وأكثر وجوداً ، قلّ النبوغ فيه ، وصعب افتراض الإعجاز والإعجاب منه ، فإذا الجُمَل القرآنيّة ليست سوى الحروف المتداولة بين البشر ! فهي عبارة عن ( الم ) و ( حمعسق ) ، فلماذا صار تأليف جملة أو جُمَل منه مستحيل الصدور؟!

هذا ونجد القرآن يُكرِّر تحدّي العرب وغير العرب بإتيان شيء من مقولة هذا السهل المُمتنِع ، كالطاهي يُفاخر المُتطاهي بأنّه يصنع الحلوى اللذيذة من أشياء مبذولة لدى الجميع ، كالسمنِ واللوز ودقيق الرز ، بينما المُتطاهي لا يتمكَّن من ذلك مع استحضاره الأدوات ، وكذلك الكيمياوي الماهر ، يستحضر المطلوب المُستجمع لصِفات الكمال ، وغيره يعجز عنه مع حضور جميع الأدوات والأجزاء

وكذلك القرآن ، يقرع ويسمع قومه بأنّ أجزاء هذا المُستحضَر القرآني موفورة لديكم ، من ( ح ) و ( م ) و ( ل ) و ( ر ) و ( ط ) و ( هـ ) ، وأنتم مع ذلك عاجزون(٢)

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ١/١٧ ، ط دار المعرفة

(٢) المعجزة الخالدة : ١١٥ـ ١١٦

٥٦

ويُؤيّد هذا الرأي أنّ أكثر السور الّتي صدرت بالحروف المُقطَّعة جاء بعدها ذكر القرآن الكريم بتعابير مختلفة ، ولم يشذَّ عنها إلاّ سور أربع ، هي : مريم والعنكبوت ، والروم ، والقلم ففي غير هذه السور أردف الحروف المقطعة بذكر الكتاب والقرآن ، وإليك نماذج من الآيات :

( الم * ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لِلْمُتَّقين ) (١)

( الم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالْحَقّ مُصدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوراةَ والإنجِيل ) (٢)

( المص * كِتابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) (٣)

( الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكيم ) (٤)

إلى غير ذلك من السور ، ما عدا الأربع الّتي أشرنا إليها

ثمّ إنّ هذا الوجه هو الوجه العاشر في كلام الرازي ، ونسبَه إلى المبرّد وإلى جمعٍ عظيم من المُحقّقين ، وقال :

إنّ اللّه إنّما ذكرها احتجاجاً على الكُفّار ، وذلك أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا تحدّاهم أن يأتوا بمِثلِ القرآن ، أو بعشر سورٍ أو بسورة واحدة ، فعجزوا عنه ، أُنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أنّ القرآن ليس إلاّ من هذه الحروف ، وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفصاحة ، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن ، فلمّا عجزتم عنه ؛ دلّ ذلك على أنّه من عند اللّه ، لا من عند البشر(٥)

هذا هو الرأي المختار ، وقد عرفت برهانه

وثَمّة رأي آخر أقل صحَّة من الأوّل ، وحاصله : أنّ كلّ واحد منها دالٌّ على اسم من أسماء اللّه تعالى ، وصفة من صفاته

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ١ـ٢

(٢) آل عمران : ١ـ٣

(٣) الأعراف : ١ـ٢

(٤) يونس : ١

(٥) تفسير الفخر الرازي : ٢/٦

٥٧

قال ابن عبّاس في( الم ) : الألف إشارة إلى أنّه تعالى أَحَدُ ، أوّل ، آخر ، أزليّ ، أبدي ، واللام إشارة إلى أنّه لطيف ، والميم إشارة إلى أنّه مَلك ، مجيد ، مَنّان

وقال في( كهيعص ) : إنّه ثناء من اللّه تعالى على نفسه ، والكاف يدلّ على كونه كافياً ، والهاء يدلّ على كونه هادياً ، والعين يدلّ على العالم ، والصاد يدلّ على الصادق

وذكر ابن جرير عن ابن عبّاس أنّه حمل الكاف على الكبير والكريم ، والياء على أنّه يُجير ، والعين على العزيز والعدل(١)

ونقل الزنجاني في تأييد ذلك الوجه ما يلي :

وفي الحديث :( شعارُكم حم لا يُنصَرُون ) ، قال الأزهري : سُئل أبو العبّاس ، عن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( حم لا ينصرون ) ، فقال : معناه واللّه لا ينصرون

وفي لسان العرب ، في حديث الجهاد :( إذا بُيّتم فقولوا حاميم لا يُنصَرُون ) ، قال ابن الأثير : معناه اللّهمّ لا ينصرون(٢)

إذا عرفت هذه الأمور ، فلنرجع إلى تفسير الآيات الّتي حلف فيها سبحانه بالقرآن والكتاب ، وإليك البيان :

١ ـ( يس * والْقُرآن الحَكيم * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين ) ، فالمُقسَم به هو القرآن ، والمُقسَم عليه قوله :( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين ) ، والصِلة بين القرآن وبين كونه من المُرسَلين واضحة ، لاَنّ القرآن أداةُ تبليغهِ ورسالته ومعجزته الخالدة

