الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ٢

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة33%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 177

  • البداية
  • السابق
  • 177 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22743 / تحميل: 7455
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء الثاني

معهد الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العالي للشريعة

١

مقتضيات المشاركة الحضارية للاجتهاد الفقهي

مقدِّمة

ما يحفِّز الباحثين وبعض مؤسَّسات الدِّراسات الدينية ودوائرها - وبخاصة في حقل العلوم الشِّرعية - إلى تقديم مشاريع إحيائية في ممارسة العمل الاجتهادي؛ ليس إلاّ شعورهم بأنَّ الوضعية الاجتهادية الحاضرة غير مستوعبة لمستجدَّات الحياة ومتطلَّبات العصر، وغير جاهزة للخوض في عمليَّة تنظيرية تخلق مناخاً نظرياً متلائماً مع حقيقة الحضارة الإسلامية.

عرفت الآونة الأخيرة صرخات عالية تدعو إلى ضرورة استئناف جهود جادة للانطلاق باتجاه التجديد والإحياء في الفقه والاجتهاد، من خلال ممارسة إعادة النظر في قواعد العمل الاجتهادي وضوابطه؛ لأجل تمكينه من القيام بالدور اللاّزم في التنظير الفقهي الشامل والمنسجم مع وظائف الفكر الديني، ومهمَّاته تجاه الإنسان والحياة.

إنَّنا، وفي الوقت الذي نتَّفق فيه مع دعاة الإصلاح والتجديد على أنَّ الحاجة ماسَّة، أكثر من أي وقت آخر، للحديث عن إحياء الفقه والاجتهاد الفقهي وتحديثهما، وهو ما سنتحدَّث عنه لاحقاً، سنبرهن على أنَّ سياسة الهدم والتدمير، قبل تحضير البديل وتأهيله، سوف تسفر حتماً عن كوارث كبيرة على التُّراث الإسلامي، وعلى أصالة الاجتهاد الفقهي وعمقه. نرى هذا في الوقت الذي نؤكِّد فيه: أنَّ الفقه الإسلامي في واقعه الراهن، غير جاهز للمواكبة والتصدِّي الحقيقي، بخاصة على صعيد التنظير وصياغة حلول فكرية تدعم مصداقية الحديث المتواصل عن الطاقات و(الظرفيَّات) الكبيرة للفقه الديني؛ الأمر الذي يدعونا جميعاً إلى استنفار الطاقات والإمكانيات العلمية والمنهجية الهائلة، للخروج بفقه يؤسِّس لتدبير الحياة، والإدارة الدينية لإنسان هذا العصر، ولمجتمعنا المعاصر، بكل ما تحتويه خصوصية هذا العصر الحاضر، وما تواجهه الأمة، ونظرية الدين المتكامل، من تحدِّياتٍ علمية، ونظرياتٍ هائلة، ترمي إلى النيل من مبدأ قدرة الدين على تلبية حاجات الإنسان والمجتمع، مهما تطوَّرا وتقدَّما.

٢

وما يُنجز عملياً، بين فنية وأخرى، من مواجهة لهذه التحديات النظرية بوصفها(شُبهات دينية) ، أو(محاولات للنَّيل من قداسة الدين) ، وتوظيف هذه القداسة لأجل إطلاق الأحكام المُدِينة والمستهجنة، لا يجدي جدوى الخوض الفكري والعلمي المُمنهَج في المواجهة، والمتمثِّل في تطوير عملية الاجتهاد، وتمكين العقل الاجتهادي من التواجد الكثيف في مختلف مساحات الحياة، من دون دعوة الأمة إلى أن تنزوي وتتقوقع وتتجنَّب خوض معارك يفرضها التطوُّر الحياتي.

وتتمثَّل وظيفة الفقه والاجتهاد في إرساء إطاراتٍ معرفيةٍ شاملة، ونظرياتٍ ومناهجٍ دقيقة ومواكِبة للحياة المعاصرة، وذلك كلّه في ظلّ الالتزام الكامل والدقيق بمؤدَّيات النُّصوص الدينية والسنة الشريفة، مدعومة بصيغ عقلية في منطقة خلت من تناول نصِّي تفصيلي.

أمَّا الحديث عن إمكانية وقوع العقل في شرك الخطأ عند الاعتماد عليه؛ بغية تجاهله وتجاهل دوره الكبير في صياغة الإسهام الحضاري الإسلامي، فلا يتجاوز مشكلة فقدان الوعي الكافي لإدراك: أنَّ الاجتهاد الديني لا معنى له من دون الاتكال على العقل، في ما رُسِم له من دور وموقع من قبل الشارع المقدَّس، وفي منطقة تحرُّكه، وذلك بعد تحديد مساحات هذه المنطقة، وتأطير دوره المعترف به شرعاً ضمن النقاش في منظومة (مصادر المعرفة)، ومنابع الاستنباط الشرعي.

إنّ أي عمل على إسقاط جدوى العقل الإنساني - المدعو في النص الشرعي المعتبر: حجةَّ الله الباطنة - في تحمُّله لدوره الذي يستحقه، سينتهي في النهاية إلى استمرار العجز التنظيري في الإسهام الحضاري، وبقاء الإخفاق في صياغة مناهج وأنظمة كفوءة في ساحات الاقتصاد والسياسة، وما إلى ذلك من مفاصل الحضارة المعاصرة. هذا، وإنَّ إلغاء الإنسانِ العاقلَ من طريق الاجتهاد الديني؛ تحت ذريعة أنَّّ النَّص الديني يغنينا عن ذلك، يتنافى مع أوَّليَّات الفهم الصحيح لمدلول الوحي، وما احتل العقل فيه من هامش كبير وموقع متميِّز يمكِّننا في ظله استنطاق النَّص، المتمثِّّل في الوحي والحديث الشريف، والاستنباط منه.

٣

ومن جهة أخرى، فإنَّّ إدراك الوقائع والأحداث في الإطار الزماني والمكاني، ووعي طبيعة هذا الإدراك وديناميكيَّته، سيؤثِّران في عمق عملية الاجتهاد، ويدعوان إلى إعادة النظر في تثمين انجرار تفاصيل مقتضيات الزمن الماضي إلى العصر الراهن، وفي المحاولة الخاطئة لإسقاط ما للثوابت الدِّينية من قيمة لا زمانية على المتغيرات، الّتي لا بدّ من القيام بأقلمة الأحكام في ظلّها تارة، وعصرنتها تارة أخرى. ومعلوم أنَّ خلط الثابت والمتغيِّر في جسم الفقه، وعدم العمل على وضع حدود واضحة لهما، من شأنه أن يجلب نتيجة مأساوية علينا، سواء أكان من جرَّاء عرض إجابات الماضي، وتقديم بدائل منصرمة إلى الاقتضاء الحاضر؛ ما يؤدِّي إلى صمت فقهي يخصِّب المجال لاعتبار الدين عاجزاً عن المواكبة والمعاصرة، وهذا في حال عدم الاعتراف بوجود المتغيِّرات، ومحاولة توسيع نطاق الثوابت إلى أبعد ممَّا هو مرسوم لها في الشريعة؛ أم من جرَّاء تمييع الثوابت الدينية، واعتبار الدين ظاهرة زمنية بلا ثوابت، يخضع لمصلحة الإنسان ورؤيته العصرية، ويحق له أن يُغيِّر منه ما يشاء، ويُثبت منه ما يشاء؛ جلباً للمصلحة وتدبيراً للحياة، عِبْرَ تجاهل القواعد الثابتة، وتخطِّي أسس الدِّين السَّماوية المُوحى بها.

إذاً إنَّ قسطاً كبيراً، وحيِّزاً واسعاً، من مشروع عملية التحديث الفقهي، لا بدَّ من أن يختصَّا بالعمل على إيضاح ملابسات الثابت والمتغيِّر وإشكاليَّاتهما؛ لأنَّ الأمر يمثِّل عصب الحياة للاجتهاد المعاصر، وذلك تفادياً للوقوع في مشكلة كبيرة لها طرفان أسلفنا الحديث عنهما باختصار قبل قليل.

٤

ولعلَّ انعدام الوعي الكافي، في المؤسسات المعنيَّة بالدراسة الفقهية والاجتهاد الشرعي، لمهمَّات الدين الإسلامي الواسعة؛ هو ما سبَّب خلط أولويَّات المرجعيَّات الشرعية في المعالجات الفقهية، الأمر الذي جعل جلَّ اهتمامات هذه الفعاليَّات الفقهية، المتمثِّلة بالدروس العالية والبحوث التخصُّصية، ينصب في حقل العبادات، دون الحقول التي تتحرَّك وتتطوَّر وتتطلَّب بذل جهد أقصى وأكبر من قِبَل المجتهدين قبل أيِّ حقل آخر. وما نتج عن ذلك هو عجز هذه القواعد عن بناء شخصية فقهية تخوض الحياة العلمية لتقدِّم وتعطي لواقعها حلاًّ دينياً يوفِّر للإنسان والمجتمع قِيَماً فيها صلاح الدنيا والآخرة، من دون أن يأتي ذلك لحساب أحدهما على الآخر، ونحن مع اعتبار الأصالة والأولوية للأخير في حال حتمية استحالة الجمع، مع أنَّ نشوء ثنائية كهذه، واعتبار فاصلة بينهما، لا أصل له في مداليل النص الشرعي. ولعلّ التفاوت في المرتبة بين المقولتين قد أسَّس لتجاهل الحياة، وبنى لتربية خاطئة للعقل الإسلامي والشخصية المسلمة في ما يتصل بفهم حقيقة الدنيا وعلاقتها بالآخرة؛ ما أدّى إلى حرمان المسلم المعاصر وإفقاره من إمكانيات مادية توفِّر له الأمن والهدوء وكرامة الحياة، بعيداً عن وطأة الصِّعاب وضغوط الذلَّة.

وقد أسهم ذلك كله مباشرةً في إهمال كثير من التعاليم الدينية الراقية إلى تحسين الحياة، وساعد على حدوث تأخُّرٍ وتخلُّفٍ لا يسعنا إنكارهم، وعزَّز سلطان أعدائنا علينا. ولا يخفى أنَّ غياب الفقه المعاصر عن وسط الحياة السياسية والاجتماعية، تنظيراً ومعالجةً وتقديماً لبدائل، أسهم في خلق المناخ الراهن.

بغية إدراك وجه القصور في حركة الاجتهاد، لا يمكن تغييب عنصر آخر؛ وهو التأثُّر السياسي الكبير، في الوسط الاجتهادي، بالأنظمة السياسية في مراحل تاريخية طويلة؛ ما أسهم في انغلاق أبواب الاجتهاد بين المذاهب الإسلامية، وعدم إتاحة الفرصة للتعامل الفقهي والحوار الإسلامي الشامل، بغية الوصول إلى منظومة فقهية اجتهادية تسترفد من مائدة إسلامية واحدة، لتحويل الهمِّ المذهبي إلى همِّ الأمّة، وإلى مطالب مشروع الحضارة الإسلامية العالمية.

