الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء ٢

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة0%

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 177

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

مؤلف: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
تصنيف:

الصفحات: 177
المشاهدات: 21277
تحميل: 6525


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 177 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21277 / تحميل: 6525
الحجم الحجم الحجم
الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة

الاجتهاد وإشكاليات التطوير والمعاصرة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: معهد الرسول الأكرم (ص) العالي للشريعة والدراسات الإسلاميّة
العربية

لقد استطاع ابن رشد الأندلسي أن يفسِّر الرواية بسهولة لمعرفته بعلم التشريح، فذكر أنَّ الأمر ينبغي أن يكون تحت الخرزة. أمَّا صاحب الجواهر، فقد ذكر أنَّ هذه المسألة لم تطرح لا في رواية ولا في كلمات الأصحاب، على أنَّه لو كان قد اطّلع على فقه العامّة، لَمَا تردَّد في الحكم في هذه المسألة.

إنّ هذا العامل، المتمثِّل بعدم النظر إلى فقه أهل السُّـنَّة، صار سبباً في أن تكون بعض بحوثنا الفقهية من دون فائدة. عندما ذهبتُ إلى النجف الأشرف لمتابعة الدراسة، رحت أهتم بتهيئة كتب فقه أهل السُّـنَّة إلى جوار اهتمامي بتهيئة الكتب الفقهية الشيعية؛ لأنَّهم أفهمونا بأنَّه من دون الاطّلاع على أحاديث أهل السُّـنَّة وفقههم، لا تمكن معرفة أحاديث الشيعة وفقههم معرفة كاملة.

في رأيي لدينا في الفقه كتابين استدلاليين مختصرين وجامعين، هما:(دروس الشهيد) في فقه الشيعة، و(بداية المجتهد) لابن رشد الأندلسي في فقه أهل السُّـنَّة. وكل منهما يمثِّل - رغم صغر الحجم - دورة فقهية استدلالية قلَّ نظيرها.

* تذهب مدرسة النجف في العصر المتأخر، أي على عهد زعامة آية الله العظمى الخوئي، إلى عكس ما تقول به تماماً، إذ هي تعتقد أنَّ فقه الشيعة لم يكن أبداً حاشية على فقه السُّـنَّة؛ لأنَّ فقه الشيعة يمتاز بكونه أكثر دقَّة وأكثر تفصيلاً، بالإضافة إلى وفرة روايات الشيعة في هذا المجال وقلَّتها عند العامّة. الذي يُلحظ أنَّ بعض تلاميذ السيد الخوئي يُصرُّون على هذا المطلب، فما رأيكم؟

الشيخ معرفت: كون فقه الشيعة أكثر دقَّةً وسعةً لا يتنافى مع ما ذهبنا إليه. في الوقت نفسه يُعدُّ الفقه الاستدلالي لأهل السُّـنَّة واسعاً وممتدَّاً جداً، ورواياته كثيرة في مختلف أبواب الفقه. يبدو أنَّ الذي يثير هذه النقطة ليس له اطّلاع على فقه العامّة، ولم يراجع كتبهم الفقهية والروائية إلاّ قليلاً.

٨١

على أنَّ الإشكال نفسه يتَّجه إلى فقهنا القديم. على سبيل المثال، لم تشتمل الكتب الفقهية الشيعية القديمة على مبحث الاجتهاد والتقليد؛ لأنَّ هذا المبحث كلامي ثُمَّ نفذ إلى الفقه تدريجياً. في مثال آخر نجد أنَّ المحقِّق رضا الهمداني خصَّص ما يناهز العشرين صفحة من القطع الكبير للبحث في نيَّة الوضوء ومتعلَّقاتها في كتاب الطهارة، على حين لم يتوقَّف العلاّمة والشهيدان والمحقِّقان عند هذا البحث أساساً، ولا وجود له في آثارهم. هنا نسأل: هل يصحُّ القول: إنَّ فقه قدمائنا كان ناقصاً؟ ثُمَّ هل يتمثَّل مقياس كمال الفقه وامتداده في توفُّره على مثل هذه المباحث؟ إنَّ إغماض العين بهذه الطريقة ليس صحيحاً.

* لقد فُرض حظرٌ على تدوين الحديث عند أهل السُّـنَّة مدَّة تناهز القرن، ما يثير السؤال الآتي: كيف نقلوا جميع هذه الروايات عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

الشيخ معرفت: هذا السؤال يستوقفني أنا أيضاً. لقد دام منع تدوين الحديث حوالي مائة سنة، فكيف توفَّر لهم نقل كل ّهذه الروايات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ومن أين جاءوا بها؟ ما أظنُّه في هذا المجال - ولديَّ شواهد على هذا الحدس - أنَّهم كانوا يحضرون عند أئمّة الشيعة، خاصَّةً الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام ، ويأخذون الرواية عنهم، ثُمَّ يصطنعون للرواية سنداً موضوعاً يصلها بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فهناك نحو من الأصالة لمتن الرواية، لكن غالباً ما يكون السند موضوعاً؛ لهذا السبب تجد أنَّ نصوصَ كثيرٍ من الروايات الفقهية عند العامّة هو نص الروايات الفقهية الشيعية نفسه. في الحقيقة كانت العملية تتمثَّل بممارسة ضرب من استراق السمع. هذا هو الحدس الذي توصَّلت إليه في الفقه، ويبدو أنَّه غير قابل للإنكار.

٨٢

كان أبو حنيفة ممَّن ذهب إلى الإمام الصادقعليه‌السلام ، وراح يطرح عليه المسائل، فيجيبه الإمامعليه‌السلام بسعة صدر، مقرونة أحياناً بالحدَّة والعتاب. على أنَّ ذلك لم يقتصر على أبي حنيفة وحده، كان الثوري أيضاً يذهب إلى الإمام ويسأله. ولقد عرضتُ في المجلَّد التاسع من كتابي(التمهيد) - لم يطبع حتّى الآن - إلى أنَّ أئمَّة الشيعة في زمانهم كانوا كالعلَم الشاخص والراية السامقة، وكان بيت كلٍّ من الإمام الباقر والإمام الصادقعليهما‌السلام المرجع الأخير لجميع العلماء، ثُمَّ دام الأمر كذلك حتّى عصر الإمام الكاظمعليه‌السلام ، ولقد روى علماؤهم عن الإمام السجَّاد علي بن الحسين، كما أنَّ عدداً

كبيراً من روايات أهل السُّـنَّة مرويٌّ عن الإمام الحسن والإمام الحسينعليهما‌السلام ، مع أنَّ فقه الشيعة نفسه لا ينطوي إلاّ على عدد نادر من الروايات عن الإمامين السبطين: الحسن والحسينعليهما‌السلام .

