تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة0%

تجلي القرآن في نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 130

تجلي القرآن في نهج البلاغة

مؤلف: آية الله محمد تقي مصباح اليزدي
تصنيف:

الصفحات: 130
المشاهدات: 64538
تحميل: 7190

توضيحات:

تجلي القرآن في نهج البلاغة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 130 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64538 / تحميل: 7190
الحجم الحجم الحجم
تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

إنّ الله هو الذي لا معنى للمستقبل والماضي والحاضر بالنسبة إليه، وبإمكانه الحديث عن المستقبل والإخبار به، وهو القادر على توضيح الطريق لعباده كيف يعملون ليبلغوا السعادة، إنّه القرآن الذي يخبر بما مضى وما سيأتي ويطلع البشر به؛ لذلك يقولعليه‌السلام : ( أَلا إنّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ).أي اعلموا أنّ في القرآن الكريم علم ما يأتي وما مضى.

دور القرآن في الحياة

يصف عليعليه‌السلام القرآن بأنّه مفتاح لعلاج جميع المشكلات فيقولعليه‌السلام في وصفه : ( ودواء دائكم ونظم ما بينكم )، ففي القرآن دواء لآلامكم والسبيل لحل مشكلاتكم وتنظيم أموركم، إنّ القرآن دواء فيه شفاء لجميع الأمراض، وبوجود القرآن تتلاشى الآلام والمتاعب، فلابد من قراءة هذه الوصفة التي فيها الشفاء، ومطالعتها بدقة والتعرف على سبيل علاج الأدواء، والمشكلات الفردية والاجتماعية.

من البديهي أنّ الكلام عن العلاج قبل الشعور بالألم والمشكلة يُعد أمراً خارجاً عن المسيرة الطبيعية، فلابد أَوّلاً من معرفة الأمراض الفردية والاجتماعية وتشخيصها، من خلال استقراء الآيات القرآنية الكريمة، والتدقيق بها، ومن ثَمّ المبادرة لعلاجها من خلال استخدام هذه الوصفة الشافية.

إنّ في مجتمعنا اليوم الكثير من المشكلات سواء كانت فرديةً أو اجتماعيةً، والجميع يصبو لإزالتها وبالرغم من تحقّق تقدم ملفت في مختلف المجالات، فقد بقيت مشكلات جمّة ما فتئ المسؤولون يسعون لعلاجها بأي شكل من الأشكال.

في هذه الخطبة يقولعليه‌السلام : ( ودواء دائكم ونظم ما بينكم )، فالقرآن وصفة لعلاج دائكم ومشكلاتكم، وفي الخطبة ١٨٩ يعبّرعليه‌السلام قائلاً : ( وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ ) أي أنّ القرآن دواء لا يبقى معه داء.

٢١

الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه قبل كل شيء هو الإيمان بقول عليعليه‌السلام ، أي يجب أن نعتقد بكل كياننا أنّ العلاج الحقيقي لأمراضنا ومشكلاتنا الفردية منها والاجتماعية يكمن في القرآن، ونحن جميعاً نعترف بهذا الأمر لكن مراتب الإيمان واليقين لدى الناس متفاوتة، فرغم أنّ هنالك أناساً يعتقدون بكل كيانهم أنّهم إذا ما اقبلوا على القرآن واستعملوا معارفه وإرشاداته، فإنّ القرآن وصفة شافية لجميع الأمراض، لكن أمثال هؤلاء نادرون، ولعلّ من أعظم المشكلات التي يعانيها مجتمعنا هي ضعف الإيمان بهذا الأمر، وهذا ما أدى إلى أن تبقى الكثير من المشكلات على حالها، ونتيجةً للجهل أو انحراف الفكر ربّما ينبري أناس لإثارة هذه الفكرة الضالة : من أنّه رغم أنّ القرآن بين أيدينا ونحن ندّعي اتّباعه فلماذا لم تُعالج مشكلاتنا، وما فتئ الناس يكابدون المصاعب الاقتصادية، من قبيل التضخم والغلاء، وآلاف المشاكل الفردية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية ؟ نقدم هنا إيضاحات للرد على هذا التساؤل.

القرآن دليل الخطوط العامة

يبدو أنّه من السذاجة بمكان أن يتوقع أحد أن يقوم القرآن بالحديث عن الأمراض والمشاكل الفردية والاجتماعية، واحدة واحدة، كما في الكتب الخاصة بعلاج المشاكل، ومن يقدّم توضيحاً لعلاجها بالتسلسل، إنّ للقرآن شأناً بالمصير الأبدي للإنسان، وهدفه فلاح الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، وبهذا الصدد فإنّ القرآن الكريم يقدّم لنا الخطوط العامة، التي نستطيع من خلال تفعيلها أن نحيى حياة ملؤها السعادة، فهذه الخطوط العامة مصابيح تؤشّر لنا اتجاه المسير والحركة، ولكن ينبغي أن ننتبه إلى أنّ الله عزّ وجلّ وضع تحت تصرّف الإنسان وسيلتين؛ لبلوغ السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة، وعلاج المشكلات وإقامة المجتمع الحضاري، وفي نفس الوقت الديني والإسلامي، أحدهما الدين والآخر العقل.

٢٢

إنّ القرآن يوضّح الخطوط العامة لرقي الإنسان وتكامله، والمجتمع الإسلامي مكلّف بتمهيد الأرضية لتحقيق أهداف القرآن السامية، وذلك بقوة الفكر والعلم والاستعانة بالتجارب العلمية للإنسان، والقرآن لا يكتفي بعدم النهي عن الاستعانة بالتجارب العلمية للآخرين - حتى غير المسلمين - بل يعتبر العلم وديعةً إلهية ويحثّ المسلمين على تعلّمه، ولغرض ترغيب المسلمين وتشجيعهم على طلب العلم يقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( اطلبوا العلم ولو بالصين )(١) ، فتعلّموا العلم واستثمروا التجارب العلمية للآخرين، وإن استلزم تحقّق ذلك قطع طريق طويل جداً، وبطبيعة الحال أنّ العلاقات الدولية اليوم في غاية التعقيد، والدول الاستكبارية والقوى السلطوية تحاول من خلال شتى الألاعيب، ومختلف الوسائل التكنولوجية والاقتصادية، عبر الاستفادة بشكل عام من نتائج التجارب العلمية للإنسان، أن تفرض علاقاتها السلطوية، ولكن يتعيّن علينا أن نستثمر وبذكاء حاد ودون أدنى تراجع عن أهدافنا الإسلامية والقرآنية، ثمار العلوم البشرية في مختلف الأصعدة في طريق إنعاش الوضع الاقتصادي، وعلاج المشكلات المعاشية للناس.

