تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة0%

تجلي القرآن في نهج البلاغة مؤلف:
تصنيف: مفاهيم القرآن
الصفحات: 130

تجلي القرآن في نهج البلاغة

مؤلف: آية الله محمد تقي مصباح اليزدي
تصنيف:

الصفحات: 130
المشاهدات: 64513
تحميل: 7190

توضيحات:

تجلي القرآن في نهج البلاغة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 130 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64513 / تحميل: 7190
الحجم الحجم الحجم
تجلي القرآن في نهج البلاغة

تجلي القرآن في نهج البلاغة

مؤلف:
العربية

على أية حال إنّ أفضل الطرق وأقربها وأكثرها اطمئناناً لعلاج المشكلات الفردية والاجتماعية، هو العودة إلى رحاب الله؛ لأنّ انتخاب صراط الله بالإضافة إلى أنّه يكفل لنا السعادة الأبدية والأخروية، فأنّه يعالج مشكلات الحياة الدنيا ومصاعبها أيضاً :( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السّماءَ عَلَيْكُم مِدْرَاراً ) (١) .

بناءً على هذا؛ إنّ القرآن يقدّم لأتباعه السُبل لسد النواقص وازدهار أمور المسلمين، ويكفل فاعلية تلك السُبل بالإضافة إلى أنّ بإمكان المسلمين أن يجرّبوا مثلما جرّبوا مراراً.

لا شك في أنّ انتصار الثورة في إيران أحد الأمثلة الإعجازية لنصر الله، والإمدادات الغيبية لمجتمعنا الإسلامي، فعندما توكل أبناء الشعب بأجمعهم على الله، وقطعوا الأمل عن سواه، وطالبوا بحكومة إسلامية فإنّ الله وطبقاً لِما وعد به بقوله في القرآن :( إِن تَنصُرُوا اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ ) ،(٢) ورغم سطوة النظام الملكي ذي التاريخ الممتد ل- ٢٥٠٠ سنة ورغم دعم أعداء الإسلام، نصر أبناء الشعب على أعدائهم، وستبقى السّنة الإلهية جارية من أنّ الناس ما داموا مقبلين على الله فإنّه سيمنّ عليهم بالنصر، ومتى ما نسوا الله وترقبوا العون من سواه واعرضوا عنه سيكون العذاب والذلّة بانتظارهم.

على أية حال، ليس من شك في أنّ القرآن الكريم وصفة العلم الإلهية الشافية، وأنّ سعادة الإنسان وفلاحه في الدنيا والآخرة تكمن في اتّباع تعاليمها الحياتية، ويجب البحث فيها عن طريق علاج المشكلات الفردية والاجتماعية، يجب معرفة القرآن، هذا الكتاب الذي يكفل السعادة للإنسان، والاجتهاد في تعظيمه وتكريمه والعمل به، وهنالك نمطان من تعظيم القرآن وتكريمه نشير إليهما تِباعاً.

____________________

(١) نوح : ١٠ و ١١.

(٢) محمّد : ٧.

٤١

التكريم الظاهري والحقيقي للقرآن الكريم

إنّ أكثر ما هو موجود اليوم في المجتمعات الإسلامية من احترام للقرآن يمكن تسميته احتراماً ظاهرياً، بينما لم ينزل القرآن الكريم كي نقابله بآداب وطقوس وتعظيم من طابع معيّن فقط، فالقرآن ليس للحفظ والتلاوة بلحن وصوت جميلين وحسب، القرآن كتاب الحياة وكتاب البلاغات، التي كلّف الجميع بتطبيقها على صعيد حياتهم الدنيوية؛ كي ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة، وبالخصوص منهم المتصدين للحكم في الشعوب الإسلامية، فهم مكلّفون بأن ينظّموا السياسات العام لأنظمتهم وتنفيذها على أساس توجيهات هذا الكتاب الإلهي؛ لتتهيأ الأرضية بنحو أفضل لتنامي ورقي ثقافة القرآن بالنسبة لأبناء المجتمع، وبالنتيجة يتحقق الهدف من نزول القرآن، وهو تكامل الإنسان وسعادته في ظل نشر العدل والقسط على وجه الأرض.

