الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم 0%

الأقسام في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 173

الأقسام في القرآن الكريم

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
تصنيف: الصفحات: 173
المشاهدات: 47751
تحميل: 6935

توضيحات:

الأقسام في القرآن الكريم
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 47751 / تحميل: 6935
الحجم الحجم الحجم
الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ويَقربُ من الآية الأُولى قوله سبحانه :( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيّاً ما تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الْحُسْنى ) .(١)

فإنّ جعْل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء ، والأمر بدعوة أيٍّ منها ، ربّما يُشعِر بخلوِّه عن معنى العَلَميّة ، وتضمّنه معنى الوصفيّة الموجودة في لفظ ( الإله ) وغيره ، ومثله قوله سبحانه :( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ) .(٢)

فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلّية لا العَلَمية الجزئيّة ، كما هو الظاهر لمَن أمعن فيها

المُقْسَمُ عليه :

إنّ المُقسَم عليه عبارة عن جواب القَسَم ، وهو في تلك الآيات كالتالي :

أ ـ الدعوة إلى تحكيم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتسليم أمام قضائه:( لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ )

ب ـ التأكيد على قدرته سبحانه على أن يأتي بخير منهم :( إنّا لَقادِرُون عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً )

ج ـ التأكيد على حشرِهم وحشرِ الشياطين :( لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطين )

د ـ التأكيد على أنّهم مسؤولون يوم القيامة عن أعمالهم :( لنسئَلنَّهم أَجْمَعين )

هـ ـ التأكيد على إتيان الساعة :( لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالم الغَيب )

و ـ التأكيد على بعثِهم وآبائهم :( لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ )

ز ـ التأكيد على وقوع البعث :( إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ )

ح : التأكيد على أنّ أمر الرزق وما توعدون من الجزاء حقّ :( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ )

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ١١٠

(٢) الحشر : ٢٤

٤١

الصِلَة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه :

الصِلَة بينهما واضحة ، فإنّ المُقسَم عليه في هذه الآيات كان يدور حول أحد أمرين :

أ ـ الدعوة إلى التحكيم إلى النبي ، والتسليم أمام قضائه

ب : كون البعث والحشر والسؤال عن الأعمال أمراً حقّاً

ومن الواضح أنّ كلا الأمرين من شؤون الربوبيَّة ؛ فإنّ الرَبَّ إذا كان سائساً ومُدبِّراً فهو أعلم بصلاح المُدبّر ، فيجب أن يكون مُسلِّماً لأمرِ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهيِه

كما أنّ حياة المربوب من شؤون الرَبّ ، دون فرق بين آجله وعاجله ، فناسب الحلف بالرَبّ عند الدعوة إلى الحشر والنشر

وبعبارة أُخرى : كان المشركون ينكرون التسليم أمام أمره ونهيه ، كما كانوا ينكرون البَعث والنَشر ، ولمّا كان الجميع من شؤون الربوبيّة حلف بالرَبِّ تأكيداً لربوبيّته

ثُمّ أنّ المُقسَم به ـ فيما مضى من الآيات ـ هو لفظ الجلالة أو لفظ الرَبّ ، المُشيرين إلى الواجب الجامع لجميع صفات الكمال والجمال

وثَمَّة آيات ربّما يُستظهَر منها أنّ المُقسَم به هو سبحانه تبارك وتعالى ، لكن بلفظٍ مُبهَم كـ ( ما ) الموصولة ، وقد جاء في آيات أربع :

١ ـ( وَالسَّماءِ وَما بَناها )

٢ ـ( والأرْضِ وما طَحيها )

٤٢

٣ ـ( وَنَفْسٍ وَما سَوّاها ) .(١)

٤ ـ( وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنثى ) .(٢)

وقد اختلفت كلمة المفسّرين في تفسير لفظة ( ما ) ، فالأكثرون على أنّها ( ما ) موصولة ، كناية عن اللّه سبحانه ، وكأنّه سبحانه يقول : ( والسماء والّذي بناها ، والأرض والّذي طحاها ، ونفس والّذي سوّاها ) والواو للقَسَم

وهناك مَن يذهب إلى أنّها ( ما ) مصدريّة ، وكأنّه يقول : ( أُقسِم بالسماء وبنائها ، والأرضِ وطحائها ، والنفس وتسويتِها )