٥

ومن جهة أخرى، من الضّروري أن نطرح سؤالاً آخر عن الاجتهاد المعاصر؛ وهو: ما مدى إمكانية الحديث عنالاجتهاد (المقاصدي) ، الذي يتحرَّك المجتهد فيه على أساس مسبَّق، وضعه لنفسه عبر تبنِّيه مقاصد عامة ومِلاكات كلِّية للشريعة عموماً، وللأحكام الفقهية خصوصاً، وفي ظلِّها يعمل على تحديد قيمة النّص الشرعي ويمارس النقد؟ سؤالٌ قد أخذ مساحة جيدة من اهتمام البحث الفقهي المعاصر، وإن كان متأخِّراً، ولكنَّه طُرح في الوسط التجديدي بقوَّة. ولعلّ السبب في حيوية موضوع المقاصد وارتباطه بالحياة، يعود إلى صعوبة الجمع بين رؤية فكرية تفهم نصوصَ الدّين وأحكامه بوصفها منظومة معرفية لا سبيل إلى معرفة أسبابها، ومقاصدها، وأسرار وجودها، وإنَّما هي مطالب سماوية لا تُفهم خلفيَّاتها ودواعيها، هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، لعلَّه يعود إلى الحديث عن الثابت والمتغيِّر، أو إلى تأثُّر الخطاب الشرعي بالواقع المعيوش؛ لأنَّه من غير المعقول اعتبار أنَّ عصر صدور النُّصوص والأحاديث الدينية الأولى لم يكن له تأثير في إجابات الشريعة، بينما العصور اللاَّحقة، بما في ذلك عصرنا هذا، قد تؤثِّر في الاهتمام الفقهي والشرعي من قبل الفقهاء! الأمر الذي يدفعنا إلى التفكير الجادِّ والدرس العميق للعثور على مواطن المقاصد من النص الشَّرعي.

وإذا كان الثابت والمتغيِّر حقيقتين في قلب الفكر الإسلامي، فمن دون الاعتراف بهما معاً، قد لا يمكن الدفاع عن قدسيَّة الدين في حال رفض الثوابت، ولا الدفاع عن إنسانية الدين وعملانية الشريعة، في حال رفض المتغيِّرات.

٦

ومن الواضح، أيضاً، أنَّ السبيل إلى إثبات جدارة الدين باختراق الزمان والمكان، وأهليَّة الشريعة الشاملة والكاملة، كامنٌ في قبول وجود ثوابتَ خلف الأحكام تهدف الشريعة إلى تحقيقها، مع أخذ الحذر من وقوع الاجتهاد في فخِّ دوائر محظورة - كالقياس - تنتهي بالفكر الديني إلى الخضوع لعملٍ اجتهادي ذوقي، واستنسابي، أو استحساني، بينما الدراسة المقاصدية تتمكَّن من تمتين البحث الفقهي وجعله قادراً على تعزيز القواعد الفقهية، وإعادة ترتيبها من جديد، وبالذات سيقحم الموضوعُ هذا، الاهتمامَ القرآني في قلب الاجتهاد؛ وذلك لأنَّ بحث المقاصد يسفر عن تفعيل الفهم القرآني وإدخال الدراسة القرآنية إلى ساحة العمل الاستنباطي، لكونه المصدر الأساس في تحديد المقاصد العامة للشريعة الإسلامية. ولا أعتقد أنَّ المرء بحاجة إلى تأكيد:أنَّ فاعلية النَّص القرآني، موقعاً ودوراً في حركة الاجتهاد، لو قورنت بفاعلية الحديث والنص غير القرآني، ضئيلةٌ، وتكاد تختفي من ساحة الاجتهاد .

إنَّ تحريك قضية المقاصد سيجرُّنا إلى التردُّد في إمكانية اكتفاء المجتهد بجزء منالقرآن، المسمَّى بآيات الأحكام؛ لأنَّه لا آية في الكتاب الكريم يتمكَّن المجتهد من القول بالاستغناء عنها في عمله الاجتهادي. وإنَّ القرآن الكريم هو بمثابة الينبوع الصافي الذي تنطلق منه القواعد الأساسية والعامة للشريعة الإسلامية، وما جاءت السنة الشريفة إلاّ تبييناً وتفسيراً، وليس تأسيساً واستئنافاً. والقرآن الكريم يمثِّل المرجعية الكبرى لفهم مقاصد الدين الإسلامي، التي في ظلَّ إدراكها الجيد يسهل على الفقيه مراجعة الحديث الشريف وتقييمه. وإنَّ غياب القرآن الكريم - أو تغييبه - على أثر سلسلة تدابير غير معرفية وغير علمية، أدّى إلى وضع بيان فقهي كان الدور الأكبر فيه للحديث دون الآيات الشريفة، مع أَنَّه من المعروف أنَّ (اليد) قد مسَّت الحديث، وتم اختلاق بعضٍ منه أو تزويره، دون القرآن الكريم، وأصبحت العملية الاجتهادية بعد أحداث تاريخية سياسية، وغير سياسية، تدور في فلك الحديث، وظلَّ القرآن، وبالذات تلك المساحات الكبيرة غير الفقهية، حسب مدلولٍ حديثٍ للفقه مختلف عن حقيقة المصطلح في الكتاب والسنة، بمنأى عن هذه

٧

العملية. ومن الغريب هو أنَّ الاستشهاد بآيةٍ محكمة من القرآن الكريم على مقصد ديني عام يمثِّل عملاً غير مقبول في حال عدم إرفاقها بأحاديث تدعم فهمنا للآية و تؤيِّده، وذلك على الرُّغم من أنَّ محكم القرآن الكريم هو عصب الدين والوحي. وتعليق مدلول محكمات القرآن الكريم على تأييد من الأحاديث الشريفة؛ سيؤدِّي إلى محاولة نزع المرجعية وخلعها عن الكتاب الكريم، الأمر الذي أدَّى إلى فتح أبواب التأويل في بعض محكمات القرآن الكريم، وخلطِ الأوراق، وضياعِ الطريق، وتكريسِ القيادة الحديثية محلَّ مرجعية الكتاب الكريم وأصالته، وإخراج القواعد الدينية الثابتة منه، إلى جانب التمسُّك الكامل بالحديث الشريف والسُّنَّة المقدَّسة الصحيحة، وتهميش أحدهما مؤدٍّ بالأمة إلى الضياع والضلال، ويسبّب اللجوء إلى تأويل محكم الكتاب الكريم بغية التوفيق بينه وبين الحديث، هذا كلُّه قد حصل غير مرَّة في سير بعض العلماء المسلمين.

إنَّ تزوُّد المجتهد بجزء من القرآن الكريم، وعدم تبنِّي تلك المنظومة المعرفية المتكاملة والشاملة في ما يخص المجتمع والتاريخ والإنسان، سيؤدِّي في النهاية إلى إنجاز عملٍ اجتهادي غير كامل؛ لأنَّ المجتهد لدى قيامه باستنطاق الحديث الشريف، واستنباط الحكم منه، سيوظِّف معرفته وفرضيَّاته وآراءه في الإنسان والتاريخ والمجتمع... إلخ، في فهمه، شاء ذلك أم أبى، غير أنَّ الغالب في الأمر هو عدم نشأة هذه الفرضيَّات من الكتاب الكريم. وبكل بساطة نقول: هناك شريحة من المَعْنيين بفهم الأحكام واستنباطها، ينطلقون من قاعدة معرفية - عن الإنسان مثلاً - قد كوَّنوها من خلال عيشهم معه في بيئتهم، ثُمَّ يستخدمونها في فهم الحديث الشريف، وهذا العمل هو محاولة لفرض اقتناع على مدلول الحديث من دون أن يكون في ذلك تعمُّد.

٨

وعليه، ينبغي التأكُّد من أنَّ معالجة موضوع التعاطي مع النص، ومقوِّمات فهمه، والعناصر المتداخلة في تكوُّن انطباع القارئ والمستنبِط، ستفتح آفاقاً مهمة على طريق الاجتهاد؛ الأمر الذي يحتَّم علينا إجراء دراسات جادَّة في مجال دراسة النّص، وعلم تفسيره وقواعده ومناهجه المعروضة في البحوث الألسنية واللغوية، بخاصة في مجال (الهرمنيوطيقا) (علم تفسير النَّص وفهمه)؛ وذلك كلِّه بهدف التقليل - أكبر قدر ممكن - من تدخُّل الذات، والحدِّ من محاولتها الفضولية للدخول الخفي والدقيق على خط مدلول النص الشرعي وتحت عنوان النّص نفسه. والتمييزُ بين الأمرين في غاية الدقة والصعوبة، والحل الأسلم يكمن في اللجوء إلى الكتاب والسُّنَّة لتكوين الاقتناع الأنتروبولوجي لدى الفقيه، ورفض الاتكال على معطيات المعيوش.

ويُخشى من استمرار عدم الاعتراف، من قبل الوسط الفقهي الرسمي، بالجانب الفعلي والفلسفي والكلامي، وكذلك التاريخي واللغوي، والاكتفاء بالحديث (النص) على حساب باقي مصادر الاستنباط؛ الأمر الذي قد يؤدِّي إلى حرمان الإنسان من تأسيس فقه شامل، يأخذ الفقيه فيه جميع الحقائق السامية والراقية العقلية، والإنسانية الأخرى، بعين الاعتبار، ويسبِّب استمرار الخطاب الإسلامي الديني الآحادي بعيداً عن عقول الناس وقلوبهم؛ لخلوِّه من الشموليّة والكمال في ما يقدِّم من حلول عملية لأزمات ومآسٍ نفسية واجتماعية واقتصادية معاصرة، أخفقت في معالجتها جميع النظريات الوضعية، والأنظمة المعرفية الإنسانية المنقطعة عن الوحي والسماء.

إنَّ هذا الإصدار منكِتَاب الحيَاة الطَّيِّبة يحاول أن يؤسِّس لنقاشات علمية، ومعالجات أوليَّة لقضايا مهمة، على طريق اجتهادٍ معاصر، عِبر استقطاب آراءٍ ورؤىً واسعة لعدد من المجتهدين البارزين في مجال الفقه والشريعة الإسلامية، ونأمل أن يكون خطوة في سبيل الهدف المنشود.

الحيَاة الطَّـيِّبة

٩

مرتكَزات الاجتهاد المعاصر ومبانيه

وقائع ندوة حَوْزَوُيَّة - جامعيَّة

جاءت تجربة قيام الدولة الإسلاميَّة في إيران، وما رافقها من حاجات ملحَّة للتأصيل الفقهي في مختلف مرافق التجربة التي تتحرَّك في مدار الحياة؛ لتفرض على الحوزة العلمية أجواء وشواغل جديدة، حتى أضحى الحديث عن اجتهاد جديد يلبِّي الحاجات المستحدَثة ويواكب المستجدَّات وكأنَّه من الثَّوابت التي لا محيد عنها، فلم يَعُد الاجتهاد المتوارث من عصر ما قبل قيام الدَّولة يلبِّي سوى دائرة ضيقة من حاجات الحياة إلى الفقه، تتَّصل في الأغلب بدائرة العبادات وبعض المعاملات من حياة الإنسان الفرد.