وعلى العكس من هذا التوقع فإنّ ما نشهده اليوم على أنّه تكريم وتعظيم للقرآن لا يتعدى - وللأسف - حدود الاهتمام بالظواهر السطحية، فيما جرى التغافل عن ضرورة محورية القرآن في الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين، ففي الكثير من الأمصار الإسلامية هنالك اليوم مؤسسات تهتم بأمر تعليم وتعلّم القرآن الكريم بدءً من، المراحل التمهيدية، والابتدائية، وحتى مستوى الجامعات، وتجتهد في مجال تعلّم التلاوة وحفظ القرآن وقراءته بطرق مختلفة، ونشهد كل عام إقامة مسابقات دولية لحفظ وقراءة القرآن الكريم، وتتبوّأ مختلف العلوم القرآنية من قبيل التجويد والترتيل وغيرها موقعاً متميزاً في أوساط محبّي القرآن، بالإضافة إلى ذلك أنّ القرآن يتمتع باحترام خاص في أوساط عامة المسلمين، بحيث إنّهم لا يمسون كلماته وآياته بأيديهم دون وضوء، ويجلسون بكل أدب عند قراءته، فأكثر الناس لا يمدّون أرجلهم في مقابل القرآن، ويقومون بتجليده بأفضل أنواع التجليدات، ويضعونه في أحسن الأماكن، وخلاصة القول إنّ حالات التكريم الظاهري على هذه الشاكلة شائعة بين عامة المسلمين.

٤٢

من الطبيعي أنّ مراعاة الأمور الآنفة الذكر بوصفها احتراماً لهذا الكتاب السماوي قيمة واجبة، مهما التزمنا بها فإنّنا لم نؤدِ حق احترام هذا الكتاب السماوي كما يستحق، ولم نؤدِ الشكر لله سبحانه وتعالى على النعمة الكبرى وهي نعمة الهداية، لكن أسمى أنواع الاحترام والشكر لأية نعمة، هو معرفة حقيقتها وتوظيفها في الاتجاه الذي خلقها الله من أجله، وإذا ما أردنا أن ننظر إلى القرآن بهذه النظرة، ونقوم باحترامه وتعظيمه، يتضح لنا أنّ القرآن الكريم كما هو أهله، وما ذُكر على أنّه صور من احترام المسلمين للقرآن الكريم رغم أنّها ضرورية ولازمة، بيد أنّ هدف الله سبحانه وتعالى لا يتحقق بأداء هذه الأمور، ولا يُنجز تكليف المسلمين إزاء هذا الكتاب السماوي، فمعرفة ظواهر القرآن وتلاوة آيات الله والتعظيم الظاهري لهذه الوصفة الشافية، هي مقدمة للعمل بمضامينها وتعاليمها، ولا يؤدى الحق الواقعي للقرآن دون اتخاذه محوراً في الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين.

إنّ تقبيل وصفة الطبيب واحترامها، وقراءتها بألحان جميلة، بلا فهم لتعليمات الطبيب وإرشاداته والعمل بها، لا تداوي للمريض داءً، فكل عاقل على قناعة بأنّ تحسّن الصحة منوط بالعمل بتعليمات الطبيب المحنّك، فالاحترام الحقيقي لوصفة الطبيب هو في العمل بها، وليس القيام باحترامات ظاهرية للطبيب ووصفته.

ويمكن القول أيضاً بشأن القرآن بالرغم من أداء الاحترامات الظاهرية للقرآن الكريم، من الأمور المحبّبة ومن واجبات المسلمين فرداً فرداً، لكنّها أقل واجب على المسلمين إزاء هذا الكتاب، والمسلمون مكلّفون بأداء الشكر والتعظيم الواقعي لهذه النعمة الإلهية الكبرى، وذلك بفهمهم للقرآن الكريم والعمل بأحكامه الحياتية، وأن لا يحرموا أنفسهم من هذا التراث المعطاء؛ كي يتسنّى لهم بالنتيجة تنوير دنياهم المظلمة بهذا النور الإلهي.