ولكنّ الرأي الأوّل هو الأقرب ؛ لاَنّ سياق الآية يؤيّد ذلك ، لأنّه سبحانه يقول :( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) (٣) ، فالفاعل هو الضمير المُستَتِر الراجع إلى ( ما ) الموصولة الواردة في الآيات الثلاث المتقدّمة ، والّذي يصلح للفاعليّة هو الموصول من ( ما ) ، لا المصدر وسيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن الحلفِ بما ورد في هذه الآيات

ــــــــــــــــ

(١) الشمس : ٥ـ٧

(٢) الليل : ٣

(٣) الشمس : ٨

٤٣

الفصل الثالث : القَسَمُ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

حلف القرآن الكريم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرَّتين ، فتارة بعُمْره وحياته ، وأُخرى بوَصفه وكونه شاهداً ويقع البحث في مقامين :

المقام الأوّل : الحلف بعُمْر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

حلفَ سبحانه بحياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة واحدة ، وقال حينما عرضَ قصّة لوط :( قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) .(١)

تفسير الآيات :

أخبر سبحانه في هذه السورة أنّ الملائكة لمّا خرجوا من عند إبراهيم ، أتوا لوطاً يبشِّرونه بهلاكِ قومه ، ولمّا حلّوا ضيوفاً عند لوط ، فرحَ الفُجّار بورودهم ، فقال لهم لوط مُشيراً إلى بناته : ( إنّ هؤلاء بناتي ) فتزوجوهنّ ( إن كنتم فاعلين ) وكانت لكم رغبة في التزويج ، ولكنّ قوم لوط أعرضوا عمّا اقترح عليهم نبيّهم لوط ، وكانوا مُصرّين على الفجور بهم ، غافلين عن أنّ العذاب سيُصيبهم ، واللّه سبحانه يحلف بحياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقول :( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، فلا يُبصرون طريق الرشد( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) أي : الصوت الهائل ،( مُشرِقين ) أي : في حال شروق الشمس

ــــــــــــــــ

(١) الحجر : ٧١ـ ٧٣

٤٤

المُقسَم به :

المُقسَم به هو عبارة عن العُمْر ، أعني في قوله : ( لعَمْرك ) يقول الراغب : العَمْر والعُمْر اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة ، فإذا قيل طال عُمْره ، فمعناه عمارة بدنه بروحه ، إلى أن قال : والعَمْر والعُمْر واحد ، لكن خُصَّ القَسَم بالعَمْر دون العُمْر ، كقوله سبحانه :( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ )

وأمّا العُمْر ، فكما في قوله سبحانه : ( فطالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُر ) ، وفي آية أُخرى : ( لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُركَ سِنين )

فاللفظان بمعنى واحد ، لكن يختصّ القَسَم بواحد منهما .(١)

المُقسَم عليه :

هو قوله :( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، والمُراد : أُقسم بحياتك وبقائك يا محمد ، إنّهم لفي سكرتهم وانغمارهم في الفحشاء والمُنكَر متحيِّرين لا يُبصرون طريق الرشد

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه :

قال ابن عبّاس : ما خلق اللّه (عزَّ وجلّ) وما ذرَأ ولا برَأ نفساً أكرم عليه من محمد ، وما سمعتُ اللّه أقسمَ بحياة أحد إلاّ بحياته ، فقال لعَمْرك .(٢)

وجه الصِلة أنّه سبحانه بعث الأنبياء عامّة ، والنبيّ الخاتم خاصّة ؛ لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة ، وإيقاظهم من السكرة الّتي تعمُّ الناس ، وبما أنّ القوم كانوا في سكرتهم يعمهون ، وفي ضلالتهم مستمرّون ، حلف سبحانه تبارك وتعالى بعُمْر النبيّ الّذي هو مصباح الهداية ، والدليل إلى الصراط المستقيم

ــــــــــــــــ

(١) المفردات : ٣٤٧ ، مادّة عَمَرَ

(٢) مجمع البيان : ٣/٣٤٢

٤٥

المقام الثاني : الحلف بوَصف النبي وأنّه شاهد :

حلف القرآن الكريم في سورة البروج بالشاهد والمشهود ، وقال :( وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُروج * وَالْيَومِ المَوعُودِ * وشاهدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصحابُ الأُخدُود ) .(١)

أمّا المشهود ، فسيوافيك في فصل القَسَم في سورة القيامة أنّ المراد منه يوم القيامة ، بشهادة قوله سبحانه :( ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود ) .(٢)

