الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ٢

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة33%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 177

  • البداية
  • السابق
  • 177 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 22874 / تحميل: 7498
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

د. كُرْجي: أعتقد أنَّ هذه الأدلّة ألقى بها الشارع إلى العُرف وإلى ما يفهمه هذا العُرف منها، كما أعتقد بأنَّ العُرف لا يختصّ بزمان معيّن، ولا يتحدَّد به، فنحن الآن نتعامل مع( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) كما كان يتعامل معها الفقهاء السابقون؛ حيث إنَّهم كانوا يستنبطون حلِّيَّة البيع من خلالها. الأمر نفسه بالنسبة لنا الآن، فما زال لهذا الدليل نفسه الاعتبار والقيمة نفسيهما، بحيث نستنبط منه حكم البيع، ونبني على أساسه.

ثمّ أودُّ أن أشير إلى نقطة ثانية، وهي: إنّ المراد، من مثل هذه العبارات والجمل، هو عمل العُرف.

الشيخ شَبَسْـتَري: يعني العُرف الذي كان في زمن النزول وفي عصر صدر الإسلام؟

د. كُرْجي: كلاّ، فليس المقصود ذلك من حيث الأصل، البيع يعني المعاملة، طبيعي هذا ما يكون إبتداءً، فالبيع هو الفعل الحقوقي الذي يمارسه العُرف، وأنا قبلته.

الشيخ شَبَسْـتَري: ليس المراد إذن هو المعنى المطابقي لـ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ) ، أو تقول إنَّ هناك معنى آخر قبل ذلك؟

د. كُرْجي: كلاّ، إنَّما أريد أن أقول: إنَّ هذا شيء شبيه بشأن النزول، شبيه بالمورد، فالمورد لا يخصِّص.

الشيخ شَبَسْـتَري: ولكن هذا شيء آخر دكتور.

* هناك مصطلح في علم الأصول هو: الوضع العام والموضوع له الخاص (١)، فهل الألفاظ التي وضعت لروح المعاني جاءت على أساس خصوصيّة المورد أو لمعنى عام؟

الشيخ شَبَسْـتَري: حسناً، ولكنَّهم لا يقبلون.

* الذي يبدو أنَّ العُرف لا يلاحظ أبداً خصوصية المورد؛ مثل كلمة مصباح، ميزان وغيرهما من الأمثلة، فرغم الاختلاف بين المعاني المرادة من هذه الكلمات، وبين المعاني التي كانت تستعمل فيها هذه الكلمات، إلا أنَّ العُرف لا يستعملها في هذه الأيام على نحو المجاز.

الشيخ شَبَسْـتَري: ليس النزاع في استخدام الألفاظ، فالألفاظ ربَّما تُستخدم على نحو الحقيقة، وإنَّما المعاني هي التي تختلف من عصر لآخر.

٤١

د. كُرْجي: المعاني لا تختلف، وإنَّما قيودها هي التي تختلف، فالقيود التي تؤخذ بنظر الاعتبار في العصور المختلفة، هي التي تختلف. أمَّا الماهية (الجوهر أو الحقيقة) القانونية، فلا تتغيَّر.

الشيخ شَبَسْـتَري: المسألة تكمن تماماً في هذا الجانب الماثل في عدم إمكانية استخدام مصطلح الماهية في البحوث اللغوية. فبحث الماهية وعوارضها هو من بحوث الفلسفة.

د. كُرْجي: لم أقصد الماهية المنطقية.

الشيخ شَبَسْـتَري: أجل، إنَّه بحث فلسفي (أنطولوجي). وحين أتحدَّث لا أقصد المبنى؛ أي لا أريد أن أقول ما إذا كان هذا المبنى صحيحاً أم لا، وإنَّما غاية ما أريد، هو أن ألفتَ الانتباه إلى هذا المبنى بشكل دقيق. فهذا الذي يعرض هنا هو بحث فلسفي (أنطولوجي) وما شاكل ذلك. أمَّا البحث اللغوي، فهو شيء يختلف تماماً.

د. كُرْجي: هذا صحيح في المجال الفلسفي.

الشيخ شَبَسْـتَري: البحث اللغوي يعني أنَّ لفظ البيع - على سبيل المثال - أو أي لفظ آخر، يمكن أن يبقى بين مجتمع معيَّن لآلاف السنوات، بَيْدَ أنَّه ينطوي في كلّ عصر على معنى خاص. فاللفظ المتداول هو هو، والمعنى الخاص المراد منه هو الذي يتغيَّر، بمعنى أنَّهم يفهمون منه معنى مختلفاً. اللفظ إذاً باقٍ، والاستخدامات هي التي تتغيَّر؛ لذلك إذا حمل حكم معيّن على معنى خاص، كان يُراد من اللفظ في بعض العصور، فلا يمكن لهذا الحكم أن يسري ِإلى معانٍ أخرى.

د. كُرْجي: البيع عمل حقوقي، وهذا العمل الحقوقي ثابت لم يتغيَّر.

الشيخ شَبَسْـتَري: لماذا؟ لقد تَغيَّر واختلف.

د. كُرْجي: لم يتغيَّر، فالبيع لم يتحوَّل إلى إجارة، فالماهيَّات ليست أموراً حقوقية.

الشيخ شَبَسْـتَري: صحيح، لكن التغيُّرات طرأت عليها في نفسها، وإلاّ هل ترى الأنواع العشرة من التجارة (التي افترضنا أنَّها سائدة اليوم) متشابهة، لا فرق في ما بينها، أو هي تُعبِّر عن عشرة ضروب اعتبارية؟

٤٢

د. كُرْجي: (التجارة) تشمل كلّ شيء؛ أي هي عنوان جامع للأنواع العشرة.

الشيخ شَبَسْـتَري: السؤال يكمن هنا بالذات، فلو استُخدم مصطلح التجارة في أحد الأزمنة، وفُهم منه نوع واحد من ضروب التجارة، بحيث نفترض أنَّ الأنواع الأخرى لم تكن قد عرفتها البشرية بعد، فعلى أيِّ أساس يصحُّ أن نقول: إنَّ هذا اللفظ جامع لجميع الأنواع، حتّى تلك التي لم تُكتشف بعد ولم تُعرف؟

د. كُرْجي: يتمّ ذلك بالمصداق الأوَّلي، فالمصداق الأوَّلي جامع.

الشيخ شَبَسْـتَري: هذا هو التجريد الفلسفي عينه الذي نمارسه على اللغة، والآخرون يقولون: لا وجود للتجريد الفلسفي في اللغة.

* مرادنا من البحث في هذا الموضوع؛ أنَّ بحث أصالة الحظر وأصالة الإباحة والبحث اللغوي، جاءت إلى بحوثنا في أصول الفقه من الفلسفات والعلوم الأخرى، ونفذت إليه بعنوان كونها مقدِّمة للفقه ومن الأصول، فكان لها تأثيرها الكامل على الفقه. هذا هو مبتغانا من السؤال الأوَّل؛ إذ أردنا أن نبيِّن أنَّ هناك بحثاً لغويَّاً نفذ إلى الفقه عِبر علم الأصول. ففي مسألة: هل يدلُّ الأمر على الفور أو على التراخي؟ وما هي مقدِّمات الحكمة في باب الإطلاق؟ هذه جميعاً بحوث تدخل في إطار البحث المعرفي في اللغة نفذت إلى (علم الأصول)، ولمَّا كان علم أصول الفقه بمثابة مقدِّمة الفقه، فقد كان لها - إذاً - تأثيرها الكامل الذي تركته على الفقه.

المسألة تعود في نهاية المطاف إلى المبنى الذي يلتزمه الفقيه في أصول الفقه، وإلى طبيعة الآراء التي يقبلها ويؤمن بها. كذلك الحال بالنسبة إلى البحث الكلامي الذي يأتي في مجال أصالة الحظر وأصالة الإباحة.

د. ناصر كاتوزْيان: بالرغم من أنَّ فروع العلوم في عصرنا الحاضر قد اتّسعت وامتدّت على مساحة واسعة، واتّسمت بالتعقيد؛ بحيث لا يمكن لأيِّ إنسان أن يستوعبها جميعاً، لكن مع ذلك ينبغي ألاَّ نستبعد ما للفلسفة والكلام من صلة بالفقه.

٤٣

فالفلسفة ما زالت تلقي بظلالها على جميع العلوم، ففي كل مرّة يعود الإنسان إلى معارفه ومعتقداته، يراجعها في ضوء العقل، إنَّما هو يعود في الواقع إلى الفلسفة، ولكن غاية ما هناك أنَّ دور الفلسفة لم يعُد كما كان يعتقد الماضون، فقد اختلف كثيراً عن السابق؛ بحيث لم يعُد ثَمَّة وجود لادعاء الإحاطة بجميع المعارف والعلوم، وإنَّما عادت الفلسفة لتعبِّر عن النظريات العامة في كلّ فرع من فروع العلم والمعرفة، كما هي الحال في فلسفة العلوم، فلسفة التاريخ، فلسفة الأدب، فلسفة الرياضيات، وفلسفة القانون، ففي كلّ حقل من هذه الحقول ثَمَّة متخصِّصون يرتبطون به.

ففلسفة الحقوق - على سبيل المثال - هي حقل معرفي يشتغل على تحقيقه وإعداد مكوِّناته حكماء ينصرفون إلى هذا الحقل (مثل فلسفة الحقوق عند هيغل وكانت)، أو يشتغل فيه حقوقيُّون يضطلعون بالبحث في باني الحقوق وهدفها وتعريفها وماهيَّـتها.

وما هو سائد الآن هو القسم الثاني، إذ هناك، في كلّ حقل من حقول العلم، علماء لهم ذوق فلسفي، ينصرفون إلى العمل على فلسفة العلم الذي يختصّون به.

من هذا المنطلق نجد أنَّ هناك فراغاً في حقل المعارف الإسلامية الجديدة، يشير إلى غياب الفلسفة التي تضطلع بالتنظير للحقوق الإسلامية، أو الفقه بشكل خاص، وحين نعود لتأمُّل الموضوع نجد أنَّ مباني هذا الحقل ومكوِّناته موزَّعة الآن في ثنايا الفلسفة، والكلام، وأصول الفقه، وهي بحاجة إلى أساتذة مبدعين لينهضوا بمهمِّة التأليف والجمع لتلك المباحث المتفرِّفة من السلف الصالح.

٤٤

ويدخل، في مضمار فلسفة الفقه، مسائل وقضايا من قبيل:البحث في الحسن والقبح العقليّين والشرعيّين ،مفهوم الإجماع ومكانته، العلاقة بين السُّـنَّة والقرآن، مكانة الاستحسان والمصالح المرسلة في الاستنباط،العلاقة بين الفقه والعدالة والأخلاق، دور العُرف في التكوين الشرعي، مبنى الإلتزام في الأحكام الشرعية (سواء تعلَّق بالأوامر والنواهي الإلهي أم بالأوامر التي تصدر من الحكومة)،معنى الولاية ومجالها (سواء كانت ولاية النبي والإمام أم ولاية الفقيه)،علل الأحكام وحكمها والجواب عن مسالة ما إذا كانت الأحكام تدور مدار العلَّة أم لا؟ كما أنَّ هناك عشرات المسائل الأخرى المشابهة التي يمكن أن تكوِّن - مع منطق الفقيه وأدواته - حقل فلسفة الفقه، أو فلسفة النظام الحقوقي الإسلامي.

ووجود مثل هذا التخصُّص الذي يتَّصل بهذه المباحث من الفلسفة والكلام، ممَّا له ارتباط بالفقه وأسلوب استنباط الأحكام، أو له في الحقيقة صلة بالنظرية العامة لنظام الحقوق الإسلامي، هو من الأمور الضرورية للفقيه، كما أنَّه من الضرورات للاجتهاد. أمَّا بحوث من قبيلِ قِدم القرآن وحدوثه، معنى اللوح المحفوظ ومراتب العقل، كيفيّة نزول الوحي، أوصاف الباري وارتباطها بذات واجب الوجود، أصالة الوجود والماهية، فلا تُعَدُّ ضرورية للاجتهاد. بَيْدَ أنَّ ما يؤسف له ويبعث على الأسى أنَّ الإنسان، الذي لا يملك عمراً كافياً للمرور مرّة واحدة على الكتب التي ترتبط باختصاصه ومجال عمله، يتحوَّل إلى فقيه يحاول أن يعكس في شخصيَّـته الجمع بين المعقول والمنقول معاً، فيقع ضحية التشتُّت في الفكر، ويغفل في نهاية المطاف عن المسائل الأصلية ذات الصلة بعمله الأساس.