ما أنتهي إليه هو: صحيحٌ أنَّ فقه الشيعة أكثر دقَّة وأزيد تفصيلاً، إلاّ أنَّ ذلك لا يتعارض مع ما ذهبتُ إليه. أنا شخصياً من تلامذة آية الله الخوئي، وقد كنتُ أحضر درسه لمدَّة من الزمن، فلم أسمع منه مثل هذا الكلام المشار إليه في السؤال، وهو غير صحيح. أمَّا ما يقوله تلامذته الآخرون، وما ينقلونه من آراء، فلا اطّلاع لي عليه.

٨٣

دور الرؤية القرآنية في الاستنباط

* ما هو دور الرؤية الكونية القرآنية في الاستنباط الفقهي؟ بتعبير آخر: هل يكفي الفقيه في الاستنباط تعاطيه مع آيات الأحكام وحدها وحسب، أو أنَّ هناك تأثيراً للعلوم والمعارف القرآنية الأخرى في الاجتهاد؟ أخيراً، كيف تكون آلية هذا التأثير؟

د. كُرْجي: يقوم نهج الفقهاء على معرفة آيات الأحكام وحدها في ممارسة الاستنباط، بَيْدَ أنَّ الذي لا ريب فيه هو أنَّ دراسة علوم القرآن، والتعرُّف إلى معارفه، لهما سهم وافر في تعميق فهم آيات الأحكام، وفي الوصول إلى الحكم الشرعي واستنباط، والوقوف على مصالح التشريع. وإنَّ الاكتفاء بالتدقيق في جانب من القرآن، أو أي كتاب آخر، لا يمكن أن يساوي في مردوده، وفي إدراك هدف صاحب الأثر، الحصيلةَ الناتجة عن التعمُّق في إدراك جميع أبعاد الأثر، بل لا يمكن أن يتساوى الوعي الحاصل للهدف الذي يرمي إليه صاحب الكتاب، في بُعد من أبعاده، بين مَن يقتصر على هذا البُعد وحده وبين مَن يتجاوز هذا البعد، ليحيط بجميع أبعاد الكتاب، ويطلّ من خلال هذا الوعي الشامل على الجزء المطلوب، ولكن لماذا؟ الجواب: لأنَّ الأجزاء تترابط في ما بينها لمتابعة هدف واحد.

بل نستطيع القول: إنَّ هذا النهج، في الاقتصار على جانب واحد وإهمال بقيَّة الجوانب، لا يليق حتّى بالموسوعات وكتب الكشاكيل والمتفرِّقات.

والمسألة المثارة (الفرق بين التركيز على آيات الأحكام وحدها والتركيز على القرآن في جميع أبعاده) لا تقتصر آثارها على إدراك ظواهر كلام المتكلِّم وفهمه، بل تمتد لتشمل مسألة استيعاب عمق المعنى وروحه.

٨٤

السيد مرعشي: بالنسبة إلى السؤال المطروح يمكن أن نجيب بالإيجاب؛ فلمجموع علوم القرآن ومعارفه تأثير في الاجتهاد. نحن نرى أنَّ النظرية الاجتهادية تستحقُّ الاحترام حين تُعبِّر عن حكم الله، لا عن حكم الفقيه الخاص. هذا الأمر يُملي على الفقيه أن ينظر إلى آيات الأحكام ويتعاطى معها بنوع من االتعبُّد، بحيث لا يتجاوز حدودها وثغورها، بل يبقى في دائرتها وداخل حدودها حين يمارس الاجتهاد والاستنباط، ومن ثَمَّ فهو ليس حرَّاً في أن يبتعد عنها ويضحِّي بها في مقابل مجموعة من الاعتباريات والظنون الواهية. وما جاء في بعض الروايات من(أنَّ دين الله لا يصاب بالعقول) ناظرٌ في الحقيقة إلى هذا الأمر، وهو يعكس حقيقة أنَّ على الفقيه أن لا يخرج عن إطار الأدلَّة إلى القياس والاستحسان، وهما أمران باطلان.

د. كاتوزْيان: أعتقد أنَّ سؤال الندوة غامض، بَيْدَ أنِّي أستطيع القول، من خلال المقدار الذي فهمته، أنْ لا مجال للشكِّ في أنَّ القرآن هو الدستور المدوَّن للحقوق الإسلامية، وهو، إضافة إلى ذلك، أعلى مصدر فقهي، بحيث تتحتَّم رعاية الأصول التي يضمَّها، واتخاذها مُرشداً في كيفية الاستنباط. على سبيل المثال، نفهم من التشديد الكبير للآيات الإلهية على وجوب تحكيم العدل، أنَّ الهدف العام المنشود من تنفيذ جميع الأحكام يتمثَّل بتطبيق العدالة. وتطبيق العدالة هو في الواقع القيمة التي تقرِّبنا إلى التقوى وتوفِّر لنا الرضا الإلهي( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) .

وعليه، ينبغي للفقيه القرآني أن يأخذ بنظر الاعتبار، في استنباطه للحكم، الآثارَ الاجتماعية والاقتصادية المترتِّبة على الحكم الذي يستنبطه، ومدى ما يُسهم به في تطبيق العدالة، ومن ثَمَّ يجب أن لا يقتصر تفكيره في حدود الصناعات الأدبية والمنطقية.

بتعبيرٍ آخر: ينبغي للفقيه القرآني، باللحاظ المذكور، أن يملأ الفضاء الخالي للأحكام بمادَّة العدالة ومحتواها. وبهذا النحو ليس عليه أن لا يلجأ إلى تخصيص الأحكام القرآنية القطعية من دون مسوِّغ وحسب، بل عليه أن يأخذ من هذه الأحكام أصولاً تهدي اجتهاده وتوجِّهه في عملية الاستنباط.

٨٥

لكن مع ذلك كلِّه، وبرغم ما يتمتَّع به القرآن من موقع منيف وسامٍ، يجب أن لا يقوى التصوُّر الذي يذهب إلى أنَّ كلَّ شيء قد بُيِّن في القرآن، بنحوٍ نكون فيه بغنىً عن بقيَّة المصادر الفقهية. فالقرآن يضمُّ الأصول العامة للهداية، وليس فيه ما يختصُّ بالأحكام الجزئية في الفقه إلاّ جزء صغير، والذي لا نشكُّ فيه هو أنَّ معرفة آيات الأحكام لا تكفي وحدها في استنباط الأحكام الشرعية. ويمكن أن نمثِّل لعلاقة القرآن ببقيَّة مصادر التشريع بالعلاقة بين الدستور والقوانين العادية، فما يطغى على القرآن - كما على الدستور - هو القيمومة العامة، ودور التوجيه والإرشاد وإبانة الطريق.

