الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم 33%

الأقسام في القرآن الكريم مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 173

الأقسام في القرآن الكريم
  • البداية
  • السابق
  • 173 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51688 / تحميل: 7960
الحجم الحجم الحجم
الأقسام في القرآن الكريم

الأقسام في القرآن الكريم

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ويَقربُ من الآية الأُولى قوله سبحانه :( قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيّاً ما تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الْحُسْنى ) .(١)

فإنّ جعْل لفظ الجلالة في عداد سائر الأسماء ، والأمر بدعوة أيٍّ منها ، ربّما يُشعِر بخلوِّه عن معنى العَلَميّة ، وتضمّنه معنى الوصفيّة الموجودة في لفظ ( الإله ) وغيره ، ومثله قوله سبحانه :( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ) .(٢)

فلا يبعد في هاتين الآيتين أن يكون لفظ الجلالة ملحوظاً على وجه الكلّية لا العَلَمية الجزئيّة ، كما هو الظاهر لمَن أمعن فيها

المُقْسَمُ عليه :

إنّ المُقسَم عليه عبارة عن جواب القَسَم ، وهو في تلك الآيات كالتالي :

أ ـ الدعوة إلى تحكيم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتسليم أمام قضائه:( لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ )

ب ـ التأكيد على قدرته سبحانه على أن يأتي بخير منهم :( إنّا لَقادِرُون عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً )

ج ـ التأكيد على حشرِهم وحشرِ الشياطين :( لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطين )

د ـ التأكيد على أنّهم مسؤولون يوم القيامة عن أعمالهم :( لنسئَلنَّهم أَجْمَعين )

هـ ـ التأكيد على إتيان الساعة :( لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالم الغَيب )

و ـ التأكيد على بعثِهم وآبائهم :( لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ )

ز ـ التأكيد على وقوع البعث :( إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ )

ح : التأكيد على أنّ أمر الرزق وما توعدون من الجزاء حقّ :( إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ )

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ١١٠

(٢) الحشر : ٢٤

٤١

الصِلَة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه :

الصِلَة بينهما واضحة ، فإنّ المُقسَم عليه في هذه الآيات كان يدور حول أحد أمرين :

أ ـ الدعوة إلى التحكيم إلى النبي ، والتسليم أمام قضائه

ب : كون البعث والحشر والسؤال عن الأعمال أمراً حقّاً

ومن الواضح أنّ كلا الأمرين من شؤون الربوبيَّة ؛ فإنّ الرَبَّ إذا كان سائساً ومُدبِّراً فهو أعلم بصلاح المُدبّر ، فيجب أن يكون مُسلِّماً لأمرِ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهيِه

كما أنّ حياة المربوب من شؤون الرَبّ ، دون فرق بين آجله وعاجله ، فناسب الحلف بالرَبّ عند الدعوة إلى الحشر والنشر

وبعبارة أُخرى : كان المشركون ينكرون التسليم أمام أمره ونهيه ، كما كانوا ينكرون البَعث والنَشر ، ولمّا كان الجميع من شؤون الربوبيّة حلف بالرَبِّ تأكيداً لربوبيّته

ثُمّ أنّ المُقسَم به ـ فيما مضى من الآيات ـ هو لفظ الجلالة أو لفظ الرَبّ ، المُشيرين إلى الواجب الجامع لجميع صفات الكمال والجمال

وثَمَّة آيات ربّما يُستظهَر منها أنّ المُقسَم به هو سبحانه تبارك وتعالى ، لكن بلفظٍ مُبهَم كـ ( ما ) الموصولة ، وقد جاء في آيات أربع :

١ ـ( وَالسَّماءِ وَما بَناها )

٢ ـ( والأرْضِ وما طَحيها )

٤٢

٣ ـ( وَنَفْسٍ وَما سَوّاها ) .(١)

٤ ـ( وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأُنثى ) .(٢)

وقد اختلفت كلمة المفسّرين في تفسير لفظة ( ما ) ، فالأكثرون على أنّها ( ما ) موصولة ، كناية عن اللّه سبحانه ، وكأنّه سبحانه يقول : ( والسماء والّذي بناها ، والأرض والّذي طحاها ، ونفس والّذي سوّاها ) والواو للقَسَم

وهناك مَن يذهب إلى أنّها ( ما ) مصدريّة ، وكأنّه يقول : ( أُقسِم بالسماء وبنائها ، والأرضِ وطحائها ، والنفس وتسويتِها )

ولكنّ الرأي الأوّل هو الأقرب ؛ لاَنّ سياق الآية يؤيّد ذلك ، لأنّه سبحانه يقول :( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) (٣) ، فالفاعل هو الضمير المُستَتِر الراجع إلى ( ما ) الموصولة الواردة في الآيات الثلاث المتقدّمة ، والّذي يصلح للفاعليّة هو الموصول من ( ما ) ، لا المصدر وسيوافيك تفصيل ذلك عند البحث عن الحلفِ بما ورد في هذه الآيات

ــــــــــــــــ

(١) الشمس : ٥ـ٧

(٢) الليل : ٣

(٣) الشمس : ٨

٤٣

الفصل الثالث : القَسَمُ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

حلف القرآن الكريم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرَّتين ، فتارة بعُمْره وحياته ، وأُخرى بوَصفه وكونه شاهداً ويقع البحث في مقامين :

المقام الأوّل : الحلف بعُمْر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

حلفَ سبحانه بحياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة واحدة ، وقال حينما عرضَ قصّة لوط :( قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) .(١)

تفسير الآيات :

أخبر سبحانه في هذه السورة أنّ الملائكة لمّا خرجوا من عند إبراهيم ، أتوا لوطاً يبشِّرونه بهلاكِ قومه ، ولمّا حلّوا ضيوفاً عند لوط ، فرحَ الفُجّار بورودهم ، فقال لهم لوط مُشيراً إلى بناته : ( إنّ هؤلاء بناتي ) فتزوجوهنّ ( إن كنتم فاعلين ) وكانت لكم رغبة في التزويج ، ولكنّ قوم لوط أعرضوا عمّا اقترح عليهم نبيّهم لوط ، وكانوا مُصرّين على الفجور بهم ، غافلين عن أنّ العذاب سيُصيبهم ، واللّه سبحانه يحلف بحياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقول :( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، فلا يُبصرون طريق الرشد( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ) أي : الصوت الهائل ،( مُشرِقين ) أي : في حال شروق الشمس

ــــــــــــــــ

(١) الحجر : ٧١ـ ٧٣

٤٤

المُقسَم به :

المُقسَم به هو عبارة عن العُمْر ، أعني في قوله : ( لعَمْرك ) يقول الراغب : العَمْر والعُمْر اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة ، فإذا قيل طال عُمْره ، فمعناه عمارة بدنه بروحه ، إلى أن قال : والعَمْر والعُمْر واحد ، لكن خُصَّ القَسَم بالعَمْر دون العُمْر ، كقوله سبحانه :( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ )

وأمّا العُمْر ، فكما في قوله سبحانه : ( فطالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُر ) ، وفي آية أُخرى : ( لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُركَ سِنين )

فاللفظان بمعنى واحد ، لكن يختصّ القَسَم بواحد منهما .(١)

المُقسَم عليه :

هو قوله :( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، والمُراد : أُقسم بحياتك وبقائك يا محمد ، إنّهم لفي سكرتهم وانغمارهم في الفحشاء والمُنكَر متحيِّرين لا يُبصرون طريق الرشد

وأمّا الصِلة بين المُقسَم به والمُقسَم عليه :

قال ابن عبّاس : ما خلق اللّه (عزَّ وجلّ) وما ذرَأ ولا برَأ نفساً أكرم عليه من محمد ، وما سمعتُ اللّه أقسمَ بحياة أحد إلاّ بحياته ، فقال لعَمْرك .(٢)

وجه الصِلة أنّه سبحانه بعث الأنبياء عامّة ، والنبيّ الخاتم خاصّة ؛ لهداية الناس وإنقاذهم من الضلالة ، وإيقاظهم من السكرة الّتي تعمُّ الناس ، وبما أنّ القوم كانوا في سكرتهم يعمهون ، وفي ضلالتهم مستمرّون ، حلف سبحانه تبارك وتعالى بعُمْر النبيّ الّذي هو مصباح الهداية ، والدليل إلى الصراط المستقيم

ــــــــــــــــ

(١) المفردات : ٣٤٧ ، مادّة عَمَرَ

(٢) مجمع البيان : ٣/٣٤٢

٤٥

المقام الثاني : الحلف بوَصف النبي وأنّه شاهد :

حلف القرآن الكريم في سورة البروج بالشاهد والمشهود ، وقال :( وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُروج * وَالْيَومِ المَوعُودِ * وشاهدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصحابُ الأُخدُود ) .(١)

أمّا المشهود ، فسيوافيك في فصل القَسَم في سورة القيامة أنّ المراد منه يوم القيامة ، بشهادة قوله سبحانه :( ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود ) .(٢)

إنّما الكلام في الشاهد ، فالمراد منه هو : النبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بشهادة أنّه سبحانه وصفَه بهذا الوصف ثلاث مرّات ، وقال :

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) .(٣)

( إنّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ ) .(٤)

( إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) .(٥)

ــــــــــــــــ

(١) البروج : ١ـ٤

(٢) هود : ١٠٣

(٣) الأحزاب : ٤٥

(٤) المُزَّمّل : ١٥

(٥) الفتح : ٨

٤٦

والآيات صريحة في حقّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي بعض الآيات عرَّفه بأنّه ( شهيداً ) ، ويقول :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) .(١)

( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) .(٢)

هذه الآيات تُعرب عن أنّ المُقسَم به هو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بما أنّه شاهِد على أعمال أُمّته ، وشهيداً عليها