في هذا السياق كانت الصَّيحة المدوِّية التي أطلقها الإمام الخمينيقدس‌سره قبل أربعة أشهر من وفاته (بيان ١٥/ رجب/ ١٤٠٩ هـ)، والموجَّه إلى الحوزات العلمية، التي أعلن فيها:إنَّ الاجتهاد المتداول لم يعد كافياً لإشباع حاجة الواقع .

لذلك كلِّه لم تعد الأوساط التي تنتسب إلى التجربة الجديدة وتتنفس في مناخاتها تناقشُ في ضرورة التجديد، وإنَّما انتقلت إلى ترسيم سُبُله، والتفتيش عن إمكانات ممارسته وإنزاله إلى الواقع، وصوغ مرتكزات علمية متينة لإحداث هذه النُّقلة.

من هذه الزَّواية بالذات، قرأنا بحوثاً وشهدنا ندوات وعرفنا آراء كثيرة في التجديد الفقهي وإمكاناته، تضَّمنت كثافة ملحوظة في الرؤى الغنية.

من بين الأعمال المذكورة، تُعَدُّ هذه الندوة التي زاوجت بين الحقلين: الحوزوي والجامعي، واحدة من أبرز ما شهدته الساحة العلمية على هذا الصعيد خلال السنوات الأخيرة؛ من حيث كفاءة المشاركين، وجرأة الأسئلة، ووضوح المطالب وعمقها، وكثافة الرؤى، واتساع الآفاق؛ الأمر الذي دعانا إلى ترجمتها وتقديمها إلى القارئ العربي.

١٠

أسماء المشاركين في هذه النَّدوة، مرتبةً ألفبائياً حسب اسم الشهرة:

١ - السيد كاظم الحائري ، أستاذ في الحوزة العلمية.

٢ - الشيخ محمد مجتهد شَبَسْـتَري ، أستاذ جامعي يجمع بين التحصيلين: الحوزوي والجامعي.

٣ - د. ناصر كاتوزْيان ، أستاذ جامعي.

٤ - د. أبو القاسم كُرْجي ، أستاذ جامعي.

٥ - السيد محمد حسن مرعشي ، عضو سابق في ديوان القضاء العالي، أستاذ في الحوزة العلمية حاليَّاً.

٦ - الشيخ محمد هادي معرفت ، أستاذ في الحوزة العلمية.

المحرِّر

١١

تأثير الفلسفة والكلام في الاجتهاد

* ما هي العلاقة بين النَّظريات الفلسفية والكلامية وبين استنباط الأحكام الفقهيّة؟ ثُمَّ ما هي العلوم اللاَّزمة لممارسة الاجتهاد؟

د. كُرْجي: يتألَّف هذا السؤال، في الحقيقة، من سؤالين، هما:

١ - ما هي طبيعة علاقة نظريات هذه العلوم (المشار إليها في السؤال) بالاستنباط؟

٢ - ما هي العلوم التي ينبغي أن يلمّ بها المجتهد؟

السؤال الأوَّل عام غير محدَّد، فإذا كان المقصود معرفة علاقة هذه العلوم المباشرة بعلم الفقه، على نحو علاقة علم الأصول به، فالجواب بالنفي، فمن دون معرفة علم الأصول والتوفُّر عليه يتعذَّر استنباط الأحكام الفقهية، في حين أنَّ الأمر ليس كذلك بالنسبة لهذه العلوم، لكن في الوقت نفسه تُعَدُّ معرفة بعض هذه العلوم، والإلمام بها إلى حد معيّن، ضرورية في بعض المسائل الفقهية.

على سبيل المثال: من اللازم معرفة الرياضيات بشكل عام في مسائل الوصايا والإرث، وكذلك في بعض مسائل تقسيم المال المشترك، وذلك في حدود الثقافة العامة. وفي معرفة القبلة، من الضروري أن يكون الفقيه ملمَّاً بعلم الهيئة، كما ينبغي له أن يكون على دراية بمسألة بطلان الدور - وهي من المسائل الفلسفية - على صعيد عدم جواز التقليد في (مسألة التقليد).

كذلك ينبغي التوفُّر، في مجال البحث، على (مسألة حُجِّـيَّة خبر الواحد) ونظائرها، من قبيل مسألة حُجِّـيَّة الظهور (ومن الواضح أن هذه المسائل أصولية، لا فقهية)، وعلى معرفة مبحث حُجِّـيَّة الكتاب و السُّـنَّة، وهذه مسألة كلامية، وهكذا الحال في مبحث حُجِّـيَّة خبر الواحد، - وهو كما مرَّ - من المسائل الأصولية، لا الفقهية.

١٢

أمَّا إذا كان المقصود من السؤال أمراً آخر هو: إذا لم يكن الإنسان معتقداً بالعقائد الصحيحة المبتنية على مرتكزات (مبانٍ) مختلفة في علوم مختلفة، من بينها الفلسفة والكلام، فهل بمقدوره أن يكون مجتهداً؟ فإنَّ الجواب هو: أجل، يستطيع ذلك، بل يمكن أن يكون استنباطه حُجَّة عليه أيضاً، شريطة أن يمارس ذلك على ضوء القواعد الصحيحة للاستنباط، كأن يستفيد - مثلاً - من نصوص الكتاب والسُّـنَّة وظواهرهما، ويراعي الالتزام بقواعد الخاص والعام، والمطلق والمقيّد، والمفهوم والمنطوق، وغيرها. كما عليه أن يعمل بالأمارات والأصول المعتبَرة، وأن يستفيد من كلِّ واحد منها في مجاله الخاص.

لكن إذا كان المراد من السؤال: هل الاجتهاد المذكور في الفرض أعلاه حُجَّة على الآخرين أو لا؟ فالجواب هو: ما دامت العدالة من شروط مرجع التقليد، فلا يجوز تقليده، كما لا يجوز إسناد القضاء إليه.

وفي ما يتعلَّق بالسؤال الثاني، فإنَّ العلوم اللاَّزمة للاجتهاد هي: علوم آداب اللغة العربية، المنطق، أصول الفقه، تفسير آيات الأحكام، معرفة الأحاديث الفقهية، معرفة مواطن الإجماع، الدراية بالأحكام العقلية بالدَّرجة الضَّرورية التي تستلزمها ممارسة الاجتهاد، بالإضافة إلى لمحات من علوم أخرى.

السيد مرعشي: لقد بيَّن الفقهاء ما يحتاج إليه الاجتهاد من علوم في الكتب الفقهية (انظر مثلاً: كتاب القضاء). أمَّا بالنِّسبة للنظريات الفلسفية والكلامية والعلمية، فيمكن أن تكون مؤثِّرة في مقدِّمات الرؤية؛ لذلك يحصل أحياناً في علم الأصول أن تتسع دائرة البحث لتشمل المسائل الفلسفية. فبحوث من قبيل: اجتماع الأمر والنهي، ومبحث الضد، والطلب والإرادة، وقبح العقاب بلا بيان، لها جميعاً خلفيَّة فلسفية وكلامية.

١٣

أمَّا بالنسبة للنّظريات العلمية، فيمكن أن تكون مؤثِّرة في تشخيص الموضوعات، وكثيرة هي الأمثلة والمصاديق التي يمكن ذكرها شاهداً في هذا المجال؛ فعلى سبيل المثال: نجد في باب الديَّة تعلُّق نصف الدية في حال قطع خصية الرجل اليسرى، في حين يتعلَّق ثلث الدية في حال قطع خصية الرجل اليمنى؛ وقد علَّل الفقهاء ذلك بأنَّ الطفل يولد من خصية الرجل اليسرى، طبقاً لمؤدَّى بعض الروايات الضعيفة؛ لذا فإنَّ ديَّتها نصف الديَّة الكاملة، ولكن العلم لا يقبل ذلك. وانتبه لذلك الشهيد الثاني (زين الدين العاملي، ٩١١ - ٩٦٥هـ) في شرح اللمعة، وذكر أنَّ الأطبَّاء لا يوافقون على مثل هذا التعليل.

من الأمثلة ما يُذكر طبقاً لمفاد مجموعة من الروايات، من أنَّ النطفة تمكث في الرحم أربعين يوماً، وتكون علقة أربعين يوماً، ومضغة أربعين يوماً، في حين لا تنسجم معطيات العلم اليوم مع هذا الترتيب.

وبشكل عام: الأحكام تابعة لموضوعاتها، ويمكن للعلم أن يُعين الفقيه ويُساعده في معرفة الموضوعات، وفي مثل هذه الحالة، تكون المعرفة دقيقة من دون أن تنطوي على شكٍّ أو تردُّد؛ كما هي الحال في ميزان الموقف العلمي - مثلاً - من قضية بلوغ الفتاة في سنِّ التاسعة؛ إذ يمكن للعلم أن يثبِتَ - على نحو دقيق - هل تصل الفتاة إلى مرحلة البلوغ في سنِّ التاسعة أم لا؟

السيد الحائري: إذا كان المقصود من السؤال أنَّ الفلسفة والكلام يهبان الفقيه رؤية إلهيَّة، ويجعلان أفُقَه أرحب، فهذا أمر حسن له تأثيره؛ إذ يجب أن يكون للفقيه رؤية ميتافيزيقية (غيبية) إلهية، وإلاّ لا يكون فقيهاً، ولن تكون ثَمَّة قيمة لفتاواه. الفلسفة تُثبت لنا أنَّ هذا العلم هو حلقة مرتبطة بحلقات أخرى، وهذه أمور ينبغي للعالِم الدِّيني أن يعرفها.

أمَّا إذا كان المقصود خلط المسائل الفلسفية والعلمية بعلم الأصول، لتكون الحصيلة كالتي بين أيدينا: علم أصول متضخِّم ممَّا دخله ونفذ إليه، فهذا أمر مرفوض.

١٤

* ألا يوجد فَرق بين مدرسة الشيخ محمد حسين الأصفهاني (ت١٢٦٦هـ) والميرزا محمد حسين النائيني (ت١٣٣٥هـ)؟ فالمرحوم الأصفهاني متأثِّر بالفلسفة والكلام، واتجاهه الأصولي يختلف تماماً عن الاتجاه الأصولي للمرحوم النائيني، ومن الواضح أنَّ لهذا الاختلاف أثره في الفقه.

السيد الحائري: نعم، ولكن أيُّ هاتين المدرستين أحقّ؟ هذا أمر غير معلوم.

* بحثنا يدور في طبيعة تأثير الذِّهنية الفلسفية والكلامية في الفقه والأصول، أمَّا الأحقّية، فهي مسألة أخرى.

السيد الحائري: نحن نقبل بوجود مثل هذا التأثير الذي يفضي إلى الأحقّية.

