التعرف على القرآن

التعرف على القرآن40%

التعرف على القرآن مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 93

التعرف على القرآن
  • البداية
  • السابق
  • 93 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 31815 / تحميل: 8551
الحجم الحجم الحجم
التعرف على القرآن

التعرف على القرآن

مؤلف:
العربية

التعرف على القرآن

الشهيد مرتضى المطهري

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

الفصل الأوّل

* ضرورة معرفة القرآن.

* أقسام معرفة القرآن.

أوّلاً : المعرفة الإسناديّة أو الانتسابيّة.

ثانياً : المعرفة التحليليّة.

ثالثاً : المعرفة الجذريّة.

* أصالة ثلاثيّات المعرفة في القرآن.

* شروط التعرّف على القرآن.

* هل يمكن معرفة القرآن ؟

٣

ضرورة معرفة القرآن

معرفة القرآن لكلّ شخص بعنوان أنّه إنسان عالم ، ولكلّ مؤمن على أساس أنّه فرد مؤمن ، أمر واجب وضروري.

أمّا بالنسبة للعالم الخبير بشؤون الناس والمجتمع ، فمعرفة القرآن ضروريّة ؛ لأنّ هذا الكتاب عامل مؤثّر في تكوين مصير المجتمعات الإسلاميّة ، بل وفي تكوين المجتمعات البشريّة.

نظرة إلى التاريخ توضّح لنا هذه النقطة ، وهي أنّه لا يوجد كتاب في التأريخ أثر كالقرآن في حياة الإنسان ، وفي تكوين المجتمعات البشريّة وأمّا :

- في أيّ اتجاه كان هذا التأثير ؟

- وهل حوّل مسيرة التأريخ إلى جهة السعادة ورفاهيّة البشريّة ، أمْ إلى جهة الانحطاط والنقص؟

- وهل كان بسبب تأثير هذا القرآن ، أن وجدت حركة وثورة في التأريخ ، وجرى دم جديد في عروق المجتمعات البشريّة ، أَمْ بالعكس ؟

إنّه موضوع خارج عن نطاق بحثنا هذا.

٤

ولهذا الغرض ، فإنّ القرآن يدخل ضمن مبحث علم الاجتماع ، وضمن المواضيع التي يهتمّ بها هذا العلم.

ومعنى كلامنا: أنّ البحث والتحقيق حول تأريخ العالم خلال ( ١٤ قرناً ) بصورة عامّة ، ومعرفة المجتمعات الإسلاميّة بصورة خاصّة ، بدون معرفة القرآن ، أمر محال.

وأمّا ضرورة معرفة القرآن لكلّ مسلم مؤمن؛ فإنّها تأتي لكون القرآن المنبع الأصلي والأساسي للدين والإيمان وتفكّر كل مسلم ‎ ، ولأنّه ( القرآن ) يَهَبُ الحياة حرارةً وروحاً وحرمةً ومعنىً.

القرآن مثل بعض الكتب الدينيّة التي تعرض مجموعة من المسائل الغامضة حول الله والخِلْقة والكون ، أو تعرض - على الأكثر - مجموعة من النصائح الخُلُقيّة العاديّة ولا غير؛ حتّى يضطرّ المؤمنون إلى أخذ أفكارهم ومعتقداتهم ومفاهيم حياتهم من منابع أخرى.

٥

القرآن عَرَضَ ووضّح أصول العقائد والأفكار التي يحتاج إليها الإنسان ، على أساس أنّه موجود مؤمن وصاحب عقيدة.

وهكذا بيّن القرآن الأصول التربويّة والخلقيّة والأنظمة الاجتماعيّة والروابط الأُسَرِيَّة ، إلاّ أنّه يبقى التفصيل والتفسير ، وأحيانا الاجتهاد ، وتطبيق الأصول على الفروع ، فذلك موكول إلى السُنّة أو الاجتهاد ( استنباط الأحكام ).

ولذا تتوقّف الاستفادة من أيّ منبع آخر على معرفة القرآن مقدّماً.القرآن مقياس ومعيار للمنابع الأخرى ، وعلينا أنْ نطبّق الحديث والسُنّة مع المعايير القرآنيّة ، فلو تطابقتْ معها قبلناها ، ولو لم تطابقها رفضناها.

وأمّا أكثر المنابع اعتباراً وتقديساً عندنا بعد القرآن ، هي:

- الكتب الأربعة في الحديث : ( الكافي ، مَن لا يحضره الفقيه ، التهذيب ، والاستبصار ).

- وفي الخطب : نهج البلاغة.

- وفي الأدعية : الصحيفة السجّاديّة.

وكلّ هذه المنابع متفرّعة من القرآن ، ولا نقطع بها كما نقطع

٦

بالقرآن ، أي إنّ حديث الكافي : نستطيع أنْ نأخذ به ونستدلّ عليه عندما نطبّقه مع القرآن ، ولا بدّ أنْ يتطابق معه ومع تعاليمه ولا يختلف معه شيئاً.

كان الرسول الأعظم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام يقولون - بما معناه - :

اعرضوا أحاديثنا على القرآن ، فإنْ لم تنطبق معه فأعلموا أنّها مزوّرة مجعولة ، نحن لا نقول خلافاً للقرآن.

أقسام معرفة القرآن

الآن ، و بعد أنْ علمنا ضرورة معرفة القرآن ، لا بدّ أنْ نرى ما هي طريقة معرفة هذا الكتاب؟

لمطالعة وفَهْم أي كتاب بصورة عامّة ، هناك ثلاثة أقسام للمعرفة لا بدّ منها :

أوّلاً: المعرفة الإسناديّة أو الانتسابيّة:

في هذه المرحلة نريد أنْ نعرف مدى ضرورة انتساب الكتاب إلى كاتبه ، لنفرض مثلاً : أنّنا نريد أنْ نعرف ديوان ( حافظ ) أو ( خيّام ) ، في المقدّمة لا بدّ

٧

من معرفة أنّ ما اشتهر من ديوان حافظ له كلّه ، أَمْ أنّ بعض الكتاب له والباقي يُنسَب إليه ، وهكذا بالنسبة إلى خيّام أو غيرهما.هنا لا بدّ من الاستعانة بنسخ الكتاب أقدمها وأكثرها اعتبارا.ونلاحظ أنّ جميع الكتب لا تستغني عن هذا النوع من المعرفة. ديوان( حافظ ) الذي طبعه المرحوم القزويني واستفاد فيه من أكثر النسخ اعتباراً ، يختلف اختلافاً كبيراً مع النسخة الموجودة في كثير من البيوت والمطبوعة في( بمبئي ) .