سُئل الحسن بن عليعليهما‌السلام عن معنى الشاهد والمشهود في قوله سبحانه :( وشاهدٍ وَمَشْهُود ) ، فقال :( أمّا الشاهد فمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أما سمعته يقول : ( إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً ) وقال تعالى : ( ذلِكَ يَومٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاس وَذلِكَ يَومٌ مَشْهُود ) ؟! ) .(٣)

معنى الشهادة وكيفيَّة شهادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أمّا الشهادة ، فقد فسَّرها الراغب وقال : الشهود والشهادة : الحضور مع المشاهدة ، إمّا بالبصر أو بالبصيرة ، وقد يُقال للحضور مُفرداً ، وقد نقل القرآن شهادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قومه يوم القيامة ، فقال :( يا رَبّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآنَ مَهْجُوراً ) .(٤)

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ١٤٣

(٢) النحل : ٨٩

(٣) البحار : ١/١٣

(٤) الفرقان : ٣٠

٤٧

هذه حقيقة قرآنيّة في حقّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره ، ولا يمكن إنكارها ؛ للتصريح بها في غير واحد من الآيات ، قال تعالى :

( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنا بِكَ على هؤُلاءِ شَهيداً ) .(١)

وقال تعالى :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُون ) .(٢)

وقال عزَّ اسمُه :( وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداء ) .(٣)

والشهادة فيها مُطلَقة ، وظاهر الجميع ـ على إطلاقها ـ هو الشهادة على أعمال الأُمَم ، وعلى تبليغ الرُسل كما يومئ إليه ، قوله تعالى :( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرسَلين ) .(٤)

وظَرف الشهادة وإن كان هو الآخرة ، لكنّ الشهداء يتحمّلوها في الدنيا قال سبحانه :( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد ) .(٥)

وعلى ضوء ذلك يُثار هذا السؤال في الذهن ، وهو :

إنّ الشهادة من الحضور ، ولم يكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهراً مع جميع الأُمّة ، بل كان بمَعزلٍ عنهم إلاّ شيئاً لا يُذكَر ، فكيف يشهد وهو لم يحضر الواقعة ، أي أفعال أُمّته قاطبة ؟!

وهناك إشكال آخر أكثر غموضاً ، وهو : أنّ الشهادة على ظاهر الأعمال ليست مفيدة يوم القيامة ، بل الشهادة على باطن الأعمال ، من كون الصلاة للّه أو للرياء وللسمعة ، وأنّ إيمانه هل كان إيماناً نابعاً من صميم ذاته أو نفاقاً لأجل حطام الدنيا ، فهذا النوع من الأعمال لا يمكن الشهادة عليها ، حتى بنفس الحضور عند المشهود عليه

ــــــــــــــــ

(١) النساء : ٤١

(٢) النحل : ٨٤

(٣) الزمر : ٦٩

(٤) الأعراف : ٦

(٥) المائدة : ١١٧ .

٤٨

وهذا يدفعنا إلى القول بأنّ لشهداء الأعمال عامّة ، والنبيّ الخاتم خاصّة ، قدرة غيبيّة خارقة ، يطّلع من خلالها على أعمال العباد ظاهرها وباطنها ، وذلك بقُدرة من اللّه سبحانه

وعلى ذلك ، فهذه الشهادة عبارة عن الاطّلاع على أعمال الناس في الدنيا ، من سعادة أو شقاء ، وانقياد وتمرّد ، وإيمان وكفر ، وأداء ذلك في الآخرة ، يوم يستشهد اللّه من كلّ شيء حتى من أعضاء الإنسان ، وعند ذلك يقوم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول :( يا رَبِّ إِنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرآن مَهْجُوراً )

فإذا كانت الشهادة بهذا المعنى ، فلا ينالها إلاّ الأمثَل فالأمثَل من الأُمّة ، لا الأُمّة بأسرِها

وعلى ضوء ذلك ، يكون المراد من قوله سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً ) (١) هم الكاملين من الأُمّة ، لا المُتوسّطين وما دونهم

وأمّا نسبة الشهادة إلى قاطبة أُمّة النبي في قوله تعالى :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسطاً ) ، فليس بشيء بديع ، إذ ربّما يكون الوصف لبعض الأُمّة ويُنسَب الحكم إلى جميعهم ، كما في قوله سبحانه في حقّ بني إسرائيل :( وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) ، على الرغم من أنّ الملوك فيهم لم يكن يتجاوز عددهم عدَد الأصابع

وثَمّة حديث منقول عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، في تفسير قوله تعالى : ( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيداً ) يؤيِّد هذا المعنى ( الشهادَة للأمْثَل ): ( فإن ظنَنتَ أنّ اللّه عَني بهذه الآية جميع أهل القبلة من المُوحِّدين ، أفترى أنّ مَن لا تجوز شهادته في الدنيا على صاعٍ من تمر يَطلبُ اللّهُ شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأُمَم الماضية ؟!

كلاّ ، لم يعنِ اللّه مثل هذا من خَلْقه

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ١٤٣

٤٩

يعني الأُمّة الّتي وجبت لها دعوة إبراهيم ( كُنْتُم خَير أُمّة أُخرِجَت للناسِ ) ، وهم الأُمّة الوسطى ، وهم خير أُمّة أُخرجت للنّاس ) .(١)

الحلف بالنبيّ كناية :

ربّما يحلف القرآن الكريم بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كناية قال سبحانه :( لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَد * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَد * وَوالدٍ وَما وَلَد * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ في كَبَد ) .(٢)

والحِلُّ بمعنى المُقِيم ، وكأنّه سبحانه يقول : وأنتَ يا محمد مُقيم به ، وهو مَحلّك ، وهذا تنبيه على شَرفِ البلد بشَرفِ مَن حلَّ به ، وهو الرسول الداعي إلى توحيده وإخلاص عبادته ، وبيان أنّ تعظيمه له وقَسَمه به لأجله ، ولكونه حالاًّ فيه ، كما سُمِّيت المدينة ( طيبة ) لأنّها طابت به حيّاً وميتاً(٣)

وكأنّ الآية تُشير إلى المَثلِ المعروف ( شَرفُ المكانِ بالمَكين ) ، وأنّ قداسةَ مكّة ، والداعي إلى الحلف بها ، هو احتضانها للنبي

يقول العلاّمة الطباطبائي : والحِلّ مصدر كالحلول بمعنى الإفاضة والاستقرار في مكان ، والمصدر بمعنى الفاعل ، والمعنى : أُقسِمُ بهذا البلد ، والحال أنّك حالّ به مُقيم فيه ، وفي ذلك تنبيه على تشرّف مكّة بحلوله فيها وكونها مولده ومقامه(٤)

ــــــــــــــــ

(١) الميزان : ١/٣٣٢

(٢) البلد : ١ـ٤

(٣) مجمع البيان : ١٠|٤٩٢

(٤) الميزان : ٢٠/٢٨٩

٥٠

الفصل الرابع : القَسَمُ بالقرآنِ الكَريم

القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الّذي أنزلَه سبحانه على رسوله ليكون للعالمين نذيراً ، وبما أنّ القرآن كتاب هداية للناس ، فقد نال من الكرامة بمكان حلف به سبحانه ، فتارة بلفظ ( القرآن ) وأُخرى بلفظ ( الكتاب )

فقد حلف بالقرآن في ثلاث آيات :

( يس * وَالقُرآنِ الحَكيم * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * على صراطٍ مُسْتَقيم ) .(١)

( ص وَالقُرآنِ ذي الذِّكْر * بَلِ الَّذينَ كَفَرُوا في عِزَّة وَشِقاق * كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلهِِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوا وَلاتَ حينَ مَناص * وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذّاب * أَجَعلَ الآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنّ هذا لشيءٌ عُجاب ) .(٢)

( ق وَالقُرآنِ المَجيد * بَلْ عَجِبُوا أنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الكافِرُونَ هذا شَيءٌ عَجيب ) .(٣)

ــــــــــــــــ

(١) يس : ١ـ٤

(٢) ص : ١ـ٥

(٣) ق : ١ـ٢

٥١

كما حلف سبحانه بلفظ الكتاب مرّتين ، وقال :

( حم * وَالكِتاب الْمُبين * إِنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرينَ * فِيها يُفرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكيم * أَمراً مِنْ عِنْدِنا إِنّا كُنّا مُرسِلين ) .(١)

( حم * وَالْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنّا جَعَلْناهُ قُرآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكيمٌ ) .(٢)

وقبل الخوض في تفسير الآيات نذكر أُموراً :

الأوّل : أنّه سبحانه صدَّر هذه الأقسام بالحروف المُقطَّعة كما هو واضح ، وهذا يؤيّد أنّ كلمة ( يس ) من الحروف المُقطَّعة

والحروف المُقطّعة : عبارة عن الحروف الّتي صُدِّرَ بها قِسم من السور ، يجمعها قولنا : ( صراط علي حق نمسكه )

وعند التحليل يرجع إلى :

ا ، ح ، ر ، س ، ص ، ط ، ع ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، هـ ، ي

والعجب أنّ هذه الحروف هي نصف الحروف الهجائية !

