تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة28%

تجلي القرآن في نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 130

تجلي القرآن في نهج البلاغة
  • البداية
  • السابق
  • 130 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70105 / تحميل: 8282
الحجم الحجم الحجم
تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

التي تدور فيها » ١ .

و روي عنه عليه السلام هذا المعنى بلفظ آخر هكذا : « و إنّه و الله ليعلم أنّي أولى بها منّي بقميصي » ٢ .

قال دعبل :

حللت محلاّ يقصر الطرف دونه

و يعجز عنه الطيف أن يتجشّما

و لقد أجاد الناشى‏ء فقال فيه عليه السّلام :

و صارمه كبيعته بخم

مقاصدها من الخلق الرقاب

و لقد أجاد وفائي التستري فيه عليه السلام بالفارسية :

جز بتو آراستن سرير خلافت

نسبت افسر بمستحق فسار است

و روى الكنجي الشافعي في ( مناقبه ) عن سعيد بن المسيب قال : قلت لسعد أبن أبي وقاص : إنّي أريد أن أسألك عن شي‏ء و إنّي أتّقيك . قال : سل عمّا بذالك . فإنّما أنا ابن عمّك . قلت : مقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيكم يوم الغدير . قال : نعم قام فينا بالظهيرة فأخذ بيد علي بن أبي طالب . فقال : « من كنت مولاه فعلي مولاه . اللهمّ وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره » فقال أبو بكر و عمر : أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كلّ مؤمن و مؤمنة ٣ .

و روى الجزري في ( اسده ) في وهب بن حمزة مسندا عنه قال : صحبت عليا عليه السّلام من المدينة إلى مكّة . فرأيت منه بعض ما أكره . فقلت : لئن رجعت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأشكونك إليه . فلمّا قدمت لقيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقلت : رأيت من عليّ

ــــــــــــــــ

( ١ ) جمهرة اللغة ١ : ٣٠٨ ، مادة ( بطق )

( ٢ ) رواه المفيد في اماليه : ١٥٣ ح ٥ ، المجلس ١٩ ، و لفظه : « قد علم و الله انى اولى الناس بهم مني بقميصي » و رواه غيره أيضا .

( ٣ ) كفاية الطالب : ١٦ .

٢١

كذا و كذا . فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : لا تقل هذا فهو أولى الناس بعدي ١ .

و في ( مروج المسعودي ) : لمّا صرف عليّ عليه السّلام قيس بن سعد بن عبادة عن مصر وجّه مكانه محمّد بن أبي بكر . فلمّا وصل إليها كتب إلى معاوية « من محمّد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر إلى أن قال فكان أوّل من أجاب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و أناب ، و آمن و صدّق ، و أسلم و سلّم أخوه و ابن عمّه عليّ بن أبي طالب صدّقه بالغيب المكتوم ، و آثره على كلّ حميم ، و وقاه بنفسه كلّ هول ، و حارب حربه و سالم سلمه ، فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الليل و النهار ، و الخوف و الجزع حتّى برز سابقا لا نظير له في من اتّبعه ، و لا مقارب له في فعله ، و قد رأيتك تساميه ، و أنت أنت ، و هو هو أصدق الناس نيّة ، و أفضل الناس ذرّية ، و خير الناس زوجة ، و أفضل الناس ابن عم ، و أخوه الشاري بنفسه يوم موته ، و عمّه سيد الشهداء يوم احد ، و أبوه الذابّ عن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و عن حوزته ، و أنت اللعين أبن اللعين ، لم تزل أنت و أبوك تبغيان لرسول الله صلّى اللّه عليه و آله الغوائل ، و تجهدان في إطفاء نور الله . تجمعان على ذلك الجموع ، و تبذلان فيه المال ، و تؤلّبان عليه القبائل . على ذلك مات أبوك و عليه خلفته ، و الشهيد عليك من تدني ، و يلجأ إليك من بقيّة الأحزاب ، و رؤساء النفاق ،

و الشاهد لعلي مع فضله المبين القديم أنصاره الّذين معه الّذين ذكرهم الله و أثنى عليهم من المهاجرين و الأنصار ، و هم كتائب ، و عصائب يرون الحق في اتباعه ، و الشقاء في خلافه . فكيف يا ويلك تعدل نفسك بعليّ عليه السّلام ، و هو وارث رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و وصيّه ، و أبو ولده أوّل الناس له اتّباعا ، و أقربهم به عهدا يخبره بسره ، و يطلعه على أمره ، و أنت عدّوه و ابن عدّوه . فتمتّع في دنياك بباطلك ، و ليمددك ابن العاص في غوايتك إلى أن قال

ــــــــــــــــ

( ١ ) اسد الغابة ٥ : ٩٤ .

٢٢

فكتب إليه معاوية : « من معاوية بن صخر إلى الزاري على أبيه محمّد بن أبي بكر . أمّا بعد ، فقد أتاني كتابك تذكر فيه ما الله أهله في عظمته و قدرته . و ما اصطفى به رسوله ، مع كلام كثير لك فيه تضعيف ، و لأبيك فيه تعنيف ، ذكرت فيه فضل ابن أبي طالب ، و قديم سوابقه ، و قرابته إلى الرسول ، و مواساته إيّاه في كلّ هول و خوف فكان احتجاجك عليّ و عيبك بفضل غيرك لا بفضلك .

فاحمد ربّا صرف هذا الفضل عنك ، و جعله لغيرك . فقد كنّا و أبوك فينا نعرف فضل ابن أبي طالب و حقّه ، لازما لنا مبروما علينا ، فلمّا اختار الله لنبيّه ما عنده ،

و أتمّ له ما وعده ، و أظهر دعوته و أفلج حجّته ، و قبضه إليه ، كان أبوك و فاروقه أوّل من ابتزه حقّه ، و خالفه على أمره . على ذلك اتفقا و اتّسقا . ثم إنّهما دعواه إلى بيعتهما فأبطا عنهما ، و تلكّأ عليهما ، فهمّا به الهموم ، و أرادا به العظيم ثمّ انّه بايع لهما ، و سلّم لهما ، و أقاما لا يشركانه في أمرهما ، و لا يطلعانه على سرّهما حتّى قبضهما إليه . ثم قام ثالثهما عثمان فهدى بهديهما ، و سار بسيرهما . فعبته أنت ، و صاحبك . حتّى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي ،

فطلبتما له الغوائل ، و أظهرتما عداوتكما حتى بلغتما فيه مناكما . فخذ حذرك يا ابن أبي بكر ، و قس شبرك بفترك . تقصر أن توازي أو تساوي من يزن الجبال بحلمه ، لايلين لمن قسر قناته ، و لا يدرك ذو مقال أناته ، مهّد أبوك مهاده و بنى ملكه و شاده ، فإن يك ما نحن فيه صوابا ، فأبوك أسسّه و نحن شركاؤه ،

و لو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ، و لسلّمنا إليه ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا . فأخذنا بمثله . فعب أباك بما بدالك أو دع ذلك ١ .

و رواه نصر بن مزاحم في ( صفّينه ) ، و فيه : « فإن يكن ما نحن فيه صوابا ، فأبوك أوّله ، و إن يك جورا ، فأبوك اسّسه ، و نحن شركاؤه ، و بهديه

ــــــــــــــــ

( ١ ) مروج الذهب ٣ : ١١ ، و النقل بتصرف يسير .

٢٣

أخذنا ، و بفعله اقتدينا و لو لا ما سبقنا إليه أبوك ، ما خالفنا ابن أبي طالب و أسلمنا له ، و لكنّا رأينا أباك فعل ذلك . فاحتذينا بمثاله ، و اقتدينا بفعاله . فعب أباك ما بدا لك أو دع » ١ .

و من العجب أن الطبري قال : لم أجز نقل هذا الكتاب لعدم احتمال العامّة له ٢ . فيقال له : لا يحتمله إلاّ من انسلخ عن الإنسانية ، و جوّز التناقض و التضاد ،

و إنكار المتواترات ، و عدم بطلان الملزوم مع بطلان اللازم في دين الاسلام ،

و لازم صحّة خلافة أبي بكر و عمر و عثمان كون معاوية على الحق و هو هو و عليّ عليه السلام على الباطل و هو هو . أفّ لهم و لما يعبدون من دون اللّه .

و نقل ( طرائف ابن طاووس ) عن ( أنساب البلاذري ) : انّ الحسين عليه السلام لما قتل كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية : أما بعد فقد عظمت الرزيّة ،

و جلّت المصيبة ، و حدث في الإسلام حدث عظيم ، و لا يوم كيوم الحسين .

فكتب إليه يزيد : يا أحمق فانّا جئنا إلى بيوت متخذة ، و فرش ممهّدة ، و وسائد منضّدة . فقاتلنا عليها ، فان يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا ، و ان يكن الحق لغيرنا فأبوك أوّل من سنّ هذا و آثر و استأثر بالحق على أهله ٣ .

و لازم صحّة خلافة أبي بكر كون قتل يزيد السكّير القمّير للحسين سيّد شباب أهل الجنّة بالتواتر عن النبيّ صلى الله عليه و آله و ابن الرسول صلى الله عليه و آله بقوله جلّ و علا و أبناءنا و أبناءكم ٤ و من أهل بيت العصمة بنصّ القرآن انّما يريد

ــــــــــــــــ

( ١ ) وقعة صفين : ١٢٠ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٣ : ٥٥٧ ، سنة ٣٦ .

( ٣ ) رواه ابن طاووس في الطرائف ١ : ٢٤٨ ح ٣٤٨ ، لكن لم يوجد في ترجمة الامام الحسين عليه السلام و لا يزيد بن معاوية من انساب الاشراف .

( ٤ ) آل عمران : ٦١ .

٢٤

اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ١ حقّا ، و كفاهم بذلك خزيا .

و في ( الطبري ) : لما كتب عبيد اللّه بن زياد مع مالك بن النسير البديّ الكندي إلى الحرّ « جعجع بالحسين حين يبلغك كتابي » نظر إليه أبو الشعثاء الكندي من أصحاب الحسين عليه السلام و قال له : ثكلتك أمّك ماذا جئت فيه ؟ قال :

أطعت إمامي و وفيت بيعتي . قال له أبو الشعثاء : كسبت العار و النار ، قال الله عزّ و جلّ : و جعلناهم أئمّة يدعون إلى النار و يوم القيامة لا ينصرون ٢ .

و في ( الطبري ) : أن الشيعة الّذين كانوا أصحاب جعفر بن محمّد قالوا لزيد بن عليّ لمّا أراد الخروج : ما قولك في أبي بكر و عمر ؟ قال : إنّ أشدّ ما أقول إنّا كنّا أحقّ بسلطان رسول الله صلى الله عليه و آله من الناس أجمعين ، و إنّ القوم استأثروا علينا ، و دفعونا عنه ، و لم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا قالوا : فلم يظلمك هؤلاء إذا كان اولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين ؟ ٣ و قولهم عين الحق . فإنّ المؤسس لبني اميّة هم الثلاثة أليس الثاني أحدث شورى لاختيار الثالث ؟ أليست خلافة الثالث عين سلطنة بني اميّة ؟

ثم الظاهر انّ زيدا اتّقى باقي أصحابه ، فروى عنه أيضا انّه سأله رجل عن الرجلين ، فلم يجبه . فلمّا وقع السهم في جبينه دعا الرجل ، و قال : لم يرمني بهذا السهم إلاّ الرجلان ٤ .

و روى محمّد بن الحسن الصفار في ( بصائره ) عن الباقر عليه السلام في قوله جلّ و علا : انّا عرضنا الأمانة على السموات و الأرض و الجبال فأبين أن

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاحزاب : ٣٣ .