ويبدو، في هذا المضمار، أنَّ مقدور علم اجتماع الحقوق أن يكون الوسيلة المناسبة، وهمزة الوصل في إيجاد الارتباط بين الحوزة والمدرسة من جهة، وبين المجتمع من جهة أخرى؛ بحيث يدخل هذا الاختصاص ليكون في موقع المعاون الفكري للفقهاء، ويحلُّ بديلاً عن الفلسفة المحضة.

٤٥

كما أنَّ علم الحقوق (ما هو أشمل من القانون)، بمعناه الجديد، يتقدَّم على كثير من المقدِّمات التقليدية للاجتهاد؛ لأنَّ على الفقيه في إطار الحكومة الإسلامية أن ينتبه إلى الانعكاسات الاجتماعية لأحكامه التي يستنبطها، ويكون على بيِّنة من كيفيّة تنفيذ الحكم المستنبَط، والموانع والعقبات التي تحول دون ذلك.

تأثيرات الزمان والمكان

* هل هناك تأثير للزمان والمكان في الاجتهاد الفقهي؟ وما هي طبيعة تأثيرهما في تغيُّر الأحكام أو تكاملها؟ وهل تستوجب معرفةُ الزمان والمكان معرفةَ الموضوعات المستحدَثة؟

السيد مرعشي: ليس ثَمَّة شكٌّ في أنَّ على كلِّ مجتهد أن يكون مطّلعاً على مقتضيات الزمان واعياً لها. فوظيفة المجتهد لا تقتصر على البحث في المنابع الفقهية سنداً ودلالة فقط، بل يجب عليه أن يتحلَّى برؤية؛ بحيث يميِّز في الحكم الصادر بين أن يكون قد صدر طبقاً لمقتضيات الزمان في عصر النص، أو أنَّه حكم كلِّي وعام. فقد يكون الأمر كذلك في مسألة تعلُّق الدية بالعاقلة، أو في الديات الستّ مثلاً؛ بمعنى أنَّها أحكام تختصّ بزمان الصدور، من دون أن يكون ثَمَّة موضوعية لأيٍّ منها. كما أنَّه هناك شكّ في أنَّ الاطّلاع على مسائل العصر ووعيها، ومعرفة الموضوعات المستحدَثة، هي أمور ضرورية للمجتهدين، وإلاّ إذا لم يطّلع المجتهدون عليها، ولم تكن لهم معرفة بها، فكيف يكون بمقدورهم أن يبيِّنوا أحكامها ويستنبطوها؟

٤٦

السيد الحائري: نبدأ الحديث هنا عن مدرسة المرحوم النائيني، فالنائيني كان يعتقد أنَّ أمامنا في مثل( آتَوْا الزَّكَاةَ ) ثلاثة أمور، هي: الوجوب (وهو الحكم)، والإيتاء (وهو متعلَّق الحكم)، والزكاة (وهي الموضوع أو متعلَّق المتعلَّق)؛ إذ يتعلَّق الإيتاء به. وهنا ثَمَّة فرق بين الموضوع والمتعلَّق:

المقصود من الموضوع - بحسب المصطلح الأصولي - هو الشيء مفروض الوجود؛ أي الذي يفترض في المرتبة السابقة، ثُمَّ يأتي الحكم بعده، وذلك خلافاً للمتعلَّق الذي لا يُؤخذ مفروض الوجود. فالمتعلَّق يوجد بوساطة الأمر؛ أي هو الشيء الذي نُؤمن نحن بالعمل به أو بتركه. أمَّا الموضوع فليس كذلك؛ بحيث نوجده نحن، الموضوع موجود.

على أساس هذا المبنى علينا أن ننظر أين يمكن أن يكون للزمان دخل في هذه الأمور الثلاثة: فهل يؤثِّر الزمان في الموضوع بحيث يبدِّله، ما يستدعي تبدُّل الحكم (بمعنى أنَّ الموضوع الجديد يحتاج إلى حكم جديد، لا بمعنى تغيُّر الحكم الإلهي الكلّي)، أم أنَّ الزمان والمكان يَستبدلان المتعلَّق؟ علينا أن نتأمَّل المسألة لننظر أي أمر من هذه الأمور الثلاثة يطاله التغيير والتبديل.

في الحالة الأولى، عندما يقوم المكان والزمان بتغيير الموضوع، فمن الطبيعي أن يتبدَّل الحكم تبعاً لذلك. ففي عصر من العصور لم يكن ممكناً مواجهة الحكومات المنحرفة، ففي مثل هذه الحالة نجد أنَّ الأئمّةعليهم‌السلام أكَّدوا بشكل كبير وجوب التقيّة. أمَّا لو تغيَّرت الشروط الزمانية، وتوافرت الأرضية المناسبة لمواجهة الحكومة المنحرفة، فإنَّ ذلك يستدعي ظهور حكم جديد، وذلك تبعاً للتغيُّر الذي طرأ على الموضوع، إذ يوضع حكم التقية جانباً، ويترك مكانه لحكم الجهاد والمواجهة.

في هذه الحالة لم يتغيَّر الحكم الإلهي، بل تبدَّل الحكم تبعاً لتبدُّل الموضوع، ولا أحد يناقش في هذا البعد.

٤٧

أمَّا في القسم الثاني، فيمكن لمتعلَّق الحكم أن يتغيِّر بمرور الزمان أو بتأثير تغيير المكان، وحينئذ يتغيَّر الحكم تبعاً لتغيُّر المتعلَّق، من دون أن يكون تغيير المتعلَّق قد جاء تبعاً لتغيُّر الموضوع.

مثال ذلك قولنا: احترم الوالدين، فربَّما يختلف متعلَّق الحكم (الاحترام) تبعاً للزمان والمكان؛ إذ يمكن أن يكون الاحترام في صدر الإسلام بنحو معيّن، وفي عصرنا الراهن بنحو آخر.

كما يمكن أن نشير للحالة بمثال يدلّ عليها من خلال ما جاء في الرواية التي تقول:(اتّقوا النار ولو بشقِّ تمرة)؛ بمعنى أنَّ الإنسان إذا أفطر صائماً في شهر رمضان ولو بشقّ تمرة، فإنَّ ذلك يكون له نجاة من النار، فهنا توهَّم بعض المتديِّنين أنَّ الرواية تنطوي على العموم؛ بحيث إنَّ أيَّ إنسان يبادر إلى إفطار صائم في المسجد، أو في الشارع بشقّ تمرة، يكون قد تمثَّل حالة( اتَّقُوا النَّارَ ) وصار مصداقاً لها، في حين ليس الأمر كذلك، إنَّما ترتبط الرواية بحال الصائم إذا كان فقيراً، بحيث ينقذه شقّ التمرة من الجوع.

نأتي الآن إلى القسم الثالث الذي نقول فيه: إنَّ الحكم يتبدَّل مباشرة من دون تبدُّل المتعلَّق والموضوع. هذا أمر لا يكون في نظرنا، إلاّ إذا قلنا: إنَّ فهم الفقيه يزداد بمرور الزمان ويتَّجه إلى نقاط أكثر، بحيث يرتاد هذا الفقيه آفاقاً أخرى لم يكن السابقون قد انتبهوا إليها، فقي حالة كهذه يمكن أن يتبدَّل الحكم أو الفتوى.

هذا ما حصل - على سبيل المثال - في مسألة ماء البئر؛ إذ كان يُحكم بتأثُّره بالنجاسة التي تسقط فيه إلى ما قبل عصر العلاّمة الحلّي، لكن منذ عصر العلاّمة الحلّي فما بعد تبدَّل إلى الطهارة مع حفظ (ثبات) الموضوع والمتعلَّق.

ثُمَّ مثال آخر يمكن أن نأخذه من الموقف من الخمس، فقد كان بعضهم يفتي بوجوب دفنه، ثُمَّ تحوَّل الأمر إلى استنكار هذا القول، واستبدلوه بآخر يقول بوجوب صرفه بدلاً من دفنه.

٤٨

وما نريد أن نخلص إليه هو أنَّ تبدُّل الحكم، إذا حُمل على هذا المعنى، فهذا حمل صحيح. فلو افترضنا أنَّ الفقهاء هم بمنزلة الشخص الواحد، فإنَّ هذا الشخص ينتبه إلى نقاط أكثر كلَّما تقدَّم به العمر أكثر، وعندئذ يمكن أن تتبدَّل الفتاوى والأحكام، لكن إذا كان المقصود من المسألة المثارة للنقاش أنَّ الزمان والمكان يغيِّران الكبرى الكلّية للحكم، فهذا أمر غير صحيح، وهو يخالف الرواية التي تقول:(حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة)، فتغيير الكبرى الكلّية للحكم، يتوقّف على مجيء نبي ونسخه لها!

* يمكن أن نقول: إنَّ ما نعنيه هو القسم الثالث، بحيث يتغيَّر فهم الفقيه من الآية والرواية تبعاً لأوضاع الزمان والمكان، وذلك كما في حكم حرمة تشبُّه المسلم بالكافر، إذ تغيَّر هذا التشبُّه بمرور الزمان؟

السيد الحائري: كلاّ، ما ذُكر في السؤال يدخل في القسم الأوَّل، أو في القسم الثاني، حيث يكون التشبّه متعلَّقاً للحكم. الزمان والمكان لا يغيِّران من فهم الفقيه، إلاّ في الحالة التي أشرتُ لها؛ من أنَّ طول خط المرجعية واستمراره ودوامه يؤدِّي إلى تكامل فهم الفقهاء. أمَّا إذا قلنا: إنَّ الزمان والمكان يغيِّران الفهم، فإنَّ ما يكون حجة هو الفهم الذي كان سائداً في عصر الإمام، لا الفهم السائد في زماننا. أمَّا ما يتعلَّق بمثال التشبُّه بالكفّار، فهو مصداق لتبدُّل الموضوع، حيث لا تندرج المسألة بعد ذلك - بتغيُّر الموضوع - في باب التشبُّه بالكفّار، إذ غدا ارتداء اللباس في العُرف السائد في العالم على شكل واحد، ومن ثَمَّ لا معنى للتشبّه. ويمكن أيضاً أن ننظر إلى المسألة من زاوية أخرى، إذ تقود دقَّه العلماء المتأخِّرين إلى اكتشاف أنَّ دليل العلماء المتقدِّمين كان يتمثَّل برواية ضعيفة عملوا بها، وقد سَلَّم بها مَن سلَّم انطلاقاً من القول: إنَّ عمل الأصحاب جابر لضعف السند، في حين يمكن للفقهاء المتأخّرين أن لا يلتزموا بهذه القاعدة، وبالتالي يرون أن الرواية الضعيفة ليست دليلاً كافياً على حرمة التشبّه، فيتغيَّر الحكم على هذا الأساس، وهذا مدخل يختلف عن القول: إنَّ الزمان والمكان يفضيان إلى تغيير الحكم.

٤٩

د. كُرْجي: تنطوي الأحكام الفقهية على أقسام كثيرة، وما هو موجود في الكتب الفقهية، وبخاصة كتب الفقه الشيعي، هو فقط أقسام محدودة. أصول هذه الأقسام هي:الأحكام التكليفيّة العبادية وغير العبادية، أحكام الأحوال الشخصية، الأحكام الوضعية الخصوصية ،العقود والإيقاعات والأحكام العامة (الأحكام الحكومية التي تمارسها الدولة). لا تأثير للمكان والزَّمان على العبادات، في حين يكون لهما تأثيرهما الكبير على بقيَّة الأحكام، لا سيَّما الأحكام العامة، التي يكون المجتمع موضوعاً لها. ما نجده في الكتب الفقهية أنَّها لم تبحث في هذه الأحكام، وإنَّما تناولها الحقوقيُّون فقط بالبحث، وذلك من قبيل: الحقوق المدنية، الحقوق الجزائية العامة والخاصة، حقوق التجَّار، النقل، الضمان، الضرائب، القوانين الدولية العامة والخاصة، القوانين التي تنظِّم الحقوق البحرية، كما هناك أقسام أخرى (الحقوق هنا أشمل من القانون)، فهذه الحقول جميعاً تشهد، من دون ريب، تأثيراً كبيراً للزمان والمكان فيها.