إنّما الكلام في الشاهد ، فالمراد منه هو : النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بشهادة أنّه سبحانه وصفَه بهذا الوصف ثلاث مرّات ، وقال :

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) .(٣)

( إنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ ) .(٤)

( إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) .(٥)

ــــــــــــــــ

(١) البروج : ١ـ٤

(٢) هود : ١٠٣

(٣) الأحزاب : ٤٥

(٤) المُزَّمّل : ١٥

(٥) الفتح : ٨

٤٦

والآيات صريحة في حقّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي بعض الآيات عرَّفه بأنّه ( شهيداً ) ، ويقول :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) .(١)

( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) .(٢)

هذه الآيات تُعرب عن أنّ المُقسَم به هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بما أنّه شاهِد على أعمال أُمّته ، وشهيداً عليها

سُئل الحسن بن عليعليهما‌السلام عن معنى الشاهد والمشهود في قوله سبحانه :( وشاهدٍ وَمَشْهُود ) ، فقال :( أمّا الشاهد فمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أما سمعته يقول : ( إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً ) وقال تعالى : ( ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود ) ؟! ) .(٣)

معنى الشهادة وكيفيَّة شهادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أمّا الشهادة ، فقد فسَّرها الراغب وقال : الشهود والشهادة : الحضور مع المشاهدة ، إمّا بالبصر أو بالبصيرة ، وقد يُقال للحضور مُفرداً ، وقد نقل القرآن شهادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قومه يوم القيامة ، فقال :( يا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآنَ مَهْجُوراً ) .(٤)

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ١٤٣

(٢) النحل : ٨٩

(٣) البحار : ١/١٣

(٤) الفرقان : ٣٠

٤٧

هذه حقيقة قرآنيّة في حقّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره ، ولا يمكن إنكارها ؛ للتصريح بها في غير واحد من الآيات ، قال تعالى :

( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هؤُلاءِ شَهيداً ) .(١)

وقال تعالى :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُون ) .(٢)

وقال عزَّ اسمُه :( وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداء ) .(٣)

والشهادة فيها مُطلَقة ، وظاهر الجميع ـ على إطلاقها ـ هو الشهادة على أعمال الأُمَم ، وعلى تبليغ الرُسل كما يومئ إليه ، قوله تعالى :( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرسَلين ) .(٤)

وظَرف الشهادة وإن كان هو الآخرة ، لكنّ الشهداء يتحمّلوها في الدنيا قال سبحانه :( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد ) .(٥)

وعلى ضوء ذلك يُثار هذا السؤال في الذهن ، وهو :

إنّ الشهادة من الحضور ، ولم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهراً مع جميع الأُمّة ، بل كان بمَعزلٍ عنهم إلاّ شيئاً لا يُذكَر ، فكيف يشهد وهو لم يحضر الواقعة ، أي أفعال أُمّته قاطبة ؟!

وهناك إشكال آخر أكثر غموضاً ، وهو : أنّ الشهادة على ظاهر الأعمال ليست مفيدة يوم القيامة ، بل الشهادة على باطن الأعمال ، من كون الصلاة للّه أو للرياء وللسمعة ، وأنّ إيمانه هل كان إيماناً نابعاً من صميم ذاته أو نفاقاً لأجل حطام الدنيا ، فهذا النوع من الأعمال لا يمكن الشهادة عليها ، حتى بنفس الحضور عند المشهود عليه

ــــــــــــــــ

(١) النساء : ٤١

(٢) النحل : ٨٤

(٣) الزمر : ٦٩

(٤) الأعراف : ٦

(٥) المائدة : ١١٧ .

٤٨

وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ لشهداء الأعمال عامّة ، والنبيّ الخاتم خاصّة ، قدرة غيبيّة خارقة ، يطّلع من خلالها على أعمال العباد ظاهرها وباطنها ، وذلك بقُدرة من اللّه سبحانه

وعلى ذلك ، فهذه الشهادة عبارة عن الاطّلاع على أعمال الناس في الدنيا ، من سعادة أو شقاء ، وانقياد وتمرّد ، وإيمان وكفر ، وأداء ذلك في الآخرة ، يوم يستشهد اللّه من كلّ شيء حتى من أعضاء الإنسان ، وعند ذلك يقوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول :( يا رَبِّ إِنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآن مَهْجُوراً )

فإذا كانت الشهادة بهذا المعنى ، فلا ينالها إلاّ الأمثَل فالأمثَل من الأُمّة ، لا الأُمّة بأسرِها