( ٢ ) تاريخ الطبري ٤ : ٣٠٨ ، سنة ٦١ ، و النقل بتلخيص . و الآية ٤١ من سورة القصص .

( ٣ ) تاريخ الطبري ١٥ : ٤٩٨ ، سنة ١٢٢ ، و النقل بتلخيص .

( ٤ ) روى هذا المعنى الهمداني في الالفاظ الكتابية : ١٤٣ .

٢٥

يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان انّه كان ظلوما جهولا ١ : الأمانة :

الولاية حملها أبو فلان ، و أبت السماوات و الأرض و الجبال حملها ٢ .

و قال الزبير بن بكار : روى محمد بن اسحق انّ أبا بكر لمّا بويع افتخرت تيم بن مرّة ، و كان عامّة المهاجرين ، و جلّ الأنصار لا يشكّون أن عليّا عليه السّلام هو صاحب الأمر بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله . فقال الفضل بن العباس : يا معشر قريش ،

و خصوصا يا بنى تيم إنّكم إنّما أخذتم الخلافة بالنبوّة ، و نحن أهلها دونكم إلى أن قال و انّا لنعلم انّ عند صاحبنا عهدا هو ينتهي إليه ٣ .

و روى الواقدي في ( شوراه ) كما نقله ابن أبي الحديد عند قوله عليه السّلام :

« و من كلام له عليه السّلام و قد وقع بينه و بين عثمان مشاجرة » عن ابن عباس قال :

شهدت عتاب عثمان لعليّ عليه السّلام إلى أن قال قال عثمان لعلي عليه السّلام : فإن كنت تزعم انّ هذا الأمر جعله رسول الله صلّى اللّه عليه و آله لك ، فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت إلى أن قال فقال له عليّ عليه السّلام : و امّا عتيق و ابن الخطاب . فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله صلّى اللّه عليه و آله لي . فأنت أعلم بذلك و المسلمون ٤ .

و روى الزبير بن بكار في ( موفقياته ) و ( الطبري في تاريخه ) في سيرة عمر ، عن عبد الله بن عمر قال : كنت عند أبي يوما ، و عنده نفر من الناس . فجرى ذكر الشعر فقال : من أشعر العرب ؟ فقالوا : فلان و فلان . فطلع ابن عباس . فقال عمر : جاء الخبير . من أشعر الناس يا عبد الله ؟ قال : زهير ابن أبي سلمى . قال :

فأنشدني مما تستجيده له . فقال : انّه مدح قوما من غطفان يقال لهم بنوسنان .

فقال فيهم :

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاحزاب : ٧٢ .

( ٢ ) بصائر الدرجات : ٩٦ ح ٣ ، و النقل بالمعنى .

( ٣ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٢ : ٨ ، شرح الخطبة ٦٥ .

( ٤ ) شرح ابن أبي الحديد ٢ : ٣٧٧ ، شرح الخطبة ١٣٣ .

٢٦

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم

قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا

قوم سنان ابوهم حين تنسبهم

طابوا و طاب من الأولاد ما ولدوا

انس اذا آمنوا جنّ اذا فزعو

مرزؤن بها ليل إذا جهدوا

محسّدون على ما كان من نعم

لا ينزع اللّه عنهم ماله حسدوا

فقال عمر : قاتله اللّه لقد أحسن ، و لا أرى هذا المدح يصلح إلاّ لهذا البيت من هاشم لقرابتهم من رسول اللّه . فقال له ابن عباس : و فّقك اللّه . فلم تزل موفّقا .

قال : يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم ؟ قال : لا . قال : لكنّي أدري . قال :

ما هو ؟ قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوّة و الخلافة فتجحفوا الناس جحفا ، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ، و وفّقت فأصابت . فقال ابن عباس :

أتميط عنيّ غضبك فأقول ؟ قال : قل ما تشاء . قال : أمّا قولك إن قريشا كرهت فإن الله تعالى قال لقوم ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ١ ،

و اما قولك إنّا كنّا نجحف بالخلافة فلو جحفنا بالقرابة ، و لكنّا قوم أخلاقنا مشتقّة من خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي قال تعالى له : و انّك لعلى خلق عظيم ٢ و قال تعالى له صلّى اللّه عليه و آله : و اخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين ٣ و اما قولك : انّ قريشا اختارت فإن الله تعالى يقول : و ربّك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة ٤ ، و قد علمت انّ اللّه تعالى اختار من خلقه لذلك من اختار . فلو نظرت قريش لنفسها من حيث نظر الله لها لوفّقت و أصابت . فقال عمر : « على رسلك يا ابن عباس . أبت قلوبكم يا بنى هاشم إلاّ غشّا في أمر قريش لا يزول و حقدا عليها لا يحول » .

ــــــــــــــــ

( ١ ) محمد : ٩ .

( ٢ ) القلم : ٤ .

( ٣ ) الشعراء : ٢١٥ .

( ٤ ) القصص : ٦٨ .

٢٧

فقال ابن عباس : « مهلا ، لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغشّ . فإنّ قلوبهم من قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي طهّره اللّه ، و زكّاه ، و هم أهل البيت الّذين قال تعالى فيهم إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ١ و أما قولك : حقدا ، فكيف لا يحقد من غصب شيئه ، و يراه في يد غيره . فقال عمر : « أما أنت يا ابن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي » قال : و ما هو ؟ اخبرني . فإن يك باطلا فمثلي يميط الباطل عن نفسه ، و إن يك حقّا فإنّ منزلتي عندك لا تزول به . قال عمر : بلغني أنّك لا تزال تقول اخذ هذا الأمر منّا حسدا و ظلما . قال : أمّا قولك حسدا فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنّة . فنحن بنو آدم المحسود ، و امّا قولك ظلما فأنت تعلم صاحب الحقّ من هو . ثم قال : ألم تحتجّ العرب على العجم بحقّ رسول اللّه ، و احتجّت قريش على سائر العرب بحقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ فنحن أحقّ برسول اللّه من سائر قريش . فقال عمر : قم الآن فارجع إلى منزلك . فقام ، فلمّا ولى هتف به عمر أيّها المنصرف إنّي على ما كان منك لراع حقّك . فالتفت ابن عباس فقال : انّ لي عليك ، و على كلّ المسلمين حقّا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فمن حفظه فحقّ نفسه حفظ ، و من أضاعه فحقّ نفسه أضاع . ثم مضى . فقال عمر لجلسائه : و اها لابن عباس ما رأيته لاحى أحدا قط إلاّ خصمه ٢ .

و أقول : لله در ابن عباس أدّى حقّ الكلام ، و هل ما قاله لعمر إلاّ عين ما تقوله الإمامية للسنّة من أنّ قريشا ، و في رأسهم صدّيقهم و فاروقهم ، كرهوا ما أنزل اللّه تعالى من استخلاف أمير المؤمنين عليه السّلام فأحبط اللّه أعمالهم ، و أنّهم

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاحزاب : ٣٣ .

( ٢ ) رواه الزبير بن بكار في الموفقيات ، و عنه شرح ابن أبي الحديد ٣ : ١٠٦ ، شرح الخطبة ٢٢٦ ، و الطبري في تاريخه ٣ : ٢٨٨ ، سنة ٢٣ ، و النقل بتصرف يسير .

٢٨

علموا من اختاره اللّه تعالى فتركوه عمدا ، و أنه ما كان لهم اختيار الإمام بل لله تعالى كاختيار النبيّ ، و أن أمير المؤمنين ، و أهل بيته عليه السّلام هم الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس ، و طهّرهم تطهيرا ، و أن أخلاقهم كأخلاق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قلوبهم كقلبه و أنهم حسدوهم ، و ظلموهم .

و أقول لعمر ، زيادة على ما قال ابن عباس : لم لا تقول : « أصابت قريش و وفّقت في اختيارها » و لو لم يكن فعلها لما كنت أنت و صاحبك تؤمّران على العالم .

و يا للّه من عرّ عمر . تارة ينسب إلى بني هاشم و مغزى كلامه و مرماه أمير المؤمنين عليه السّلام الغشّ ، و قد أخذه عنه معاوية ، و اخرى العجب و الجحف ،

و قد أخذ ذلك عنه ابن الزبير ، فكان لا يصلّى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في صلاته و خطبته و يقول : لئلا يشمخ أهله بآنافهم . و ثالثة الحرص و أخذه عنه ابن عوف يوم الشورى ، و رابعة الدعابة أخذه ابن النابغة . فكان يزعم ذلك لأهل الشام .

و روى الجوهري في ( سقيفته ) عن ابن عباس قال : تفرّق الناس ليلة الجابية عن عمر . فسار كلّ واحد مع إلفه . ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته فشكا إليّ تخلّف عليّ عليه السلام عنه إلى أن قال قال عمر : يا ابن عباس أوّل من ريّثكم عن هذا الأمر أبو بكر أنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوّة ، قلت : لم ذاك ألم تنلهم خيرا ؟ قال : بلى ، و لكنّهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفا ١ .

قلت : سبحان اللّه إعتقد عمر أنّ خلافة الإسلام بيد جمع أنكروا نبوّة نبي الإسلام حتّى قهرهم بالسيف ، فأسرّوا كفرهم به و أظهروه بعد وفاته .

و روى الزبير بن بكار في ( موفقياته ) عن ابن عباس قال : إني لأماشي

ــــــــــــــــ

( ١ ) السقيفة : ٥٢ ، و النقل بتلخيص .

٢٩

عمر بن الخطاب في سكّة من سكك المدينة إذ قال لي : يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلاّ مظلوما . فقلت في نفسي : و اللّه لا يسبقني بها . فقلت : فاردد إليه ظلامته . فانتزع يده من يدي ، و مضى يهمهم ساعة . ثم وقف فلحقته . فقال : يا ابن عباس ما أظنّ منعهم عنه إلاّ انّه استصغره قومه . فقلت في نفسي : هذه شرّ من الاولى . فقلت : و اللّه ما استصغره اللّه و رسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك . فأعرض عنّي و أسرع . فرجعت عنه ١ .

و في ( فهرست ابن النديم ) : قال هشام بن الحكم : ما رأيت مثل مخالفينا عمدوا إلى من ولاّه اللّه من سمائه فعزلوه ، و إلى من عزله من سمائه فولّوه ٢ .

و روى الزبير بن بكار أيضا في ( الموفّقيات ) : عن ابن عباس قال : كنت عند عمر . فتنفّس نفسا ظننت أنّ أضلاعه قد انفرجت . فقلت له : ما أخرج هذا النفس منك إلاّ هم شديد . فقال أي : و الله يا ابن عباس إنّي افتكرت فلم أدر في من أجعل هذا الأمر من بعدي . ثم قال : لعلّك ترى صاحبك لها أهلا قلت : و ما يمنعه من ذلك مع جهاده و سابقته و قرابته و علمه ، قال : صدقت و لكنّه امرؤ فيه دعابة إلى أن قال قال عمر : من ان وليها يحملهم على كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم لصاحبك أما ان ولي أمرهم حملهم على المحجّة البيضاء و الصراط المستقيم ٣ .

قلت : سبحان اللّه مع اعترافه بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لو ولي الأمر يحملهم على كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم ، و على المحجّة البيضاء و الصراط المستقيم كيف دبّر الأمر لعثمان الّذي كان يعرف أنّه لو ولي يردّهم إلى

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه عنه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١٠٥ ، شرح الخطبة ٢٢٦ .

( ٢ ) تكملة الفهرس : ٢٢٤ .

( ٣ ) رواه ابن أبي الحديد في شرحه ٣ : ١٠٦ ، شرح الخطبة ٢٢٦ ، لكن لا عن الزبير بن بكار بل روى حديثا آخر قبل هذا عن موفقيات الزبير بن بكار و النقل بتصرف يسير .