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢/٦

(٢) تاريخ القرآن : ١٠٥

٥٨

وأمّا وصف القرآن بالحكيم ، فلأنّه مُستقرٌ فيه الحكمة ، وهي : حقائق المعارف وما يتفرَّع عليها من الشرائع والعِبر و المواعظ(١)

٢ ـ( ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ )

وُصف القرآن بكونه ( ذي الذكر ) ، كما وصفه في الآية السابقة بكونه ( حكيماً ) ، ووصفه تارة ثالثة بـ ( المجيد ) ، والمُراد بالذِكر هو : ذكر ما جُبِلَ عليه الإنسان من التوحيد والمعاد

قال الطبرسي : فيه ذكر اللّه وتوحيده وأسماؤه الحسنى وصفاته العلى ، وذكر الأنبياء ، وأخبار الأُمَم ، وذكر البَعْث والنُشور ، وذكر الأحكام وما يحتاج إليه المُكلّف من الأحكام ، ويُؤيّده قوله :( ما فَرَّطنا في الكتاب من شيء ) (٢)

قال الطباطبائى في تفسيره : المراد بالذِكر : ذكر اللّه تعالى وتوحيده ، وما يتفرّع عليه من المعارف الحقّة ، من المعاد والنبوّة وغيرهما

ويؤيِّد ذلك إضافة الذكر في غير واحد من الآيات إلى لفظ الجلالة ، قال سبحانه :( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ) (٣) ، وقال :( استَحْوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكرَ اللّه ) (٤) إلى غير ذلك

وأمّا المُقسَم عليه : فمَحذوف ، معلوم من القرينة ، هو ( أنّك لمِن المُنذرين ) ، ويدلّ على ذلك : التنديد بالّذين كفروا وأنّهم في عزّة وشقاق ، أي : في تكبُّر عن قبول الحقّ وحميّة جاهليّة ، وشقاق أي : عداوة وعصيان ومخالَفة ، لأنّهم يأنفون عن متابعة النبي ، ويُصرّون على مخالفته ثُمّ خوّفهم اللّه سبحانه فقال : كمْ أهلكنا من قبلهم من قرنٍ بتكذيبهم الرُسل ، فنادوا عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة ، ولاتَ حين مناص

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الميزان : ١٧/٦٢

(٢) مجمع البيان : ٨/٤٦٥

(٣) الحديد : ١٦

(٤) المجادلة : ١٩

٥٩

والصِلة بين المُقسَم به( القُرآن ذي الذِّكر ) ، والمُقسَم عليه المُقدّر( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُنْذَرين ) واضحة ؛ لاَنّ القرآن من أسباب إنذاره وأدوات تحذيره

٣ ـ( ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) (١)

المُقسَم به هو القرآن ، ووَصَفه بالمجيد

قال الراغب : المَجْدُ : السِعة في المقام والجلال ، وقد وُصف به القرآن الكريم ، فلأجل كثرة ما يتضمّن من المكارم الدنيويّة والأُخرويّة ، فالمجيد مبالَغة في المَجد

وقال الطبرسي : المجيد أي الكريم على اللّه ، العظيم في نفسه ، الكثير الخير والنفع(٢)

والمُقسَم عليه محذوف ، تدلّ عليه الجُمل التالية ، والتقدير : والقرآن المجيد انّك لمِن المنذرين ، أو أنّ البعث حقّ والإنذار حقّ

وقد ركَّزت السورة على الدعوة إلى المعاد ، ووبّخت المشركين باستعجالهم على إنكاره ، ونقد زَعمهم

والصِلة بين المُقسَم به وجواب القَسَمِ واضحة ، سواء أقلنا بأنّ المُقسَم عليه ( إِنّك مِنَ المنذرين ) أم أنّ البعث والنشر حقّ ، أمّا على الأوّل ؛ فلأنّ القرآن أحد أدوات الإنذار ، وأمّا على الثاني فلاَنَّ القرآن يتضمّن شيئاً كثيراً عن الدعوة إلى المعاد

ــــــــــــــــ

(١) ق : ١ـ٢

(٢) مجمع البيان : ٩|١٤١ .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

من المسلمين »(1) .

5 ـ وروى ابن عباس قال : اقبل النبيّ (ص) وقد حمل الحسن على رقبته فلقيه رجل ، فقال نعم المركب ركبت يا غلام ، فقال رسول الله (ص) ونعم الراكب هو.(2)

6 ـ وروى عبد الله بن عبد الرحمن بن الزبير قال : أشبه أهل النبي (ص) وأحبهم إليه الحسن رأيته يجيء وهو ساجد فيركب رقبته أو قال : ظهره فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل ، ولقد رأيته وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر(3)

7 ـ وروى ان النبي6 صلى احدى صلاتي العشاء فسجد سجدة أطال فيها السجود ، فلما سلم قال له الناس : في ذلك فقال : ( إن ابنى هذا ـ يعنى الحسن ـ ارتحلنى فكرهت أن أعجله )(4)