بناءً على هذا أنّ القرآن لم يكن وليس بصدد الإجابة على جميع المشاكل الحياتية للإنسان صغيرها وكبيرها، بل هو يبيّن الخطوط الجوهرية والعامة لسعادة الإنسان وتكامله، ويدلّ المسلمين عليها ويدعوهم إليها، وفي هذا المقطع وعلى هامش حديث عليعليه‌السلام حول شفاء القرآن نشير إلى أحد الخطوط العامة المستوحاة من القرآن، ونقدّم إيضاحاً له كأنموذج.

نموذج من الخطوط العامة في القرآن

يقول القرآن الكريم :( وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْقُرَى‏ آمَنُوا وَاتّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ

____________________

(١) بحار الأنوار : ج ١، ص ١٧٧.

٢٣

السّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِن كَذّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (١) .

هذه الآية من المحكمات التي لا وجود لأي تشابه فيها، وتتضمن معنىً صريحاً وجلياً بما لا يدع مجالاً لأي شك وشبهة فيها، بنحو لا يستشف في هذا الإطار اللغوي أي معنى سوى ما يفهمه كل ناطق له معرفة باللغة العربية، فدع عنك الضالة أفكارهم ، والقائلين بالقراءات المتعددة، والاستنباطات الجديدة، فلربّما يقولون نحن نفهم من كلمة الليل النهار ونستشف من التحجّب العري ! وإنّني أذكّر بأنّنا سوف نتحدث بالتفصيل في المستقبل عن ( القراءات المتعددة للدين ).

إنّ هذه الآية تبيّن أحد الخطوط العقائدية العامة، وتقدّم في نفس الوقت السبيل لعلاج المشاكل الاقتصادية والسبيل لإزالة المصاعب المعاشية، وشرح هذه الآية هو : لو أنّ أهل القرى على هذه الكرة الأرضية آمنوا والتزموا التقوى، لفتحنا عليهم بركات السموات والأرض، لكنّهم لم يلتزموا التقوى وكفروا وجحدوا بنعم الله، فكانت النتيجة أنّهم ابتلوا بصنوف المشكلات والابتلاءات.

بناءً على هذا أنّ القرآن الكريم يرى بكل صراحة أنّ تحقق التنمية الاقتصادية، والانتعاش في حياة المؤمنين، وإزالة المصاعب الاقتصادية، ونزول النعم، ونزول بركات السماء والأرض بشكل عام، رهن بالإيمان والتقوى، وفي المقابل يصف كفران النعم الإلهية وجحودها سبباً في زوال النعم ونزول الابتلاءات وأنواع الشدائد، وعرفان قدر النعمة وشكرها مدعاة لزيادتها وكفران النعمة سبباً للعذاب، يقول القرآن :( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (٢) وهنا نشير إلى إحدى النعم الإلهية الكبرى، التي عمّت الشعب الإيراني العظيم نتيجةً لاتّباعه القرآن الكريم، ونبتهل إلى الله جلّت عظمته أن يمنّ على الشعب بتوفيق شكرها، ونعوذ بذاته القدسية أن تُسلب هذه النعمة الكبرى منا نتيجةً لكفرانها.

____________________

(١) الأعراف : ٩٦.

(٢) إبراهيم : ٧.

٢٤

تجلّي العطاء الإلهي في قيام الحكومة الإسلامية

كلنا يصدّق بأنّ من أعظم طموحاتنا نحن المسلمين بعد استشهاد الإمام عليعليه‌السلام أن تكون لنا حكومة عادلةً، تستند إلى الوحي والأحكام الإلهية، فلقد كان أجدادنا وأسلافنا يحلمون بإقامة مثل هذه الحكومة، وبينما كانوا يعيشون تحت نير الملوك وسلاطين الجور في أجواء يشوبها الاضطراب، دون أن يكون لهم دور يذكر في شؤونهم الاجتماعية، كان قيام حكومة إسلامية بمثابة حلم بعيد المنال بل ومستحيل.

بعد مرور ألف وأربعمِئة عام، وفي هذا المقطع التاريخي، ونتيجة لتمسّك الشعب المسلم في إيران بالقرآن الكريم، وقيادة الولي الفقيه، ونائب الإمام المعصومعليه‌السلام له، مَنَّ الله تبارك وتعالى على الشعب الإيراني بواحدة من أعظم نعمه أي الحكومة الإسلامية.

من الطبيعي أنّنا لسنا بصدد تبرير النواقص والعيوب والأفعال، بل ما هو موضع تأكيد هنا هو أصل قيام هذا النظام المقدس لتطبيق الأحكام الإلهية يعتبر من النعم الإلهية.

إنّ ما يثير الاهتمام الآن وبعد مضي عشرين عاماً على انتصار الثورة، وما يضاعف من هاجس الحريصين على الثورة وحراس القيم الدينية والأخلاقية، هو أن يفقد المجتمع إيمانه وتقواه، وتأخذ قيمه الثورية والدينية بالاضمحلال تدريجياً، وبالتالي يفلح أعداء الإسلام وإيران في تنفيذ مخططاتهم في إطار الغزو الثقافي، ويتسلّطون مرةً أخرى على الشعب الإيراني المسلم بفصلهم الجماهير ولا سيما جيل الشباب عن القيم الدينية والثورية.

ربّما يتبادر هذا السؤال هنا وهو ما العمل لكي تُصان القيم العقائدية والدينية للمجتمع، وبالتالي يفشل العدو في تمرير مخططاته من ناحية، ولنتغلب على جميع المشكلات من ناحية أخرى؟

في المقطع موضع البحث من الخطبة ١٥٧ من نهج البلاغة يلفت عليعليه‌السلام الاهتمام إلى هذا الموضوع، ويصف طريق علاج المشكلات الفردية والاجتماعية بالرجوع إلى القرآن والعمل بتعاليمه.