الثاني : ما هو المراد من الحروف المقطعة ؟

افتتح القرآن الكريم قِسماً من السور بحروف مُقطّعة ، أعني السور التالية :

١ ـ البقرة ، ٢ ـ آل عمران ، ٣ ـ الأعراف ، ٤ ـ يونس ، ٥ ـ هود ، ٦ ـ يوسف ، ٧ ـ الرعد ، ٨ ـ إبراهيم ، ٩ ـ الحجر ، ١٠ ـ مريم ، ١١ ـ طه ، ١٢ ـ الشعراء ، ١٣ ـ النمل ، ١٤ ـ القصص ، ١٥ ـ العنكبوت ، ١٦ ـ الروم ، ١٧ ـ لقمان ، ١٨ ـ السجدة ، ١٩ ـ يس ، ٢٠ ـ ص ، ٢١ ـ غافر ، ٢٢ ـ فُصّلت ، ٢٣ ـ الشورى ، ٢٤ ـ الزخرف ، ٢٥ ـ الدخان ، ٢٦ ـ الجاثية ، ٢٧ ـ الأحقاف ، ٢٨ ـ ق ، ٢٩ ـ القلم

فهذه السور الّتي يبلغ عددها ٢٩ سورة ، اُفتتحت بالحروف المُقطّعة

ــــــــــــــــ

(١) الدخان : ١ـ٥

(٢) الزخرف : ١ـ٤

٥٢

وقد تطرَّق المُفسِّرون إلى بيان ما هو المقصود من هذه الحروف ، وذكروا وجوهاً كثيرة ، نقلها فخر الدِّين الرازي في تفسيره الكبير تربو على عشرين وجهاً(١)

وها نحن نقدِّم المختار ثُمَّ نلمِّح إلى بعض الوجوه

إلماع إلى مادَّة القرآن :

إنّ القرآن الكريم تحدّى المشركين بفصاحته وبلاغته ، وعذوبة كلماته ورصانة تعبيره ، وادّعى أنّ هذا الكتاب ليس من صنع البشر ، بل من صنع قدرة إلهيّة فائقة لا تبلغ إليها قدرة أيِّ إنسان ، ولو بلغ في مضمار البلاغة والفصاحة ما بلغَ

ثُمّ أنّه أخذ يورد في أوائل السور قِسْماً من الحروف الهجائيّة ؛ للإلماع إلى أنّ هذا الكتاب مؤلّف من هذه الحروف ، وهذه الحروف هي الّتي تلهجون بها صباحاً ومساءً فلو كنتم تزعمون أنّه من صُنْعي فاصنعوا مثله ؛ لأنّ المواد الّتي تركّب منها القرآن كلّها تحت أيديكم ، واستعينوا بفصحائكم وبُلغائكم ، فإن عجزتم ، فاعلموا أنّه كتاب مُنزَّل من قبل اللّه سبحانه على عبد من عباده ، بشيراً ونذيراً

وهذا الوجه هو المرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وهو خيرة جَمْع من المُحقّقين ، وإليك ما ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المقام :

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢/٥ـ ٨

٥٣

أ ـ روى الصدوق بسنده عن الإمام العسكريعليه‌السلام ، أنّه قال :( كذَّبتْ قريش واليهود بالقرآن ، وقالوا : هذا سِحر مُبين تقوَّله ، فقال اللّه : ( الم * ذلِكَ الكتاب ) أي : يا محمّد ، هذا الكتاب الّذي أنزلته إليك هو الحروف المُقطّعة الّتي منها ( الم ) ، وهو بلُغَتِكم وحروف هجائكم ، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، واستعينوا بذلك بسائر شهدائكم ، ثُمّ بيَّن أنّهم لا يقدرون عليه ، بقوله : ( لَئِن اجْتَمَعتِ الإنْس وَالجِنّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِه وَلَو كانَ بَعضهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيراً ) (١) ) . (٢)

وبه قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني (٢٥٤ـ ٣٢٢هـ) ـ من كبار المُفسّرين ـ حيث قال : إنّ الّذي عندنا أنّه لمّا كانت حروف المُعجَم أصل كلام العرب ، وتحدَّاهم بالقرآن ، وبسورة من مثله ، أراد أنّ هذا القرآن من جنس هذه الحروف المُقطّعة ، تعرفونها وتقتدرون على أمثالها ، فكان عجزكم عن الإتيان بمثل القرآن وسورة من مثله دليلاً على أنّ المنع والتعجيز لكم من اللّه على أمثالها ، وأنّه حُجّة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال : وممّا يدلّ على تأويله ، أنّ كلّ سورة افتُتحَت بالحروف الّتي أنتم تعرفونها بعدها إشارة إلى القرآن ، يعني : أنّه مؤلّف من هذه الحروف ، الّتي أنتم تعرفونها وتقدرون عليها

ثُمّ سأل نفسه وقال : إن قيل : لو كان المراد هذا ، لكان قد اقتصر اللّه تعالى على ذكر الحروف في سورة واحدة ؟!

فقال : عادة العرب التكرار عند إيثار إفهام الّذي يخاطبونه(٣)

واختاره الزمخشري (٤٦٧ـ ٥٣٨هـ) في تفسيره ، وقال : واعلم أنّك إذا تأمَّلت ما أورده اللّه (عزّ سُلطانه) في الفواتح من هذه الأسماء ، وجدتها نصف أسامي حروف المُعجَم : ( ١٤ ) سِواه ، وهي : الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة ، على عدد حروف المعجم !

ثُمّ إذا نظرت في هذه الأربعة عشر ، وجدتها مُشتمِلة على أنصاف أجناس الحروف !

ــــــــــــــــ

(١) الإسراء : ٨٨

(٢) تفسير البرهان : ١/٥٤ ، تفسير الآية الثالثة من سورة البقرة ، رقم : ٩

(٣) تاريخ القرآن للزنجاني : ١٠٦

٥٤

بيان ذلك :

إنّ فيها من المهموسة نصفها : الصاد والكاف والهاء والسين والحاء

ومن المهجورة نصفها : الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون

ومن الشديدة نصفها : الألف والكاف والطاء والقاف

ومن الرخوة نصفها : اللام والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون

ومن المُطبقة نصفها : الصاد والطاء

ومن المنفتحة نصفها : الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون

ومن المُستعلِية نصفها : القاف والصاد والطاء

ومن المُنخفضة نصفها : الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء و الياء والعين والسين والحاء والنون

ومن حروف القَلْقَلة نصفها : القاف والطاء

ثُمّ إذا استقريت الكَلِم وتراكيبها ، رأيت الحروف الّتي ألغى اللّه ذكرها من هذه الأجناس المعدودة ، مكثورة بالمذكورة منها ، فسبحان الّذي دقَّت في كلّ شيء حكمته ، وقد علمت أنّ معظم الشيء وجُلّه ينزل منزلة كلّه ، وهو المُطابق للطائف التنزيل

٥٥

فكأنّ اللّه (عزّ اسمه) عدّد على العرب الألفاظ الّتي منها تراكيب كلامهم ؛ إشارة إلى ما ذكرتُ من التَبْكيتِ لهم ، وإلزام الحُجّة إيّاهم(١)

ومن المُتأخّرين مَن بيَّن هذا الوجه ببيانٍ رائع ، ألا وهو المُحقّق السيّد هبة الدِّين الشهرستاني (١٣٠١ـ ١٣٨٦هـ) ، قال ما هذا نصّه :

إنّ القرآن مجموعة جُمَل ليست سوى صبابة أحرف عربيّة ، من جنس كلمات العرب ، ومن يسير أعمال البشر ، وقد فاقت مع ذلك عبقريّةً ،

وكلّما كان العمل البشري أيسر صدوراً وأكثر وجوداً ، قلّ النبوغ فيه ، وصعب افتراض الإعجاز والإعجاب منه ، فإذا الجُمَل القرآنيّة ليست سوى الحروف المتداولة بين البشر ! فهي عبارة عن ( الم ) و ( حمعسق ) ، فلماذا صار تأليف جملة أو جُمَل منه مستحيل الصدور؟!

هذا ونجد القرآن يُكرِّر تحدّي العرب وغير العرب بإتيان شيء من مقولة هذا السهل المُمتنِع ، كالطاهي يُفاخر المُتطاهي بأنّه يصنع الحلوى اللذيذة من أشياء مبذولة لدى الجميع ، كالسمنِ واللوز ودقيق الرز ، بينما المُتطاهي لا يتمكَّن من ذلك مع استحضاره الأدوات ، وكذلك الكيمياوي الماهر ، يستحضر المطلوب المُستجمع لصِفات الكمال ، وغيره يعجز عنه مع حضور جميع الأدوات والأجزاء

وكذلك القرآن ، يقرع ويسمع قومه بأنّ أجزاء هذا المُستحضَر القرآني موفورة لديكم ، من ( ح ) و ( م ) و ( ل ) و ( ر ) و ( ط ) و ( هـ ) ، وأنتم مع ذلك عاجزون(٢)

ــــــــــــــــ

(١) الكشّاف : ١/١٧ ، ط دار المعرفة

(٢) المعجزة الخالدة : ١١٥ـ ١١٦

٥٦

ويُؤيّد هذا الرأي أنّ أكثر السور الّتي صدرت بالحروف المُقطَّعة جاء بعدها ذكر القرآن الكريم بتعابير مختلفة ، ولم يشذَّ عنها إلاّ سور أربع ، هي : مريم والعنكبوت ، والروم ، والقلم ففي غير هذه السور أردف الحروف المقطعة بذكر الكتاب والقرآن ، وإليك نماذج من الآيات :

( الم * ذلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ هُدىً لِلْمُتَّقين ) (١)

( الم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالْحَقّ مُصدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوراةَ والإنجِيل ) (٢)

( المص * كِتابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ في صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ) (٣)

( الر تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكيم ) (٤)

إلى غير ذلك من السور ، ما عدا الأربع الّتي أشرنا إليها

ثمّ إنّ هذا الوجه هو الوجه العاشر في كلام الرازي ، ونسبَه إلى المبرّد وإلى جمعٍ عظيم من المُحقّقين ، وقال :

