الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ٢

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة33%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 177

  • البداية
  • السابق
  • 177 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22652 / تحميل: 7347
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء الثاني

معهد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العالي للشريعة

١

مقتضيات المشاركة الحضارية للاجتهاد الفقهي

مقدِّمة

ما يحفِّز الباحثين وبعض مؤسَّسات الدِّراسات الدينية ودوائرها - وبخاصة في حقل العلوم الشِّرعية - إلى تقديم مشاريع إحيائية في ممارسة العمل الاجتهادي؛ ليس إلاّ شعورهم بأنَّ الوضعية الاجتهادية الحاضرة غير مستوعبة لمستجدَّات الحياة ومتطلَّبات العصر، وغير جاهزة للخوض في عمليَّة تنظيرية تخلق مناخاً نظرياً متلائماً مع حقيقة الحضارة الإسلامية.

عرفت الآونة الأخيرة صرخات عالية تدعو إلى ضرورة استئناف جهود جادة للانطلاق باتجاه التجديد والإحياء في الفقه والاجتهاد، من خلال ممارسة إعادة النظر في قواعد العمل الاجتهادي وضوابطه؛ لأجل تمكينه من القيام بالدور اللاّزم في التنظير الفقهي الشامل والمنسجم مع وظائف الفكر الديني، ومهمَّاته تجاه الإنسان والحياة.

إنَّنا، وفي الوقت الذي نتَّفق فيه مع دعاة الإصلاح والتجديد على أنَّ الحاجة ماسَّة، أكثر من أي وقت آخر، للحديث عن إحياء الفقه والاجتهاد الفقهي وتحديثهما، وهو ما سنتحدَّث عنه لاحقاً، سنبرهن على أنَّ سياسة الهدم والتدمير، قبل تحضير البديل وتأهيله، سوف تسفر حتماً عن كوارث كبيرة على التُّراث الإسلامي، وعلى أصالة الاجتهاد الفقهي وعمقه. نرى هذا في الوقت الذي نؤكِّد فيه: أنَّ الفقه الإسلامي في واقعه الراهن، غير جاهز للمواكبة والتصدِّي الحقيقي، بخاصة على صعيد التنظير وصياغة حلول فكرية تدعم مصداقية الحديث المتواصل عن الطاقات و(الظرفيَّات) الكبيرة للفقه الديني؛ الأمر الذي يدعونا جميعاً إلى استنفار الطاقات والإمكانيات العلمية والمنهجية الهائلة، للخروج بفقه يؤسِّس لتدبير الحياة، والإدارة الدينية لإنسان هذا العصر، ولمجتمعنا المعاصر، بكل ما تحتويه خصوصية هذا العصر الحاضر، وما تواجهه الأمة، ونظرية الدين المتكامل، من تحدِّياتٍ علمية، ونظرياتٍ هائلة، ترمي إلى النيل من مبدأ قدرة الدين على تلبية حاجات الإنسان والمجتمع، مهما تطوَّرا وتقدَّما.

٢

وما يُنجز عملياً، بين فنية وأخرى، من مواجهة لهذه التحديات النظرية بوصفها(شُبهات دينية) ، أو(محاولات للنَّيل من قداسة الدين) ، وتوظيف هذه القداسة لأجل إطلاق الأحكام المُدِينة والمستهجنة، لا يجدي جدوى الخوض الفكري والعلمي المُمنهَج في المواجهة، والمتمثِّل في تطوير عملية الاجتهاد، وتمكين العقل الاجتهادي من التواجد الكثيف في مختلف مساحات الحياة، من دون دعوة الأمة إلى أن تنزوي وتتقوقع وتتجنَّب خوض معارك يفرضها التطوُّر الحياتي.

وتتمثَّل وظيفة الفقه والاجتهاد في إرساء إطاراتٍ معرفيةٍ شاملة، ونظرياتٍ ومناهجٍ دقيقة ومواكِبة للحياة المعاصرة، وذلك كلّه في ظلّ الالتزام الكامل والدقيق بمؤدَّيات النُّصوص الدينية والسنة الشريفة، مدعومة بصيغ عقلية في منطقة خلت من تناول نصِّي تفصيلي.

أمَّا الحديث عن إمكانية وقوع العقل في شرك الخطأ عند الاعتماد عليه؛ بغية تجاهله وتجاهل دوره الكبير في صياغة الإسهام الحضاري الإسلامي، فلا يتجاوز مشكلة فقدان الوعي الكافي لإدراك: أنَّ الاجتهاد الديني لا معنى له من دون الاتكال على العقل، في ما رُسِم له من دور وموقع من قبل الشارع المقدَّس، وفي منطقة تحرُّكه، وذلك بعد تحديد مساحات هذه المنطقة، وتأطير دوره المعترف به شرعاً ضمن النقاش في منظومة (مصادر المعرفة)، ومنابع الاستنباط الشرعي.

إنّ أي عمل على إسقاط جدوى العقل الإنساني - المدعو في النص الشرعي المعتبر: حجةَّ الله الباطنة - في تحمُّله لدوره الذي يستحقه، سينتهي في النهاية إلى استمرار العجز التنظيري في الإسهام الحضاري، وبقاء الإخفاق في صياغة مناهج وأنظمة كفوءة في ساحات الاقتصاد والسياسة، وما إلى ذلك من مفاصل الحضارة المعاصرة. هذا، وإنَّ إلغاء الإنسانِ العاقلَ من طريق الاجتهاد الديني؛ تحت ذريعة أنَّّ النَّص الديني يغنينا عن ذلك، يتنافى مع أوَّليَّات الفهم الصحيح لمدلول الوحي، وما احتل العقل فيه من هامش كبير وموقع متميِّز يمكِّننا في ظله استنطاق النَّص، المتمثِّّل في الوحي والحديث الشريف، والاستنباط منه.

٣

ومن جهة أخرى، فإنَّّ إدراك الوقائع والأحداث في الإطار الزماني والمكاني، ووعي طبيعة هذا الإدراك وديناميكيَّته، سيؤثِّران في عمق عملية الاجتهاد، ويدعوان إلى إعادة النظر في تثمين انجرار تفاصيل مقتضيات الزمن الماضي إلى العصر الراهن، وفي المحاولة الخاطئة لإسقاط ما للثوابت الدِّينية من قيمة لا زمانية على المتغيرات، الّتي لا بدّ من القيام بأقلمة الأحكام في ظلّها تارة، وعصرنتها تارة أخرى. ومعلوم أنَّ خلط الثابت والمتغيِّر في جسم الفقه، وعدم العمل على وضع حدود واضحة لهما، من شأنه أن يجلب نتيجة مأساوية علينا، سواء أكان من جرَّاء عرض إجابات الماضي، وتقديم بدائل منصرمة إلى الاقتضاء الحاضر؛ ما يؤدِّي إلى صمت فقهي يخصِّب المجال لاعتبار الدين عاجزاً عن المواكبة والمعاصرة، وهذا في حال عدم الاعتراف بوجود المتغيِّرات، ومحاولة توسيع نطاق الثوابت إلى أبعد ممَّا هو مرسوم لها في الشريعة؛ أم من جرَّاء تمييع الثوابت الدينية، واعتبار الدين ظاهرة زمنية بلا ثوابت، يخضع لمصلحة الإنسان ورؤيته العصرية، ويحق له أن يُغيِّر منه ما يشاء، ويُثبت منه ما يشاء؛ جلباً للمصلحة وتدبيراً للحياة، عِبْرَ تجاهل القواعد الثابتة، وتخطِّي أسس الدِّين السَّماوية المُوحى بها.

إذاً إنَّ قسطاً كبيراً، وحيِّزاً واسعاً، من مشروع عملية التحديث الفقهي، لا بدَّ من أن يختصَّا بالعمل على إيضاح ملابسات الثابت والمتغيِّر وإشكاليَّاتهما؛ لأنَّ الأمر يمثِّل عصب الحياة للاجتهاد المعاصر، وذلك تفادياً للوقوع في مشكلة كبيرة لها طرفان أسلفنا الحديث عنهما باختصار قبل قليل.

٤

ولعلَّ انعدام الوعي الكافي، في المؤسسات المعنيَّة بالدراسة الفقهية والاجتهاد الشرعي، لمهمَّات الدين الإسلامي الواسعة؛ هو ما سبَّب خلط أولويَّات المرجعيَّات الشرعية في المعالجات الفقهية، الأمر الذي جعل جلَّ اهتمامات هذه الفعاليَّات الفقهية، المتمثِّلة بالدروس العالية والبحوث التخصُّصية، ينصب في حقل العبادات، دون الحقول التي تتحرَّك وتتطوَّر وتتطلَّب بذل جهد أقصى وأكبر من قِبَل المجتهدين قبل أيِّ حقل آخر. وما نتج عن ذلك هو عجز هذه القواعد عن بناء شخصية فقهية تخوض الحياة العلمية لتقدِّم وتعطي لواقعها حلاًّ دينياً يوفِّر للإنسان والمجتمع قِيَماً فيها صلاح الدنيا والآخرة، من دون أن يأتي ذلك لحساب أحدهما على الآخر، ونحن مع اعتبار الأصالة والأولوية للأخير في حال حتمية استحالة الجمع، مع أنَّ نشوء ثنائية كهذه، واعتبار فاصلة بينهما، لا أصل له في مداليل النص الشرعي. ولعلّ التفاوت في المرتبة بين المقولتين قد أسَّس لتجاهل الحياة، وبنى لتربية خاطئة للعقل الإسلامي والشخصية المسلمة في ما يتصل بفهم حقيقة الدنيا وعلاقتها بالآخرة؛ ما أدّى إلى حرمان المسلم المعاصر وإفقاره من إمكانيات مادية توفِّر له الأمن والهدوء وكرامة الحياة، بعيداً عن وطأة الصِّعاب وضغوط الذلَّة.

وقد أسهم ذلك كله مباشرةً في إهمال كثير من التعاليم الدينية الراقية إلى تحسين الحياة، وساعد على حدوث تأخُّرٍ وتخلُّفٍ لا يسعنا إنكارهم، وعزَّز سلطان أعدائنا علينا. ولا يخفى أنَّ غياب الفقه المعاصر عن وسط الحياة السياسية والاجتماعية، تنظيراً ومعالجةً وتقديماً لبدائل، أسهم في خلق المناخ الراهن.