وما يجب على الفقهاء هو أن يُدْخِلوا هذه الأبواب جميعاً إلى الفقه، ويستنبطوا أحكامها وفق النهج الفقهي الصحيح. بَيْدَ أنَّ الذي يؤسف له هو أنَّ الفقهاء لم يشرَعوا في هذه المهمَّة حتى الآن.

أجل، إنَّ الكتاب والسُّـنَّة يشتملان على كلِّيات الأحكام العامة، بَيْدَ أنَّ الأساس الذي تقوم عليه هو مصالح المجتمع ومفاسده، ومن الطبيعي أنَّ أكثر العوامل تأثيراً في هذه المصالح والمفاسد، هما: الزمان والمكان. كذلك الحال في بقيَّة الأحكام الأخرى، وبخاصة العقود والإيقاعات.

صحيح أنَّ هذا الضرب من الأحكام مُمْضَى؛ أي هو من الأحكام التي أقرَّها الشارع ولم يوجدها بنفسه، ولكن لا يصحّ أبداً أن يقال: إنَّ الشارع أمضى فقط مقرَّرات زمانه وحسب، أي أمضى العُرف الجاهلي وحده، بل هو أمضى أحكام العُرف في جميع الأزمنة. فالشارع المقدَّس أمضى صحّة جميع العقود بموجب الآية الشريفة:( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، ولم يقتصر إمضاءه على العقود المتعارفة في زمن النص وعصر التشريع.

٥٠

الشيخ شَبَسْـتَري: ينبغي أن نحدِّد بشكل دقيق ما نعنيه من القول:(هل للزمان والمكان دور في الاجتهاد أو لا؟) ، فماذا نعني بمقولة:(إنَّ للزمان والمكان دخلاً في الاجتهاد)؟ هل المقصود من الزمان والمكان مجموعة التحوُّلات التي تطرأ على الحياة البشرية خلال الزمان والمكان، أو المراد أنَّ للزمان والمكان تأثيراً مباشراً على الاجتهاد؟ إذا ما أراد الفقيه أن يتحدَّث بهذا المنطق، وهو يعتقد أنَّ للتحوُّلات المختلفة التي تطرأ على الحياة البشرية دخلاً في الأحكام، فمعنى ذلك أنَّ هناك(حقيقة) جديدة اسمها:(التحوُّلات البشرية المختلفة)، يجب أن يأخذها بنظر الاعتبار إلى جوار الكتاب. حينئذٍ ليس من الصحيح أن نقول: إنَّ الفقيه ينظر، في عملية الاستنباط، إلى الكتاب والسُّـنَّة فقط، وإنَّما برزت أمامه(حقيقة) (ظاهرة) أخرى لها دورها في الاستنباط.

إذا أراد الفقيه أن يأخذ بنظر الاعتبار مسألة التحوُّلات الاجتماعية، عليه - إذاً - أن يحدِّد لنفسه معنى واضحاً للتحوُّلات الاجتماعية، وللحضارة بشكل عام؛ فما هو المراد من التحوُّلات الاجتماعية، ومن الحضارة؟ وماذا يقبل منهما وماذا يرفض؟

كنَّا شهوداً على ما كتبه الإمام الخمينيرحمه‌الله في رسالة جوابية بعث بها إلى أحد السادة العلماء في قم، حيث كتب له:(وفق الرأي الذي تؤمن به يجب أن تُرفض الحضارة الجديدة، في حال أنَّنا يجب أن نقبل هذه الحضارة الجديدة) . لقد استخدم الإمام مصطلح(الحضارة الجديدة) ، والآن نسأل: ماذا يعني قبول الحضارة أو التقدُّم الحضاري الجديد؟

يترافق التقدُّم الحضاري الجديد مع سيل من التحوُّلات الحياتية في معيشة البشر، وإن كان الجزء الذي نلمسه منه ونتعاطى معه بشكل مباشر هو المسائل المادِّية والمعيشيَّة من هذا التقدُّم.

٥١

وليس الأمر كما يقال من أنَّ التقدُّم الحضاري الجديد افترق فقط عن السابق بأدوات المعاش والوسائل الحياتية، كما كان الشهيد مُطهَّري يصرُّ على هذا الرأي في كتابه(الإسلام ومقتضيات الزمان) ؛ إذ كان يذهب إلى أنَّ التحوُّلات التي لا يستطيع الإنسان تجنُّبها ورفضها، هي فقط ما يطرأ على الحياة الإنسانية من تغيُّر في وسائل المعاش. فإذا أراد الإنسان - مثلاً - أن يحمل مفهوماً صحيحاً عن التنمية الاقتصادية، أو مفهوماً صحيحاً عن الحياة الاجتماعية لمجتمع ما، في إطار دستور مدوَّن - وهاتان الظاهرتان كلتاهما من الإفرازات الأساسية للتطوُّر الحضاري الجديد - فلا يسعه أبداً أن يفكِّر في وسائل المعاش المادِّية وحدها؛ والسبب هو: أنَّ التنمية الاقتصادية، أو العيش في إطار دستور مدوَّن، ترافقهما منظومة قيمية خاصة، كما يرافقهما أيضاً طراز خاص من الحياة الفردية والاجتماعية.

لذلك كلِّه ينبغي ألاَّ نمرَّ على هذه المسائل ببساطة، ونكتفي بالقول: إنَّ معرفة الزمان والمكان ووعيهما يعنيان فقط معرفة الموضوعات المستحدَثة في المعنى الذي يقتصر على الوسائل الحياتية المادّية وحدها، كلاّ، إنَّما نرى أنَّ آثار الزمان والمكان ودورهما أكثر عمقاً وسِعةً من حدود هذا الكلام، ومن ثَمَّ فإنَّ الاجتهاد الذي يمارَس في إطار مقولتي الزمان والمكان، له صولة مباشرة بقبول الكثير من القيم الأخلاقية والثقافية أو رفضها. طبيعي أن قبول هذه القيم أو رفضها هو فرع ونتيجة لوعي تلك القيم وتلك الثقافة وإدراكهما ومعرفتهما.

ومن الطبيعي أن يكون ثَمَّة أسلوب واجب الاتباع في عملية التعرَّف، والوعي، والإدراك. إنَّ القضية التي تُعبِّر عن نفسها في مضمون السؤال الآتي: وفق أيِّ أسلوب نريد أن ندرك تلك القيم وتلك الثقافة ونعيمها ونتعرَّف إليهما؟ هي مسألة في غاية الأهمية؛ فهل نريد أن نمارس التعرُّف والوعي والإدراك بأسلوبنا الفلسفي القديم أو بالأساليب الجديدة؟ وماذا نختار من هذه الناهج الجديدة، ولماذا؟

٥٢

لو عدنا - مثلاً - إلى أسلوب القدماء، لرأينا أنَّ تصوُّرهم للمجتمع يقوم على أساس ما يأتي: هم يفترضون أنَّ المجتمع كجسم الإنسان، تتمثَّل سلامته وتوازنه في وضع كلِّ إنسان في المجتمع، أو قوَّة من القوى الاجتماعية، في مكانها الطبيعي، على هذا الأساس يكون العدل في هذا التصور هو:(وضع كلِّ شيء في موضعه). والسؤال: هل نريد أن نتعرَّف إلى القيم التي تتَّصل بالحياة الاجتماعية على أساس هذا التصوُّر للمجتمع والعدل الاجتماعي، أو نريد أن نفعل ذلك على أساس فلسفة القيم في علم الاجتماع، أو فلسفة السياسية، أو فلسفة الأخلاق؟ وهذا مجرَّد مثال واحد.

ما نريد أن نخلص إليه هو أنَّه لا يسع الفقيه، اليوم، أن يكتفي بالتعامل مع الظَّواهر السطحية الملموسة والمادية من التقدُّم الحضاري الجديد، ثُمَّ يقرِّر، على أساس هذه الكيفية في التعامل، ما يقبله وما يرفضه من التمدُّن الجديد. وهذا ما يقال في عناوين تُطرح في المجال الفقهي؛ فحينما تُطْرح في المجال الفقهي قضايا من قبيل: لزوم مراعاة المصلحة، والعسر والحرج، وما شابهها، فإنَّها جميعاً تنصرف إلى التحوُّلات الحياتية، ولا يمكن قصر هذه العناوين على السطح الملموس الظاهر من الحياة المعاصرة. فالضرورة والمصلحة يجدان معناهما دائماً من خلال مقصد معيّن. على ضوء ذلك، يتعيَّن أن نلاحظ، في المرتبة الأولى، طبيعة المقصد الذي يؤمن به الفقيه، لكي يقول على أساسها - وفي المرتبة الثانية -: إنَّ هذه المسألة ضرورة، أو أنَّها تُعبِّر عن المصلحة.

٥٣

دوائر تأثير المكان والزمان

د. كاتوزْيان: للزمان والمكان تأثير على الاجتهاد الفقهي والأحكام القابلة للتنفيذ من جهات مختلفة، من دون أن يكون ذلك التأثير متعارضاً مع إثبات الأحكام الإلهية.

لا أظنُّ أنَّنا نستطيع، في هذا الجواب القصير المجمل، أن نعرض لجميع العوامل المؤثِّرة في الاجتهاد، إنَّما نشير إلى بعض العوامل من باب المثال، من خلال النقاط الآتية:

١ - تحوّل القيم الأخلاقية: أبرز علامة تشهد على هذا التحوُّل هي مسألة العبيد؛ إذ تكفينا في هذا المضمار نظرة عامة إلى تاريخ الفقه والأحكام المتعلّقة بالعبيد والإماء في الكتب الفقهية، لكي نلحظ فيها انخفاض الاهتمام بهذا الباب تدريجياً، حتّى إذا ما ألغي نظام العبيد، ترى أنَّ الكتب الفقهية لا تتحدَّث عن الموضوع إلاَّ لُماماً.

طبيعي أنَّ هناك مَن يذهب في تفسير هذا التحوُّل، وعدم اهتمام الفقه بالعبيد، إلى القول بانتفاء الموضوع؛ في حين أنَّ السبب الحقيقي يتمثَّل بالتحوُّل الذي طرأ على القيم الأخلاقية، فلو قَتَل كافرٌ في المجتمع الإسلامي مسلماً، فهل يحقُّ لورثة القتيل المسلم، أن يسترقُّوا الكافر ويتَّخذوه عبداً؟ هل سألنا أنفسنا عن طبيعة المانع الذي يحول دون الاستفادة من حقِّ التملُّك الشرعي هذا؟

في مرحلة أدنى ممَّا يعكسه المثال المشار إليه آنفاً، ينبغي أن نتحدَّث عن طبيعة العلاقة بين المرأة وزوجها، وما طرأ على ذلك من تحوُّلات طوال تاريخ الفقه. الأسئلة المثارة هنا هي:هل يعكس ما يحكم مجتمعاتنا الحاضرة وما يسودها الآن، ما قاله الفقهاء وما بَلْوَروه من أحكام؟ إذا كان هناك مَن يشكّ، فلا بأس في أن نلجأ إلى التحكيم لنرى، فهل من الواجب على الرجل الذي يريد أن يُطلِّق زوجته، أن يعود إلى الحاكم ويخضع للتحكيم؟ وهل يصدق الشقاق (النفرة أو الاختلاف بين الجانبين) على الرجل الذي يريد أن يطلِّق زوجته؟ ثُمَّ هل يُعَدُّ العسر وحرج المرأة القاعدة العامة لجواز طلاق المرأة؟ وهل

٥٤

يقبل الجميع فتوى المرحوم السيِّد محمد كاظم الطباطبائي في عسر المرأة وحرجها إذا غاب عنها زوجها وخيف عليها من الوقوع في الحرام(٢) ؟ هل تستطيع المرأة أن تتقاضى الأجر من زوجها؟ ثَمَّ كثير من الأسئلة غير ذلك. دعونا نقترب من المسألة أكثر لنسأل: هل ينطوي مفهوم المعاشرة بالمعروف( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) ، في مجتمعنا المعاصر، على معناه السابق الذي كان عليه؟ وهل يَتساوى بين حياة القرية وحياة المدينة؟ وهل ترون أنَّه يمكن لزوجٍ ثريٍ أن يتزوَّج في مجتمعنا المعاصر من فتاة متعلّمة لكنَّها فقيرة، ثُمَّ يعاملها في النفقة على ضوء أصلها العائلي، بحيث يعيِّن لها نفقة تتناسب مع المستوى المعيشي لعائلتها الفقيرة، من دون أن يأخذ بنظر الاعتبار شؤون العائلة الجديدة؟ وهل يصحُّ، في نظركم، أنَّ هذه الزوجة المحتاجة لا تستطيع أن تأخذ من زوجها نفقة الدواء والسفر، وأنَّ عليها فقط أن تكتفي بالمسكن والطعام واللباس وتقنع بها؟ ثُمَّ هل تنطوي قيمومة الرجل ورئاسته للأسرة( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ ) على معنى امتثال التكليف وحفظ الأمانة - كما هو في قيادة الجماعة - أو يُعبَّر هذا الموقع عن نزعة التسلُّط وإشباع نزعات الرضا والميول الشخصية لدى الزوج؟ علينا إذن أن نقبل، في ضوء هذه الأسئلة وما تمليه من معطيات، أنَّ التحوُّل الهادئ في القيم الأخلاقية أعاد ترسيم الحدود المألوفة والمتوارثة، واقتضى بروز اجتهادات فقهية جديدة.