السيد الحائري: هناك بحثٌ في فهم القرآن. على سبيل المثال، في مسألة أنَّ الماء مطهِّر، نرى أنَّ هناك مَن يذهب في قوله تعالى:( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً ) إلى أنَّ هذه الآية - وما شبهها - لا تدلُّ على كون الماء مطهِّراً بالمعنى الفقهي؛ والسبب الذي يتذرَّعون به هو أنَّ هذه المصطلحات الفقهية لم تكن رائجة وقت نزول هذه الآيات، ومن ثَمَّ فإنَّ إدراك معاني هذه المصطلحات في القرآن يجب أن يتمًَّ من خلال المعنى اللغوي الذي كان سائداً في زمن النزول؛ لذلك يصعب أن نستخلص حقيقة شرعية - أو بتعبيرٍ آخر: الطهارة الشرعية - من مصطلح (الطهور).

أمَّا نحن، فنرى أنَّ هذه الآيات وإن كانت قد نزلت في أوائل البعثة، إلاّ أنَّ مصطلحات القرآن ينبغي أن تُفهم في إطار الجوّ القرآني نفسه، والأمر البديهي هو أنَّ القرآن لم ينزل دفعة واحدة، عندئذٍ فإنَّ الفضاء القرآني يتكوَّن من مجموع الآيات والسور النازلة، وفي ضوء هذا الفضاء القرآني الخاص يُتاح لنا مجال إدراك القرآن نفسه وفهم مصطلحاته، بحيث يتمّ بحث كلّ شيء في إطار هذا الجوّ المتكامل.

في الواقع، إنَّ مصطلحات كلّ مدرسة تخضع لهذا المبدأ، فإذا سمعنا مصطلح الناصب والمنصوب من سيبويه، فسيكون لذلك معنى يختلف عن المعنى الذي يستخدمه فيه غير النحوي؛ السبب أنَّ المعنى يتغيَّر إذا أخرجناه من فضائه الخاص.

٨٦

بشكل عام، تخضع مصطلحات القرآن أو الإسلام عامّة لجوِّها الخاص، ومن ثَمَّ ينبغي لهذه المصطلحات أن تُدرس في إطار مجموعة المعارف التي يتألَّف منها القرآن أو الإسلام، حتّى يمكن أن يُفسَّر معناها ويستبين، وتؤديّه بشكل جلي. إذا أردنا مثلاً أن نأخذ آيات الأحكام وحدها ونفصلها عن بقيَّة الآيات، ثُمَّ ندرسها بمعزل عن المجموع، يمكن أن تفوتنا عندئذ مسائل وإشارات تبقى بعيدة عن فهمنا، قاصية عن متناولنا.

ما نخلص إليه: إنَّنا إذا أخذنا آيات الأحكام وبحثناها بشكل منفصل عن بقيَّة الآيات، نصل إلى فهمٍ خاص، وإذا أخذناها في ضوء صلتها ببقيَّة الآيات وبحثناها - على أساس علاقة تكاملية - بعضها مع بعض، نصل إلى فهمٍ آخر؛ لذا يتحتَّم - بالضرورة - أن نأخذ الآيات بعضها إلى جوار بعض حينما نريد أن نمارس التفسير ونفهم معناها، تماماً كما أنَّ مصطلحات كلّ مدرسة أو اتجاه تُفهم في إطار تلك المدرسة وذاك الاتجاه.

الشيخ معرفت: يجب - أوَّلاً - أن تتَّضح هذه المسألة: هل تقتصر آيات الأحكام على تلك المجموعة التي وضعها بعض العلماء الكبار وجمعوها تحت هذا العنوان، وألَّفوا فيها الكتب؟

نقول في الجواب: إنَّ الأمر ليس كذلك قطعاً، وكلّ ما فعله أولئك العلماء الكبار أنَّهم توفَّروا على جمع الآيات التي تتضمَّن صراحة بعض المسائل الشرعية، مثل: الإرث، الطلاق، النكاح، البيع، الإجارة، الدين، وغير ذلك. وأنا أعتقد أنَّ هذا اللون من التصوُّر ينطوي على التقصير بحقّ القرآن. القرآن كتاب هداية، جاء لبناء الإنسان، وهو مملوء - في مجموعه - بموضوع التفقُّه في الدين، والتفقُّه في الدين هو ضرب من المعرفة العميقة الدقيقة بجميع الأبعاد الإنسانية، وهذه بدورها ترتبط بكل الأبعاد الفردية والاجتماعية للإنسان المسلم؛ بمعنى أنَّ على الإنسان أن يعمل في جميع أبعاد حياته وفقاً لِمَا أراده القرآن.

فإذا أراد الفقيه أن يكتفي ببيان المسائل انطلاقاً من لحاظ تصنيفها إلى واجب ومكروه ومستحب...، وأن يكتفي بما هو مشهور، فقد وقع في التقصير.

٨٧

* هل لكم أن تعطونا مثالاً على كيفية تأثير بقيَّة جوانب المعرفة القرآنية على عملية الاستنباط؟

الشيخ معرفت: ثَمَّة خلاف ين الفقهاء في تصدِّي النساء للقضاء، فبعض الفقهاء تمسَّك بروايات من قبيل:(انظروا إلى رجلٍ منكم يعرف شيئاً من قضايانا) ، واستندوا إليها في القول بعدم جواز تصدِّي المرأة للقضاء، بَيْدَ أنَّني أرى أنَّ مثل هذه التعابير لا يمكن أن تكون مخصِّصة للحكم، بل هي في مقام بيان الحكم لجميع المكلَّفين؛ تماماً كما في مقولة:(رجل أصاب ثوبه بول) ، فالنص - هنا - يشمل إصابة البول للباس المرأة كما للباس الرجل. من هذا الباب، من الخطأ أن يردف الحديث الشريف:(طلب العلم فريضة على كلّ مسلم) بكلمة(مسلمة) ؛ لأنَّ الحديث يتضمَّن الرجل والمرأة.

كذلك هو من قبيل قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... ) ؛ إذ لا يجب أن تعقب الآية بنص من قبيل:(يا أيُّها اللاتي آمنتنَّ) .

وبذلك استفدنا من كلمة(الرجل) في حديث:(انظروا إلى رجلٍ منكم يعرف شيئاً من قضايانا) ، عدم حقِّ المرأة في القضاء، وأنا أعتقد بخطأ هذه الاستفادة التي لا تنسجم في الوقت نفسه مع المشرب الفقهي.