وعندما تُلقي نظرة إلى( رباعيّات الخيام ) ، ربّما ترى( ٢٠٠ رباعيّة ) في منزلة واحدة ومستوى واحد تقريباً ، وإذا كان فيها أي اختلاف فإنّه كاختلاف أشعار كل شاعر.مع العلم بأنّنا لو رجعنا تاريخيّاً إلى الوراء واقتربنا من عصر الخيّام ، لرأينا أنّ المنسوب إليه - قطعاً - يقلّ عن(٢٠ رباعيّة ) ، والباقي يُشكّ في صحّة انتسابه إليه ، أو أنّه من نَظْم شعراء آخرين دون ترديد.

وعلى هذا فإنّ أولى مراحل معرفة الكتاب هي أنْ نرى مدى اعتبار إسناد الكتاب الذي بين يدينا إلى مؤلّفة.

وهل يصحّ إسناد كل الكتاب أو بعضه إليه ؟ وفي هذه

٨

الحالة كم في المئة من الكتاب نستطيع تأييد إسناده إلى المؤلّف ؟ وعلاوة على ذلك ، بأيّ دليل نستطيع أنْ ننفي بعضاً ونُؤيّد بعضاً ونشكّ في البعض الآخر ؟

القرآن مستغنٍ عن هذا النوع من المعرفة ، ولهذا فإنّه يعتبر الكتاب الوحيد( الذي يصح إسناده ) منذ القدم ، ولا يمكننا الحصول على أيّ كتاب قديم قد مضى عليه قروناً من الزمان وبقي إلى هذا الحدّ صحيحاً معتبراً دون شبهة.وأمّا الموضوعات التي تطرح أحياناً ، ومن قبيل المناقشة في بعض السور أو بعض الآيات ، فإنّها موضوعات خاطئة ولا داعي لعرضها في الدراسات القرآنيّة ، القرآن تقدّم على عل-م معرفة النسخ ، ولا يوجد أدنى ترديد في أنّ الذي جاء بهذه الآيات من الله عزّ وجل هو محمّد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

جاء بها عنواناً للإعجاز ؛ لأنّها كلام الله ، ولا يقدر أحد أنْ يدّعي أو يحتمل وجود نسخة أخرى غير هذا القرآن ، ولا يوجد في العالم مستشرق واحد ، يبدأ - في بحثه عن القرآن - بالتحقيق حول نسخ القرآن القديمة ، ( فلا توجد هناك نسخ متعدّدة من القرآن ) ، وبالرغم من

٩

أنّ هذه الحاجة - حاجة ملاحظة النسخ القديمة - موجودة لدى التحقيق في: التوراة ، والإنجيل ، والشاهنامه ( للفردوسي ) ، وديوان سعدي ، وأي كتاب آخر ، فإنّ القرآن لا يُقال بحقّه مثل ذلك.

والسرّ في هذا الأمر - كما تقدّم - هو تقدّم القرآن على علم معرفة النسخ.والقرآن علاوة على أنّه كتاب سماوي مقدّس وأتباعه ينظرون إليه بهذه العين ، فإنّه أصدق دليل على صدق ادّعاء الرسول ، ويعتبر أكبر معجزاته.

وإضافة إلى ذلك ، فإنّ القرآن ليس مثل التوراة التي نزلتْ مرّة واحدة ، حتّى يصح هذا الإشكال : ما هي النسخة الأصليّة ؟ بل وإنّ آيات القرآن نزلتْ بالتدرّج وطوال ثلاث وعشرين سنة.

ومن اليوم الأوّل لنزول القرآن ، تنافس المسلمون على تعلّمه وحفظه وفَهْمه ، كما يتهالك الظمآن على شرب الماء ، وخصوصاً فإنّ المجتمع الإسلامي وقتئذٍ كان مجتمعاً بسيطاً ، ولم يكن هناك كتاب لا بدّ للمسلمين من

١٠

حِفْظه وفَهْمه إلى جنْب القرآن.

خلوّ الذهن ، فراغ الفكر ، قوّة الذاكرة وعدم الإلمام بالقراءة والكتابة ، كلّها كانت الدافع إلى أنْ تُرَكّز المعلومات السمعيّة والبصريّة - لدى الإنسان المسلم - وفي ذاكرته - تركيزاً قويّاً ، ولأجل ذلك ، فإنّ موافقة بيان القرآن مع عواطفهم وأحاسيسهم أدّى إلى تركيزه في قلوبهم كما يرتكّز الرسم المحفور في الصخر.

كانوا يقدّسونه باعتباره كلام الله لا كلام البشر ، ولا يسمحون لأنفسهم أنْ يغيّروا كلمة واحدة ، بل حرفاً واحدا فيه ، أو أنْ يقدّموا أو يؤخّروا حرفاً ، وكان كل هَمّهم أنْ يقتربوا من الله بتلاوة هذه الآيات ( تلاوة صحيحة ).

علاوة على كلّ هذا ، فإنّ ذكر هذه النقطة ضروريّة ، وهي أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ الأيّام الأولى ، انتخب عدداً من خواصّ الكتاب ، ويُعْرَفون باسم( كُتّاب الوحي ) ، وتُحسب هذه ميزة للقرآن ، إذ إنّ الكتب القديمة لم تكن كذلك ، كتابة كلام الله منذ البداية تعتبر عاملاً قطعيّاً لحفظ القرآن وصَونه من التحريف.

١١

وهناك سبب آخر لحسن تقبّل القرآن لدى الناس ، وهو الناحية الأدبيّة والفنِّيّة للقرآن ، والتي يُعبَّر عنها بالفصاحة والبلاغة ، الجاذبيّة الأدبيّة الشديدة للقرآن ، كانت تدعو الناس بالتوجّه إليه ، والاستفادة منه بسرعة ، وذلك خلافاً للكتب الأدبيّة الأخرى ، التي يتصرّف فيها روّاد الأدب كيفما يشاؤون ، ليكملوها حسب تصوّرهم.