إنّ اللّه إنّما ذكرها احتجاجاً على الكُفّار ، وذلك أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا تحدّاهم أن يأتوا بمِثلِ القرآن ، أو بعشر سورٍ أو بسورة واحدة ، فعجزوا عنه ، أُنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أنّ القرآن ليس إلاّ من هذه الحروف ، وأنتم قادرون عليها ، وعارفون بقوانين الفصاحة ، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن ، فلمّا عجزتم عنه ؛ دلّ ذلك على أنّه من عند اللّه ، لا من عند البشر(٥)

هذا هو الرأي المختار ، وقد عرفت برهانه

وثَمّة رأي آخر أقل صحَّة من الأوّل ، وحاصله : أنّ كلّ واحد منها دالٌّ على اسم من أسماء اللّه تعالى ، وصفة من صفاته

ــــــــــــــــ

(١) البقرة : ١ـ٢

(٢) آل عمران : ١ـ٣

(٣) الأعراف : ١ـ٢

(٤) يونس : ١

(٥) تفسير الفخر الرازي : ٢/٦

٥٧

قال ابن عبّاس في( الم ) : الألف إشارة إلى أنّه تعالى أَحَدُ ، أوّل ، آخر ، أزليّ ، أبدي ، واللام إشارة إلى أنّه لطيف ، والميم إشارة إلى أنّه مَلك ، مجيد ، مَنّان

وقال في( كهيعص ) : إنّه ثناء من اللّه تعالى على نفسه ، والكاف يدلّ على كونه كافياً ، والهاء يدلّ على كونه هادياً ، والعين يدلّ على العالم ، والصاد يدلّ على الصادق

وذكر ابن جرير عن ابن عبّاس أنّه حمل الكاف على الكبير والكريم ، والياء على أنّه يُجير ، والعين على العزيز والعدل(١)

ونقل الزنجاني في تأييد ذلك الوجه ما يلي :

وفي الحديث :( شعارُكم حم لا يُنصَرُون ) ، قال الأزهري : سُئل أبو العبّاس ، عن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( حم لا ينصرون ) ، فقال : معناه واللّه لا ينصرون

وفي لسان العرب ، في حديث الجهاد :( إذا بُيّتم فقولوا حاميم لا يُنصَرُون ) ، قال ابن الأثير : معناه اللّهمّ لا ينصرون(٢)

إذا عرفت هذه الأمور ، فلنرجع إلى تفسير الآيات الّتي حلف فيها سبحانه بالقرآن والكتاب ، وإليك البيان :

١ ـ( يس * والْقُرآن الحَكيم * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين ) ، فالمُقسَم به هو القرآن ، والمُقسَم عليه قوله :( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرسَلين ) ، والصِلة بين القرآن وبين كونه من المُرسَلين واضحة ، لاَنّ القرآن أداةُ تبليغهِ ورسالته ومعجزته الخالدة

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الفخر الرازي : ٢/٦

(٢) تاريخ القرآن : ١٠٥

٥٨

وأمّا وصف القرآن بالحكيم ، فلأنّه مُستقرٌ فيه الحكمة ، وهي : حقائق المعارف وما يتفرَّع عليها من الشرائع والعِبر و المواعظ(١)

٢ ـ( ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ )

وُصف القرآن بكونه ( ذي الذكر ) ، كما وصفه في الآية السابقة بكونه ( حكيماً ) ، ووصفه تارة ثالثة بـ ( المجيد ) ، والمُراد بالذِكر هو : ذكر ما جُبِلَ عليه الإنسان من التوحيد والمعاد

قال الطبرسي : فيه ذكر اللّه وتوحيده وأسماؤه الحسنى وصفاته العلى ، وذكر الأنبياء ، وأخبار الأُمَم ، وذكر البَعْث والنُشور ، وذكر الأحكام وما يحتاج إليه المُكلّف من الأحكام ، ويُؤيّده قوله :( ما فَرَّطنا في الكتاب من شيء ) (٢)

قال الطباطبائى في تفسيره : المراد بالذِكر : ذكر اللّه تعالى وتوحيده ، وما يتفرّع عليه من المعارف الحقّة ، من المعاد والنبوّة وغيرهما

ويؤيِّد ذلك إضافة الذكر في غير واحد من الآيات إلى لفظ الجلالة ، قال سبحانه :( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ) (٣) ، وقال :( استَحْوَذَ عَلَيهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكرَ اللّه ) (٤) إلى غير ذلك

وأمّا المُقسَم عليه : فمَحذوف ، معلوم من القرينة ، هو ( أنّك لمِن المُنذرين ) ، ويدلّ على ذلك : التنديد بالّذين كفروا وأنّهم في عزّة وشقاق ، أي : في تكبُّر عن قبول الحقّ وحميّة جاهليّة ، وشقاق أي : عداوة وعصيان ومخالَفة ، لأنّهم يأنفون عن متابعة النبي ، ويُصرّون على مخالفته ثُمّ خوّفهم اللّه سبحانه فقال : كمْ أهلكنا من قبلهم من قرنٍ بتكذيبهم الرُسل ، فنادوا عند وقوع الهلاك بهم بالاستغاثة ، ولاتَ حين مناص

ــــــــــــــــ

(١) تفسير الميزان : ١٧/٦٢

(٢) مجمع البيان : ٨/٤٦٥

(٣) الحديد : ١٦

(٤) المجادلة : ١٩

٥٩

والصِلة بين المُقسَم به( القُرآن ذي الذِّكر ) ، والمُقسَم عليه المُقدّر( إِنَّكَ لَمِنَ الْمُنْذَرين ) واضحة ؛ لاَنّ القرآن من أسباب إنذاره وأدوات تحذيره

٣ ـ( ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ) (١)

المُقسَم به هو القرآن ، ووَصَفه بالمجيد

قال الراغب : المَجْدُ : السِعة في المقام والجلال ، وقد وُصف به القرآن الكريم ، فلأجل كثرة ما يتضمّن من المكارم الدنيويّة والأُخرويّة ، فالمجيد مبالَغة في المَجد

وقال الطبرسي : المجيد أي الكريم على اللّه ، العظيم في نفسه ، الكثير الخير والنفع(٢)

والمُقسَم عليه محذوف ، تدلّ عليه الجُمل التالية ، والتقدير : والقرآن المجيد انّك لمِن المنذرين ، أو أنّ البعث حقّ والإنذار حقّ

وقد ركَّزت السورة على الدعوة إلى المعاد ، ووبّخت المشركين باستعجالهم على إنكاره ، ونقد زَعمهم

والصِلة بين المُقسَم به وجواب القَسَمِ واضحة ، سواء أقلنا بأنّ المُقسَم عليه ( إِنّك مِنَ المنذرين ) أم أنّ البعث والنشر حقّ ، أمّا على الأوّل ؛ فلأنّ القرآن أحد أدوات الإنذار ، وأمّا على الثاني فلاَنَّ القرآن يتضمّن شيئاً كثيراً عن الدعوة إلى المعاد

ــــــــــــــــ

(١) ق : ١ـ٢

(٢) مجمع البيان : ٩|١٤١ .

٦٠

قـل لابـن عباس سمي محمد

لا تـعطين بـني عدي درهما

احـرم بـني تيم بن مرة أنهم

شـر الـبرية آخـراً، ومقدما

إن تـعطهم لا يشكروا لك نعمة

ويـكافؤوك بـأن تـذم وتشتما

وإن ائـتـمنتهم أو اسـتعملتهم

خانوك، واتخذوا خراجك مغنما

ولـئن مـنعتهم لـقد بـدؤوكم

بـالمنع، إذ ملكوا وكانوا أظلما

مـنعوا تـراث مـحمد أعمامه

وابـنيه، وابـنته عديلة مريما

وتـأمروا من غير أن يستخلفوا

وكـفى بـما فعلوا هنالك مأثما

لـم يـشكروا لـمحمد إنـعامه

أفـيشكرون لـغيره إن أنـعما

والله مــن عـلـيهم بـمحمد

وهداهم، وكسا الجنوب، وأطعما

ثـم انـبروا لـوصيه وولـيه

بـالمنكرات، فـجرعوه العلقما

قال: فرمى بها إلى عبد الله معاوية بن يسار، الكاتب للمهدي، ثم قال: إقطع العطاء، فقطعه. وانصرف الناس. ودخل السيد إليه، فلما رآه ضحك، وقال: قد قبلنا نصيحتك يا إسماعيل. ولم يعطهم شيئاً..)(١) .

ونرى السيد الحميري في مناسبة أخرى ينشد المنصور أبياتاً يهجو بها سوارا القاضي، من جملتها:

إن سـوار بن عبد

الله من شر القضاء

نـعثلي، جـملي

لكم غير مواتي(٢)

____________

(١) الأغاني ج ٧ ص ١٦، طبع دار الفكر، والغدير ج ٢ ص ٢٥٤، ٢٥٥، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٧، ومستدرك أخبار السيد الحميري للمرزباني ص ٥٨، باختصار وديوان السيد الحميري ص ٣٧٧، ٣٧٨، نقلاً عن الأولين، وعن: أعيان الشيعة ج ١٢ ص ١٧٨، وتاريخ الإسلام ج ٢ ص ١٤٧، وتاريخ آداب اللغة العربية ج ٢ ص ٦٧، ٦٨.

(٢) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٣٤، والأغاني ج ٧ ص ٢٦١، والغدير ج ٢ ص ٢٥٦.

٦١

ويقول القاسم بن يوسف:

هـاشم فـخر قـصي كلها

أيـن تـيم وعدي والفخار

لـهم أيـد طوال في العلى

ولـمن سـاماهم أيد قصار

لـهم الـوحي وفـيهم بعده

آمـر الحق وفي الحق منار

وهــم أولـى بـأرحامهم

في كتاب الله إن كان اعتبار

مـا بـعيد كـقريب سـبباً

لا ولا يعدل بالطرف الحمار

إلى أن قال:

خـسر الآخـذ مـا ليس له

عمد عين والشريك المستشار

ولـفـيف ألـفـوا بـينهم

بـيعة فيها اختلاط وانتشار

ورسـوله الله لـم يدفن فما

شـغل القوم اغتمام وانتظار

كان منهم قبل آل المصطفى

أن يلوا الأمر حذار ونفار(١)

إلى آخر الأبيات.

