تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة42%

تجلي القرآن في نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 130

تجلي القرآن في نهج البلاغة
  • البداية
  • السابق
  • 130 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 69856 / تحميل: 8243
الحجم الحجم الحجم
تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

تجلّي القرآن في نهج البلاغة

آية الله محمد تقي مصباح اليزدي

١

هذا الكتاب

نشر إليكترونياً وأخرج فنِّياً برعاية وإشراف

شبكة الإمامين الحسنينعليهما‌السلام للتراث والفكر الإسلامي

بانتظار أن يوفقنا الله تعالى لتصحيح نصه وتقديمه بصورة أفضل في فرصة أخرى قريبة إنشاء الله تعالى.

٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٣

مصباح اليزدي، محمّد تقي، ١٩٣٤

تجلّي القرآن في نهج البلاغة / محمّد تقي مصباح اليزدي، المترجم : ماجد الخاقاني

قم : مركز إصدارات الإمام الخمينيرحمه‌الله للتعليم والبحث، ٢٦٧، علوم القرآن، ١٧

عربي

عناوين الكتب بشكل معلومات في أسفل الصفحة.

١ - علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، الإمام الأوّل، ٢٣ قبل الهجرة، ٤٠ ق، نهج البلاغة - نقد وتفسير، ٢ - علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، الإمام الأوّل، ٢٣ قبل الهجرة.

٤٠ ق - نهج البلاغة - الأبعاد القرآنية.إلف.الخاقاني ماجد، المترجم.ب.مركز إصدارات مؤسسة الإمام الخمينيرحمه‌الله للتعليم والبحث.ج.العنوان.

٤٠٤٣ ق ٥٥ م ٠٨ / ٣٨

المكتبة الوطنية الإيرانية

٤

* تجلّي القرآن في نهج البلاغة

* المؤلّف : آية الله محمّد تقي مصباح اليزدي

* المترجم : ماجد الخاقاني

* الناشر : مركز إصدارات مؤسسة الإمام الخمينيرحمه‌الله للتعليم والبحث، بيت الكاتب

* المطبعة : الارمغان البصير

* الطبعة وتاريخ النشر : الأُولى، ١٤٢٦ ه-

* عدد النسخ : ٢٠٠٠

٥

الفهرست

المقدمة - ٩

الفصل الأَوّل : منزلة القرآن في المجتمع الديني

القرآن الكتاب السماوي الوحيد بين يدي الإنسان - ١٥

حديث القرآن - ١٦

النبي وبيان القرآن - ١٨

تذكير بأمرين - ٢٠

دور القرآن في الحياة - ٢١

القرآن دليل الخطوط العامة - ٢٢

نموذج من الخطوط العامة في القرآن - ٢٣

تجلّي العطاء الإلهي في قيام الحكومة الإسلامية - ٢٥

علاج المشكلات الاجتماعية في ظل اتّباع القرآن - ٢٦

تنظيم الشؤون الاجتماعية في ضوء توجيهات القرآن - ٢٧

دور الهدف في الحياة الاجتماعية - ٢٨

الغنى في ظل اتّباع القرآن - ٣٢

القرآن دواء لأعظم الأدواء - ٣٤

الحكمة من بعض الابتلاءات - ٣٧

التكريم الظاهري والحقيقي للقرآن الكريم - ٤٢

القرآن نور حقيقي - ٤٤

مصابيح القرآن وأنواره - ٤٦

٦

فلاح اتّباع القرآن في يوم القيامة - ٤٨

التنبيه والإيقاظ - ٥٠

سرّ النجاح ودور القرآن - ٥١

إبراهيم أسوة التسليم والعبودية في القرآن الكريم - ٥٢

الفصل الثاني : فهم وتفسير القرآن

المشكلة الحقيقية - ٥٧

وصية عليعليه‌السلام في التعاطي مع القرآن - ٥٩

التفسير بالرأي - ٦١

إرشادات عليعليه‌السلام لتجنّب التفسير بالرأي - ٦٣

رؤيتان للقرآن والمعارف الدينية - ٦٤

التعددية الدينية أو إنكار الدين في إطار القراءات المتعددة - ٦٦

ضرورة اكتساب الأهلية لفهم القرآن وتفسيره - ٧٠

المراتب المختلفة لمعاني القرآن وفهم معارفه - ٧١

اختصاص تفسير القرآن-بمعنى تفصيل الأحكام-بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومينعليهم‌السلام - ٧٤

فهم علوم أهل البيتعليهم‌السلام مقدمة لفهم وتفسير القرآن - ٧٥

تفسير القرآن بالقرآن - ٧٦

الالتزام بأُصول وقواعد الحوار العقلائي في فهم القرآن - ٧٧

ملائمة فهم المفسّرين لقابلياتهم - ٧٨

وجوب معرفة القرائن الكلامية - ٧٩

وجود الصور الكلامية في القرآن الكريم - ٨٠

الفصل الثالث : القرآن والغزو الثقافي

امتزاج الحق بالباطل - ٨٣

شبهة عدم بلوغ حقيقة الدين - ٨٧

التلقين والتكرار سلاح مهم لدى الشياطين - ٩٠

الاستناد إلى المتشابهات، أسلوب آخر في مواجهة القرآن - ٩١

الحكمة من وجود المتشابهات في القرآن - ٩٢

٧

مزج الحق والباطل، سلاح آخر بيد المنحرفين - ٩٧

القراءات المختلفة، حربة لمجابهة القرآن - ٩٩

دافع وهدف المعارضين للثقافة الدينية من وجهة نظر القرآن - ١٠٠

موقف القرآن إزاء الفتنة في الدين - ١٠٣

١ - الفتنة العسكرية - ١٠٤

٢ - الفتنة الثقافية - ١٠٤

تحذير القرآن من الفتنة الثقافية - ١٠٥

الشرك في ثوب جديد - ١٠٦

نبوءة القرآن بوقوع الفتنة في الدين - ١٠٨

التنبّؤ بالفتن بعد الرسول - ١١٠

١ - الفتنة بالمال - ١١٠

٢ - الفتنة العقائدية - ١١١

٣ - التبريرات الكاذبة، أخطر فتنة - ١١٢

تعتيم الأجواء لتضليل الرأي العام - ١١٤

محرّفو العلوم الدينية من منظار عليعليه‌السلام - ١١٥

تعامل عبيد الدنيا المتظاهرين بالإسلام مع القرآن - ١١٨

تحذير عليعليه‌السلام للناس - ١٢١

دوافع الجهلاء المتظاهرين بالعلم في تحريف علوم الدين في منظار عليعليه‌السلام - ١٢٣

٨

المقدمة

بالرغم من اعتقادنا بأنّ القرآن الكريم أعظم هدية إلهية لبني البشر، وأنفس تراث خلّفه النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بين المسلمين، فإنّ الأمّة الإسلامية ما أبدت ولا تبدي اهتماماً للانتفاع من هذا التراث العظيم.

فبعد وفاة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله عاش المجتمع الإسلامي محروماً من التمسك بهذا الحبل الإلهي المتين، بالرغم من تأكيداتهصلى‌الله‌عليه‌وآله الكثيرة بوجوب الرجوع إلى القرآن، والعمل به باعتباره الثقل الأكبر، وتعلّم علوم القرآن عن أهل البيتعليهم‌السلام باعتبارهم الثقل الأصغر، وبالنتيجة فقد أُقصي المجتمع الإسلامي عن موقعه الحقيقي الذي بشّر به القرآن بقوله :( وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ ) (١) ، واليوم لا مفرّ من الاعتراف بالحقيقة المرّة من أنّ المجتمع الإسلامي قد تجرّع خسائر لا تُعوّض؛ بسبب ابتعاده عن حقيقة القرآن وعلوم أهل البيتعليهم‌السلام .