لكن الذي حصل هو أنَّ السادة الفقهاء أخذوا ذلك أخذ المسلَّمات؛ لذلك عمدوا بعدئذ لاصطناع الأدلَّة، وحينما انتبهوا هم أنفسهم إلى ضعف الدليل راحوا يتمسَّكون بالإجماع.

أمَّا إذا عُدْنا إلى القرآن الكريم، فنستطيع أن نتوفَّر على الدليل بسهولة؛ فمن شروط القضاء: القاطعية والحسم، وعدم التأثُّر والانفعال، والقرآن يصف المرأة بقوله:( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) (١٤) ويعرِّفها بوصفها موجوداً ينشأ بين الحَلِي، وتنشأ شخصيته ويكتسب هويته في هذا الإطار؛ لذلك لا يمكن أن تتسنَّم مثل تلك المسؤولية التي تحتاج - حسب تعبير الإمام الخميني - إلى القسوة، تماماً كما خاطب مجموعة من القُضاة بقوله:(يجب أن يكون القاضي قاسيَ القلب؛ أي لا يتأثَّر بانفعالات الخصوم التي تصدر - أو بعضها - عن تكتيك. فربَّما بادر أحد طرفي النزاع إلى البكاء، وربَّما احتدَّ أو أظهر التظلُّم وما شابه) .

٨٨

من جهةٍ أخرى يحثُّ القرآن الكريم المجتمعَ الإسلامي على الثبات والصبر إزاء الحوادث والمصائب( تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) ، على حين أنَّ المرأة موجود يفقد قدرة الثبات والصبر حيال الحوادث( وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) ، فالمرأة تلجأ إلى البكاء والنوح مقابل النوازل نتيجةَ ضعفها الداخلي، وتضيق عليها الحياة في مقابل المشكلات الحادّة والوقائع المريرة.

إنَّ الإنسان لا يسقط ضحية الألم إذا ما كانت له القدرة على الكلام والتعبير عن نفسه ووجوده. أمَّا إذا ساوره العجز عن الكلام، وأحسَّ أنَّه لا يستطيع أن يحقِّق وجوده، تراه يلجأ إلى البكاء. هكذا نجد أنَّ الإنسان الذي يفتقد إلى الثبات في معترك الحياة ينهزم نفسياً، ومن ثُمَّ لا يستطيع أن يتَّخذ قراراً مهمَّاً في شأن وجوده ومصيره.

على هذا الضوء، نفهم من الآية الشريفة أنَّه ليس بمقدور المرأة أن تتصدَّى لمسؤولية تلك المواقع التي تحتاج إلى الحسم وتتطلَّب الثبات والصلابة، وعدم التأثّر بالانفعالات التي تحفُّ بتلك المواقع، وهذه المراكز والمسؤوليات لا تنسجم مع روحها، ولا تتَّسق مع تكوينها النفسي. وهنا نلحظ أنَّ الآية الكريمة، وإن لم تكن في معرض الكشف عن هوية القضاء والقاضي، إلاّ أنَّ بمقدور الفقيه أن يخرج منها بمثل هذه الاستفادة.

ثُمَّ مثال آخر مستمدٌّ من الآية الكريمة:( خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاًً ) ، وكذلك:( سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) ، معنى هاتين الآيتين أنَّ الله وهب الإنسان قدرة استثنائية يستطيع من خلالها أن يستخدم جميع قوى الطبيعة وكلَّ ما في العالم من إمكانات. إنَّ بمقدور الفقيه أن يستفيد من هذا النمط من الآيات؛ ما مؤدَّاه أنَّ بمقدور كلِّ إنسان أن ينطلق إلى حيث ما يستطيع، شريطة أن لا يصطدم مع حقوق الآخرين؛ ومعنى ذلك أنَّ هذا الضرب من الآيات يُوجِد لنا أحكاماً تكليفية.

٨٩

* حينما نعود إلى آيات الأحكام، نجد أنَّ القرآن الكريم يلجأ أحياناً إلى بيان جزئيات الأحكام وتفصيلاتها؛ كما هو حاله في مسائل مثل الحجّ والإرث والدَّين، في حين يكتفي أحياناً أخرى بطرح كلّيات الأحكام، تُرى ما هو الهدف من استخدام هذين الأسلوبين؟

الشيخ معرفت: القرآن كتاب هداية، وظيفته عرض أصول التشريع وكليَّات الشريعة. أمَّا التفصيل والتبيين، فمهمَّةٌ منوطة بالنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه من بعدهعليهم‌السلام . يقول (سبحانه) في هذا الشأن:( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .

إذاً، تبيين الأحكام وتفصيلها يقع على عهدة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وحين يسأل أبو بصير الإمام الصادقعليه‌السلام عن أسباب عدم تصريح القرآن باسم الإمام علي والإمام الحسن وبقيَّة الأئمَّةعليهم‌السلام ، تراه يذكر له، في مجال الجواب، أنَّ القرآن أيضاً صرَّح بأصل وجوب الصلاة، بَيْدَ أنَّه لم يشِر إلى عدد الركعات، أو أنَّه ذكر أصل وجوب الحج، بَيْدَ أنَّه لم يذكر عدد أشواط الطواف حول الكعبة. أمَّا إذا مارس القرآن عملية الدخول في التفاصيل في بعض الأحكام، فلك يعود إلى طبيعة الأحداث والوقائع، بحيث لا يمكن التوفُّر على حلِّها من دون أن يدخل القرآن في ذكر الأمور تفصيلاً.

ففي مسألة تأكيده ضرورة كتابة الدَّين، ربما يعود السبب إلى تساهل الناس في ذلك، وما يمكن أن يؤدِّي إليه هذا التساهل من عواقب.

وفي مثال زوجة زيد، لجأ القرآن للحديث عن التفاصيل بسبب أنَّ الواقع كان يحتاج إلى ذلك؛ لأنَّ القرآن كان في صدد تغيير سنَّة خاطئة كانت راسخة في الواقع الجاهلي. فقد يحصل أحياناً أن يُبادر القرآن إلى التفاصيل من باب التفضُّل، لا من باب الوظيفة.

٩٠

* وإنْ استلزم ذلك تأخير البيان عن وقت الحُجَّة؟ الشيخ معرفت: أجل، فلا إشكال في ذلك؛ لأنَّ وظيفة القرآن هي تبيين الأصول والأركان، ووظيفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدخول في الجزئيات؛ وبذلك فإنَّ تأخير البيان عن وقت الحُجَّة مرتفع موضوعاً.