وأمّا القرّاء، فلا يُجيز أحد لنفسه التصرّف فيه ؛ لأنّ هذه الآية :

( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) ( سورة الحاقّة ، الآية : ٤٤ - ٤٦ ) ، وآيات أُخرى توضّح مدى عقوبة الكذب على الله ، وعندما تتمركز هذه الآيات في مخيّلته ينصرف عن هذا الأمر.

وبهذا الترتيب ، قبل أنْ يرى التحريف له طريقاً إلى هذا الكتاب السماوي ، تواترتْ آياته ووصلتْ إلى مرحلة لا يمكن إنكار أو تحريف حرف واحد منه ؛ ولذا ، لا يلزمنا البحث في هذه الناحية من القرآن ، كما أنّ كلّ عارف للقرآن في العالَم لا يرى لنفسه ضرورة البحث في هذا المجال.

١٢

هنا لا بدّ أنْ نتذكّر نقطة واحدة ، وهي أنّه بسبب سعة نطاق الحكومة الإسلاميّة ، واهتمام الناس الشديد بالقرآن ، وبواسطة بُعْد عامّة المسلمين عن المدينة المنوّرة التي كانت مركز الصحابة وحفّاظ القرآن ، فإنّ احتمال خطر بروز تغييرات مُتعمَّدة أو غير مقصودة في نسخ القرآن كان أمراً وارداً ، خاصّة بالنسبة إلى المناطق النائية على الأقل.

إلاّ أنّ فطانة ودقّة مراقبة المسلمين مَنَعَتَا حدوث هذا الأمر.فالمسلمون منذ أواسط القرن الأوّل للهجرة احتملوا هذا الخطر ؛ ولذلك استفادوا من وجود الصحابة وحفّاظ القرآن ، ولتجنّب أيّ خطأ أو اشتباه - عمداً كان أو سهواً في المناطق البعيدة - فإنّهم استنسخوا نُسَخَاً مصدّقة - من قِبل الصحابة الكبار وحفّاظ القرآن - من القرآن ، ووُزِّعتْ هذه النسخ من المدينة إلى الأطراف ، ولذلك قطعوا الطريق إلى الأبد من ظهور مثل هذه الاشتباهات أو الانحرافات ، وخصوصاً من قِبل اليهود الذين يُعتبرون أبطالاً في فنّ التحريف.

١٣

ثانياً : المعرفة التحليليّة:

* هذه المرحلة تعني بتحقيق تحليلي حول الكتاب ، أي :

- توضيح أنّ هذا الكتاب يشتمل على أيّة مواضيع ؟

- وما هو الهدف الذي وضع له ؟

- ما رأيه حول الإنسان ؟

- ما هي نظرته إلى المجتمع ؟

- وكيفيّة عرضه للمواضيع وطريقة مقابلته للمسائل المختلفة ؟

- هل له نظرة فلسفيّة ، أو - باصطلاح اليوم - علميّة ؟

- هل ينظر إلى القضايا من زاوية عين رجل عارف ، أَمْ إنّ له أسلوباً خاصّاًَ به ؟

- وسؤال آخر أيضاً في هذا المجال : هل لهذا الكتاب رسالة ونداء إلى الإنسانيّة ؟

- وإذا كان الجواب بالإيجاب فما هي هذه الرسالة ؟

* إنّ المجموعة الأولى لهذه الأسئلة ترتبط - في الحقيقة - بنظرة الكتاب إلى العالَم والإنسان والحياة والموت و....، أو بعبارة أكمل ، ترتبط بمعرفة الكتاب ، وفي اصطلاح فلاسفتنا ترتبط بفلسفة الكتاب النظريّة.

* وأمّا المجموعة الثانية من الأسئلة فتختصّ بأطروحة الكتاب بالنسبة لمستقبل الإنسان ، كيف يريد أنْ يبني

١٤

المجتمع البشري ، ومَن هو الإنسان النموذجي في نظره ؟

وعلى أيّ حال ، فإنّ هذا النوع من المعرفة يرتبط بمحتوى الكتاب ، ونستطيع أنْ نبحث من هذه الزاوية أيّ كتاب ، إنْ كان كتاب ( الشفاء ) لابن سينا أو ديوان ( سعدي ).من الممكن أنْ نرى كتاباً ليس له نظرة ولا رسالة ، أو أنّ له نظرة بدون رسالة ، أو أنّه يحتوي على الاثنتين.

* وبالنسبة للمعرفة التحليليّة للقرآن ، لا بدّ أنْ نرى :

- ما هي المواضيع التي يشتمل عليها القرآن ؟

- وكيف يعرض القرآن هذه المسائل ؟

- وما هي استدلالات واحتجاجات القرآن في المستويات المختلفة ؟

- بما أنّ القرآن حافظ وحارس للإيمان ورسالته إيمانية ، فهل ينظر إلى العقل نظرة ترقّب وترصّد ، ويسعى ليصدّ هجوم العقل ويكبّل يديه ورجلَيه ، أَمْ بالعكس ‎ ، ينظر إليه دائماً نظرة مساندة وحماية ( ويستعين به ) ويستنجد مِن قوّته ؟

هذه الأسئلة ومئات الأسئلة المشابهة التي تطرح ضمن المعرفة التحليليّة ، توضّح لنا وتعرّفنا ماهيّة القرآن.

١٥

ثالثاً : المعرفة الجذريّة :

في هذه المرحلة ، وبعد معرفة صحّة استناد وانتساب الكتاب إلى مؤلّفه ، وبعد تحليل وتحقيق محتويات الكتاب بدقّة ، يجب أنْ نحقّق فيما إذا كانت مواضيع ومحتويات الكتاب نابعة من أفكار الكاتب ، أَمْ إنّ المؤلّف استدان واقتبس من أفكار الآخرين.

مثلاً ، بالنسبة لديوان حافظ :

بعد أنْ اجتزنا مرحلتَي المعرفة الإسناديّة والمعرفة التحليليّة ، يجب أنْ نعرف هذا الأمر : هل هذه الأفكار والمواضيع التي أوردها في الكلمات والجمل والأبيات وأخرجها بأسلوبه الخاص ، هل هي من إبداعاته ، أَمْ إنّ صياغة الكلمات بهذا الفن والجمال من الشاعر ، وأنّ الأفكار من آخر أو من آخرين.وبعبارة أخرى بما أنّ العلم بالأصالة الفنِّيّة لدى حافظ يجب أنْ نتيقّن بالأصالة الفكريّة له أيضاً.