__________________

(1) الاصابة 1 / 330 ، صحيح البخاري ذكره فى الصلح ، ورواه الامام احمد بن حنبل فى مسنده 5 / 44 باسناده عن المبارك عن الحسن عن ابي بكرة قال : كان رسول الله6 يصلي بالناس ، وكان الحسن بن علي يثب على ظهره إذا سجد ، ففعل ذلك غير مرة ، فقالوا له : والله إنك لتفعل بهذا شيئا ، ما رأيناك تفعله باحد ، قال المبارك : فذكر شيئا ثم قال : إن ابني هذا سيد وسيصلح الله تبارك وتعالى به بين فئتين من المسلمين ، وذكره ابن حجر في صواعقه وجاء في العقد الفريد 1 / 164 ان الرسول6 دخل على ابنته فاطمة فوجد الحسن طفلا يلعب بين يديها ، فقال لها : إن الله سيصلح على يدي ابنك هذا بين فئتين عظيمتين من المسلمين.

(2) الصواعق : ص 82 ، حلية الاولياء.

(3) الاصابة 2 / 11

(4) البداية والنهاية 8 / 33

٨١

8 ـ وصعد6 على المنبر ليخطب ، فجاء الحسن فصعد المنبر ، فوضعه على رقبته حتى كان يرى بريق خلخاليه من اقصى المسجد ، وهما يلمعان على صدر الرسول ، ولم يزل على هذه الحالة حتى فرغ6 من خطبته(1)

9 ـ وقال6 : « من سره أن ينظر إلى سيد شباب اهل الجنة فلينظر الى الحسن »(2)

10 ـ وقال6 : « الحسن ريحانتي من الدنيا »(3) 11 ـ وروى انس بن مالك قال دخل الحسن على النبي6 فأردت أن أميطه عنه ، فقال6 : « ويحك يا أنس دع ابنى ، وثمرة فؤادي ، فان من آذى هذا فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله »(4)

هذه طائفة من الاخبار التي وردت عن النبي6 في سبطه الاكبر ، ويلمس فيها أسمى الوان التكريم والحفاوة والحب العميق.

الطائفة الثانية :

أما ما أثر عن النبي6 في حق السبطين8 فكوكبة من الروايات الصحاح التي دونها الثقات والحفاظ ، وهي صريحة

__________________

(1) البحار 6 / 58

(2) فضائل الاصحاب : ص 165 ، البداية والنهاية 8 / 35

(3) الاستيعاب 2 / 369

(4) كنز العمال 6 / 222

٨٢

الدلالة في أنهما8 من أعز الناس عند رسول الله صلى عليه وآله ومن أحبهم له ، ونذكر منها ما يلي :

1 ـ روى سعيد بن راشد ، قال : جاء الحسن والحسين8 يسعيان الى رسول الله6 فأخذ أحدهما فضمه الى إبطه ، ثم جاء الآخر فضمه إلى إبطه الاخرى ، وقال : ( هذان ريحانتي من الدنيا من أحبنى فليحبهما )(1) وكان النبي6 دوما يضفى عليهما هذا اللقب ، وقد وردت بذلك روايات عديدة(2)

2 ـ وروى انس بن مالك قال : سئل رسول الله6 أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال6 : « الحسن والحسين » وكان يقول : لفاطمة ادعي ابني فيشمهما ويضمهما إليه(3)

3 ـ وروى أسامة بن زيد قال : طرقت النبي6 ذات ليلد في بعض الحاجة فخرج النبيّ6 وهو مشتمل

__________________

(1) ذخائر العقبى : ص 124

(2) روى ابو نعيم في حلية الاولياء 3 / 201 عن جابر ان رسول الله6 قال : لعلي بن ابي طالب7 سلام عليك يا ابا الريحانتين اوصيك بريحانتي من الدنيا خيرا فعن قليل ينهد ركناك والله خليفتي عليك ، قال فلما قبض النبيّ6 : قال علي7 : هذا احد الركنين اللذين قال النبي6 فلما ماتت فاطمة3 قال علي (ع) : هذا الركن الآخر الذي قال النبيّ6 : وفي كنز العمال 7 / 110 عن سعد بن مالك قال دخلت على النبيّ6 والحسن والحسين يلعبان على ظهره ، فقلت يا رسول الله أتحبهما؟ فقال : ومالي لا احبهما ، وانهما ريحانتى من الدنيا

(3) صحيح الترمذي 2 / 306 فيض القدير 1 / 148

٨٣

على شيء لا ادري ما هو؟ فلما فرغت من حاجتي ، قلت : ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ قال فكشفه فاذا هو حسن وحسين على وركيه ، فقال : ( هذان ابناي ، وابنا ابنتي ، اللهم ، إني احبهما فأحبهما وأحب من يحبهما )(1)

4 ـ وروى سلمان الفارسي قال سمعت رسول الله6 يقول : ( الحسن والحسين ابناي من احبهما احبني ، ومن احبني أحبه الله ، ومن أحبه الله ادخله الجنة ، ومن أبغضهما ابغضني ومن ابغضني ابغضه الله ، ومن ابغضه الله ادخله النار »(2)