ولكن رغم ابتعاد المسلمين عن حقيقة القرآن، وغربة هذه الجوهرة السماوية والهبة الرحمانية، فإنّ الاهتمام بظاهره لاقى رواجاً وازدهاراً جيداً بين الفينة والأخرى في أوساط المسلمين.

إنّ عامة المسلمين يعرفون القرآن كتاباً مقدّساً وسماوياً، نزل على القلب المبارك للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة القدر، وهم يكنون له الإجلال، فاليوم احتلت طباعة القرآن الكريم بورق من النوع الممتاز، وتجليدات مذهّبة، وتلاوته وحفظه، والإلمام بالعلوم التي تتناول

____________________

(١) آل عمران : ١٣٩.

٩

ظواهر القرآن من قبيل التجويد وما شابه ذلك، مكانةً متميزةً في ثقافة المسلمين ونشهد بين الحين والآخر إقامة مسابقات حفظ وقراءة القرآن الكريم في البلدان الإسلامية وعلى مستوى دولي، وهذا بحد ذاته موضع استبشار.

ولا يخفى أنّ ازدهار القرآن الكريم في سائر البلدان الإسلامية مدين إلى حدّ كبير للإمام الخمينيرحمه‌الله ، وانتصار الثورة الإسلامية في إيران، فبعد بيان الإمام الخمينيرحمه‌الله حول إدارة الحرمين الشريفين من قِبل مجلس يضم الدول الإسلامية، بادرت السعودية إلى إعمار وتوسيع الحرمين الشريفين، والى جانب ذلك قامت بطبع ونشر المصحف وإهدائه إلى الحجّاج من البلدان الإسلامية؛ للإيحاء من خلال ذلك بأنّها السبّاقة في التبليغ للإسلام والقرآن، ولتحول دون اهتمام الشعوب والبلدان الإسلامية بإيران الإسلام.

على أية حال، إنّ الاهتمام بظاهر القرآن والابتعاد عن حقيقته، من أعظم المشاكل التي ما فتئت الشعوب الإسلامية تتلقى الضربات التي لا يمكن تلافيها بسببها، فمن الواضح أنّ المسلمين ما لم يتجاوزوا ظاهر القرآن إلى باطنه، ولم ينتقلوا من القول إلى العمل لا تتحقق هداية القرآن بحقهم.

إنّ هذا الكتاب ليس بصدد البحث في أسباب ابتعاد المسلمين عن حقيقة القرآن والعترة بعد وفاة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فما ورد في هذا الكتاب تجلّيات من حقيقة القرآن في منظار نهج البلاغة، وعلى لسان القرآن الكريم نفسه، فيعرف الباحث القرآن ويتعرف على عظمته من خلال منظار أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما جرى التطرّق لبعض الشبهات التي تثار من قبل بعض المعاندين والرد عليها، وفي الختام تمّ وعلى لسان القرآن الناطق أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بيان الأسباب والدوافع الشيطانية وراء إثارة مثل هذه الشبهات.

جدير بالذكر أنّ موضوعات هذا الكتاب هي في الحقيقة عدة محاضرات ألقاها

١٠

سماحة آية الله مصباح اليزدي في مدينة قم خلال شهري رمضان للعامين ١٣٧٧ و ١٣٧٨ ه-.ش.من هنا فقد تركّز السعي على أن لا تحدث نقيصة أو زيادة أو تغيير في المطالب التي أدلى بها الأستاذ قدر الإمكان، وجرى العمل فقط لتقريب لغة الحديث إلى لغة الكتابة إلى حدّ ما؛ لذلك من الطبيعي أن لا ترى تلك الدقة المتعارف عليها في التحرير والتنقيح بشكل تام ومِئة بالمِئة في هذا الكتاب.

وفي الختام نتقدم بالشكر للمحقّق الجليل سماحة حجة الإسلام محمدي الذي قام بتحرير هذا الكتاب، وكذلك سماحة حجة الإسلام نادري الذي تولّى أمر التنقيح، سائلين البارئ المنّان المزيد من التوفيق.

مركز إصدارات مؤسسة الإمام الخمينيرحمه‌الله للتعليم والبحث

١١

١٢

الفصل الأَوّل

منزلة القرآن في المجتمع الديني

١٣

١٤

القرآن الكتاب السماوي الوحيد بين يدي الإنسان

لو أردنا التطرّق لكل ما جاء حول القرآن في نهج البلاغة فإنّ البحث يطول كثيراً، فلقد تناول الإمام عليعليه‌السلام في أكثر من عشرين خطبة في نهج البلاغة وصف القرآن ومنزلته، وقد يختص أكثر من نصف خطبة أحياناً لبيان منزلة القرآن ودوره في حياة المسلمين، وواجبهم إزاء هذا الكتاب السماوي، ونحن نكتفي هنا بتوضيح بعض توصيفات نهج البلاغة بشأن القرآن الكريم.

يقول الإمام عليعليه‌السلام في الخطبة ١٣٣ : ( وَكِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نَاطِقٌ لا يَعْيَى لِسَانُهُ )، فالقرآن في متناولكم وأمامكم، وعلى العكس من الكتب السماوية لسائر الأديان من قبيل كتاب النبي موسى والنبي عيسىعليهما‌السلام فإنّ القرآن بين أيديكم، وحري القول إنّ الكتاب المقدس لم يكن في متناول عامة الناس في الأُمم السابقة، لا سيما يهود بني إسرائيل، بل كانت هنالك نسخ معدودات من التوراة موجودة عند علماء اليهود، ولم يكن بمقدور عامة الناس مطالعة التوراة.

وكان الوضع وما زال أكثر مدعاة للقلق فيما يخص كتاب النبي عيسىعليه‌السلام ؛ لأنّ ما يعرف اليوم بالإنجيل في أوساط المسيحيين ليس بذلك الكتاب الذي نزل على النبي عيسى المسيحعليه‌السلام ، بل هي مضامين جُمعت على أيدي أشخاص، وعرفت بالأناجيل الأربعة، وعليه فإنّ الأمم السابقة كانت محرومةً من الوصول إلى الكتب السماوية، لكن الوضع مختلف بشأن القرآن، فلقد كانت كيفية نزول القرآن وقراءته وتعلّمه من قِبل

١٥

النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بنحو كان الناس يستطيعون تعلّمه وحفظ آياته، وأن يكون القرآن في متناولهم بشكل كامل.

من الخصائص المهمة الأخرى لهذا الكتاب السماوي، هي أنّ الله سبحانه وتعالى مَنَّ على الأمّة الإسلامية، وتعهد بنفسه الحفاظ على القرآن الكريم من أي خطر، بالإضافة إلى أنّ النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله اهتم بتعليم المسلمين القرآن، وحفظ آيات الله، بحيث أنّ عدداً كبيراً من المسلمين كانوا على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حفّاظاً للقرآن، ويحتفظون بنسخ الآيات التي كانت تنزل تواً، ويقومون بحفظها تدريجياً، فكان القرآن يصبح في متناول الجميع عن طريق استنساخ هذه النسخ، أو تناقلها من صدر حافظ إلى صدر حافظ آخر.