٤٣

القرآن نور حقيقي

النور أحد مظاهر تجلّي الله عزّ وجل، فالله يشبّه نفسه بالنور إذ يقول :( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (١) وهذا نور الله تبارك وتعالى قد تجلّى فخُلقت السموات والأرض والمخلوقات، وبفضل عناية الله يقوم عالم الوجود، وان فيض الوجود مافتئ ينهمر على الموجودات من مشكاة الجود، وبالتالي تواصل المخلوقات والموجودات حياتها.

قد يعبّر عن كلام الله بالنور أيضاً، ففي ظل النور يبصر الإنسان الطريق وينجو من التيه والضلال، وبما أنّ أسوء الضلال والانحراف وأكثره خسراناً هو الضلال والانحراف في مسيرة الحياة وتعرّض سعادة الإنسان للخطر، فإنّ النور الحقيقي هو الذي ينقذ البشر والمجتمع الإنساني من الضلال والانحراف، ويبيّن أمامهم الطريق الصحيح للكمال الإنساني؛ ليميزوا طريق السعادة والكمال عن طرق السقوط والضلالة.

على هذا الأساس عبّر الله جلّ وعلا عن القرآن بالنور إذ يقول :( قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ) (٢) أي أنّ نوراً وكتاباً منيراً قد جاءكم من ربّكم؛ كي تميّزوا من خلال انتفاعكم به طريق السعادة عن طريق الشقاء، ونظراً لأنّ موضوع البحث هو القرآن في منظار نهج البلاغة، فإنّنا نغض الطرف هنا عن تفسير وتوضيح الآيات الواردة في هذا المجال، ونتطرّق لتوضيح كلام الإمام عليعليه‌السلام بهذا الشأن.

في الخطبة ١٨٩ وبعد وصفه للإسلام والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول عليعليه‌السلام في وصف القرآن الكريم : ( ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ، وَسِرَاجاً لا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ وَبَحْراً لا يُدْرَكُ قَعْرُهُ )

إنّ علياًعليه‌السلام بوصفه للقرآن في هذه الخطبة يحاول من خلال ثلاث تشبيهات رائعة، أنّ يعرّف قلوب المسلمين عظمة القرآن، ويستقطب انتباههم أكثر فأكثر إلى هذه الثروة الإلهية الضخمة التي هي في متناول أيديهم.

____________________

(١) النور : ٣٥.

(٢) المائدة : ١٥.

٤٤

في البداية يصفعليه‌السلام القرآن بالنور فيقول : ( أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ )، فالله الذي أنزل القرآن نوراً على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لكن هذا النور يختلف عن سائر الأنوار، فهذه الحقيقة - القرآن الكريم - نور لا تنطفئ مصابيحه ولا يتوقف إشراقه أبداً، إنّ القرآن - من باب تشبيه المعقول بالمحسوس - كمصدر عظيم للطاقة الكهربائية، يقوم وعبر مصابيح شديدة الإنارة تتصل بشبكة إيصال الكهرباء، بإضاءة الطرق إلى المقصد الذي تنتهي إليه في الليالي المظلمة، وبوضع مصابيح الدلالة على مفترق طريقين أو عدة طريق، يبيّن أمام الساعين لبلوغ غاياتهم الطريق الذي ينتهي إلى الهدف عن سائر الطرق، التي تودي إلى الضلال والسقوط في الأودية الخطيرة.