ــــــــــــــ

٢ - العوامل الجغرافية والمكانية: لقد أبرز عدم اتساق سِن البلوغ الشرعي عند البنات مع الواقع الطبيعي والاجتماعي المُعاش، في عصرنا الحاضر، ميلاً للقول: إنَّ سِن التكليف إنَّما هو أحد العوامل الكاشفة عن البلوغ، وليس موضوعاً كاملاً. ومشكلة عدم اتساق الحكم الشرعي مع المحيط الجغرافي تتأكَّد أكثر في المناطق الباردة. ففي السويد - مثلاً - لا تبلغ الفتاة جسمياً إلاَّ بعد سِن العشرين، فكيف يصحُّ الادّعاء بأنَّ الفتاة تبلغ في سِن التاسعة (أو أقلّ) وتكون مستعدَّة للزواج؟!

٥٥

٣ - تغيُّر العلوم والتقدُّم التكنولوجي: نصَّ الفقه على أنَّ البرص والقَرن(٣) عند المرأة من أسباب فسخ النكاح؛ والسبب الذي يُذكر لذلك، هو: أنَّهما صعبا العلاج، ويمنعان من الرغبة في المعاشرة أو يُقلِّلان منها، كذلك يقال بالنسبة للعنن أو العجز الجنسي الذي يُصاب به الزوج.

والآن لنفترض أنَّ علم الطب استطاع أن يعالج هذه الأمراض، بالدواء أو بالجراحة البسيطة، خلال عدَّة أيَّام، فهل تبقى بعد ذلك أسباباً لفسخ النكاح؟ إذا كان جوابكم بالإيجاب، فكيف تجيبون إذن عن هذا السؤال: هل العائلة الإسلامية هي بهذه السهولة بحيث يفرَّط بها لسبب هو بمثابة إصابة الإنسان بنزلة البرد؟!

٤ - تغيُّر الاحتياجات والضرورات: ليست قليلة هي الأحكام التي أُدرجت في الفقه استجابة لحاجات الناس الملحَّة، أو جاءت جرياً على العُرف السائدة في زمان سابق. وفي عصرنا الحاضر، تَفرض بعض الضرورات إيجاد تحوُّلات في القواعد الحاكمة على بعض الجماعات الاجتماعية التي تعيش حالة العجز أمام المستطيعين والأقوياء، وأهمُّ جماعتين تبرزان على هذا الصعيد، هما:العُمَّال والأجراء . ففي حال العُمَّال، من الطبيعي أن لا تستطيع بعض القواعد المتَّصلة بباب إجارة الأشخاص أن تنهض بالعدالة المطلوبة في طبيعة علاقة الأجير بصاحب العمل، وبذلك يضطرُّ قانون العمل أن يخرج عن بعض الأصول تأميناً للعدالة المطلوبة. وفي العلاقة بين المستأجر والمؤجِّر اضطرّ مجلس الشورى الإسلامي (في إيران) للتوسُّل بقاعدة(العسر والحرج) للوقوف في وجه الحالات غير العادلة التي تتبدَّى في تخلية المنازل.

٥٦

لقد بلغت ضغوطات الضرورات والاحتياجات شأواً بحيث لم تقتصر فقط على استبدال الأحكام الثانوية وتبدُّلها، بل أصبح لها تأثيرها في استنباط الأحكام الطبيعية الأوَّلية في الشرع. والطريقة الأفضل لرؤية الأثر القوي النافذ، وما تتحلَّى به هذه الضغوطات من قوَّة، تتمثَّل بذكر بعض الأمثلة:

أ - يُعَدُّ عقد التأمين من أبرز العقود التي وجدت طريقها إلى الفقه الإسلامي؛ ذلك أنَّ الفقهاء يحكمون ببطلان المعاوضة التي لا يُعلم أحد عوضيها، لأجل الغرر المنهي عنه (نهى النبي عن الغرر)، ومع ذلك، فقد مال عدد من الفقهاء إلى تصحيح عقد التأمين رغم ما يترتَّب عليه من غرر؛ لعدم معلومية أحد العوضين.

ب - حين نترك موضوع عقد الضمان وما طرأ عليه من تغيير في الدائرة الفقهية، بتأثير تبدُّل الاحتياجات وبروز ضرورات جديدة، نصل إلى مثال بارز آخر يتمثَّل في:عقد مبادلة البضاعة بالبضاعة. نبدأ أوَّلاً ببيع ثمرة العمل بالمؤجَّل، فقد حُرِّم هذا الضرب من البيع في زمن كان الحكم فيه قانوناً لتنفيذ العدالة، والحيلولة دون الظلم الذي يطال العامل الكادح من قبل المتموِّل الظالم، فقد كان صاحب رأس المال يستفيد من ضَعف الفلاح، وعدم وجود ملجأ يلجأ إليه، وينتهز هذه الحالة بشكل سلبي، فقد كان يشتري حنطة المزرعة بثمن بخس وبالمؤجَّل، وكان الزارع يرضى بهذه المعاملة؛ لأنَّها توفِّر له ضماناً مستقبلياً لمحصوله.

أمَّا اليوم، فقد برزت مصالح أهم، أخذت تدفع للقبول بمثل هذا الضرب من التعامل، بل تجعله ضرورياً لا يمكن تجنُّبه. فنحن اليوم نبيع نفطنا بهذه الطريقة، ونؤمِّن جميع ما نحتاج إليه من بضائع وسلع عن طريق بيع السلعة بالسلعة. فهل نجرؤ على أن نحكم ببطلان جميع هذه المعاملات؟ وإذا فهم الأجانب أنَّ مثل هذه العاملة باطلة في فقهنا الحقوقي، فهل يكونون على استعداد بعد ذلك للتعامل مع الحكومة الإسلامية؟ ربَّما لم تدخل هذه المسألة إلى الحوزة بعد، بَيْدَ أنَّها ستطرح وستشقُّ طريقها إليها إن عاجلاً أم آجلاً، تماماً كما هي مطروحة اليوم بين الحقوقيِّين، وقد اختلفت فيها الآراء.

٥٧

في جميع الأحوال، فإنَّ إعادة النظر في مباني الاستنباط يمكن أن تنتهي إلى نتيجة معقولة؛ تتمثَّل بالشكّ بالإجماع المدّعى حولها، فما نهت عنه الأخبار صراحة هو(بيع الدَّين بالدَّين) (٤) ، كما أنَّ التردُّد موجود في مفاد أخبار(لا يباع الدَّين بالدَّين)؛ إذ هل المقصود هو بيع الدين قبل العقد، أو أن يشمل النهي الدَّين المترتِّب على العقد؟ إنَّ القدر المتيقَّن في الإجابة هو الاحتمال الأوّل؛ يعني ما يقال له دَيناً قبل العقد(٥) .

ليس لدينا متَّسع من الوقت لتفصيل المسألة أكثر، لكنَّ الحدَّ الأدنى الذي يجب أن نقبل به، هو أنَّ إعادة النظر التي تمَّت في الاستنباط والاجتهاد، نشأت من الضرورات والاحتياجات(٦) .

٥ - تغيير البنية الاقتصادية: في الوقت الذي تستطيع فيه المعامل الصغيرة أن تؤمِّن حاجات المجتمع برساميل صغيرة، فإنَّ صاحب العمل يحتاج لاستمرار حياته الاقتصادية إلى الأجير والعامل، وفي الوقت نفسه يحتاج الأجير والعامل إلى صاحب العمل. في الحصيلة يمكن لعقد الإجارة - الذي يُنظَّم عن تراضٍ بين الطرفين - أن يؤمِّن العلاقة العادلة بينهما. أمَّا اليوم، فإنَّ الواقع يعكس وجود أصحاب رساميل جشعين، مع عمَّال سبق لهم أن ذاقوا مرارة البطالة، طبيعي أنَّ هذه المجموعة من العمَّال تحتاج إلى الحماية، وهذه الحاجة تدع وجدان الفقيه متأثِّراً، وتدفعه كما ذكرنا لاستنباطات جديدة.

أمَّا في جواب سؤالكم الثاني، فينبغي القول: ما دام نقص القانون وكماله أمرين نسبيَّين لهما صلة بالزمان والمكان، فمن الأفضل أن نُطلق على هذا التحوُّل اسم:اكتمال الحركة الفقهية .

وفي شأن السؤال الثالث، فقد أضحى بديهياً، فما لم يُدرك الفقيه الزمان والمكان ويعيهما، فلا يستطيع أن يصل إلى مفهوم كثير من المسائل.

الشيخ معرفت: ليس للزمان والمكان تأثير في الأحكام نفسها، ولا يمكن أن يكون لهما تأثير في ذلك، لكن يمكن أن يؤثِّرا في الموضوعات، كما جاء في نهاية السؤال من قولكم: هل الزمان والمكان يوجبان معرفة الموضوعات المستحدَثة؟ والسبب أنَّ للزمان والمكان دوراً مؤثِّراً على الموضوعات التي أوكلها الشارع للعُرف.

٥٨

في توضيح ذلك ينبغي أن نقول: إنَّ لدينا ثلاثة عناوين، للفقيه تأثير في بعضها، وليس له تأثير في بعضها الآخر. وهذه العناوين الثلاثة هي:الأحكام، والموضوعات ، والمصاديق .

دور الفقيه في الأحكام هو أن يضطلع بمهمَّة استنباط الأحكام من المصادر الأوَّلية بشكل أصولي. أمَّا بالنسبة للمصاديق، فليس ثَمَّة أي دور للفقيه فيها، فليس من وظيفة الفقيه، بما هو فقيه، أن يشخِّص المصاديق ويعيِّنها؛ ومردُّ ذلك لعدم دخل فقاهته في تشخيص المصاديق الخارجية، وإذا كانت له معرفة بمصداق من المصاديق الخارجية، فقيمتها تدخل في نطاق الخبرة، وليس في نطاق الفقاهة، أي لكونه خبيراً بهذا المصداق، وليس لكونه فقيهاً. فالفقيه، في نهاية المطاف، هو أحد أفراد المجتمع وأحد أبناء العُرف، بالإضافة إلى ما يتحلَّى به من فقاهه. الفقيه يستفيد من الأدَّلة: نجاسةَ الدم - مثلاً - لكن إذا عُرضت عليه مادّة حمراء اللون، لها غلظة (كثافة) الدم، وسُئل عنها فيما إذا كانت دماً، فتجري عليها أحكام النجاسة، أم لا؟ في مثل هذه الحالة، لا قيمة لأيِّ جواب يتقدَّم به الفقيه في هذا المجال، لا فرق في أن يقول: إنَّ هذه المادَّة دم، أو إنَّها ليست دماً، إنَّما تكتسب إجابته قيمة من خلال موقعه كأحد أبناء العُرف وأعضاء المجتمع، لا من خلال كونه فقيهاً؛ إذ لا صلة لفقاهته بهذا الموضوع.