٢٥

علاج المشكلات الاجتماعية في ظل اتّباع القرآن

إنّ كلام عليعليه‌السلام بهذا الخصوص يمثّل وجهاً آخر لكلام نبي الإسلام الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : ( إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن )(١) فحيثما خيّمت على مجتمعكم الاضطرابات والهواجس، والمشكلات والفوضى، والفتن كقطع الليل الحالك، ولم تصلوا إلى سبيل لعلاج مشكلاتكم فعليكم الرجوع إلى القرآن، فاجعلوا توجيهاته المخلّصة مِلاكاً للعمل.

إنّ تعاليم القرآن تحيي في القلوب روح الأمل والتغلب على المصاعب، وتهبها السعادة والفلاح، وتنقذ البشر من اليأس والإحباط.

من الطبيعي أنّ كل انتصار رهن بإرادة وسعي البشر، وبناءً على هذا إذا ما أردنا أن نحافظ على استقلالنا وحريتنا وحكومتنا الإسلامية، ونكون في أمان من كل مؤامرة وفي ظلال الله سبحانه وتعالى، فلا سبيل سوى العودة إلى الله وأحكام القرآن، والتوبة عن حالات الكفران وانتهاك الحرمات، التي بدرت من بعض المنبهرين بالغرب إزاء القيم الدينية.

من السذاجة بمكان إذا ما تصورنا أنّ القوى الاستكبارية تتفق مع مسؤولي نظام الجمهورية الإسلامية في أصغر قضية، تصب لصالح الشعب الإيراني المسلم ولا تخدم مصالحهم الاستعمارية، ومن فادح الجحود أيضاً أن نتخلى عن القرآن الكريم - معجزة النبي الخالدة التي تكفل السعادة والفلاح - ونمد يد الحاجة نحو الأعداء، ونترك ولاية الفقيه التي هي استمرار لولاية الأنبياء والأئمة المعصومين، ونقبل بولاية وتسلط الشياطين وأعداء الله، نعوذ بالله من أن يحلّ يوم يتعرض الشعب المسلم في إيران للغضب بسبب جحود النعمة العظمى المتمثلة بالاستقلال والعزة والأمان، ويصنع بيده أداة سقوطه وذلته من جديد.

____________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٢، ص ١٧.

٢٦

على أية حال، إنّ واجب أبناء الشعب لا سيما القائمين على الشؤون الثقافية للبلاد، أن يدافعوا عن حياض العقائد والقيم الأخلاقية والدينية للمجتمع.

إنّ تصوّر البعض ممّن لا يتمتعون برؤية كافية في مجال المعارف الدينية، والواقعين تحت تأثير النظريات الفردية والتيارات العلمانية، فيما يخص المقطع موضع البحث من كلام الإمامعليه‌السلام حيث يقول : إنّ في القرآن سبيل علاج جميع أدوائكم ومشاكلكم، هو أنّ المراد من الأدواء والمشكلات هي الأمراض والمشكلات المعنوية والأخلاقية الفردية للناس، لكن هذا التفسير ليس صحيحاً في نظرنا؛ لأنّ موضع البحث أعم من القضايا والمشكلات الفردية والاجتماعية.

لا يخفى أنّ التطرّق بالتفصيل لموضوع فصل الدين عن السياسة، وفقدان النظرية العلمانية لأي أساس، يستدعي فرصةً أخرى، ورغم ذلك سيتضح من خلال بيان وتوضيح كلام أمير المؤمنينعليه‌السلام على مر هذا البحث هشاشة نظرية فصل الدين عن السياسة وبطلان التيار العلماني.

تنظيم الشؤون الاجتماعية في ضوء توجيهات القرآن

يقول عليعليه‌السلام ( أَلا إنّ فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم)، فبعد تصريحهعليه‌السلام بأنّ في القرآن علم الماضي والمستقبل، وفي القرآن دواء جميع الأدواء يذكّرعليه‌السلام بهذا الأمر وهو : ( ونظم ما بينكم )، ففي القرآن النظام والطريق لتنظيم العلاقات فيما بينكم أيّها المسلمون، فهذا الكتاب السماوي يحدّد كيفية علاقاتكم الاجتماعية، ولغرض توضيح هذه العبارة الوجيزة وفي نفس الوقت الضامنة للحياة الاجتماعية للمسلمين لا مناص لنا من إيراد مقدمةً موجزة.

إنّ أعظم هدف لكل نظام سياسي واجتماعي هو توفير النظم والأمن الاجتماعي، فلا يمكن العثور على مذهب سياسي في العالم ينكر هذا الهدف، بل إنّ توفير الأمن

٢٧

وإقرار النظام يقف على أساس واجبات كل حكومة، ويقال أيضاً إنّ إقرار النظام السياسي والاجتماعي من أهداف علم السياسية، وقد دأبت كافة الأنظمة السياسية الحاكمة على المجتمعات البشرية على الحديث عنه كأهم أهداف نظامها الحكومة، ولو في شعاراتها وإعلامها على أقل تقدير.

دور الهدف في الحياة الاجتماعية

لابد هنا من الانتباه إلى دور الهدف في الحياة الاجتماعية؛ لأنّه لا يمكن التحدّث عن النظم الاجتماعي دون اتخاذ هدف في الحياة الاجتماعية، وهذا الهدف يقتضي سلوكيات خاصة، وبأداء هذه السلوكيات الخاصة في إطار الحياة الاجتماعية يحاول الناس بلوغ ذلك الهدف، الذي هو بدوره منبثق عن ثقافة وفكر أبناء المجتمع، بنحو أنّ كل مجتمع يحتاج إلى نظام اجتماعي معيّن وفقاً لطبيعته الأَوّلية وفي إطار ثقافته وفكره؛ لذلك تحاول القوى الاستعمارية وفي إطار سياستها الاستكبارية جرّ الشعوب باتجاه أهدافها الاستعمارية، وتفريغها من ثقافتها الأصلية، وأن تُمسك بأنظمة الشعوب وثقافتها من خلال فرض ثقافة دخيلة.

بناءً على هذا يجب تحري أيّ نظم تقتضيه الثقافة والفكر الذي يسود المجتمع، ومن البديهي أنّ الثقافة الدينية المنبثقة عن القرآن والرؤية التوحيدية للكون، تستدعي نظماً وسياسةً تصب باتجاه تحقق الهدف من الخلقة، وتوفير السعادة والفلاح للإنسان في الدنيا والآخرة؛ لأنّ سعادة الإنسان وتكامله هي غاية الإسلام والقرآن بالأساس.