5 ـ وروى ابن عمر قال : قال رسول الله6 : « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما »(3)

6 ـ واعتلى6 أعواد المنبر يخطب ، فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران ، وهما يمشيان ويعثران ، فنزل6 عن المنبر فحملهما ، ووضعهما بين يديه ، وقال : صدق الله

__________________

(1) صحيح الترمذي 2 / 240 ، كنز العمال 7 / 110 ، وذكر آخر الحديث ابن حجر فى صواعقه ص 114

(2) مستدرك الحاكم 3 / 166 ، وبتغيير يسير رواه الهيثمي في مجمعه 9 / 811 وكذلك فى كنز العمال 6 / 221

(3) مستدرك الحاكم 3 / 167 ، صحيح ابن ماجة ، وتظافرت الاخبار الواردة عن النبيّ6 ان سبطيه سيدا شباب اهل الجنة ، روى الترمذي في صحيحه 2 / 306 عن ابي سعيد الخدري قال : قال رسول الله6 « الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة » ورواه احمد بن حنبل فى مسنده 3 / 3 ، وروى الخطيب البغدادي في تاريخه 1 / 140 بسنده عن علي7 قال قال : رسول الله : ( الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة )

٨٤

إذ يقول :( أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) ( لقد نظرت إلى هذين الصبيين وهما يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما )(1)

7 ـ وروى ابن عباس قال : بينا نحن ذات يوم مع النبي6 إذ أقبلت فاطمة سلام الله عليها تبكى ، فقال لها رسول الله6 : فداك أبوك ، ما يبكيك؟ قالت إن الحسن والحسين خرجا ، ولا أدرى أين باتا ، فقال لها رسول الله6 : لا تبكين فان خالقهما ألطف بهما مني ومنك ، ثم رفع يديه ، فقال : اللهم احفظهما وسلمهما ، فهبط جبرئيل ، وقال يا محمد ، لا تحزن فانهما في حظيرة بني النجار ، نائمان ، وقد وكل الله بهما ملكا يحفظهما ، فقام النبي6 ومعه أصحابه حتى أتى الحظيرة فاذا الحسن والحسين8 معتنقان نائمان ، وإذا الملك الموكل بهما قد جعل أحد جناحيه تحتهما والآخر فوقهما ، يظلهما ، فأكب النبي6 عليهما يقبلهما ، حتى انتبها من نومهما ، ثم جعل الحسن على عاتقه الايمن ، والحسين على عاتقه الايسر ، فتلقاه أبو بكر ، وقال يا رسول الله : ناولني أحد الصبيين أحمله عنك ، فقال6 نعم المطي مطيهما ، ونعم الراكبان هما ، وأبوهما خير منهما ، حتى أتى المسجد فقام رسول الله6 على قدميه وهما على عاتقيه ثم قال :

« معاشر المسلمين ، ألا أدلكم على خير الناس جدا وجدة؟

« بلى يا رسول الله »

« الحسن والحسين ، جدهما رسول الله6 خاتم المرسلين ، وجدتهما خديجة بنت خويلد ، سيدة نساء أهل الجنة »

__________________

(1) صحيح الترمذي 2 / 306 ، صحيح النسائي 1 / 209

٨٥

ثم قال6 : « ألا أدلكم على خير الناس عما وعمة؟ » قالوا : بلى يا رسول الله

« الحسن والحسين عمهما جعفر بن أبي طالب ، وعمتهما أم هاني بنت أبي طالب. »

ثم قال : « أيها الناس ، ألا أدلكم على خير الناس خالا وخالة؟ » قالوا : بلى يا رسول الله

« الحسن والحسين ، خالهما القاسم بن رسول الله ، وخالتهما زينب بنت رسول الله ».

ثم قال : اللهم ، انك تعلم أن الحسن والحسين في الجنة ، وعمهما ، في الجنة ، وعمتهما في الجنة ، ومن أحبهما في الجنة ، ومن أبغضهما في النار.(1)

ودل الحديث على مدى حبه6 لسبطيه ، وانهما أحب أهل بيته إليه ، وآثرهما عليه ، ومن المعلوم أن شأن النبوة بعيد عن الاندفاع بعواطف الحب ، فانه6 لم يمنحهما هذا الحب الا لانهما مصدرا كل فضيلة ، ومنبعا كل خير.

8 ـ وروى جابر ، قال دخلت على النبي6 والحسن والحسين على ظهره ، وهو يقول : « نعم الجمل جملكما ، ونعم العدلان أنتما »(2) وبهذا المضمون روى عمر قال رأيت الحسن والحسين8 على عاتقي النبي6 فقلت نعم الفرس تحتكما فقال النبي6 ونعم الفارسان هما(3) وقد نظم ذلك

__________________

(1) ذخائر العقبى : ص 130

(2) كنز العمال 7 / 108 ، مجمع الهيثمي 9 / 182

(3) مجمع الهيثمي 9 / 181 ، كنز العمال 7 / 106

٨٦

شاعر العقيدة السيد الحميرى فى قوله :