حين ننتقل إلى الموضوعات، وهي غير الأحكام والمصاديق، يمكن أن يكون للفقيه دور مؤثِّر؛ إذ يجب على الفقيه أن يُعيِّن حدود الموضوع الواقع في لسان الدليل، فهل النجاسة تنصرف إلى مطلق الدم أو إلى الدم المراق فقط؟ أي هل تشمل النجاسة الدم النابض المتدفق الذي خرج من الشرايين فقط، بحيث يكون الدم المتبقِّّي ليس نجساً، أو تشمل النجاسة مطلق الدم المتخلِّف وغير المتخلِّف؟ ثُمَّ هل نقطة الدم التي توجد في البيضة، مشمولة لحكم الشريعة القاضي بنجاسة الدم، أو تكون نقطة الدم هذه خارجة عن نطاق الدم الذي تحكم الشريعة بنجاسته؟

٥٩

بعبارة أخرى: ينبغي على الفقيه أن يعرف ما إذا كانت أدلَّة النجاسة تنطوي على الإطلاق أم لا؟ فالشارع يقرِّر أنَّ كلَّ دم نجس، لكن إذا لم يكن بين يدي الفقيه مثل هذا الإطلاق والشمول في اللفظ، فلا يستطيع أن يفتي بنجاسة الدم الموجود في البيضة؛ لذلك نرى الإمام الخمينيرحمه‌الله يذهب إلى ما يأتي:(نفتي بحرمة الدم الموجود في البيضة (حرمة أكله)؛ على أساس الإطلاق الذي بين أيدينا، القاضي بحرمة أكل الدم مطلقاً؛ ولكن لأنَّنا نفتقر إلى مثل هذا الإطلاق في باب النجاسة، فنحن نفتي بطهارته في البيضة وفقاً لقاعدة الطهارة). كما أنَّ الإمام يذهب إلى أنَّ الدم إذا استُهلك من خلال الاختلاط والدمج، ترتفع حرمة أكله أيضاً؛ لعدم وجود موضوع الحرمة في الخارج.

يتَّضح ممَّا مرَّ أنَّ من وظائف الفقيه سدَّ ثغور الموضوع؛ بمعنى أنَّ على الفقيه أن يرى ما عليه موضوع الحكم في لسان الدليل.

والحاصل: إنَّ الفقه هو استنباط الحكم وتعين الموضوع. أمَّا معرفة مفهوم هذا الموضوع - أي الدم في هذا المثال - فهو أمر يجب على الفقيه أن يعود فيه إلى العُرف وأهل الخبرة؛ لأنَّ الشارع المقدَّس أوكل ذلك إلى العُرف، ومعنى هذا الإيكال أنَّ على الفقيه أن يرجع إلى الخبير في معرف ما هو دم وتعيينه.

توضيح ذلك: إنَّ على الفقيه أن يعود إلى العُرف في حال عدم معرفته بمفهوم الموضوع وعدم قدرته على تشخيصه من جهة المفهوم، وهذا ما يُطلق عليه بلغة الاصطلاح بالشبهة المصداقيَّة، وهذه غير الشبهة المصداقيَّة(٧)، ففي الشبهة المصداقيَّة يكون العُرف هو المرجع؛ بمعنى أنَّ الفقيه يأخذ مفهوم موضوع الحكم الشرعي من العُرف. أمَّا حدوده وثغوره وشرائطه، فيأخذها من الشرع ولسانه.

٦٠

العباسية، وكانت شيعية، وإن لم يرها الإمامية من الشيعة. ولمْ يَقُمْ بمناصرتها الأئمة وخاصتهم، ولكنهم لم يكونوا كارهين لها، ولا ساخطين عليها، ولا عاملين على مناهضتها، ولا داعين في السر والعلانية على إحباطها، بل هم راضون بها في ذات سرهم لقضائها إذا ظفرت على المظالم الأموية، وظفرها متيقن، ولتوقعهم منها الأخذ بثاراتهم، ولتوقعهم منها أُفُقاً واسعاً لنشر تعاليمهم الدينية.

ولم يكن لهذا الفريق الصالح من آل علي وفاطمة مطمع في الخلافة، وطموح إليها، وإن كانوا أحق الناس بها ويرون كما عرفت أنها غير صائرة إليهم.

إنك لترى كيف رفض أبو عبد الله جعفر بن محمد دعوة أبي سلمة حفص بن سليمان، حين أراد صرف الدعوة عن بني العباس - بعد مقتل إبراهيم الإمام وهو بالكوفة يملك ناصية الجيش - إلى بني علي، وقد كتب إليه بذلك كما كتب إلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، بل أحرق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، بحيث يرى ذلك رسول أبي سلمة. ونصح عبد الله بن الحسن، وقد جاءه بكتاب أبي سلمة، يدعوه كما دعا أبا جعفر برفض قبول الدعوة ويحذّره عقباها.

وكذلك منع محمد الباقر أخاه زيداً من الخروج على هشام بن عبد الملك، ولم يكن خروجه للطلب بالإمامة وهو يعلم أنها لأخيه الباقر، بل كان خروجه كما علّله ابن خلدون، وكما هو واقع الحال، داعياً للكتاب والسنة، وإلى جهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة الفيء، وردّ المظالم، وأفعال الخير، ونصر أهل البيت.

وقد رفض علي بن الحسين (زين العابدين) دعوة المختار له، وقد قام يطالب بثأر أبيه، وأخذ يدعو لأهل الثغور، والعهد عهد عبد الملك بن مروان، ودماء أهل بيته بعد لم تجفّ، يدعو لهم بالنصر والتمكين.

وانظر كيف حمل المأمون عليّ بن موسى الرضا على قبول ولاية عهده التي لم يقبلها مختاراً.

يعلم أئمة أهل البيت أن الأمة وقد انغمست في حمأة الدنيا، وألقت

٦١

إليهم الأرض الغضّاء بأفلاذ أكبادها، وتفتحت لهم عن كنوزها، ودانت لسلطانهم الواسع الأمم والشعوب، وخفق لواؤهم على أقاليم الشرق والغرب، هيهات أن يُساسوا بعد ذلك بسياسة الإمامة الدينية، وفي هذه السياسة وقد اشرأبت أعناق المسلمين إلى الدنيا، وما العهد عن سياسة النبوّة الدينية وعن سياسة الخلفاء الراشدين ببعيد، ساور الانتقاض من هنا وهناك خلافة جدهم علي، وما كان يجهل أفانين السياسة وضروبها، وما كان بالجبان ولا بالعاجز الوكل.

كل ذلك كان من آيات فوز الدعوة العباسية على الدعوة العلوية التي لم يقم بها إلاّ فريق منهم، لا يؤيده ذلك الفريق الصالح وإن بدئت الدعوة في أول الأمر بمحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.

وكيف بعد توفّر هذه الأسباب لنجاح الدعوة العباسية لا يتفرّس المتفرّسون بمصير الأمر إليهم؟

على أن الدعوة العلوية الضئيلة قد حاربها دعاة بني العباس، وحسبك أن أبا مسلم داعيتهم هو الذي قتل عبد الله بن معاوية بن جعفر الذي دعا إلى نفسه بالكوفة، ثم خرج هارباً منها ومن البلاد التي بايعته بعد غلبته إلى خراسان.

وإنك لترى مثل هذا التفرّس والإرهاص لدولة قامت، فترى مثله لبني أمية، وبني بويه، ولكافور الاخشيدي، ولبني إدريس، وللفاطميين.

وسواء أصح كل ما تفرّس به المتفرّسون أم لم يصحّ، فإن من مجموع ما ذكرناه من حديث وخبر، ومن أسباب قريبة وبعيدة، ومن سياسة رشيدة كان يقوم بها بنو العباس ومن انضمّ إليهم من بني علي وشيعتهم، واتساع خراسان الإقليم الواسع لنشر الدعوة وهو الإقليم الذي لم تغمره العصبيّة للقبيل الأمويّ، جعلت لتلك الإرهاصات وذلك التفرس مكانهما من الإصابة.

والله غالب على أمره وإليه مصير الأمور.

٦٢

تاريخ الفاطميين

دول الشيعة العلويين في المغرب

قال ابن خلدون(١) : (بعد إلمامة قصيرة بما جرى لشيعة علي (عليه السلام) بالكوفة، ومَوجِدتِهم على الحسن، واضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم، ومقتل من كان يتولى كِبَر ذلك كحِجْر بن عَدِيّ وأصحابه، واستدعاء الكوفيين الحسين، بعد وفاة معاوية، ومقتله، وندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته، وخروجهم بعد وفاة يزيد، وبيعة مروان، ثم خروج المختار بن أبي عُبَيْد الثقفي للمطالبة بدم الحسين (عليه السلام)، ودعوته لمحمد بن الحنفيّة، واتّباع جموعة من الشيعة له، وقتل المختار لزياد، ثم نقمة محمد بن الحنفية عليه من أحوالٍ بلغته عنه، وكتابته إليه بالبراءة منه)، إلى أن قال:

(ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن علي بن الحسين إلى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك، فقتله صاحب الكوفة يوسف بن عمر وصلبه، وخرج إليه ابنه يحيى بالجوزجان من خراسان، فقتل وصلب كذلك، وطّلّت دماء أهل البيت في كل ناحية)(١) .

إلى أن قال:

(ثم اختلف الشيعة وافترقت مذاهبهم في مصير الإمامة إلى العلوية، وذهبوا طرائق قِدَداً، فمنهم الإمامية القائلون بوصية النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلي بالإمامة، ويسمونه الوصي بذلك، ويتبرؤون من الشيخين لما منعوه حقه بزعمهم،

____________________

(١) ملخص عن المجلد الرابع من تاريخ ابن خلدون.

٦٣

وخاصموا زيداً بذلك حين دعا بالكوفة. ومن لم يتبرأ من الشيخين رفضوه فسمّوا بذلك رافضة.

ومنهم الزيدية القائلون بإمامة بني فاطمة لفضل علي وبنيه على سائر الصحابة، وعلى شروط يشترطونها، وإمامة الشيخين عندهم صحيحة، وإن كان علي أفضل، وهذا مذهب زيد وأتباعه وهم جمهور الشيعة وأبعدهم عن الانحراف والغلو.

ومنهم الكيسانية نسبة إلى كيسان، يذهبون إلى إمامة محمد بن الحنفية وبنيه من بعد الحسن والحسين، ومن هؤلاء كانت شيعة بني العباس القائلون بوصية أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالإمامة.

وانتشرت هذه المذاهب بين الشيعة، وافترق كل مذهب منها إلى طوائف بحسب اختلافهم. وكان الكيسانية شيعة بني الحنفية أكثرهم بالعراق وخراسان.

ولما صار أمر بني أمية إلى اختلال، أجمع أهل البيت بالمدينة وبايعوا بالخلافة سرّاً لمحمد بن عبد الله بن حسن المثنى بن الحسن بن علي وسلم له جميعهم. وحضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو المنصور، وبايع فيمن بايع له من أهل البيت، وأجمعوا على ذلك لتقدمه فيهم لما علموا له من الفضل عليهم.

ولهذا كان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله يحتجّان إليه حين خرج من الحجاز.

ويريدون أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل، وربما صار إليه الأمر من عند الشيعة بانتقال الوصية من زيد بن علي.

وكان أبو حنيفة يقول بفضله ويحتج إلى حقه، فتأدت إليه المحنة بسبب ذلك أيام أبي جعفر المنصور حتى ضرب على الفتيا في طلاق المكره، وحُبس أبو حنيفة على القضاء.

ولما انقرضت دولة بني أمية وجاءت دولة بني العباس، وصار الأمر لأبي جعفر المنصور، سعى عنده ببني حسن، وإن محمد بن عبد الله يروم

٦٤

الخروج، وإن دعاته ظهروا بخراسان، فحبس المنصور لذلك بني حسن وأخوته حسن وإبراهيم وجعفر وعلي القائم وابنه موسى بن عبد الله وسليمان وعبد الله ابن أخيه داود، ومحمد وإسماعيل وإسحق بني عمه إبراهيم بن الحسن، في خمسة وأربعين من أكابرهم، وحُبسوا بقصر ابن هبيرة ظاهر الكوفة حتى هلكوا في حبسهم، وأرهبوا لطلب محمد بن عبد الله، فخرج بالمدينة سنة خمس وأربعين، وبعث أخاه إبراهيم إلى البصرة فغلب عليها وعلى الأهواز وفارس، وبعث الحسن بن معاوية إلى مكة فملكها، وبعث عاملاً إلى اليمن، ودعا لنفسه وخطب على منبر النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وتسمّى بالمهدي، وكان يُدعى (النفس الزكية)، وحبس عثمان بن رباح المرّي عامل المدينة، فبلغ الخبر إلى أبي جعفر المنصور فأشفقوا من أمره وكتب إليه كتابه المشهور)(١) .