ومع شديد الأسف أنّ بعض المثقفين والليبراليين، الذين هم مسلمون من جهة، ويفتقرون للبصيرة الكافية في القضايا السياسية والاجتماعية في الإسلام من جهة أخرى، وبالتالي فإنّ الهاجس والتعصب الديني ضعيف جداً لديهم، غافلون عن هذا الأمر المهم، وعندما يجري الحديث عن النظم الاجتماعي يتداعى إلى أذهانهم النظم

٢٨

الاجتماعي المنبثق عن الديمقراطية الغربية، في حين أنّ النظم الاجتماعي في الغرب منبثق عن فكره العلماني؛ فنظراً لقلة معلوماتهم الدينية يتصور هؤلاء المثقفون أنّ تنظيم الشؤون الاجتماعية، وإدارة المجتمع على أساس النظام ممكن في فصل الدين عن السياسة فقط، وهذا بحد ذاته يُعدّ من إفرازات الاستعمار الثقافي ومن النجاحات التي حقّقتها القوى الاستكبارية؛ حيث استطاعت تخدير عقول مَن يصطلح عليهم مثقفي دول العالم الثالث، وأفرغتهم من الفكر الديني، وبدّلتهم إلى أدوات لإشاعة ثقافتها الاستعمارية.

على أية حال، إنّ كل شيء ومَن بين ذلك النظام الاجتماعي يُقيّم في الثقافة التوحيدية والإسلامية في إطار الهدف من الخلقة، ومن الطبيعي أنّ الهدف من النظام الاجتماعي في الثقافة الدينية والقرآنية، ليس توفير الرفاه المادي والمصالح الدنيوية فقط، بل الغاية هي التكامل الإنساني والسعادة الأخروية للإنسان إلى توفير الرفاه والمصالح الدنيوية، ومن الواضح أنّ السعادة الأخروية ترجح على الأمور الدنيوية في مقام التزاحم.

الآن وفي ضوء هذه المقدمة نعود إلى كلام الإمام عليعليه‌السلام حول دور القرآن في إقرار النظام السياسي والاجتماعي للمجتمع، وندقّق في كلامهعليه‌السلام ؛ كي نتعرّف أكثر على رؤية الولاية لدور وموقع القرآن في الحياة الاجتماعية.

يبيّن عليعليه‌السلام وبتعبير إعجازي دور القرآن في تنظيم الشؤون الاجتماعية للمجتمع، ويلفت انتباهنا إليه؛ لئلا نغفل عنه، فبعد قولهعليه‌السلام إنّ القرآن داء لدائكم وعلاج لمشكلاتكم يقول : ( ونظم ما بينكم )، أي في القرآن نظم شؤونكم والعلاقات فيما بينكم، ربّما يعني أنّكم إن كنتم تنشدون النظام المنشود والمعقول، الذي ينال جميع أبناء المجتمع حقوقهم المشروعة تحت ظلاله، فعليكم أن تنظّموا أموركم على أساس تعليمات القرآن.

لا يخفى على الواعين أنّ عبارة ( ونظم ما بينكم ) تقصد الشؤون والعلاقات

٢٩

الاجتماعية للأفراد، فبالرغم من أنّ الأفراد مكلّفون أيضاً بتنظيم أمورهم الشخصية والفردية على أساس توجيهات القرآن، لكن عبارة ( ونظم ما بينكم ) لا تشمل نظام الأمور الشخصية للأفراد، كما لا يخفى على اللغويين أنّ علياًعليه‌السلام يروم في المقاطع موضع البحث بيان دور الأبعاد الاجتماعية للقرآن الكريم، وببيانهعليه‌السلام لهذا الأمر من أنّ نظمكم الاجتماعي يكمن في القرآن الكريم، إنّما يقول للمسلمين ولأتباعه : يجب أن تنظّموا أموركم السياسية وعلاقاتكم الاجتماعية على أساس القرآن.

من الواضح أنّ هذه الوصفة السماوية الشافية لا تداوي داءً من الأمراض الاجتماعية التي يعاني منها مجتمعنا، ما دامت تعد لدى مسؤولي النظام الإسلامي إرشادات أخلاقية غير واجبة التنفيذ، ولا تكون موضع قناعة واعتقاد وإيمان قلبي عندهم، وببيانهعليه‌السلام لأمور حساسة في سياسة النظام الديني، إنّما يبيّن حقائق يتعذر بدون استثمارها الوصول إلى مجتمع إنساني يقوم على أساس القسط والعدل، وينال فيه جميع الناس حقوقهم وتكاملهم المنشود.

بناءً على هذا، أنّ أهم وأجدى عامل هو عامل إيمان واعتقاد وقناعة المسؤولين، وأرباب الحكم بالبرامج والسياسات العامة للقرآن الكريم، فما لم يكن لديهم إيمان قلبي، واعتقاد راسخ بالقرآن، وفاعلية توجيهاته، لحل مشكلات المجتمع وتوفير السعادة للناس، فإنّهم لا يكتفون بأَلاّ يجعلوا القرآن قدوتهم في العمل بل لا يقدمون على فهم معارف القرآن أيضاً، وبما أنّهم يحكمون في بلد إسلامي وعلى شعب مسلم ربّما يسمّون أنفسهم مسلمين، ويطلقون على حكومتهم اسم حكومة إسلامية، على صعيد الظاهر والشعار؛ لغرض الحفاظ على مكانهم بين أبناء شعبهم وسائر الشعوب الإسلامية، في حين أنّ الأنموذج الحكومي الوحيد الذي ليس وارداً بالنسبة إليهم هو الحكم على أساس قوانين الإسلام والأنموذج المنبثق عن القرآن، بيد أنّ تغرّب الحكومات التي تسمّى إسلامية عن الدين والثقافة القرآنية لا سيما في مجال السياسة وإدارة المجتمع ليس

٣٠

بالأمر الذي يجهله المسلمون؛ لأنّ جميع الشعوب الإسلامية تعلم أنّ الأنظمة الحكومية في بلدانهم ليست إسلامية، وأنّ الثقافة والعقلية الحاكمة على المسؤولين الحكوميين، تختلف كلياً عن العقلية والأنموذج الذي يتبلور على أساس الثقافة القرآنية.