بغية إدراك وجه القصور في حركة الاجتهاد، لا يمكن تغييب عنصر آخر؛ وهو التأثُّر السياسي الكبير، في الوسط الاجتهادي، بالأنظمة السياسية في مراحل تاريخية طويلة؛ ما أسهم في انغلاق أبواب الاجتهاد بين المذاهب الإسلامية، وعدم إتاحة الفرصة للتعامل الفقهي والحوار الإسلامي الشامل، بغية الوصول إلى منظومة فقهية اجتهادية تسترفد من مائدة إسلامية واحدة، لتحويل الهمِّ المذهبي إلى همِّ الأمّة، وإلى مطالب مشروع الحضارة الإسلامية العالمية.

٥

ومن جهة أخرى، من الضّروري أن نطرح سؤالاً آخر عن الاجتهاد المعاصر؛ وهو: ما مدى إمكانية الحديث عنالاجتهاد (المقاصدي) ، الذي يتحرَّك المجتهد فيه على أساس مسبَّق، وضعه لنفسه عبر تبنِّيه مقاصد عامة ومِلاكات كلِّية للشريعة عموماً، وللأحكام الفقهية خصوصاً، وفي ظلِّها يعمل على تحديد قيمة النّص الشرعي ويمارس النقد؟ سؤالٌ قد أخذ مساحة جيدة من اهتمام البحث الفقهي المعاصر، وإن كان متأخِّراً، ولكنَّه طُرح في الوسط التجديدي بقوَّة. ولعلّ السبب في حيوية موضوع المقاصد وارتباطه بالحياة، يعود إلى صعوبة الجمع بين رؤية فكرية تفهم نصوصَ الدّين وأحكامه بوصفها منظومة معرفية لا سبيل إلى معرفة أسبابها، ومقاصدها، وأسرار وجودها، وإنَّما هي مطالب سماوية لا تُفهم خلفيَّاتها ودواعيها، هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، لعلَّه يعود إلى الحديث عن الثابت والمتغيِّر، أو إلى تأثُّر الخطاب الشرعي بالواقع المعيوش؛ لأنَّه من غير المعقول اعتبار أنَّ عصر صدور النُّصوص والأحاديث الدينية الأولى لم يكن له تأثير في إجابات الشريعة، بينما العصور اللاَّحقة، بما في ذلك عصرنا هذا، قد تؤثِّر في الاهتمام الفقهي والشرعي من قبل الفقهاء! الأمر الذي يدفعنا إلى التفكير الجادِّ والدرس العميق للعثور على مواطن المقاصد من النص الشَّرعي.

وإذا كان الثابت والمتغيِّر حقيقتين في قلب الفكر الإسلامي، فمن دون الاعتراف بهما معاً، قد لا يمكن الدفاع عن قدسيَّة الدين في حال رفض الثوابت، ولا الدفاع عن إنسانية الدين وعملانية الشريعة، في حال رفض المتغيِّرات.

٦

ومن الواضح، أيضاً، أنَّ السبيل إلى إثبات جدارة الدين باختراق الزمان والمكان، وأهليَّة الشريعة الشاملة والكاملة، كامنٌ في قبول وجود ثوابتَ خلف الأحكام تهدف الشريعة إلى تحقيقها، مع أخذ الحذر من وقوع الاجتهاد في فخِّ دوائر محظورة - كالقياس - تنتهي بالفكر الديني إلى الخضوع لعملٍ اجتهادي ذوقي، واستنسابي، أو استحساني، بينما الدراسة المقاصدية تتمكَّن من تمتين البحث الفقهي وجعله قادراً على تعزيز القواعد الفقهية، وإعادة ترتيبها من جديد، وبالذات سيقحم الموضوعُ هذا، الاهتمامَ القرآني في قلب الاجتهاد؛ وذلك لأنَّ بحث المقاصد يسفر عن تفعيل الفهم القرآني وإدخال الدراسة القرآنية إلى ساحة العمل الاستنباطي، لكونه المصدر الأساس في تحديد المقاصد العامة للشريعة الإسلامية. ولا أعتقد أنَّ المرء بحاجة إلى تأكيد:أنَّ فاعلية النَّص القرآني، موقعاً ودوراً في حركة الاجتهاد، لو قورنت بفاعلية الحديث والنص غير القرآني، ضئيلةٌ، وتكاد تختفي من ساحة الاجتهاد .

إنَّ تحريك قضية المقاصد سيجرُّنا إلى التردُّد في إمكانية اكتفاء المجتهد بجزء منالقرآن، المسمَّى بآيات الأحكام؛ لأنَّه لا آية في الكتاب الكريم يتمكَّن المجتهد من القول بالاستغناء عنها في عمله الاجتهادي. وإنَّ القرآن الكريم هو بمثابة الينبوع الصافي الذي تنطلق منه القواعد الأساسية والعامة للشريعة الإسلامية، وما جاءت السنة الشريفة إلاّ تبييناً وتفسيراً، وليس تأسيساً واستئنافاً. والقرآن الكريم يمثِّل المرجعية الكبرى لفهم مقاصد الدين الإسلامي، التي في ظلَّ إدراكها الجيد يسهل على الفقيه مراجعة الحديث الشريف وتقييمه. وإنَّ غياب القرآن الكريم - أو تغييبه - على أثر سلسلة تدابير غير معرفية وغير علمية، أدّى إلى وضع بيان فقهي كان الدور الأكبر فيه للحديث دون الآيات الشريفة، مع أَنَّه من المعروف أنَّ (اليد) قد مسَّت الحديث، وتم اختلاق بعضٍ منه أو تزويره، دون القرآن الكريم، وأصبحت العملية الاجتهادية بعد أحداث تاريخية سياسية، وغير سياسية، تدور في فلك الحديث، وظلَّ القرآن، وبالذات تلك المساحات الكبيرة غير الفقهية، حسب مدلولٍ حديثٍ للفقه مختلف عن حقيقة المصطلح في الكتاب والسنة، بمنأى عن هذه

٧

العملية. ومن الغريب هو أنَّ الاستشهاد بآيةٍ محكمة من القرآن الكريم على مقصد ديني عام يمثِّل عملاً غير مقبول في حال عدم إرفاقها بأحاديث تدعم فهمنا للآية و تؤيِّده، وذلك على الرُّغم من أنَّ محكم القرآن الكريم هو عصب الدين والوحي. وتعليق مدلول محكمات القرآن الكريم على تأييد من الأحاديث الشريفة؛ سيؤدِّي إلى محاولة نزع المرجعية وخلعها عن الكتاب الكريم، الأمر الذي أدَّى إلى فتح أبواب التأويل في بعض محكمات القرآن الكريم، وخلطِ الأوراق، وضياعِ الطريق، وتكريسِ القيادة الحديثية محلَّ مرجعية الكتاب الكريم وأصالته، وإخراج القواعد الدينية الثابتة منه، إلى جانب التمسُّك الكامل بالحديث الشريف والسُّنَّة المقدَّسة الصحيحة، وتهميش أحدهما مؤدٍّ بالأمة إلى الضياع والضلال، ويسبّب اللجوء إلى تأويل محكم الكتاب الكريم بغية التوفيق بينه وبين الحديث، هذا كلُّه قد حصل غير مرَّة في سير بعض العلماء المسلمين.

إنَّ تزوُّد المجتهد بجزء من القرآن الكريم، وعدم تبنِّي تلك المنظومة المعرفية المتكاملة والشاملة في ما يخص المجتمع والتاريخ والإنسان، سيؤدِّي في النهاية إلى إنجاز عملٍ اجتهادي غير كامل؛ لأنَّ المجتهد لدى قيامه باستنطاق الحديث الشريف، واستنباط الحكم منه، سيوظِّف معرفته وفرضيَّاته وآراءه في الإنسان والتاريخ والمجتمع... إلخ، في فهمه، شاء ذلك أم أبى، غير أنَّ الغالب في الأمر هو عدم نشأة هذه الفرضيَّات من الكتاب الكريم. وبكل بساطة نقول: هناك شريحة من المَعْنيين بفهم الأحكام واستنباطها، ينطلقون من قاعدة معرفية - عن الإنسان مثلاً - قد كوَّنوها من خلال عيشهم معه في بيئتهم، ثُمَّ يستخدمونها في فهم الحديث الشريف، وهذا العمل هو محاولة لفرض اقتناع على مدلول الحديث من دون أن يكون في ذلك تعمُّد.

٨

وعليه، ينبغي التأكُّد من أنَّ معالجة موضوع التعاطي مع النص، ومقوِّمات فهمه، والعناصر المتداخلة في تكوُّن انطباع القارئ والمستنبِط، ستفتح آفاقاً مهمة على طريق الاجتهاد؛ الأمر الذي يحتَّم علينا إجراء دراسات جادَّة في مجال دراسة النّص، وعلم تفسيره وقواعده ومناهجه المعروضة في البحوث الألسنية واللغوية، بخاصة في مجال (الهرمنيوطيقا) (علم تفسير النَّص وفهمه)؛ وذلك كلِّه بهدف التقليل - أكبر قدر ممكن - من تدخُّل الذات، والحدِّ من محاولتها الفضولية للدخول الخفي والدقيق على خط مدلول النص الشرعي وتحت عنوان النّص نفسه. والتمييزُ بين الأمرين في غاية الدقة والصعوبة، والحل الأسلم يكمن في اللجوء إلى الكتاب والسُّنَّة لتكوين الاقتناع الأنتروبولوجي لدى الفقيه، ورفض الاتكال على معطيات المعيوش.

ويُخشى من استمرار عدم الاعتراف، من قبل الوسط الفقهي الرسمي، بالجانب الفعلي والفلسفي والكلامي، وكذلك التاريخي واللغوي، والاكتفاء بالحديث (النص) على حساب باقي مصادر الاستنباط؛ الأمر الذي قد يؤدِّي إلى حرمان الإنسان من تأسيس فقه شامل، يأخذ الفقيه فيه جميع الحقائق السامية والراقية العقلية، والإنسانية الأخرى، بعين الاعتبار، ويسبِّب استمرار الخطاب الإسلامي الديني الآحادي بعيداً عن عقول الناس وقلوبهم؛ لخلوِّه من الشموليّة والكمال في ما يقدِّم من حلول عملية لأزمات ومآسٍ نفسية واجتماعية واقتصادية معاصرة، أخفقت في معالجتها جميع النظريات الوضعية، والأنظمة المعرفية الإنسانية المنقطعة عن الوحي والسماء.

إنَّ هذا الإصدار منكِتَاب الحيَاة الطَّيِّبة يحاول أن يؤسِّس لنقاشات علمية، ومعالجات أوليَّة لقضايا مهمة، على طريق اجتهادٍ معاصر، عِبر استقطاب آراءٍ ورؤىً واسعة لعدد من المجتهدين البارزين في مجال الفقه والشريعة الإسلامية، ونأمل أن يكون خطوة في سبيل الهدف المنشود.