هذا النوع من المعرفة بالنسبة لحافظ أو أيّ مؤلّف آخر ، معرفة تنبع من جذور أفكار المؤلّف ، وهذا المعرفة فرع للمعرفة التحليليّة.أي إنّ يجب معرفة محتوى أفكار

١٦

المؤلّف بدقّة أوّلاً ، ثمّ نبدأ بالمعرفة الجذريّة.وخلافات لهذا الأمر ، فإنّ النتيجة تشبه مؤلّفات بعض كُتّاب تأريخ العلوم الذين لم يفقهوا شيئاً من العلوم ، غير أنّهم يكتبون في تأريخ العلوم.أو نستطيع أنْ نُمثّل أيضاً بأولئك الذين يكتبون الكتب الفلسفيّة ويريدون أنْ يبحثوا - مثلاً - حول ابن سينا وأرسطو ، ووجوه التشابه والاختلاف بينهما ، ولكنّهم لم يعرفوا مع الأسف ابن سينا ولا أرسطو.

هؤلاء مع مقايسة بسيطة ، وفور تعلُّمهم بعض المشابهات اللفظيّة يجلسون على منصّة القضاء ، مع أنّ في المقايسة يجب أنْ يدرك عمق الأفكار ، ولمعرفة عمق أفكار كبار المفكّرين - أمثال ابن سينا وأرسطو - يلزمنا عمراً كاملاً من الزمان ، وإلاّ فما نحصل عليه ليس سوى كلمات تخمينيّة أو تقليديّة.

في التحقيق حول القرآن ومعرفته ، بعد إجراء المطالعة التحليلية حول القرآن ، يأتي دور المقايسة والمعرفة التأريخيّة ، أي إنّنا يجب أنْ نقارن القرآن وما يحتويه بالكتب الأخرى الموجودة في ذلك العصر ، وخصوصاً الكتب الدينيّة ، ويلزمنا في هذه المقارنة

١٧

ملاحظة جميع الشروط والإمكانات ( الخاصّة بذلك العصر ).

مثل :

- مدى علاقة شبة الجزيرة العربيّة بسائر البلدان.

- وعدد المتعلّمين الذين كانوا يعيشون في مكّة وقتئذٍ و.....

- ثمّ نستنتج أنّ ما في القرآن هل يوجد في الكتب الأخرى أَمْ لا ؟ وإنْ كان يوجد فبأيّة نسبة؟

- وتلك المواضيع التي تشبه بقيّة الكتب هل هي مستقلّة أَمْ مقتبسة ؟

- وما هو دور هذه المواضيع في تصحيح أخطاء تلك الكتب وتوضيح انحرافاتها ؟

أصالة ثلاثيّات المعرفة في القرآن

بمطالعة القرآن نعرف أصالة المعرفة بأقسامها الثلاثة في القرآن :

* الأصالة الأولى هي أصالة الانتساب :

أي إنّه بدون أيّ شكٍّ وبدون الحاجة إلى البحث والتفتيش حول النسخ القديمة ، فإنّنا نعرف بوضوح : أنّ ما يُتْلَى هذا اليوم باسم القرآن الكريم ، فهو نفس الكتاب الذي أتى به محمّد بن

١٨

عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عند الله ، وعرضه على العالَم.

* الأصالة الثانية ، أصالة المواضيع :

أي إنّ معلومات ومعارف القرآن إبداعيّة مبتكَرة ، وليست الْتقاطيّة ولا مقتبسة.والتحقيق حول هذا الأمر من واجبات المعرفة التحليليّة.

* الأصالة الثالثة هي أصالة القرآن الإلهيّة :

أي إنّ هذه المعلومات أُلقيتْ على الرسول الأعظم من أُفُق أعلى ، من أُفُق أفكار الرسول ، وإنّما كان الرسول مُتلقِّياً من الوحي وحاملاً لهذه الرسالة.وهذه النتيجة نحصل عليها من المعرفة الجذريّة للقرآن.

وهذه المعرفة الجذريّة ، وبعبارة أخرى تعيين أصالة العلوم القرآنيّة مبتنية على المعرفة من القسم الثاني.ولذلك ، فإنّنا نبدأ البحث من المعرفة التحليلية ، أي نحقق في هذا الأمر :

- ما هي محتويات القرآن ؟

- وما هي المواضيع المعروضة في القرآن ؟

- وفي أي المواضيع أظهر القرآن اهتمامنا أكثر ؟

- وكيف عرضتْ تلك المواضيع ؟

١٩

إذا استطعنا - في المعرفة التحليلية - أنْ نؤدّي حقّ الموضوع ، وإذا فهمناه فهماً جيّداً ، وعرفنا معارف القرآن معرفة كافية ، عندئذٍ - وكما قلنا - نصل إلى هذه الأصالة التي هي أساس أصالات القرآن ، وهي الأصالة الإلهيّة ، أي كون القرآن معجزة.

شروط التعرّف على القرآن

تحتاج معرفة القرآن إلى مقدّمات وشروط نذكرها بإيجاز :

* أحد الشروط الضروريّة لمعرفة القرآن : معرفة اللغة العربيّة :

وكما لا يمكن معرفة ( أشعار ) حافظ وسعدي ، دون الإلمام بالفارسيّة ، فإنّ معرفة القرآن المكتوب باللغة العربيّة دون معرفة اللغة العربيّة أمر محال.

* الشرط الآخر : هو الإلمام بتاريخ الإسلام :

لأنّ القرآن ليس مثل التوراة أو الإنجيل ، إذْ عُرض كلٌّ منهما ( وبلغ إلى الناس ) مرّة واحدة من قِبل الرسول ( موسى وعيسى )، بل إنّ هذا الكتاب نزل طوال ( ٢٣ سنة ) من حياة الرسول الأعظم ، من البعثة حتّى الوفاة ، وخلال

٢٠

الأوضاع المختلفة لتأريخ الإسلام المملوءة حركةً وثورةً ؛ ولهذا نلاحظ هناك أسباب لنزول آيات القرآن ، وسبب النزول لا يحدّد معنى الآية ، بل - وبالعكس - فإنّ معرفة سبب النزول يُرْشِد ويؤثّر كثيراً في توضيح مضمون الآيات.