إنّ القرآن يؤدي مثل هذا الدور في المجتمع الديني الإسلامي وفي حياة المتطلعين للسعادة والفلاح، مع فارق أنّ المصابيح التي يغذّيها هذا المصدر وتضيء طريق السعادة لا تنطفئ أبداً، وبالتالي فإنّ طريق الحق مستقيم ولاحِب على الدوام، وإنّ القرآن الكريم ومصابيحه المضيئة تنبّه أتباع القرآن على الدوام قائلةً لهم احذروا الانحراف عن جادة الحق.

في مقطع آخر من هذه الخطبة يقولعليه‌السلام : ( ونوراً ليس معه ظلمة )، فالقرآن نور لا يدوم الظلام بوجوده؛ لأنّ لهذا الكتاب السماوي مصابيح تستمد النور منه فتضيء طريق الهداية والسعادة دائماً.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ الأئمةعليهم‌السلام - الذين هم مفسرو الوحي الإلهي - هم بمثابة تلك المصابيح حيث يوضّحون معارف القرآن للناس، ويقومون بما وهبهم الله من علم بتعريف المسلمين بحقيقة القرآن.

مصابيح القرآن وأنواره

كما نعرف أنّ القرآن والعترة - طبقاً لحديث الثقلين - بما يمثّلانه من وديعتين إلهيتين

٤٥

يكمّلان بعضهما البعض في طريق هداية الموحدين، فبالتمسك بإحداهما والتخلّي عن الأخرى لا يتحقق الهدف من نزول القرآن المتمثل بهداية البشر.فالأئمة المعصومونعليهم‌السلام مصابيح يستمدون النور من هذا المصدر الإلهي، وينيرون طريق الحياة للناس الذين ينشدون السعادة؛ إذ إنّ علوم القرآن وحقيقته عندهم، فتلك الذوات المقدسة هم الذين يستطيعون إرجاع المتشابهات إلى المحكمات، وتمييز الطريق عن المنحدر وإرشاد بني الإنسان نحو طريق السعادة والكمال، ويتعيّن على الناس أن يأخذوا معارف القرآن عنهم فقط ويقوموا بتطبيقها.

إنّ حكمة الله تقتضي وسنّته تنص على أن يتعرّف الناس على معارف القرآن عن طريق أهل البيتعليهم‌السلام ، وبتطبيقهم لها يعملون على ضمان سعادتهم الدنيوية والأخروية، ولغرض تحقّق هذا الهدف فقد أبقى الله سبحانه وتعالى على طريق الانتهال من معارف القرآن مفتوحاً أمام التوّاقين للسعادة؛ وذلك بوضعه لمنصب الإمامة، رغم أنّ المعاندين وعبيد الدنيا هبّوا على مدى التاريخ؛ ليحرموا الناس من نور الهداية الإلهية المتمثل بمذهب أهل البيتعليهم‌السلام ، لكن القرآن يصرّح أنّ هؤلاء لن يفلحوا بعملهم هذا :( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاّ أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (١) .

لهذا السبب يشبّه عليعليه‌السلام القرآن بالسراج لا يخبو توقّده ولا ينطفئ نوره.

إنّ معارف القرآن من العمق والسعة بحيث أنّ العارفين بعلوم أهل البيتعليهم‌السلام كلما تدبروا به ينالون في كل خطوة معرفةً ومعلومةً جديدة، وبما أنّ هذا الكتاب السماوي نسخة من العلم الإلهي، فإنّ التوّاقين للحقيقة مهما شربوا من ماء حقيقته الصافي فإنّهم ليسوا لا يرتوون فحسب بل يزدادون عطشاً، من هنا نرى أنّ أولياء الله والعارفين بحقيقة القرآن، يسعون بتلاوتهم لآيات الله أثناء الصلاة والتدبّر فيها؛ إلى تلطيف أرواحهم، ويضعون أنفسهم أكثر فأكثر في مصاف الإلهامات الإلهية ونزول المعارف

____________________

(١) الصف : ٨.

٤٦

الإلهية اللامتناهية.