هل تكون مِلاكات الأحكام بدائل للنص؟

* إذا اكتشف الفقيه المِلاك القطعي للحكم، فهل يستطيع أن يُفتي في ما لا نص فيه؛ طبقاً للمِلاك؟ بتعبيرٍ آخر: هل يمكن للمِلاك أن يأخذ مكان النص إذا اكتشفه الفقيه على نحو قطعي؟

د. كُرْجي: يستلزم صدق القضية الشرطية صدق طرفيها. وأنا وإن كنت لا أزعم أنَّ بمقدور الفقيه أن يبلغ المِلاك والمناط القطعي للحكم، لكنِّي أستطيع القول - وفاقاً لِمَا يقولونه في باب قياس الأولوية - من أنَّه إذا اكتشفا العلّة التامّة للحكم، فلا مهرب من اكتشاف المعلول؛ أي الحكم نفسه. وكلام علماء الأصول في باب الملازمات العقلية المستقلَّة يقوم على هذا المعنى.

السيد المرعشي: أجل، إذا استطاع الفقيه أن يشخِّص مِلاك الحكم، ثُمَّ يحصل له اليقين بوجود المِلاك نفسه في الموارد التي لا نص فيها، يكون حينئذٍ بمقدوره أن يمتدَّ بالمِلاك ويستفيد منه في الموارد المشابهة. ولا يُطلَق على هذه الممارسة وصف القياس، بل هي تدخل في باب تنقيح المناط.

على سبيل المثال، تفيد المادّة العاشرة من القانون المدني: نفاذ المعاهدات والعقود الخاصّة التي ليس فيها ما يخالف القانون صراحة. والباعث إلى وضع هذه المادّة، هو أصل حرية إرادة الأشخاص في العلاقات في ما بينهم. لهذا المناط وجود في الإيقاعات أيضاً؛ لأنَّنا نعرف أنَّ نظر المشرِّع لا يقوم على حجب حرية الإرادة في مجال الإيقاعات، وعليه نستطيع أن نقول - بناءً على مِلاك المادّة العاشرة من القانون المدني ومناطها -: إنَّ كلَّ إيقاع يكون نافذاً إذا لم تكن فيه مخالفة صريحة للقانون. هذا مثال لتمديد المِلاك وتسرِّيه.

٩١

وما ذهب إليه بعض الفقهاء المتأخِّرين من الفتوى بصحَّة العقود الجديدة (من قبيل عقد الضمان وعقد العمل وغيرهما)، مع أنَّ هذه العقود لم ينص عليها في الشرع، ما دفع هؤلاء الفقهاء إلى هذا الموقف، هو أنَّهم أدرجوا العقود الجديدة في باب( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) و ( تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ ) ، وقد عبَّروا عن تنقيح المناط أحياناً باتحاد طريق المسألتين، وبذلك فصلوه عن القياس.

نقرأ في شرح اللمعة ومتنها:(وكذا تجب اليمين مع البيِّنة في الشهادة على الميِّت والطفل والمجنون. أمَّا على الميِّت، فموضع وفاق، وأمَّا على الغائب والطفل والمجنون، فلمشاركتهم له في العلَّة المُوصى إليها في النص؛ وهو أنَّه لا لسان له للجواب، فيستظهر للحاكم بها، إذ يحتمل لو حضر كاملاً أن يجيب بالإبقاء أو الإبراء فيتوجَّه اليمين، وهو من باب اتحاد طريق المسألتين، لا من باب القياس) (١٥) .

وعليه: إذا كان المِلاك قطعياً، فهو يأخذ مكان النص.

د. كاتوزْيان: يُستفاد من ظاهر الأخبار التي تنص على منع القياس، أنَّ المراد منها هو النهي عن الاعتماد على مجرَّد المشابهة بين موضوعين (من قبيل ما تحدَّث به الشيطان من قياس بين خلقته من نار وخلق الإنسان من طين). أمَّا إذا بلغ الفقيه مِلاك الحكم، وأحرزه بشكل قطعي، يجب عليه أن يسرِّيه لأيِّ موردٍ يتحقَّق فيه المِلاك المكتشَف؛ لأنَّ الشارع لم يشرِّع الحكم لهوى أو لعبث، أو من باب إظهار القدرة.

إنَّ صدور أيَّ حكم لا يكون إلاّ لبلوغ مصلحة، فإذا استطاع الفقيه أن يصل إلى العلَّة الغائية لصدور الحكم، عليه أن يلتزم بمقتضاه في الموارد المشابهة؛ من باب التساوي بين الاثنين.

صحيح أنَّ احتمال الخطأ وارد في مجال بلوغ مِلاك الحكم واكتشافه، وأنَّ الاعتماد على الاستنباط القائم على هذه الطريقة لا يصل إلى مستوى الاستنباط الذي يقوم على أساس النص، لكن المكلَّفين معذورين في هذا المقدار من الخطأ. وقد عمدنا إلى ذلك لأنَّه إذا صرنا للشكّ في قدرة العقل على بلوغ الحقيقة، فإنَّ هذا الشكّ سيأخذ طريقه أيضاً إلى الاستلزامات العقلية، وإلى العقل المستقلّ أيضاً، ما ينتهي إلى تقويض قيمة أي استنباط، وهذه النتيجة لا يلتزم بها أيُّ فقيه.

٩٢

ثُمَّ إنَّ الاعتماد على القياس القطعي يُعبِّر عن ضرورة عقلية وعملية؛ ولتوضيح الأمر نلاحظ أنَّ القاضي مكلَّف، في النظام الحقوقي الراهن، بالفصل بين الخصومات، وإصدار الحُكْم، فهو من ناحية لا يستطيع أن يتوقَّف عن ممارسة الاجتهاد، كما أنَّه ليس بمقدوره، من ناحية أخرى، إجبار المتخاصمَين على اللجوء إلى الصلح؛ بسبب الاحتياط، كما لا يُقبل منه أن يقول: إنَّه ليس للشرع موقف واضح وحكم شرعي محدَّد إزاء الواقعة.

إذا أضفنا إلى ذلك أنَّ القوانين لا تتضمَّن حكم جميع الدعاوى والخصومات، كما لا يتضمَّنها الشرع أيضاً، فحينئذ يكون القاضي إزاء خيارين، فهو أمَّا أن يفصل في موارد الخصومة ويقضي فيها برأيه، أو أن يلجأ إلى ممارسة الاستنباط لبلوغ الحكم في إطار دوافع المشرِّع ومقاصده وأهدافه، على ضوء الحكمة التي تتخلَّلها القواعد الموجودة، فيلجأ - من بين ما يلجأ إليه - إلى القياس. والأمر الطبيعي أنَّ القاضي يرجِّع الخيار الثاني على الأوَّل.