يقول عليعليه‌السلام : ( كِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ )، أي كتاب الله فيما بينكم وفي متناولكم، ( نَاطِقٌ لا يَعْيَى لِسَانُهُ )، من المناسب التركيز والتأكيد على هذه العبارة؛ إذ يصرّحعليه‌السلام أنّ هذا الكتاب ناطق لا يعتري لسانه التعب، فلا يملّ من الكلام ولا يتلكأ، إنّه بناء لا تهتز أركانه، وظافر لا تُهزم أعوانه.

حديث القرآن

من ناحية يقول الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة واصفاً القرآن : إنّه كتاب ناطق يتكلم ولا يعيى من الكلام، وهو يتحدث ويدلي بكلامه بكل وضوح، ومن ناحية أخرى يقول إنّ القرآن ليس ناطقاً ويجب استنطاقه، وأنا الذي أُبيّن القرآن لكم، وجاء في بعض العبارات أحياناً أنّ القرآن ( صامت ناطق )(١) فما معنى هذا الكلام يا ترى ؟

يبدو أنّ هذه العبارة تبيّن نظرتين مختلفتين لهذا الكتاب السماوي، فرؤية فيها القرآن كتاب مقدّس لكنّه صامت منزوي لا يكلم أحداً ولا لأحد علاقة به، وفي رؤية

___________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٤٧، جدير بالذكر أنّ كافة الهوامش المذكورة في هذا الكتاب عن نهج البلاغة تستند إلى نهج البلاغة لفيض الإسلام.

١٦

أخرى كتاب ناطق يوجّه خطابه لجميع الناس يدعوهم لاتّباعه، ويبشّر أتباعه بالسعادة والفلاح.

من البديهي أنّ القرآن الذي صفته التقدّس فقط، هو كلمات وعبارات وآيات مسطورة على الورق، يوليه المسلمون احتراماً، ويقبّلونه ويضعونه في أفضل مكان من بيوتهم، وقد يتلونه في المجالس أحياناً دون أن يتوجّهوا إلى حقيقته ومعناه، إذا ما نظرنا إلى القرآن بهذه النظرة فهو كتاب صامت لا يتحدث بصوت مسموع، ومَن يمتلك مثل هذه النظرة لن يسمع كلام القرآن، ولن يعالج القرآن الكريم له مشكلة.

بناءً على هذا نحن مكلّفون بالتزام الرؤية الثانية، أي أن نعتبر القرآن كتاب الحياة، ونعدّ أنفسنا لسماع كلام القرآن الكريم، الذي يمثّل بأسره تعاليم الحياة، وذلك من خلال خلق روح التسليم أمام الله سبحانه وتعالى، وفي مثل هذه الحالة يكون القرآن ناطقاً يحدّث الناس ويهديهم في كافة المجالات.

بالإضافة إلى هذا التفسير الذي قدّمناه لصمت القرآن ونطقه، ثَمّة معنى أكثر عمقاً لهذا الأمر، وذلك المعنى هو ما يقصده عليعليه‌السلام ، وعلى أساس هذا المعنى الخاص يقولعليه‌السلام إنّ القرآن صامت ويجب استنطاقه، وأنا الذي أُبيّن لكم القرآن، وها نحن نتطرق لتوضيح صامتية القرآن وناطقيته بالمعنى الثاني، وهو في الحقيقة بيان لمعناه الحقيقي :

بالرغم من أنّ القرآن الكريم كلام الله جلّ وعلا، وأنّ حقيقة هذا الكلام الإلهي وكيفية صدوره ونزوله ليست معروفة لدينا، ولكن بما أنّ الغاية من نزوله هداية الناس، فإنّ هذا الكلام الإلهي قد تنزّل بحيث أصبح على هيئة كلمات وعبارات وآيات، يتسنى قراءتها وسماعها بالنسبة للبشر، ولكن في نفس الوقت ليس الأمر بأن تكون مضامين جميع آياته يسيرة الفهم والمنال بالنسبة للعاديين من الناس، ويصبح بمقدور الناس أنفسهم بلوغ مقاصد الآيات دون تفسير وبيان من قِبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمة

١٧

المعصومينعليهم‌السلام ، والراسخين في العلم، منها على سبيل المثال تفصيل وبيان جزئيات الأحكام الواردة في القرآن، وكذلك هنالك آيات مجملة في القرآن الكريم تحتاج إلى بيان وإيضاح.بناءً على هذا، فالقرآن صامت في الكثير من الأبعاد، أي ليس من السهل الاستفادة منه بالنسبة لعوام الناس دون تفسير وبيان ممّن له ارتباط بالغيب وملمّ بالعلوم الإلهية.

النبي وبيان القرآن

من واجبات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إزاء الأمّة بيان آيات الله، يقول القرآن الكريم مخاطباً النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ) (١) أي أنّنا أنزلنا إليك القرآن وواجبك أن تقرأه على الناس، وتبيّن لهم معارفه؛ لأنّه وكما تقدمت الإشارة القرآن كلام الله، ورغم أنّه تنزّل كثيراً حتى ظهر بصورة كلمات وآيات، وأصبح في متناول المسلمين، لكن معارفه من العمق بحيث يتعذر فهمها كثيراً بالنسبة للعاديين من البشر؛ لذلك فإنّ القرآن من هذه الناحية صامت عند البسطاء من الناس، ويحتاج إلى تفسير وبيان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومينعليهم‌السلام .وعلى هذا الأساس خاطب الله سبحانه نبيه قائلاً :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ ) .

بناءً على هذا أنّ لآيات القرآن تفسيرها الخاص بها، وهذا التفسير وبيانه وعلومه عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومينعليهم‌السلام ، وهم بدورهم قد وضعوا معارف القرآن بين أيدي المسلمين، وأسمعوا الناس بلاغ القرآن.إذن، القرآن بهذا المعنى ناطق، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمةعليهم‌السلام قاموا ببيان علوم القرآن، ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ القرآن يدلي بحديثه بمنأى عن ميول مخاطبه، سواء كان مطابقاً لمنى قلب الإنسان أو مخالفاً لهواه، ولا يحق لشياطين الإنس أن يفرضوا رغباتهم على القرآن، ويفسّروا كلام الله بآرائهم تحت

____________________

(١) النحل : ٤٤.

١٨

عنوان فهمهم الخاص عن القرآن، وفي المستقبل سوف نتحدث بالتفصيل بهذا الصدد.

في ضوء كلا المعنيين اللذَينِ جرى بيانهما عن صامتية القرآن وناطقيته يقول عليعليه‌السلام : (ناطقٌ لا يعيى لسانُه )، فالقرآن ناطق لا يكلّ من الحديث، ويُسمع الناس رسالته، ويتم الحجة على المسلمين.

في هذا المقطع من الكلام هكذا يصف عليعليه‌السلام القرآن بأنّه كلام الله بينكم، وبلسان ناطق وبليغ يدعو الناس إلى الفلاح ويبشّر أتباعه بالسعادة، ولا يتعب عن أداء رسالته أبداً.