* الشرط الثالث :

هو الإلمام بكلمات وأقوال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالرسول بنص القرآن ، أوّل مفسّر لهذا الكتاب ، حيث جاء في القرآن :

( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) ( سورة النحل : آية :٤٤ ).

( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) ( سورة الجمعة : آية : ٢ ).

الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - مِن نظر القرآن - بنفسه مبيّن ومفسّر لهذا الكتاب ، وما جاءنا من الرسول يعيننا على تفسير القرآن.

٢١

أمّا بالنسبة إلينا - نحن الشيعة - الذي نعتقد بالرسول والأئمّة الأطهارعليه‌السلام ، ونعتقد أنّ ما كان للرسول من قبل الله فقد نقله إلى أوصيائه المكرمين، فإنّ الأحاديث المعتبرة التي وصلتْنا من الأئمّة ، لها نفس اعتبار الأحاديث المعتبرة ، الواصلة من رسول الله ، فإنّ الروايات الموثّقة من الأئمّة ، تساعدنا كثيراً في معرفة القرآن.

هناك نقطة لا بدّ أنْ نهتمّ بها في التحقيق حول القرآن ، وهي أنْ نتعرّف على القرآن بالاستعانة بالقرآن نفسه ، وهي أنْ نتعرّف القرآن بالاستعانة بالقرآن نفسه.والغرض من ذلك أنّ مجموعة آيات القرآن تكوّن مع بعضها بناءً متراصّاً، أي إنّنا إذا أخذنا آية واحدة من آيات القرآن، وقلنا إنّنا نريد فهْم هذه الآية فقط ، يعتبر هذا أسلوب خاطئ ، وبالطبع يُحتمل أنْ يكون فهمنا لتلك الآية فهْماً صحيحاً، ولكنّ هذا عمل مخالف للاحتياط ، فآيات القرآن تفسّر بعضها بعضاً، وكما قال بعض المفسّرين الكبار ، فإنّ الأئمّة الأطهار أيّدوا هذا الأسلوب من التفسير.

القرآن له أسلوب خاص بنفسه في توضيح وبيان المسائل ، ففي موارد كثيرة إذا أخذتَ آيةً واحدة من

٢٢

القرآن، دون عرضها على الآيات المشابهة ، فإنّها تأخذ مفهوماً يختلف كلِّيَّاً عن مفهوم نفس الآية، إذا وضعت بجانب الآيات التي تشابهها في المضمون.

لعرض نموذج من هذا الأسلوب الخاص للقرآن ، نستطيع ذكر الآيات المحكمة والآيات المتشابهة.

هناك تصوّر ساذج بالنسبة للمحكمات والمتشابهات ، فيعتقد البعض بأنّ الآيات المحكمة : هي التي عرضت فيها المواضيع بصورة عاديّة وصريحة ، والآيات المتشابهة بعكس ذلك ، فإنّ الموضوعات فيها على صورة ألغاز ورموز.

وبمقتضى هذا التعريف يحق للناس أنْ يتدبّروا في الآيات المحكمة والصريحة فقط ، وأمّا الآيات المتشابهة فلا يمكن معرفتها، ويُمنع التفكّر فيها.

وهنا بالطبع يطرح هذا السؤال نفسه : ما هي إذن فلسفة الآيات المتشابهة ؟ لماذا يعرض القرآن آيات غير قابلة للمعرفة ؟ الجواب بالإيجاز هو أنّ الآيات المحكمة ليس معناها الآيات الصريحة والواضحة ، وليست الألغاز

٢٣

والرموز معاني للمتشابهات.

اللغز لفظ مبهم ، لا يُفهم معناه مباشرة ، والآن لننظر هل توجد في القرآن آيات مبهمة ؟

هذا القول ينافي نصّ القرآن الذي يقول بأنّ القرآن كتاب مبين في آياته ، وأنّ آياته واضحة مفهومة ، وجاءت لتكون نوراً وهدى للناس.

إلاّ أنّ سرّ الموضوع يكمن في بعض المواضيع المعروضة في القرآن ، خاصة عندما يأتي الكلام عن ما وراء الطبيعة والأمور الغيبيّة فإنّها غير قابلة للبيان والتوضيح أساساً مع الألفاظ.

ولكن بما أنّ لغة القرآن هي اللغة المتداولة بين البشر ، فإنّ هذه المواضيع المعنويّة اللطيفة وردت بنفس العبارات والألفاظ التي يستخدمها البشر في الموضوعات المادِّيَّة.ولكن لتجنّب سوء الفهم فإنّ المسائل الواردة في بعض الآيات لا بدّ أنْ تسرِ بمعونة الآيات الأخرى ، ولا يوجد سبيل آخر غير هذا السبيل.

فمثلاً يريد القرآن أنْ يذكر حقيقة ادّعاء رؤية الله بالقلب ( أي الإنسان يستطيع أنْ يرى الله بقلبه ) ، ورد

٢٤

هذا المعنى في قالب العبارات :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) ( سورة القيامة : آية : ٢٢ - ٢٣ ).

استخدم القرآن لفظة ( النظر ) ؛ لأنّه لا توجد كلمة أنسب من هذه الكلمة لأداء الغرض والمقصود ، ولتجنّب الاشتباه يوضّح في مك-ان آخر :( لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ( سورة الأنعام آية : ١٠٣ ).

يلاحظ القارئ أنّه بالرغم من التشابه اللفظي ، لا يوجد تشابه بين هذه الأمور ، ويختلف كلٌّ عن الآخر اختلافاً كاملاً.والقرآن - لتجنّب الخطأ بين المعاني العالية والمعاني المادِّيَّة - يأمرنا بإرجاع المتشابهات إلى المحكمات.

( ... أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ... ) ( سورة آل عمران : آية : ٧ ).

بعض الآيات محكمة ، أي إنّ لها ذلك

٢٥

الاستحكام الذي لا يمكن فصلها عن معانيها ، واتخاذ معانٍ أخرى لها.هذه الآيات هي أمّ الكتاب ، أي إنّها الآيات الأم.