أمَّا ما ينبغي التوقِّي منه، والحذر من ممارسته في هذا المجال، فهو أن يُرجَّح - من خلال القياس - الحكم المستنبَط على النص، أو أن يصار إلى مساواتهما عبر القياس أيضاً؛ لأنَّه سبقت الإشارة إلى احتمال وجود الخطأ، حتّى في حال القطع بمفاد المِلاك، في حين أنَّ للنص دلالة مباشرة على إرادة الشارع، وفي الحالة الثانية يكون تدخُّل العقل أقلُّ بمراتب ممَّا هو عليه في الحالة الأولى.

٩٣

وقد لجأ كبار فقهاء الشيعة إلى القياس القطعي في استنباط الأحكام، لكن بعد أن ميَّزوه عن القياسات المشكوكة التي لا تقوم على قاعدة أو أساس. فَهُم - توقِّياً من الوقوع في مسلك القياس الظنِّي - لجأوا إلى القياس القطعي ومارسوه، عِبر عناوين مختلفة؛ منها:(وحدة المِلاك) ، و(قياس الأولوية) ، و(وحدة طريق المسألتين) ، و(تنقيح المناط). والعنصر المشترك، في جميع هذه العناوين - باختلافات ضئيلة في ما بينها - هو إعطاء قيمة للمِلاك القطعي في الأحكام.* جناب الشيخ معرفت، هل تتساوق مِلاكات الأحكام مع النص، بحيث يمكن أن تأخذ مكان النص؟ فلو فرضنا أنَّ الفقيه حصل على المِلاك القطعي لحكم معيَّن، فهل يمكنه أن يفتي في الموارد التي يتوافر فيها المِلاك نفسه، من دون أن يكون هناك نص؛ أي اعتماداً على المِلاك القطعي؟ هذان السؤالان يُسبقان في الواقع بسؤال تأسيسي مفاده: هل بمقدور الفقيه أن يضع يده على مِلاكات الأحكام؟ لماذا يخشى بعض الفقهاء من البحث في مسألة وقوف الفقيه على مِلاكات الأحكام، بل تراهم حتّى في المواطن التي يُعبِّر فيها النص عن (علِّة الحكم) بـ ( أنَّ ) أو ( لأنَّ ) وأمثال ذلك؛ تراهم يحملون هذه التعابير على الحكمة، فيقولون: ربَّما كان ذلك من باب الحكمة؟

الشيخ معرفت: إنَّ مبنانا الذي نعتقد ونؤمن به، هو أنَّ(الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية)، فهذا جزء من قواعدنا وأصول عقائدنا. من جهة ثانية، نحن نعتقد بعدم صحَّة التصويب؛ (فالواقع) لا يتغيَّر بنظر الفقيه.

في ضوء ذلك نتساءل: إذا استطاع الفقيه أن يعرف المِلاك القطعي للحكم أحياناً ويصل إليه، فلماذا يتحاشى تسرية الحكم إلى الموارد التي يوجد فيها المِلاك القطعي نفسه؟ أقول في تفسير هذه الحالة في سلوك الفقيه:إنَّها تنظر إلى الدين نظرةً تعبُّديَّة . في حين لا تقوم مرتكزات التشيُّع ومبانيه على نظرة تقول: إنَّ الدين أمر تعبُّدي محض، بل الدين إرشاد إلى المصالح الواقعية العقلية. وأعتقد بأنَّ الفقهاء دخلوا ميدان هذه القضية بقدم راسخة على مستوى التخطيط والبحث النظري، بَيْدَ أنَّهم كشفوا عن قدر من الضعف والتردُّد في مجال التطبيق.

٩٤

أمَّا في ما يتعلَّق بالسؤال عمَّا إذا كان بمقدور الفقيه أن يطَّلع على المِلاك القطعي للحكم ويصل إليه، فالجواب عليه بالإثبات، أجل فالفقيه يستطيع ذلك. فقهاء السلف وفقْهَهُم كان يرتكز أساساً على هذا المبنى؛ إذ كانوا يبذلون قصارى جهدهم وأكثر سعيهم في مجال الكشف عن مِلاكات الأحكام، وما هو شائع بين المتأخرين من الجمود كثيراً على الألفاظ لم يكن له أثر بين فقهاء السلف، ولا أقصد من مصطلح (المتأخّرين) فقهاء المسلك الأخباري، بل أعني مباشرة كبار فقهاء المسلك الأصولي وقادته.

لو أخذنا قضية مقدار الديَّة في القتل مثالاً، لوجدنا عدم الاتساق بائناً، ففي بعضها تبلغ (٢٠٠) حُلَّة يمانية؛ أي ما يساوي في قيمته حوالي (٦٠) ألف تومان، في حين تجد في طرفها الآخر قولاً يذهب إلى (١٠٠٠) دينار؛ أي ما يعادل في زماننا ثمانية ملايين تومان. من جهة ثالثة، يذهب بعض الأطراف إلى أنَّ قيمة ديَّة القتل مائة بعير، أو مائتي رأس من البقر، أو ألف من الغنم. والأمر الطبيعي أنَّ قيم هذه الحيوانات هي في حركة متذبذبة وغير مستقرَّة في الأغلب. إنَّ ما يهيمن على ظنِّ أولئك السادة الفقهاء أنَّ أحكام هذه المسألة تعبُّدية، وذلك على غرار كفَّارة إفطار شهر رمضان، هذه الكفَّارة التي تتراوح - بحسب الحالة - بين إطعام ستِّين مسكيناً أو عتق رقبة أو صوم شهرين متتابعين، أو الجمع بينها (على تفصيل فقهي)؛ إذ يجب العمل بها تعبُّداً، ولا محيد عنها إلى غيرها. أو ربَّما ظنَّ بعض الفقهاء أنَّها من قبيل ما هو سائد في القوانين الجزائية في عصرنا؛ حيث يقولون أحياناً: إنَّ للقاضي الحقَّ في أن يحكم على المجرم بين ثلاثة أشهر وثلاث سنوات.

إنَّني أعتقد بأنَّ الشارع ليس في صدد االتعبُّد في مسألة مقدار الديَّة وقيمتها، كما أنَّه ليس في صدد التساهل كما هو دأب المشرِّع البشري؛ بل هو في صدد بيان كيفية الضمان في مسألة قتل إنسان، تماماً كما هي الحال في بعض الجراحات، إذ نرى الشارع لم يُعيِّن ديَّة معيَّنة، بل أوكل الأمر إلى الحكومة الإسلامية، فلها أن تُعيِّن المقدار في ضوء القيمة من جهة، وفي ضوء حجم الجِرَاح ونوع النقص الذي أصاب الإنسان من جهة أخرى.