ثم ذكر نص الكتاب وجواب محمد بن عبد الله وجواب المنصور إلى أن قال:

ثم عقد أبو جعفر على حربه لعيسى ابن عمه موسى بن علي، فزحف إليه في العساكر وقاتله بالمدينة فهزمه، وقتله في منتصف رمضان سنة خمس وأربعين، ولحق ابنه علي بالسند إلى أن هلك هناك، واختفى ابنه الآخر عبد الله الأشتر إلى أن هلك في أخبار طويلة قد استُوفِّيناها كلها في أخبار أبي جعفر المنصور.

ورجع عيسى إلى المنصور، فجهَّزه لحرب إبراهيم أخي محمد بالعيرة(٢) ، فقاتله آخر ذي القعدة من تلك السنة فهزمه وقتله حسبما مر ذكره هنالك، وقتل معه عيسى بن زيد بن علي فيمن قتل من أصحابه.

وزعم ابن قتيبة أن عيسى بن زيد بن علي ثار على المنصور بعد قتل أبي مسلم، ولقيه في مائة وعشرين ألفاً، وقاتله أياماً إلى أن هم المنصور بالفرار. ثم أتيح له الظفر فانهزم عيسى ولحق بإبراهيم بن عبد الله بالبصرة، فكان معه هنالك إلى أن لقيه عيسى بن موسى بن علي وقتلهما كما مر.

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون م٤ ص٤، ٥، ٦ - دار الكتاب اللبناني.

(٢) العيرة: اسم موقع.

٦٥

ثم خرج بالمدينة أيام المهدي سنة تسع وستين من بني حسن، الحسين بن علي بن حسن المثلّث وهو أخو عبد الله بن حسن المثنّى وعم المهدي، وبويع للرضا من آل محمد، وسار إلى مكة، وكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بن علي، وقد كان قدم حاجّاً من البصرة، فولاّه حربه يوم الترْوِيَة فقاتله بفجَّة على ثلاثة أميال من مكة وهزمه وقتله، وافترق أصحابه، وكان فيهم عمه إدريس بن عبد الله، فأفلت من الهزيمة مع من أفلت منهم يومئذ، ولحق بمصر نازعاً إلى المغرب، وعلى بريد مصر يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور ويُعرف بالمسكين، وكان يتشيع، فعلم بشأن إدريس وأتاه إلى المكان الذي كان به مستخفياً، وحمله على البريد إلى المغرب، ومعه راشد مولاه، فنزل بوليلى سنة ست وسبعين، وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير (أوريه) من قبائل البربر وكبيرهم لعهده، فأجازه وأكرمه، وجمع البربر على القيام بدعوته، وخلع الطاعة العباسية وكشف القناع، واجتمع عليه البرابرة بالمغرب فبايعوه وقاموا بأمره، وكان فيهم مجوس فقاتلهم إلى أن أسلموا.

وملك المغرب الأقصى، ثم ملك تلمسان سنة ثلاث وسبعين، ودخلت ملوك (زِناتة) أجمع في طاعته، واستفحل ملكه وخاطب إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان، وخاطب الرشيد بذلك، فشد إليه الرشيد مولى من موالي المهدي اسمه سليمان بن حريز، ويعرف بالشّماخ، وأنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب، فأجازه ولحق بإدريس مظهراً للنزوع إليه فيمن نزع من وحدان المغرب متبرئاً من الدعوة العباسية ومنتحلاً للطالبيين.

واختصه الإمام إدريس وحلى بعينه، وكان قد تأبط سماً في سنون، فناوله إياه عند شكايته من وجع أسنانه، فكان فيها فيما زعموا حتفه.

ودفن ببوليلى سنة خمس وسبعين، وفرّ الشّماخ ولحقه راشد بوادي ملوية، فاختلفا بينهما ضربتين قطع فيهما راشد يده، وأجاز الشّماخ الوادي فأعجزه.

وبايع البرابرة بعد مهلكه ابنه إدريس سنة ثمان وثمانين، واجتمعوا على القيام بأمره، ولحق به كثير من العرب من أفريقية والأندلس.

وعجز بنو الأغلب أمراء أفريقية عنه، فاستفحلت له ولبنيه بالمغرب

٦٦

الأقصى دولة، إلى أن انقرضت على يد أبي العافية وقومه مكناسة أولياء العبيديين أعوام ثلاثة عشر وثلاثمائة حسبما نذكر ذلك في أخبار البربر)(١) .

إلى أن قال:

(ثم خرج يحيى أخو محمد بن عبد الله بن حسن إدريس في الديلم سنة ست وسبعين أيام الرشيد، واشتدت شوكتهم، وسرَّح الرشيد لحربه الفضل بن يحيى فبلغ الطالقان، وتلطّف في استنزاله من بلاد الديلم على أن يشترط ما أحب، ويكتب له الرشيد بذلك خطه، فتم بينهما. وجاء به الفضل فوفى له الرشيد بكل ما أحب، وأجرى له أرزاقاً سنية، ثم حبسه بعد ذلك لسعاية كانت فيه من آل الزبير. فيقال: أطلقه بعدها ووصله بمال، ويقال: سمَّه لشهر من اعتقاله، ويقال: أطلقه جعفر بن يحيى افتياتاً فكان بسببه نكبة البرامكة، وانقرض شأن بني حسن، وخفيت دعوة الزيدية حيناً من الدهر، حتى كان منهم بعد ذلك باليمن والديلم ما نذكره والله غالب على أمره)(٢) .

الخبر عن خروج الفاطميين بعد فتنة بغداد

(كانت الدولة العباسية قد تمهّدت من لدن أبي جعفر المنصور منهم. وسلك أمر الخوارج والدعاة من الشيعة من كل جهة، حتى إذا هلك الرشيد ووقع بين بنيه من الفتنة ما وقع، وقتل الأمين بيد طاهر بن الحسين ووقع في حصار بغداد من الحرب والعبث ما وقع.

وبقي المأمون مقيماً بخراسان تسكيناً لأهلها عن ثائرة الفتن، وولّى على العراق الحسن بن سهل.

اتّسع الخرق حينئذ بالعراق، وأشيع عن المأمون أن الفضل بن سهل غلب عليه وحجره، فامتعض الشيعة لذلك وتكلموا، وطمع العلوية في التوثب على الأمر، فكان في العراق أعقاب إبراهيم بن محمد بن حسن المثنى المقتول بالبصرة أيام المنصور، وكان منهم محمد بن إسماعيل بن

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون م٤ ص١٢، ١٣، ١٤.

(٢) تاريخ ابن خلدون م٤ ص١٤، ١٥.

٦٧

إبراهيم، (ولقبه أبوه طباطبا لِلَكْنَةٍ كانت في لسانه أيام مرباه بين داياته)، فلُقب بها.

وكان شيعته من الزيدية وغيرهم يدعون إلى إمامته؛ لأنها كانت متوارثة في آبائه من إبراهيم الإمام جده على ما قلناه في خبره، فخرج سنة تسع وتسعين، ودعا لنفسه. ووافاه (أبو السرايا السريّ بن منصور) كبير بني شيبان، فبايعه، وقام بتدبير حربه، وملك الكوفة وكثر تابعوه من الأعراب وغيرهم.

وسرح الحسن بن سهل زهير بن المسيب لقتاله، فهزمه طباطبا، واستباح معسكره، ثم مات محمد في صبيحة ذلك اليوم فجأة، ويقال: إن أبا السرايا سمّه لما منعه من الغنائم. فبايع أبو السرايا يومه لمحمد بن محمد بن زيد بن علي زين العابدين، واستبدّ عليه. وزحفت عليهم جيوش المأمون فهزمهم أبو السرايا، وملك البصرة وواسط والمدائن.

وسرح الحسن بن سهل لحربه (هِرثَمَة بن أَعْيُن) وكان مغضباً، فاسترضاه وجهّز له الجيوش. وزحف إلى أبي السرايا وأصحابه، فغلبهم على المدائن وهزمهم وقتل منهم خلقاً.

ووجه أبو السرايا إلى مكة (الحسين الأفطس) بن الحسن بن علي زين العابدين، وإلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنَّى بن الحسن، وإلى البصرة زيد بن موسى بن جعفر الصادق، وكان يُقال له: زيد النار لكثرة من أحرق من الناس بالبصرة.

فملكوا مكة والمدينة والبصرة، وكان بمكة مسرور الخادم الأكبر، وسليمان بن داود بن عيسى. فلما أحسوا بقدوم الحسين فرّوا عنها، وبقي الناس في الموقف فوضى. ودخلها الحسين من الغد، فعاث في أهل الموسم ما شاء الله، واستخرج الكنز الذي كان في الكعبة من عهد الجاهلية، وأقرّه النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) والخلفاء بعده، وقدرُهُ فيما قيل مائتا قنطار اثنتان من الذهب. فأنفقه وفرقه في أصحابه ما شاء الله.

ثم إن هرثمة واقع أبا السرايا فهزمه، ثم بحث عن منصور بن المهدي فكان أميراً معه، واتبع أبا السرايا فغلبه على الكوفة، وخرج إلى القادسية ثم إلى واسط. ولقيه عاملها وهزمه، ولحق بجلولا مغلولاً جريحاً، فقبض

٦٨

عليه عاملها وقدمه إلى الحسن بن سهل بالنَهروان، فضرب عنقه، وذلك سنة مائتين.

وبلغ الخبر الطالبيين بمكة، فاجتمعوا وبايعوا محمد بن جعفر الصادق.

وسمُّوه أمير المؤمنين، وغلب عليه ابناه علي وحسين، فلم يكن يملك معهما من الأمر شيئاً.

ولحق إبراهيم ابن أخيه موسى الكاظم بن جعفر الصادق باليمن في أهل بيته، فدعا لنفسه هنالك، وتغلّب على الكثير من بلاد اليمن، وسُمّي الجزّار لكثرة ما قتل من الناس.

وخلص عامل اليمن وهو إسحاق بن موسى بن عيسى إلى المأمون، فجهَّزه لحرب هؤلاء الطالبيين، فتوجه إلى مكة وغلبهم عليها.

وخرج محمد بن جعفر الصادق إلى الأعراب بالساحل، فاتبعهم إسحق وهزمهم، ثم طلبهم. وطلب محمد الأمان فأمنه، ودخل مكة وبايع للمأمون، وخطب على المنابر بدعوته.

وسابقته الجيوش إلى اليمن فشرّدوا عنه الطالبيين، وأقاموا فيه الدعوة العباسية.

ثم خرج (الحسين الأفطس) ودعا لنفسه بمكة، وقتله المأمون، وقتل ابنيه عليّاً ومحمداً.

ثم إن المأمون لما رأى كثرة الشيعة واختلاف دعائهم، وكان يرى مثل رأيهم أو قريباً منه في شأن عليٍّ والسبطين، فعهد بالعهد من بعده لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق سنة إحدى ومائتين.

وكتب بذلك إلى الآفاق، وتقدم إلى الناس، فنزع السواد ولبس الخضرة. فحقد بنو العباس ذلك من أمره، وبايعوا بالعراق لعمّه إبراهيم بن المهدي سنة اثنتين ومائتين. وخطب له ببغداد، وعظمت الفتنة.

وشخص المأمون من خراسان متلافياً أمر العراق، وهلك علي بن موسى في طريقه فجأةً، ودفن بطوس سنة ثلاث ومائتين. ووصل المأمون إلى

٦٩

بغداد سنة أربع ومائتين، وقبض على عمه إبراهيم وعفا عنه وسكّن الفتنة.

وفي سنة تسع ومائتين خرج باليمن عبد الرحمان بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، يدعو للرضا من آل محمد، وبايعه أهل اليمن، وسرّح إليه المأمون مولاه ديناراً، واستأمن له فأمنه، وراجع الطاعة.

ثم كثر خروج الزيدية من بعد ذلك بالحجاز والعراق والجبال والديلم، وهرب منهم إلى مصر خلق، وأُخذ منهم خلق.