الحيَاة الطَّـيِّبة

٩

مرتكَزات الاجتهاد المعاصر ومبانيه

وقائع ندوة حَوْزَوُيَّة - جامعيَّة

جاءت تجربة قيام الدولة الإسلاميَّة في إيران، وما رافقها من حاجات ملحَّة للتأصيل الفقهي في مختلف مرافق التجربة التي تتحرَّك في مدار الحياة؛ لتفرض على الحوزة العلمية أجواء وشواغل جديدة، حتى أضحى الحديث عن اجتهاد جديد يلبِّي الحاجات المستحدَثة ويواكب المستجدَّات وكأنَّه من الثَّوابت التي لا محيد عنها، فلم يَعُد الاجتهاد المتوارث من عصر ما قبل قيام الدَّولة يلبِّي سوى دائرة ضيقة من حاجات الحياة إلى الفقه، تتَّصل في الأغلب بدائرة العبادات وبعض المعاملات من حياة الإنسان الفرد.

في هذا السياق كانت الصَّيحة المدوِّية التي أطلقها الإمام الخمينيقدس‌سره قبل أربعة أشهر من وفاته (بيان ١٥/ رجب/ ١٤٠٩ هـ)، والموجَّه إلى الحوزات العلمية، التي أعلن فيها:إنَّ الاجتهاد المتداول لم يعد كافياً لإشباع حاجة الواقع .

لذلك كلِّه لم تعد الأوساط التي تنتسب إلى التجربة الجديدة وتتنفس في مناخاتها تناقشُ في ضرورة التجديد، وإنَّما انتقلت إلى ترسيم سُبُله، والتفتيش عن إمكانات ممارسته وإنزاله إلى الواقع، وصوغ مرتكزات علمية متينة لإحداث هذه النُّقلة.

من هذه الزَّواية بالذات، قرأنا بحوثاً وشهدنا ندوات وعرفنا آراء كثيرة في التجديد الفقهي وإمكاناته، تضَّمنت كثافة ملحوظة في الرؤى الغنية.

من بين الأعمال المذكورة، تُعَدُّ هذه الندوة التي زاوجت بين الحقلين: الحوزوي والجامعي، واحدة من أبرز ما شهدته الساحة العلمية على هذا الصعيد خلال السنوات الأخيرة؛ من حيث كفاءة المشاركين، وجرأة الأسئلة، ووضوح المطالب وعمقها، وكثافة الرؤى، واتساع الآفاق؛ الأمر الذي دعانا إلى ترجمتها وتقديمها إلى القارئ العربي.

١٠

أسماء المشاركين في هذه النَّدوة، مرتبةً ألفبائياً حسب اسم الشهرة:

١ - السيد كاظم الحائري ، أستاذ في الحوزة العلمية.

٢ - الشيخ محمد مجتهد شَبَسْـتَري ، أستاذ جامعي يجمع بين التحصيلين: الحوزوي والجامعي.

٣ - د. ناصر كاتوزْيان ، أستاذ جامعي.

٤ - د. أبو القاسم كُرْجي ، أستاذ جامعي.

٥ - السيد محمد حسن مرعشي ، عضو سابق في ديوان القضاء العالي، أستاذ في الحوزة العلمية حاليَّاً.

٦ - الشيخ محمد هادي معرفت ، أستاذ في الحوزة العلمية.

المحرِّر

١١

تأثير الفلسفة والكلام في الاجتهاد

* ما هي العلاقة بين النَّظريات الفلسفية والكلامية وبين استنباط الأحكام الفقهيّة؟ ثُمَّ ما هي العلوم اللاَّزمة لممارسة الاجتهاد؟

د. كُرْجي: يتألَّف هذا السؤال، في الحقيقة، من سؤالين، هما:

١ - ما هي طبيعة علاقة نظريات هذه العلوم (المشار إليها في السؤال) بالاستنباط؟

٢ - ما هي العلوم التي ينبغي أن يلمّ بها المجتهد؟

السؤال الأوَّل عام غير محدَّد، فإذا كان المقصود معرفة علاقة هذه العلوم المباشرة بعلم الفقه، على نحو علاقة علم الأصول به، فالجواب بالنفي، فمن دون معرفة علم الأصول والتوفُّر عليه يتعذَّر استنباط الأحكام الفقهية، في حين أنَّ الأمر ليس كذلك بالنسبة لهذه العلوم، لكن في الوقت نفسه تُعَدُّ معرفة بعض هذه العلوم، والإلمام بها إلى حد معيّن، ضرورية في بعض المسائل الفقهية.

على سبيل المثال: من اللازم معرفة الرياضيات بشكل عام في مسائل الوصايا والإرث، وكذلك في بعض مسائل تقسيم المال المشترك، وذلك في حدود الثقافة العامة. وفي معرفة القبلة، من الضروري أن يكون الفقيه ملمَّاً بعلم الهيئة، كما ينبغي له أن يكون على دراية بمسألة بطلان الدور - وهي من المسائل الفلسفية - على صعيد عدم جواز التقليد في (مسألة التقليد).

كذلك ينبغي التوفُّر، في مجال البحث، على (مسألة حُجِّـيَّة خبر الواحد) ونظائرها، من قبيل مسألة حُجِّـيَّة الظهور (ومن الواضح أن هذه المسائل أصولية، لا فقهية)، وعلى معرفة مبحث حُجِّـيَّة الكتاب و السُّـنَّة، وهذه مسألة كلامية، وهكذا الحال في مبحث حُجِّـيَّة خبر الواحد، - وهو كما مرَّ - من المسائل الأصولية، لا الفقهية.

١٢

أمَّا إذا كان المقصود من السؤال أمراً آخر هو: إذا لم يكن الإنسان معتقداً بالعقائد الصحيحة المبتنية على مرتكزات (مبانٍ) مختلفة في علوم مختلفة، من بينها الفلسفة والكلام، فهل بمقدوره أن يكون مجتهداً؟ فإنَّ الجواب هو: أجل، يستطيع ذلك، بل يمكن أن يكون استنباطه حُجَّة عليه أيضاً، شريطة أن يمارس ذلك على ضوء القواعد الصحيحة للاستنباط، كأن يستفيد - مثلاً - من نصوص الكتاب والسُّـنَّة وظواهرهما، ويراعي الالتزام بقواعد الخاص والعام، والمطلق والمقيّد، والمفهوم والمنطوق، وغيرها. كما عليه أن يعمل بالأمارات والأصول المعتبَرة، وأن يستفيد من كلِّ واحد منها في مجاله الخاص.

لكن إذا كان المراد من السؤال: هل الاجتهاد المذكور في الفرض أعلاه حُجَّة على الآخرين أو لا؟ فالجواب هو: ما دامت العدالة من شروط مرجع التقليد، فلا يجوز تقليده، كما لا يجوز إسناد القضاء إليه.

وفي ما يتعلَّق بالسؤال الثاني، فإنَّ العلوم اللاَّزمة للاجتهاد هي: علوم آداب اللغة العربية، المنطق، أصول الفقه، تفسير آيات الأحكام، معرفة الأحاديث الفقهية، معرفة مواطن الإجماع، الدراية بالأحكام العقلية بالدَّرجة الضَّرورية التي تستلزمها ممارسة الاجتهاد، بالإضافة إلى لمحات من علوم أخرى.

السيد مرعشي: لقد بيَّن الفقهاء ما يحتاج إليه الاجتهاد من علوم في الكتب الفقهية (انظر مثلاً: كتاب القضاء). أمَّا بالنِّسبة للنظريات الفلسفية والكلامية والعلمية، فيمكن أن تكون مؤثِّرة في مقدِّمات الرؤية؛ لذلك يحصل أحياناً في علم الأصول أن تتسع دائرة البحث لتشمل المسائل الفلسفية. فبحوث من قبيل: اجتماع الأمر والنهي، ومبحث الضد، والطلب والإرادة، وقبح العقاب بلا بيان، لها جميعاً خلفيَّة فلسفية وكلامية.

١٣

أمَّا بالنسبة للنّظريات العلمية، فيمكن أن تكون مؤثِّرة في تشخيص الموضوعات، وكثيرة هي الأمثلة والمصاديق التي يمكن ذكرها شاهداً في هذا المجال؛ فعلى سبيل المثال: نجد في باب الديَّة تعلُّق نصف الدية في حال قطع خصية الرجل اليسرى، في حين يتعلَّق ثلث الدية في حال قطع خصية الرجل اليمنى؛ وقد علَّل الفقهاء ذلك بأنَّ الطفل يولد من خصية الرجل اليسرى، طبقاً لمؤدَّى بعض الروايات الضعيفة؛ لذا فإنَّ ديَّتها نصف الديَّة الكاملة، ولكن العلم لا يقبل ذلك. وانتبه لذلك الشهيد الثاني (زين الدين العاملي، ٩١١ - ٩٦٥هـ) في شرح اللمعة، وذكر أنَّ الأطبَّاء لا يوافقون على مثل هذا التعليل.

من الأمثلة ما يُذكر طبقاً لمفاد مجموعة من الروايات، من أنَّ النطفة تمكث في الرحم أربعين يوماً، وتكون علقة أربعين يوماً، ومضغة أربعين يوماً، في حين لا تنسجم معطيات العلم اليوم مع هذا الترتيب.

وبشكل عام: الأحكام تابعة لموضوعاتها، ويمكن للعلم أن يُعين الفقيه ويُساعده في معرفة الموضوعات، وفي مثل هذه الحالة، تكون المعرفة دقيقة من دون أن تنطوي على شكٍّ أو تردُّد؛ كما هي الحال في ميزان الموقف العلمي - مثلاً - من قضية بلوغ الفتاة في سنِّ التاسعة؛ إذ يمكن للعلم أن يثبِتَ - على نحو دقيق - هل تصل الفتاة إلى مرحلة البلوغ في سنِّ التاسعة أم لا؟

السيد الحائري: إذا كان المقصود من السؤال أنَّ الفلسفة والكلام يهبان الفقيه رؤية إلهيَّة، ويجعلان أفُقَه أرحب، فهذا أمر حسن له تأثيره؛ إذ يجب أن يكون للفقيه رؤية ميتافيزيقية (غيبية) إلهية، وإلاّ لا يكون فقيهاً، ولن تكون ثَمَّة قيمة لفتاواه. الفلسفة تُثبت لنا أنَّ هذا العلم هو حلقة مرتبطة بحلقات أخرى، وهذه أمور ينبغي للعالِم الدِّيني أن يعرفها.

أمَّا إذا كان المقصود خلط المسائل الفلسفية والعلمية بعلم الأصول، لتكون الحصيلة كالتي بين أيدينا: علم أصول متضخِّم ممَّا دخله ونفذ إليه، فهذا أمر مرفوض.