٩٥

إذاً لا معنى، في ديَّة قتل الإنسان، أن يتعبَّدنا الشارع بأن يضعها مردَّدة بين (٦٠) ألف تومان و(٨) ملايين تومان. وإلاّ هل يعقل - بنظركم - أن نعرض قانون الإسلام على هذه الكيفية إلى العالم؟!

حين نعود إلى متقدِّمي الفقهاء، كما هو الحال في كتاب(كشف اللثام) ، نجد أنَّه يقيم كل حُلَّة من المائتين بخمسة دنانير، لكي تساوق مقولة (٢٠٠) حُلَّة يمانية، مقولةَ (١٠٠٠) دينار وتساويها؛ وبذلك فإنَّ المعيار لديه هو في الحقيقة مقولة (١٠٠٠) دينار، وقد قاسَ قيمة الحُلَل عليها.

الإمام عليعليه‌السلام سار على النهج نفسه؛ إذ أعلن أنَّ ثروة الناس كانت من المواشي على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أمَّا في عهده، فقد أضحت من الذهب والفضَّة، لذلك وجدنا أنَّ قيمة ديَّة القتل تختلف في بعض الأدوار التاريخية، وهي تتبدَّل بين عشرة آلاف واثني عشر ألفاً وسبعة آلاف، وذلك بخلاف الدينار الذي بقي ثابتاً على الدوام.

كما تختلف الديَّة في عدد الأغنام باختلاف القيمة، فهي تارة (١٠٠٠)، وأخرى (١٢٠٠). وإذا امتلكنا الرؤية نفسها التي كانت لصاحبكشف اللثام (الفاضل الهندي، ت ١١٣٧هـ)، نستطيع بسهولة أن نحلَّ التعارض بين هذه الروايات. ومفاد ذلك أنْ نجعل المعيار الأساس والأصلي هو (١٠٠٠) دينار، ثُمَّ نقيس القيم الأخرى عليه، فتصبح قيمة الديَّة في عصرنا ما يقارب ثمانية ملايين تومان، وحين نعود إلى ديَّة القتل في اليابان - وهذه إشارة مستطرَدة - نجد أنَّها تساوي (١٠) ملايين (ين)؛ أي ما يساوي تقريباً ثمانية ملايين تومان.

٩٦

* هل مارس الفقهاء المتأخِّرون عملية الاستنباط عن طريق المِلاكات؟

الشيخ معرفت: أجل، بل بادروا أحياناً إلى بيان أحكام عن طريق القياس أيضاً.

سأذكر في ما يأتي بعض الأمثلة على ذلك:

أ - إذا قصد الإنسان الإقامة في غير وطنه، ثُمَّ تراجع عن قصده بعد أداء صلاة رباعية، فإنَّ صلاته ستبقى تماماً ما دام موجوداً في ذلك المكان. أمَّا إذا رجع عن قصد الإقامة قبل أن يؤدِّي صلاة رباعية، فإنَّ صلاته ستكون قصراً. إنَّ لدينا نصَّاً حيال هذا المطلب.

لكن ما هو حكم الشخص المذكور إزاء الصوم، على ضوء الفرض الذي يفيد أنَّه لم يصلِ رباعية، فهل حكمه حكم المسافر؛ بحيث يستطيع أن يفطر (إذا ما كان قد غيَّر قصده قبل الزوال)، أو أنَّ عليه أن يواصل صومه حتّى الغروب؟ لقد أفتى الفقهاء بأنَّ على مثل هذا الإنسان أن يتابع صيامه إلى الغروب، مع أنَّه لا وجود لنصٍّ في هذه الحالة مطلقاً، ولا دليل عليها إلاّ تسرية حكم الصلاة وتطبيقه على الصوم، أليس هذا قياساً؟!

لقد مورس هنا، وعلى نحو لا شعوري، ضرب من القياس، والأكثر أنَّه استعمال للقياس في حقل العبادات، وإلاّ ما هي صلة الصَّوم بالصَّلاة؟! لقد أفتى صاحب العروة [محمد كاظم اليزدي، ١٢٤٧ - ١٣٣٧هـ] بذلك، وعلى هذا النحو وافقه جميع من كتب حواشي على كتاب العروة.

ب - إذا ما أفطر الصائم عمداً في شهر رمضان، فإنَّه يُعزَّر بخمسةٍ وعشرين سوطاً، وهذا حكم لا دليل عليه، إلاّ أنَّه استُمدَّ من حكم مسألة أخرى تفيد: أنَّ من جامع زوجته في نهار شهر رمضان يُعزَّر بخمسة وعشرين سوطاً، حيث هناك نص على هذه المسألة. هذه الحالة تُعبِّر هي الأخرى عن ضرب من القياس أو الاعتماد على المِلاك.

ج - ما يذكرونه في باب اللواط أنَّه يحتاج إلى أربعة شهود عدول لإثباته، وليس من دليل هنا غير القياس إلى الزنا الذي يحتاج إثباته إلى شهادة أربعة عدول.

إنَّ أمثال هذه الموارد كثير في الفقه، حيث يفيد ظاهرها القياس، في حين أنَّها في حقيقتها تعبير عن تسرية الحكم عن طريق كشف المِلاكات القطعية للحكم.

٩٧

* المقصود أنَّ المِلاك القطعي هو الذي يأخذ مكان النص؟

الشيخ معرفت: أجل، المقصود هو المِلاك القطعي الذي يمكن الإفتاء على أساسه أيضاً، بل أفتوا على أساسه عملياً، ولو بطريقة لا شعورية.

السيد الحائري: في ما يتعلَّق بكشف مِلاك الحكم، يمكن أن نتصوَّر ذلك على ثلاثة أنحاء، بالطريقة الآتية: أن يكون المِلاك مذكوراً في منطوق الرواية، وحينئذ يكون الدليل بنفسه شاملاً بدلالته اللفظية الموارد الأخرى التي لا نصَّ فيها، شريطة وجود المِلاك وتوافره في الموارد التي نعنيها. في مثل هذا المورد يكون الفقه إزاء هوَّة ومنحدر، بحيث يجب عليه أن يلتزم جانب الدقّة والحذر؛ لكي لا يقع ضحية القياس.

لتوضيح الأمر، نجد أنفسنا نلتقي في لسان الأدلّة، وفي النصوص، سواء أكانت آيات أم روايات، بنوعين من المِلاك، فيالحالة الأولى يتمُّ الكشف (في لسان الدليل) عن العلِّية، بحيث تكون العلَّة موضوعاً للحكم، وعندئذ يمكن تسرية الحكم إلى أيِّ مورد ينطوي على المِلاك نفسه. أمَّا فيالحالة الثانية ، فلا يمكن كشف العلِّية من المِلاك، بحيث لا نعدُّ المِلاك موضوعاً للحكم، إنَّما نتعامل مع المِلاك على أنَّه ضرب من ضروب الحكمة، وفي مثل هذه الحال لا يمكن أن نتعدَّى بالحكم إلى الموارد المشابهة.