يقولعليه‌السلام في الخطبة ١٥٧ واصفاً القرآن الكريم : ( ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ وَلَنْ يَنْطِقَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ، أَلا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ)، فهذا القرآن فاطلبوه ليُحدّثكم، وهو لن يتحدث دون بيان وتفسير من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام المعصومعليه‌السلام ، فيجب أن تتعرفوا على معارف القرآن عن لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام المعصومعليه‌السلام ، وتأخذوا علوم القرآن منهم.

إنّ القرآن بحر المعارف والعلوم الإلهية، ولا يقوى على سير أغوار هذا البحر اللجّيّ المترامي الأطراف، واقتناص جواهره التي تصنع الإنسان، إلاّ الذين هم على ارتباط بغيب عالم الوجود، وقد دعا الله عزّ وجلّ الناس لشق طريقهم نحو معارف القرآن السامية، مستعينين بألطاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمة الهدىعليهم‌السلام ، ومستلهمين من علوم أهل البيت وإمداداتهم وإرشاداتهم؛ لأنّ علوم القرآن عند أهل البيت، وبالتالي فإنّ كلامهم كلام القرآن، وبما أنّ الأمر كذلك فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل البيتعليهم‌السلام هم القرآن الناطق.

على هذا الأساس الآنف الذكر يقولعليه‌السلام : ( ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق )، هذا القرآن وهؤلاء أنتم، فانظروا أنّكم عاجزون عن الانتفاع بالقرآن دون بيان من الإمام المعصومعليه‌السلام ! فالإمام المعصوم هو الذي يتعيّن أن يفسّر القرآن ويبيّنه لكم، ويطلعكم على معارف القرآن وعلومه.

١٩

بإيراده لهذه المقدمة يُلفتعليه‌السلام الانتباه إلى القرآن من زاوية أخرى، ويدعو الناس إلى الرجوع إلى القرآن والتدبر به إذ يقولعليه‌السلام : الآن حيث الإمام المعصوم هو الذي يجب أن يبيّن للمسلمين علوم ومعارف القرآن، والقرآن بنفسه لا يتحدث والناس عاجزون عن تلقّي البلاغات الإلهية مباشرة، فأنا الآن : أخبركم عنه، أنا أخبركم عن القرآن وأطلعكم على علومه ومعارفه، فاعلموا أنّ في القرآن الكريم كل ما تحتاجونه : ( أَلا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ )، فعلم الماضي والمستقبل في القرآن، وعلاج آلامكم وتنظيم أموركم في القرآن، وأنتم الذين يجب أن تتولوا تنظيم أموركم، مستعينين بالقرآن الكريم، وبعلوم أهل البيتعليهم‌السلام .

تذكير بأمرين

١ - القرآن أهم وثيقة تاريخية بالنسبة للمسلمين وأتباع هذا الكتاب السماوي؛ نظراً لأنّ القرآن يتحدث عن الوقائع التاريخية، ويبيّن أفكار وعقائد الأقوام والأمم السالفة ونمط حياتهم، فهو أغنى وثيقة تاريخية، وإذا ما قورن بالكتب والمصادر التاريخية التي تفتقد السند القرآني، فهي ليست تضاهي القرآن بقيمتها واعتبارها وإن رويت بصورة متواترة، إذن ينبغي الاستماع إلى أخبار الماضين وقصص الأنبياء والأقوام السالفة، والاتعاظ بها عن طريق القرآن.

علينا نحن من خلال الرجوع إلى القرآن، واستقراء قصص الأقوام والأمم السابقة، استلهام العبر منها وأن ننظّم حياتنا على أساس الحق والمنهج الصحيح.

٢ - إنّ القرآن الكريم بالإضافة إلى نقله تاريخ الماضين إلينا، ومن خلال بيانه للوقائع التي جرت عليهم، يضعنا في أجواء حياتهم، ويدعونا لأن نستلهم العبر والدروس، فهو يخبرنا عن المستقبل أيضاً، فمن البديهي أنّ الحديث العلمي واليقيني عن المستقبل ليس شأن أحد غير الله سبحانه وتعالى، والذين يمتلكون العلم بالمستقبل بإذنه جلّ وعلا.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فلها ما كان يجري عليها في حياتي، إن رأى ذلك، ومن خرجت منهن إلى زوج فليس لها أن ترجع إلى محواي، إلا أن يرى علي غير ذلك، وبناتي بمثل ذلك، ولا يزوج بناتي أحد من إخوتهن من أمهاتهن، ولا سلطان ولا عم إلا برأيه ومشورته، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله وجاهدوه في ملكه، وهو أعرف بمناكح قومه، فإن أراد أن يزوج زوج، وإن أراد أن يترك ترك، وقد أوصيتهن بمثل ما ذكرت في كتابي هذا، وجعلت الله عز وجل عليهن شهيدا(1) .

ويستفاد منها أن الأمر حساس وخطير، وهو يتطلب بصيرة نافذة، ومعرفة تامة بمداخل القضايا ومخارجها، ولذلك أوكل أمر زواج بناتهعليه‌السلام إلى الإمام الرضاعليه‌السلام ، وهو المعصوم العالم بحقائق الأمور، وكان الظرف ظرف محنة وابتلاء كما يدل عليه حديث الإمام الكاظمعليه‌السلام ليزيد بن سليط الزيدي حيث قال: ثم قال لي أبو إبراهيمعليه‌السلام :

إني أوخذ في هذه السنة، والأمر هو إلى ابني علي، سمي علي وعلي، فأما علي الأول فعلي بن أبي طالب، وأما الآخر فعلي بن الحسينعليهما‌السلام ، أعطي فهم الأول وحلمه ونصره ووده ودينه ومحنته، ومحنة الآخر وصبره على ما يكره(2) ....

____________________

(1) الأصول من الكافي ج 1 باب الإشارة والنص على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام الحديث 15 ص 316 - 317.

(2) الأصول من الكافي ج 1 باب الإشارة على أبي الحسن الرضاعليه‌السلام الحديث 14 ص 315.

١٠١

وليس في هذه الوصية ما يدل على المنع من التزويج، وإنما تدل على أن الأمر إلى الإمام الرضاعليه‌السلام ، فهو الأعرف بمناكح قومه، وهو الأعلم بأحوال زمانه.

فما ذكره اليعقوبي في تاريخه(1) من أن الإمامعليه‌السلام أوصى بعدم تزويج بناته فإن كان مستنده هو وصية الإمامعليه‌السلام التي ذكرناها فقد أخطأ في الاستنتاج، وإن كان غيرها فلم نقف عليه، ولا نستبعد أنه قد التبس عليه الأمر وفهم من الوصية أن الإمام قد منع من تزويج بناته، وليس الأمر كذلك.

ثم إنه من خلال ما تقدم ذكره من الأمور الخمسة يمكننا استفادة السبب وراء عدم زواج بنات الإمام الكاظمعليه‌السلام .

والذي يترجح من جميع ذلك أن السبب أمران أحدهما يكمل الآخر، وهما:

الأول: عدم وجود الكفؤ.

والثاني: الخوف من الإقدام على مصاهرة الإمامعليه‌السلام .

أما الأول فإن الفقهاء وإن اختلفوا في تحديد معنى الكفاءة، ولهم في ذلك أقوال وآراء ذكرها صاحب الجواهر(2) وغيره إلا أنهم اتفقوا على أن المؤمن كفوء المؤمنة.

وقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض(3) .

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 415.

(2) جواهر الكلام ج 30 ص 92 - 116.