إنّ ما يدفع المرء للدهشة والتعجب، وبنفس الوقت هو موضع أسف وقلق، الوضع الثقافي الحاكم على بلدنا الإسلامي العزيز إيران، ففي بلد ثار وانتصر على أساس تعاليم القرآن والثقافة الدينية وبقيادة الولي الفقيه، من المؤسف والمقلق حقاً أن تُدلّل أحاديث ومواقف وممارسات بعض المسؤولين في القطاع الثقافي، على أنّهم لا يمتلكون معرفةً كافيةً بهذا الكتاب السماوي، ولا يرون الأنموذج الحكومي المنبثق عنه أكثر كفاءة من كل أنموذج آخر شرقي أو غربي، فهؤلاء دائمو التراجع عن أصول الثورة الإسلامية والقيم الدينية؛ وبسبب افتقارهم للإيمان الكافي واليقين القلبي، يصرّحون دون خجل تارةً بالتلويح، وأخرى بالتصريح، قائلين لقد ولّى زمن حاكمية القرآن وفاعلية الثقافة الدينية على صعيد الحكم، ولا حاجة للمجتمع البشري في هذا الزمان للوحي الإلهي، وهو لوحده قادر على طرح مناهج أفضل لإدارة المجتمع وتوفير الأمن وإقرار النظام.

كان مناسباً أن نشير إلى ظلم الأنظمة الحكومية القائمة في العالم، والكوارث والجرائم التي تُقترف بحق الشعوب باسم الأنظمة المتطورة المتحضرة؛ لينكشف أكثر خَواء الكلام الآنف الذكر، وعدم إيمان وانهزامية القائلين به، لكنّنا لكي لا نبتعد عن صلب الموضوع، ونتجنّب الإطالة في الحديث، نغض الطرف عن الحديث عن الإجحاف، وهضم حقوق البشر والظلم والجريمة، وانعدام الأمن الموجود في الأنظمة الوضعية.

على أية حال إنّما تتجلّى كفاءة الحكومة القائمة على أساس تعاليم القرآن في توفير القسط والعدل والنظام في المجتمع، عندما يكون لدى المسؤولين وأرباب الحكم قناعة

٣١

ويقين قلبي بها، ويضعون قوانين القرآن وتعاليمه نصب أعينهم على الصعيد العملي، وإلاّ فلن يحكم على المجتمع، وعليه فإنّ حاكمية القرآن في المجتمع رهن بإيمان كوادر الحكومة، واعتقادهم القلبي بهذا الكتاب السماوي، وهذا الأمر بدوره منوط بمعرفتهم بهذه الوصفة الإلهية الشافية، وشعورهم بالحاجة للدين والحكومة الإلهية، وهذا الشعور لا يتأتى إلاّ بخلق روح العبودية وإزالة روح الاستكبار والتعالي في مقابل حاكمية الله سبحانه وتعالى، فروح الاستكبار هي تلكم الروح المذمومة التي هبطت بالشيطان من رحاب التشرف بمرتبة الملائكة والقرب من عرش الله وتسبّبت بشقائه الأبدي.

جدير في هذا المجال أن نصغي لكلام عليعليه‌السلام في الخطبة ١٧٥ التي يبيّن فيها العواقب الوخيمة للابتعاد عن القرآن الكريم، فهذا الكلام إنذار للذين يصفون أنفسهم أتباعاً لعليعليه‌السلام من جهة، ومن جهة أخرى يرون عدم كفاية القرآن والأنموذج الحكومي المنبثق عنه لإدارة المجتمع البشري المعاصر، ويرجّحون النتاجات الفكرية الناقصة للإنسان على الحكومة الولائية للقرآن في رسم السياسات الحكومية، على أمل أن يزداد جميع أبناء شعبنا - لا سيما المخطّطين والمتصدين للشؤون الحكومية في ظل هذه التعليمات - إيماناً بضرورة محورية القرآن في المجتمع الإسلامي، وتوظيف تعاليمه في ميادين العمل.

الغنى في ظل اتّباع القرآن

في الخطبة المذكورة يصف عليعليه‌السلام القرآن على أنّه معلّم فيقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لا يَغُشُّ، وَالْهَادِي الَّذِي لا يُضِلُّ، وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لا يَكْذِبُ، وَمَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، زِيَادَةٍ فِي هُدىً أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمىً .إلى أن يقولعليه‌السلام :

٣٢

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ، وَلا لأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً، فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأْوَائِكُمْ، فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالْغَيُّ وَالضَّلالُ )

بوجود القرآن وحاكميته على المجتمع لا تبقى لأحد حاجة دون أن تتحقق؛ لأنّ القرآن الكريم أسمى رسالة إلهية لحياة الموحّدين، وأنّ الله تبارك وتعالى قد ضمن لأتباع هذا الكتاب السماوي العزة والفلاح في الدنيا والآخرة، بناءً على هذا إذا ما طبّق مجتمعنا الإسلامي أحكام القرآن وتعاليمه الزاخرة بالحياة، وآمن بصدق وعوده جاعلاً منه أسوة في العمل، فإنّ القرآن يُلبّي كافة مقتضيات المجتمع الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية، ويجعل المجتمع الإسلامي في غنىً عن كل شيء وكل أحد.

وفي المقابل يتحدثعليه‌السلام عن خطر الابتعاد عن القرآن، رافضاً فكرة إمكانية علاج المشكلات وتلبية الحاجات الفردية والاجتماعية للمجتمع بدون القرآن الثقل الأكبر، فيقول : ( وَلا لأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنْ غِنىً ).فلن يُغنى أحد بدون القرآن، ولن يستغني المجتمع عن القرآن أبداً، أي لو وُظّفت جميع العلوم والتجارب البشرية، وحُشّدت كافة الأفكار والنظريات؛ لإقامة مجتمع يقوم على أساس القسط والعدل والقيم الأخلاقية والإنسانية، فإنّها لن تُجدي نفعاً بدون القرآن؛ وذلك لتعذر استغناء أحد بمعزل عن القرآن، وعلى هذا الأساس يقولعليه‌السلام : ( فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لأْوَائِكُمْ ).فاطلبوا من القرآن زوال أدوائكم ومشكلاتكم، وابحثوا في القرآن عن الحيلة في الشدائد والصعاب.