اتى حسنا والحسين الرسول

وقد برزا ضحوة يلعبان

فضمهما وتفداهما

وكانا لديه بذاك المكان

ومرا وتحتهما عاتقاه

فنعم المطية والراكبان

9 ـ وروى يعلى بن مرة الثقفي(1) قال : جاء الحسن والحسين يستبقان الى رسول الله6 فضمهما إليه ، وقال : إن الولد مبخلة مجبنة(2)

10 ـ وقال6 : ( الحسن والحسين سبطان من الاسباط )(3)

11 ـ وبلغ من مزيد حبه واشفاقه على سبطيه أنه كان يعوذهما خوفا عليهما من الحسد ، فقد روى أبو نعيم بسنده عن عبد الله ، قال : كنا جلوسا مع رسول الله6 إذ مرّ الحسن والحسين وهما صبيان ، فقال : هات ابنى أعوذهما بما عوذ به إبراهيم ابنيه اسماعيل ، واسحاق ، فقال : « اعيذكما بكلمات الله التامة من كل عين لامة ، ومن

__________________

(1) روي في المستدرك الحديث عن يعلى بن منبه الثقفي ، وراجعنا كتب التراجم فلم نجد يعلى بن منبه وانما الموجود يعلى بن مرة ، ولعل ما وقع ما فى المستدرك كان سهوا ، وجاء فى كل من الاصابة ، واسد الغابة ان يعلى بن مرة من افاضل الصحابة ، روى عن رسول الله6 وعن امير المؤمنين7 وشهد مع النبيّ6 الحديبية ، وبايع بيعة الرضوان وشهد خيبر ، والفتح وهوازن والطائف.

(2) مستدرك الحاكم 3 / 168 ، مسند الامام احمد بن حنبل 4 / 172

(3) الصواعق المحرقة : ص 114 ، كنز العمال 6 / 221

٨٧

كل شيطان وهامة »(1) وليس في سجل المودة الانسانية أجمل من هذا الحنان ، ولا أكرم من هذا العطف.

12 ـ ومما اشتهر بين المسلمين قوله6 : « الحسن والحسين إمامان إن قاما وان قعدا »(2) واضفى6 على حفيديه حلة الامامة ، وهي من أهم الصفات الماثلة فيهما وذلك لما تستدعيه من المثل العليا التي لا تتوفر إلا عند من اختاره الله واصطفاه من بين عباده ، فقد خص الله بها خليله إبراهيم قال تعالى :( قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (3) وسنتحدث عن الامامة ، وما يعتبر في الامام من المؤهلات ، والصفات عند عرض مثله7 .

الطائفة الثالثة :

وتواترت النصوص الصحيحة عن النبي6 في لزوم مودة أهل بيته ، وانه حرب لمن حاربهم ، وسلم لمن سالمهم ، وقرنهم بمحكم الكتاب ، وجعلهم سفن النجاة ، وأمان الأمة ، وإلى القراء بعض تلك السنن.

__________________

(1) حلية الاولياء 5 / 44 الفضائل الخمسة من الصحاح الستة 3 / 177

(2) البحار 10 / 78 ، وجاء في نزهة المجالس 2 / 184 ، وفى الاتحاف بحب الاشراف : ص 129 ان رسول الله6 قال للحسن والحسين :« انتما الامامان ولامكما الشفاعة » وجاء فى منهاج السنة 4 / 210 ان رسول الله6 قال : للحسين 7 « هذا امام ابن امام اخو امام ابو أئمة تسعة ».

(3) سورة البقرة : آية 124

٨٨

1 ـ روى زيد بن أرقم أن رسول الله6 قال : لعلي وفاطمة والحسن والحسين: : ( أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم »(1)

2 ـ وعن أبي بكر قال : رأيت رسول الله6 خيم خيمة ، وهو متّكئ على قوس عربية ، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين: فقال : « معشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة ، وحرب لمن حاربهم ، وولي لمن والاهم ، لا يحبهم إلا سعيد الجد ، طيب المولد ، ولا يبغضهم إلا شقي الجد ردىء الولادة »(2)

3 ـ وروى احمد بن حنبل أن النبي6 أخذ بيد الحسن والحسين ، وقال : « من احبني ، وأحب هذين وأباهما ، وامهما كان معي فى درجتي يوم القيامة »(3)

4 ـ وروى جابر ، قال رسول الله6 : ذات يوم بعرفات ، وعلى تجاهه « ادن منى يا علي خلقت أنا وأنت من شجرة أنا أصلها وأنت فرعها ، والحسن والحسين أغصانها فمن تعلق بغصن منها ادخله الله الجنة »(4)

5 ـ وروى ابن عباس قال : قال رسول الله6 ( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتى أمان لأمتي من الاختلاف

__________________

(1) كنز العمال 7 / 102 ، سنن ابن ماجة ص 14 ورواه ابن كثير فى البداية والنهاية عن ابي هريرة.