(3) من لا يحضره الفقيه ج 3 - كتاب النكاح - باب الأكفاء الحديث 5 ص 249.

١٠٢

وخلافهم إنما هو في زواج المرأة الشريفة ممن هو أدنى منها، وأما العكس فلا خلاف بينهم في جوازه، على أن الخلاف في ذلك مما لا يعتد به، كما صرح به صاحب الجواهر حيث قال: (و) كيف كان فلا إشكال ولا خلاف معتد به في أنه (يجوز) عندنا (إنكاح الحرة العبد، والعربية العجمي، والهاشمية غير الهاشمي، وبالعكس، وكذا أرباب الصنائع الدنية) كالكناس والحجام وغيرهما (بذات الدين) من العلم والصلاح (والبيوتات) وغيرهم، لعموم الأدلة، وخصوص ما جاء في تزويج جويبر الدلفاء، ومنجح بن رباح مولى علي بن الحسينعليهما‌السلام بنت ابن أبي رافع...(1) .

والحاصل إجمالا: أن سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمةعليهم‌السلام كانت على ذلك، مضافا إلى الروايات الكثيرة الواردة عنهمعليهم‌السلام الدالة على الجواز، نعم اختصت الصديقة الزهراءعليها‌السلام بهذا الشأن من دون سائر النساء، فقد روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: إنما أنا بشر مثلكم أتزوج فيكم وأزوجكم إلا فاطمة، فإن تزويجها نزل من السماء(2) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لم يكن لفاطمة كفو على وجه الأرض، آدم فمن دونه(3) .

وأما ما عدا فاطمة الزهراءعليها‌السلام من النساء فليست لها هذه

____________________

(1) جواهر الكلام ج 30 ص 106 - 107.

(2) الفروع من الكافي ج 5 كتاب النكاح باب نوادر الحديث 54 ص 568.

(3) بحار الأنوار ج 43 ص 107.

١٠٣

الخصوصية، وإنما يتبع فيها الشرائط العامة في الزواج من الدين والخلق وغيرهما مما ذكره الفقهاء ورووه عن الأئمةعليهم‌السلام وتفصيل هذه المسألة بجميع أبعادها مبسوطة في كتب الفقه الاستدلالية.

وغرضنا من ذلك الإشارة إلى أنه لا شك في توفر الشرائط في بعض الأشخاص في زمان الإمام الكاظمعليه‌السلام .

ولكن ما جرى على العلويين من الأحداث حال دون ذلك، فإن حملات الإبادة من القتل والتشريد لبني هاشم ما أبقت منهم إلا القليل، فإن المسلسل الدامي بدأ مع بداية عهد المنصور، وقد تتبع العلويين، فمنهم من قتل في ميادين الحروب، ومنهم من قتل تحت الأنقاض حيث أمر المنصور بهدم السجن عليهم أو وضعوا في أساس البناء أحياء فماتوا اختناقا، ومنهم من اغتيل بالسم، ومنهم من قتل صبرا واحتفظ برؤوسهم في خزانة ولم يطلع عليها إلا بعض أهل بيته.

يقول الطبري في تاريخه لما عزم المنصور على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي، وكان المهدي بالري قبل شخوص أبي جعفر، فأوصاها بما أراد، وعهد إليها، ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدم إليها وأحلفها، ووكد الإيمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليها أحدا إلا المهدي، ولا هي إلا أن يصح عندها موته، فإذا صح ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى يفتحا الخزانة، فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام، دفعت إليه

١٠٤

المفاتيح، وأخبرته أنه تقدم إليها ألا يفتحه ولا يطلع عليه أحد حتى يصح عندها موته، فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور، وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة، فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال، ورجال شباب، ومشايخ عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل فوقها دكان(1) .

ومنهم من سلم من القتل ولكنه لم يسلم من التشرد فهام في البلدان متنكرا، وقد أخفى اسمه ونسبه، ومن ذلك ما رواه أبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين من أحوال عيسى بن زيد الذي توارى عن المنصور العباسي زمانا طويلا حتى مات متواريا، ولم يطلع زوجته وابنته على اسمه ونسبه.

روى أبو الفرج بسنده عن محمد بن المنصور المرادي قال: قال يحيى بن الحسين بن زيد: قلت لأبي: يا أبه، إني أشتهي أن أرى عمي عيسى بن زيد، فإنه يقبح بمثلي أن لا يلقى مثله من أشياخه، فدافعني عن ذلك مدة، وقال: إن هذا أمر يثقل عليه، وأخشى أن ينتقل عن منزله كراهية للقائك إياه فتزعجه، فلم أزل به أداريه وألطف به حتى طابت نفسه لي بذلك، فجهزني إلى الكوفة، وقال لي: إذا صرت إليها فاسأل عن دور بني حي، فإن دللت عليها فاقصدها في السكة الفلانية،

____________________

(1) تاريخ الطبري ج 8 ص 104 - 105.

١٠٥

وسترى في وسط السكة دارا لها باب، صفته كذا وكذا، فاعرفه واجلس بعيدا منها في أول السكة فإنه سيقبل عليك عند المغرب كهل طويل مسنون (مستور) الوجه، قد أثر السجود في جبهته، عليه جبة صوف، يستقي الماء على جمل [وقد انصرف يسوق الجمل]، لا يضع قدما ولا يرفعها إلا ذكر الله عز وجل، ودموعه تنحدر، فقم وسلم عليه وعانقه، فإنه سيذعر منك كما يذعر الوحش، فعرفه نفسك، وانتسب له، فإنه يسكن إليك، ويحدثك طويلا، ويسألك عنا جميعا، ويخبرك بشأنه ولا يضجر بجلوسك معه، ولا تطل عليه، وودعه، فإنه يستعفيك من العودة إليه، فافعل ما يأمرك به من ذلك، فإنك إن عدت إليه توارى عنك واستوحش منك، وانتقل عن موضعه، وعليه في ذلك مشقة، فقلت: أفعل ما أمرتني، ثم جهزني إلى الكوفة وودعته وخرجت، فلما وردت الكوفة قصدت سكة بني حي بعد العصر، فجلست خارجها بعد أن تعرفت الباب الذي نعته لي، فلما غربت الشمس إذا أنا به قد أقبل يسوق الجمل، وهو كما وصف لي أبي لا يرفع قدما ولا يضعها إلا حرك شفتيه بذكر الله، ودموعه ترقرق في عينيه، وتذرف أحيانا، فقمت فعانقته فذعر مني كما يذعر الوحش من الإنس، فقلت: يا عم أنا يحيى بن الحسين بن زيد ابن أخيك، فضمني إليه، وبكى حتى قلت:

قد جاءت نفسه، ثم أناخ جمله وجلس معي، فجعل يسألني عن أهله رجلا رجلا، وامرأة امرأة، وصبيا صبيا، وأنا أشرح له أخبارهم، وهو