١٤

* ألا يوجد فَرق بين مدرسة الشيخ محمد حسين الأصفهاني (ت١٢٦٦هـ) والميرزا محمد حسين النائيني (ت١٣٣٥هـ)؟ فالمرحوم الأصفهاني متأثِّر بالفلسفة والكلام، واتجاهه الأصولي يختلف تماماً عن الاتجاه الأصولي للمرحوم النائيني، ومن الواضح أنَّ لهذا الاختلاف أثره في الفقه.

السيد الحائري: نعم، ولكن أيُّ هاتين المدرستين أحقّ؟ هذا أمر غير معلوم.

* بحثنا يدور في طبيعة تأثير الذِّهنية الفلسفية والكلامية في الفقه والأصول، أمَّا الأحقّية، فهي مسألة أخرى.

السيد الحائري: نحن نقبل بوجود مثل هذا التأثير الذي يفضي إلى الأحقّية.

* يمكن أن يكون للعلم أحياناً تأثير على الفتوى. ففي مسألة العصير العنبي، يذهب بعض الفقهاء إلى أنَّ الغليان يجب أن يكون طبيعياً و تلقائياً، حتّى تزداد الحالة الأسيدية والسكَّرية. أمَّا إذا سخن بالنار ووصل إلى الغليان، فلا يطرأ على ماهيَّته أيُّ تغيير، ومن ثَمَّ لا يشمله حكم النجاسة.

السيد الحائري: التغيُّر يطرأ تدريجياً على العصير العنبي، بعد أن يبرد وتتغيَّر ماهيَّـته؛ ولذلك أفتى الفقهاء بحرمته ونجاسته.

الشيخ مجتهد شَبَسْـتَري: أعتقد أنَّه بالإمكان طرح السؤال بشكل أصحّ إذا صُغنا المسألة على النحو الآتي: ما هي صلة فهم الكتاب والسُّـنَّة بالنظريات الفلسفية والكلامية؛ أيْ النظريات التي تقع خارج مجال تخصُّص الفقيه. والباعث إلى ذلك، هو أنَّ الصيغة تعرُض لمسألة في غاية الأهميّة، وهي: كيف ينبغي أن يُفهم الكتاب والسُّـنَّة؟

١٥

ثَمَّة أنواع مختلفة من الفهم، فالعُرفاء فهموا الكتاب والسُّـنَّة عرفانياً، والفلاسفة فلسفياً، وثَمَّة إلى جوار هذين الفهمين الفهم الفقهي للكتاب والسُّـنَّة، وهذه الأشكال من الفهم تتفاوت في ما بينها. وحينئذٍ سيكون السؤال: هل يمكن لإنسان له اطلاع على النظريات التأسيسيَّة، في الفلسفة والكلام، أن ينال الفهم الفقهي ويُحرزه؟ وهل يتحقَّق الفهم الفقهي مع وجود أيِّ نوع من أنواع الفهم الفقهي ويُحرزه؟ وهل يتحقَّق الفهم الفقهي مع وجود أيِّ نوع من أنواع النظريات الفلسفية والكلامية؟ أو أنَّ اختلاف النظريات الفلسفية والكلامية يؤدِّي إلى اختلاف الفهم الفقهي؟

وهكذا ترون أنَّ المسألة تعود إلى قضية كيفيَّة تحقُّق فهم الكتاب والسُّـنَّة وترتد إليها.

قضية كيفية قراءة النصوص وتفسيرها قضيَّة مهمَّة جداً؛ فنحن لدينا، إلى جوار علم الفقه، فلسفةَ علم الفقه، والمقصود بعلم الفقه هو الواقع الموجود والمتداول في الحوزة والذي يخضع لموازين محدَّدة؛ حيث يُقال في تعريفه:(هو العلم الذي يبحث في الأحكام الشرعية لأفعال المكلَّفين، وَيستنبط تلك الأحكام من أدلَّتها التفصيلية) . بَيْد أنَّ الذي لم يبحث في علم الفقه هو (ماهيَّة) هذا البحث والتفحُّص وحقيقته؛ أي لا يُصار إلى بحث فلسفي في هذا المجال، بحيث تُعرف كيفيَّة تحقُّق هذا البحث والفحص في أعمال المكلَّفين، وما هي طبيعة النسيج الذي ينطوي عليه والمقدَّمات التي يقوم عليها ويستنبطها.

إنَّ البحث في هذه الدائرة(حقيقة البحث الفقهي) وما يكتنفها من أصول، هو أمر تنهض به(فلسفة علم الفقه) . وفي حوزاتنا العلميَّة، لا وجود لعلم باسم: فلسفة علم الفقه، ولكن يجب أن يوجد؛ ففي الوقت الحاضر بدأت تعرض إلى جوار أي علم، فلسفة ذلك العلم؛ لذلك لا يسعنا أن نغفل عن فلسفة علم الفقه، ونتجاهلها رغم أهمِّـيتها الفائقة.

وبديهي أنَّّ علم الأصول تكفَّل بعرض مجموعة من مباحث فلسفة الفقه ودراستها، ولكن ثَمَّة بحوث مهمَّة لا يتولى علم الأصول دراستها وبحثها.

١٦

* وهذا هو علم (المعرفة الفقهية)؟

الشيخ مجتهد شَبَسْـتَري: البُعد المعرفي في الفقه لا يمثِّل فلسفة الفقه كلِّها، وإنَّما يمثِّل جزءاً مهمَّاً منها.

والآن نعود بعد هذه المقدِّمات إلى الموضوع المُثار، فإحدى المسائل الأساسية في فلسفة علم الفقه تتمثَّل بما يتضمَّنه السؤال الآتي: هل هناك دخل وتأثير لِمَا يحمله الفقيه من نظريات فلسفية، ولِمَا يؤمن به من نظريات كلامية، ولِمَا له من رؤية كونية، في كيفية فهمه للكتاب والسُّـنَّة أو لا؟ هذا سؤال مهم.

من أجل إضاءة جوانب عن هذا السؤال - وأنا أعتقد بوجود التأثير - ينبغي أن ننتبَّه إلى مسألة أساسية تتمثَّل في أنَّ على الفقيه أن يحدِّد موقفه في هذا المجال، ويكشف عنه بوضوح؛ وذلك بأنْ يحدِّد دائرة الاستنباط الفقهي ويشخِّص مجالها، بحيث يُعلم في أيِّ المسائل تجب العودة إلى الكتاب والسُّـنَّة؟ وفي أيِّ المسائل لا تجب العودة أصلاً إلى الكتاب والسُّـنَّة؟ هذه مسألة أساسية ينبغي أن يكون للفقيه موقف واضح منها.

أمَّا سبب التأكيد على هذه النقطة المتمثِّلة بـ:وجوب تحديد الفقيه - أوَّلاً - لحدود عودته إلى الكتاب والسُّـنَّة ، فإنَّما يُفسَّر على أساس أصل ثابت في علم التفسير يقول: إنَّ فهم أيَّ نصٍّ - من دون أن يقتصر ذلك على الكتاب والسُّـنَّة وحدهما - سواء أكان نصَّاً فلسفياً أم تاريخياً أم قانونياً، لا يكون ممكناً إلاّ إذا حدَّد قارئ النص ما يترقَّبه ويريده من عودته إلى النص؟ وما هي الأفكار التي ينطوي عليها النص بشكل عام؟ فمن دون حسم هذه المسألة لا يتيسَّر الوصول إلى أيِّ ضرب من ضروب فهم النص؛ لذلك على الفقيه أن يحدِّد - بادئ ذي بدء - لماذا يعود إلى الكتاب والسُّـنَّة؟ وما هي طبيعة الأفكار والمواقف التي يتكفَّلها الكتاب والسُّـنَّة؟

١٧

وبعبارة أخرى، يمكن أن تطرح المسألة على نحو آخر يتمثَّل بالموقف من الوحي نفسه: فما هو الوحي؟ كيف ينظر قارئ النص إلى الوحي؟ وكيف يحدد دائرته ومفاده؟ وما هو الدَّور الذي يؤمن به للوحي في حياة الإنسان؟. وفي المقابل: ما هي الحاجات التي يؤمِّنها الوحي نفسه بعودتنا إليه؟ وما الذي ننتظره منه؟ وعلى الفقيه أن يكون بصيراً بطبيعة الرغبة التي تجذبه إلى الكتاب والسُّـنَّة، وأن يكون مدركاً لعمقها وكيفيَّـتها على نحو صحيح.

نعم، يمكن للفقيه أن يُدرك، بعد رجوعه للكتاب والسُّـنَّة، أنَّهما يجيبانه عن أسئلة لم تكن قد وردت على ذهنه، أو أنَّهما يقومان بتصحيح أسئلته، ذلك كلُّه محتمل؛ لذلك ينبغي أن يكون ذهن الفقيه حال عودته إلى الكتاب والسُّـنَّة منفتحاً بشكل كامل، بمعنى أن يكون مستعدَّاً لِمَا قد يفضي إليه الرجوع إلى الكتاب والسُّـنَّة من تغيير يطرأ على إدراكه ووعيه وذهنه.

فعملية تفسير الكتاب والسُّـنَّة، سواء كانت فقهية أم غير فقهية، هي عملية أخذ وعطاء تتركَّز على قراءة النص، وتحصل دائماً بين قارئ النص وبين معطياته. هي حركة تبادل دورية، حركة تنطلق من مفسِّر النص وقارئه إلى النص، ومن النص إلى المفسِّر، بحيث يتكاملان فيما بينهما عبر هذه الحركة التبادلية (التفاعلية) التي يُعبَّر عنها فيعلم التفسير أو (الهرمنيوتيك) بـ: (الدور) .

فلا يمكن أن يعود النص بمعطى لصالح الإنسان من دون أن يوظِّف مفسِّر النص ما عنده؛ أي لن يكون بمقدور الإنسان أن يحصل على شيء من النص. فللإنسان معطيات عليه أن يوظِّفها ليحصل من النص على شيء، وعندما يخرج من النص بحصيلة يقوم بتصحيح معطياته الذاتية الخاصة على ضوئها، ثُمَّ يعود للنص مرَّة أخرى فيستفيد منه مجدَّداً بما يعزِّز معارفه.

١٨

إنَّ علميَّة تفسير النصوص تنطوي على(الدور)، وذلك خلافاً لِمَا نتصوَّره؛ إذ نظنُّ أنَّنا نعود إلى النص فنفهم منه، ولكن الواقع ليس بهذه الدرجة من البساطة، بل ما يتوقَّعه الفقيه من النص، وما يترقَّبه منه هو الذي يحدِّد طبيعة الأسئلة التي يطرحها على الكتاب والسُّـنَّة، وينتظر الإجابة عنها.