(2) الرياض النضرة 2 / 252

(3) مسند احمد 1 / 77 ينابيع المودة ص 164 صحيح الترمذي 2 / 2 / 301

(4) مسند احمد 1 / 77

٨٩

فاذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب ابليس )(1)

6 ـ روى زيد بن أرقم قال : قال رسول الله6 « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى ، احدهما اعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتى ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما »(2)

إن حديث الثقلين من أوثق الأحاديث النبوية ، واكثرها ذيوعا ، وقد اهتم العلماء به اهتماما بالغا لانه يحمل جانبا مهما من جوانب العقيدة الاسلامية ، كما انه من اظهر الأدلة التي تستند إليها الشيعة في حصر الامامة في اهل البيت ، وفي عصمتهم من الاخطاء والاهواء لان النبيّ6 قرنهم بكتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فلا يفترق أحدهما عن الآخر ومن الطبيعي أن صدور آية مخالفة لاحكام الدين تعتبر افتراقا عن الكتاب العزيز ، وقد صرح النبيّ6 بعدم افتراقهما حتى يردا عليه الحوض ، فدلالته على العصمة ظاهرة جلية ، وقد كرر النبي6 هذا الحديث في غير موقف من المواقف لأنه يهدف الى صيانة الأمة والمحافظة على استقامتها وعدم انحرافها في المجالات العقائدية ، وغيرها أن تمسكت باهل البيت ولم تتقدم عليهم ، ولم تتأخر عنهم.

واستيفاء البحث في جوانب الحديث يستدعى وضع كتاب خاص ، وقد كفانا مئونة البحث عنه ما ذكره العلماء من التحقيق الرائع في جميع مناحى الحديث سواء أكان من ناحية السند أم الدلالة وغيرها(3)

__________________

(1) مستدرك الحاكم 3 / 149

(2) صحيح الترمذي 2 / 308 ، اسد الغابة 2 / 12

(3) المراجعات : ص 49 ـ 52 ، الاصول العامة للفقه المقارن ص 164 ـ 187

٩٠

7 ـ روى أبو سعيد الخدرى قال : سمعت النبي6 يقول : « إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له »(1)

يقول الامام شرف الدين في مرجعاته القيمة في بيان الحديث ما نصه « وأنت تعلم أن المراد من تشبيههم: بسفينة نوح أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأصوله عن أئمتهم الميامين نجا من عذاب النار ، ومن تخلف عنهم كان كمن آوى « يوم الطوفان » إلى جبل ليعصمه من أمر الله ، غير أن ذاك غرق فى الماء وهذا في الحميم والعياذ بالله. والوجه في تشبيههم: بباب حطة هو أن الله تعالى جعل ذلك الباب مظهرا من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه ، وبهذا كان سببا للمغفرة.

هذا وجه الشبه ، وقد حاوله ابن حجر إذ قال : ـ بعد أن أورد هذه الاحاديث وغيرها من أمثالها ـ

« ووجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم وعظمهم شكرا لنعمة مشرفهم وأخذ بهدي علمائهم نجا ، من ظلمة المخالفات ، ومن تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم ، وهلك في مفاوز الطغيان » إلى أن قال : ( وبباب حطة ـ يعني ووجه تشبيههم بباب حطة ـ ان الله جعل دخول

__________________

(1) مجمع الزوائد 9 / 168 ، وجاء في مستدرك الحاكم عن حنش الكناني قال : سمعت أبا ذر يقول : وهو آخذ بباب الكعبة : أيها الناس من عرفنى فأنا من عرفتم ، ومن انكرني فأنا أبو ذر سمعت رسول الله يقول : « مثل اهل بيتى مثل سفينة نوح من ركبها نجا. ومن تخلف عنها غرق » وقد تظافرت الأخبار بهذا النص.

٩١

ذلك الباب الذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع التواضع والاستغفار سببا للمغفرة ، وجعل لهذه الأمة مودة أهل البيت سببا لها »(1)

8 ـ قال6 : « معرفة آل محمد براءة من النار وحب آل محمد جواز على الصراط ، والولاية لآل محمد أمان من العذاب. »(2)

9 ـ قال6 : « من مات على حب آل محمد مات شهيدا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الايمان ، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ، ثم منكر ونكير ، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس الى بيت زوجها ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة ، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه : آيس من رحمة الله »(3)

10 ـ قال6 : « واجعلوا أهل بيتى منكم مكان الرأس من الجسد ، ومكان العينين من الرأس ، ولا يهتدي الرأس إلا بالعينين »(4)

__________________

(1) المراجعات : ص 54

(2) المراجعات : ص 58 نقلا عن كتاب الشفاء ص 40

(3) المراجعات : ص 59 نقلا عن الامام الثعلبي في تفسير آية المودة من تفسيره الكبير

(4) المراجعات نقلا عن الشرف المؤبد ص 58.

٩٢

ان الواجب على المسلمين أن يجعلوا أهل بيت نبيهم مكان الرأس من الجسد ، ومكان العينين من الرأس ، فيتمسكوا بأهدافهم ، ويأخذوا بأفعالهم وأقوالهم ، ولو انهم حققوا ذلك لكانوا سادات الامم وهداة الشعوب ولكنهم ناصبوهم العداء ، واخروهم عن مراتبهم ، وأزالوهم عن مكانتهم ، فاصيبت الامة بالنكسات ، وحفت بها الخطوب والاخطار فانا لله وإنا إليه راجعون.