١٠٦

يبكي، ثم قال: يا بني أنا أستقي على هذا الجمل الماء، فأصرف ما أكتسب يعني من أجرة الجمل إلى صاحبه وأتقوت باقيه، وربما عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج إلى البرية، يعني بظهر الكوفة فألتقط ما يرمي الناس به من البقول فأتقوته. وقد تزوجت إلى هذا الرجل ابنته، وهو لا يعلم من أنا إلى وقتي هذا، فولدت مني بنتا، فنشأت، وبلغت وهي أيضا لا تعرفني ولا تدري من أنا، فقالت: لي أمها: زوج ابنتك بابن فلان السقاء - لرجل من جيراننا يسقي الماء - فإنه أيسر منا، وقد خطبها، وألحت علي فلم أقدر على إخبارها بأن ذلك غير جائز، ولا هو بكفؤ لها، فيشيع خبري، فجعلت تلح علي فلم أزل أستكفي الله أمرها حتى ماتت بعد أيام، فما أجدني آسى على شئ من الدنيا أساي على أنها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وذكر أبو الفرج أن عيسى بن زيد بقي متواريا إلى أن مات في زمان المهدي العباسي، روى بسنده عن يعقوب بن داود، قال: دخلت مع المهدي في قبة في بعض الخانات في طريق خراسان، فإذا حائطها عليه أسطر مكتوبة، فدنا ودنوت معه، فإذا هي هذه الأبيات:

والله ما أطعم طعم الرقاد

خوفا إذا نامت عيون العباد

شردني أهل اعتداء وما

أذنبت ذنبا غير ذكر المعاد

آمنت بالله ولم يؤمنوا

فكان زادي عندهم شر زاد

أقول قولا قاله خائف

مطرد قلبي كثير السهاد

١٠٧

منخرق الخفين يشكو الوجى

تنكبه أطراف مرو حداد

شرده الخوف فأزرى به

كذاك من يكره حر الجلاد

قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد

قال: فجعل المهدي يكتب تحت كل بيت: لك الأمان من الله ومني، فاظهر متى شئت، حتى كتب ذلك تحتها أجمع، فالتفت فإذا دموعه تجري على خده فقلت له: من ترى قائل هذا الشعر يا أمير المؤمنين؟

قال: أتتجاهل علي؟ من عسى أن يقول هذا الشعر إلا عيسى بن زيد(1) .

ولكن لما بلغه موت عيسى بن زيد اعتبر ذلك بشرى وحول وجهه إلى المحراب وسجد وحمد الله. وكان يجد في طلبه حتى أنه حبس بعض أصحابه ثم قتلهم لأنهم لم يخبروه بموضع اختفائه(2) .

وعهده وإن لم يكن كعهد أبيه شدة وبطشا إلا أنه ورث منه العداء لأهل البيتعليهم‌السلام ، الذي كان يعتقد أن لا بقاء له في الحكم والسلطان إلا بالقضاء على العلويين وشيعتهم.

حتى إذا جاء عهد ابنه موسى الهادي الذي اتصف بنزعات الشر والطيش والتمادي في سفك الدماء، فنقم عليه القريب والبعيد وبغضه الناس جميعا، وقد حقدت عليه أمه الخيزران، وبلغ بها الغيظ والكراهية له أنها هي التي قتلته(3) .

وفي زمانه حدثت واقعة فخ التي ضارعت مأساة كربلاء في آلامها

____________________

(1) مقاتل الطالبيين ص 408 - 412.

(2) مقاتل الطالبيين ص 422 وص 427.

(3) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج 1 ص 457.

١٠٨

وشجونها، وقد تحدث الإمام الجوادعليه‌السلام عن مدى أثرها البالغ على أهل البيتعليهم‌السلام بقوله: لم يكن لنا بعد الطف - يعني كربلاء - مصرع أعظم من فخ(1) .

فقد حملت فيها رؤوس العلويين وتركت جثثهم في العراء، وسيقت الأسرى من بلد إلى بلد، وقد قيدوا بالحبال والسلاسل، ووضعوا في أيديهم وأرجلهم الحديد، وأدخلوا على الهادي العباسي فأمر بقتل بعضهم فقتلوا صبرا وصلبوا على باب الجسر ببغداد(2) .

ولم يكن عهد الرشيد بأحسن حالا، يقول الشيخ القرشي: وورث هارون من جده المنصور البغض العارم والعداء الشديد للعلويين، فقابلهم منذ بداية حكمه بكل قسوة وجفاء، وصب عليهم جام غضبه، وقد أقسم على استئصالهم وقتلهم، فقال: والله لأقتلنهم - أي العلويين - ولأقتلن شيعتهم.

وأرسل طائفة كبيرة منهم إلى ساحات الإعدام، ودفن قسما منهم وهم أحياء، وأودع الكثيرين منهم في ظلمات السجون، إلى غير ذلك من المآسي الموجعة التي صبها عليهم...

لقد كان الرشيد شديد الوطأة على عترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا على علم بمقته وبغضه لهم، فحينما علموا بخلافته هاموا على وجوههم

____________________

(1) سر السلسلة العلوية ص 14 - 15.

(2) تاريخ الطبري ج 8 ص 198 - 200 والكامل في التاريخ ج 6 ص 93.

١٠٩

في القرى والأرياف، متنكرين لئلا يعرفهم أحد(1) .

وقد أمر الرشيد حميد بن قحطبة أن يقتل ستين علويا في ليلة واحدة، روى الصدوق بسنده عن أبي الحسين أحمد بن سهل بن ماهان، قال: حدثني عبيد الله البزاز النيسابوري، وكان مسنا قال: كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت إليه في بعض الأيام فبلغه خبر قدومي، فاستحضرني للوقت وعلي ثياب السفر لم أغيرها، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر، فلما دخلت عليه رأيته في بيت يجري فيه الماء، فسلمت عليه وجلست فأتي بطشت وإبريق فغسل يديه، ثم أمرني فغسلت يدي، وأحضرت المائدة وذهب عني أني صائم، وأني في شهر رمضان، ثم ذكرت فأمسكت يدي، فقال لي حميد: مالك لا تأكل؟ فقلت: أيها الأمير هذا شهر رمضان، ولست بمريض ولا بي علة توجب الإفطار، ولعل الأمير له عذر في ذلك، أو علة توجب الإفطار، فقال: ما بي علة توجب الإفطار وإني لصحيح البدن، ثم دمعت عيناه وبكى، فقلت له بعد ما فرغ من طعامه: ما يبكيك أيها الأمير؟ فقال: أنفذ إلي هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب، فلما دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتقد وسيفا أخضر مسلولا، وبين يديه خادم واقف، فلما قمت بين يديه رفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت:

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفرعليهما‌السلام ج 2 ص 74 - 75.