والقاسم بن يوسف معاصر لكل من الرشيد والمأمون، وتوفي سنة ٢١٣ ه‍.

وكل ما ذكرناه يدل على إنكار العباسيين لشرعية خلافة أبي بكر وعمر. ومثل ذلك كثير لا مجال لنا هنا لاستقصائه، وحسبنا هنا أقوال المؤرخين، فإنها القول الفصل، والحكم العدل.

هذا ما كان في بداية الأمر. أي أنهم كانوا يصلون حبل وصايتهم بعليعليه‌السلام ، وينكرون شرعية خلافة الثلاثة، ثم عدلوا عن ذلك بعد فترة. وذلك لما يتضمنه من الاعتراف بأن الوصاية كانت في ولد عليعليه‌السلام .

____________

(١) الأوراق للصولي ص ١٨٠، وأخبار شعراء الشيعة للمرزباني ص ١٠٨ ـ ١٠٩.

٦٢

فأسس المهدي فرقة(١) تدعي: أن الإمام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو العباس بن عبد المطلب، ثم ابنه عبد الله، ثم ابنه علي، ثم ابنه محمد. وهكذا إلى أن ينتهي الأمر إليهم. هذا. مع الاستمرار على البراءة من أبي بكر، وعمر، وعثمان. ولكنهم أجازوا بيعة علي ابن أبي طالب، لأن العباس نفسه كان قد أجازها(٢) . وتسمى هذه الفرقة ب‍: (الراوندية والشيعة العباسية).

ولكننا لا نجد لهذه الفرقة أثراً في عصر المأمون، لأن سياسة الخليفة قد اقتضت تجميد هذه المقالة، ولو لفترة من الزمان كما سنوضحه وعلى كل حال فيقول منصور النمري يمدح الرشيد:

لـولا عدي وتيم لم تكن وصلت

إلـى أمـية تـمريها وترتضع

إن الـخلافة كانت إرث والدكم

من دون تيم، وعفو الله متسع(٣)

____________

(١) هذا. ولكن الذي يبدو هو أن صاحب الفكرة الحقيقي هو المنصور. كما يظهر من رسالته لمحمد بن عبد الله بن الحسن، ومن كثير من كلماته، وخطبه. والمهدي كان هو المنفذ لها، والمخرج من عالم القوة إلى عالم الفعل.. بل لقد سار المنصور في إشاعة هذه الفكرة، وتركيزها شوطا بعيداً، حتى لقد تقرب إليه بها الشعراء، فهذا السيد الحميري يقول ـ على ما يرويه لنا المرزباني في أخباره ص ٣٧ ويروي أيضاً مكافأة المنصور المهمة له على ذلك ـ يقول السيد:

يا رهط أحمد إن من أعطاكم

مـلك الورى وعطاؤه أقسام

رد الـخلافة والوراثة فيكم

وبـنو أمية صاغرون رغام

لـمتمم لـكم الـذي أعطاكم

ولـكم لـديه زيـادة وتمام

أنـتم بـنو عم النبي عليكم

من ذي الجلال تحية وسلام

وورثـتموه وكـنتم أولى به

إن الـولاء تحوزه الأرحام

إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه.

(٢) فرق الشيعة للنوبختي ص ٤٨، ٤٩، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ١٧٣، ومروج الذهب للمسعودي ج ٣ ص ٢٣٦، إلا أن النوبختي ذكر أنهم لم يجيزوا حتى بيعة علي أيضاً.

(٣) طبقات الشعراء لابن المعتز ص ٢٤٤، والشعر والشعراء ص ٥٤٦.

٦٣

تشجيع الخلفاء لهذا الاتجاه:

وقد شجع الخلفاء هذه النحلة، أو فقل هذا الاتجاه، واستمروا يناصرونه إلى زمن هارون.

وقد حصل مروان ابن أبي حفصة من الخليفة العباسي (المهدي) على أعظم جائزة تعطى لشاعر في تلك الفترة، على قوله مخاطبا آل علي:

هل تطمسون من السماء نجومها

بـأكفكم أو تـسترون هـلالها

أو تـدفعون مـقالة عـن ربكم

جـبريل بـلغها الـنبي فقالها

نـزلت مـن الأنـفال آخر آية

بـتـراثهم، فـأردتم إبـطالها

يشير إلى آية: (أولوا الأرحام..).

فزحف المهدي من صدر مصلاه إعجاباً، وأعطاه مئة ألف درهم، لكل بيت ألف درهم. وكانت هذه أول مئة ألف تعطى لشاعر في دولة بني العباس(١) .

وأعطاه هارون بدوره على هذه الأبيات، بعد أن أصبح خليفة مئة ألف أيضاً.

كما أن المهدي قد أعطى مروان هذا على قوله:

أنى يكون وليس ذاك بكائن

لبني البنات وراثة الأعمام

أعطاه ثلاثين ألفاً من صلب ماله، وكساه جبة، ومطرفاً، وفرض على أهله ومواليه ثلاثين ألفاً أيضاً(٢) .

____________

(١) تاريخ بغداد ج ١٣ ص ١٤٤، ١٤٥، ومرآة الجنان ج ١ ص ٣٢١.

(٢) ولكن في العقد الفريد ج ١ ص ٣١٢، الطبعة الثالثة، والمحاسن والمساوي ص ٢١٩: أنه أخذ منه ثلاثين، ومن أهل بيته سبعين. ولعل هذا هو الأقرب إلى الواقع، فقد ذكر في المحاسن والمساوي ص ٢٢٠: أن مروان هذا قال في هذه المناسبة: بسبعين ألفاً راشي من حبائه وما نالها في الناس من شاعر قبلي بل هذا البيت يدل على أن السبعين كانت منه، لا من أهل بيته..

وفي طبقات الشعراء ص ٥١ اكتفى بالقول: أنه أخذ بهذا البيت مالاً عظيماً..

٦٤

وينسب هذا الشعر لبشار بن برد كذلك.

وبعد ذلك يقف مروان بن أبي الجنوب (ويقال: بل مروان بن أبي حفصة، وقد أنشدها المتوكل، على ما في الغدير ج ٤ ص ١٧٥)، وينشد الخليفة قصيدته التي مطلعها:

لـكم تـراث مـحمد

وبعدلكم تشفى الظلامة

إلى أن يقول:

مـا للذين تنحلوا

ميراثكم إلا الندامة

فيخلع عليه أربع خلع، وينثر ثلاثة آلاف دينار، يأمره بالتقاطها، ويعطيه عشرة آلاف درهم،. ثم يعقد له ـ مع ذلك كله ـ ولاية على البحرين واليمامة(١) .

بل لقد تمادى هارون، وأراد أن يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث أراد أن ينكر حتى شرعية خلافة الإمام عليعليه‌السلام ، فأحضر (أبا معاوية الضرير) وهو أحد محدثي المرجئة(٢) ، وقال له: (هممت أنه من يثبت خلافة علي فعلت به وفعلت..). فنهاه أبو معاوية عن ذلك، واستدل له بما أعجبه، فارتدع، وانصرف عما كان عزم عليه (٣) .

____________

(١) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٧ ص ٣٨، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الثاني، جزء ٣، ص ٢٢٨.

(٢) المرجئة الأولى كانوا لا يتولون عثماناً ولا علياً، ولا يتبرأون منهما.

(٣) راجع تفصيل ذلك في تاريخ بغداد ج ٥ ص ٢٤٤، ونكت الهميان في نكت العميان ص ٢٤٧.

٦٥

بل إن بعض النصوص التاريخية تفيد أن المهدي أيضاً كان لا يريد أن يجيز بيعة عليعليه‌السلام (١) .

الإمام علي في ميزان الاعتبار:

وإذا ما عرفنا أن إظهار المأمون حبه لعلي بن أبي طالب، وولده، ليس إلا لظروف سياسية معينة كما سيأتي توضيحه. فإننا سوف نرى أنفسنا مقتنعين بأن تأرجح الإمام عليعليه‌السلام في ميزان الاعتبار في تلك الفترة والتي بعدها عند العباسيين، لم يكن إلا أمراً ظاهريا أملته الظروف السياسية، والاجتهادات المختلفة في أساليب مواجهة العلويين.

ولهذا نرى ارتباكهم في ذلك ظاهراً للعيان من وقت لآخر، ومن فترة لأخرى. وهكذا. نجد أن الإمام علياً لم يكن معتبراً عند المأمون، وغير معتبر عند المنصور والرشيد، بل هو غير معتبر عندهم جميعاً.. ولسنا هنا في صدد تحقيق هذا الأمر، ولكن قد تكفي الإشارة في كثير من الأحيان.

____________

(١) فقد ذكر ابن الأثير في الكامل ج ٥ ص ٧٢، والطبري في تاريخه حوادث سنة ١٦٩ ه‍.: أن المهدي عندما رأى في وصية القاسم بن مجاشع التميمي المروزي عبارة: (.. ويشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله، ووارث الإمامة من بعده. الخ).. رماها من يده، ولم ينظر في باقيها..