وعلى ضوء ذلك ، يكون المراد من قوله سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً ) (١) هم الكاملين من الأُمّة ، لا المُتوسّطين وما دونهم

وأمّا نسبة الشهادة إلى قاطبة أُمّة النبي في قوله تعالى :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسطاً ) ، فليس بشيء بديع ، إذ ربّما يكون الوصف لبعض الأُمّة ويُنسَب الحكم إلى جميعهم ، كما في قوله سبحانه في حقّ بني إسرائيل :( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) ، على الرغم من أنّ الملوك فيهم لم يكن يتجاوز عددهم عدَد الأصابع

وثَمّة حديث منقول عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، في تفسير قوله تعالى : ( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً ) يؤيِّد هذا المعنى ( الشهادَة للأمْثَل ): ( فإن ظنَنتَ أنّ اللّه عَني بهذه الآية جميع أهل القبلة من المُوحِّدين ، أفترى أنّ مَن لا تجوز شهادته في الدنيا على صاعٍ من تمر يَطلبُ اللّهُ شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمَم الماضية ؟!

كلاّ ، لم يعنِ اللّه مثل هذا من خَلْقه

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ١٤٣

٤٩

يعني الأُمّة الّتي وجبت لها دعوة إبراهيم ( كُنْتُم خَير أُمّة أُخرِجَت للناسِ ) ، وهم الأُمّة الوسطى ، وهم خير أُمّة أُخرجت للنّاس ) .(١)

الحلف بالنبيّ كناية :

ربّما يحلف القرآن الكريم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كناية قال سبحانه :( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَد * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَد * وَوالدٍ وَما وَلَد * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ في كَبَد ) .(٢)

والحِلُّ بمعنى المُقِيم ، وكأنّه سبحانه يقول : وأنتَ يا محمد مُقيم به ، وهو مَحلّك ، وهذا تنبيه على شَرفِ البلد بشَرفِ مَن حلَّ به ، وهو الرسول الداعي إلى توحيده وإخلاص عبادته ، وبيان أنّ تعظيمه له وقَسَمه به لأجله ، ولكونه حالاًّ فيه ، كما سُمِّيت المدينة ( طيبة ) لأنّها طابت به حيّاً وميتاً(٣)

وكأنّ الآية تُشير إلى المَثلِ المعروف ( شَرفُ المكانِ بالمَكين ) ، وأنّ قداسةَ مكّة ، والداعي إلى الحلف بها ، هو احتضانها للنبي

يقول العلاّمة الطباطبائي : والحِلّ مصدر كالحلول بمعنى الإفاضة والاستقرار في مكان ، والمصدر بمعنى الفاعل ، والمعنى : أُقسِمُ بهذا البلد ، والحال أنّك حالّ به مُقيم فيه ، وفي ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلوله فيها وكونها مولده ومقامه(٤)

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ١/٣٣٢

(٢) البلد : ١ـ٤

(٣) مجمع البيان : ١٠|٤٩٢

(٤) الميزان : ٢٠/٢٨٩

٥٠

الفصل الرابع : القَسَمُ بالقرآنِ الكَريم

القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الّذي أنزلَه سبحانه على رسوله ليكون للعالمين نذيراً ، وبما أنّ القرآن كتاب هداية للناس ، فقد نال من الكرامة بمكان حلف به سبحانه ، فتارة بلفظ ( القرآن ) وأُخرى بلفظ ( الكتاب )

فقد حلف بالقرآن في ثلاث آيات :

( يس * وَالقُرآنِ الحَكيم * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * على صراطٍ مُسْتَقيم ) .(١)

( ص وَالقُرآنِ ذي الذِّكْر * بَلِ الَّذينَ كَفَرُوا في عِزَّة وَشِقاق * كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلهِِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوا وَلاتَ حينَ مَناص * وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّاب * أَجَعلَ الآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنّ هذا لشيءٌ عُجاب ) .(٢)

( ق وَالقُرآنِ المَجيد * بَلْ عَجِبُوا أنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الكافِرُونَ هذا شَيءٌ عَجيب ) .(٣)

ــــــــــــــــ

(١) يس : ١ـ٤

(٢) ص : ١ـ٥

(٣) ق : ١ـ٢

٥١

كما حلف سبحانه بلفظ الكتاب مرّتين ، وقال :

( حم * وَالكِتاب الْمُبين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرينَ * فِيها يُفرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيم * أَمراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرسِلين ) .(١)