فلو افترضنا أنَّ الفقيه يتوقَّع أن يحصل على حكم شرعي، فحينئذ نسأل: هل يتعلَّق الحكم الشرعي الذي يريد أن يحصل عليه بجميع أفعال المكلَّفين أو ببعضها؟ ثُمَّ لماذا يتعلَّق بهذا القسم بالذات؟ وما هو دليل انتخابه من دون غيره؟ بمعنى أنَّ على الفقيه أن يكون له موقف من قضية حقيقة الكتاب والسُّـنَّة، فما هي حقيقتهما، وما هو دورهما في حياة الإنسان، حتّى يبتغي أن يحصل منهما على مثل هذه الأحكام التي يريدها؟ إنَّ القول: إنَّ مجال الكتاب والسُّـنَّة يتألَّف من دائرة معرفة حكم أفعال المكلَّفين، هو أمر ينطوي على الضيق والسعة، ولا يمكن المرور به مرور الكرام.

سنضع معنيين لهذه المقولة، أحدهما إلى جانب الآخر، ثُمَّ نقارن بينهما:

في الحالة الأولى ، يكون المعنى الذي يبغيه الفقيه من الحصول على حكم أفعال المكلَّفين، أن يقول: عندما أنهض من النَّوم صباحاً، لا أفعل أيَّ شيء إلاّ بعد أنْ أعود أوَّلاً إلى الكتاب والسُّـنَّة؛ لأرى طبيعة التكليف الذي يحدِّدانه لي. ومعنى ذلك أنِّي أتوقَّع أن يُعيِّن الكتاب والسُّـنَّة تكليفي - على نحو أوَّلي - إزاء جميع أفعالي وأنشطتي، بصورة حكم شرعي فقهي من نوع الأحكام الخمسة (الحرمة، الوجوب، الإباحة، الكراهة، الاستحباب)، فأنا إذاً أنتظر من الكتاب والسُّـنَّة حكماً شرعيّاً فقهيّاً أوَّلياً إزاء جميع أفعالي. أنتظر منهما أن يحدِّدا ما أفعله وما لا أفعله؛ والسَّبب في هذه النظرة: إيماني بأنَّ حقيقة الوحي ودوره أن يحدِّدا تكليفي إزاء جميع ما يصدر منِّي من حركات وسكنات.

١٩

إذا كان هذا هو ما ينشده الفقيه من الكتاب والسُّـنَّة، فإنَّ حياة هذا الفقيه ومَن يعمل بنظره (بفتاواه الفقهية)، وكذلك حياة المجتمع الذي يفتي له الفقيه، ستكتسب شكلاً خاصاً. فأفراد مجتمع كهذا عليهم أن لا يحرِّكوا ساكناً، إلاّ إذا جاء فيه موقف من الكتاب والسُّـنَّة بصورة خاصة أو عامة. وإذا اعتقد الفقيه بمثل هذه الرؤية، لا يستطيع أن يُخرج من دائرة الفقه ومجاله قسماً أعظم من فعاليات الإنسان التي ترتبط بالمسار الطبيعي للحياة الإنسانية والتمدُّن البشري، والتي أوكلت بمقتضى كلِّيات الكتاب والسُّـنَّة إلى الإنسان نفسه، وأنيطت بالعلوم والتجربة البشرية؛ ذلك لأنَّ إناطة هذا القسم من النشاط البشري بالبشر يتعارض مع العقيدة - التي ينطوي عليها إيمان الفقيه المفترض - التي تذهب إلى أنَّ وظيفة الوحي هي أن يحدِّد للإنسان جميع سكناته وحركاته ومختلف ضروب نشاطه. إنَّ فقيهاً كهذا عليه أن يضع العلم والتجربة البشرية جانباً، ويتخلَّى عنهما تماماً، حتّى يستطيع أن يتمثَّل إيمانه في حقيقة الوحي (الكتاب والسُّـنَّة) ويبقى وفيَّاً له.

أمَّا النَّوع الثاني من الانتظار والترقُّب لبيان أحكام المكلَّفين من الكتاب والسُّـنَّة، فيأتي في جانب آخر؛ إذ هناك نوع من التفكيك في ذهن الفقيه، بمعنى أنَّه يَعرف - كإنسان حرٍّ ذي فكر - أنَّ هناك مسائل ترتبط تلقائياً بعقل الإنسان وتدخل في نطاق هذه الدائرة، وهناك حيِّز من الحياة ينهض به العقل، وقد أُوكل أمره إلى الإنسان نفسه؛ بحيث لا يكون للوحي دور في هذه المساحة سوى تعيين الأصول الكلِّية، والقيم التي توجِّه الأنشطة البشرية، ومن ثَمَّ فإنَّ دور الوحي - في قناعة فقيه كهذا - لا يمتد ليشمل تعيين وظيفة الإنسان في جميع أنشطته وفعَّالياته.

٢٠

الأجساد بألفي عام(١) . وفيه نظر، لاحتمال أن يكون المراد بالأرواح الملائكة، وبالأجساد العنصريّات. كذا قيل، فليتأمّل.

لا قدمها الذاتيّ الّذي [هو] عبارة عن عدم سبق الغير على موصوفه أصلا ومطلقا، وهو من خواصّ الحقّ تعالى لا يشركه فيه شيء.

ويدلّ عليه أدلّة التوحيد المسلّمة عند المحقّقين.

والقول به تدفعه البراهين الساطعة التي أقاموها على حدوث الأجسام وأعراضها ونفوسها المتعلّقة بها، وعلى أنّه لا قديم بالذات سوى الحقّ تعالى.

فيتّضح من ذلك فساد كلمة النصارى، حيث قالوا بقدم الأقانيم الثلاثة، والثنويّة القائلين بقدم النور والظلمة، والحرنانيّين بقدم الفاعلين الباري والنفس والمنفعل غير الحيّ وهو الهيولى، والدهر والخلأ وهما غير فاعلين ولا منفعلين.

وما ذكرنا من جواز تعدّد القدماء بالقدم الدهريّ هو مذهب أكثر الحكماء، ولا دليل على امتناعه أصلا، والتفصيل مذكور في محلّه ينافي الوجيزة.

وكذا ما اخترناه من ثبوت المعدومات لا ينافي التوحيد على جميع المسالك، لأنّ القديم عندهم ما لا أوّل لوجوده، ولا مدخل للثبوت في ذلك، وقد عرفت الوجه فيما أسلفناه.

وأمّا لو جعلنا «هل» بمعنى «قد» فكذلك لو صرفنا النفي إلى القيد، ولو

__________________

(١) أنظر بصائر الدرجات: ٨٨.

٢١

صرفنا إلى المقيّد فتدلّ الآية على نفي القدم مطلقا، كما هو مسلك بعض المتكلّمين.

بوارق

الاولى: ذكر بعض الحكماء أنّ الشيئيّة إنّما هي من المعقولات الثانية الّتي ليست لها هويّات خارجيّة متأصلة بذاتها، متصوّرة بنفسها، متعقّلة أوّل الأمر، قائمة بموضوعاتها في الخارج بحيث يكون بإزائها شيء، بل هي أمر انتزاعيّ ينتزعها العقل من المهيّة حين وجودها أو ثبوتها، ومثلها الوجود والوحدة والكثرة والعلّيّة والمعلوليّة ونحو ذلك، وذلك واضح.

وبرهانه: أنّ الشيئيّة المطلقة لو كانت متأصّلة لزم أن يكون بإزائها شيء في الخارج وليس، فليس، ويتفرّع على ذلك امتناع ثبوت شيء بلا خصوص المهيّة. والتفصيل يطلب من الحكمة.

الثانية: قال الطبرسيّ رحمه الله: «لم يكن شيئا» جملة في محلّ الرفع، لأنّها صفة «حين»، والتقدير: لم يكن فيه شيئا مذكورا(١) .

أقول: ويحتمل أن يكون في محلّ النصب، لكونها حالا من «الإنسان» والرابطة هي المستتر، وهو الأولى لعدم الحاجة إلى التقدير.

الثالثة: قال بعض العارفين: إنّ الآية الشريفة تدلّ على بطلان القول بالتناسخ الّذي هو عبارة عن وجود شخص مرّة أخرى بعد وجوده في حين آخر، وهكذا لأنّه لو وجد إنسان قبل وجوده الآن لم يصدق أنّه أتى عليه، أي سبق على وجوده ومضى على ما هو إنسان بالقوّة زمان غير معيّن لم يكن فيه

__________________

(١) مجمع البيان، المجلّد ٥: ٦١١.

٢٢

شيئا مذكورا، ضرورة أنّه لو كان موجوداً مرّة أخرى كان شيئا مذكورا في حين.

وعلى بطلان القول بقدم النفوس الناطقة مطلقا دهريّا وذاتيّا، لأنّ الدهر عبارة عن زمان وجود العالم من أوّله إلى آخره، والحين بعضه، فلو كانت النفس قديمة لما صحّ القول بأنّه لقد مضى عليها حين لم يكن شيئا مذكورا.

هذا حاصل كلامه.

الرابعة: من التفسيرات المليحة، تفسير «الإنسان» في الآية بـــ«القائم المهديّ المنتظر» عجّل الله فرجه، والمذكور بالشهود، أي: قد أتى على ابن الحسن العسكريّ عليه السلام زمان لم يكن فيه مشهودا مرئيّا للناس لعدم استعدادهم لرؤيته والفوز بمشاهدته وهو زماننا هذا، زمن الغيبة الطويلة.

فأخبر الله تعالى عن ذلك الزمان بلفظ الماضي، إشارة إلى أنّه يكون لا محالة كما في قوله:( أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) (١) و( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ ) (٢) و( فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً * وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) (٣) .

وأمثال ذلك مطّردة في فصيح الكلمات.

هذا على تفسير «هل» بـــ«قد» وأمّا على تفسيرها بـــ«ما» فالمراد بالآية الإخبار عن لزوم الحجّة القائمة لكلّ أمّة في جميع الأعصار، فما مضت أمّة إلّا وقد أخبر نبيّها بالقائم الهادي المهديّ الّذي يجعل الأديان كلّها دينا واحدا

__________________

(١) النحل: ١.

(٢) القمر: ١.

(٣) النبأ: ١٩ ـ ٢٠.

٢٣

ويحمل الناس كلّهم على عبادة الله مخلصين له الدين، لا يشركون به شيئا.