١١٠

بالنفس والمال، فأطرق، ثم أذن لي في الانصراف، فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إلي وقال أجب أمير المؤمنين، فقلت في نفسي: إنا لله، أخاف أن يكون قد عزم على قتلي، وإنه لما رآني استحى مني، قعدت بين يديه فرفع رأسه إلي فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد، فتبسم ضاحكا، ثم أذن لي في الانصراف، فلما دخلت منزلي لم ألبث أن عاد إلي الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين فحضرت بين يديه وهو على حاله فرفع رأسه إلي وقال لي: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد والدين، فضحك، ثم قال لي: خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به الخادم، قال: فتناول الخادم السيف وناولنيه، وجاء إلى بيت بابه مغلق، ففتحه، وإذا فيه بئر في وسطه وثلاثة بيوت أبوابها مغلقة، ففتح باب بيت منه فإذا فيه عشرون نفسا عليهم الشعور والذوائب شيوخ وكهول وشبان مقيدون، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، وكانوا كلهم علوية من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فجعل يخرج إلي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه، حتى أتيت على آخرهم، ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر، ثم فتح باب بيت آخر فإذا فيه أيضا عشرون نفسا من العلوية، من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام مقيدون، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يخرج إلي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه، ويرمي به في تلك البئر، حتى

١١١

أتيت على آخرهم، ثم فتح باب البيت الثالث فإذا فيه مثلهم عشرون نفسا من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام مقيدون عليهم الشعور والذوائب، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء أيضا، فجعل يخرج إلي واحدا بعد واحد، فأضرب عنقه، ويرمى به في تلك البئر، حتى أتيت على تسعة عشر نفسا منهم، وبقي شيخ منهم عليه شعر، فقال لي: تبا لك يا ميشوم أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قتلت من أولاده ستين نفسا قد ولدهم علي وفاطمةعليهما‌السلام ؟ فارتعشت يدي وارتعدت فرايصي، فنظر إلي الخادم مغضبا وزبرني فأتيت على ذلك الشيخ أيضا فقتلته، ورمى به في تلك البئر، فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستين نفسا من ولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فما ينفعني صومي وصلاتي، وأنا لا أشك أني مخلد في النار(1) .

وقيل: إن هذه الواقعة حدثت في زمان المنصور، ولعلها تكررت، ولذا قال الصدوق: للمنصور مثل هذه الفعلة في ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) .

وعلى أي تقدير فإنها إحدى الشواهد على ما نقول.

وبعد: فإذا كان هكذا حال العلويين، فهل يبقى لأحدهم مجال للاقتران بواحدة من بنات الإمامعليه‌السلام ويستقر في حياة زوجية هانئة، وهو يعلم أن حياته في خطر؟!

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 108 - 111.

(2) عيون أخبار الرضا ج 1 ص 111.

١١٢

إن ما ذكرته بعض المصادر(1) من أن عدم تزويج الإمامعليه‌السلام بناته إنما هو لعدم وجود الكفؤ لم يكن على خلاف الواقع، فإن ما حل بأهل البيتعليهم‌السلام من الكوارث وحملات الإبادة قد أفنتهم ولم تدع منهم إلا القليل.

وربما يقال: إذا كان هذا حال العلويين ففي رجالات الشيعة من توفرت فيه سائر الشرائط، فلم لم يزوج الإمام الكاظمعليه‌السلام بناته من الشيعة، إذ ليس من الضروري أن يكون الزوج علويا ما دامت الكفاءة من الإيمان والخلق في غير العلوي متحققة؟

ونقول: إننا قد ذكرنا أن هناك أمرا آخر نعتبره مكملا للأمر الأول وهو الخوف من الإقدام على مصاهرة الإمامعليه‌السلام ، فلم يكن الشيعة آمنين على أرواحهم، وقد بلغهم أن هارون الرشيد قد أقسم على أن يقتل الشيعة كما أقسم على إبادة العلويين.

وقد عانى الشيعة من الشدائد ما لا يخفى، وكانوا يعيشون التقية في أمورهم كما أمرهم أئمتهمعليهم‌السلام بذلك، وأصبحت حياتهم آنذاك مهددة بالأخطار، وكان الحكام لهم بالمرصاد.

ومما يدل على ذلك ما ورد في أحوال محمد بن أبي عمير، حيث روي عن الفضل بن شاذان أنه قال: سعي بمحمد بن أبي عمير إلى السلطان أنه يعرف أسامي عامة الشيعة بالعراق، فأمره السلطان أن

____________________

(1) تاريخ قم ص 221 ومنتهى الآمال ج 2 ص 280 - 281.

١١٣

يسميهم فامتنع، فجرد وعلق بين القفازين (العقارين) وضرب مائة سوط، قال الفضل: فسمعت ابن أبي عمير يقول: لما ضربت فبلغ الضرب مائة سوط، أبلغ الضرب الألم إلي فكدت أن أسمي، فسمعت نداء محمد بن يونس بن عبد الرحمن يقول: يا محمد ابن أبي عمير أذكر موقفك بين يدي الله تعالى، فتقويت بقوله فصبرت ولم أخبر، والحمد لله.

وقال: ضرب ابن أبي عمير مائة خشبة وعشرين خشبة بأمر هارون لعنه الله، تولى ضربه السندي بن شاهك على التشيع...(1) ويدل على ذلك أيضا ما جاء في أحوال هشام بن الحكم، فإنه عاش في آخر أيامه مشردا حتى مات من الخوف في قصة طويلة ذكرها علماء الرجال(2) .

وغيرها من القضايا التي كان الشيعة فيها كأئمتهمعليهم‌السلام في المعاناة والخوف.

وإذا كان هذا حال الشيعة فهل ترى أن أحدا منهم يقدم على مصاهرة الإمامعليه‌السلام وقد تربصت العيون بهم الدوائر، والحكام في طلبهم وراء كل حجر ومدر؟

على أنه لم يثبت أن أحدا من العلويين أو من الشيعة تقدم لخطبة إحدى بنات الإمامعليه‌السلام فقوبل بالرفض.

____________________

(1) معجم رجال الحديث ج 15 ص 294 - 295.

(2) معجم رجال الحديث ج 20 ص 301 - 306.

١١٤

هذا ما نرجحه من الأسباب وراء عدم تزويج بنات الإمامعليه‌السلام ، ومنهم السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام .

وهناك احتمالان آخران يختصان بها، وقد يشاركها بعض أخواتها فيهما.

أحدهما: أنها وأباها وأخاها يعلمون أن عمرها قصير، فإن وفاتهاعليها‌السلام كانت سنة 201 هـ فيكون عمرها على أكثر الاحتمالات أقل من ثلاثين عاما، وهو عمر قصير بالقياس إلى الأعمار المتعارفة.

وحيث كانت تعلم بذلك فلم يكن لديها ما يرغبها في الزواج.

وثانيهما: أنها لما كانت تشاهد ما يجري على أهل بيتها وبني عمومتها من حكام بني العباس من القتل والسجن والتشريد، وما يلاقيه أبوها وأخوها من الإيذاء عزفت نفسها عن الزواج، ومن الطبيعي أن في عدم الاطمئنان في الحياة صارفا قويا عن الزواج.

هذا ولعل هناك سببا أو أسبابا أخرى وراء ذلك لم ندركها، وكما ذكرنا أن الأمر شأن خاص قد أريد إخفاء سره عن الناس.

المآسي والآلام:

إن من أقسى ما مر على أهل البيتعليهم‌السلام في تاريخهم الحافل بالمآسي والآلام أن الأيدي الآثمة قد تجاوزت الحد في خصومتها وعدوانها عليهم، فامتدت لتهتك حرماتهم، وتكشف أستارهم،

١١٥

وتعتدي على نسائهم بالضرب والسلب والنهب والأسر والتشهير.

وليس بعد قتل المعصوم ما هو أفظع وأفجع مما جرى على بنات الرسالة وعقائل الوحي، وإذا كان المتآمرون في السقيفة قد وضعوا الأساس حيث استطالت أيديهم فضربوا الزهراءعليها‌السلام ، وهي بضعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووكزوها بالسيف وأسقطوا حملها في وحشية عدم فيها الضمير، وإذا كان الأمويون قد ساقوا بنات الزهراء أسارى بعد السلب والنهب، فإن بني العباس جاؤوا ليكملوا ما تبقى من حلقات هذا المسلسل، بل زادوا على أولئك في التعدي والعدوان، فقد مر علينا أن أسرى واقعة فخ لما جئ بهم إلى الهادي العباسي وأدخلوا عليه وهم مقيدون بالحبال والسلاسل ووضعوا أيديهم وأرجلهم في الحديد أمر بقتل بعضهم فقتلوا صبرا وصلبوا بباب الجسر ببغداد(1) .