11 ـ قال (ص) : لا تزول قدما عبد ـ يوم القيامة ـ حتى يسأل عن أربع ، عن عمره فيما أفناه ، وعن جسده فيما أبلاه ، وعن ماله فيما أنفقه ، ومن أين اكتسبه ، وعن محبتنا أهل البيت »(1)

إن المسلمين مسئولون أمام الله عن مودة أهل البيت وعن حبهم ، ومن اظهر ألوان الحب الأخذ بأقوالهم والاقتداء بهم في جميع المجالات.

12 ـ قال (ص) : من سره أن يحيا حياتي ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال عليا من بعدي ، وليوال وليه وليقتد بأهل بيتى من بعدي فانهم عترتي ، خلقوا من طينتى ورزقوا فهمي وعلمي فويل للمكذبين بفضلهم من امتي ، القاطعين فيهم صلتى ، لا أنالهم الله شفاعتي »(2)

ونقتصر على هذه السنن التي أثرت عن الرسول6 في أهل بيته ، وهناك عشرات أمثالها ذكرت في كتب الحديث وهي تهتف بفضلهم ، وتلزم المسلمين بالرجوع إليهم في جميع المجالات.

__________________

(1) المراجعات نقلا عن السيوطي في احياء الميت ، والنبهانى فى اربعينه.

(2) كنز العمال 6 / 217.

٩٣

احتفاء المسلمين به :

واحتفى المسلمون بالامام الحسن احتفاء بالغا فكان كبار الصحابة يقابلونه بالتجلة والتكريم ، ويتسابقون الى القيام بخدمته ، فهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة كان إذا ركب الحسن والحسين8 بادر فأمسك لهما الركاب وسوى عليهما الثياب ، وقد لامه مدارك بن زياد على ذلك فنهره وقال له :

« يا لكع أو تدري من هذان؟! هذان ابنا رسول الله6 أو ليس مما أنعم الله به علي أن أمسك لهما الركاب ، وأسوي عليهما الثياب »(1)

وبلغ من تعظيم المسلمين وتكريمهم لهما انهما كانا يفدان الى بيت الله الحرام ماشيين فما اجتازا على ركب الا ترجل ذلك الركب اجلالا واكبارا لهما ، وإذا طافا بالبيت الحرام بلغ زحام الناس عليهما مبلغا هائلا لم يشاهد نظيره لاجل السلام عليهما والتبرك بزيارتهما(2) وكان أبو هريرة إذا رأى الامام الحسن (ع) مقبلا قام إليه فقبله بسرته لأنه رأى رسول الله6 يفعل ذلك(3) وحقا للمسلمين أن يكرموا حفيد نبيهم ويقدسوه بعد ما كرمه النبيّ6 ورفع من شأنه.

__________________

(1) تاريخ ابن عساكر 4 / 212 ، مناقب ابن شهرآشوب 2 / 143

(2) البداية والنهاية 8 / 37

(3) مسند الامام احمد بن حنبل 2 / 255 ، انساب الاشراف للبلاذري

٩٤

الفاجعة الكبرى

٩٥
٩٦

وقطع الحسن7 شوطا من طفولته مع جده الرسول6 حتى توسعت مداركه ونمت ملكاته ، وهو ناعم البال قرير العين ، يستقبل الحياة كل يوم بثغر باسم وبهناء وسعادة ، يرى من جده6 الحنان والعطف ، ومن مشيخة الصحابة التعظيم والتكريم ، وقد رأى7 ما منح به الاسلام من التوسع وكثرة الغزوات حتى دخل الناس في دين الله افواجا افواجا ، فقد تحطمت عروش الشرك واندحرت قوى الالحاد ، وغزت الجيوش الاسلامية مكة التي هي اعز بلد وامنعه في الجزيرة العربية ، وقام الاسلام وهو عبل الذراع مفتول الساعد شامخ الكيان وسرت موجات فتحه الى أغلب شعوب الأرض ، وقد غمرت قلوب المسلمين المسرات على هذا النصر الذي أعزهم الله وأيدهم به وكان أشد المسلمين فرحا واعظمهم سرورا بهذه الانتصارات التي حققها الاسلام أهل البيت.

ولكن لم تدم لهم الحالة الهانئة فقد عبس الزمن فى وجوههم ، واكفهر ، وغزا قلوبهم بخوف غامض وحزن بهيم فقد آن للرسول6 أن يفد على الله ، وينتقل الى حظيرة القدس ، وقد بدت له طلائع الرحيل وامارات الانتقال وهي :

1 ـ وكانت أول النذر بمغادرته لهذه الحياة نزول الوحي عليه بهذه الآية( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) وقد اثارت كوامن التوجس في نفسه فقد سمعه المسلمون ينعى نفسه ويقول :

« ليتنى اعلم متى يكون ذلك؟ »

ونزلت عليه بعد هذه الآية سورة « النصر » فكان يسكت بين التكبير والقراءة ويقول :

« سبحان الله وبحمده ، استغفر الله واتوب إليه »

٩٧

وقد ساور قلوب المسلمين الخوف والجزع فانطلقت قلوبهم قبل السنتهم تستفهم عن هذه الحالة الرهيبة فاجابهم6 :

« إن نفسي قد نعيت لي »(1)

وحينما سمع المسلمون ذلك قدّت قلوبهم وانهارت قواهم ، وغامت أبصارهم بفيض من الدموع ، وأصابتهم رجفة هزت كيانهم واشاعت في نفوسهم الجزع والخوف.