فمعنى كونه عليه السلام «مذكورا» هو كونه بحيث يذكره كلّ نبيّ من آدم عليه السلام إلى محمّد صلّى الله عليه وآله الناسخ لجميع الأديان، والباقي دينه إلى آخر الزمان وأممهم بالذكر الحسن، وينتظرون فرجه، ويفرحون بمشاهدته، ويعتقدون بمجيئه وتمكنه من الأرض كلّها، وإن طالت المدّة، وعمّت الشدّة، ولا يشكّون في أمره، ولا يضلّون بغيره إلّا شرذمة مبتدعة.

أما طالعت أيّها الطالب، الفصل الثامن والسبعين من كتاب «مار متّى» من تلاميذ يسوع المسيح عليه السلام؟ فإنّه ذكر فيه: أنّ المسيح عليه السلام قال بعد كلام له لـمـّا سأله تلاميذه عن انقضاء الزمان ومجيء ابن الإنسان: الويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيّام، وسيكون ضيق عظيم لم يكن مثله من أوّل العالم حتّى الآن، ولا يكون ولو لا أنّ تلك الأيّام قصرت لم يخلص ذو جسد، لكن لأجل المنتجبين قصرت تلك الأيّام، حينئذ إن قال لكم: إنّ المسيح هنا أو هاهنا فلا تصدّقوا، فإن قالوا لكم: إنّه في البريّة فلا تخرجوا، وكما أنّ البرق يخرج من المشرق فيظهر في المغرب، كذلك يكون مجيء ابن البشر، وللوقت من بعد ضيق تلك الأيّام تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوء، والكواكب تتساقط من السماء، وحينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء، وتنوح حينئذ كلّ قبائل الأرض، وترون ابن الإنسان آئبا على سحاب السماء إلى آخره.

وقريب من ذلك ما في كتاب «مارلوقا» و «مار مرقص» من تلاميذ عيسى عليه السلام.

٢٤

وعنه أيضا قد أخبر الله في «التوراة» وغيرها من الكتب السماويّة، فكان عليه السلام مذكورا في جميع الأعصار في كلّ أمّة إلى ذلك العصر، فإنّه مذكور في لسان أمّة محمّد صلّى الله عليه وآله برفيع الذكر إلى زمان حضوره عليه السلام فيذكر فيه بذكر مناسب لذلك الزمان على التفصيل المذكور في كتب أخبارنا.

ويدلّ على ذلك التفسير، تفسير «الإنسان» في قوله:( الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) (١) بـــ«القائم عليه السلام» أيضا. أي: الله بصفته الرحمانيّة لقد علّم محمّدا القرآن وأمر أمّته بما فيه ظاهرا، وخلق القائم عليه السلام الّذي من نسله وعلّمه بيان حقائق القرآن، وأجاز له الحكم بباطنه في زمانه، كما قال:( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ) (٢) فزمان البيان متأخّر عن زمان القرآن، لمكان «ثمّ» الدالّة على التراخي قطعا.

وقريب من ذلك التفسير، تفسير «الإنسان» بـــ«عليّ عليه السلام» فإنّه كان مذكورا في جميع الأعصار والدهور بنوع من الذكر، وكان مع كلّ نبيّ من آدم إلى محمّد بصور مختلفة، كما قال: نحن نظهر في كلّ زمان على صورة.

ويدلّ على ذلك أيضا ما بيّنه عليه السلام في بعض خطبه المشهورة، كما لا يخفى على من تتبّعها.

__________________

(١) الرحمن: ١ ـ ٤.

(٢) القيامة: ١٧ ـ ١٩.

٢٥

ويدلّ على ذلك التفسير، تفسير «الإنسان» في قوله:( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً ) (١) بـــ«عليّ عليه السلام». أي: حمل «عليّ» الولاية الخاصّة واتّصف بها، وكان مظلوما لتصدّي غيره الغير المستحقّ لبعض خواصّها، مجهول القدر والمقام بين أكثر الناس.

فإنّهم لو كانوا عرفوه بالنورانيّة والروحانيّة لما اختاروا غيره عليه، وما جعلوا غيره متبوعا!

فإنّ مقامه عليه السّلام مقام ساذجيّ لا يدركه ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل، ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان سوى الإجمال منه، كدرك الأدنى مقام الأعلى، وذلك واضح، فمن أدرك مقامه عليه السّلام ورتبته في القرب ولو إجمالا لا يصطفي عليه غيره بحقيقة الإيمان، فإعراضهم عنه عليه السّلام ونصبهم غيره دليل بيّن على أنّهم ما عرفوا نورانيّته فضلّوا ولم يهتدوا سبيلا.

وهذا التفسير أيضا ممّا لم يذكره أحد من المفسّرين، فاغتنم وكن من الشاكرين.

قال الله جلّ برهانه:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) .

أقول: ليس المراد من «الإنسان» في تلك الآية المشيّة التي عبّر عنها بـــ«الإنسان» في الآية المتقدّمة، لأنّها كما عرفت ما خلقت من النطفة، بل

__________________

(١) الأحزاب: ٧٢.

٢٦

خلقها الله من نفسها، وخلق الأشياء كلّها منها وبها، وهي بأجمعها راجعة إليها، ساجدة لها، متحيّرة فيها، مقبلة عليها، فهي الحاكمة على الكلّ في الكلّ، والمشهودة في الكلّ للكلّ، والمحيطة بالكلّ، والسارية في الكلّ.

فالكلّ بوجودها قائمون، وفي اكتناه مقامها متحيّرون، فهي العلّة الثانويّة لوجود كلّ شيء، والمبدأ لخلق كلّ شيء، كما قال:( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) (١) .

وقال عليه السّلام: إنّ الله خلق الأشياء بالمشيّة(٢) .

ولعلّ هذا هو السرّ في تكرار لفظ «الإنسان» مع أنّ المقام مقام الإضمار، كما لا يخفى.

نعم يحتمل كونها مرادة منه في تلك الآية أيضا بملاحظة أنّه تعالى أراد أن يخبر عن الخلق الجديد الثانويّ للمشيّة، وهو إبرازها في الهيكل الناسوتيّ العنصريّ الجسمانيّ، أي لقد أتى على المشيّة حين من الدهر كانت روحانيّة ساذجيّة غير مكبولة بالجسد العنصريّ، ثمّ ألبسناها لباس العنصريّات، وخلقناها من النطفة، وهي ماء الرجل والمرأة.

وأكثر المفسّرين لقد فسّروا «الإنسان» بولد آدم عليه السّلام خاصّة نظرا إلى أنّهم خلقوا من النطفة الكذائيّة دون آدم عليه السّلام، فإنّه خلق من صلصال من طين على التفصيل المسطور في كتب الأخبار.

وبعضهم بجميع أفراد البشر، فيشمل آدم عليه السّلام أيضا نظرا إلى أنّ

__________________

(١) النساء: ١، الأعراف: ١٨٩، الزمر: ٦.

(٢) الكافي ١: ١١٠.

٢٧

باب التغليب واسع، ولا يخفى أنّه لا حاجة إلى ذلك الاعتذار لو فسّرت النطفة بالمادّة منيّا كانت أو غيرها، وسيأتي إلى ذلك الإشارة إن شاء الله.

بوارق

الاولى: في نسبته تعالى خلق الإنسان إلى نفسه إشارة إلى ما هو المقرّر في مقامه، من أنّ الممكن الحادث محتاج إلى المؤثّر القديم، فلا يمكن له الوجود بنفسه من غير تأثير المؤثّر الواجب.

وادّعى جماعة من الحكماء على ذلك أنّه ضروريّ أوّليّ، فإنّ العقل بعد تصوّر الممكن من حيث يتساوى طرفاه بالنظر إلى ذاته، وتصوّر المؤثّر المرجّح لأحد الطرفين على الآخر يجزم بأنّ الممكن محتاج في حصول الوجود أو العدم إلى المرجّح ويحكم ببداهة ذلك.

وبعضهم جعلوا بطلان وجود الممكن بنفسه من غير حاجة إلى العلّة القديمة نظريّا، واستدلّوا عليه بوجوه كثيرة لا يخلو بعضها عن وهن.

منها: أنّ مهيّة الممكن تقتضي تساوي الطرفين، ووقوع أحدهما بلا مرجّح مستلزم لرجحانه، وهو مناف للفرض.

ومنها: أنّ الواجب ما كان بذاته منشأ لانتزاع الوجود من غير حاجة إلى العلّة، والممتنع ما كان ذاته منشأ لانتزاع العدم من غير حاجة إلى شيء آخر، والممكن ما ليس ذاته منشأ لانتزاع شيء من الوجود والعدم، بل طريان كلّ منهما له محتاج إلى ضمّ علّة، فلو كان ذاته بذاته منشأ لانتزاع الوجود من غير حاجة إلى ضمّ علّة لزم كونه واجبا، فإنّ المستغني بنفس ذاته عن العلّة مطلقا هو الواجب القديم الّذي يعبّر عنه المشّائيّون بالوجود الحقيقيّ.

٢٨

والإشراقيّون بالنور العينيّ.

والمتألّهون بمنشأ انتزاع الموجوديّة.

والصوفيّة بمرتبة الأحديّة وحضرة الجمعيّة وعين الكافور والوحدة الحقيقيّة وغير ذلك، واللازم باطل، فلا بدّ من كونه مفتقرا إلى علّة، وهو المطلوب.

ومنها: أنّ الممكن ما لم يترجّح لم يوجد، لأنّ ذلك هو قضيّة الإمكان، وذلك الترجّح أمر حادث لم يكن فيكون وجوديّا، فلا بدّ له من محلّ، وليس هو الأثر لتأخّره عن الترجّح، فيكون هو المؤثّر، وهو المطلوب.

ولهم أدلّة أخرى مذكورة في الكتب المبسوطة في الحكمة.

ويدلّ على ذلك أيضا بعض ما دلّ على وجوب وجود صانع حكيم، كدليل الدور ونحوه. ولسنا نحن بصدد التفصيل.

ثمّ هل الممكن كما يحتاج في وجوده إلى العلّة يحتاج في بقائه إليها أم لا، مسألة خلافيّة متفرّعة على أنّ علّة احتياج الممكنات إلى المؤثّر هل هي الإمكان أو الحدوث، فمن قال بالأوّل ـ كما هو المشهور ـ قال بالأوّل، ومن قال بالثاني قال بالثاني، إذ لا حدوث حال البقاء فلا احتياج.