* يمكن أن يكون للعلم أحياناً تأثير على الفتوى. ففي مسألة العصير العنبي، يذهب بعض الفقهاء إلى أنَّ الغليان يجب أن يكون طبيعياً و تلقائياً، حتّى تزداد الحالة الأسيدية والسكَّرية. أمَّا إذا سخن بالنار ووصل إلى الغليان، فلا يطرأ على ماهيَّته أيُّ تغيير، ومن ثَمَّ لا يشمله حكم النجاسة.

السيد الحائري: التغيُّر يطرأ تدريجياً على العصير العنبي، بعد أن يبرد وتتغيَّر ماهيَّـته؛ ولذلك أفتى الفقهاء بحرمته ونجاسته.

الشيخ مجتهد شَبَسْـتَري: أعتقد أنَّه بالإمكان طرح السؤال بشكل أصحّ إذا صُغنا المسألة على النحو الآتي: ما هي صلة فهم الكتاب والسُّـنَّة بالنظريات الفلسفية والكلامية؛ أيْ النظريات التي تقع خارج مجال تخصُّص الفقيه. والباعث إلى ذلك، هو أنَّ الصيغة تعرُض لمسألة في غاية الأهميّة، وهي: كيف ينبغي أن يُفهم الكتاب والسُّـنَّة؟

١٥

ثَمَّة أنواع مختلفة من الفهم، فالعُرفاء فهموا الكتاب والسُّـنَّة عرفانياً، والفلاسفة فلسفياً، وثَمَّة إلى جوار هذين الفهمين الفهم الفقهي للكتاب والسُّـنَّة، وهذه الأشكال من الفهم تتفاوت في ما بينها. وحينئذٍ سيكون السؤال: هل يمكن لإنسان له اطلاع على النظريات التأسيسيَّة، في الفلسفة والكلام، أن ينال الفهم الفقهي ويُحرزه؟ وهل يتحقَّق الفهم الفقهي مع وجود أيِّ نوع من أنواع الفهم الفقهي ويُحرزه؟ وهل يتحقَّق الفهم الفقهي مع وجود أيِّ نوع من أنواع النظريات الفلسفية والكلامية؟ أو أنَّ اختلاف النظريات الفلسفية والكلامية يؤدِّي إلى اختلاف الفهم الفقهي؟

وهكذا ترون أنَّ المسألة تعود إلى قضية كيفيَّة تحقُّق فهم الكتاب والسُّـنَّة وترتد إليها.

قضية كيفية قراءة النصوص وتفسيرها قضيَّة مهمَّة جداً؛ فنحن لدينا، إلى جوار علم الفقه، فلسفةَ علم الفقه، والمقصود بعلم الفقه هو الواقع الموجود والمتداول في الحوزة والذي يخضع لموازين محدَّدة؛ حيث يُقال في تعريفه:(هو العلم الذي يبحث في الأحكام الشرعية لأفعال المكلَّفين، وَيستنبط تلك الأحكام من أدلَّتها التفصيلية) . بَيْد أنَّ الذي لم يبحث في علم الفقه هو (ماهيَّة) هذا البحث والتفحُّص وحقيقته؛ أي لا يُصار إلى بحث فلسفي في هذا المجال، بحيث تُعرف كيفيَّة تحقُّق هذا البحث والفحص في أعمال المكلَّفين، وما هي طبيعة النسيج الذي ينطوي عليه والمقدَّمات التي يقوم عليها ويستنبطها.

إنَّ البحث في هذه الدائرة(حقيقة البحث الفقهي) وما يكتنفها من أصول، هو أمر تنهض به(فلسفة علم الفقه) . وفي حوزاتنا العلميَّة، لا وجود لعلم باسم: فلسفة علم الفقه، ولكن يجب أن يوجد؛ ففي الوقت الحاضر بدأت تعرض إلى جوار أي علم، فلسفة ذلك العلم؛ لذلك لا يسعنا أن نغفل عن فلسفة علم الفقه، ونتجاهلها رغم أهمِّـيتها الفائقة.

وبديهي أنَّّ علم الأصول تكفَّل بعرض مجموعة من مباحث فلسفة الفقه ودراستها، ولكن ثَمَّة بحوث مهمَّة لا يتولى علم الأصول دراستها وبحثها.

١٦

* وهذا هو علم (المعرفة الفقهية)؟

الشيخ مجتهد شَبَسْـتَري: البُعد المعرفي في الفقه لا يمثِّل فلسفة الفقه كلِّها، وإنَّما يمثِّل جزءاً مهمَّاً منها.

والآن نعود بعد هذه المقدِّمات إلى الموضوع المُثار، فإحدى المسائل الأساسية في فلسفة علم الفقه تتمثَّل بما يتضمَّنه السؤال الآتي: هل هناك دخل وتأثير لِمَا يحمله الفقيه من نظريات فلسفية، ولِمَا يؤمن به من نظريات كلامية، ولِمَا له من رؤية كونية، في كيفية فهمه للكتاب والسُّـنَّة أو لا؟ هذا سؤال مهم.

من أجل إضاءة جوانب عن هذا السؤال - وأنا أعتقد بوجود التأثير - ينبغي أن ننتبَّه إلى مسألة أساسية تتمثَّل في أنَّ على الفقيه أن يحدِّد موقفه في هذا المجال، ويكشف عنه بوضوح؛ وذلك بأنْ يحدِّد دائرة الاستنباط الفقهي ويشخِّص مجالها، بحيث يُعلم في أيِّ المسائل تجب العودة إلى الكتاب والسُّـنَّة؟ وفي أيِّ المسائل لا تجب العودة أصلاً إلى الكتاب والسُّـنَّة؟ هذه مسألة أساسية ينبغي أن يكون للفقيه موقف واضح منها.

أمَّا سبب التأكيد على هذه النقطة المتمثِّلة بـ:وجوب تحديد الفقيه - أوَّلاً - لحدود عودته إلى الكتاب والسُّـنَّة ، فإنَّما يُفسَّر على أساس أصل ثابت في علم التفسير يقول: إنَّ فهم أيَّ نصٍّ - من دون أن يقتصر ذلك على الكتاب والسُّـنَّة وحدهما - سواء أكان نصَّاً فلسفياً أم تاريخياً أم قانونياً، لا يكون ممكناً إلاّ إذا حدَّد قارئ النص ما يترقَّبه ويريده من عودته إلى النص؟ وما هي الأفكار التي ينطوي عليها النص بشكل عام؟ فمن دون حسم هذه المسألة لا يتيسَّر الوصول إلى أيِّ ضرب من ضروب فهم النص؛ لذلك على الفقيه أن يحدِّد - بادئ ذي بدء - لماذا يعود إلى الكتاب والسُّـنَّة؟ وما هي طبيعة الأفكار والمواقف التي يتكفَّلها الكتاب والسُّـنَّة؟

١٧

وبعبارة أخرى، يمكن أن تطرح المسألة على نحو آخر يتمثَّل بالموقف من الوحي نفسه: فما هو الوحي؟ كيف ينظر قارئ النص إلى الوحي؟ وكيف يحدد دائرته ومفاده؟ وما هو الدَّور الذي يؤمن به للوحي في حياة الإنسان؟. وفي المقابل: ما هي الحاجات التي يؤمِّنها الوحي نفسه بعودتنا إليه؟ وما الذي ننتظره منه؟ وعلى الفقيه أن يكون بصيراً بطبيعة الرغبة التي تجذبه إلى الكتاب والسُّـنَّة، وأن يكون مدركاً لعمقها وكيفيَّـتها على نحو صحيح.

نعم، يمكن للفقيه أن يُدرك، بعد رجوعه للكتاب والسُّـنَّة، أنَّهما يجيبانه عن أسئلة لم تكن قد وردت على ذهنه، أو أنَّهما يقومان بتصحيح أسئلته، ذلك كلُّه محتمل؛ لذلك ينبغي أن يكون ذهن الفقيه حال عودته إلى الكتاب والسُّـنَّة منفتحاً بشكل كامل، بمعنى أن يكون مستعدَّاً لِمَا قد يفضي إليه الرجوع إلى الكتاب والسُّـنَّة من تغيير يطرأ على إدراكه ووعيه وذهنه.

فعملية تفسير الكتاب والسُّـنَّة، سواء كانت فقهية أم غير فقهية، هي عملية أخذ وعطاء تتركَّز على قراءة النص، وتحصل دائماً بين قارئ النص وبين معطياته. هي حركة تبادل دورية، حركة تنطلق من مفسِّر النص وقارئه إلى النص، ومن النص إلى المفسِّر، بحيث يتكاملان فيما بينهما عبر هذه الحركة التبادلية (التفاعلية) التي يُعبَّر عنها فيعلم التفسير أو (الهرمنيوتيك) بـ: (الدور) .

فلا يمكن أن يعود النص بمعطى لصالح الإنسان من دون أن يوظِّف مفسِّر النص ما عنده؛ أي لن يكون بمقدور الإنسان أن يحصل على شيء من النص. فللإنسان معطيات عليه أن يوظِّفها ليحصل من النص على شيء، وعندما يخرج من النص بحصيلة يقوم بتصحيح معطياته الذاتية الخاصة على ضوئها، ثُمَّ يعود للنص مرَّة أخرى فيستفيد منه مجدَّداً بما يعزِّز معارفه.

١٨

إنَّ علميَّة تفسير النصوص تنطوي على(الدور)، وذلك خلافاً لِمَا نتصوَّره؛ إذ نظنُّ أنَّنا نعود إلى النص فنفهم منه، ولكن الواقع ليس بهذه الدرجة من البساطة، بل ما يتوقَّعه الفقيه من النص، وما يترقَّبه منه هو الذي يحدِّد طبيعة الأسئلة التي يطرحها على الكتاب والسُّـنَّة، وينتظر الإجابة عنها.

فلو افترضنا أنَّ الفقيه يتوقَّع أن يحصل على حكم شرعي، فحينئذ نسأل: هل يتعلَّق الحكم الشرعي الذي يريد أن يحصل عليه بجميع أفعال المكلَّفين أو ببعضها؟ ثُمَّ لماذا يتعلَّق بهذا القسم بالذات؟ وما هو دليل انتخابه من دون غيره؟ بمعنى أنَّ على الفقيه أن يكون له موقف من قضية حقيقة الكتاب والسُّـنَّة، فما هي حقيقتهما، وما هو دورهما في حياة الإنسان، حتّى يبتغي أن يحصل منهما على مثل هذه الأحكام التي يريدها؟ إنَّ القول: إنَّ مجال الكتاب والسُّـنَّة يتألَّف من دائرة معرفة حكم أفعال المكلَّفين، هو أمر ينطوي على الضيق والسعة، ولا يمكن المرور به مرور الكرام.