٣٠

الجاهلية الاولى ؟ و كيف لا و ساعة جلوسه في الخلافة جاهر أبو سفيان في محضره : يا بني اميّة تداولوها تداول الكرة فلا جنّة و لا نار .

و أمّا رميه له عليه السلام بالدعابة ، فإنّما كان لأنّه عليه السلام لم يكن مثله عبوسا بصفة الجبّارين ، بل كان بشره في وجهه الّذي هو صفة المؤمنين .

و روى ابو عمر في ( استيعابه ) عن ابن عمر . قال : قال عمر لأهل الشورى : لله درّهم إن ولّوها الأصيلع كيف يحملهم على الحقّ ، و لو كان السيف على عنقه . فقلت : أتعلم ذلك منه و لا تولّيه . قال : إن لم أستخلف فأتركهم ، فقد تركهم من هو خير منّي ١ .

قلت : يالله للجواب ، و لحمق أتباعه ، لكن لا غرو . قال تعالى في فرعون :

فاستخفّ قومه فأطاعوه ٢ ، و لو كان الأمر كما ذكروا من عدم لزوم تعيين النبي لخليفته و تكون بيعة الناس تجعل انسانا إماما يكون من خالفه خارجيا مباح الدم يلزم أن يصير ولي اللّه عدّوا لله ، و بالعكس لو بايع الناس مخالف الأول مع كون عملهما مع اللّه تعالى بعد ذلك عملهما معه جلّ و علا قبل بلا تغيير و لا تبديل ، و لا زيادة و لا نقصان .

و لمّا حارب المهلب مع الخوارج بسولاف من قبل مصعب بن الزبير ثمانية أشهر ثم قتل مصعب بلغ ذلك الخوارج ، و لم يبلغ المهلّب و أصحابه فناداهم الخوارج ألا تخبروننا ما قولكم في مصعب ؟ قالوا : إمام هدى . قالوا :

فهو وليّكم في الدنيا و الآخرة . قالوا : نعم . قالوا : فما قولكم في عبد الملك بن مروان ؟ قالوا : ذلك اللعين ابن اللعين نحن إلى اللّه منه براء ، و هو عندنا أحلّ دما منكم . قالوا : فأنتم منه براء في الدنيا و الآخرة ، قالوا : نعم . كبراءتنا منكم . قالوا :

ــــــــــــــــ

( ١ ) الاستيعاب ٣ : ٦٤ .

( ٢ ) الزخرف : ٥٤ .

٣١

و أنتم له أعداء أحياء و أمواتا . قالوا : نعم . نحن له أعداء كعداوتنا لكم . قالوا : فإنّ إمامكم مصعبا قد قتله عبد الملك ، و نراكم ستجعلون غدا عبد الملك إمامكم و أنتم لا تتبرّؤون منه و تلعنون أباه . قالوا : كذبتم يا أعداء اللّه . فلّما كان من الغد تبيّن لهم قتل مصعب . فبايع المهلّب الناس لعبد الملك . فأتتهم الخوارج فقالوا :

ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : يا أعداء اللّه لا نخبركم ما قولنا فيه ، و كرهوا أن يكذّبوا أنفسهم عندهم قالوا : فقد أخبرتمونا أمس أنّه وليّكم في الدنيا و الآخرة ، و أنّكم أولياؤه أحياء و أمواتا ، فأخبرونا ما قولكم في عبد الملك ؟

قالوا : ذاك إمامنا و خليفتنا و لم يجدوا إذ بايعوه بدّا من أن يقولوا هذا القول .

فقالت لهم الأزارقة : يا أعداء اللّه أنتم أمس تتبرؤون منه في الدنيا و الآخرة ،

و تزعمون أنّكم له أعداء أحياء و أمواتا . و هو اليوم إمامكم و خليفتكم ، و قد قتل إمامكم الّذي كنتم تتولّونه ، فأيهما المحق و أيهما المبطل ؟ و أيّهما المهتدي ،

و أيّهما الضالّ ؟ قالوا لهم : يا أعداء اللّه رضينا بذلك إذ كان وليّ أمورنا ،

و نرضى بهذا كما رضينا بذالك . قالوا لهم : لا و الله ، و لكنّكم إخوان الشياطين ،

و أولياء الظالمين ، و عبيد الدنيا .

و أقول للخوارج : إنّ ذلك يلزم عليكم بعد إقراركم بإمامة صديقكم و فاروقكم ، و خروجكم عن الإلتزام بلازمه لكونه واضح البطلان التزام بالتضاد و التناقض ، و خلاف المعقول . فمن أقرّ بملزوم لابد أن يقرّ بلازمه .

و أقول لفاروقهم قولك : « إن لم أستخلفهم فأتركهم فقد تركهم من هو خير منّي » مضحك للثكى . فكيف تركهم فقد أراد كتابة وصيّة و تعيين وصيّه كتابة حتّى لا يمكنك إنكاره ، و كنت تعرف ذلك كما أقررت به في اعتذارك عن منعه . فقلت : ان الرجل ليهجر حسبنا كتاب الله ، مع عدم معرفتك بشي‏ء منه حتّى سخط و أخرجك من عنده .

٣٢

ثم كيف تركتهم ، و قد استخلفت بني امية الشجرة الملعونة في القرآن ١ .

و في ( إيضاح الفضل بن شاذان ) : روى يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي قال : قال ابن عباس : لقي رجل من أهل الشام أبي بالجابية فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال : لست للمؤمنين بأمير و هو ذاك و أشار إلى عمر و كان بالقرب و انا و اللّه أحقّ بها منه ، فسمعها عمر . فقال له : أحقّ بها منّي و منك رجل خلّفناه في المدينة يعني عليّا عليه السّلام ٢ .

قلت : نقلنا قصصا عن عمر في قوله عليه السّلام : « و إنّه ليعلم أنّ محلي منها محلّ القطب من الرحى » مع كون المراد به أبا بكر لأنّهما كانا كنفس واحدة ،

و لأنّه إنّما كان هو الناصب لأبي بكر كما اعترف به النظام ، نصبه ليردّ الأمر إليه كما صرّح به أمير المؤمنين عليه السلام مع انّه كان أيّام خلافة أبي بكر شريكه في الخلافة أيضا كما لا يخفى عند من كان له إلمام بالتاريخ .

ثم إنّه كما علم أبو بكر أوّل من تقمّص بها بكونه عليه السلام أولى بها من كلّ أحد كذلك كلّ من تصدّى لها إلى الآخر إلاّ أنّهم تبعوا الأول و تظاهروا به لكونه أسّس لهم رياسة و دنيا عظيمة . فخطب داود بن علي لمّا بويع السفّاح ، و قال :

« لم يصعد هذا المنبر بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حقّا إلاّ عليّ بن أبي طالب و السفّاح » .

و روى الطبري في أحوال المهدي : أنّ أبا عون عبد الملك بن يزيد مرض فعاده المهدي و سأله حاجته . فقال : حاجتي أن ترضى عن عبد الله بن أبي عون و تدعو به . فقد طالت موجدتك عليه . فقال : يا أبا عون إنّه على غير الطريق و على خلاف رأينا و رأيك ، إنّه يقع في الشيخين أبي بكر و عمر و يسيى‏ء القول

ــــــــــــــــ

( ١ ) بالنظر الى قوله تعالى في الاسراء : ٦٠ .

( ٢ ) الايضاح : ٩٠ ، و النقل بتصرف يسير .

٣٣
شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي WWW.ALHASSANAIN.COM كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة المجلد الخامس الشيخ محمد تقي التّستري شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) للتراث والفكر الإسلامي

فيهما . فقال أبو عون : هو و اللّه على الأمر الّذي خرجنا عليه ، و دعونا إليه . فإن كان قد بدا لكم فمروا بما أحببتم حتى نطيعكم ١ .

و في ( الأغاني ) عن أبي سليمان الناجي قال : جلس المهدي يوما يعطي قريشا صلات أمر لهم بها و هو ولي عهد . فبدا ببني هاشم ثم بسائر قريش .

فجاء السيّد الحميري ، و دفع إلى الربيع رقعة مختومة و إذا فيها :

قل لابن عباس سميّ محمّد

لا تعطينّ بني عديّ درهما

و احرم بني تيم بن مرّة إنّهم

شرّ البرية آخرا و مقدما

إن تعطهم لا يشكروا لك نعمة

و يكافئوك بأن تذمّ و تشتما

و لئن منعتهم لقد بدؤوكم

بالمنع إذ ملكوا فكانوا أظلما

منعوا تراث محمّد أعمامه

و بنيه و ابنيه عديلة مريما

و تأمّروا من غير أن يستخلفوا

و كفى بما فعلوا هنالك مأثما

لم يشكروا لمحمّد إنعامه

أفيشكرون لغيره ان أنعما

و اللّه منّ عليهم بمحمّد

و كسا الجنوب و أطعما

ثم انبروا لوصيّه و وليّه

بالمنكرات فجرّعوه العلقما

فرمى بها إلى عبيد اللّه الوزير ثم أمر بقطع العطاء فانصرف الناس و أدخل السيّد عليه . فلمّا رآه ضحك ، و قال : قد قبلنا نصيحتك يا إسماعيل . . .

و يأتي كلام الناصر العباسي ٢ .

و أمّا قول أبي بكر في إظهاره الشكّ في احتضاره . فقد قال كما في ( خلفاء ابن قتيبة ) : « ليتني سألته ( أي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ) لمن هذا الأمر من بعده فلا ينازعه فيه أحد » ٣ فيقال له في قوله « ليتني سألته لمن هذا الأمر من بعده » ليت

ــــــــــــــــ

( ١ ) تاريخ الطبري ٦ : ٤٠٠ ، سنة ١٦٩ ، و النقل بتلخيص .

( ٢ ) الأغاني ٧ : ٢٤٣ ، و النقل بتلخيص .

( ٣ ) رواه ابن قتيبة في الإمامة و السياسة ١ : ١٩ ، و الطبري في تاريخه ٢ : ٦٢٠ ، سنة ١٣ ، و غيرهما .

٣٤

صاحبك خلاّه يقول ذلك ، لكن الرزية كلّ الرزية كما قال ابن عباس و كان كلّما ذكر ذلك قال ذلك و يبكي بكاء الثكلى منع صاحبك له عن ذلك مع أنّه يكفي في خزي اتباعه شكّ متبوعهم في أمر نفسه .

و روى محمّد بن يعقوب الكليني عن الأصبغ قال : قال أمير المؤمنين عليه السّلام : ما بال أقوام غيّروا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ، و عدلوا عن وصيّه لا يتخوّفون أن ينزل بهم العذاب ؟ ثم تلا هذه الآية : ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة اللّه كفرا و أحلّوا قومهم دار البوار جهنّم ١ ثم قال : نحن النعمة الّتي أنعم اللّه بها على عباده ، و بنا يفوز من فاز يوم القيامة ٢ .

هذا . و في ( روضة المناظر ) : اتّفق الملك العادل أبو بكر أخو السلطان صلاح الدين ، و الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين على أخذ دمشق من الملك الأفضل علي بن صلاح الدين ، و حاصراه . فدخل أبو بكر من باب توما ،

و عثمان من باب العرج ، فسار علي إلى صرخد ، و كتب إلى الخليفة الناصر العباسي يشكو من عمّه و أخيه :

مولاي إنّ أبا بكر و صاحبه

عثمان قد أخذا بالجور حقّ علي

فانظر إلى حظّ هذا الأسم كيف لقي

من الأواخر ما لقى من الاوّل

فأجابه الخليفة الناصر العباسي :

غصبوا عليّا حقّه إذ لم يكن

بعد النبّي له بيثرب ناصر

فاصبر فإنّ غدا عليه حسابهم

و ابشر فناصرك الإمام الناصر ٣

« ينحدر » أي : ينهبط .