وبعد تذكّرهعليه‌السلام بأعظم الأمراض الفردية والاجتماعية أي الكفر والضلال والنفاق، يقول إنّ سبيل علاج هذه الأمراض والمشكلات يكمن في القرآن، وعليكم الرجوع إلى القرآن الكريم لعلاج أمراضكم ومشكلاتكم.

بناءً على هذا يجب أخذ الأصول العامة والخطوط الأساسية من القرآن وتلمّس

٣٣

طريق علاج المشكلات باتّباع تلك الأصول العامة، والاستفادة من التجارب والتدبر والعلم، فإذا ما نهضنا ساعين لعلاج المشكلات معزّزين بهذه الرؤية، فمن المؤكد أنّنا سنتغلب على جميع المشكلات وفي كافة الميادين، لأنّ هذا وعد الهي حيث يقول جلّ وعلا :( وَمَن يَتّقِ اللّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً ) (١) فمَن يلتزم بتقوى الله ولا يتمرد على أحكامه، فإنّه تعالى يهيئ له سبيلاً للخلاص والخروج من المشكلات.

القرآن دواء لأعظم الأدواء

ربّما لا ينسجم الكلام الآنف الذكر مع أذواق المغرورين، والذين لا نصيب لهم من تقوى الله ومن علوم القرآن وأهل البيتعليهم‌السلام ، والذين يتصورون أنفسهم بأنّهم يقفون عرضياً مع الله سبحانه وتعالى؛ لِما يعرفونه من مصطلحات في العلوم البشرية، بيد أنّ كل إنسان عاقل يقرّ بأنّ كل ما اكتشفه الإنسان نتيجةً لتطوره العلمي المذهل، إنّما هو بمثابة قطرة من بحر في مقابل مجهولاته، وأنّ كافة مزاعم المدارس الأخلاقية غير الإلهية في تقديم نموذج للمدينة الإنسانية الفاضلة، لا تعدل صفراً في مقابل العلم الإلهي، الذي لا ينفد وعلوم أهل البيتعليهم‌السلام النابعة من الإلهام الإلهي.

على آية حال إنّ علياً يرى أنّ أعظم مرض في المجتمع البشري هو الكفر والنفاق والضلال، فهذه الأمراض النفسية هي التي تصيب المجتمع بصنوف المشكلات والمصائب، ولابد من البحث على علاجها في القرآن : ( فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ وَالْغَيُّ وَالضَّلالُ )، فأعظم الداء عبارة عن الكفر والنفاق والغي والضلال، وعلاجه عبارة من الإيمان بالقرآن واتّباعه.

وينبغي الانتباه إلى أنّه ليس معنى هذا القول : ( اطلبوا دواء أدوائكم من القرآن؛ لأنّه دواء لجميع الأدواء والمشكلات )، إنّ القرآن شأنه كوصفة الطبيب الذي يقوم

____________________

(١) الطلاق : ٢.

٣٤

بتشخيص أمراضكم البدنية، ويكتب لكلّ منها دواء للشفاء منها، ولا أن يتم تعلّم معادلات علاج الأمور من القرآن في مجال المشاكل الاقتصادية والعسكرية، أو في الحقول الصناعية والتقنية، كلا فلا يُفسّر كلامهعليه‌السلام بهذا المعنى مَن يتمتع بأدنى معرفة بالمعارف الدينية، لأنّ علاج الأمراض الجسمية وحل سائر المشكلات يحتاج إلى أدواته وطرقه الطبيعية، والقرآن الكريم - كما قيل آنفاً - يبيّن الخطوط العامة لعلاج هذه المشكلات، والناس مكلّفون بحل مشكلاتهم وعلاج أدوائهم من خلال الالتزام بالخطوط العامة للقرآن، واستثمار العقل والقابليات التي وهبها الله إيّاهم، والاستفادة من تجارب العلوم البشرية، وهنا نلفت اهتمام القرّاء الأعزّاء إلى أمرين هما :

الأَوّل : بالرغم من أنّ للأسباب والعلل الطبيعية والمادية معلولاتها ومسبباتها، ولكن من الضروري الانتباه إلى هذه القضية وهي أنّ الله تبارك وتعالى علّة العلل لجميع الظواهر، فهو الذي خلق نظام الكون على أساس العلاقة بين العلّة والمعلول، وهو الذي يمدّ الأسباب والعلل بالسببية والعليّة، وهذه إرادته التكوينية التي لولاها لا استقلال لأي فاعل في تأثيره بفعله، بناءً على هذا لابد أن نتوجه بالأصالة إلى الله سبحانه وتعالى، ونتطلع بأعين الأمل نحوه لعلاج كافة الأدواء وإزالة الابتلاءات والمشكلات، ورغم لجوئنا إلى الأسباب والعلل الطبيعية لحل المشكلات والبرء من الأمراض، لكنّه وبمقتضى التوحيد الأفعالي يتعيّن أن نعتبر ونتوقع الشفاء وحل المشكلات منه تعالى بالأصل.

الأمر الثاني : هو ينبغي عدم اعتبار طريق الوصول إلى حل المشكلات، وعلاج الأمراض محصوراً بالأسباب العادية والطبيعية، أي ليس الأمر إذا ما انعدمت الأسباب والعلل العادية والطبيعية، أو انعدمت فاعليتها لحل المشكلات، تنتفي إمكانية إزالة المشكلة أو الشفاء والبرء من الأمراض، أو تحقق كل رغبة مشروعة وحقّة للإنسان، فالله سبحانه وتعالى بخلقه لنظام العلة والمعلول لم يجعل نفسه عاجزاً عن

٣٥

خلق أية ظاهرة بطريق غير طبيعي، بل إنّ سُنّة الله قضت بأن تُنجز الأمور عبر مجراها الطبيعي، بيد أنّ إنجاز الأمور لا يقتصر على المجرى الطبيعي، وإنّما يقوم الله سبحان وفي ظل ظروف خاصة بإيجاد أمور خارج سياقها الطبيعي، ويمكن القول إنّ هذه سُنّة إلهية أيضاً، فمن الممكن أن يحصل الشفاء والبرء من المرض عن الطريق الطبيعي ومعاينة الطبيب، ومن الممكن أن يحصل في ظل ظروف خاصة عبر العلل غير المادية، من قبيل دعاء الأئمة المعصومين، أو دعاء غيرهم من أولياء الله، مثلما يمكن أن ينتصر جنود جبهة التوحيد بفعل الإمداد الغيبي والأسباب غير الطبيعية، في حين أنّهم بحكم المنهزمين أمام العدو من حيث المصاديق المادية والشروط الطبيعية، وهذا أمر يُعد من الأسباب والعلل الإلهية أيضاً.