وتتابع دعاتهم، فأول من خرج منهم بعد ذلك محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن زين العابدين، هرب خوفاً من المعتصم سنة تسع عشرة ومائتين، وكان بمكان من العبادة والزهد، فلحق بخراسان ثم مضى إلى الطلقان، ودعا بها لنفسه، واتبعته أمم الزيدية كلهم.

ثم حاربه عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فغلبه وقبض عليه وحمله إلى المعتصم فحبسه حتى مات. ويقال: إنه مات مسموماً.

ثم خرج عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فغلبه وقبض عليه وحمله إلى المعتصم فحبسه حتى مات. ويقال: إنه مات مسموماً.

ثم خرج من بعده الكوفة أيضاً الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين الأعرج بن علي بن زين العابدين، واجتمع إليه الناس من بني أسد وغيرهم من جموعه وأشياعه، وذلك سنة إحدى وخمسين ومائتين.

وزحف إليه (ابن بشكال) من أمراء الدولة فهزمه، ولحق بصاحب الزنج، فكان معه.

وكاتبه أهل الكوفة في العود إليه، وظهر عليه صاحب الزنج فقتله.

وكان خروج صاحب الزنج بالبصرة قبله بقليل، واجتمعت له جموع العبيد من زنج البصرة وأعمالها، وكان يقول في لفظه من أعلمه: إنه من وُلد عيسى بن زيد الشهيد، وأنه علي بن محمد بن زيد بن عيسى، ثم انتسب إلى يحيى بن زيد الشهيد. والحقّ أنه دعي النسب في أهل البيت كما نذكره في أخباره.

وزحف إليه الموفّق أخو المعتمد، ودارت بينه وبينهم حروب إلى أن قتله ومحا أثر تلك الدعوة كما قدمناه في أخبار الموفّق ونذكره في أخبارهم.

٧٠

ثم خرج في الديلم من وُلده الحسن بن زيد بن الحسن السبط الداعي المعروف بالعلوي، وهو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن، خرج لخمس وخمسين ومائتين، فملك طَبَرْستانَ وجَرْجان وسائر أعمالها. وكانت له ولشيعته الزيدية دولة هناك. ثم انقرضت آخر المائة الثالثة، وورثها من وُلد الحسن السبط،ثم من وُلده عمر بن علي بن زين العابدين الناصر الأطروش، وهو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر، وهو ابن عم صاحب الطالقان.

أسلم الديلم على يد هذا الأطروش، وملك بهم طبرستان وسائر أعمال الداعي، وكانت له ولبنيه هناك دولة، وكانوا سبباً لملك الديلم البلاد وتغلبهم على الخلفاء، كما نذكر ذلك في أخبار دولتهم.

ثم خرج باليمن من الزيدية من وُلد القاسم الرسيّ بن إبراهيم طباطبا أخي محمد صاحب أبي السرايا عام ثمانية وثمانين ومائتين، يحيى بن الحسين بن القاسم الرسّي، فاستولى على صعدة، وأورث عقبه فيها ملكاً فاقياً لهذا العهد، وهي مركز الزيدية في أخبارهم. وفي خلال ذلك خرج بالمدينة الأخوان محمد وعلي ابنا الحسن بن جعفر بن موسى الكاظم، وعاثا في المدينة عيثاً شديداً، وتعطّلت الصلاة بمسجد النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) نحواً من شهر، وذلك سنة إحدى وسبعين ومائتين.

ثم ظهر في المغرب من دعاة الرافضة (أبو عبد الله الشيعي) في (كتامة) من قبائل البربر عام ستة وثمانين ومائتين، داعياً لعبيد الله المهدي محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق، فظهر على الأغالبة بالقيروان، وبايع لعبيد الله المهدي سنة ست وتسعين ومائتين، فتمّ أمره وملك المغربين، واستفحلت له دولة بالمغرب ورثها بنوه.

ثم استولوا بعد ذلك على مصر سنة ثمانٍ وخمسين وثلاثمائة، فملكها منهم (المعزّ لدين الله) معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله المهدي، وشيّد القاهرة، ثم ملك الشام واستفحل ملكه إلى أن انقرضت دولتهم على (العاضد) منهم على يد صلاح الدين بن أيوب سنة خمس وستين وخمسمائة.

٧١

ثم ظهر في سواد الكوفة(١) سنة ثمانٍ وخمسين ومائتين، من دعاة الرافضة رجل اسمه الفرج بن يحيى ويُدعى (قرمط)، بكتاب زعم أنه من عند أحمد بن محمد بن الحنفيَّة فيه كثير من كلمات الكفر والتحليل والتحريم، وادّعى أن أحمد بن الحنفيَّة هو المهدي المنتظر. وعاث في بلاد السواد، ثم في بلاد الشام، وتلقب (وَكْرَوَيْه بن مَهْرَوَيْه). واستبدّت طائفة منهم بالبحرين ونواحيها، ورئيسهم أبو سعيد الجناجيّ، وكان له هناك ملك ودولة أورثها بنيه من بعده، إلى أن انقرضت أعوامهم كما يذكر في أخبار دولتهم.

وكان أهل البحرين هؤلاء يرجعون إلى دعوة العُبَيْديّين بالمغرب وطاعتهم.

ثم كان بالعراق من دعاة (الاسماعيلية) وهؤلاء الرافضة طوائف أُخرى، واستبدوا بكثير من النواحي، وتنسب إليها فيها القلاع: قلعة الموت وغيرها.

وينسبون تارة إلى (القرامطة) وتارة إلى (العبيديين). وكان من رجالاتهم الحسن بن الصبّاح في قلعة الموت وغيرها، إلى أن انقرض أمرهم آخر الدولة السلجوقية.

وكان باليمامة ومكة والمدينة من بعد ذلك دول للزيدية والرافضة، فكان باليمامة دولة لبني الأخضر وهو محمد بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله بن حسن المثنَّى. خرج أخوه إسماعيل بن يوسف في بادية الحجاز سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وملك مكة ثم مات، فمضى أخوه محمد إلى اليمامة فملكها، وأورثها لبنيه إلى أن غلبهم القرامطة.

وكان بمكة دولة لبني سليمان بن داود بن الحسن المثنّى، خرج محمد بن سليمان أيام المأمون وتسمّى بالناهض، وملك مكة، واستقرت إمارتها في بنيه إلى أن غلبهم عليها الهواشم، وكبيرهم محمد بن جعفر بن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن

____________________

(١) سواد الكوفة: ما حولها من القرى. ومنه سواد العراق لما بين البصرة والكوفة ولما حولهما من القرى.

٧٢

موسى الجون، فملكها من إبراهيم سنة أربع وخمسين وأربعمائة. وغلب بني حسن على المدينة، وداول الخطبة بمكة بين العباسيين والعبيديين. واستفحل ملكه في بنيه إلى أن انقرضوا آخر المائة السادسة.

وغلب على مكة بنو أبي قمي أمراؤها لهذا العهد، ملك أولهم أبو عزيز قتادة بن إدريس مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن موسى الجون. وورث دولة الهواشم وملكهم وأورثها بنيه إلى هذا العهد كما تذكر في أخبارهم، وهؤلاء كلهم زيدية.

وبالمدينة دولة للرافضة لولد الهناء، قال المسَبِّحي: (اسمه الحسن بن طاهر بن مسلم. وفي كتاب العُتبي مؤرخ دولة (ابن سَبَكْتكين) أن مسلماً اسمه محمد بن طاهر وكان صديقاً لكافور ويدبّر أمره وهو من ولد الحسن بن عليّ زين العابدين.

واستولى طاهر بن مسلم على المدينة أعوام ستين وثلاثمائة، وأورثها بنيه لهذا العهد كما نذكر في أخبارهم)(١) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون م٤ ص١٥ إلى ٢٣.

٧٣

الأدارسة في المغرب

مبدأ دولتهم وانقراضها

(لما خرج حسين بن علي بن حسن المثلّث بن حسن المثنّى بن الحسن السبط بمكة في ذي القعدة سنة ست وتسعين ومائة أيام المهدي، واجتمع عليه قرابته وفيهم عماه إدريس ويحيى، وقاتلهم محمد بن سليمان بن عليّ بعجة على ثلاثة أميال من مكة، فقتل الحسين في جماعة من أهل بيته، وانهزموا وأُسر كثير منهم، ونجا يحيى بن إدريس وسليمان. ظهر يحيى بعد ذلك في الديلم. وقد ذكرنا خبره من قبل وكيف استنزله الرشيد وحبسه)(١) .

وأمّا إدريس ففر ولحق بمصر، وتم له ملك المغرب كما سبق بيانه، وقتل مسموماً (وكان قد جمل(٢) من دعوته في ابنه إدريس الأصغر من جاريته كنزة، بايعوه حملاً ثم رضيعاً ثم فصيلاً إلى أن شبّ واستتم فبايعوه بجامع (وليلى) سنة ثمان وثمانين ابن إحدى عشرة سنة. وكان ابن الأغلب دس إليهم الأموال واستمالهم حتى قتلوا راشداً مولاه سنة ست وثمانين.

وقام بكفالة إدريس من بعده أبو خالد بن يزيد بن الياس العبدي، ولم يزل كذلك إلى أن بايعوا لإدريس، فقاموا بأمره، وجردوا لأنفسهم رسوم الملك بتجديد طاعته، وافتتحوا بلاد المغرب كلها، واستوثق لهم الملك

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص٢٣.

(٢) جمل: ربما كان المقصود بها (صحف) أو (جنب).

٧٤

بها. واستوزر إدريس مصعب بن عيسى الأزدي المسمّى بالملجوم من ضربة في بعض حروبهم وَسَمَتْه على الخرطوم وكأنها خِطام(١) . ونزع إليه كثير من قبائل العرب والأندلس، حتى اجتمع إليه منهم زهاء خمسمائة، فاختصهم دون البربر، وكانوا له بطانة وحاشية، واستفحل بهم سلطانه.

ثم قتل كبير أوربة إسحاق بن محمود سنة اثنتين وتسعين لما أحسّ منه بموالاة إبراهيم بن الأغلب.

وكثرت غاشية(٢) الدولة وأنصارها وضاقت (وليلى) بهم، فاعتام موضعاً لبناء مدينة لهم، وكانت (فاس) موضعاً لبني بوغش وبني الخير من وزاعة. وكان في بني بوغش مجوس ويهود ونصارى، وكان موضع شيبوبة منها بيت نار لمجوسهم.

وأسلموا كلهم على يده، وكانت بينهم فتن، فبعث للإصلاح بينهم كاتبه أبا الحسن عبد الملك بن مالك الخزرجيّ ثم جاء إلى فاس، وضرب أبنيته بكزواوه، وشرع في بنائها، فاختطّ عدوة الأندلس سنة اثنتين وتسعين. وفي سنة ثلاث وتسعين اختطّ عدوة القرويين، وبنى مساكنه، وانتقل إليها، وأسّس جامع الشرفاء، وكانت عدوة القرويين من لدن باب السلسلة إلى غدير الجوزاء والجرف.

واستقام له أمر الخلافة وأمر القائمين بدعوته وأمر العز والملك. ثم خرج غازياً للمصامدة سنة سبع وتسعين، فافتتح بلادهم، ودانوا بدعوته، ثم غزا تلمسان وجدّد بناء مسجدها وإصلاح منبرها، وأقام بها ثلاث سنين.

وانتظمت كلمة البرابرة وزناتة، ومحوا دعوة الخوارج منهم واقتطع الغربيين عن دعوة العباسيين من لدن الشموس الأقصى إلى شلف(٣) ).

إلى أن قال:

____________________

(١) خِطام: حبل يجعل في عنق البعير ويُثنى في خَطْمِه، كل ما وُضع في أنف البعير ليُقاربه.

(٢) غاشية الدولة: خدم الدولة. وغاشية فلان: زواره وأصدقاؤه ينتابونه.

(٣) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص٢٥، ٢٦، ٢٧.

٧٥

(وهلك إدريس سنة ثلاث عشرة، وقام بالأمر من بعده ابنه (محمد) بعهده إليه، فأجمع أمره بوفاة جدته (كنزة) أم إدريس، على أن يشرك أخوته في سلطانه، ويقاسم ممالك أبيه، فقسّم المغرب بينهم أعمالاً)(١) .