ــــــــــــــــ

( ١ ) إبراهيم : ٢٨ و ٢٩ .

( ٢ ) الكافي ١ : ٢١٧ ح ١ .

( ٣ ) روضة المناظر ٢ : ١٠٦ ، و النقل بتصرف في اللفظ .

٣٥

« عنّي السيل » من سال الماء .

« و لا يرقى » أي : لا يصعد .

« إلى الطير » شبّه عليه السّلام علوه المعنوي بجبل عال لا يقدر الطير من كثرة علوه أن يصعد إليه ، و قال الشاعر

« عال يقصّر دونه اليعقوب »

و اليعقوب ذكر الحجل ، و قال الأعشى :

في مجدل شيّد بنيانه

يزلّ عنه ظفر الطائر

و قال امرؤ القيس :

نيافا تزلّ الطير عن قذفاته

هذا ، و قال كعب الأشقري في فتح يزيد بن المهلّب قلعة نيزك بباد غيس و كانت في غاية الإرتفاع ، و كان نيزك يعظّمها حتّى إذا رآها سجد لها :

نفى نيزكا عن باد غيس و نيزك

بمنزلة أعيى الملوك أغتصابها

محلّقة دون السماء كأنّها

غمامة صيف زلّ عنها سحابها

و لا يبلغ الأروى شماريخها العلى

و لا الطير إلاّ نسرها و عقابها

و ما خوّفت بالذئب ولدان أهلها

و لا نبحت إلاّ النجوم كلابها

نقل الصدوق في ( معاني أخباره ) عن أبي أحمد العسكري قال : معنى قوله عليه السّلام « ينحدر عنّي السيل و لا يرقى إليّ الطير » أنّ الخلافة ممتنعة على غيري ، و لا يتمكّن منها ، و لا تصلح له ١ .

قلت : ما قاله إنّما هو معنى قوله عليه السلام قبل ذلك : « انّ محلي منها محلّ القطب من الرحى » و امّا هذا الكلام فمعناه علوّ مقامه بحيث لا يمكن لأحد أن يناله .

و علو مقامه هو أحد أسباب إعراض الناس عنه عليه السّلام ، قال أبو زيد

ــــــــــــــــ

( ١ ) معانى الاخبار : ٣٦٢ ، و علل الشرائع ١ : ١٥٢ .

٣٦

النحوي : قلت للخليل العروضي : لم هجر الناس عليّا عليه السّلام و قرباه ، من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قرباه ، و موضعه من الإسلام موضعه ؟ فقال : « و اللّه بهر نوره أنوارهم ، و غلبهم على صفو كلّ منهل ، و الناس إلى أشكالهم أميل . أما سمعت قول الأوّل :

و كلّ شكل لشكله ألف

أما ترى الفيل يألف الفيلا ؟ ١

و قال يونس النحوي أيضا قلت للخليل : ما بال أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كأنّهم بنو أمّ واحدة ، و علي كأنّه ابن علّة ؟ قال : تقدّمهم إسلاما ، و بذّهم شرفا و فاقهم علما ، و رجحهم حلما و كثرهم هدى فحسدوه ، و الناس إلى أمثالهم و أشكالهم أميل ٢ .

و في ( عيون المفيد ) : اتفق الناس على النقل عن أمير المؤمنين عليه السّلام رجزه في صفّين :

أنا علي صاحب الصمصامة

و صاحب الحوض لدى القيامة

أخو نبي اللّه ذي العلامة

قد قال إذ عمّمني العمامة

أنت أخي و معدن الكرامة

و من له من بعدي الإمامة ٣

و كيف لا يكون مقامه عليه السلام بذالك الشموخ ، و كتاب اللّه تعالى في تنزيله جعله نفس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و النبي صلّى اللّه عليه و آله جعل في المتواتر عنه يوم احد لمّا قال جبرئيل عليه السلام له صلّى اللّه عليه و آله تعجبا من حمايته عليه السّلام عنه صلّى اللّه عليه و آله نفسه منه عليه السّلام فقال صلّى اللّه عليه و آله لجبرئيل : « كيف لا يواسيني علي ، و هو منّي و أنا منه » كما جعل جبرئيل نفسه منه عليه السّلام كما جعلها منه صلّى اللّه عليه و آله فقال للنبي صلّى اللّه عليه و آله بعد

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه الصدوق في علل الشرائع ١ : ١٤٥ ح ١ ، و النقل بتصرف يسير .

( ٢ ) رواه السروي في مناقبه ٣ : ٢١٣ ، و السائل هنا ايضا ابو زيد .

( ٣ ) رواه عنه الشريف المرتضى في الفصول المختاره ٢ : ٢٣٤ .

٣٧

كلامه ذاك « و أنا منكما » ١ .

« فسدلت » أي : أرخيت .

« دونها » أي : دون الخلافة .

« ثوابا » و الكلام كناية عن إعراضه عنها ، كمن يضرب الحجاب بينه و بين من يعرض عنه .

و في ( إيضاح الفضل ) : قال المأمون لفقهاء العامة : قال عليّ عليه السّلام : قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، و أنا أولى بمجلسه مني بقميصي ، و لكنّي أشفقت أن يرجع الناس كفّارا ٢ .

« و طويت عنها كشحا » قال ابن أبي الحديد : أي : حرمتها قالوا : لأنّ من كان إلى جانبك الأيمن مثلا فطويت كشحك الأيسر فقد ملت عنه و الكشح ما بين الخاصرة و الجنب . و عندي انّهم أرادوا غير ذلك ، و هو أنّ من أجاع نفسه . فقد طوى كشحه كما أنّ من أكل و شبع فقد ملأ كشحه ، فكانّه أراد انّي اجعت نفسي عنها و لم ألتهمها ٣ .

قلت : إنّما يجي‏ء « طوى بطنه » بمعنى الجوع كما في الخبر « و اترك أهل الصفّة تطوى بطونهم » ٤ و أما « طوى كشحه » فلا يجي‏ء إلاّ بمعنى الإعراض إذا عدي بعن كما في كلامه عليه السّلام ، أو بتقديرها كما في قول الشاعر :

أخ قد طوى كشحا

و أبّ ليذهبا

و قال آخر :

و صاحب لي طوى كشحا فقلت له

إنّ انطواءك هذا عنك يطويني

ــــــــــــــــ

( ١ ) رواه جمع كثير منهم ابن هشام في السيرة ٣ : ٤٣ ، و الكليني في الكافي ٨ : ١١٠ ح ٩٠ ، غيرهما .

( ٢ ) لم يوجد في الايضاح ، بل رواه الصدوق في عيون الاخبار ٢ : ١٨٦ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١ : ٥٠ .

( ٤ ) النهاية ٣ : ١٤٦ ، مادة ( طوي ) .

٣٨

و أمّا إذا عدّي بعلى فبمعنى الإخفاء كما قال زهير في حصين بن ضمضم في حرب داحس و الغبراء .

و كان طوى كشحا على مستكنّة

فلا هو أبداها و لم يتجمجم

و في ( اللسان ) : أراد « بالمستكنّة » عداوة أكنّها في ضميره ١ .

و بالجملة قوله عليه السّلام : « و طويت عنها كشحا » كقوله عليه السّلام : « و سدلت دونها ثوبا » ، كناية عن إعراضه عليه السلام عن الخلافة و تصدّي الأمر ، و ابن أبي الحديد خلط بين طيّ البطن و طيّ الكشح .

ثم طيّ الكشح لا يختصّ بمن كان على أيمنك فطويت أيسرك عنه كما قال ابن أبي الحديد بل يجي‏ء للعكس أيضا بل قوله : فطويت أيسرك عنه غير صحيح . فمن كان على أيمنك تطوى أيمنك أولا عنه إذا أعرضت عنه ، و بطيّ الأيمن يحصل طي الأيسر .

ثم انّه عليه السّلام أعرض عن الخلافة ، و سدل دونها ثوبا ، و طوى عنها كشحا لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أخبره بكيفيّة معاملة الناس معه عليه السّلام بعده فقال له « انّ الامّة ستغدر بك بعدي » ٢ .

و روي انّ الأشعث بن قيس قاله له : ما منعك يا ابن أبي طالب حين بويع أخو بني تيم ، و أخو بني عدي ، و أخو بني أميّة أن تقاتل و تضرب بسيفك ، و أنت لم تخطبنا خطبة مذ كنت قدمت العراق إلاّ قلت فيها قبل أن تنزل عن المنبر « و الله إنّي لأولى الناس ، و ما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله » فما يمنعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك ؟

قال : يا ابن قيس إسمع الجواب . لم يمنعني من ذلك الجبن ، و لا كراهة

ــــــــــــــــ

( ١ ) لسان العرب ١٥ : ١٩ ، مادة ( طوي )

( ٢ ) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ : ١٤٠ و ١٤٢ ، و الثقفي ، و عنه تلخيص الشافي ٣ : ٥٠ ٥١ ، و جمع آخر غيرهما .

٣٩

للقاء ربيّ ، و لكن منعني من ذلك أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عهده إليّ . أخبرني بما الامّة صانعة بعده . فلم أك بما صنعوا حين عاينته بأعلم به ، و لا أشدّ استيقانا منّي به قبل ذلك . فقلت : يا رسول الله ، فما تعهد إليّ إذا كان ذلك ؟ قال : إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم و جاهدهم ، و إن لم تجد أعوانا . فكفّ يدك ، و احقن دمك حتى تجد على إقامة الدين و كتاب الله و سنّتي أعوانا ، و أخبرني أنّ الامة ستخذلني و تبايع غيري ، و أخبرني أنّي منه بمنزلة هارون من موسى ، و أنّ الامّة سيصيرون بعده بمنزلة هارون ، و من تبعه ، و العجل و من تبعه إذ قال له موسى : يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا ألاّ تتّبعن أفعصيت أمري قال يا ابن ام لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي إنّي خشيت أن تقول فرّقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي ١ الخبر ٢ .

و لم يحضر عليه السّلام السقيفة كما حضروا لأمرين :

أحدهما : انّه كان مشتغلا بدفن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فكانوا يقولون له عليه السّلام بعد سماع احتجاجه عليهم : « لو سمعت الأنصار كلامك قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلفت عليك » فكان عليه السّلام يقول : « أ فكنت أدع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله في بيته لم أدفنه ،

و أخرج أنازع الناس بسلطانه » ٣ .

و الثاني : أنّ الإمام بمنزلة الكعبة يجب على الناس أن يأتوها لا أن تأتيهم هي .

« و طفقت » طفق : من أفعال الشروع قال تعالى : و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة ٤ .

ــــــــــــــــ

( ١ ) طه : ٩٢ .

( ٢ ) رواه سليم بن قيس في كتابه : ١٢٦ و ١٢٧ .

( ٣ ) رواه الجوهري في السقيفة : ١ ، و ابن قتيبة في الامامة و السياسة ١ : ١٢ ، و النقل بالمعنى .

( ٤ ) الاعراف : ٢٢ .