لقد ورد في القرآن الكريم أمثلة من الحوادث التي وقعت خارج إطار الأسباب العادية والطبيعية، فمثلاً لو قدّر لهطول الأمطار أن يجري عبر علله وأسبابه الطبيعية، فلابد من أن تتبخر مياه البحار والمحيطات نتيجةً لأشعة الشمس والحرارة، ثمّ يتحول إلى غيوم، ونتيجةً للاختلاف في درجة الحرارة بين البحر واليابسة تهب الرياح؛ وبهبوبها تسير الغيوم من على البحار نحو بقاع الأرض؛ كي تُنزل قطع الماء الموجودة في الغيوم وفي ظل ظروف معيّنة، على شكل قطرات مطر، أو حبيبات من الثلج أو البرد على الأرض، فتوقّع هطول الأمطار بغير أسبابه وعلله الطبيعية يعتبر توقّعاً عبثاً وغير معقول من وجهة النظر المادية، لكنّ نوحاًعليه‌السلام ودون أن يضع في الحسبان الأسباب الطبيعية لنزول المطر، قال لقومه استغفروا ربّكم وتوبوا إليه؛ كي تُنزل السماء عليكم مطرها :( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ ثُمّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السّماءَ عَلَيْكُم مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوّةً إِلَى‏ قُوّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلّوْا مُجْرِمِينَ ) (١) أيّها القوم استغفروا ربّكم وتوبوا إليه وعودوا إلى الله؛ ليُنزل مطراً غزيراً من السماء، وبنزول الرحمة الإلهية وهطول المطر تزدادون قوةً

____________________

(١) هود : ٥٢.

٣٦

واقتداراً، ثمّ يقول :( وَلاَ تَتَوَلّوْا مُجْرِمِينَ ) ، أي إيّاكم أن تعرضوا عن الله دون توجه واستغفار إليه وانتم مجرمون مذنبون، ولا تحرموا أنفسكم من الرحمة الإلهية.

بالرغم من أنّ جميع الأسباب الطبيعية لنزول المطر وكل نظام العلة والمعلول الحاكم على الطبيعة، بيد القدرة الإلهية وتعمل بإرادته جلّ وعلا , لكن الله سبحانه وتعالى ودون أن يضعها في نظر الاعتبار، يقول استغفروا لذنوبكم وعودوا إلى الله، إذ ذاك نوعز للسماء أن تُنزل مطرها عليكم.

ربّ قائل يقول ليس مراد الله سبحانه وتعالى أن ينزل المطر دون تحقق الأسباب الطبيعية، بل المراد هو أنّنا نُنزل المطر عليكم عبر توفير الأسباب الطبيعية، والرد هو أنّ هذه الرؤية لا تنسجم مع الرؤية التوحيدية؛ لأنّه وكما تقدم القول ليس الأمر أنّ الله قد اعجز نفسه عن خلق الظواهر دون أسبابها وعللها الطبيعية بخلقه لنظام العلّة والمعلول، فهو تعالى يقول بصدد قدرته على خلق الأشياء :( إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١) فإذا ما تعلقت إرادته جلّ وعلا بشيء فستتحقق إرادة الله ويتحقق ذلك الشيء.

الحكمة من بعض الابتلاءات

فضلاً عن الأمور المتقدمة، قد تستدعي حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمانيته أن يمنّ على عباده بلطفه، وينزل عليهم نعمته من خلال طرق غير طبيعية، ولأجل ذلك فقد يضع جلّ وعلا أسباباً وعللاً أخرى غير الأسباب والعلل المادية، ويدعو الناس لأن يجعلوا من أنفسهم مستحقين لنزول الرحمة والنعم الإلهية بتوسلهم بتلك الأسباب، وهذا بدوره مقتضى اللطف والحكمة الإلهية أيضاً.

إنّ نظام الخلق يقوم على أساس الحكمة، والهدف من خلق الإنسان هو الهداية والتكامل، وإنّ الهداية والتكامل إنّما يحصلان، في ظل المعرفة والتدبر بآيات الله ،

____________________

(١) يس : ٨٢.

٣٧

والعبودية والعمل بتعاليم أنبياء الله ودين الحق، لكن الناس ينحرفون أحياناً عن جادة الحق نتيجة الذنب والمعصية، فعندما يعيش الناس حالة الرفاه المادي، بحيث لا يعانون مشكلةً من الناحية الاقتصادية والتنعّم باللذائذ المادية، ويتوفر لهم ما يريدون، قلّما يقبلون نحو الله والمعنويات، وفي هذه الأثناء تضعف لديهم الخصائص الإنسانية والإلهية تدريجياً وبالتالي يطويها النسيان، وفي خاتمة المطاف تتمهّد لديهم الأرضية للطغيان والكفر والضلال والانحراف.

يقول القرآن :( إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى‏ * أَن رَآهُ اسْتَغْنَى ) (١) فالإنسان يطغى عندما يرى نفسه غنياً، إذا ما أصبحت روح الاستكبار والطغيان هي الروح السائدة على الغالبية من المجتمع والأمّة، فإنّ لطف الله وعنايته تستوجبان أن ينذر الناس ويوقظهم من سبات الغفلة، بنحو يعيدهم إلى جادة الحق وطريق العبودية.ولغرض تحقّق هذه الغاية قد يُنزل تعالى الابتلاءات من قبيل الفقر والجفاف، وفي المقابل يضع الاستغفار والتوبة من الذنوب والتوجه إلى الله والصلاة سبيلاً لعلاج هذه الابتلاءات؛ ليتحقق في النهاية الهدف من الخلقة وهو هداية الناس وتكاملهم الاختياري.