سنضع معنيين لهذه المقولة، أحدهما إلى جانب الآخر، ثُمَّ نقارن بينهما:

في الحالة الأولى ، يكون المعنى الذي يبغيه الفقيه من الحصول على حكم أفعال المكلَّفين، أن يقول: عندما أنهض من النَّوم صباحاً، لا أفعل أيَّ شيء إلاّ بعد أنْ أعود أوَّلاً إلى الكتاب والسُّـنَّة؛ لأرى طبيعة التكليف الذي يحدِّدانه لي. ومعنى ذلك أنِّي أتوقَّع أن يُعيِّن الكتاب والسُّـنَّة تكليفي - على نحو أوَّلي - إزاء جميع أفعالي وأنشطتي، بصورة حكم شرعي فقهي من نوع الأحكام الخمسة (الحرمة، الوجوب، الإباحة، الكراهة، الاستحباب)، فأنا إذاً أنتظر من الكتاب والسُّـنَّة حكماً شرعيّاً فقهيّاً أوَّلياً إزاء جميع أفعالي. أنتظر منهما أن يحدِّدا ما أفعله وما لا أفعله؛ والسَّبب في هذه النظرة: إيماني بأنَّ حقيقة الوحي ودوره أن يحدِّدا تكليفي إزاء جميع ما يصدر منِّي من حركات وسكنات.

١٩

إذا كان هذا هو ما ينشده الفقيه من الكتاب والسُّـنَّة، فإنَّ حياة هذا الفقيه ومَن يعمل بنظره (بفتاواه الفقهية)، وكذلك حياة المجتمع الذي يفتي له الفقيه، ستكتسب شكلاً خاصاً. فأفراد مجتمع كهذا عليهم أن لا يحرِّكوا ساكناً، إلاّ إذا جاء فيه موقف من الكتاب والسُّـنَّة بصورة خاصة أو عامة. وإذا اعتقد الفقيه بمثل هذه الرؤية، لا يستطيع أن يُخرج من دائرة الفقه ومجاله قسماً أعظم من فعاليات الإنسان التي ترتبط بالمسار الطبيعي للحياة الإنسانية والتمدُّن البشري، والتي أوكلت بمقتضى كلِّيات الكتاب والسُّـنَّة إلى الإنسان نفسه، وأنيطت بالعلوم والتجربة البشرية؛ ذلك لأنَّ إناطة هذا القسم من النشاط البشري بالبشر يتعارض مع العقيدة - التي ينطوي عليها إيمان الفقيه المفترض - التي تذهب إلى أنَّ وظيفة الوحي هي أن يحدِّد للإنسان جميع سكناته وحركاته ومختلف ضروب نشاطه. إنَّ فقيهاً كهذا عليه أن يضع العلم والتجربة البشرية جانباً، ويتخلَّى عنهما تماماً، حتّى يستطيع أن يتمثَّل إيمانه في حقيقة الوحي (الكتاب والسُّـنَّة) ويبقى وفيَّاً له.

أمَّا النَّوع الثاني من الانتظار والترقُّب لبيان أحكام المكلَّفين من الكتاب والسُّـنَّة، فيأتي في جانب آخر؛ إذ هناك نوع من التفكيك في ذهن الفقيه، بمعنى أنَّه يَعرف - كإنسان حرٍّ ذي فكر - أنَّ هناك مسائل ترتبط تلقائياً بعقل الإنسان وتدخل في نطاق هذه الدائرة، وهناك حيِّز من الحياة ينهض به العقل، وقد أُوكل أمره إلى الإنسان نفسه؛ بحيث لا يكون للوحي دور في هذه المساحة سوى تعيين الأصول الكلِّية، والقيم التي توجِّه الأنشطة البشرية، ومن ثَمَّ فإنَّ دور الوحي - في قناعة فقيه كهذا - لا يمتد ليشمل تعيين وظيفة الإنسان في جميع أنشطته وفعَّالياته.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

قال : فقال عمر بن الخطاب : صدقت يا خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إن علياً كما ذكرت ، وفوق ما وصفت ، ولكني أخاف عليك خصلة منه واحدة.

قال له أبو بكر : ما هذه الخصلة التي تخاف علي منها منه؟.

فقال عمر : أخاف أن يأبى القتال القوم ، فلا يقاتلهم ، فإن أبى ذلك ، فلن تجد أحداً يسير إليهم(1) إلاَّ على المكروه منه. ولكن ذر علياً يكون عندك بالمدينة ، فإنك لا تستغني عنه ، وعن مشورته. واكتب إلى عكرمة الخ »(2) .

وبعد فأن يجدوا أمير المؤمنينعليه‌السلام قائداً عسكرياً ، يراه الناس تحت أمرهم ، وفي خدمتهم أحب إليهم من أن يجدوه منافساً قوياً ، يحتج عليهم بأقوال ومواقف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقه(4) .

وأما عن مشورة أمير المؤمنين على عمر في ما يرتبط بحرب الفرس ، فإنما كان يهدف منها إلى الحفاظ على بيضة الإسلام ، كما يظهر من نفس نص كلامه

__________________

1 ـ هذه الكلمات تدل على مدى ما ككان يتمتع به أمير المؤمنين من احترام وتقدير لدى الناس جميعاً ، بحيث لو لم يقاتل لم يقاتل أحد من الناس!! وإن كانوا ربما لا يقاتلون معه لو أرادهم على ذلك.

2 ـ الفتوح لابن أعثم ج 1 ص 72.

3 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 12 ص 78.

4 ـ وقد قال المحقق البحاثة الشيخ علي الأحمدي الميانجي هنا ما يلي : إنه هل يمكن للخليفة الذي عزل خالد بن سعيد بن العاص عن امارة الجيش ، لميله إلى عليعليه‌السلام ـ هل يمكن ـ أن يرغب في تولية عليعليه‌السلام هنا؟! اللهم إلا أن يكون هناك تخطيط بأن يقوم بعرض ذلك عليه ، فإن قبله ، فإن ذلك يكون تأييداً لخلافتهم ، ثم يعزلونه إيذاناً منهم للناس بعدم كفايته فيربحون في الحالتين أو يقال : إن الظروف في عهد أبي بكر تختلف عنها في عهد عمر.

١٦١

عليه‌السلام فيها فمن أراد ذلك فليراجعه في مصادره

وبعد فإن أخذ سائر ما قدمناه بنظر الاعتبار ، يجعلنا نطمئن ، بل نقطع بعدم صحة ما ينسب إلى الحسنينعليهما‌السلام من الاشتراك في الغزوات آنئذٍ.

وقد قال السهمي : « وذكر عباس بن عبد الرحمن المروزي في كتابه : التاريخ ، قال : قدم الحسن بن علي ، وعبد الله بن الزبير اصبهان ، مجتازين إلى جرجان ، فإن ثبت هذا يدل : على أنه كان في أيام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه »(1) .

وأما بالنسبة لاشتراك بعض المخلصين من كبار الصحابة في الفتوح ، فالظاهر هو أنهم كانوا غافلين عن حقيقة الأمر ، فكانوا يقصدون بذلك خدمة الدين ، ونصرة الإسلام والمسلمين ، مع عدم إطلاعهم على رأي الأئمةعليهم‌السلام في هذه الفتوحات ، كما يظهر مما تقدم ، حيث نجد اهتماماً واضحاً في أن لا يعرف الناس رأي عليعليه‌السلام في هذا المجال ، أو لعل السلطة كانت تهتم في إرسالهم في مهمات كهذه ، وتمارس عليهم بعض الضغوط في ذلك.

الإمام الحسن عليه‌السلام وحصار عثمان :

ويروي المؤرخون : أنه حينما حاصر الثائرون عثمان ، بعث الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بولديه : الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهما ، للدفاع عنه ، كما وبعث طلحة والزبير بولديهما أيضاً.

ويقولون : إن الإمام الحسنعليه‌السلام قد جرح ، وخضب بالدماء على باب عثمان ، من جراء رمي الناس عثمان بالسهام ، ثم تسوّر الثائرون الدار على عثمان ، وقتلوه.

وجاء الإمام علي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كالواله الحزين ، فلطم

__________________

1 ـ تاريخ جرجان ص 9.

١٦٢

الحسن ، وضرب صدر الحسينعليهما‌السلام ، وشتم آخرين ، منكراً عليهم أن يقتل عثمان ، وهم على الباب(1) .

وقد استبعد البعض ذلك ، استناداً إلى أن خطة عثمان وسيرته ، تبعد كل البعد ما نسب إلى علي وولديهعليهم‌السلام . كما ويبعدها : أن يتخذوا موقفاً يخالف موقف البقية الصالحة من الصحابة ، وينفصلوا عنهم. ولو فرض صحة ذلك ، فإنه لم يكن إلا لتبرير موقفه وموقف أبنيه عليهما الصلاة والسلام من الاشتراك في دمه ، وأن لا يتهمه المغرضون بشيء(2) .

ويلوح من كلام السيد المرتضىرحمه‌الله أيضاً شكه في إرسال أمير المؤمنينعليه‌السلام ولديه للدفاع عن عثمان ، قال : « فإنما أنفذهما ـ إن كان أنفذهما ـ ليمنعا من انتهاك حريمه ، وتعمد قتله ، ومنع حرمه ونسائه من الطعام والشراب. ولم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع »(3) .

وعلى حد تعبير العلامة الحسنيرحمه‌الله : « ومن المستبعد أن يزج بريحانتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المعركة للدفاع عن الظالمين ، وهو الذي وهب نفسه وكل حياته للحق والعدالة ، وإنصاف المظلومين(4) .

ويرى باحث آخر : « أن الخليفة كان مستحقاً للقتل بسوء فعله ، كما أن

__________________

1 ـ راجع : الصواعق المحرقة ص 115 / 116 ، ومروج الذهب ج 2 ص 344 / 345 ، والإمامة والسياسة ج 1 ص 44 و 43 وأنساب الأشراف ج 5 ص 70 و 69 و 74 و 80 و 93 و 95 والبدء والتاريخ ج 5 ص 206 ، وتاريخ مختصر الدول ص 105 وسيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 ص 527 و 540 عن ابن كثير ، وتاريخ الطبري ج 3 ص 418 و 419 ودلائل الصدق ج 3 قسم 1 ص 193 عن بعض من تقدم وعن ابن الأثير ، وابن عبد البر ، والفخري في الأداب السلطانية ص 98 وفيه : أن الحسن قاتل قتالاً شديداً ، حتى كان يستكفه ، وهو يقاتل عنه ، ويبذل نفسه دونه والعقد الفريد ج 4 ص 290 و 291.

2 ـ راجع : حياة الحسنعليه‌السلام للقرشي ج 1 ص 115 / 116.

3 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 3 ص 8.

4 ـ سيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 ص 428.

١٦٣

قتلته ، أو الراضون بقتله هم جمهرة الصحابة الأخيار ، ولا يعقل أن يقف الحسنان في وجه هؤلاء وضدهم »(1) .