(وتُوفِّي بعد أمور جرت بين إخوته وبينهم سنة إحدى وعشرين ومائتين، بعد أن استخلف ولده علياً في مرضه، وهو ابن تسع سنين.

فقام بأمره الأولياء والحاشية من العرب وأوربة وسائر البربر وصنائع الدولة. وبايعوه غلاماً مترعرعاً، وقاموا بأمره، وأحسنوا كفالته وطاعته، فكانت أيامه خير أيام.

وهلك سنة أربع وثلاثين لثلاث عشرة سنة من ولايته، وعهد لأخيه (يحيى) بن محمد، فقام بالأمر وامتد سلطانه، وعظمت دولته واستجدّت فاس في العمران)(٢) . (وهلك يحيى هذا، ووليَ ابنه (يحيى) بن يحيى، فأساء السيرة وكثر عبثه في الحرم، وثارت به العامة لمركب شنيع أتاه. وتولى كِبَرَ الثورة عبد الرحمان بن أبي سهل الحزامي، وأخرجوه من عُدْوَةِ القَرَوِيّين إلى عُدوة الأندلسيين، فتوارى ليلتين ومات أسفاً لليلته.

وانقطع الملك من عقب محمد بن إدريس. وبلغ الخبر بشأن يحيى إلى ابن عمه علي بن عمر صاحب الريف، واستدعاه أهل الدولة من العرب والبربر والموالي، فجاء إلى فاس ودخلها وبايعوه.

واستولى على أعمال المغرب إلى أن ثار عليه (عبد الرزّاق) الخارجي، وكان على رأي الصُفْرِيّة، فزحف إلى فاس وغلب عليها، ففرَّ إلى أوربة.

وملك عبد الرزاق عدوة الأندلس، وامتنعت منه عدوة القرويين. وولّوا على أنفسهم يحيى بن القاسم بن إدريس، وكان يُعرف بالصرام، بعثوا إليه فجاءهم جموعه. وكانت بينه وبين الخارجي حروب. ويقال: إنه أخرجه من عدوة الأندلس، واستعمل عليها ثَعْلَبَةَ بن مُحارب بن عبد الله، كان من أهل الربض بقرطبة، من ولد المُهَلَّب بن أبي صُفْرَة.

____________________

(١) نفسه: م٤ ص٢٧.

(٢) نفسه: م٤ ص٢٩.

٧٦

ثم استعمل ابنه عبد الله المعروف بعبود من بعده، ثم ابنه محارب بن عبود بن ثعلبة، إلى أن اغتاله الربيع بن سليمان سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وقام بالأمر مكانه (يحيى) بن إدريس بن عمر صاحب الريف، وهو ابن أخي عليّ بن عمر، فملك جميع أعمال الأدارسة، وخطب له على سائر أعمال المغرب.

وكان أعلى بني إدريس مُلكاً، وأعظمهم سلطاناً، وكان فقيهاً عارفاً بالحديث، ولم يبلغ أحد من الأدارسة مبلغه في السلطان والدولة.

وفي أثناء ذلك كله خَلَط(١) الملك للشيعة بأفريقية، وتغلَّبوا على الاسكندرية، واختطوا المهدِيَّة كما نذكره في (دولة كتامة). ثم طمحوا إلى مُلْك المغرب، وعقدوا لـ (مضالة بن حبوس) كبير مكناسة وصاحب تاهرت على محاربة ملوكه سنة خمس وثلاثمائة.

فزحف إليه في عساكر مكناسة وكتامة. وبرز لمدافعته يحيى بن إدريس صاحب المغرب بجموعه من المغرب وأولياء الدولة من أوربة وسائر البرابرة والموالي.

والتقوا على مكناسة، وكانت الدبرة على يحيى وقومه، ورجع إلى فاس مغلولاً، وأجاز له بها معاملة إلى أن صالحه على مال يؤدّيه إليه وطاعة معروفة لعبيد الله الشيعي سلطانه يؤدّيها فقبل الشرط، وخرج عن الأمر وخلع نفسه، وأنفذ بيعته إلى عبيد الله المَهْدِيّ، وأبقى عليه مصالحه في سكنى فاس، وعقد له على عملها خاصة، وعقد لابن عمه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة يومئذ، وصاحب (سنور وتازه)على سائر أعمال البربر كما نذكره في أخبار مكناسة ودولة موسى.

وكان بين موسى بن أبي العافية وبين يحيى بن إدريس شحناء وعداوة، يضغنها كل واحد لصاحبه، حتى إذا عاد (مضالة) إلى المغرب في غزاته الثانية سنة تسع أغراه موسى بن أبي العافية بطلحة بن يحيى بن إدريس صاحب فاس، فقبض عليه مضالة واستصفى أمواله وذخائره وغرّبه إلى أصيلا والريف عمل ذي قرباه ورحمه.

____________________

(١) خلط: كذا ولم نجد لها معنى يناسب السياق ولعلها: خلص، بمعنى تمّ.

٧٧

وولّى على فاس ريحان الكتاميّ، ثم خرج يحيى يريد أفريقية، فاعترضه ابن أبي العافية وسجنه سنين، وأطلقه ولحق بالمهدية سنة إحدى وثلاثين، وهلك في حصار أبي يزيد. واستبد ابن أبي العافية بملك المغرب.

وثار على ريحان الكتاميّ بفاس سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس الملقّب بالحجَّام، ونفى ريحان عنها، وملكها عامين.

وزحف للقاء موسى بن أبي العافية، وكانت بينهما حروب شديدة هلك فيها ابنه منهال بن موسى، وانجلت المعركة على أكثر من ألف قتيل وخلص الحسن إلى فاس منهزماً، وغدر به حامد بن حمدان الأوربي واعتقله. وبعث إلى موسى فوصل إلى فاس وملكها، وطالبه بإحضار الحسن فدافعه عن ذلك، وأطلق الحسن متنكراً، فتدلّى من السور فسقط ومات من ليلته، وفر حامد بن حمدان إلى المهدية.

وقتل موسى بن أبي العافية عبد الله بن محارب وابنيه محمداً ويوسف، وذهب ملك الأدارسة.

واستولى ابن أبي العافية على جميع المغرب، وأجلى بني محمد بن القاسم بن إدريس وأخاه الحسن إلى الريف، فنزلوا البصرة، واجتمعوا إلى كبيرهم إبراهيم بن محمد بن القاسم أخي الحسن، وولّوه عليهم.

واختطّ لهم الحِصْن المعروف بهم هنالك وهو حجر النسر سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ونزلوه وبنو عمر بن إدريس يومئذ بغمارة من لدن تيجساس إلى سبتة وطنجة، وبقي إبراهيم كذلك.

وشمّر الناصر المرواني لطلب المغرب، وملك سبتة علي بن إدريس سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وكبيرهم يومئذ أبو العيش بن إدريس بن عمر، فانجابوا له عنها، وأنزل بها حاميته. وهلك إبراهيم بن محمد، فتولّى عليهم من بعده أخوه القاسم الملقّب بكانون وهو أخو الحسن الحجَّام واسمه القاسم بن محمد بن القاسم. وقام بدعوة الشيعة انحرافاً عن أبي العافية ومذاهبه، واتصل الأمر في ولده وغمارة أولياؤهم والقائمون بأمرهم كما نذكره في أخبار غمارة.

٧٨

ودخلت دعوة المروانيّين خلفاء قرطبة إلى المغرب، وتغلبت زناتة على الضواحي، ثم ملك بنو يعرب فاس وبعدهم مِغْراوة.

وأقام الأدارسة بالريف مع غمارة وتجدّد لهم به ملك في بني محمد وبني عمر بمدينة البصرة وقلعة حجر النسر ومدينة سبتة وأصيلا. ثم تغلب عليهم المروانيون وأثخنوهم إلى الأندلس، ثم أجازوهم إلى الإسكندرية، وبعث العزيز العُبَيْدي بن كانون منهم لطلب ملكهم بالمغرب فغلبه عليه المنصور بن أبي عامر وقتله، وعليه كان انقراض أمرهم وانقراض سلطان أوربة من المغرب.

وكان من أعقاب الأدارسة الذين أووا إلى غمارة فكانوا الدائلين من ملوك الأموية بالأندلس. وذلك أن الأدارسة لما انقرض سلطانهم، صاروا إلى بلاد غمارة واستجدوا بها رياسة، واستمرت في بني محمد وبني عمر من ولده إدريس بن إدريس، وكانت للبربر إليهم بسبب ذلك طاعة وخلطة.

وأمّا سليمان أخو إدريس الأكبر فإنه فرّ إلى المغرب أيام العباسيّين، فلحق بجهات تاهرت بعد مهلك أخيه إدريس. وطلب الأمر هناك فاستنكره البرابرة، وطلبه ولاة الأغالبة فكان في طلبهم تصحيح نسبه.

ولحق بِتَلْمَسان فملكها، وأذعنت له زناتة وسائر قبائل البربر هنالك. وورث ملكه ابنه محمد بن سليمان على سننه، ثم افترق بنوه على ثغور المغرب الأوسط واقتسموا ممالكه ونواحيه، فكانت َتلْمَسان من بعده لابنه محمد بن أحمد بن القاسم بن محمد بن أحمد، وأظنّ هذا القاسم هو الذي يدعي بنو عبد الواد نسبه؛ فإن هذا أشبه من القاسم بن إدريس بمثل هذه الدعوى.

وكانت (أرشكول) لعيسى بن محمد بن سليمان، وكان منقطعاً إلى الشيعة، وكانت جراوة لإدريس بن محمد بن سليمان ثم لابنه عيسى وكنيته أبو العيش. ولم تزل إمارتها في وُلده، وولِيها بعده ابنه إبراهيم بن عيسى، ثم ابنه يحيى بن إبراهيم، ثم أخوه إدريس بن إبراهيم. وكان إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول منقطعاً إلى عبد الرحمان الناصر، وأخوه يحيى كذلك. وارتاب من قبله ميسور قائد الشيعة فقبض عليه سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.

٧٩

ثم انحرف عنهم، فلما أخذ ابن أبي العافية بدعوة العلوية نابذ أولياء الشيعة، فحاصر صاحب جراوة الحسن بن أبي العيش وغلبه على جراوة فلحق بابن عمه إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول، ثم حاصرها البوري بن موسى ابن أبي العافية وغلب عليهما. وبعث بهما إلى الناصر فأسكنهما قرطبة.

وكانت تنس لإبراهيم بن محمد بن سليمان، ثم لابنه محمد من بعده، ثم لابنه يحيى بن محمد ثم ابنه علي بن يحيى. وتغلّب عليه زيري بن مناد سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، ففر إلى الجبر بن محمد بن خزر، وجاز ابناه حمزة ويحيى إلى الناصر فتلقاهما رحباً وتكرمة. ورجع يحيى منهما إلى طلب تنس فلم يظفر بها.

وكان من ولد إبراهيم هذا أحمد بن عيسى بن إبراهيم صاحب سوق إبراهيم، وسليمان بن محمد بن إبراهيم من رؤساء المغرب الأوسط. وكان من بني محمد بن سليمان هؤلاء وبَطْوش بن حناتِش بن الحسن بن محمد بن سليمان.

قال ابن حزم: وهم بالمغرب كثير جداً، وكان لهم بها ممالك، وقد بطل جميعها، ولم يبق منهم بها رئيس بنواحي بجاية، وحمل بني حمزة هؤلاء جوهر إلى القيروان، وبقيت منهم بقايا في الجبال والأطراف معروفون هنالك عند البربر، والله وارث الأرض ومن عليها)(١) .

قال المسعودي في مروجه:

(وفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة كان ظهور محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم بالمدينة، وكان قد بويع له في الأمصار، وكان يدعى بالنفس الزكية لزهده ونسكه، وكان مستخفياً من المنصور ولم يظهر حتى قبض المنصور على أبيه عبد الله بن الحسن وعمومته وكثير من أهله وعدتهم.

ولما ظهر محمد بن عبد الله بالمدينة، دعا المنصور أبا مسلم العقيلي، وكان شيخاً ذا رأي وتجربة، فقال له: أشر علي في خارجيّ خرج علي)(٢) .

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ من ص٣٠ إلى ص٣٦.

(٢) مروج الذهب للمسعودي: م٢ ص٢٣٧.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177