كما أنه عندما ذهب لعيادة أبي عون، الذي كان من كبار رجال الدعوة، والذي أرسله أبو مسلم في ثلاثين ألفاً في طلب مروان بن محمد، وكان هو الذي أنهى أمره في مصر على ما في الإمامة والسياسة ج ٢ ص ١١٦، ١١٩، ١٢٠. ـ عندما ذهب المهدي لعيادته ـ، وطلب منه أبو عون أن يرضى عن ولده، الذي كان يرى رأي الشيعة في الخلافة، أجاب: أنه على غير الطريق، وعلى خلاف رأينا. فقال له أبو عون: هو والله يا أمير المؤمنين، على الأمر الذي خرجنا عليه، ودعونا إليه، فإن كان قد بدا لكم، فمرونا، حتى نطيعكم.. راجع الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الأول، جزء ٢ ص ٥٦٩، وقاموس الرجال ج ٥ ص ٣٧٣، والطبري، وغير ذلك.

٦٦

استغلال لقب المهدي:

هذا.. ونلاحظ: أن المنصور أيضاً قد حاول أن يقارع العلويين بالحجة، ولكن بنحو آخر، وأسلوب آخر..

فإنه عندما رأى أن الناس قد قبلوا على نطاق واسع (ما عدا الإمام الصادقعليه‌السلام ) بأن محمد بن عبد الله العلوي هو المهدي.. حاول أن يموه هو بدوره على الناس، فلقب ولده، والخليفة بعده ب‍ـ (المهدي) من أجل أن يصرف الناس عن محمد بن عبد الله هذا..

فقد أرسل مولى له إلى مجلس محمد بن عبد الله، وقال له: (اجلس عند المنبر، فاسمع ما يقول محمد) قال: فسمعته يقول:

إنكم لا تشكون أني أنا المهدي، وأنا هو (فأخبرت بذلك أبا جعفر، فقال): كذب عدو الله، بل هو ابني)(١) .

ثم. ومن أجل إقناع الناس بهذا الأمر، وجد المنصور من يضع له الأحاديث، ويكذب على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطبق واضعوها (مهدي الأمة) على ولده الخليفة (المهدي)(٢) . ويقول القاضي النعمان الإسماعيلي في أرجوزته:

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٢٤٠، والمهدية في الإسلام ص ١١٧.

(٢) تجد بعض هذه الأحاديث في: الصواعق المحرقة ٩٨، ٩٩، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٥٩، ٢٦٠، ٢٧٢، والبداية والنهاية ج ٦ ص ٢٤٦، ٢٤٧، وغير ذلك.

٦٧

مــن انـتظاره وقـد تـسمى

بـهـذه الأسـماء نـاس لـما

تـغـلبوا لـيـجعلوها حـجـة

فـعدلوا عـن واضـح المحجة

إذ مـثـلوا الـجوهر بـالأشباه

مـنـهم مـحمد بـن عـبد الله

ابـن عـلي مـن بـني العباس

ذوي التعدي الزمرة الأرجاس(١)

وقد أقر أحمد أمين المصري بكذب هذه الأحاديث، ووضعها(٢) ، كما أقر غيره بذلك..

بل إن المنصور نفسه ـ الذي كان قد اعترف بمهدوية محمد بن عبد الله العلوي، وتبجح، وافتخر بها(٣) ـ قد كذب نفسه في ذلك، وكذبها في مهدوية ولده أيضاً.

يقول مسلم بن قتيبة: (أرسل إلي أبو جعفر، فدخلت عليه، فقال: قد خرج محمد بن عبد الله، وتسمى بالمهدي، ووالله، ما هو به، وأخرى أقولها لك. لم أقلها لأحد قبلك، ولا أقولها لأحد بعدك.. وابني والله، ما هو بالمهدي، الذي جاءت به الرواية، ولكنني تيمنت به، وتفاءلت به..)(٤) والخليفة المهدي نفسه يقر بأن أباه فقط يروي أنه المهدي الذي بعده في الناس (٥) .

وأما اتخاذهم الزندقة ذريعة للقضاء على خصومهم، سواء من العلويين، أو من غيرهم.. فسيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

____________

(١) الأرجوزة المختارة ص ٣١.

(٢) ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٤٠.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٢٣٩، ٢٤٠، والمهدية في الإسلام ص ١١٦، وجعفر بن محمد لعبد العزيز سيد الأهل ص ١١٦، (٤) مقاتل الطالبيين ص ٢٤٧، والمهدية في الإسلام ص ١١٧.

(٥) الوزراء والكتاب ص ١٢٧.

٦٨

وكل ذلك لم يكفهم:

ولكن العباسيين قد وجدوا أن ذلك كله لم يكن ينطلي على أحد، وأن الأمور ـ مع ذلك ـ تسير في غير صالحهم، ولهذا فإن من الأفضل والأجدى لهم أن لا يفسحوا المجال للعلويين للمنطق والحجاج، فإن ذلك من شأنه أن يظهر كل ما كان يتمتع به العلويون من خصائص ومميزات عليهم. هذا إن لم ينته الأمر بفضيحة ساحقة للعباسيين، وكشف حقيقتهم وواقعهم أمام الملأ، الأمر الذي كان يزعجهم، ويقض مضاجعهم إلى حد كبير..

وإذن.. فإن من الحكمة أن يتبعوا أساليب أخرى من أجل القضاء على العلويين..

ولم تكفهم مراقبتهم لهم، حتى لم يكونوا يغفلون عنهم طرفة عين أبداً، من أجل التعرف على أحوالهم، وإحصاء كل حركاتهم، ابتداء من السفاح، ثم اتبعه الخلفاء على ذلك من بعده.

كما لم يكفهم.. التهديد والوعيد الذي كانوا يواجهونهم به، بهدف إضعاف شخصياتهم، وتحطيم معنوياتهم..

كما لم يكفهم مصادرة أموالهم، وهدم بيوتهم، ومنعهم من السعي من أجل الحصول على لقمة العيش، حتى لقد بلغ البؤس بهم أن: العلويات كن يتداولن الثوب الواحد من أجل الصلاة(١) .

وكذلك لم يكفهم. عزلهم عن الناس، ومنع كل أحد من الوصول إليهم، تمهيداً لتشويه سمعتهم بما أمكنهم من أساليب الكذب والافتراء، وإن كانت سيرتهم الحميدة، وخصوصاً أهل البيت منهم، كانت تدفع كل شائعة، وسلوكهم المثالي يدحض كل افتراء.

____________

(١) كان ذلك في زمن المتوكل، راجع: بند تاريخ ج ١ ص ٧٢، ومقاتل الطالبيين ص ٥٩٩.

٦٩

وأما الاضطهاد والتشريد، وزج العشرات والمئات منهم في السجون الرهيبة، التي كان من يدخل إليها لا يأمل بالخروج منها، حيث إن دخول السجن إنما كان يعني في الحقيقة دخول القبر.. وأما دسهم السم لكل شخصية لا يستطيعون الاعتداء عليها جهاراً ـ أما ذلك ـ فلم يكن ليكفيهم أيضاً، ولا ليقنعهم قطعا. حيث إنهم إنما كانوا متعطشين إلى الولوغ في دمائهم، ومشتاقين إلى التفنن في تعذيبهم، واختراع أساليب جديدة في ذلك، فسمروا بالحيطان من سمروا، وأماتوا جوعاً من أماتوا، ووضعوا في الأسطوانات منهم من وضعوا. إلى غير ذلك مما يظهر لكل من له أدنى اطلاع على تاريخهم، وتاريخ سلوكهم مع أبناء عمهم العلويين..

وأما قتلهم لهم جماعات، فأشهر من أن يحتاج إلى بيان.. وقضية المنصور مع بني حسن لا يكاد يخلو منها كتاب تاريخي. وكذلك قضية الستين علوياً، الذين قتلوا بأمر من الخليفة (المنصور) باستثناء غلام منهم، لا نبات بعارضيه(١) .

____________

(١) هذا ما نقله في شرح شافية أبي فراس ص ١٧٤ عن الدر النظيم، عن أحمد بن حنبل، الذي رأى رجلاً متعلقا بأستار الكعبة، يضرع إلى الله بالمغفرة، وأقر له بأنه بنى على هؤلاء ما عدا الغلام المذكور بأمر من المنصور.. وفي عيون أخبار الرضا ج ١ ص ١٠٨، فما بعدها، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٧٦، ١٧٧، والبحار ج ٤٨ ص ١٧٦ فما بعدها. قصة شبيهة بهذه ينقلها عن حميد بن قحطبة الذي كان يفطر في شهر رمضان، ليأسه من مغفرة الله، لأنه قتل ستين علوياً في ليلة واحدة بأمر من الرشيد.. ولكن الظاهر أن ذكر الرشيد اشتباه من الراوي، ولعله عمدي، لأن حميدا قد مات سنة ١٥٨، على ما صرح به في البحار ج ٤٨ ص ٣٢٢، وخلافة هارون الرشيد إنما بدأت سنة ١٧٠، ولعل القصة الحقيقية هي ما عن أحمد بن حنبل، وإنما حرفها المحرفون لحاجة في نفس يعقوب، لا تخفى على المتتبع الخبير، والناقد البصير.

٧٠

موقف كل خليفة منهم على حدة:

وإننا من أجل أن نلم بموقف كل خليفة منهم على حدة من أبناء عمهم العلويين، نقول:

أما السفاح:

فقد قال عنه أحمد أمين: (.. وكانت حياته حياة سفك للدماء، وقضاء على المعارضين..)(١) .

وقال عنه الجنرال جلوب: (.. وكان السفاح والمنصور قد نُشِئا نشأة المتآمرين، ولذا وطدا ملكهما ـ بعد نجاح الثورة ـ بكثير من سفك الدماء، ولا سيما من دماء أولاد أعمامهم، من بني أمية، وبني علي بن أبي طالب..)(٢) .

ويقول الخوارزمي عن السفاح: (.. وسلط عليهم -يعني على العلويين- أبا مجرم، لا أبا مسلم، يقتلهم تحت كل حجر ومدر، ويطلبهم في كل سهل، وجبل..)(٣) .