( حم * وَالْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكيمٌ ) .(٢)

وقبل الخوض في تفسير الآيات نذكر أُموراً :

الأوّل : أنّه سبحانه صدَّر هذه الأقسام بالحروف المُقطَّعة كما هو واضح ، وهذا يؤيّد أنّ كلمة ( يس ) من الحروف المُقطَّعة

والحروف المُقطّعة : عبارة عن الحروف الّتي صُدِّرَ بها قِسم من السور ، يجمعها قولنا : ( صراط علي حق نمسكه )

وعند التحليل يرجع إلى :

ا ، ح ، ر ، س ، ص ، ط ، ع ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، هـ ، ي

والعجب أنّ هذه الحروف هي نصف الحروف الهجائية !

الثاني : ما هو المراد من الحروف المقطعة ؟

افتتح القرآن الكريم قِسماً من السور بحروف مُقطّعة ، أعني السور التالية :

١ ـ البقرة ، ٢ ـ آل عمران ، ٣ ـ الأعراف ، ٤ ـ يونس ، ٥ ـ هود ، ٦ ـ يوسف ، ٧ ـ الرعد ، ٨ ـ إبراهيم ، ٩ ـ الحجر ، ١٠ ـ مريم ، ١١ ـ طه ، ١٢ ـ الشعراء ، ١٣ ـ النمل ، ١٤ ـ القصص ، ١٥ ـ العنكبوت ، ١٦ ـ الروم ، ١٧ ـ لقمان ، ١٨ ـ السجدة ، ١٩ ـ يس ، ٢٠ ـ ص ، ٢١ ـ غافر ، ٢٢ ـ فُصّلت ، ٢٣ ـ الشورى ، ٢٤ ـ الزخرف ، ٢٥ ـ الدخان ، ٢٦ ـ الجاثية ، ٢٧ ـ الأحقاف ، ٢٨ ـ ق ، ٢٩ ـ القلم

فهذه السور الّتي يبلغ عددها ٢٩ سورة ، اُفتتحت بالحروف المُقطّعة

ــــــــــــــــ

(١) الدخان : ١ـ٥

(٢) الزخرف : ١ـ٤

٥٢

وقد تطرَّق المُفسِّرون إلى بيان ما هو المقصود من هذه الحروف ، وذكروا وجوهاً كثيرة ، نقلها فخر الدِّين الرازي في تفسيره الكبير تربو على عشرين وجهاً(١)

وها نحن نقدِّم المختار ثُمَّ نلمِّح إلى بعض الوجوه

إلماع إلى مادَّة القرآن :

إنّ القرآن الكريم تحدّى المشركين بفصاحته وبلاغته ، وعذوبة كلماته ورصانة تعبيره ، وادّعى أنّ هذا الكتاب ليس من صنع البشر ، بل من صنع قدرة إلهيّة فائقة لا تبلغ إليها قدرة أيِّ إنسان ، ولو بلغ في مضمار البلاغة والفصاحة ما بلغَ

ثُمّ أنّه أخذ يورد في أوائل السور قِسْماً من الحروف الهجائيّة ؛ للإلماع إلى أنّ هذا الكتاب مؤلّف من هذه الحروف ، وهذه الحروف هي الّتي تلهجون بها صباحاً ومساءً فلو كنتم تزعمون أنّه من صُنْعي فاصنعوا مثله ؛ لأنّ المواد الّتي تركّب منها القرآن كلّها تحت أيديكم ، واستعينوا بفصحائكم وبُلغائكم ، فإن عجزتم ، فاعلموا أنّه كتاب مُنزَّل من قبل اللّه سبحانه على عبد من عباده ، بشيراً ونذيراً

وهذا الوجه هو المرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وهو خيرة جَمْع من المُحقّقين ، وإليك ما ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المقام :

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢/٥ـ ٨

٥٣

أ ـ روى الصدوق بسنده عن الإمام العسكريعليه‌السلام ، أنّه قال :( كذَّبتْ قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا : هذا سِحر مُبين تقوَّله ، فقال اللّه : ( الم * ذلِكَ الكتاب ) أي : يا محمّد ، هذا الكتاب الّذي أنزلته إليك هو الحروف المُقطّعة الّتي منها ( الم ) ، وهو بلُغَتِكم وحروف هجائكم ، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا بذلك بسائر شهدائكم ، ثُمّ بيَّن أنّهم لا يقدرون عليه ، بقوله : ( لَئِن اجْتَمَعتِ الإنْس وَالجِنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَو كانَ بَعضهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيراً ) (١) ) . (٢)