إنّ القرآن شمس ساطعة لا تفنى معارفه، وإشراقها أبدية، لأنّ هذا الكتاب كبحرٍ عميقٍ، لا يتيسر الوصول إلى أعماقه إلاّ للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومينعليهم‌السلام العارفين ب- ( علم الكتاب ) وإنّ أي إنسان وأي مجتمع يصبو إلى التعرّف على القرآن وكلام الله، وينظّم حياته الفردية والاجتماعية على أساس تعاليم هذا الكتاب، فلا طريق أمامه سوى التمسّك بالقرآن على أساس تفسير وبيان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومينعليهم‌السلام ، والاقتداء بسيرتهم ونهجهم، وتأييداً لهذا الأمر نشير إلى مقاطع من روايتين فقط.

يقول الإمام الصادقعليه‌السلام : ( ونحن قناديل النبوة ومصابيح الرسالة، ونحن نور الأنوار وكلمة الجبار، ونحن راية الحق التي مَن تبعها نجا ومَن تأخر عنها هوى، ونحن مصابيح المشكاة التي فيها نور النور )(١) بما يعني أنّ الناس يجب أن يهتدوا بهدى الأئمةعليهم‌السلام نحو النبوة والرسالة، التي هي الهداية إلى الحق، ومنا ينطلق نور جميع الأنوار، فحاكمية الله إنّما تتحقق من خلال ولايتنا.

وروي شبيه هذا الكلام عن الإمام السجادعليه‌السلام أيضاً إذ يقولعليه‌السلام :

( إنّ مثلنا في كتاب الله كمثل المشكاة والمشكاة في القنديل فنحن المشكاة، فيها مصباح والمصباح محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، المصباح في زجاجةٍ نحن الزجاجة، كأنّها كوكب دريّ توقد من شجرة مباركة زيتونة معروفة، لا شرقية ولا غربية لا منكَرة ولا دعيّة، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نارٌ، نور القرآن على نورٍ يهدي الله لنوره مَن يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم، بأن يهدي مَن أحبّ إلى ولايتنا )(٢) ، في كلامهعليه‌السلام هذا فسّر الآية ٣٥ من سورة النور بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل البيت والأئمة المعصومينعليهم‌السلام ، فيقولعليه‌السلام إنّ مثلنا نحن أهل البيت في القرآن كالمشكاة، التي عن طريقها ينير نور الهداية الإلهية الطريق أمام العباد، ونحن أهل البيت بمثابة الزجاجة نعكس للعباد نور المصباح ونبراس الهداية وهو نور النبوة، وهذا النور ينبثق عن شجرة النور الإلهي المباركة الممتد

____________________

(١) بحار الأنوار : ٢٦، ٢٥٩.

(٢) بحار الأنوار : ج٢٣، ص٣١٤.

٤٧

شعاعها ولا يمكن إنكارها، وهذه الحقيقة لا شرقية ولا غربية لا مجهولة ولا متروكة.

يقول الإمام السجادعليه‌السلام : إنّ حقيقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الكرامعليهم‌السلام بمثابة المصباح الشفاف الذي يشع نوراً دون حاجة لشعلة، فنور القرآن يقوم على ذلك النور - ولاية أهل البيتعليهم‌السلام - الذي يهدي الله إليه مَن يشاء.

فلاح اتّباع القرآن في يوم القيامة

كما تقدمت الإشارة أنّ ما يحظى بالدرجة الأُولى من الأهمية بالنسبة للإنسان، والعقل يقضي بأن يكرّس كل اهتمامه من أجل تحقّقه على أفضل وجه، هو السعادة والفلاح الأخروي؛ لأنّ الحياة في هذا العالم مقدمة وتمهيد للحياة الأخروية الخالدة، فمثل الإنسان في هذا العالم نسبةً إلى عالم الآخرة كالمسافر، الذي يعمل ويجتهد ليلاً ونهاراً في بلاد الغربة متقشّفاً محاولاً جمع ثمرة جهوده وإرسالها إلى موطنه الأصلي ومسقط رأسه؛ ليقتني له داراً وملاذاً، ويهيئ رأس مالٍ كي يحيا لدى عودته ما تبقّى من أيام حياته وادعاً عزيزاً مكرّماً متنعماً بالإمكانيات التي أعدّها سلفاً، مع فارق أنّ الحياة الأخروية خالدة وأبدية.