إنّ هذه المعادلة من السُنن الإلهية العجيبة حيث كان يبعث نبياً ويبتلي أُمّته بأشد الابتلاءات؛ لكي لا يغفلوا عن الله وعن طريق الحق، ولا يصدهم الانغماس في اللذائذ المادية عن السعادة.

على أية حال إنّ نزول بعض الابتلاءات سبب في يقظة وانتباه الغافلين؛ لأنّ الناس إنّما يدركون بشكل أفضل حاجتهم إلى الله في الظروف الصعبة، ويصبحون أكثر استعداداً لتقبّل الحق وتعاليم الأنبياء ممّا عليه في حالة الترف، يقول القرآن :( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيّ إِلاّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضّرّاءِ لَعَلّهُمْ يَضّرّعُونَ ) (٢) فنحن لم نبعث في قرية أو بلدٍ نبياً إلاّ وابتلينا أهل تلك القرية بالشدائد والابتلاءات والعذاب لعلّهم

____________________

(١) العلق : ٦ و ٧.

(٢) الأعراف : ٩٤.

٣٨

يعودون إلى أنفسهم، ويتضرّعوا أمام الله سبحانه وتعالى، وقد صرّحت الآيتان ٧٥ و ٧٦ من سورة المؤمنون بهذا المضمون أيضاً :( وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِن ضُرّ لّلَجّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرّعُونَ ) .

فلو أنّنا عفونا عنهم وأزحنا عنهم ما نزل بهم بلاء لأصرّوا بقلوب عمياء على طغيانهم.

بناءً على هذا؛ إنّ الفلسفة من بعض عذابات الأمم وشدائدها هي يقظتها وأوبتها إلى طريق الهداية، وإن كانت هذه الشدائد والمحن والابتلاءات ربّما لا توقظ بعض الأمم، وتبقى متماديةً في ضلالها وانحرافها، وفي مثل هذه الحالة تتم الحجة عليها، ولينتظروا نزول الكوارث التي تضع حداً لحياتهم.

في الآيات ٤٢ - ٤٤ من سورة الأنعام يخاطب القرآن نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى‏ أُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضّرّاءِ لَعَلّهُمْ يَتَضَرّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرّعُوا وَلكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمّا نَسُوا مَا ذُكّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْ‏ءٍ حَتّى‏ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُبْلِسُونَ ) .فحري بنا أن نعلم أنّ هذه سُنة إلهية كانت قد جرت على الأمم السابقة، وأنّ أُمّة النبي الخاتم ليست مستثناة منها.

على أية حال، إنّ وجود بعض الابتلاءات والمصاعب والمحن أسباب تذكير وهداية بالنسبة لذوي البصيرة والحريصين على سعادتهم ومصيرهم، ورغم ذلك وكما يقول القرآن إنّ هنالك أناساً يغطون في غفلة لا يوقظهم منها أي إنذار أو تنبيه.

إذن، الابتلاءات والشدائد التي تحصل للمجتمعات والأمم لغرض تنبيه الناس وإيقاظهم لا تختص بأمم الأنبياء السابقين، بل أنّ هذه القضية من ألطاف الله وتأتي؛ لإيقاظ الأمم وتوجيهها نحو الله، والمهم هو معرفة الفلسفة من مثل هذه الوقائع واستلهام العبر من الماضي والتوبة والأوبة إلى الله.

ومع شديد الأسف قلّما يلتفت أحد في مجتمعنا إلى هذه القضية، ولهذا يتشبث بعض المسؤولين إمّا؛ عن غفلة وإهمال، أو لضعف في الإيمان والمعتقد بغير الله؛ للخلاص من

٣٩

المصاعب الاقتصادية ومن بينها شحة المياه والجفاف، فينفقون أموالاً طائلة من بيت مال المسلمين كي يصنعوا المطر من خلال تحميل الغيوم عن طريق المواد الكيمياوية.وا لهفاه لهذا التصور الباطل ! أو تكمن العلة التامة لنزول المطر في حصول الغيوم وانتقالها بفعل هبوب الرياح، إضافة إلى بضعة عوامل غيرها كي يتشبث الإنسان بخيوط عنكبوتية نسجها بنفسه فيأخذه الغرور، وبدلاً من أن يوجّه عباد الله وعامة المسلمين نحو الله للتوسل بألطافه وإحسانه، يبحث في أعالي الجبال عن قطع الغيوم فيفتتحها لتدر بالمطر بعد تحميلها ! حقاً أنّ هذه القضية تثير في الأذهان قصة النبي نوحعليه‌السلام وابنه، فبعد ٩٥٠ سنة من الدعوة إلى الله يأسعليه‌السلام من إيمان قومه بالله، وبعد اليأس من اهتدائهم وظهور علامات العذاب دعا ابنه؛ لأن يؤمن ويركب في السفينة كي ينجو من العذاب المحتّم، لكنّه أفصح لدى ردّه على أبيه عن فكره الملوّث بالشرك قائلاً :( سَآوِي إِلَى‏ جَبَلٍ يَعْصِمُني مِنَ الْمَاءِ ) (١) وكلنا يعلم أنّه لم يؤمن وهلك في خاتمة المطاف، وأنّ الله سبحانه وتعالى ببيانه لهذه القصة؛ إنّما يبيّن الفكر الملوّث بالشرك ويحذّر الناس منه.

إنّ هذا الفكر الملوّث بالشرك متفشٍ الآن بين البعض لا سيما المثقفين المنبهرين بالغرب، فهؤلاء بدلاً من أن يؤمنوا بالله ويسوقوا الناس بأقلامهم وكتاباتهم نحو الله، فقد علّقوا أنظارهم صوب أيدي أعداء الإسلام والمسلمين متوقعين العون من العدو.

ليس خافياً على الواعين أنّنا لسنا نرفض التطور العلمي وإنجازات العلوم البشرية؛ لأنّ الدين والقرآن والفكر التوحيدي يدعو أكثر من أي دين آخر الناس لتعلّم العلم والاستفادة من معطيات العلم والفكر البشري، وما يجري التأكيد على رفضه هنا والتحذير من عواقبه الوخيمة، هو هذا الفكر الممزوج بالشرك الذي ممّا يؤسف له أنّ المبتلين به ليسوا قلةً في مجتمعنا.

____________________

(١) هود : ٤٣.

٤٠