ونقول :

1 ـ أما ما ذكره هؤلاء من أن الصحابة الأخيار كانوا هم قتلة عثمان ، أو الراضون بقتله ، فهو صحيح ، ولكن مما لا شك فيه ، هو أنه قد كان من بينهم أيضاً بعض من ثار على عثمان ، من أمثال الزبير ، وطلحة وغيرهما ولكن لا لأجل الانتصار للحق ، وللمظلومين ، وإنما من أجل الحصول على بعض المكاسب الدنيوية.

2 ـ وأما ماذكرته الرواية : من أن طلحة والزبير قد أرسلا بإبنيهما للدفاع عن عثمان ، فهو مما لا ريب في بطلانه ، فإن المصادر الموثوقة قد أطبقت : على أن طلحة ، والزبير ، وعائشة ، وغيرهم ، كانوا من أشد الناس على عثمان ( ولا نرى حاجة لذكر مصادر ذلك ، فإنه من بديهيات التاريخ ).

3 ـ وأما أنهعليه‌السلام قد ضرب الحسنعليه‌السلام ، ودفع في صدر الحسين ، فهو غير صحيح أيضاً ، فإن علياًعليه‌السلام قد كرر غير مرة : أن قتل عثمان لم يسره ولم يسؤه(2) كما أنه لم يكن ليتهم الحسنينعليهما‌السلام بالتواني في تنفيذ الأوامر التي يصدرها إليهما ، وهما من الذين نصَّ الله سبحانه على تطهيرهم ، وأكد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على عظيم فضلهم ، وسامق مجدهم ، وعلى محبته العظيمة لهم.

وأما بالنسبة للدفاع عن عثمان. فإنَّ ثمة وجهة نظر أخرى جديرة بالتقدير ، وقمينة بأن تقدم تفسيراً صحيحاً ، ومنطلقاً موضوعياً ومنطقياً لموقف أمير المؤمنينعليه‌السلام في هذه القضية. لا مجرد عدم توجيه أصابع الاتهام إليهعليه‌السلام ، في موضوع قتل عثمان.

وملخص ما يمكن اعتباره كافياً لتبرير دفاع أمير المؤمنينعليه‌السلام عن

____________

1 ـ الإمام الحسن بن عليعليه‌السلام لآل يس ص 50 / 51.

2 ـ راجع : الغدير ج 9 ص 69 ـ 77 عن مصادر كثيرة.

١٦٤

عثمان ، هو :

أن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وإن كان لا يرى خلافة عثمان شرعية من الأساس ، وكان كذلك على اطلاع تام على جميع المخالفات والتجاوزات ، التي كانت تصدر من الهيئة الحاكمة باستمرار. ويرى رأي العين : أن فسادها قد استشرى ، وتفاقم خطره ، حتى لم يعد من السهل تحمله ، أو الإغضاء عنه

إنه وإن كان يرى ذلك ـ إلا أنه لم يكن يرى : أن علاج الأمر بهذا الأسلوب الانعالي العنيف هو الطريقة المثلى والفضلى وقد نقل عنهعليه‌السلام قوله عن عثمان : إنه استأثر فأساء الأثرة ، وجزعوا فأساؤوا الجزع(1) .

وما ذلك إلا أن هذا الأسلوب بالذات ، وقتل عثمان في تلك الظروف ، وعلى النحو الذي كان ، لم يكن بالذي يخدم القضية ، قضية الإسلام ، بل كان من شأنه أن يلحق بها ضرراً فادحاً ، وجسيماً إذ أنه سوف يعطي الفرصة لأولئك المترصدين من أصحاب المطامع والأهواء لركوب الموجة ، واستغلال جهل الناس ، وضعفهم ، وظروف حياتهم ، بملاحظة ما تركت عليهم السياسية من آثار في مفاهيمهم ، وفي عقليتهم ، ونظرتهم ، وفي عقائدهم ، وغير ذلك ـ لسوف يعطي هؤلاء الفرصة ، لاستغلال كهذا. ورفع شعار الأخذ بثارات عثمان ، واتخاذ ذلك ذريعة للوقوف في وجه الشرعية المتمثلة بأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وإلقاء الشبهات والتشكيكات حول علي ، وأصحاب عليعليه‌السلام الأمر الذي نشأ عنه حروب الجمل ، وصفين ، والنهروان ، على النحو الذي سجله التاريخ

وقد كان أمير المؤمنينعليه‌السلام مدركاً ذلك كله ، ومطلعاً عليه بصورة تامة ، حتى انه حينما جاءه اليمنيون لتهنئته بالخلافة ، قال لهم : « إنكم صناديد اليمن وساداتها ، فليت شعري ، إن دهمنا أمر من الأمور كيف صبركم على ضرب الطلا ، وطعن الكلا »(2) الأمر الذي يعني : أنه كان يتوقع منذئذٍ حروباً ، لا بد

__________________

1 ـ نهج البلاغة ج 1 ص 72 بشرح عبده ، الخطبة رقم 29.

2 ـ الفتوح لابن أعثم ج 2 ص 255.

١٦٥

له من خوضها ، ضد أصحاب المطامع والمنحرفين.

وقد كان ذلك بطبيعة الحال وَبَالاً على الإسلام ، وعلى المسلمين ، وسبباً للكثير من المصائب والبلايا ، التي لا يزال يعاني الإسلام والمسلمون من آثارها

وإذا كان علي أمير المؤمنينعليه‌السلام لا يرغب في قتل عثمان يهذه الصورة التي حدثت ، وإذا كان قد أرسل الحسنينعليهما‌السلام للدفع والذب عنه ، وإذا كان قد بلغ في دفاعه عنه حداً جعل مروان يعترف بذلك ويقول :

« ما كان أحد أدفع عن عثمان من علي ، فقيل له : ما لكم تسبونه على المنابر؟ قال : إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك »(1) .

ويقول عليعليه‌السلام : « واللهِ ، لقد دفعت عنه ، حتى خشيت أن أكون آثماً »(2) .

إنه إذا كان كذلك فإنه لم يكن يريد أن يكون ذلك الدفع عن عثمان ، موجباً لفهم خاطيء لحقيقة رأيه في عثمان ، وفي مخالفته فكان يذكر تلك المخالفات تصريحاً تارة ، وتلويحاً أخرى ، كما أنه كان يجيب سائليه عن أمر عثمان بأجوبة صريحة أحياناً ، ومبهمة أحياناً أخرى ، أو على الأقل لا تسمح بالتشبث بها واستغلالها ، من قبل المغرضين والمستغلين(3)

كما أن دفاعهعليه‌السلام عن عثمان ، ومحاولته دفع القتل عنه ، لا يعني : أنه كان يسكت عن تلك المخالفات الشنيعة ، التي كانت تصدر منه ، ومن أعوانه ولا أنه لا يرى بها خطراً داهماً ومدمراً بل ما فتىءعليه‌السلام

__________________

1 ـ الصواعق المحرقة ص 53 والنصائح الكافية ص 88 عن الدارقطني.

2 ـ نهج البلاغة ، بشرح عبده ج 2 ص 261 ، ومصادر نهج البلاغة ج 3 ص 189 عن العديد من المصادر ، وبهج الصباغة ج 6 ص 79 عن الطبري ، وفيه : والله ، ما زلت أذب عنه حتى إني لأستحي الخ

3 ـ راجع هذه الأجوبة في : كتاب الغدير ج 9 ص 70 ـ بل راجع من ص 69 حتى ص 77.

١٦٦

يجهر بالحقيقة مرة بعد أخرى ، وقد حاول إسداء النصيحة لعثمان في العديد من المناسبات ، حتى ضاق عثمان به ذرعاً ، فأمره أن يخرج إلى أرضه بينبع(1) .

كما أنه ـ أي عثمان ـ قد واجه الإمام الحسنعليه‌السلام بأنه لا يرغب بنصائح أبيه ، وذلك لأنه :

« كان علي كلما اشتكى الناس إليه أمر عثمان ، أرسل إبنه الحسنعليه‌السلام إليه ، فلما أكثر عليه ، قال : أن أباك يرى : أن أحداً لا يعلم ما يعلم؟ ونحن أعلم بما نفعل ، فكف عنا ، فلم يبعث علي ابنه في شيء بعد ذلك »(2) .

وهكذا يتضح : أن نصرة الحسنينعليهما‌السلام لعثمان ، بأمر من أبيهما أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه ، قد كانت منسجمة كل الانسجام مع خطهمعليهم‌السلام ، الذي هو خط الإسلام الصافي ، والصحيح. وهو يدخل في عداد تضحياتهما الجسام ـ وما أكثرها ـ في سبيل هذا الدين ، ومن أجل إعلاء كلمة الحق كما أنه دليل واضح على بعد نظرهم ، وعلى دقة وعمق تفكيرهم

معاوية هو قاتل عثمان :

ولا نذهب بعيداً إذا قلنا : إن معاوية قد أدرك منذ البداية : أن قتل عثمان يخدم مصالحه وأهدافه ، وأنه كان يرغب في أن يتم على عثمان ما تم وقد استنجده عثمان ، فتلكأ عنه ، وتربص به ، ثم أرسل جيشاً ، وأمره بالمقام بذي خشب ، ولا يتجاوزها. وحذر قائده من أن يقول :

__________________

1 ـ نهج البلاغة ، بشرح عبده ج 2 ص 261 وبهج الصباغة ج 6 ص 79 عن الطبري ، ومصادر نهج البلاغة ج 3 ص 189 عن العديد من المصادر ، والغدير ج 9 ص 60 ـ 62 و 69 عن مصادر أخرى أيضاً.

2 ـ الغدير ج 9 ص 71 عن العقد ج 2 ص 274 وعن الإمامة والسياسة ج 1 ص 30.

١٦٧

« الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، فإنني أنا الشاهد وأنت الغائب. قال : فأقام بذي خشب ، حتى قتل عثمان ، فاستقدمه حينئذٍ معاوية ، فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه. وإنما صنع ذلك معاوية ليقتل عثمان ، فيدعو إلى نفسه »(1) .

وكتب علي أمير المؤمنينعليه‌السلام إليه : « ولعمري ، ما قتله غيرك ، ولا خَذَلَهُ سواك ، ولقد تربصت به الدوائر ، وتمنيت له الأماني »(2) .

وعنهعليه‌السلام فيما كتبه له : « إنك إنما نصرت عثمان حينما كان النصر لك ، وخذلته حينما كان النصر له »(3) .

وكتب أبو أيوب الأنصاري لمعاوية : « فما نحن وقتلة عثمان؟ إن الذي تربص بعثمان ، وثبط أهل الشام عن نصرته لأنت الخ »(4) .

وكتب إليه شبث بن ربعي : « إنك لا تجد شيئاً تستغوي به الناس ، وتستميل له أهواءهم ، وتستخلص به طاعتهم ، إلا أن قلت لهم : قتل إمامكم مظلوماً ، فهلموا نطلب بدمه ، فاستجاب لك سفهاء طغام رذال ، وقد علمنا أنك قد أبطأت عنه بالنصر ، وأحببت له القتل بهذه المنزلة التي تطلب »(5) .