إنّ عقائد الإنسان وأعماله وسلوكياته بذور يزرعها الإنسان بيديه في هذا العالم، وتتكشف ثمرتها ومحصولها في عالم الآخرة، ففي هذا العالم إذا ما غرس المزارع بذوره طبقاً لإرشادات عالم محنّك ومتخصّص بأمر الزراعة، فإنّه سيجني ثمرة جهوده في أوان الحصاد كميةً أكبر من الحاصل وبأفضل نوعية، وعلى هذا المنوال إذا ما نظّم الناس أعمالهم وسلوكياتهم على أساس تعاليم القرآن الكريم وعلوم أهل البيتعليهم‌السلام ، ونظّموا أمورهم الفردية والاجتماعية والسياسية وفقاً لتوجيهات القرآن الكريم، فسيتنعمون بثمار أعمالهم الحسنة في الآخرة بالإضافة إلى العزة والرفعة في الدنيا، وسيكونون فرحين لِما أعدّوا لأنفسهم بأعمالهم الصالحة من مآل سعيد في جوار الرحمة الإلهية.

٤٨

يوضّح عليعليه‌السلام المضمون الآنف الذكر بتشبيه رائع جداً، ويدعو الناس للعمل بالقرآن وصيانة أحكامه الحياتية والدفاع عنها : ( فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَلا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ )(١) .

بعد بيانهعليه‌السلام للمطالب المتقدمة من أنّ القرآن دواء وعلاج لأعظم أدواء المجتمع، يوصي الناس : باتّباعكم للقرآن تلمّسوا منه دواء أدوائكم، وأقبلوا على الله بعملكم بالقرآن، ولا تجعلوا القرآن وسيلةً للاستعانة بالآخرين.

ثم ينبّهعليه‌السلام من خطر ابتعاد الناس عن القرآن، ويدعوهم إلى اتّباع هذا الكتاب السماوي، والاقتداء به نظرياً وعملياً : ( يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ، فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ )(٢) فعندما تقوم القيامة وتُبعث الخلائق للحساب ونيل العقاب والثواب، ينادي منادٍ فيُخبر أهل المحشر بهذه الحقيقة قائلاً : أيّها الناس اعلموا، أنّ كل إنسان مرهون اليوم بعاقبة عمله ومبتلى بآثار ومردودات ومحصول ما زرع، إلاّ الذين صاغوا عقائدهم وأعمالهم وأخلاقهم في الدنيا على أساس تعاليم القرآن وتوجيهاته، هؤلاء فقط الراضون عن عاقبة ونتيجة أعمالهم وأخلاقهم وعقائدهم، ولا يشعرون بالغبن أبداً.

التنبيه والإيقاظ

إنّ حياة كل مخلوق ومن بين ذلك الإنسان محدودة، فهذه الحياة تبدأ من نقطة زمانية معيّنة وتنتهي بالموت في نقطة زمانية محدّدة أيضاً، والإنسان على امتداد هذه الفترة المحدّدة يعيش حالة الصيرورة، وتمر شخصيته بحالة من الصياغة، فتصبح شخصية

____________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ١٧٥.

(٢) نفس المصدر السابق.

٤٩

الإنسان التي تنبثق عن معتقداته وقناعاته منشأً لأعماله وأخلاقه، وإنّ أعمال الإنسان وأخلاقه تتجسد يوم القيامة، وسيبتلي كل إنسان بمردودات ونتائج أعماله.