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

استغلال مواطن ضعف شياطين الإنس وعبيد الدنيا؛ لإبعاد الناس عن القرآن، ومن البديهي أنّه لا يُرتجى من الشيطان غير ذلك؛ لأنّه سبق وأن أقسم :( فَبِعِزّتِكَ لأُغْوِيَنّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (١) وفي سياق تطبيق الشيطان لخطّته الهادفة إلى إضلال الناس وحرمانهم من معارف القرآن، فهو يتشبّث بالمتشابهات من آيات القرآن، ويحثّ عبيد الدنيا وأولياءه على اتّباع متشابهات القرآن بدون الالتفات إلى محكماته، لكي يتسنّى له عن طريقهم إلقاء الشبهات والشكوك إلى الآخرين وإضلالهم، لقد قال الباري تعالى، بعد تقسيمه آيات القرآن الكريم إلى محكمات ومتشابهات :( فَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) (٢) فالذين يعج وجودهم انحرافاً ولوثاً وعبادةً للذات والمريضة قلوبهم، والواقعون تحت تأثير إيحاءات الشيطان، يتركون محكمات القرآن والعقائد المسلّمة والواضحة للدين، ويحاولون مستندين إلى ظاهر الآيات المتشابهة إضلال الناس من خلال الكلام والتفاسير الخاطئة والتحريف في معارف القرآن، أمثال هؤلاء ربائب الشيطان الذين يعينونه على تحقيق غايته، والقرآن الكريم يصفهم بعناوين مثل :( في قلوبِهِم زيغٌ ) أو( في قلوبِهِم مرضٌ ) ويحذّر الناس من اتّباعهم.

إنّ ما يُبحث في هذا المجال هو، بيان دوافع أمثال هؤلاء الناس في معارضتهم للثقافة الدينية من وجهة نظر القرآن، فالقرآن الكريم ينصّ على أنّ مَن يتّخذون متشابهات القرآن ملاكاً لفكرهم وعملهم بقصد ( ابتغاء الفتنة )، ويتذرّعون بالمتشبهات أو بتأويلات وتفسيرات سقيمة للآيات، يتركون ظاهر القرآن ويثيرون الفتنة.

السؤال الذي يُثار هنا هو ما معنى الفتنة ؟ وما ابتغاء الفتنة ؟ قال علماء اللغة، وخاصة مَن يحرص منهم على إرجاع الكلمات إلى أصولها، وتفسيرها في ضوء معناها الأصلي، بأنّ الفتنة تعني أساساً تسخين الشيء على النار، فعندما يوضع الشيء على

____________________

(١) ص : ٨٢ و٨٣.

(٢) آل عمران : ٧.

١٠١

النار لتسخينه أو حرقه أو إذابته، فالعرب يقولون عن هذا العمل ( فتنة )، وفي القرآن الكريم استخدمت كلمة ( فتنة ) بهذا المعنى اللغوي، فحينما يقول :( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) ،(١) أي يوم يحرَقون بالنار.

وعلى هذا الأساس فإنّ أصل المعنى اللغوي ل- ( الفتنة ) هو الحرق والإذابة، ولكن كما يقول علماء اللغة : إنّ المعنى اللغوي يسري أحياناً على لوازمه أو ملزوماته في ضوء ما لذلك المعنى اللغوي من اللوازم، ويغدو ذلك اللازم تدريجياً بمثابة معنىً ثانٍ وثالث للكلمة من خلال إشراب قرينة المعنى، واستعمال تلك الكلمة في قرينة المعنى، وهكذا الحال بالنسبة إلى كلمة الفتنة أيضاً؛ لأنّه - كما سبق القول - فإنّ كلمة ( الفتنة ) تعني أصلاً التسخين، بيد أنّ للتسخين قرينةً وهي أنّ التسخين والوضع في النار إذا حصل للإنسان كما جاء في الآية( يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ) (٢) يجعله في حالة من الاضطراب، وقد يكون الاضطراب جسمياً وظاهرياً تارةً، مثلما يتعلق في الحرق والكي الجسماني، وقد يكون تارةً أخرى ناجماً عن أمور باطنية ونفسية.

إذاً، فالاضطراب في الواقع من قرائن الفتنة والتسخين ثمّ أُطلق هذا اللفظ من باب التوسّع في معنى اللفظ، على الأشياء الأخرى التي تؤدّي إلى الاضطراب المعنوي والباطني، وبما أنّ قسماً من الاضطرابات النفسية تحصل من القلق والشكوك في مجال العقائد، فقد أُطلق على ما يُسبّب مثل هذه الاضطرابات اسم الفتنة.

وعندما يقال ( الفتنة في الدين ) فذلك؛ بسبب ما يقوم به بعض الأشخاص من محاولات إلقاء الشكوك الوهمية الباطلة؛ لزعزعة معتقدات وإيمان الناس المتديّنين وصدّهم عن دين الحق وعن العقائد الدينية.

وقد سُمّي الامتحان ( فتنة ) أيضاً؛ لأنّه يؤدّي إلى إثارة القلق والاضطراب؛ وذلك لأنّ الإنسان يبقى أثناء الامتحان مضطرباً وقلقاً، ولا يقر له قرار من أجل النتيجة، وقد

____________________

(١) الذاريات : ١٣.

(٢) الذاريات : ١٣.

١٠٢

وردت كلمة الفتنة في العديد من آيات القرآن بمعنى الاضطراب الناجم عن الامتحان، جاء في القرآن الكريم :( أَنّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ) (١) ( وَنَبْلُوكُم بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ) (٢) وقد تُطلق كلمة الفتنة على العذاب والأذى.

من البديهي أنّ الآية الموضوعة على بساط البحث :( هُوَ الّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ) ، جاءت فيها كلمة ( الفتنة ) بمعنى الفتنة في الدين؛ وذلك لأنّ اتّباع المتشابهات لا يتناسب مع معنى الامتحان والابتلاء، والذين يتبعون متشابهاته لا يبغون إيذاء وتعذيب الآخرين، وكذلك الفتنة هنا لا تعني الحرق والكي بالنار، وإنّما فتنتهم تأتي انطلاقاً من محاولتهم التشبّث بالآيات المتشابهة من أجل؛ إيجاد القلق في نفوس الناس وزعزعة معتقداتهم الدينية وإضلالهم.

موقف القرآن إزاء الفتنة في الدين

( الفتنة في الدين ) بالمعنى الذي سبق شرحه تعدّ مواجهةً خفيةً، ونوعاً من الخداع والتحايل، ويأتي هذا العمل تحت غطاء الإيمان الظاهري بهدف القضاء على أصل الدين، هؤلاء المثيرون للفتنة يتستّرون تحت نقاب النفاق؛ لإخفاء أفكارهم الشيطانية، بحيث يغدو من العسير على الناس العاديين معرفة دوافعهم المناهضة للدين، ولهذا السبب اعتبر القرآن هذه الممارسة أكبر الذنوب، ولفت أنظار الناس إلى هذا الخطر العظيم الذي يهدد دنياهم وآخرتهم، داعياً إيّاهم إلى أن يهبّوا لمجابهته دفاعاً عن كيانهم المادي والمعنوي.

يتّبع الأعداء عادةً أسلوبين رئيسيين لمجابهة الإسلام والمسلمين، وسنطّلع هنا في سياق توضيح أساليب أعداء القرآن والثقافة الدينية، على موقف القرآن في مواجهة مؤامرات الأعداء.

____________________

(١) الأنفال : ٢٨.

(٢) الأنبياء : ٣٥.

١٠٣

١ - الفتنة العسكرية

أحد الأساليب التي عادةً ما يتّبعها الأعداء لمجابهة الإسلام والمسلمين هي الحرب والمواجهة العسكرية، حيث يحاولون تحقيق أهدافهم من خلال الهجوم العسكري على البلاد والشعوب المسلمة، وقتل المسلمين ونهب ثرواتهم، وفي مثل هذه الحالة قد يستشهد عدد من المسلمين وتلحق أضرار بالبلد الإسلامي، لكنّهم - الأعداء - لا يفلحون في تحقيق أهدافهم، ولا يلحق المسلمين ضرر من جرّاء القتل في سبيل الدين، بل بالعكس إذ يؤدي إلى مزيد من رسوخ إيمانهم واعتقادهم.

في الثقافة الدينية يكون الهدف من الحياة في هذه الدنيا تكامل الإنسان، وبلوغه مقام القرب من الله في ظل العقائد الحقة والعبادة، وذلك ما يتجلّى ويبلغ ذروته على شكل الشهادة في سبيل الله.

وفي مقابل هذه الإستراتيجية التي يتّبعها الأعداء، ينصّ موقف القرآن على ما يلي :( قَاتِلُوهُمْ حَتّى‏ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ‏ ) (١) وشعار المسلمين في هذا القتال هو :( هَلْ تَرَبّصُونَ بِنَا إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبّصُوا إِنّا مَعَكُمْ مُتَرَبّصُونَ ) (٢) .

٢ - الفتنة الثقافية

الأسلوب الرئيسي الثاني للأعداء في مجابهة الإسلام والمسلمين هو العمل الإعلامي، الذي تعتبر أهم جوانبه إثارة الشبهات بهدف إضلال المسلمين، ومن البديهي أنّ الأدوات والوسائل والمعدّات التي تُستخدم في هذا النوع من الصراع، وكذلك أساليبه ونتائجه، تختلف كلياً عن الهجوم العسكري، فإن كان العدو في حالة الهجوم العسكري ينزل إلى الساحة بأحدث الأسلحة؛ لقتل المسلمين والقضاء على كيانهم ونهب

____________________

(١) الأنفال : ٣٩.

(٢) التوبة : ٥٢.

١٠٤

ثرواتهم، فهو في الحالة الثانية ينزل إلى الساحة بسلاح القلم والبيان؛ لحرف وإفساد أفكارهم، وإذا كان العدو في حالة الهجوم العسكري يواجه الجنود المسلمين بأبشع أنواع القسوة، فهو في حالة الهجوم الثقافي يدخل بوجه بشوش ومن باب الحرص، وإذا كان المسلمون - في حالة الهجوم العسكري - يعرفون عدوّهم تمام المعرفة، ففي حالة الهجوم الثقافي لا تكون معرفة العدو أمراً سهلاً، وإذا كان العدو في حالة الهجوم العسكري يهدف إلى القضاء على الأجسام الترابية، بواسطة ميادين الألغام والمعدّات الحربية المتطوّرة، فهو يحاول في حالة الهجوم الثقافي الاستحواذ على الأرواح والأفكار، من خلال نصب حبائله الشيطانية، وإثارة الشبهات التي لا أساس لها من الصحة، ويعمل على إفراغهم من الداخل؛ لغرض سوقهم في اتجاه خدمة مصالحه.

وفي حالة الهجوم العسكري إذا كان العدو قوياً فهو يقتل عدداً من جنود الإسلام، ويخرجهم من هذه الدنيا الدنيّة المادية، أمّا في الهجوم الثقافي فالشياطين يتربّصون للإيقاع بالشباب الطيّبين، الذين ليس لديهم معرفة كافية بالعلوم والمعارف الدينية، وهم يمثّلون ثروةً قوميةً هائلة للشعب المسلم، ممّا يؤدّي بهم إلى الانحراف والسقوط في مستنقع اللادينية، ومع أنّ الأعداء لن يجنوا شيئاً من هذا الأسلوب المناهض للدين، وأنّ أبناء الشعب المسلم خاصة الشباب المسلمين المثقفين، الذين خرجوا مرفوعي الرأس من الهجوم العسكري، أوعى من أن يكونوا في غفلة عن انتقال العدو من الجبهة العسكرية إلى جبهة الصراع الثقافي، لكن القرآن الكريم ونتيجةً لجسامة خطر الهجوم الثقافي، وما يتمخّض عنه من مردودات وعواقب وخيمة - تأتي بسبب هزيمة المسلمين في جبهة الهجوم الثقافي - قد ركّز على ذلك، وطلب من المسلمين في سياق تحذيره لهم في هذا المجال مجابهة أعداء الله والدين بكل ما أوتوا من قوّة.

تحذير القرآن من الفتنة الثقافية

بما أنّ خطر ونتائج الهزيمة في الهجوم الثقافي - خلافاً للهجوم العسكري - تنعكس على

١٠٥

ميادين الفكر والعقائد الدينية للناس، ممّا يعني أنّ الغفلة عنها تؤدّي إلى المخاطرة بإنسانية المسلمين وسعادتهم في الدنيا والآخرة، من هنا فقد اهتم القرآن بهذا الموضوع اهتماماً بالغاً وحذّر منه.