وبه قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني (٢٥٤ـ ٣٢٢هـ) ـ من كبار المُفسّرين ـ حيث قال : إنّ الّذي عندنا أنّه لمّا كانت حروف المُعجَم أصل كلام العرب ، وتحدَّاهم بالقرآن ، وبسورة من مثله ، أراد أنّ هذا القرآن من جنس هذه الحروف المُقطّعة ، تعرفونها وتقتدرون على أمثالها ، فكان عجزكم عن الإتيان بمثل القرآن وسورة من مثله دليلاً على أنّ المنع والتعجيز لكم من اللّه على أمثالها ، وأنّه حُجّة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال : وممّا يدلّ على تأويله ، أنّ كلّ سورة افتُتحَت بالحروف الّتي أنتم تعرفونها بعدها إشارة إلى القرآن ، يعني : أنّه مؤلّف من هذه الحروف ، الّتي أنتم تعرفونها وتقدرون عليها

ثُمّ سأل نفسه وقال : إن قيل : لو كان المراد هذا ، لكان قد اقتصر اللّه تعالى على ذكر الحروف في سورة واحدة ؟!

فقال : عادة العرب التكرار عند إيثار إفهام الّذي يخاطبونه(٣)

واختاره الزمخشري (٤٦٧ـ ٥٣٨هـ) في تفسيره ، وقال : واعلم أنّك إذا تأمَّلت ما أورده اللّه (عزّ سُلطانه) في الفواتح من هذه الأسماء ، وجدتها نصف أسامي حروف المُعجَم : ( ١٤ ) سِواه ، وهي : الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة ، على عدد حروف المعجم !

ثُمّ إذا نظرت في هذه الأربعة عشر ، وجدتها مُشتمِلة على أنصاف أجناس الحروف !

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ٨٨

(٢) تفسير البرهان : ١/٥٤ ، تفسير الآية الثالثة من سورة البقرة ، رقم : ٩

(٣) تاريخ القرآن للزنجاني : ١٠٦

٥٤

بيان ذلك :

إنّ فيها من المهموسة نصفها : الصاد والكاف والهاء والسين والحاء

ومن المهجورة نصفها : الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون

ومن الشديدة نصفها : الألف والكاف والطاء والقاف

ومن الرخوة نصفها : اللام والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون

ومن المُطبقة نصفها : الصاد والطاء

ومن المنفتحة نصفها : الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون

ومن المُستعلِية نصفها : القاف والصاد والطاء

ومن المُنخفضة نصفها : الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء و الياء والعين والسين والحاء والنون

ومن حروف القَلْقَلة نصفها : القاف والطاء

ثُمّ إذا استقريت الكَلِم وتراكيبها ، رأيت الحروف الّتي ألغى اللّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة ، مكثورة بالمذكورة منها ، فسبحان الّذي دقَّت في كلّ شيء حكمته ، وقد علمت أنّ معظم الشيء وجُلّه ينزل منزلة كلّه ، وهو المُطابق للطائف التنزيل

٥٥

فكأنّ اللّه (عزّ اسمه) عدّد على العرب الألفاظ الّتي منها تراكيب كلامهم ؛ إشارة إلى ما ذكرتُ من التَبْكيتِ لهم ، وإلزام الحُجّة إيّاهم(١)

ومن المُتأخّرين مَن بيَّن هذا الوجه ببيانٍ رائع ، ألا وهو المُحقّق السيّد هبة الدِّين الشهرستاني (١٣٠١ـ ١٣٨٦هـ) ، قال ما هذا نصّه :

إنّ القرآن مجموعة جُمَل ليست سوى صبابة أحرف عربيّة ، من جنس كلمات العرب ، ومن يسير أعمال البشر ، وقد فاقت مع ذلك عبقريّةً ،

وكلّما كان العمل البشري أيسر صدوراً وأكثر وجوداً ، قلّ النبوغ فيه ، وصعب افتراض الإعجاز والإعجاب منه ، فإذا الجُمَل القرآنيّة ليست سوى الحروف المتداولة بين البشر ! فهي عبارة عن ( الم ) و ( حمعسق ) ، فلماذا صار تأليف جملة أو جُمَل منه مستحيل الصدور؟!