دليل المشهور: أنّ العقل حاكم بأنّ الممكن ما يتساوى وجوده وعدمه، وما كان كذلك فهو محتاج إلى المرجّح المغاير حتى يرجّح أحد الطرفين، فيعلم منه أنّ علّة الحاجة في الواقع هي الإمكان، حيث رتّب العقل الاحتياج على تساوي الوجود والعدم، وأنّه قد يتصوّر الممكن ولا يحصل العلم باحتياجه إلى المؤثّر ما لم يلاحظ إمكانه حتّى لو فرض حادث واجب بالذات يحكم باستغنائه عن المؤثّر.

٢٩

وبعد ثبوت أنّ علّة الحاجة هي الإمكان يتّضح القول بأنّ الممكن الباقي حال بقائه محتاج إلى المؤثّر، فإنّ الإمكان لازم لمهيّة الممكن غير منفكّ عنها حال البقاء أيضا، فإنّ الممكن إنّما يصير ممكنا بوصف الإمكان بالضرورة، فمتى تحقّق العلّة وهي الإمكان يتحقّق المعلول وهو الحاجة بالبديهة، ضرورة وجوب تحقّق المعلول بتحقّق علّته التامّة. وذلك واضح.

واستدلّ الآخرون بأنّ تأثير المؤثّر في الباقي محال، لأنّه إن أفاد الوجود الّذي كان حاصلا يلزم تحصيل الحاصل، وإن أفاد أمرا متجدّدا لم يكن التأثير في الباقي، بل في ذلك الأمر المتجدّد، وبأنّ البناء كما يبقى بعد فناء البنّاء، كذلك يجوز أن يبقى الممكن من غير احتياج إلى المؤثّر.

وأجيب عن الأوّل بأنّ المؤثّر يؤثّر في استمرار الوجود وبقائه، فإنّ الحاصل بالحدوث ليس إلّا الوجود في زمانه، وحصول شيء في زمان لا يوجب حصول استمراره وبقائه، فإبقاء الوجود وإدامته من المؤثّر وهو غير حصول نفس الوجود.

وعن الثاني بأنّ الكلام في العلّة الموجدة وليس البنّاء موجدا للنباء، وإنّما هو علّة لحركات الآلات، وتلك الحركات علل عرضيّة معدّة لأوضاع مخصوصة بين تلك الآلات، وتلك الأوضاع مفاضة من علل فاعليّة غير تلك الحركات المستندة إلى حركة يد البنّاء.

ويتّضح من ذلك كلّه أنّ الغنيّ المطلق عن كلّ شيء هو الذات الأحديّة، فإنّها في مقامها الجليل ورتبتها الجليلة غير مفتقرة إلى شيء في الذاتيّة والوجود والبقاء التي هي شيء واحد بحقيقة الواحديّة في عالم الحقّ، لأنّ

٣٠

ذلك من لوازم العينيّة المسلّمة، وأنّ غيرها من الأشياء الممكنة محدثة بأمرها، موجودة بإفاضة الوجود منها إليها لها، باقية بإدامة رحمتها بها بحيث لو كان فيض الحقّ منقطعا عنها في أوّل الأمر لما كانت شيئا مذكورا.

وكذا لو انقطع الفيض الآن لما يبقى شيء. ونعم ما قيل: إنّ الممكن بالنسبة إلى فيض الحقّ كالمستضيء في مقابلة الشمس إذا حجب عنها زال ضوؤه وصار مظلما.

الثانية: في تعليق «الخلق» على «الإنسان» وإيقاعه عليه إشعار بأنّ المهيّات غير مجعولات بجعل الجاعل، كما هو مذهب بعض الحكماء.

والدليل على ذلك الإشعار أنّ تعليق أمر على الشيء فرع ثبوت ذلك الشيء، فقوله( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) (١) معناه إنّا أوجدنا مهيّة الإنسان الثابتة، وألبسناها لباس الوجود، وأصبغناها بذلك الصبغ، كما يفعل الصبّاغ بالثوب، فالمهيّة شيء ثابت أزلا، والوجود شيء آخر يعرضها عروض الوصف بالموصوف.

كذا قد يخطر بالبال، وللمناقشة فيه مجال، لأنّ تعليق الأمر على شيء يتصوّر على وجهين :

الأوّل: أن يكون ذلك الأمر من الأوصاف الصرفة التي ينفكّ عن الموصوف المتصوّر، كزينة البيت، وصبغ الثوب، ونحو ذلك.

والثاني: أن يكون من الأوصاف اللازمة المقارنة التي هي في نفس الأمر مقدّمات وشرائط للشيء، كبناء البيت، ونسج الثوب.

__________________

(١) الإنسان: ٢.

٣١

ولا يخفى أنّ الأمر المعلّق إذا كان من الأوّل يجب ثبوت المعلّق عليه قبل التعليق، ولا يستلزم المقارنة، فإنّك إذا قلت: صبغت الثوب، يفهم منه ثبوت الثوب أوّلا حتّى يصبغ، وإذا كان من الثاني فلا يستلزم الثبوت السابق، بل التعليق يدلّ على المقارنة، فإنّك إذا قلت: بنيت البيت، يفهم منه أنّ ثبوت البيت قارن بناءه، وذلك واضح.

ولعلّ «الخلق» من ذلك القبيل، أي أوجدنا الإنسان وجعلنا مهيّته مهيّة مقارنة لوجوده، بمعنى أنّا جعلنا المهيّة المعقولة موجودة في الخارج بالجعل البسيط الّذي [هو] عبارة عن موجوديّة المهيّة في الخارج من غير أن تكون شيئا ثابتا في نفسها قبل ذلك، فيصبغها الجاعل بصبغ الوجود، كفعل الصبّاغ.

والحاصل أنّ فعل الحقّ للمهيّة وجعله لها هو بعينه إيجادها في الخارج، واتّصافها بالوجود مقارن لثبوتها، بل لا تمايز بينهما في الخارج حينئذ أصلا.

نعم يحصل التمايز بالتحليل العقليّ، وهما في غير خزينة العقل شيء واحد ثابتان في آن واحد، ألا ترى أنّ المتحرّك إذا تحرّك لا يجعل الحركة ولا شيئا آخر حركة، بل يفعل الحركة، وبمجرّد فعله لها تصير موجودة.

وكذا الخطّاط إذا خطّ لا يجعل الخطّ ولا شيئا آخر خطّا، بل يفعل الخطّ، وبمجرد فعله يصير موجودا في الخارج.

وهكذا، لا الجعل المركّب الّذي [هو] عبارة عن جعل الماهيّة إيّاها أوّلا، ثمّ إطراء الوجود عليها بحيث يكون كلّ منهما متميّزا عن الآخر، فإنّ

٣٢

ذلك باطل للزوم الجبر المنفيّ عقلا وشرعا، ولاستلزام وقوع الشكّ في كونها مهيّة عند الشكّ في وجود المؤثّر الجاعل. وهو باطل، فتأمّل.

وهنا مسلك آخر لبعض الحكماء، وهو أنّ الماهيّات قديمة أزليّة ثابتة بنفسها من نفسها غير مجعولة بجعل الجاعل، ولا تأثير للباري فيها لأزليّتها، وإنّما الباري خلعها خلعة الوجود، وصبغها بصبغ الوجود، كما قال:( صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ) (١) فزمان الإيجاد غير زمان الثبوت متأخّر عنه، كيف وهي الحقائق الأزليّة الّتي أشار إليها عليّ عليه السلام في دعاء «سهم الليل» حيث قال: أللّهمّ إنّي أسألك بالحقائق الأزليّة(٢) إلى آخره، فتأمّل.

فقوله:( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) معناه: إنّا أبدعنا وجوده وأثّرنا فيه لا في مهيّته، والقول بأنّ الوجود أمر اعتباريّ لا يصلح، لكونه أثرا للمؤثّر ممّا لا نفهمه.

والحاصل أنّه تعالى لقد أشار في تلك الآية إلى تأثيره الاختراعيّ بالنسبة إلى الوجود خاصّة، وهو التأثير الإبداعيّ على هذا المسلك، لا بالنسبة إلى المهيّة لأزليّتها، وبعض الحكماء يطلقون التأثير الاختراعيّ على إفاضة الأثر على قابل كالصور والأعراض على المادّة القابلة، والإبداعيّ على إيجاد الأليس عن الليس المطلق.

الثالثة: قال بعض العارفين: إنّ التقديم مع التأكيد والتقرير في قوله: ( إِنَّا

__________________

(١) البقرة: ١٣٨.

(٢) انظر: البلد الأمين: ٣٤٩، مصباح الكفعميّ: ٢٦٥.

٣٣

خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ) مفيد للحصر، وفيه إشارة إلى دفع ما يتوهّم من إسناد التصوير إلى المصوّرة، فإنّ الفطرة السليمة تشهد بأنّ المصوّرة مركّبة كانت أو بسيطة لا تمكّن لها من هذا التصوير العجيب والتشكيل البديع الغريب، فإنّ البنيّة البهيّة الإنسيّة خلقت بوجه يترتّب عليها بأجزائها منافع شتّى.

وقد أشار الحكماء إلى خمسة آلاف منها، وقالوا: إنّ الحدس الصائب يحكم بأنّ الّذي لم يدرك من منافعها أكثر بكثير ممّا أدرك.

قال جالينوس في آخر كتابه لشرح منافع الأعضاء: إنّي بعد ما عرفت هذه المنافع تنبّهت بأنّ خلق الإنسان وأعضائه ليس باتّفاق، بل روعي فيه تلك المنافع ومصالح أخرى ليس إلّا فعل حكيم خبير قدير. انتهى.

ثمّ إنّ الغزاليّ أسند أفعال المصوّرة، بل أفعال القوى كلّها إلى الملائكة، وإنّي أستفيد من هذه الآية وغيرها ردّ هذا أيضا، فإنّ من تفطّن بها تأكيدا وحصرا وعرف أنّ الإنسان في العلم والعرفان أكثر من الملك بكثير، ونبّه بأنّ الخالق الفاعل لهذا التصوير عليم بالمنافع خبير حكيم، علم أنّه ليس ذلك إلّا فعل فاعل الكلّ ومصوّره، وأنا أرى أنّه كما يستفاد من إتقان العقل وأحكامه علم العقل كما قرّروه واستدلّوا به على علمه تعالى، كذلك يستفيد اللبيب البصير الخبير من حال إتقان المصنوع كيفيّة وكمّيّة علم الصانع، بل كثيرا من صفاته. انتهى ملخّص كلامه.

وحاصله يرجع إلى ما قرّرناه من افتقار الممكن إلى المؤثّر الواجب، ومن أنّ الممكن لا يجوز أن يصير منشأ لوجود نفسه، فلا يمكن أن يصير منشأ لوجود غيره إلّا بالتوسيط، ومن أنّ فاقد الشيء لا يصلح لأن يكون موجدا له، كما قيل:

٣٤

ذات نايافته از هستى بخش

كى تواند كه شود هستى بخش

ولكن ما استفاده من بطلان التفويض والتوسيط فغير مستفاد، لأنّ الشيء كثيرا ما يستند إلى العلّة التامّة، فيقال: أثمر الله، وأنبت الله.