ومن ذلك يعلم أن إظهاره اللين اتجاههم أمام الناس ما كان إلا من أجل تثبيت دعائم حكمه، وتحكيم قواعد سلطانه، لكنه لم يغفل لحظة واحدة عن مراقبتهم، والتجسس على أحوالهم، بل وقتلهم، إذا ما سنحت الفرصة له لذلك، كما قدمنا.

____________

(١) ضحى الإسلام ج ١ ص ١٠٥.

(٢) إمبراطورية العرب ص ٤٩٩.

(٣) رسائل الخوارزمي ص ١٣٠، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٦، ٢٩٧، وسيأتي شطر من هذه الرسالة. راجع ما علقناه على هذه الفقرة في فصل: قيام الدولة العباسية.

٧١

وأما المنصور:

الذي لم يتورع عن قتل ابن أخيه السفاح(١) ، وعمه عبد الله بن علي. وأبي مسلم. مؤسس دولته. والذي سافر سنة ١٤٨ ه‍. إلى الحج، وعزم على القبض على الإمام الصادقعليه‌السلام ، إن كان لم يتم له ذلك(٢) .

والذي سمى نفسه المنصور بعد انتصاره على العلويين(٣) .

أما المنصور هذا. فهو أول من أوقع الفتنة بين العباسيين والعلويين(٤) . وقد اعترف عندما عزم على قتل الإمام الصادق عليه‌السلام ، بعدد ضخم من ضحاياه من العلويين، حيث قال: (.. قتلت من ذرية فاطمة ألفاً، أو يزيدون، وتركت سيدهم، ومولاهم، وإمامهم، جعفر بن محمد) (٥) .

ولقد كان هذا القول منه في حياة الإمام الصادقعليه‌السلام ، أي في صدر خلافة المنصور. فكيف بمن قتلهم بعد ذلك!!

وقد ترك خزانة رؤوس ميراثاً لولده المهدي، كلها من العلويين، وقد علق بكل رأس ورقة كتب فيها ما يستدل به على صاحبه، ومن بينها رؤوس شيوخ، وشبان، وأطفال(٦) .

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي المجلد الثاني جزء ٤ ص ٤٩٤، نقلاً عن: نفح الطيب ج ٢ ص ٧١٥.

(٢) النجوم الزاهرة ج ٢ ص ٦.

(٣) التنبيه والإشراف ص ٢٩٥، وطبيعة الدعوة العباسية ص ١١٩.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٦١، ومروج الذهب ج ٤ ص ٢٢٢. وشرح ميمية أبي فراس ص ١١٧، ومشاكلة الناس لزمانهم لليعقوبي ص ٢٢، ٢٣.

(٥) شرح ميمية أبي فراس ص ١٥٩، والأدب في ظل التشيع ص ٦٨.

(٦) تاريخ الطبري ج ١٠ ص ٤٤٦، والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥٢، وغير ذلك.

٧٢

وهو الذي يقول لعمه عبد الصمد بن علي، عندما لامه على أنه يعاجل بالعقوبة، حتى كأنه لم يسمع بالعفو ـ يقول له ـ: (إن بني مروان لم تبل رممهم، وآل أبي طالب لم تغمد سيوفهم ـ ونحن بين قوم رأونا بالأمس سوقة، واليوم خلفاء، فليس تتمهد هيبتنا إلا بنسيان العفو، واستعمال العقوبة..)(١) .

وهو الذي يقول للإمام الصادقعليه‌السلام : (لأقتلنك، ولأقتلن أهلك، حتى لا أبقي على الأرض منكم قامة سوط..)(٢) .

وعندما قال المنصور للمسيب بن زهرة: إنه رأى أن الحجاج أنصح لبني مروان. أجابه المسيب: (يا أمير المؤمنين، ما سبقنا الحجاج إلى أمر، فتخلفنا عنه، والله، ما خلق الله على جديد الأرض خلقاً أعز علينا من نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أمرتنا بقتل أولاده، فأطعناك، وفعلنا، فهل نصحناك؟!)(٣) .

وهو أول من سن هدم قبر الحسينعليه‌السلام في كربلاء(٤) .

وهو الذي كان يضع العلويين في الأسطوانات، ويسمرهم في الحيطان ـ كما نص عليه اليعقوبي، وغيره ـ ويتركهم يموتون في المطبق جوعاً، وتقتلهم الروائح الكريهة، حيث لم يكن لهم مكان يخرجون إليه لإزالة الضرورة، وكان يموت أحدهم، فيترك معهم، حتى يبلى من غير دفن، ثم يهدم المطبق على من تبقى منهم حيا، وهم في أغلالهم ـ كما فعل ببني حسن، كما هو معروف ومشهور.

____________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٦٧، وإمبراطورية العرب ص ٤٩١، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الأول جزء ٢ ص ٥٣٤.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ج ٣ ص ٣٥٧، والبحار ج ٤٧ ص ١٧٨.

(٣) مروج الذهب ج ٣ ص ٢٢٤.

(٤) تاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار آل طعمه ص ١٩٣.

٧٣

ولقد قال أحد العلويين، وهو أبو القاسم الرسي بن إبراهيم بن طباطبا، إسماعيل الديباج. عندما هرب من المنصور إلى السند:

لـم يـروه ما أراق البغي من دمنا

في كل أرض فلم يقصر من الطلب

وليس يشفي غليلا في حشاه سوى

أن لا يرى فوقها ابن لبنت نبي(١)

وعلى كل: فإن معاملة المنصور لأولاد علي، تعتبر من أسوأ صفحات التاريخ العباسي(٢) .

وستأتي عبارة الخضري عنه عن قريب..

وأما المهدي:

الذي حبس وزيره يعقوب بن داوود، وبني على المطبق الذي هو فيه قبة، وبقي فيه حتى عمي، وطال شعر بدنه، حتى صار كالأنعام ـ وحبسه ـ لاتهامه إياه بأنه يمالئ الطالبيين، كما قدمنا..

المهدي الذي عرفنا فيما تقدم موقفه من أبي عون، وولده، الذي كان يذهب مذهب الشيعة في الخلافة.. وكذلك موقفه من وصية القاسم ابن مجاشع.

أما المهدي هذا فقد اتخذ الزندقة ذريعة للقضاء على كل مناوئيه، وخصوصاً العلويين، والمتشيعين لهم:

وقال الدكتور أحمد شلبي: (إن الرمي بالزندقة اتخذ وسيلة للإيقاع بالأبرياء في كثير من الأحايين)(٣) .

____________

(١) النزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥١.

(٢) مختصر تاريخ العرب، للسيد أمير علي ص ١٨٤.

(٣) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٢٠٠.

٧٤

وقال الدكتور أحمد أمين المصري: (الحق أن بعض الناس اتخذوا الزندقة ذريعة للانتقام من خصومهم، سواء في ذلك: الشعراء، والعلماء، والأمراء، والخلفاء)(١) .

وقد ألف له ـ أي للمهدي ـ ابن المفضل كتاباً في الفرق، اخترع فيه فرقا من عند نفسه، ونسبها لأولئك الذين يريد المهدي أن يتتبعهم، ويقضي عليهم. مع أنهم لم يكونوا أصحاب فرق أصلاً. كزرارة، وعمار الساباطي، وابن أبي يعفور، وأمثالهم، فاخترع فرقة سماها (الزرارية) نسبة لزرارة. وفرقة سماها (العمارية) نسبة لعمار، وفرقة سماها (اليعفورية) وأخرى سماها (الجواليقية)، وأصحاب سليمان الأقطع.

وهكذا. إلا أنه لم يذكر (الهشامية) نسبة لهشام بن الحكم(٢) .

____________

(١) ضحى الإسلام ج ١ ص ١٥٧. هذا. وقد اتهم شريك بن عبد الله القاضي بالزندقة، لأنه لم يكن يرى الصلاة خلف الخليفة المهدي، فراجع: البداية والنهاية ج ١٠ ص ١٥٣، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ١٣٧، والإمام الصادق والمذاهب الأربعة المجلد الثاني جزء ٣ ص ٢٣٢. وأيضاً. فقد أراد هارون أن يقتل عمه، الذي قال: كيف لقي آدم موسى؟ عندما ذكرت رواية مفادها ذلك. وذلك بتهمة الزندقة، راجع: تاريخ بغداد ج ١٤ ص ٧، ٨ والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢١٥، وحياة الإمام موسى بن جعفر ج ٢ ص ١٣٨، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٨٥، والبصائر والذخائر ص ٨١..

وهذا يعني أن لفظ الزنديق قد أطلق على كل من يناقش في أحاديث الصحابة، وعلى كل من يعارض نظام الحكم، والحكام وأهوائهم، وأطلق أيضاً على كل ماجن خليع كما يبدو لمن راجع رواية شريك القاضي في مظانها وغيرها..

ولا بأس بمراجعة عبارة هامة لأحمد أمين تتعلق بهذا الموضوع في كتاب الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، المجلد الثاني جزء ٣ ص ٢٣٢.

(٢) رجال المامقاني ج ٣ ص ٢٩٦، وقاموس الرجال ج ٩ ص ٣٢٤، والبحار ج ٤٨ ص ١٩٥، ١٩٦، ورجال الكشي ص ٢٧، طبع كربلاء،. وأشار إلى ذلك المسعودي أيضاً، فراجع: ضحى الإسلام ج ١ ص ١٤١، واليعقوبي في كتابه مشاكلة الناس لزمانهم ص ٢٤.

٧٥

وقال عبد الرحمان بدوي: (إن الاتهام بالزندقة في ذلك العصر، كان يسير جنباً إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة، كما لاحظ ذلك الأستاذ (فيدا))(١) .