__________________

1 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 154 والنصائح الكافية ص 20 عن البلاذري ، والإمام علي بن أبي طالب سيرة وتاريخ ص 166.

2 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 3 ص 411 ط قديم ، والغدير ج 9 ص 150 والنصائح الكافية ص 20 عن الكامل ، والبيهقي في المحاسن والمساوي ، والإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام سيرة وتاريخ ص 167 عن الأول.

3 ـ راجع : نهج البلاغة ج 3 ص 70 ط عبده والنصائح الكافية ص 20 وشرح النهج للبحراني ج 5 ص 81 وعن شرح المعتزلي ج 4 ص 57.

4 ـ الإمامة والسياسة ج 1 ص 109 / 110 والغدير ج 9 ص 151 عنه ، وعن شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 260.

5 ـ وقعة صفين ص 187 / 188 ، وتاريخ الطبري ج 3 ص 570 ، والغدير ج9 ص 151 ، عنهما وعن الكامل لابن الأثير ج 3 ص 123 وعن شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 342.

١٦٨

وقال الطبري : فلما جاء معاوية الكتاب تريض به ، وكره إظهار مخالفة أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقد علم اجتماعهم. فلما أبطأ أمره على عثمان الخ(1) .

وكتب إليه ابن عباس : « فأقسم بالله ، لأنت المتربص بقتله ، والمحب لهلاكه ، والحابس الناس قِبَلك عنه ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ فما حفلت به فقتل كما كنت أردت فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين »(2) .

ولابن عباس كتاب آخر يذكر له فيه ذلك أيضاً(3) .

كما أن المنقري يقول : إنه لما نُعِيَ عثمان إلى معاوية : « ضاق معاوية صدراً بما أتاه ، وندم على خذلانه عثمان ، وقال في جملة أبيات له:

ندمـت علـى ما كان من تبعي الهوى

وقصـري فيـه حسـرة وعـويـل(4)

الأبيات.

وحينما سأل معاوية أبا الطفيل الكناني عن سبب عدم نصره عثمان ، قال له : « منعني ما منعك ، إذ تربَّص به ريب المنون ، وأنت بالشام. قال : أو ما ترى طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك أبو الطفيل ، ثم قال : أنت وعثمان كما قال الشاعر الجعدي :

__________________

1 ـ تاريخ الطبري ج 3 ص 402.

2 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 155 ، والإمام علي بن أبي طالب سيرة وتاريخ ص 167 عنه.

3 ـ الفتوح لابن أعثم ج 3 ص 256 والمناقب للخوارزمي ص 181 والإمامة والسياسة ج 1 ص 113 وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 66 والغدير ج 10 ص 325.

4 ـ وقعة صفين ص 79 والإمام علي بن أبي طالب سيرة وتاريخ ص 166 / 167 عنه والغدير ج 9 ص 151 والفتوح لابن أعثم ج 2 ص 266.

١٦٩

لا ألفينك بعد المـوت تـنـدبـني

وفي حياتي ما زودتـنـي زادا(1)

بل لقد ذكر اليعقوبي : أن معاوية أمر الجيش بالمقام في أوائل الشام ، وأن يكونوا مكانهم ، حتى يأتي عثمان ليعرف صحة الأمر ، فأتى عثمان وسأله عن المدة ، فقال : قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم ، فأجيئك بهم. قال : « لا والله ، ولكنك أردت أن أقتل فتقول : أنا ولي الثار. إرجع فجئني بالناس ، فرجع ولم يعد إليه حتى قتل »(2) .

وقد اعترف معاوية نفسه للحجاج بن خزيمة بأنه قد قعد عن عثمان ، وقد استغاث به فلم يجبه ، وأنه قال في ذلك أبياتاً(3) ، وهي الأبيات اللامية التي أشرنا إليها آنفاً.

وصرح الشهرستاني بأن جميع عمال عثمان وأمراءه قد « خذلوه ، ورفضوه حتى أتى قدره عليه » ، وهم : معاوية ، وسعد بن أبي وقاص ، والوليد بن عقبة ، وعبد الله بن عامر ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح(4) .

وقال له ابن عباس في المدينة ، حينما اتهم بني هاشم بقتل عثمان : « أنت قتلت عثمان ، ثم قمت تغمص على الناس أنك تطلب بدمه ، فانكسر معاوية »(5) .

وكتب محمد بن مسلمة لمعاوية : « ولعمري يا معاوية ، ما طلبت إلا الدنيا ، ولا اتبعت إلا الهوى ، ولئن كنت نصرت عثمان ميتاً ،

__________________

1 ـ مروج الذهب ج 3 والنصائح الكافية ص 21 والعقد الفريد ج 4 ص 30 عن تاريخ الخلفاء ، والإمام علي بن أبي طالب سيرة وتاريخ ص 168 والغدير ج 9 ص 139 / 140 عن تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 33 وعن تاريخ ابن عساكر ج 7 ص 201 وعن الاستيعاب ، في الكنى ، والإمامة والسياسة ج 1 ص 151 والمسعودي.

2 ـ تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 175.

3 ـ الفتوح لابن أعثم ج 2 ص 265.

4 ـ الملل والنحل للشهرستاني ج 1 ص 26 وراجع هامش : الشيعة في التاريخ ص 142.

5 ـ تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 223.

١٧٠

خذلته حياً »(1) .

ومن كتاب لأمير المؤمنينعليه‌السلام إليه : « أما بعد ، فوالله ما قتل ابن عمك غيرك ، وإني لأرجو أن ألحقك به على مثل ذنبه ، وأعظم من خطيئته »(2) .

كما أن الاصبغ بن نباته قد واجهه بمثل ما تقدم عن غير واحد(3) .

وكذلك فإن الإمام الحسنعليه‌السلام قال له : « ثم ولاك عثمان فتربصت عليه »(4) . وقال معاوية لعمرو بن العاص : « صدقت ، ولكننا نقاتله على ما في أيدينا ، ونلزمه قتل عثمان. قال عمرو : واسوأتاه ، ان أحق الناس ألا يذكر عثمان لا أنا ولا أنت. قال : ولم؟ ويحك. قال : أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام ، حتى استغاث بيزيد بن أسد البجلي ، فسار إليه : وأما أنا فتركته عياناً ، وهربت إلى فلسطين. فقال معاوية : دعني من هذا الخ »(5) .

ولما وصلت رسالة عثمان الاستنجادية إلى معاوية ، قال له المسور بن مخرمة : « يا معاوية، إن عثمان مقتول ، فانظر فيما كتبت به إليه ، فقال معاوية : يا مسور ، إني مصرح : إن عثمان بدأ فعمل بما يحب الله ويرضاه ، ثم غير وبدل ، فغير الله عليه ، أفيتهيأ لي أن أرد ما غير الله عز وجل؟ »(6) .

فهو يستدل بالجبر من أجل تبرير تخاذله عن نصر عثمان!!.

هل جرح الإمام الحسن عليه‌السلام في الدفاع عن عثمان :

ويبقى أن نشير : إلى أننا نشك في صحة ما ذكرته الرواية من أن الإمام

__________________

1 ـ الإمامة والسياسة ج 1 ص 101 والغدير ج 10 ص 333.

2 ـ الغدير ج 9 ص 76 والعقد الفريد ج 4 ص 334.

3 ـ تذكرة الخواص ص 85 ومناقب الخوارزمي ص 134 / 135.

4 ـ تذكرة الخواص ص 201.

5 ـ تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 186 والإمامة والسياسة ج 1 ص 98.

6 ـ الفتوح لابن أعثم ج 2 ص 228.

١٧١

الحسنعليه‌السلام قد جرح في الدفاع عن عثمان ، وذلك لان الامام علياعليه‌السلام ، وإن كان يمكن أن يكون قد أرسل ابنيه ـ أو الإمام الحسن وحده ـ للدفاع عن عثمان وقد جاءا إليه ، وعرضا له المهمة التي أوكلها إليهما أبوهما إلا أن الظاهر : هو أن عثمان قد ردهما ، ولم يقبل منهما ذلك ويوضح ذلك النصوص التالية :

1 ـ « قال : ثم دعا علي بابنه الحسن ، فقال : انطلق يا ابني إلى عثمان ، فقل له : يقول لك أبي : أفتحب أن أنصرك؟ فأقبل الحسن إلى عثمان برسالة أبيه ، فقال عثمان : لا ، ما أريد ذلك ، لأني قد رأيت رسول الله إلى أن قال : فسكت الحسن ، وانصرف إلى أبيه فأخبره بذلك »(1) .

2 ـ « ثم اقتحم الناس الدار على عثمان وهو صائم إلى أن قال : والتفت عثمان إلى الحسن بن علي ، وهو جالس عنده ، فقال : سألتك بالله يا ابن الأخ إلا ما خرجت؟ فإني أعلم ما في قلب أبيك من الشفقة عليك ، فخرج الحسن رضي الله عنه ، وخرج معه عبد الله بن عمر »(2) .

3 ـ « كان علي كلما اشتكى الناس إليه أمر عثمان أرسل ابنه الحسن إليه ، فلما أكثر عليه قال : إن أباك يرى : أن أحداً لا يعلم ما يعلم؟ ونحن أعلم بما نفعل ، فكف عنا. فلم يبعث علي ابنه في شيء بعد ذلك »(3) .

وقال ابن قتيبة : « ثم دخل عليه الحسن بن علي ، فقال : مرني بما شئت ، فإني طوع يديك. فقال له عثمان ارجع يا ابن أخي ، اجلس في بيتك حتى يأتي الله بأمره »(4) .

__________________

1 ـ الفتوح لابن اعثم ج 2 ص 228.

2 ـ الفتوح لابن اعثم ج 2 ص 231.

3 ـ تقدمت المصادر لذلك.

4 ـ الإمامة والسياسة ج 1 ص 39 وحياة الصحابة ج 2 ص 134 عن الرياض النضرة ج 2 ص 269.

١٧٢

4 ـ « وشمَّر أناس من الناس ، فاستقتلوا ، منهم سعد بن مالك ، وأبوهريرة ، وزيد بن ثابت ، والحسن بن علي ، فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا ، فأنصرفوا »(1) .

5 ـ « بعث عثمان إلى علي بن أبي طالب : أن ائتني ، فبعث حسيناً ابنه ، فلما جاءه ، قال له عثمان : يا ابن أخي اتقدر على أن تمنعني من الناس؟ قال : لا. قال : فأنت في حلٍ من بيعتي ، فقل لأبيك يأتني ، فجاء الحسين إلى عليَّ فأخبره بقول عثمان ، فقام علي ليأتيه. فقام إليه ابي الحنفية فأخذ بضبعيه ، يمنعه من ذلك ». وفي هذه الأثناء جاء الصريخ : أن قد قتل عثمان(2) .