لتوضيح الأمر بمثال للمورد الأوّل الذي تكون فيه العلّة موضوعاً، أو جزءاً من الموضوع، بحيث تُذكر مِلاكاً للحكم، يمكن أن نذكر جملة: (لا تشرب الخمر؛ لأنَّه مُسكِر)، فالإسكار جاء من قبل جملة (لأنَّه مُسكِر)، وهو متضمَّن في كلمة (الخمر). فإحدى صفات الخمر الإسكار، وهذه الصفة جاءت منفصلة عن موضوع الكلام الذي هو الخمر، وقد ذُكرت بوصفها علَّة في آخر الجملة.

حين يكون الأمر كذلك، يمكن التعدِّي بالحكم نفسه إلى الموارد المشابهة، بحيث يمتدُّ النهي في (لا تشرب)، إلى الأشياء المُسكِرة التي لا يصدق عليها عنوان الخمر.

٩٨

أمَّا بالنسبة للمورد الثاني الذي لا تكون فيه العلَّة أو المِلاك عنواناً للموضوع، أو جزءاً منه، بل تأتي لتكون فائدة مترتِّبة على الحكم، بحيث لا يمكن تسرية الحكم إلى الموارد المشابهة، فيمكن أن نأخذ المثال عليه من قوله تعالى:( مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ) لا يُشعر بعلِّية الحكم، وإنَّما مفاد الآية أنَّها تريد أن تذكر أثراً من الآثار، وهذا الأثر لم يضمَّن في الموضوع.

في مثل هذه الحالة، لا يمكن أن نستفيد العلِّية من( كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً ) ؛ لأنَّ علَّة الحكم لم تُبيَّن على نحو قطعي في هذا المقام، وإنَّما ذكرت فائدة من فوائده.

لذلك كلِّه ينبغي التزام جانب الدقَّة في التمييز جيِّداً بين ما يكون علَّة ويُشعر بها، وبين ما هو فائدة؛ لكي لا نسقط في مشكلة القياس.

* الفائدة التي ذكرتموها هي نفسها المصالح والمفاسد التي تقول الإمامية إنَّ الأحكام تابعة لها، وذلك تماماً كقولهم في التكوين: إنَّ لفاعلية الفاعل ارتباطاً بالغاية في مقام التصوُّر، بمعنى أنَّه ما لم تكن ثَمَّة غاية، فلا معنى لفاعلية الفاعل، وإنْ كان الفعل في الخارج ينتهي إليها بعدئذ، ولكن لماذا لا تكون الأحكام في هذا الموضوع تابعة للمصالح والمفاسد؟

السيد الحائري: تكمن النقطة التي تمنع من تسرية الحكم إلى مورد مشابه في الحالة الثانية، بما نحتمله من وجود مصلحة أخرى في العمل، لا وجود لها في المورد المشابه. صحيح أنَّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، بَيْدَ أنَّ هذه المصلحة، أو المفسدة، اصطدمت بمانع في الموضوع مورد البحث. مثلاً يلحظ في هذا المثال، أنَّ الشارع في مسألة الإرث يريد أن يُؤنس الوارث ويواسيه، على هذا الأساس، اصطدمت فائدة:( كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً ) بمانع، ومن ثُمَّ حال ذلك المانع من تأثير المصلحة في إيجاد الحكم، وأفضى إلى توقُّفه. وذلك بخلاف آية الغنيمة، حيث لم تصطدم المصلحة فيها بمانع؛ لأنَّه لا وجود لمصلحة شبيهة بمواساة شخص معيَّن أو مداراته، وبذلك سيكون لمصلحة:( دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ ) تأثيرها الكامل والتام.

٩٩

هذه الحالة تختلف عن حالة: (لا تشرب الخمر، لأنَّه مُسكِر)، حيث انتُزعت صفة من الخمر الذي هو موضوع الحكم، ثُمَّ ذكرت بعنوان أنَّها علَّة.

إنَّ العُرف يستظهر من (لأنَّه) أنَّ المُسكِريَّة هي موضوع الحكم، وعندئذ نحن نقول باطمئنان: إنَّ الخمر الذي يؤخذ من التمر هو أيضاً حرام؛ كذلك لأنَّه مُسكِر، وذلك على الرغم من أنَّ الخمر في اللغة هو عصير العنب. لا نحتمل هنا بأنَّ مُسكِريَّة الخمر ربَّما اصطدمت بمانع، بحيث لا يمكن تعدية (لا تشرب) إليه. وبعبارة أخرى: إنَّ حرمة الإسكار ستكون شاملة لكلِّ مائع مُسكِر، ولا خصوصية لعصارة التمر في الحرمة.

* مع أنَّ البيانين مُشعران بالعلِّية، فكيف يمكن تشخيص أنَّ الأوَّل جزء الموضوع (لأنَّه مُسكر)، في حين أنَّ الثاني( كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً ) هو فائدة الموضوع؟

السيد الحائري: إنَّ المُسكِريَّة داخلة في هوية الخمر الذي هو موضوع الحكم وحققته، في حين ليست (دُولة) صفة للمال . إذا ما قيل: (يجب تقسيم هذا المال لأنَّه ذهب وفضّة)، فلأنَّ الذهب والفضّة هما جزء حقيقة المال، فهنا يمكن تسرية الحكم إلى كلّ ذهب وفضّة.

كذلك إذا ما قيل: (يجب تقسيم هذا المال؛ لأنّه عام)، فنستطيع أن نُعدِّي ذلك إلى أيِّ مالٍ عام، لأنَّ العلّة حقيقة الموضوع.

* نرجو أن تبيِّنوا موارد أخرى من أنواع التعليل؟

السيد الحائري: المورد الآخر الذي يمكن سوقه كمِلاك، يتمثَّل في الرجوع إلى فهم العُرف . معنى ذلك أنَّه، ومع عدم وجود (لأنَّه) في النص، إلاّ أنَّ العُرف يعتبر أنَّ هذا هو مقياس الحكم، وإنْ لم يُذكر في الكلام المنطوق. على سبيل المثال، لو أنَّ سائلاً سأل الإمام: هل يمكن استخدام الماء الموجود في الكوز (إناء خزفي) للوضوء؟ فإنَّ الإمام يجيب: أجل. ففي هذا المثال لم تُذكر العلَّة، بَيْدَ أنَّ العُرف يُلغي - من خلال فهمه - قيد (الكوز)، ويُعدِّي الحكم إلى المياه الموجودة في الأواني الأخرى.

١٠٠