2 ـ ونزل عليه القرآن الكريم في تلك السنة مرتين فاستشعر بذلك حضور الاجل المحتوم(2) واخذ ينعى نفسه ، ويعلن مفارقته لهذه الحياة وقد تصدعت القلوب لهذا النبأ وطافت بالمسلمين أمر الوان المحن والخطوب

حجة الوداع :

ولما علم الرسول6 بانتقاله الى دار الخلود ، وهو قد تحمل في سبيل ارشاد المسلمين وهدايتهم من العنت والعناء ما تنوء بحمله النفوس رأى أن يتم النهاية لرسالته المقدسة ويضع الخطة السليمة التي تضمن لامته من بعده السعادة والنجاح فحج6 من اجل ذلك حجته الأخيرة الشهيرة بحجة الوداع ، في السنة العاشرة من الهجرة واشاع بين الوافدين لبيت الله الحرام ان هذا الالتقاء هو آخر العهد بهم قائلا :

« انى لا ادري لعلي لا القاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف ابدا »

وجعل يطوف على الجماهير ويعرفهم بما يضمن لهم السعادة والنجاح « يا أيها الناس ، اني تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل

__________________

(1) مناقب ابن شهر اشوب 1 / 127.

(2) الخصائص الكبرى 2 / 368

٩٨

بيتى »(1)

لقد قرن بين الكتاب والعترة الطاهرة وجعل التمسك بهما منجاة من الفتن والزيغ ، ولو أن الامة تابعته في قوله ، وتمسكت بهما لما حلت بها الاهواء والخطوب وما عراها الذل والهوان ، وما اختلفت كلمتها ، ولا تشعبت الى فرق واحزاب( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )

غدير خم :

ولما فرغ النبي6 من أداء مناسك الحج اتجه الى يثرب فلما وصل موكبه الى غدير خم هبط عليه أمين الوحي فأمره أن يحط رحله في رمضاء الهجير ، وينصب الامام أمير المؤمنين خليفة من بعده ومرجعا لأمته ، وكان أمر السماء يحمل طابعا مهما بالغ الخطورة ، فقد نزل عليه الوحي بهذه الآية :

( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (2) واضطرب النبي من هذا الانذار وهذا التهديد ، إنه إن لم ينفذ ما أراد الله في تقليد أمير المؤمنين بهذا المنصب الخطير فما بلغ رسالة الله وضاعت جميع اتعابه وجهوده ، فانبرى6 بعزم ثابت الى تنفيذ ذلك وإن اغضب الطامعين بالخلافة والمنحرفين عن الامام7 ، فوضع6 اعباء المسير وحط رحله في ذلك المكان القاحل وكان الوقت قائضا حتى كان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه ليتقى من الحر وامر صلى الله

__________________

(1) صحيح الترمذي 2 / 308

(2) سورة المائدة نزلت هذه الآية فى يوم الغدير ذكر ذلك الواحدى فى اسباب النزول ص 150 والفخر الرازي فى تفسيره الكبير وغيرهما.

٩٩

عليه وآله باجتماع الجماهير فلما اجتمعوا صلى بهم فلما انفلت من صلاته أمر أن توضع حدائج الابل لتكون له منبرا فصنعوا له ما اراد فاعتلى عليها وكان عدد الحاضرين مائة الف أو يزيدون ، وقد اتجهوا بقلوبهم قبل اسماعهم الى الرسول ليسمعوا ما يلقى عليهم ، وانبرى6 فبين لهم ـ اولا ـ جهاده المقدس واتعابه الشاقة فى سبيل ارشادهم وانقاذهم من حضيض الشرك والعبودية ، وذكر لهم ـ ثانيا ـ جملة من الاحكام الاسلامية والآداب الدينية فأمرهم بتطبيقها على واقع حياتهم ، وبعد ذلك قال لهم :

« فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين »

فناداه مناد من القوم

« وما الثقلان يا رسول الله؟ »

فاجابه6 : « الثقل الاكبر كتاب الله طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فتمسكوا به لا تضلوا ، والآخر الاصغر عترتي وان اللطيف الخبير نبأني انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فسألت ذلك لهما ربي فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا »

ثم أخذ بيد علي حتى بان بياض إبطيهما وعرفه القوم اجمعون وقال :

« أيها الناس ، من أولى الناس بالمؤمنين من انفسهم؟

فاجابوه « الله ورسوله اعلم »

فقال6 : إن الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من انفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه قال ذلك ثلاث مرات او أربع مرات ، ثم قال :

« اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، واحب من أحبه ، وابغض

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173