الأمر الذي حريّ التذكير به هنا هو : أنّ الإنسان مادام لم يرحل الدنيا فبإمكانه التعويض عن ما فاته من خلال المحاسبة وإعادة النظر في أفكاره وعقائده وأعماله في كل آن، وتغيير مصيره نحو السعادة والفلاح دنيوياً وأخروياً، فما أكثر الذين عادوا إلى أنفسهم في غضون لحظة واحدة وبقرار واحدٍ وتوبةٍ حقيقية، بدّلوا ماضيهم الأسود إلى مستقبل مشرق وسعيد، وقطعوا طريق مِئة عام في ليلة واحدة، ولكن ينبغي الانتباه إلى أنّ فرصة وإمكانية إعادة النظرة وتدارك الماضي إنّما هي سانحة في هذا العالم فقط، وتنتفي إمكانية تداركه بعد الموت والرحيل من هذا العالم الفاني.

إذا ما نظّم الإنسان أعماله وأخلاقه في هذا العالم على أساس القرآن والأحكام والمعارف الإلهية وكان - كما يعبّر عليعليه‌السلام - من حَرَثة القرآن فهو سيتنعم في الآخرة بثمارها وحصيلتها وسيكون سعيداً، ففرصة العمل والتدارك موجودة في الدنيا فقط، وعالم الآخرة ليس بمكان تدارك : ( اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل )(١) فاليوم يوم زراعة وعمل وليس هنالك حساب، وغداً يوم الجني والمحاسبة ولا وجود لفرصة العمل والتعويض.يقول عليعليه‌السلام الخبير بالدنيا والآخرة والعلاقة بينهما، وداعي الخير للمسلمين والحريص عليهم : ( فكونوا من حَرَثة القرآن ) فإن كنتم تنشدون السعادة فاجعلوا زراعتكم وعملكم في مزرعة القرآن المباركة، كونوا من الذين يعمرون دنياهم وآخرتهم بتعاليم هذا الكتاب السماوي، اجعلوا القرآن مقتداكم كي لا تخسروا.

سر النجاح ودور القرآن

يبدو أنّ هنالك ثلاثة شروط أساسية لتحقيق النجاح في كل خطة وسياسة لاسيما على

____________________

(١) بحار الأنوار : ٣٢، ٣٥٤.

٥٠

صعيد الأمور التربوية والثقافية والاجتماعية هي :

١ - صحة الخطة وصوابها باتجاه بلوغ الهدف المنشود.

٢ - الإيمان والقناعة بالخطة وتعليماتها.

٣ - العمل وِفق الأحكام والمقررات الواردة في الخطة.

من الطبيعي إذا ما انتفى أي من الشروط الثلاثة لا تتجلّى فاعلية الخطة المذكورة كما ينبغي، ولا يتحقق الهدف المنشود.

كلنا يقول إنّ القرآن كلام الله ورسالة حياتنا نحن المسلمين، لكن مجرد القول والإقرار الظاهري بهذا الأمر ليس كافياً، فالإقرار والتصريح إنّما يُعد إيماناً بالقرآن وتعاليمه الحياتية عندما ينم عن اعتقاد وقناعة قلبية، وأن يكون الإنسان مؤمناً من أعماق روحه بالقرآن وأحكامه، وأن يسلّم تسليماً خالصاً أمام كلام الله وبلاغاته، بمثل هذا الإيمان والاعتقاد والقناعة يتحقق شرط فاعلية القرآن - أي العمل على أساس أحكام القرآن - في هداية المجتمع.

يقول القرآن الكريم :( ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتّقِينَ * الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولئِكَ عَلَى‏ هُدىً مِنْ رَبّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (١) .

نحن نعرف أنّ للإيمان درجات، والمجتمع الإسلامي إنّما يستطيع أن يعيش الأمل بالتغلب على المشكلات، وتحقيق النصر على أعدائه ونيل العزة والعظمة - وما يعبّر القرآن الكريم - الفلاح والسعادة دنيوياً وأخروياً، عندما يكون المتصدون للشؤون الثقافية في المجتمع مؤمنين ومعتقدين من صميم القلب بالحكومة الدينية وتعاليم القرآن وأحكامه، لا أن يصوّروا أنفسهم مؤمنين بالقرآن مستخدمين الدين والثقافة الدينية للناس آلةً لكسب الجاه.