فكما أنّ الطفل يرجع إلى أمّه ، وأمّه تكون مرجعاً له ، وأنّ المدن الكبيرة ( أُمّ القرى ) تكون مرجعاً للمدن الأصغر ، فالآيات المحكمة أيضاً تحسب مرجعاً للآيات المتشابهة.

الآيات المتشابهة للتدبّر والتفكّر ، ولكن لا بدّ من الاستعانة بالآيات المحكمة لكي نتدبّر فيها.وبدون الاستعانة بالآيات الأم ، فإنّ ما يُستنتج من الآيات المتشابهة غير صحيح وليس له اعتباره.

هل يمكن معرفة القرآن

إنّ أوّل سؤال يطرح نفسه لدى التحقيق في موضوعات القرآن هو :

- هل يمكن - أصلاً - معرفة القرآن ؟

- وهل هناك إمكانيّة التحقيق في القرآن ؟

- وهل يمكن التفكّر والتدبّر في مواضيع ومسائل القرآن ؟ أَمْ أَنّ هذا الكتاب لم

٢٦

يُعرض أساساً للمعرفة ؟ بل فقط للتلاوة ، والقراءة ، والتبرّك ، والتيمّن ، وأخذ الثواب ؟

يمكن أنْ يخطر على البال أنّ هذا السؤال ليس له وجه ؛ لأنّه لا يشكّ أحد أنّ القرآن كتاب للمعرفة ، ولكن لظهور قضايا خاطئة في مسألة معرفة القرآن بعلل مختلفة في العالم الإسلامي ، وكان لها تأثير فعّال في انحطاط وتدهور المسلمين ولا زالت - مع الأسف - جذور تلك الأفكار المنحطّة الخطرة موجودة في مجتمعاتنا ، لذلك يلزمنا أنْ نوضّح قليلاً هذا الموضوع :

ظهر بين علماء الشيعة قبل ثلاثة أو أربعة قرون أشخاص يعتقدون بعدم حجِّيَّة القرآن ، ولم يعترفوا في ثلاثة من المصادر الأربعة للفقه ، والتي ارتضى بها علماء المسلمين ، بمثابة معايير لمعرفة المسائل الإسلاميّة ، وهي القرآن والسنّة والعقل والإجماع.

كانوا يدعون : إنّ الإجماع من بنات علماء المذاهب الأخرى ولا يمكن اتّباعه ، والعقل لا يجوز الاعتماد عليه لكثرة أخطائه ، وأمّا بالنسبة للقرآن فكانوا

٢٧

يعتقدون بأنّه أكبر من أنّ نستطيع نحن البشر أنْ نطالعه ونتأمّل فيه ولا يحقّ إلاّ للنبي والأئمّة من التعمّق في آيات القرآن ونحن لا يحقّ لنا غير تلاوة الآيات ، وهؤلاء هم الإخباريّون.

الأخباريّون لا يجوّزون إلاّ مراجعة الأخبار والأحاديث. ربّما تعجّبْتم إذا علمتم أنّ بعض التفاسير التي كُتبت من قِبل هؤلاء ، إذا رأوا حديثاً في ذيل آية ذكروها ، وإنْ لم يجدوا حديثاً امتنعوا حتّى من ذكر الآية ، وكأنّ تلك الآية ليست في القرآن.

هذا العمل كان نوعاً من الظلم والعدوان تجاه القرآن.وطبيعي أنّ مجتمعاً يطّرد بهذا الشكل كتابه السماوي - وأيّ كتاب كالقرآن - ، ويسلمه بيد النسيان، لا يمكن أنْ يتحرّك أبداً في مسير القرآن.

وكان هناك فِرَق أخرى غير الأخباريّين يمتنّعون من وضع القرآن في متناول أيدي العامّة ( من الناس ) ، نستطيع أنْ نذكر من هذه الفِرَق : الأشاعرة الذين كانوا يعتقدون بأنّ معرفة القرآن لا تعني التدبّر في آيات القرآن ،

٢٨

بل معناها فهم المعاني اللفظيّة للآيات ، أي إنّ ما عرفناه من ظاهر الآيات نقبلها ولا يهمّنا من واقعها شيئاً.

وطبيعي أنّ هذا الأسلوب من المعاملة مع القرآن سريعاً ما يدعو إلى الضلال والانحراف ؛ لأنّه لا مفرّ من توضيح معاني الآيات ، ولكن لأنّهم عطّلوا العقل ، فلا بدّ أنْ يحصلوا على نتائج ساذجة من القرآن.

وبدليل هذا النوع من التفكير ، انحرفوا عن طريق الإدراك الصحيح ، واعتقدوا اعتقادات باطلة من قبيل التجسّم ، أي إنّ الله جسم ، مئات من العقائد الانحرافيّة الأخرى مثل قولهم بإمكانيّة رؤية الله بالعين والتحدّث مع الله بواسطة اللسان العضوي و.....

وفي مقابل الفِرق التي تركت القرآن من الأساس ، ظهرتْ فرقة أخرى جعلوا القرآن وسيلة للوصول إلى أغراضهم وأهدافهم الشخصيّة.وكلّما كانت تقتضي مصالحهم قاموا بتأويل القرآن ونسبوا إليه أموراً لا ترتبط أساساً بروح القرآن ، وعند مواجهتهم أيّ اعتراض كانوا يجيبون أنّهم دون غيرهم يعرفون بواطن الآيات ، وأنّ

٢٩

المعاني المستخرجة حصلوا عليها من معرفة بواطن الآيات.

وإنّ أبطال هذه الحركة في تاريخ الإسلام فرقتان :

أولاها الإسماعيليّة : ويُقال لهم الباطنيّة.

وثانيتها المتصوفة الإسماعيليّة : يسكنون الهند ويسكن بعضهم في إيران.وقد نجحوا في استلام الحكم، وهي الحكومة الفاطميّة في مصر.