يقول أبو حنيفة أو الطغرائي في جملة أبيات له:

ومـتى تولى آل أحمد مسلم

قتلوه أو وصموه بالإلحاد(٢)

إلى غير ذلك مما لا يمكننا تتبعه واستقصاؤه في مثل هذه العجالة..

وأما الهادي:

(فقد أخاف الطالبيين خوفاً شديداً، وألح في طلبهم، وقطع أرزاقهم وأعطياتهم، وكتب إلى الآفاق بطلبهم..)(٣) .

ولم تكن واقعة فخ المشهورة إلا بسبب الاضطهاد الذي لحق العلويين، والمعاملة القاسية لهم. حسبما نص عليه المؤرخون.. والتي بلغ عدد الرؤوس فيها مئة ونيفا، وسبيت فيها النساء والأطفال، وقتل السبي حتى الأطفال منهم على ما قيل.

وأما الرشيد:

(الذي حصد شجرة النبوة. واقتلع غرس الإمامة)، على حد تعبير الخوارزمي.

____________

(١) من تاريخ الإلحاد في الإسلام ص ٣٧.

(٢) نسب إلى الأول ملحقات إحقاق الحق ج ٩ ص ٦٨٨ نقلاً عن مفتاح النجا في مناقب آل العبا للعلامة البدخشي ص ١٢ مخطوط وعن قلندر الهندي الحنفي في روض الأزهر ص ٣٥٩ طبع حيدر آباد وهو منسوب للطغرائي أيضاً وهو مثبت في إحدى قصائده في ديوانه فلعله أخذه على سبيل الاستشهاد على عادة الشعراء في ذلك..

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٣٦، ١٣٧.

٧٦

والذي (لم يكن يخاف الله، وأفعاله بأعيان آل عليعليهم‌السلام ، وهم أولاد بنت نبيه، لغير جرم، تدل على عدم خوفه من الله تعالى..)(١) .

والذي كان على حد تعبير أحمد شلي: (يكره الشيعة ويقتلهم..)(٢) .

والذي بلغ من كرهه لهم: أن الشعراء كانوا يتقربون إليه بهجاء آل عليعليه‌السلام ، كما يظهر بأدنى مراجعة للتاريخ.

أما الرشيد هذا.

فقد أقسم على استئصالهم، وكل من يتشيع لهم. فقال: (.. حتام أصبر على آل بني أبي طالب، والله لأقتلنهم، ولأقتلن شيعتهم، ولأفعلن وافعلن..)(٣) .

وعندما تولى الخلافة أمر بإخراج الطالبيين جميعاً من بغداد، إلى المدينة(٤) كرهاً لهم ومقتاً.

(وكان شديد الوطأة على العلويين يتتبع خطواتهم، ويقتلهم)(٥) .

(.. وأمر عامله على المدينة بأن يضمن العلويون بعضهم بعضاً)(٦) .

وكان: (يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم)(٧) .

____________

(١) الفخري في الآداب السلطانية ص ٢٠.

(٢) التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ ص ٣٥٢.

(٣) الأغاني، طبع دار الكتب بالقاهرة ج ٥ ص ٢٢٥.

(٤) الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٨٥، والطبري ج ١٠ ص ٦٠٦، وغير ذلك.

(٥) العقد الفريد ج ١ ص ١٤٢.

(٦) الولاة والقضاة للكندي ص ١٩٨، وليراجع: تاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار ص ١٩٦.

(٧) العقد الفريد، طبع دار الكتاب العربي ج ٢ ص ١٨٠.

٧٧

وكان (مغرى بالمسألة عن آل أبي طالب، وعمن له ذكر ونباهة منهم)(١) .

وعندما أرسل الجلودي لحرب محمد بن جعفر بن محمد، أمره أن يغير على دور آل أبي طالب في المدينة، ويسلب ما على نسائهم من ثياب، وحلي. ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوباً واحداً(٢) .

وعندما حضرته الوفاة كان يقول: (.. واسوأتاه من رسول الله)(٣) .

وهدم قبر الحسين، وحرث أرض كربلاء، وقطع السدرة التي كان يستظل بها الزائرون لتلك البقعة المباركة، وذلك على يد عامله على الكوفة، موسى بن عيسى بن موسى العباسي(٤) .

ثم توج موبقاته كلها، وفظائعه تلك، بقتل سيد العلويين، وقائدهم، الإمام موسى بن جعفر، (صلوات الله وسلامه عليه).

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٤٩٣، وبعد ذلك قال: (فسأل يوماً الفضل بن يحيى ـ بعد أن عاد من خراسان ـ: هل سمعت ذكرا لأحد منهم؟ قال: لا والله، ولقد جهدت فما ذكر لي أحد منهم، إلا أني سمعت رجلاً إلخ)..

(٢) أعيان الشيعة، طبعة ثالثة، ج ٤ قسم ٢ ص ١٠٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦١، والبحار ج ٤٩ ص ١٦٦.

(٣) الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ١٣٠، ويلاحظ هنا: أن الإنسان غالباً ما ينكشف على حقيقته حين موته. وقول الرشيد هذا يكشف لنا الرشيد على حقيقته، ويبين لنا مدى ما فعله الرشيد مع ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

(٤) تاريخ الشيعة ص ٨٩، وأمالي الشيخ. طبع النجف ص ٣٣٠، والكنى والألقاب ج ١ ص ٢٧ وشرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٩، والمناقب لابن شهر آشوب ج ٢ ص ١٩، وتاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار ص ١٩٧، ١٩٨، نقلاً عن: نزهة أهل الحرمين ص ١٦، والبحار ج ١٠ ص ٢٩٧، وتظلم الزهراء ص ٢١٨، ومجالي اللطف ص ٣٩، وأعيان الشيعة ج ٤ ص ٣٠٤، وتسلية المجالس، لمحمد بن أبي طالب، وغير ذلك..

٧٨

ولقد خاطبه العقاد مشيراً إلى نبشه لقبر الحسينعليه‌السلام ، فقال: (.. وكأنهم خافوا على قبرك أن ينبشه أشياع علي، رضي الله عنه، فدفنوك في قبر الإمام العلوي، لتأمن فيه النبش والمهانة بعد الممات. فمن عجب أن يلوذ أبناء علي بملكك الطويل العريض، فيضيق بهم، وأن يبحث أتباعك عن ملاذ يحتمي به جثمان صاحب الملك الطويل العريض بعد مماته، فيجدوه في قبر واحد من أولئك الحائرين اللائذين بأكناف البلدان، من غير قرار، ولا اطمينان..)(١) .

يشير بذلك إلى قبر علي بن موسى الرضاعليهما‌السلام ، حيث إن الرشيد مدفون إلى جانبه، كأنه يريد أن يقول: إن دفن المأمون للرضاعليه‌السلام إلى جانب أبيه الرشيد كان لأجل الحفاظ على قبر أبيه من النبش.

ولكن المعلوم: أن العلويين وشيعتهم ما كانوا ليقدموا على أمر كهذا مهما بلغ بهم الحقد والغضب بسبب اضطهاد الحكام لهم..

يقول محمد بن حبيب الضبي، رحمه الله مشيراً إلى ذلك:

قبران في طوس الهدى في واحد

والـغي فـي لـحد ثراه ضرام

قرب الغوي من الزكي مضاعف

لـعـذابه، ولأنـفـه الإرغـام

ويقول دعبل رحمه الله:

قـبران في طوس خير الناس كلهم

وقـبر شـرهم هـذا مـن الـعبر

ما ينفع الرجس من قرب الزكي وما

على الزكي بقرب الرجس من ضرر

ولقد بلغ من ظلم الرشيد للعلويين أن جعل الناس يعتقدون فيه بغض عليعليه‌السلام ، حتى اضطر إلى أن يقف موقف الدفاع عن نفسه،

____________

(١) راجع: تاريخ كربلاء، لعبد الجواد الكليدار ص ١٩٩، نقلاً عن: مجلة (الهلال)، عدد اكتوبر سنة ١٩٤٧ م. ص ٢٥، من مقال بعنوان: (حديث مع هارون الرشيد) للأستاذ العقاد.

٧٩

ويقسم على أنه يحبه، قال إسحاق الهاشمي: (كنا عند الرشيد، فقال: بلغني أن العامة يظنون في بغض علي بن أبي طالب. ووالله، ما أحب أحداً حبي له، ولكن هؤلاء (يعني العلويين) أشد الناس إلخ)(١) .

ثم يلقي التبعة في ذلك عليهم، ويقول: إنهم إلى بني أمية أميل منهم إلى بني العباس الخ كلامه.

بل لقد رأيناه يعلن أمام أعاظم العلماء عن توبته مما كان منه من أمر الطالبيين ونسلهم(٢) .

وذلك أمر طبيعي بعد أن كان يتتبع خطواتهم ويقتلهم (وبعد أن كانت سجون العباسيين، وخصوصاً المنصور والرشيد، قد امتلأت من العلويين، وكل من يتشيع لهم) على حد تعبير أحمد أمين(٣) .

وأخيراً.. فقد بلغ من ظلم الرشيد للعلويين أن توهم البعض أن المأمون إنما بايع للرضا بولاية العهد، من أجل أن يمحو ما كان من أمر الرشيد في آل عليعليه‌السلام ، كما عن البيهقي، عن الصولي(٤) .

وأما المأمون:

فستأتي الإشارة إلى بعض ما فعله في آل علي في تضاعيف الفصول الآتية إن شاء الله تعالى.

والشعراء أيضاً قد قالوا الحقيقة:

وهكذا. يتضح لنا كيف أن العباسيين قد انقلبوا ـ بدافع من

____________

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٩٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ١٢٧.

(٣) راجع: ضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٦، ٢٩٧.

(٤) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٧، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٢، وغير ذلك.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173