ولا ريب في أنّ الله هو العلّة لجميع العلل، فكيف ينكر عليه في نسبته الخلق إلى ذاته خاصّة مع الحصر، كيف ونسبة الشيء إلى غير العلّة التامّة من العلل المعدّة مجازيّة، يقال: أثمر الشجر، وأنبتت الأرض، وإن صحّت تلك النسبة أيضا.

ألا ترى إلى قوله تعالى:( وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ) (١) وقوله:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) (٢) كيف نسب التوفّي تارة إلى نفسه، وتارة إلى الملك.

ولا ريب أنّ الأوّل حقيقيّ، كما قال:( هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ) (٣) وإن كان بواسطة الغير.

ألا ترى أنّ الأشياء كلّها خلقت من المشيّة مع أنّه ينسب الخلق إلى الحقّ، كما قال:( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (٤) وربّما ينسب إلى المشيّة، نظرا إلى كونها واسطة، كما قال عليه السلام: أنا خالق السماوات والأرض بإذن ربّي.

وذلك واضح، فليس في الآية دلالة على أنّ الله خلق الإنسان بمباشرة ذاته من غير أن يفوّض إفاضة الوجود إليه إلى غير، وإن كان القول بالتفويض

__________________

(١) النحل: ٧٠.

(٢) السجدة: ١١.

(٣) غافر: ٦٨.

(٤) الزمر: ٦٢.

٣٥

بذلك المعنى باطلا بدليل آخر، وهنا أبحاث كثيرة لا يسعها المقام، ولا يتحمّلها أكثر الأنام.

الرابعة: يحتمل أن يكون المراد من النطفة ما هو المنشأ للوجود وهو المشيّة الأزليّة الّتي هي العلّة لوجود الأشياء الممكنة كما عرفت، وتخصيص الإنسان بالذكر لأنّ له من المقام والشرف ما ليس لغيره من الأشياء الّتي خلقت من المشيّة وبها.

وفي توصيف النطفة بالأمشاج الّتي هي الأطوار المختلفة إشارة إلى تطوّرات المشيّة وتحوّلاتها وترقّياتها وتعرّجاتها في حدّ ذاتها، فإنّها لا تزال يفيض الحقّ إليها في جميع الأحوال والأعصار بحسب ما يعلمه من المصلحة والقوّة.

ألا ترى أنّ للنطفة تحوّلات وتنقّلات بحسب الاستعداد. وإن فسّرنا «الإنسان» بمحمّد صلّى الله عليه وآله حينئذ، ففيه إشارة إلى مبادئ حاله صلّى الله عليه وآله ونهاية مآله.

أي لقد ترقّينا بمقام محمّد، بأن جعلناه إنسانا كاملا في الأنس بالحقّ، والفوز بنور الصدق بحيث لا مقام أعلى من مقامه، ولا معراج أرفع من معراجه، بعد ما كان في أوّل الأمر غير كامل واقعا موقع النطفة المستعدّة لتلك المرتبة، وذلك في زمان تشكّله بشكل آدم عليه السّلام، فإنّه في تلك الصورة له مقام النطفة. وهكذا إلى أن برز في هيكله الشريف الّذي كان عليه في زمانه بعد وساطة سائر المراتب كمرتبة نوح وإبراهيم وعيسى وموسى عليهم السّلام.

٣٦

ولقد أشار إلى تلك المراتب والتحوّلات بقوله:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (١) ويناسب ذلك التفريع في قوله:( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) أي جعلنا محمّدا في ذلك الهيكل الشريف والمقام المنيف، سميعا لكلماتنا المنزّلة، قابلا للحقائق الّتي ما اطلعنا على علمها أحدا من العالمين، بصيرا بآياتنا الجماليّة والجلاليّة، والبوارق الجذبيّة، والبارقات الكشفيّة الّتي لا يستطيع لها مادّة سوى مادّته الشريفة الّتي استعدّت من الأزل.

وهنا مطالب مكنونة لم يعثر عليها سوى العارفين، ولسنا نذكرها لما فيه من مظنّة ضلالة الغافلين.

وقيل: «النطفة» هي ماء الرجل الخارج من الصلب، وماء المرأة الخارج من الترائب، فما كان من عظم وعصب وقوّة فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم فمن المرأة.

وعن بعض الحكماء أنّ المراد بها العناصر المعروفة، أي ركّبنا الإنسان من تلك العناصر على التفصيل المقرّر في مقامه.

و «الأمشاج» إمّا جمع لمشج ومشيج، كالخلط والخليط، والجمع أخلاط، وإمّا مفرد بمعنى المشيج، فيستقيم التوصيف، كما في الثوب الأكياس، أي نطفة مختلطة من الماءين.

وقيل: أي نطفة أطوار متغيّرة من حال إلى حال، طورا علقة، وطورا

__________________

(١) المؤمنون: ١٢ ـ ١٤.

٣٧

مضغة، وطورا عظاما، إلى أن صار إنسانا.

وقيل: مختلفة اللون، فإنّ نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة خضراء وصفراء.

وقيل: أي نطفة مشجت بدم الحيض، فإذا حبلت ارتفع الحيض. والكلّ محتمل.

الخامسة: قال الطبرسيّ رحمه الله: «نبتليه» في موضع نصب على الحال(١) . انتهى.

أقول: هذا على المذهب المشهور متعيّن، وأمّا على مذهب من أجاز تقديم الوصف على الموصوف سيّما في مقام يراعى فيه السجع فالتعيين لا دليل عليه، فيحتمل كونه في موضع النصب على الوصفيّة لقوله:( سَمِيعاً بَصِيراً ) بل هو الأقوم لأنّه لا وجه للابتلاء قبل جعله سميعا بصيرا، إذ المراد به هو الاختبار بالتكليف ليظهر حاله من السعادة والشقاوة إلّا على تفسير «الإنسان» بمحمّد صلّى الله عليه وآله والنطفة الأمشاج بمراتب المشيّة، فإنّه صلّى الله عليه وآله لقد اختبر بالتكاليف في تلك المراتب السابقة بحسبها، وفي المرتبة الأخيرة الّتي هي نهاية المراتب بحسبها.

والإخبار عن جعله سميعا بصيرا بحسب تلك الرتبة لا ينفي كونه سميعا بصيرا في غيرها من المراتب بحسبها، فإنّ للإنسان الواحد تكاليف مختلفة في الأزمنة المختلفة. وذلك واضح.

والتكاليف الّتي اختبر الله بها محمّدا إمّا تعمّ التكاليف الّتي كلّف بها

__________________

(١) مجمع البيان، المجلّد ٥: ٦١١.

٣٨

لأجل نفسه من الطاعات والرياضات وما كلّف به لأجل الخلق كالدعوة إلى الإيمان والأمر بالعمل بما في القرآن، كما قال( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) (١) .

ولقد كان محمّد عبده الخاصّ ورسوله الّذي اصطفاه واختبره بجميع أنواع الاختبارات، فوجده قويّا لحمل التكاليف، جليدا في طاعة الخالق، صابرا على كلّ ما يصيبه في سبيل المرضاة، راضيا بجميع ما جرى عليه، كما قال:( إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) فأعطاه من الشرف والمقام ما لم يعط أحدا من العالمين، حيث قال( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً ) (٣) أي للكلمات الإلهيّة، والتغنّيات اللاهوتيّة، والترنّيات الهاهوتيّة، والتفرّدات الملكوتيّة الإنسيّة( بَصِيراً ) أي بمشاهدة الأنوار القدسيّة، والشعاشع الجذبانيّة، واللوامع الربّانيّة.

ثمّ لا يخفى أنّ الابتلاء في ذلك الكلام وغيره ممّا نطق به القرآن ليس على حقيقته، إذ حقيقة الابتلاء هو طلب الاطّلاع على المجهول، ولا يتصوّر جهل على الحقّ الموصوف بجميع صفات الكمال على أكمل الاتّصاف.

كيف ولا يعزب عن علمه شيء، وهو بكلّ شيء عليم.

كيف وهو العالم بما كان قبل أن يكون، والمطّلع على أحوال كلّ شيء قبل خلق كلّ شيء، فلا شيء إلّا وهو العالم به قبل وجوده، والمطّلع على جميع أحواله قبل شهوده، ولا تغيير في علمه أصلا.

__________________

(١) المائدة: ٦٧.

(٢) القلم: ٤.

(٣) الإنسان: ٢.

٣٩

كيف ويعلم بكلّ شيء قبل خلقه كما يعلم به بعد خلقه، وذلك من الواضحات الّتي قد برهنّا عليها في بعض فوائدنا الشريفة.

بل المراد منه إتمام الحجّة على الخلق، وإعلامهم بما هم عليه من السعادة والشقاوة، فإنّ السعيد هو المفطور على السعادة في بطن أمّه، أي في قابليّته الأزليّة، وكذلك الشقيّ مذوّت على الشقاوة من أوّل الأمر، ولكن لـمـّا كان الفريقان لم يعلما بما هم عليه أوجدهم الله وابتلاهم بالتكاليف، وأرسل إليهم النبيّين مبشّرين ومنذرين ليطّلعوا على أحوالهم، ولئلّا يكون لهم على الله حجّة يوم القيامة، الّذي هو يوم بروز حقائق كلّ شيء بما هي عليه، وهو اليوم المشهود فيه خفايا ذوات كلّ شيء، كما قال:( ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) (١) وقال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) (٢) وهنا أبحاث كثيرة لا يفهمها كثير من الأنام.

هذا على المذهب المختار، وأمّا على مذهب من زعم أنّ الله تعالى لا يعلم بالشيء إلّا بعد حصوله في الخارج، ولا يلمع نور علمه على الشيء إلّا بعد البروز، كما لا ينوّر الشمس مكانا إلّا بعد رفع الحاجب المانع عن الاستضاءة والاستنارة، فالابتلاء على حقيقته، فإنّه تعالى على ذلك يريد أن يطّلع على ما لم يحط به علمه.

ولا يخفى سخافة ذلك المذهب، كما فصّلنا وجهها في بعض تحقيقاتنا.

السادسة: قد استفاد بعض العارفين من قوله: ( فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ) أنّ الإنسان بمزاجه في تركيبه استعدّ لهذه القوى، فإنّ في «الفاء» المفيدة

__________________

(١) هود: ١٠٣.

(٢) الطارق: ٩.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177