يُعرف الإسماعيليّون بأنّهم من الشيعة ، ويعتقدون بستّة من الأئمّة ، ولكن أجمع علماء الشيعة الاثنا عشريّة أنّ هؤلاء بعيدون عن التشيّع كل البُعد ، حتّى أهل السنّة الذين لا يعتقدون بأئمّة الشيعة كما تعتقد الشيعة ، أقرب إلى التشيّع من هؤلاء الشيعة المعتقدين بستّة من الأئمّة ( اشترك جماعة - بالنيابة عن الإسماعيليّين - في مجمع التقريب بين المذاهب الإسلاميّة الذي تأسّس قبل ٣٥ سنة تقريباً، واجتمعتْ فيه جميع الفِرق الإسلامية ، وهناك اتّفق علماء الشيعة والسنّة أنّ الإسماعيليّين ليسوا من الفِرق الإسلاميّة ، ولم يسمحوا لهم بالاشتراك في ذلك المجمع ).

٣٠

ارتكب الإسماعيليّون بواسطة اعتقادهم بالباطنيّة خيانات كثيرة في تاريخ الإسلام ، وكان لهم دور كبير في إيجاد الانحراف في الأمور الإسلاميّة.

وإذا انصرفنا عن الإسماعيليّة ، فهناك المتصوّفة الذين لهم دور كبير في مسألة تحريف الآيات وتأويلها طبقاً لعقائدهم الشخصيّة ، أذكر هنا مثالاً واحداً لتفاسيرهم ، حتّى تتّضح طريقتهم في التحريف ، ولْيقرأ القارئ حديثاً مفصّلاً من هذا المجمل.

عندما ورد ذكر إبراهيمعليه‌السلام وابنه إسماعيلعليه‌السلام في القرآن ، يحكي القرآن أنّ إبراهيم كان يُؤمَر في المنام - عدّة مرّات - بذبح ابنه في سبيل الله.يتعجّب إبراهيم في البداية من هذا الأمر ، ولكن بعد تكرّر الرؤيا يتيقّن ويسلّم أمره إلى الله ، ثمّ يُخبر ابنه عن هذا الموضوع ، ويَقبل ابنه بكلّ إخلاص ويستسلم لحكم الله ، قال تعالى :

( قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) ( س-ورة الصافات : الآية : ١٠٢ ) ، والغرض هو إظهار التسليم والرضا بقضاء الله.

٣١

ولذلك فعندما يستعدّ الأب والابن بكلّ إخلاص لتنفيذ أمر الله تبارك وتعالى ، يتوقّف تنفيذ الحكم بإذن الله.

وفي تفسير هذه الحادثة يقول المتصوّفة : إنّ المقصود من إبراهيم هو العقل ، والمقصود من إسماعيل هو النفس ، والعقل - هنا - كان يريد أنْ يذبح النفس !!

وواضح أنّ هذا النوع من التفسير لا يكون لعباً بالقرآن ، وإظهار نوع من المعرفة الانحرافيّة.وبالنسبة لهذه التفاسير المنحرفة والمبتنية على الأميال والأهواء النفسيّة والحزبيّة ، يقول الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( مَن فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار ).

وهذا النوع من التفسير (المتقدّم) يعتبر اتّخاذ القرآن لعباً ، وأنّه خيانة كبرى.

( لقد كثرت في عصرنا الحاضر - وللأسف - التفاسير الانحرافيّة والالتقاطيّة ، وقد أخذتْ الأفكار الإلحاديّة صبغة إسلاميّة أحياناً.وقد بدأ أستاذنا الشهيد حركة واسعة النطاق لمواجهة مثل هذه الحركات الانحرافيّة، وناضل بفكره ويراعه ما استطاع ، حتّى أنّه استشهد في هذا السبيل ).

اتّخذ القرآن أسلوباً وسطاً في مقابل الجمود والتفكّر

٣٢

الجاف للأخباريّين ونظرائهم ، وكذلك في مقابل الانحرافات والتفاسير الخاطئة للباطنيّة وغيرهم ، وهذا الأسلوب ( الوسط ) عبارة عن التأمّل والتدبّر المنصف والبعيد عن الأغراض والأهواء.

القرآن يدعو المؤمنين ، بل وحتّى المخالفين بالتفكير في آياته ، ويدعوهم بأنْ يتأمّلوا في آياته بدلاً عن صدّها وإنكارها.

يقول في خطاب مع المخالفين :( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( سورة محمّد : آية : ٢٤ ).

يقول في آية أخرى :( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) (سورة ص : آية : ٢٩ ).أنه كتاب مبارك مثمر أرسلناه إليك ، لماذا ؟ لم نرسله ليقبلوه ويضعوه فوق الرفوف ، بل أرسلناه ليفكّروا ويتدبّروا في آياته.

هذه الآيات وعشرات الآيات الأخرى التي تؤكّد على تدبّر القرآن ، تجوّز وتؤيّد تفسير القرآن ‎ ، ولكنْ ليس

٣٣

تفسيراً على الهوى والميل النفسي ، بل على أساس الصدق والإنصاف ، بعيداً عن الأغراض الشخصيّة.عندما تتأمّل في القرآن بإنصاف وبدون غرض ‎ ، فلا ضرورة لنا في إمكانيّة معرفة كلّ مسائلة.

القرآن من هذه الجهة يشبه الطبيعة.فكم من أسرار في الطبيعة لم تنكشف بعد ، وليس هناك أمل في اكتشافها في الأوضاع الحاليّة ، ولكنّها سوف تُكشف في المستقبل.

وإضافة على ذلك ، بالنسبة إلى معرفة طبيعة الإنسان ، لا بدّ من مطابقة التفكّر مع الطبيعة كيفما كانت.

القرآن أيضاً كتاب مثل الطبيعة لم ينزل لزمن واحد ، وإذا كان غير ذلك فقد كانوا يكتشفون غوامضها جميعاً في الماضي ، وكان هذا الكتاب السماوي يفقد جاذبيّته وطراوته وتأثيره.

إنّ الاستعداد للتدبّر والتفكّر وكشف غوامض القرآن موجود دائماً ، وهذه نقطة وضّحها النبي والأئمّة

٣٤

عليهم‌السلام ، في حديث منقول عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه - ما معناه - :مَثَل القرآن مثل الشمس والقمر ، يتحرّك مثلهما باستمرار ، أي إنّه ليس ثابتاً ولا يبقى في مكان واحد ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : ( القرآن ظاهرة أنيق وباطنه عميق ) ( هذه الجملة جاءتْ ضمن حديث طويل للرسول الأعظم - ص - في فضل القرآن ، الكافي : ج٤ ، ص ٣٩٩ ).