وقد اعترف المأمون بأن بني العباس فاقوا بني أمية في عدوانهم وظلمهم للعلويين، فقال: فأخفناهم، وضيقنا عليهم، وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم.

ويحكم إن بني أمية إنما قتلوا منهم من سل سيفا، وإنا معشر بني العباس قتلناهم جملا، فلتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت؟

ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء(2) ....

____________________

(1) تاريخ الطبري ج 8 ص 198 - 200 والكامل في التاريخ ج 6 ص 93.

(2) الطرائف ج 1 ص 278.

١١٦

وقد ذكرنا فيما تقدم شيئا مما لاقاه العلويون من بني العباس، والغرض في المقام أن نذكر شيئا مما لاقاه العلويات، ونكتفي بما يرتبط بالسيدة المعصومةعليها‌السلام وما نالها من عدوان بني العباس.

اتفق الرواة على أن محمد بن جعفر خرج في زمان الرشيد أو المأمون، وأعلن الدعوة إلى نفسه، - وقد حذره الإمام الرضاعليه‌السلام من مغبة ذلك وأخبره بأنه أمر لا يتم وأن حركته فاشلة -، فأرسل العباسيون جيشا بقيادة عيسى بن يزيد الجلودي وأمروه إن ظفر به أن يضرب عنقه، وأن يغير على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم، ولا يدع على واحدة منهن إلا ثوبا واحدا، ففعل الجلودي ذلك، وقد كان مضى أبو الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام ، فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضاعليه‌السلام (و) هجم على داره مع خيله، فلما نظر إليه الرضا جعل النساء كلهن في بيت ووقف على باب البيت، فقال الجلودي لأبي الحسنعليه‌السلام : لا بد من أن أدخل البيت فاسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين، فقال الرضاعليه‌السلام : أنا أسلبهن لك، وأحلف أني لا أدع عليهن شيئا إلا أخذته، فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتى سكن، فدخل أبو الحسن الرضاعليه‌السلام فلم يدع عليهن شيئا حتى أقراطهن وخلاخيلهن وأزرهن إلا أخذه منهن، وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير(1) .

ترى ما حال تلك النسوة آنذاك؟! وما حال الإمام علي بن موسى

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 161.

١١٧

الرضاعليهما‌السلام وهو يرى بنات الرسالة وقد سلبن كل شئ؟

وهل تظن أن الجلودي اكتفى بالهجوم على بيت الإمام الرضاعليه‌السلام دون بقية دور آل أبي طالب؟

والذي ذكرته الروايات أن الجلودي أمر بالغارة على دور آل أبي طالب، وأن يسلب نساءهم، والجلودي كان خادما مخلصا لبني العباس، ولا أظن أنه اكتفى بذلك، بل هجم على بقية الدور، وربما سلب النساء بنفسه، وإن لم تفصح الروايات عن ذلك.

والذي يؤيد ما ذكرنا ما جاء في نفس هذه الرواية، من أنه لما أدخل الجلودي على المأمون، وكان الإمام الرضاعليه‌السلام حاضرا وأراد الإمام أن يشفع فيه، فقالعليه‌السلام : يا أمير المؤمنين هب لي هذا الشيخ، فقال المأمون: يا سيدي هذا الذي فعل ببنات محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما فعل من سلبهن(1) .

فإن فيه إشعاراً بذلك.

وإذا كانت الخصومة بين الرجال فما بال النسوة؟ وما هي جنايتهن ليفعل بهن ذلك؟ وهن بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وودائع النبوة!!!

وإذا لم يكن الدين رادعا ولا الضمير وازعا فلا أقل أن النسب يكون صارفا فإن لهن رحما قريبة بأولئك المتسلطين ولكن...

وعلى أي حال فقد نال السيدة فاطمة المعصومةعليها‌السلام من الخوف

____________________

(1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 161.

١١٨

والترويع والظلم ما جعل أيام حياتها القصيرة تمتزج بالآلام والأحزان والمآسي.

لوعة الوداع:

قد يتوهم البعض بأن الإمام الرضاعليه‌السلام عاش حياة مستقرة آمنة، ولا سيما أنه أمضى السنوات الأخيرة من عمره في البلاط العباسي، فكان في مأمن من ملاحقة السلطة، بل في موقع الزعامة حيث بويع بولاية العهد، فكان الرجل الثاني في دولة واسعة مترامية الأطراف، ولم يكن هناك ما يخشاه.

ولكن الحقيقة أمر آخر غير هذا الظاهر، فإن أقسى السنوات التي مرت عليه هي السنوات الأخيرة من عمره، وعاش في حصار قد فرض عليه لم يستطع الخلاص منه، حتى قيل إن الإمام الرضاعليه‌السلام كان أكثر الأئمةعليهم‌السلام عملا بالتقية، لشدة ما عاناه من سلطة بني العباس.

وتؤكد الدلائل والشواهد التاريخية على أن السياسة العباسية جعلت من الإمام وسيلة لتحقيق أهدافها، حتى إذا بلغت ما أرادته نكبت به، كما نكبت بآبائه من قبله، وبأبنائه من بعده.

إن ما فعله هارون الرشيد وأسلافه من قبله بالعلويين من القهر والبطش والإبادة والتشريد، وما تمخض عن ذلك من الثورات العلوية في أطراف البلاد، ومن النقمة العامة على الحكم العباسي حتى قال

١١٩

أحد الشعراء:

يا ليت ظلم بني مروان دام لنا

وكان عدل بني العباس في النار

كما أن الصراع الدامي بين المأمون وأخيه الأمين الذي أسفر عن مقتل الأخير، وانتقال إدارة الحكم من بغداد العاصمة العباسية إلى منطقة أخرى، واعتماد المأمون على الفرس دون العرب في إدارة شؤون الحكم، الذي أثار نقمة العباسيين وغضبهم عليه، مضافا إلى شعوره بالنقص لكونه ابن أمة فارسية وغير ذلك من الأمور(1) .

جعلت من المأمون ابن الرشيد - وكان ذا نباهة وفطنة وحنكة ودهاء - أن يتنبه ويتخذ سياسة جديدة تخالف في ظاهرها سياسة سلفه، يخمد بها غضب الناقمين، ويحتوي تلك الحركات المناوئة، ويحقق لحكومته استقرارا سياسيا، ويضمن لسلطته قوة تحميه من العباسيين، فيما لو فكروا في مناهضته كما يحقق أغراضا أخرى، ليتمتع بسلطة لا يشعر معها باضطراب، كما كان آباؤه يشعرون بذلك.

وكان الموقف يتطلب منه جرأة في اتخاذ القرار، وحزما في تنفيذه، ومضيا في عزمه.

وأول إجراء اتخذه بعد أن قضى على أخيه الأمين أنه أظهر ميله للعلويين، وكانت هذه البادرة غريبة لم تعهد من حاكم عباسي، الأمر الذي أثار التوجس عند سائر بني العباس، ودفعهم إلى الاعتراض بل

____________________

(1) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام ص 149.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130