لا يخفى على المسلمين الواعين بأنّ النتائج التي تتمخّض عن الهزيمة في جبهات الصراع الظاهري والفتنة العسكرية، ليست ذات أهمية تذكر بالمقارنة مع نتائج الغفلة عن الهجوم الثقافي؛ وذلك لأنّه في حالة الهجوم العسكري تتعرض حياة المسلمين لأيام معدودات للخطر، ولكن في حالة الهجوم والفتنة الثقافية، فإنّ خطراً جاداً يهدّد عقائد المسلمين ودينهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

لهذا السبب اعتبر القرآن خطر الفتنة في الدين والهجوم الثقافي أعظم من خطر الهجوم العسكري، فحذّر المسلمين من الغفلة عنه، معتبراً أهميته وخطر الحرب والفتنة العسكرية أقل من خطر الهجوم الثقافي.

يقول القرآن الكريم :( وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ القَتْلِ ) (١) ونحن ندري طبعاً أنّ معارضي القرآن والثقافة الدينية في صدر الإسلام وزمن نزول آيات القرآن، كانوا غالباً ما يحاولون القضاء على الإسلام والمسلمين بالهجوم العسكري والمواجهة الحربية في ميادين القتال، ولكن مع كل ذلك فإنّ الحساسية التي يبديها القرآن إزاء الفتنة الدينية والثقافية أكبر ممّا يبديه إزاء خطر الهجوم العسكري، يقول القرآن :( وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) (٢) أي أنّ فكرة الشرك أكبر خطراً من الهجوم العسكري والقتل، وإثمها أشد من إثم القتل، وقد سبق أن بيّنّا أسباب كون الفتنة الثقافية أكبر.

الشرك في ثوب جديد

كانت فكرة الشرك تسير بموازاة فكرة التوحيد، وتستحوذ طيلة التاريخ على جزء من

____________________

(١) البقرة : ١٩١.

(٢) البقرة : ٢١٧.

١٠٦

أفكار البشر، فالذين لم يخضعوا لعبودية الله وأبوا التسليم لبارئ الكون؛ رغبةً في إرضاء أهوائهم النفسية، كان يسوؤهم اعتناق الآخرين لدين الحق، وكانوا يصدّونهم عن ذلك بشتّى الأساليب.

من البديهي أنّ أنصار فكرة الشرك يختارون في كل عصر الأسلوب الذي يتناسب مع أفكار أهل ذلك العصر، ويتّبعون الأساليب المناسبة لتحقيق أهدافهم، وعلى هذا الأساس لمّا كانت فكرة الشرك تتجلّى في صدر الإسلام على شكل عبادة الأصنام، فقد أخذ كبراء أهل الشرك، ومَن لم يكونوا مستعدّين للخضوع لعبادة الله والانقياد لدين الحق، يدعون إلى عبادة الأوثان الحجرية والخشبية، ويصدّون الناس عن اعتناق التوحيد، وكان السبب الرئيسي الذي يدعوهم إلى هذا العمل هو، حاكمية الدين والثقافة التوحيدية لا تدع مجالاً لإشباع أهوائهم النفسية.

واليوم أيضاً تُمارس الدعاية لفكرة الشرك بشكل حديث، وتُعرض بصورة نظرية علمية في شتّى الأوساط، فإذا كان هناك في صدر الإسلام ٣٦٠ صنماً ووثناً، وكان عبيد الدنيا يدعون إليها لتخدير أفكار الناس، فإنّ أنصار فكرة الشرك يحاولون اليوم نحت أصنام خيالية على قدر عدد الناس؛ لصرف عقولهم عن الله تعالى، والانكفاء على أوهامهم وخيالاتهم وإيحاءاتهم الشيطانية.

يبدو أنّ فكرة ( الصرط المستقيمة والقراءات المختلفة للدين ) تصب في هذا السياق؛ لأنّ المراد من هذه الفكرة كما يُفهم من عنوانها أن يبني كل شخص اعتقاده ويعمل حسبما يفهمه من النصوص الدينية عن الله والدين؛ لأنّ ذلك هو عين الحق والواقع.

وعلى هذا الأساس يجب أن تُصاغ آلهة وأديان فردية وخاصّة بعدد الناس وأفهامهم المختلفة لله والدين، ومن البديهي أنّ هذا الكلام يقف على الضد من روح التوحيد، التي تتجسد في شعار ( لا إله إلاّ الله )، ويتعارض معها تماماً.

على أية حال، بما أنّ القضية تتعلق بأهم موضوع في حياة الإنسان، أي الشرك

١٠٧

والتوحيد، وهو ما تتوقف عليه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، فحري بالإنسان أن يتأمّل ويعيد النظر بأفكاره ومعتقداتها، ويعرضها على القرآن وعلوم أهل البيت، وينقدها في ضوء المنطق والعقل السليم وبعيداً عن الأهواء؛ لأنّه في مثل هذه الحالة فقط يستطيع الإنسان الإفلات من فخ تخيلاته الشيطانية، وينجو من السقوط في هاوية الضلال، ومن الطبيعي أنّ الانتصار على نوازع النفس عمل عسير وشاق جداً، وليس عبثاً أن يعتبره الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الجهاد الأكبر، خاصة إذا كان المرء في موقع يشجّعه فيه الشياطين وأعداء التوحيد والإسلام، ويكونون على استعداد ليصنعوا منه شخصيةً عالمية من أجل تحقيق مآربهم السياسية والاستعمارية ومجابهة الإسلام، ورغم أنّ عودة الإنسان إلى رشده في مثل هذا الظرف، والدخول في ميدان الجهاد الأكبر، والإعراض عن وعود ووعيد الشياطين وأعداء الإسلام، عمل إعجازي ومثير للدهشة إلاّ أنّه ليس مستحيلاً، فليسوا قلةً في التاريخ الأشخاص الذين عادوا إلى رشدهم في لحظة، وانتزعوا أنفسهم من حبائل شياطين الجن والإنس والأهواء، ونجوا من الهلكة وعادوا إلى أحضان التوحيد.

نبوءة القرآن بوقوع الفتنة في الدين

لقد بيّن القرآن الكريم للمسلمين سُبل بلوغ السعادة والتكامل، وأضاء أمام طلاّب الحقيقة طريق الهداية المستقيم كالمشعل الوضّاء الذي لا يخبو أبداً، وقد أزاح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً غبار الشرك والكفر عن وجه الإنسانية، وغرس في نفوس وقلوب المتعطّشين للحقيقة بذور الأمل والنجاة، وتعاهدها بالرعاية، وأرسى صرح الحكومة على أساس التوحيد.وفي تلك الظروف لم يكونوا قلةً أولئك الذين دخلوا الإسلام انطلاقاً من دوافع مصلحية، وما كان إيمانهم يتعدى اللسان، ولم يدخل التوحيد إلى قلوبهم، وكان من الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص يقدّمون أهواءهم ورغباتهم على

١٠٨

إرادة الله وأوامر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولهذا كانوا يضمرون العِداء للإسلام والرسول، ولكنّهم ما كانوا يرون من المصلحة أن يكشفوا عن معارضتهم في زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويعلنوا خطّتهم الهادفة إلى تحريف الحكم الإلهي، ومعارضة الإمام المعصوم، وحرمان الأمّة من قيادة الأئمة المعصومين، فبقي هؤلاء الشياطين وعبيد الدنيا يتربّصون إلى حين رحيل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من الدنيا؛ لكي ينفّذوا مخططاتهم المشؤومة.

وقد تنبّأ القرآن بهذه المؤامرة وحذّر منها على النحو التالي :( أَحَسِبَ النّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) (١) .

كان الإمام عليعليه‌السلام يتحدّث يوماً عن القرآن الكريم، ويدعو الناس إلى الالتفاف حول هذا الحبل الإلهي المتين والعمل بأحكامه، ويبشّر أهل السعادة بالجنة وأهل الشقاء بجهنّم، فقام رجل وسأل عن الفتنة ويروي حديثاً عن رسول الله بهذا الصدد فقالعليه‌السلام : لمّا أنزل الله سبحانه قوله :( أحسب النّاس ) ، وأخبر الناس عن وقوع فتنة في الدين وابتلاء عظيم، علمت أنّ الفتنة ستكون بعد رحيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت : يا رسول الله، ما هذه الفتنة التي أخبرك الله بها ؟ فقال : يا علي، إنّ أُمّتي سيفتنون من بعدي، وقبل أن يقسّم الرسول أنواع الفتن بعد وفاته سأله علي مخافة أن يفوته الفوز بالشهادة في سبيل الله، فذكّر الرسول بما جرى يوم أحد قائلاً : يا رسول الله أَوَ ليس قد أخبرتني يوم أحد حيث استشهد مَن استشهد من المسلمين - من أمثال حمزة سيد الشهداء - وحيزت عني الشهادة فشُقّ عليّ ذلك فقلت لي أبشر فإنّ الشهادة من ورائك وها أنا انتظر.

يا رسول الله هل ستنتهي الفتنة التي ستقع بعدك بشهادتي ؟ فقال رسول الله : نعم ستبلغ مناك، فكيف صبرك إذاً ؟ فقلت : يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر، ولكن من مواطن البشرى والشكر.

ثمّ أشار الرسول إلى جانب من الفتن التي ستقع في الدين وحذّر الناس منها.

____________________

(١) العنكبوت : ٢.

١٠٩

التنبّؤ بالفتن بعد الرسول

وبعد أن طمأَن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله علياً إلى تحقّق أمنيته بالشهادة، بيّن له أنواع الفتن التي يثيرها عبيد الدنيا في الدين وفي كلامه يركّزصلى‌الله‌عليه‌وآله على ثلاثة أصناف من الفتن فيقول : ( يا علي، إنّ القوم سيفتنون بأموالهم، ويمنّون بدينهم على ربّهم، ويتمنّون رحمته ويأَمنون سطوته، يستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء؛ فيستحلون الخمر بالنبيذ، والسحت بالهدية، والربا بالبيع )(١) .

١ - الفتنة بالمال

أَوّل قضية يشير إليها الرسول هي الفتنة في الأموال، لا يخفى على المطلعين على الفقه الإسلامي، أنّ جانباً كبيراً من أحكام الإسلام العملية تُعنى بالأموال والكسب والتجارة والشؤون الاقتصادية، وقد اهتمت الشريعة المقدّسة بحقوق الأفراد على أفضل وأدق ما يمكن، وقد شُرّعت أحكام وقواعد البيع والشراء والكسب والتجارة، التي ألزمت الشريعة المقدّسة المسلمين بالعمل بها على أساس المصالح الواقعية، التي تفرضها الحياة الاجتماعية للناس؛ لكي يتسنّى للناس من خلال الالتزام بها أن يعيشوا حياةً دنيويةً وأخروية سعيدة، وبما أنّ أكثر العلاقات الاقتصادية في المجتمع تأتي على أساس البيع والشراء، ويُبنى قِوام الحياة الاجتماعية، والتعاون والتكافل بين الناس في قضاء حاجات بعضهم الآخر، على المقايضة والتبادل والمعاملات، ومن جهة أخرى بما أنّ ظاهرة التعامل الربوي، التي تأتي انطلاقاً من غريزة الإنسان في حب الاستكثار - وهي أسوء وأبغض أنواع المعاملات من وجهة نظر الإسلام - كانت منتشرةً آنذاك بين الناس، فقد نهى الإسلام بشدّة عن التعامل الربوي، وجاء لحن القرآن في النهي عن هذا العمل شديداً جداً إلى

____________________

(١) بحار الأنوار : ج٣٢، ص٢٤١.