هذا ونجد القرآن يُكرِّر تحدّي العرب وغير العرب بإتيان شيء من مقولة هذا السهل المُمتنِع ، كالطاهي يُفاخر المُتطاهي بأنّه يصنع الحلوى اللذيذة من أشياء مبذولة لدى الجميع ، كالسمنِ واللوز ودقيق الرز ، بينما المُتطاهي لا يتمكَّن من ذلك مع استحضاره الأدوات ، وكذلك الكيمياوي الماهر ، يستحضر المطلوب المُستجمع لصِفات الكمال ، وغيره يعجز عنه مع حضور جميع الأدوات والأجزاء

وكذلك القرآن ، يقرع ويسمع قومه بأنّ أجزاء هذا المُستحضَر القرآني موفورة لديكم ، من ( ح ) و ( م ) و ( ل ) و ( ر ) و ( ط ) و ( هـ ) ، وأنتم مع ذلك عاجزون(٢)

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ١/١٧ ، ط دار المعرفة

(٢) المعجزة الخالدة : ١١٥ـ ١١٦

٥٦

ويُؤيّد هذا الرأي أنّ أكثر السور الّتي صدرت بالحروف المُقطَّعة جاء بعدها ذكر القرآن الكريم بتعابير مختلفة ، ولم يشذَّ عنها إلاّ سور أربع ، هي : مريم والعنكبوت ، والروم ، والقلم ففي غير هذه السور أردف الحروف المقطعة بذكر الكتاب والقرآن ، وإليك نماذج من الآيات :

( الم * ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لِلْمُتَّقين ) (١)

( الم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالْحَقّ مُصدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوراةَ والإنجِيل ) (٢)

( المص * كِتابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) (٣)

( الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكيم ) (٤)

إلى غير ذلك من السور ، ما عدا الأربع الّتي أشرنا إليها

ثمّ إنّ هذا الوجه هو الوجه العاشر في كلام الرازي ، ونسبَه إلى المبرّد وإلى جمعٍ عظيم من المُحقّقين ، وقال :

إنّ اللّه إنّما ذكرها احتجاجاً على الكُفّار ، وذلك أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا تحدّاهم أن يأتوا بمِثلِ القرآن ، أو بعشر سورٍ أو بسورة واحدة ، فعجزوا عنه ، أُنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أنّ القرآن ليس إلاّ من هذه الحروف ، وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفصاحة ، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن ، فلمّا عجزتم عنه ؛ دلّ ذلك على أنّه من عند اللّه ، لا من عند البشر(٥)

هذا هو الرأي المختار ، وقد عرفت برهانه

وثَمّة رأي آخر أقل صحَّة من الأوّل ، وحاصله : أنّ كلّ واحد منها دالٌّ على اسم من أسماء اللّه تعالى ، وصفة من صفاته

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ١ـ٢

(٢) آل عمران : ١ـ٣

(٣) الأعراف : ١ـ٢

(٤) يونس : ١

(٥) تفسير الفخر الرازي : ٢/٦

٥٧

قال ابن عبّاس في( الم ) : الألف إشارة إلى أنّه تعالى أَحَدُ ، أوّل ، آخر ، أزليّ ، أبدي ، واللام إشارة إلى أنّه لطيف ، والميم إشارة إلى أنّه مَلك ، مجيد ، مَنّان

وقال في( كهيعص ) : إنّه ثناء من اللّه تعالى على نفسه ، والكاف يدلّ على كونه كافياً ، والهاء يدلّ على كونه هادياً ، والعين يدلّ على العالم ، والصاد يدلّ على الصادق

وذكر ابن جرير عن ابن عبّاس أنّه حمل الكاف على الكبير والكريم ، والياء على أنّه يُجير ، والعين على العزيز والعدل(١)

ونقل الزنجاني في تأييد ذلك الوجه ما يلي :

وفي الحديث :( شعارُكم حم لا يُنصَرُون ) ، قال الأزهري : سُئل أبو العبّاس ، عن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( حم لا ينصرون ) ، فقال : معناه واللّه لا ينصرون

وفي لسان العرب ، في حديث الجهاد :( إذا بُيّتم فقولوا حاميم لا يُنصَرُون ) ، قال ابن الأثير : معناه اللّهمّ لا ينصرون(٢)

إذا عرفت هذه الأمور ، فلنرجع إلى تفسير الآيات الّتي حلف فيها سبحانه بالقرآن والكتاب ، وإليك البيان :