في عيون أخبار الرضا ، نُقل من قول الإمام الرضاعليه‌السلام ، أنّه سُئل الإمام الصادقعليه‌السلام : ما هو السرّ في بقاء القرآن على طراوته كلّما يُتلى أكثر ، وكلّما يمضي عليه الزمان زمناً أطول ؟

فأجاب الإمام : ( لأنّ الله لم ينزلْه لزمان دون زمان ، ولا لناسٍ دون ناس ).

لقد أوجده الله ليسبق الأفكار والأزمنة في أيّ زمان ، مع وجود الاختلافات الكثيرة في المعلومات وأنواع التفكّر ومدى اتّساع الفكر ، مع أنّه يحوي مجهولات لقُرّائه في كلّ زمان ، ولكنّه يعرض مقداراً كبيراً من المعاني والمفاهيم القابلة للإدراك ، بحيث يُشبع حاجة الزمان.

٣٥

الفصل الثاني

* المعرفة التحليليّة للقرآن.

* كيف يعرّف القرآن نفسه ؟

* التعرّف على لغة القرآن.

* المخاطَبون في القرآن.

٣٦

المعرفة التحليليّة للقرآن

في هذا الفصل نريد البحث في مضامين القرآن ، وفي الحقيقة لو أردنا التعرّض لمواضيع القرآن واحداً واحداً لكلّفنا أطناناً من الورق.لذلك نعرض الكلّيّات في البداية ثمّ نذكر بعض الجزئيّات.

لقد بحث القرآن مسائل كثيرة ، وتعرّض لبعضها بشيء من التفصيل ، وبحث البعض الآخر بحثاً بإيجاز.

ومن المسائل التي وردتْ في القرآن : مسألة العالَم وخالق العالَم.

* يجب أنْ نلاحظ تعريف القرآن لذات الله :

هل أنّه تعريف فلسفي أو عرفاني ؟

هل جاء هذا التعريف كما ورد في سائر الكتب الدينيّة مثل التوراة والإنجيل ، أو أنّه يشبه ما في المبادئ الهنديّة ؟

أو أنّ للقرآن أساساً ، أسلوب خاص وطريقة مستقلّة في معرفة الله ؟

٣٧

* الموضوع الآخر والمعروض في القرآن هو موضوع العالَم.يجب أنْ نلاحظ نظرة القرآن حول العالم :

هل يرى العالَم والخِلْقَة عبثاً ولعباً ، أو أنّه يرى العالم طبق نظام صحيح ؟

هل يرى العالَم على أساس مجموعة من السنن والقواعد ، أو يحسبه عبثاً ودون قواعد ، وكأنّه لا يوجب أي شيء شرطاً لشيء آخر ؟

* ومن المسائل العامّة الواردة في القرآن ، مسألة الإنسان ، يجب علينا أنْ نحلّل رأي القرآن بالنسبة للإنسان :

هل يتحدّث القرآن عن الإنسان مع حسن نيّة ، أو أنّ له نظرة سيّئة تجاه الإنسان ؟

هل يحقّر الإنسان ، أو يعتبر أنّ له عِزّة وكرامة ؟

* المسألة الأخرى هي مسألة المجتمع البشري :

هل يرى القرآن للمجتمع الإنساني أصالة وشخصيّة ، أو أنّه يعد للفرد أصالة فقط ؟

هل للمجتمع في نظر القرآن حياة وموت وارتقاء وانحطاط ، أو أنّ هذه الصفات تعتبر صادقة بالنسبة للفرد فقط ؟

* وبهذه المناسبة ، يأتي الحديث عن التأريخ :

فما هو رأي القرآن بالنسبة إلى التاريخ ؟

وما هي القوى

٣٨

المحرّكة للتأريخ ؟

وإلى أيّ حد يؤثّر الفرد في إيجاد التاريخ ؟

* وهناك مواضيع كثيرة جدّاً وردتْ في القرآن ، نُشير إلى بعض منها بإيجاز ، من ضمن هذه المواضيع :

نظرة القرآن حول نفسه.

ثمّ موضوع النبي في القرآن ، وأنّ القرآن كيف يعرّف النبي ، وكيف يتحدّث معه و....

الموضوع الآخر هو : وصف المؤمنين في القرآن وصفات المؤمنين وغير ذلك.

* وبالطبع ، فإنّ لكلّ هذه البحوث الكلّيِّة شعب وفروع ( مختلفة ) ، فمثلاً :

عندما نبحث حول الإنسان ، لا بدّ أنْ نبحث عن أخلاقه أيضاً.

وعندما نبحث عن المجتمع ، فيلزمنا التحدّث عن روابط الأفراد فيه.

وموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وموضوع الفوارق الاجتماعيّة.

كيف يعرّف القرآن نفسه ؟

عندما نبحث عمّا يشتمل عليه القرآن ، من الأحسن أنْ نرى رأي القرآن عن نفسه وكيف يعرّف نفسه ؟

* إنّ أوّل

٣٩

* نقطة يُصرّح بها القرآن - لدى التعريف عن نفسه - :

أنّ هذه الكلمات والجُمَل هي كلام الله ، ويُصرّح القرآن أنّه ليس من تعبير وإنشاء النبي ، بل إنّ النبي يبيّن - بإذن من الله - ما يُلقى عليه بواسطة روح القدس جبرائيل.

* والتوضيح الآخر الذي يعرضه القرآن في تعريف نفسه :

هو توضيح رسالته التي هي عبارة عن هداية أبناء البشر ، وإرشادهم للخروج من الظلمات إلى النور ،( ... كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ... ) ( سورة إبراهيم : آية : ١ ).

ولا شكّ أنّ الجهل والمجهولات من مصاديق هذه الظلمات ، وأنّ القرآن يُخرج البشر من هذه الظلمات ، ويدخلهم إلى أنوار العلم.

ولكن إذا كانت هذه الظلمات تنحصر في المجهولات ، فكان الفلاسفة أيضاً يتمكّنون من إجراء هذه المهمّة ، إلاّ أنّ هناك ظلمات أخرى أخطر كثيراً من ظلمات الجهل ، ولا يتمكّن العلم من مقاومتها.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93