١١٠

درجة أنّه اعتبره بمثابة حرب على الله :( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ) (١) .

يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ القوم سيفتَنون بعدي بأموالهم وعلاقاتهم الاقتصادية، وسيتجاهلون الحكم الصريح في القرآن القائم على حرمة الربا، وسيتوسلون بالحيل الواهية فيأكلون الربا بذريعة البيع والشراء.

٢ - الفتنة العقائدية

إنّ ما يؤمن به كل عاقل من أعماق قلبه، ويجب عليه بعد الإيمان به الالتزام بمقتضياته، هو أنّنا بنو الإنسان خَلق الله وعباده، فالباري تعالى هو الذي خلقنا ومنحنا نعمة الوجود، وأتمّ نعمته علينا إذ أرسل إلينا خِيَرة خَلقه، وأنزل معهم الكتب السماوية من أجل أن نصل إلى التكامل والسعادة، ومن الطبيعي أنّ حمده وشكره على نعمة الهداية والدين - التي هي أكبر النعم الإلهية بعد نعمة الوجود - لا يتحقق إلاّ بالخضوع لعبودية الله، وهذه أسمى مرتبة يمكن تصوّرها للإنسان.

وعلى صعيد آخر فإنّ الباري تعالى قد مَنَّ على الناس إذ أتمّ نعمته عليهم وهداهم، وأنزل إليهم دين الحق، ولكن ما أقل مَن يدركون ضعفهم وضآلة قدرهم، ويفهمون مدى عظمة الله وكثرة نعمه التي خلقها للإنسان، ولطفه ورأفته به !

حقاً ما أقبح وأجحد أن يمَنّ الإنسان الجاهل على الله أن آمن بهديه ورسالته، غافلاً عن أنّ المنّة لله علينا؛ لأنّه هو الذي هدانا إلى دين الحق.

يخاطب القرآن الكريم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَ تَمُنّوا عَلَيّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ ) (٢) فأنتم الذين يجب أن تؤدوا هذا الحق كما ينبغي بالطاعة والعبادة، لا أن تعتبروا أنفسكم أصحاب حق بذريعة الإيمان، وترون أنّ لكم على الله حقاً، وعلى هذا الأساس فالأصل في الرؤية الدينية التسليم

____________________

(١) البقرة : ٢٧٩.

١١١

والعبودية لله وليس المنّة والاستكبار عليه، وقد وصف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله روح المنّة والاستكبار على الله بدلاً من الاستسلام والخضوع له بأنّه من مظاهر الفتنة في الدين، فقال بأنّ الناس من بعدي سيمنّون على ربّهم بدلاً من شكره على نعمة الهداية، والامتنان له لقاء ما جعله لهم من دين الحق، فهم يرون لأنفسهم حقّاً على الله، ويرجون رحمته انطلاقاً من موقف التفضّل والمنّة، كما أنّهم بناءً على إيمانهم لا يرون أنّهم يستحقون أي نوع من العقاب، ومع أنّ الله عزّ وجل لا يعاقب عبداً من غير سبب، لكن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يعتبر مثل هذا الشعور بمثابة فتنة في الدين؛ لأنّ مَن يحملون مثل هذا الشعور لا ينسجم الالتزام بالتعاليم الدينية مع أهوائهم النفسية، ولهذا يحاولون خداع أنفسهم وخداع الآخرين بذرائع واهية.وعلى هذا الأساس فإنّ وجود روح الاستكبار إزاء الله عزّ وجل لا ينسجم مع حقيقة الدين ورح الإسلام، الذي هو ليس الاستسلام التام لله.

٣ - التبريرات الكاذبة أخطر فتنة

إنّ أخطر فتنة في الدين أقلقت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد كشفها للإمام عليعليه‌السلام محذّراً الناس منها، هي الفتنة ومؤامرة تحريف الدين وتحليل المحرّمات الإلهية في مجال العقيدة، ورغم أنّ عدم الالتزام بأحكام الشريعة في مقام العمل، والاتصاف بروح استكبارية إزاء الباري عزّ وجل ذنب كبير، غير أنّ ما هو أخطر منه أن يحاول المرء اختلاق تبريرات واهية لذنوبه وأعماله المناهضة للدين، ويضفي على أهواء نفسه صبغةً دينيةً وشرعية.

في مثل هذه الحالة يهبّ الشيطان بكل قواه لمعاضدة عبيد الدنيا المتظاهرين بالإسلام؛ لمؤازرتهم في إثارة الشبهات وتحريف أحكام الدين.

يقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ مثيري الفتنة يحاولون تحقيق مآربهم من خلال التشبّث

١١٢

بالشبهات والتبريرات الزائفة والخيالات الواهية؛ لكي يحلّلوا ما حرّم الله ويتلاعبوا بدين الله.

إنّ ما ينبغي التذكير به، ويُشير إليه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عند بيانه لواجب الإمام عليعليه‌السلام إزاء الفتن ومثيريها، هي قضية استمرار هذه الفتن إلى حين ظهور صاحب الزمانعليه‌السلام ، إنّ ما بيّنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في تحليل الخمر باعتباره نبيذاً أي عصيراً لمادة الزبيب، أو تحليل الرشوة على أساس أنّها هدية، أو تحليل الربا بذريعة البيع والشراء، ليست إلاّ أمثلةً من أنواع الفتن التي تقع في الدين، لا أنّ القضية تنتهي عند هذا الحد.

واليوم هناك مَن يعيشون بين المسلمين، وهم حسب الظاهر مسلمون، ولا يرون أنفسهم خارجين عن دائرة الإسلام، إلاّ أنّهم من الناحية النفسية ليسوا بالشكل الذي يجعلهم يقبلون على أحكام الإسلام رغبةً وطواعية، هؤلاء الذين لبعضهم مكانة اجتماعية أيضاً متأثّرون بالثقافة الغربية، ومنبهرون بها، وقد ابتعدوا عن هويتهم الدينية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليست لديهم معلومات كافية عن المعارف الدينية، في مثل هذه الحالة ينبري هؤلاء الأشخاص، الذين لا يملكون أدنى أهلية لإبداء رأي في القضايا التخصصية للدين؛ لإصدار الأحكام، ويقعون أحياناً تحت تأثير إيحاءات الشيطان، وتشجيع أعداء الدين، ويتحدثون عن قصد أو عن غير قصد بكلام لا يعني سوى إنكار الدين والخروج من ربقة الإسلام، فعلى سبيل المثال لو أنّ أحداً قال بأنّ أحكام الإسلام تختص بزمن صدر الإسلام وأهل ذلك العصر، وأنّ أحكامه تتناسب مع مجتمعات صدر الإسلام، وأنّ القرآن والأحكام ليست كافيةً الآن وعلى أعتاب القرن الحادي والعشرين لإدارة المجتمع، ويجب تغيير أحكامه بما يتلاءم ورغبة الناس، أو أن يقول إنّ أهل القرن الحادي والعشرين يحتاجون إلى نبي يناسب زمانهم، إنّ مثل هذا وإن كان يعدّ بمثابة إنكار للدين لكنّه بالدرجة الأُولى يمثّل دليلاً على انعدام المعرفة الصحيحة للدين وأحكامه، وحري بأصحاب مثل هذه الأفكار أن

١١٣

ينتبهوا جيداً لمقتضيات وعواقب كلامهم قبل أن يبدوا وجهة نظرهم ويتكلموا، لعلّهم في مثل هذه الحالة يرعوون عن النطق بكلام تفوح منه رائحة الفتنة في الدين، ويُخلصون أنفسهم من فخ الشيطان وأعداء الإسلام والقرآن.

تعتيم الأجواء لتضليل الرأي العام

عرفنا ممّا تقدم بيانه لحد الآن، أنّ أساليب أعداء الدين والقرآن تختلف كلياً في إطار الفتنة والهجوم العسكري عمّا عليه في هجومهم في صيغة الهجوم والفتنة الثقافية، لقد تقدم القول إنّهم - وفي إطار الفتنة الثقافية وعلى العكس من الهجوم العسكري - لا يظهرون بشكل سافرٍ في موقف إنكار الدين ومعارضة الثقافة الدينية للناس، ولا يعبّرون بشكل صريح عن معتقداتهم القلبية؛ لأنّ المستمعين - في مثل هذه الحالة - لكلام هؤلاء وبعد قليل من التأمل إمّا أن يقبلوا هذا الكلام أو يدركوا بطلانه، وفي جميع الأحوال فإنّ الضلال الحاصل في حالة القبول بعقائدهم الباطلة إنّما يكون قد جاء عن علم ودراية، وما وقع لا ينطوي تحت عنوان الفتنة لأنّ الإضلال لم يقع عن طريق الخداع وتضليل الأفكار.إنّ ما يجري اليوم في مجتمعنا من فتنة ثقافية، ويقوم به أعداء القرآن والثقافة الدينية بكل جدّ عن طريق الغزو الثقافي هو، العمل على توتير وتعتيم الجو الثقافي للمجتمع بنحو يفقد معه الشعب لاسيما شريحة الشباب من الطلبة القدرة على التمييز بين الحق والباطل، ويقعون دون إرادة منهم في مصيدة أفكارهم الباطلة والمنحرفة، ومن الطبيعي إذا ما أُصيبت الطبقة المثقفة في البلاد بانحراف فكري فستتهيّأ الأرضية لضلال وانحراف الرأي العام في ذلك المجتمع؛ لأنّه إذا فسد العالِم فسد العالَم.

بناءً على هذا؛ إنّ الفتنة الثقافية المذكورة، التي حذّر منها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أخطر الأمور التي تهدّد سعادة الناس في الدنيا والآخرة، ويبدو أنّه من أجل التصدي لمثل هذه

١١٤

الأخطار يجب أن تكون الدولة الإسلامية قويةً، من حيث القدرة على بيان حقائق الدين، ونشر ثقافة القرآن ومعارفه، وأن يخضع النظام التعليمي بدءً من المرحلة الابتدائية وحتى الجامعة وجميع المراكز الثقافية في البلاد لرقابة صارمة؛ حيث لا يستطيع ذوو النوايا السيئة وأعداء الإسلام إضلال الآخرين من خلال تشويش الجو الثقافي.

من جهة أخرى أنّ أهم واجبات علماء الدين هداية الناس، لاسيما شريحة الشباب في المجتمع التي لا تتمتع بمعرفة كافية بمعارف الدين وعلوم القرآن، والتصدي للفتنة الثقافية، فالعارفون بعلوم الدين هم المكلّفون - من خلال إرشاداتهم - بتوعية الناس وجيل الشباب بالأخطار الثقافية، ومؤامرات أعداء الدين، وتحذيرهم من مكائد الشيطان، والمتدينون لهم المقدرة على إسناد الملتزمين من علماء الدين، وإعانتهم في أداء رسالتهم الكبرى في هداية المجتمع.

كما ذُكر في بداية الكتاب فإنّنا نتطرق في هذا المقطع من الكتاب إلى ذكر أسباب ودوافع المناهضين للثقافة الدينية من منظار عليعليه‌السلام في نهج البلاغة، فنتناول هنا وفي البداية التعريف بهؤلاء من وجهة نظر عليعليه‌السلام ، ومن ثَمّ ننهي ببيان الأسباب ودوافع الأشخاص المذكورين في مناوئة الثقافة الدينية وتعاليم القرآن وأحكامه.