١ ـ( يس * والْقُرآن الحَكيم * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين ) ، فالمُقسَم به هو القرآن ، والمُقسَم عليه قوله :( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين ) ، والصِلة بين القرآن وبين كونه من المُرسَلين واضحة ، لاَنّ القرآن أداةُ تبليغهِ ورسالته ومعجزته الخالدة

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢/٦

(٢) تاريخ القرآن : ١٠٥

٥٨

وأمّا وصف القرآن بالحكيم ، فلأنّه مُستقرٌ فيه الحكمة ، وهي : حقائق المعارف وما يتفرَّع عليها من الشرائع والعِبر و المواعظ(١)

٢ ـ( ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ )

وُصف القرآن بكونه ( ذي الذكر ) ، كما وصفه في الآية السابقة بكونه ( حكيماً ) ، ووصفه تارة ثالثة بـ ( المجيد ) ، والمُراد بالذِكر هو : ذكر ما جُبِلَ عليه الإنسان من التوحيد والمعاد

قال الطبرسي : فيه ذكر اللّه وتوحيده وأسماؤه الحسنى وصفاته العلى ، وذكر الأنبياء ، وأخبار الأُمَم ، وذكر البَعْث والنُشور ، وذكر الأحكام وما يحتاج إليه المُكلّف من الأحكام ، ويُؤيّده قوله :( ما فَرَّطنا في الكتاب من شيء ) (٢)

قال الطباطبائى في تفسيره : المراد بالذِكر : ذكر اللّه تعالى وتوحيده ، وما يتفرّع عليه من المعارف الحقّة ، من المعاد والنبوّة وغيرهما

ويؤيِّد ذلك إضافة الذكر في غير واحد من الآيات إلى لفظ الجلالة ، قال سبحانه :( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ) (٣) ، وقال :( استَحْوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكرَ اللّه ) (٤) إلى غير ذلك

وأمّا المُقسَم عليه : فمَحذوف ، معلوم من القرينة ، هو ( أنّك لمِن المُنذرين ) ، ويدلّ على ذلك : التنديد بالّذين كفروا وأنّهم في عزّة وشقاق ، أي : في تكبُّر عن قبول الحقّ وحميّة جاهليّة ، وشقاق أي : عداوة وعصيان ومخالَفة ، لأنّهم يأنفون عن متابعة النبي ، ويُصرّون على مخالفته ثُمّ خوّفهم اللّه سبحانه فقال : كمْ أهلكنا من قبلهم من قرنٍ بتكذيبهم الرُسل ، فنادوا عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة ، ولاتَ حين مناص

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الميزان : ١٧/٦٢

(٢) مجمع البيان : ٨/٤٦٥

(٣) الحديد : ١٦

(٤) المجادلة : ١٩

٥٩

والصِلة بين المُقسَم به( القُرآن ذي الذِّكر ) ، والمُقسَم عليه المُقدّر( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُنْذَرين ) واضحة ؛ لاَنّ القرآن من أسباب إنذاره وأدوات تحذيره

٣ ـ( ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) (١)

المُقسَم به هو القرآن ، ووَصَفه بالمجيد

قال الراغب : المَجْدُ : السِعة في المقام والجلال ، وقد وُصف به القرآن الكريم ، فلأجل كثرة ما يتضمّن من المكارم الدنيويّة والأُخرويّة ، فالمجيد مبالَغة في المَجد

وقال الطبرسي : المجيد أي الكريم على اللّه ، العظيم في نفسه ، الكثير الخير والنفع(٢)

والمُقسَم عليه محذوف ، تدلّ عليه الجُمل التالية ، والتقدير : والقرآن المجيد انّك لمِن المنذرين ، أو أنّ البعث حقّ والإنذار حقّ

وقد ركَّزت السورة على الدعوة إلى المعاد ، ووبّخت المشركين باستعجالهم على إنكاره ، ونقد زَعمهم

والصِلة بين المُقسَم به وجواب القَسَمِ واضحة ، سواء أقلنا بأنّ المُقسَم عليه ( إِنّك مِنَ المنذرين ) أم أنّ البعث والنشر حقّ ، أمّا على الأوّل ؛ فلأنّ القرآن أحد أدوات الإنذار ، وأمّا على الثاني فلاَنَّ القرآن يتضمّن شيئاً كثيراً عن الدعوة إلى المعاد

ــــــــــــــــ

(١) ق : ١ـ٢

(٢) مجمع البيان : ٩|١٤١ .

٦٠