6 ـ « قال أبو مخنف في روايته : نظر مروان بن الحكم إلى الحسين بن علي فقال : ما جاء بك؟ قال : الوفاء ببيعتي. قال : اخرج عنا ، أبوك يؤلب الناس علينا ، وأنت هاهنا معنا؟. وقال له عثمان : انصرف ، فست أريد قتالاً ولا آمر به »(3) .

وما تقدم يشير إلى أن عثمان قد رفض مساعدة الإمام الحسن ، أو هو مع الحسينعليهما‌السلام ولم يشاركاعليهما‌السلام في الحرب ضد الثائرين. ـ ولعل العرض والرفض قد تعدد عدة مرات ـ. وذلك يوجب الريب في تلك الرواية القائلة بأن الإمام الحسنعليه‌السلام قد جرح في هذه القضية ، ثم كان من عليعليه‌السلام بالنسبة إليه ولأخيه ما كان ، مما تقدمت الإشارة إلى عدم صحته أيضاً.

نعم ربما يكون الإمام الحسنعليه‌السلام قد ساعد على نجاة البعض ، من دون اشتراك في القتال ، وإنما بما له من أحترام خاص في النفوس ، ففي محاورة جرت بينه وبين مروان بن الحكم ، قالعليه‌السلام لمروان : « أفلا أرقت دم من

__________________

1 ـ تاريخ الطبري ج 3 ص 389.

2 ـ أنساب الأشراف ج 5 ص 94.

3 ـ أنسب الأشراف ج 5 ص 78.

١٧٣

وثب على عثمان في الدار ، فذبحه كما يذبح الجمل ، وأنت تثغو ثغاء النعجة ، وتنادي بالويل والثبور ، كالأمة اللكعاء. ألا دفعت عنه بيد؟ أو ناضلت عنه بسهم؟ لقد ارتعدت فرائصك ، وغشي بصرك ، فاستغثت بي كما يستغيث العبد بربه ، فأنجيتك من القتل ، ومنعتك منه ، ثم تحث معاوية على قتلي؟! ولو رام ذلك لذبح كما ذبح ابن عفان الخ »(1) .

قوة موقف الإمام الحسن عليه‌السلام :

هذا وإن النص المتقدم آنفاً ، ليدل دلالة واضحة على قوة لا يستهان بها في موقف الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام.

وقد تقدم قول ابن العاص لمعاوية عن الإمام الحسن (ع) : « خفقت النعال خلفه ، وأمر فأطيع ، وقال فصدق ، وهذان يرفعان إلى ما هو أعظم ، فلو بعثت إليه ، فقصرنا به وبأبيه ، وسببناه وأباه ، وصغرنا بقدره وقدر أبيه الخ ».

وقال سفيان بن أبي ليلى للإمام الحسنعليه‌السلام في ضمن كلام له : « فقد جمع الله عليك أمر الناس »(2) .

وروى أبو جعفر قال : قال ابن عباس : « أول ذل دخل على العرب موت الحسنعليه‌السلام »(3) .

وقال أبو الفرج : « قيل لأبي إسحاق السبيعي : متى ذل الناس؟ فقال : حين مات الحسن ، وادعي زياد ، وقتل حجر بن عدي »(4) .

وقد اعترف معاوية نفسه : بأن الحسنعليه‌السلام ليس ممن يُرمي به

__________________

1 ـ المحاسن والمساوي ج 1 ص 135 وفي هامشه عن المحاسن والأضداد

2 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 44.

3 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 10.

4 ـ مقاتل الطالبيين ص 76 وشرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 51.

١٧٤

الرجوان(1) أي ليس ممن يستهان به ، والنصوص التي تدخل هذا المجال كثيرة ، لا مجال لتتبعها فعلاً.

ولعل ما تقدم من نصرة الإمام الحسنعليه‌السلام لعثمان ، بالإضافة إلى أنه لم يكن قد ساهم في قتل مشركي قريش وغيرها على عهد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بسبب صغر سنه آنئذٍ. ثم ما سمعته الأمة ورأته من أقوال ومواقف النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله تجاههعليه‌السلام ثم علم الجميع بنزول العديد من الآيات القرآنية ، التي تعرب عن فضله ، وتشيد بكريم خصاله ، وتؤكد على ما يؤهله الله له من دورٍ قيادي في مستقبل الأمة

ـ إن كل ذلك وسواه ـ قد جعل موقفهعليه‌السلام في قبال معاوية والأمويين ، أكثر قوة ، وأعظم أثراً ، حيث لم يكن ثمة شبهات يستطيع خصومه التشبث بها لتضعيف مركزه ، وزعزعة سلطانه ، كما أنه لم يواجه ما يشبه قضية التحكيم ، التي فُرِضَت على أمير المؤمنينعليه‌السلام من قبل

نعم هو ابن لذلك الذي وَتَرَ قريشاً ، وقتل صناديدها ، الذين أرادوا أن يطفئوا نور الله سبحانه ، بكل ما يملكون من حيلة ووسيلة.

ولعل مدى ضعف حجة معاوية في مقابل الإمام الحسنعليه‌السلام ، يتجلى أكثر ، بالمراجعة إلى أقوال معاوية نفسه ، وذلك حينما لا يجد حجة يحتج بها لتصديه لهذا الأمر ، سوى أنه أطول من الإمام الحسنعليه‌السلام ولاية ، وأقدم تجربة ، وأكثر سياسة ، وأكبر سناً(2) .

قال بعض الباحثين : « وهكذا صارت مقاييس الخلافة كمقاييس الأزياء ، أو الكمال الجسماني : أطول ، وأكبر ، وأقدم ، وأكثر »(3) .

إلا أن جيش الإمام الحسنعليه‌السلام ، وكذلك الظروف الخاصة التي

__________________

1 ـ شرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 19 و 195.

2 ـ مقاتل الطالبيين ص 58 وشرح النهج للمعتزلي ج 16 ص 36 ، وحياة الحسن بن علي ، للقرشي ج 2 ص 33 و 35.

3 ـ حياة الإمام الحسن بنعليه‌السلام ، لآل يس ص 85.

١٧٥

مرت بها الأمة ، والعراق خاصة ، والنواحي العقيدية والاجتماعية ، وغير ذلك ـ كل ذلك وسواه ـ هو الذي أضعف من موقف الإمام الحسنعليه‌السلام ، وقوى من شوكة معاوي ، وإن كان العامل الزمني قد كان ـ على ما يبدو ـ لصالح الإمام الحسنعليه‌السلام على المدى الطويل. ولا سيما بعد وجود بعض التحول في المجتمع العراقي تجاه أهل البيت ، بعد جهود أمير المؤمنينعليه‌السلام في هذا المجال

وقد شرحنا بعض ما يرتبط المجتمع العراقي في بحث لنا آخر حول الخوارج ، وفيما تقدم بعض ما يمكن أن يفيد في ذلك. وليس هذا موضع بحثنا الآن ، لأنه يرتبط بظروف صلح الإمام الحسنعليه‌السلام مع معاوية كما هو معلوم

هل كان الإمام الحسن عليه‌السلام عثمانياً؟ !

ويحاول البعض أن يدعي : أن الإمام الحسنعليه‌السلام « كان عثمانياً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة » ، قال : « وربما غلا في عثمانيته ، حتى قال لأبيه ذات يوم ما لا يحب ، فقد روى الرواة : أن علياً مر بابنه الحسن ن وهو يتوضأ ، فقال له : أسبغ الوضوء يا حسن ، فأجابه الحسن بهذه الكلمة المرة : « لقد قتلتم بالأمس رجلاً كان يسبغ الوضوء » ، فلم يزد على أن قال : لقد أطال الله حزنك على عثمان ». وفي نص آخر للبلاذري : « لقد قتلت رجلاً كان يسبغ والوضوء »(1) .

وفي قصة أخرى يقولون : « إن الحسن بن علي ، قال لعلي : يا أمير المؤمنين ، إني لا أستطيع أن أكلمك ، وبكى ، فقال علي : تكلم ، ولا تحنَّ حنين

__________________

1 ـ راجع : الفتنة الكبرى ، قسم : علي وبنوه ص 176 ، وأنساب الأشراف ج 3 ص 12 بتحقيق المحمودي و ج 5 ص 81 وراجع : الإمام الحسن بن علي لآل يس ص 50 وسيرة الأئمة الإثني عشر ج 1 ص 543.

١٧٦

المرأة ، فقال : إن لناس حصروا عثمان ، فأمرتك أن تعتزلهم وتلحق بمكة ، حتى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها ، فأبيت. ثم قتله الناس ، فأمرتك أن تعتزل الناس فلو كنت في جحر ضب لضربت إليك العرب آباط الإبل حتى يستخرجوك ، فغلبتني. ثم أمرتك اليوم : أن لا تقدم العراق ، فإني أخاف عليك أن تقتل بمضيعة فقال علي الخ »(1) .

وثمة روايات أخرى تفيد هذا المعنى ، لا مجال لإيرادها وهي تدل على أنهعليه‌السلام كان يكره أن يذهب أبوه إلى العراق لحرب طلحة والزبير ، كما قاله البعض(2) .

ونقول : إن كل ذلك لا يمكن أن يصح ، فـ :

أولا ً : كيف يمكن أن نجمع بين ما قيل هنا ، وبين قولهم الآنف الذكر : إن أمير المؤمنينعليه‌السلام قد أرسل الإمام الحسن وأخاهعليهم‌السلام للدفاع عن عثمان وأنه لما علم بمصيره جاء كالواله الحزين ، ولطم الحسن المخضب بالدماء ، ودفع في صدر الحسينعليهما‌السلام ، بتخيُّل : أنهما قد قصرا في أداء مهمتهما الخ؟!.

ثانيا ً : غن المتتبع لعامة مواقف الإمام الحسنعليه‌السلام يجده ـ باستمرار وبمزيد من الإصرار ـ يشدُّ أزر أبيه ، ويدافع عن حقه ، ويهتم في دفع حجج خصومه ، بل ويخوض غمرات الحروب في الجمل ، وفي صفين ، ويعرِّض نفسه للأخطار الجسام ، في سبيل الدفاع عنهعليه‌السلام ، وعن قضيته ، حتى لقد قال الإمامعليه‌السلام : أملكوا عني هذا الغلام لا يهدني ـ حسبما تقدم

وبالنسبة لدفاعه عن قضية أهل البيتعليهم‌السلام ، وحقهم بالخلافة ، دون كل من عداهم ، فإننا لا نستطيع استقصا جميع مواقفه وأقواله فعلاً ، ولكننا

__________________

1 ـ أنساب الأشراف بتحقيق المحمودي ج 2 ص 216 / 217 وتاريخ الطبري ج 3 ص 474 وليراجع : شرح النهج للمعتزلي ج 1 ص 226 / 227 و ج 19 ص 117 وسيرة الأئمة الاثني عشر ج 1 ص 543 عن طه حسين وغيره.

2 ـ راجع : سيرة الأئمة الاثني عشر علي بن أبي طالب 1 ص 542 ـ 544 وغير ذلك.

١٧٧