محرفو العلوم الدينية من منظار عليعليه‌السلام

يصف الإمام عليعليه‌السلام الذين يعملون على تحريف حقائق الدين وإفساد الثقافة الدينية للناس بأنّهم جهلاء، متظاهرون بالعلم فيقولعليه‌السلام : ( وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَلَيْسَ بِهِ )(١) ففي مقابل الأتباع الصادقين للقرآن، هنالك فئة أخرى قد يعتبرون في المجتمع من العلماء في حين أنّهم لا حظّ لهم من العلم، وهؤلاء يستغلون العناوين الاعتبارية التي لا حقيقة لها لإضلال الناس.

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٨٦.

١١٥

ربّما يتبادر هذا التساؤل للقرّاء وهو : ما هذا الذي يطرحه هؤلاء على أنّه موضوعات علمية ودينية ؟ هؤلاء الذين يقدّمون كلامهم على أنّه فهم واستنباط عن الدين والقرآن، يقول عليعليه‌السلام في الإجابة : ( فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ )(١) .

إنّ ما يقدّمه هؤلاء تحت يافطة الموضوعات العلمية وأفهام عن الدين، وتحت ذريعة القراءات المتعددة للدين، ينبرون لإملاء العقائد الباطلة على الدين إنّما هي جهالات أخذوها عن أناس جهّال آخرين، ويقدّمونها باسم معارف دينية وموضوعات علمية، لعلّكم تتعجبون كيف يمكن لأناس أن يقتبسوا الجهل عن غيرهم ! فماذا يعني اقتباس الجهل عن الغير ؟! لغرض أن نقف على الإعجاز في كلامهعليه‌السلام ، ونقف كذلك على مسؤوليتنا في النهوض بعملية الإرشاد إزاء المنحرفين عن الحق أكثر فأكثر، نشير إلى نموذج من اقتباس الجَهَلة المتظاهرين بالعلم للجهالات عن الآخرين، الذي يُطرح الآن على أنّه إنجازات علمية.

تشيع اليوم في الغرب الفكرة الفلسفية القائلة بتعذّر حصول العلم بالنسبة للإنسان، وعلى الإنسان أن يشك في كل شيء ولا يحصل لديه يقين بأمر قط، فيعتقد أنصار هذه الفكرة أنّ إذا ما قال أحد بأنّني أَتَيقّن أمراً فذلك دليل على عدم فهمه وحماقته لتعذّر العلم بأي شيء، ويقول هؤلاء مفتخرين بشكهم وجهلهم هذا : إنّ أمارة العلم والمعرفة والعقل أن لا يعلم أو يتيقّن الإنسان بأي شيء دينياً كان أم غير ديني، وكان هذا الكلام السخيف قد طُرح قبل ما يناهز المِئة عام بين أوساط الأوربيين، وكان قبلها القاعدة الفكرية للشكاكين.

واليوم هنالك أناس في مجتمعنا أيضاً قد اتخذوا المنطق الجاهلي لأولئك، وانبروا للتشكيك في العقائد الدينية للناس، متذرعين بالقول إنّنا عاجزون عن الحصول على معرفة يقينية في أي مجال؛ لإضعاف العقائد الدينية للناس وتمرير مآربهم وأهواءهم النفسية.

____________________

(١) نفس المصدر.

١١٦

والظريف أنّهم يقدّمون كلامهم هذا على أنّه مطالب علمية، ويتوقعون من شعبنا الواعي النبيه أن يتقبّله.

يشير عليعليه‌السلام إلى وجود أمثال هؤلاء الناس الشيطانيين على مدى التاريخ فيقول : ( فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وَأَضَالِيلَ مِنْ ضُلاّلٍ )، فهؤلاء يقتبسون من فئة ضالة وجاهلة أموراً ملؤها الجهل، ويطرحونها على أنّها كلام علمي.إنّ كلامهم العلمي يتمثل في وجوب الشك بكل شيء، وليس للإنسان أن يعلم أو يتيقّن شيئاً ! فكل ما يفهمه المرء في الأمور الدينية هو حق؛ لأنّه لا وجود للحق والباطل على الإطلاق ! ولا ملاك للحق والباطل سوى الفهم الشخصي للإنسان !

( وَنَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ )(١) فهذه الفئة الضالة والجاهلة وهؤلاء الجَهَلة المتظاهرون بالعلم قد نصبوا للناس مصائد من حبال الخداع والقول الكذب، وأخذوا يخدعونهم بأقوالهم وأفعالهم الخاطئة.

( قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ )(٢) فهؤلاء يفسّرون القرآن الكريم بآرائهم، ويحملون آياته على أفكارهم، ويصنّفون الحق طبقاً لرغباتهم وأهوائهم النفسية.

ثمّ يشيرعليه‌السلام إلى الأساليب الدعائية لهؤلاء الناس ويقول : إنّ هؤلاء ولغرض إثارة اهتمام الناس واستقطاب الآخرين، يجعلون الناس يأمنون كبائر ذنوبهم والعواقب الوخيمة لأعمالهم وأفعالهم، ويقلّلون من شأن الذنوب الكبيرة في أنظار الناس، ويشجّعونهم على ارتكابها، ويهوّنون اقتراف الجرائم المعاصي، ويصوّرونه سهلاً في أعين الناس، وهم في الحقيقة إنّما يُضعفون الحَمية الدينية والخوف من الله لدى الناس بانتهاكهم للحرمات.

يقولعليه‌السلام : إنّ هؤلاء الناس يقولون لدى الحديث والجدال : إنّنا نتحاشى ارتكاب الشبهات، ونتجنّب قول الكلام والأحكام المشكوك بها والمشبوهة، في حين بما أنّهم

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٨٦.

(٢) نفس المصدر.

١١٧

يجهلون أحكام وموازين الشرع والدين فهم يخوضون في وَحل الشبهات، ففي معرض الكلام يقولون : إنّنا نتحاشى البدع والأحكام المخالفة للدين بينما هم يرقدون في وسط البدع، وكل ما يدلون به في شأن الدين على أساس رأيهم هو بدعة، وأمثال هؤلاء رغم أنّهم بصورة إنسان لكن قلوبهم وأرواحهم قلب وروح حيوان؛ لأنّهم لا يعرفون باب الهداية ليهتدوا، ولا يعرفون باب الضلال والغواية كي يتجنبوه، وهؤلاء أموات بين الأحياء.

ثمّ يخاطبعليه‌السلام الناس قائلاً : بعد اتضاح الحق من الباطل ومعرفة أتباع كلٍّ منهما، وقد ارتفعت رايات الحق وتجلت وبانت معالمه فأين تذهبون ؟! لماذا تحرمون أنفسكم من علوم أهل البيتعليهم‌السلام ، وتبقون حيارى تائهين وبين ظهرانيكم صراط الهداية المستقيم، وعترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبإمكانكم الانتهال من أنوار هداية الأئمةعليهم‌السلام ؟!.

وفي بيان أشد بكثير من كلامهعليه‌السلام يذكر القرآن الكريم هؤلاء الجَهَلة المتظاهرين بالعلم، ويوجّه التحذير للناس من مكائدهم فيقول :( وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) (١) .

بالرغم من أنّ أعداء الأنبياء ومناوئي الهداية الإلهية بشر في الظاهر والصورة، ولكن بما أنّ جميع أفعالهم لا مردود منها سوى إضلال الآخرين، ولا عاقبة لها سوى إثارة الشبهات، وبالتالي إضعاف العقائد الدينية لدى الناس، ومواجهة الهداية الإلهية، فإنّ القرآن يصفهم بشياطين الإنس، ويحذّر الناس من اتّباعهم.

تعامل عبيد الدنيا المتظاهرين بالإسلام مع القرآن

إنّ الذين ليسوا أقوياء من حيث الإيمان بالله ولوازمه، ولم يترسّخ الإيمان في قلوبهم

____________________

(١) الأنعام : ١١٢.

١١٨

وأرواحهم كما يجب وينبغي، لا يستبشرون إزاء الدين والقيم الدينية لدى حصول تعارض بين رغباتهم النفسية وإرادة الله والقيم الدينية، ويميلون من الناحية النفسية لأن يفسّروا ويوجّهوا الأحكام والقيم الدينية بما يلائم ميولهم وباتجاه أهوائهم النفسية، وسيكون مفرحاً بالنسبة لهذه الفئة إذا ما غدا تفسير الدين والقرآن مباحاً بما يتناسب مع أهوائهم النفسية؛ لأنّهم بذلك يكونون قد حقّقوا مطامحهم النفسية من جهة، ولم يخرجوا حسب الظاهر من ربقة الإسلام، ويتمتعون بامتيازات الإسلام داخل المجتمع الإسلامي من جهة أخرى.

من الطبيعي أيضاً أن يُقبل الذين لم يترسّخ الإيمان والتقوى في قلوبهم وأرواحهم، وليسوا من الملتزمين كثيراً بالقيم الدينية والأحكام الإلهية على مثل هذه الاستنباطات للدين والقرآن، وأن يحتذوا بالذين يفسّرون ويوجّهون الدين والقرآن والقيم الدينية طبقاً لميولهم النفسية، ويتخذوهم قدوةً لهم ويُطرون عليهم ويمدحونهم، ومن الطبيعي أيضاً أن لا تربط هؤلاء الناس علاقة حسنة مع تلك الطائفة من علماء الدين، الذين يفسّرون القرآن والأحكام ويبينوها كما هي عليه، دون الأخذ بنظر الاعتبار رضا الناس وأذواقهم.

ومع شديد الأسف أنّنا نشهد اليوم أناساً يعملون وتحت طائلة القراءات المتعددة للنصوص الدينية؛ لإضفاء صبغة دينية على مطامحهم وأهوائهم النفسية، ويتلاعبون بدين الله وبالقرآن الكريم؛ لغرض بلوغ مآربهم الدنيوية.

إلى جانب توقعه للوضع المذكور يشكو عليعليه‌السلام غربة القرآن في زمانه وفي آخر الزمان فيقول: ( إِلَى اللَّهِ أَشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالاً، وَيَمُوتُونَ ضُلاّلاً، لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاوَتِهِ، وَلا سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَلا أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلا عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَلا أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْكَرِ )(١) .

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٧.

١١٩

ويقولعليه‌السلام حول موقع القرآن ومعارف الدين بين أهل آخر الزمان : وإنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ( فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ، فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ، وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ، لا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ، فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُمْ؛ لأَنَّ الضَّلالَةَ لا تُوَافِقُ الْهُدَى وَإِنِ اجْتَمَعَا، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ وَافْتَرَقُوا عَلَى الْجَمَاعَةِ، كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ )(١) .

حريّ جداً وضروري أن يضع مجتمعنا وشعبنا في الحسبان نبوءات القرآن ونهج البلاغة هذه، حول الأجيال القادمة والأوضاع والوقائع الدينية، ويستقرؤوا الوضع الثقافي السائد في مجتمعهم ويعرضوه على هذه التنبؤات؛ ليشعروا بالخطر إذا ما وجدوا الوضع الديني للمجتمع لا يسير بالاتجاه المنشود - لا سمح الله - وينبروا لإصلاح الثقافة الدينية في المجتمع، على أبناء كل عصر أن يتبعوا الولي الفقيه وعلماء الدين وأعلامه، ويعملوا على الحفاظ وصيانة ثغور العقيدة وقيمهم الدينية، ويتخذوا القرآن أسوةً لهم؛ ليأمنوا فتن آخر الزمان، ويكونوا على حيطة وحذر؛ لئلا يصبحوا مصداقاً لهذه التنبؤات.

على أية حال، إنّ أمير المؤمنين يتنبأ فيقول : سيأتي من بعدي زمان ليس فيه أخفى من الحق، ولا أشهر من الباطل، وأكثر الأمور في ذلك الزمان هو الكذب والافتراء على الله ورسوله، يتشبث به الجهلاء بالعلم والمنافقون عبيد الدنيا؛ لبلوغ مآربهم.

____________________

(١) نفس المصدر : الخطبة ١٤٧.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130