____________________

(١) البقرة : ٢ - ٥.

٥١

في القرآن يوصف الذين لا يؤمنون بالأحكام والتعاليم الإلهية، ويُظهرون الإيمان لخداع المسلمين وبلوغ مآربهم الدنيوية فقط، بالمنافقين، وقد جرى بيان المواصفات الظاهرية والباطنية لهذه الفئة في آيات عديدة من القرآن الكريم.

على أية حال، الأمر الذي نؤكّد عليه هنا هو إذا ما أردنا أن نعيش على أساس أحكام القرآن، ويسعد أبناء شعبنا بهذا الكتاب السماوي فيجب أن يؤمن جميع الناس لاسيما المتصدين للشؤون الثقافية في المجتمع، ويعتقدوا بالقرآن ويسلّموا أمامه تسليماً إبراهيمياً، يتقبّلون في ضوئه أحكام القرآن دون لفٍّ ودوران.

إبراهيم أسوة التسليم والعبودية في القرآن الكريم

يصف القرآن الكريم تسليم إبراهيمعليه‌السلام في مقابل أوامر الله وتعاليمه بأنّه أسوة التسليم والرضا، وأنّ السّر في توفيقه في مواجهة الصعاب وانتصاره على المشركين، يكمن في الإيمان والصبر والاستقامة والتوكل على الله سبحانه وتعالى، ويدعونا لأن نكون على مثل هذا الإيمان والاعتقاد إزاء أمر الله والقرآن الكريم، وأن نكون في العمل كإبراهيم صامدين، ثابتي الأقدام في تنفيذ الأحكام الإلهية.

ونحن هنا نذكر باختصار قصة إبراهيمعليه‌السلام في تنفيذ أمر الله بذبح ابنه إسماعيلعليه‌السلام ؛ لنوضّح من خلالها محورية الله في الثقافة التوحيدية، ونقاط ضعفنا ونحن نواجه القرآن وأحكامه، ونعرّف القرّاء الأعزاء بالأدواء الحقيقية للمجتمع.

يُستفاد من القرآن الكريم أنّ المشيئة الإلهية قضت أن يُرزق إبراهيمعليه‌السلام - بعد مِئة عام من الحرمان من الولد وبعد أن طال انتظاره وأوشك على اليأس - بولدٍ وتتحقق أمنيته القديمة، من الطبيعي أنّ أي إنسان يتمنى في حياته أن يرزق بولدٍ صالح، فهو يعتبر وجود الولد الصالح امتداداً لوجوده وبقائه، بعد ولادة إسماعيل أُمر إبراهيمعليه‌السلام من الله تبارك وتعالى بأن يحمل وَلده وزوجته إلى ارض مكة، ويتركهما يعيشان أقسى الظروف

٥٢

في وادٍ لا تبدو للعيان فيه آثار للماء والحياة، ويغادر مكّة لأداء الرسالة الإلهية، وبعد مدة حيث عاد وقد كبر ولده وأصبح شاباً مؤدّباً حسن المنظر، يبهر النظر إلى جماله بصرَ كل إنسان، ويزيل سيماء وجهه المتفتح الأحزان والهموم عن ذاكرة أبيه، ويهوّن عليه عذاب الهجرة والشدائد، وفي ذروة التعلق بهذا الولد الذي ظهرت عليه أهلية النبوة أُوحي إلى إبراهيم في المنام : أن تذبح ابنك في سبيل الله.

حقاً يجدر بنا أن نقيس إيماننا واعتقادنا بالله والقرآن والأحكام الإلهية ومراتب تسليمنا أمام الله، مع إيمان إبراهيمعليه‌السلام ودرجة تسليمه؛ لندرك - أكثر - المسافة بيننا وبين ما أراده القرآن والله سبحانه وتعالى منّا، وننبري لتعزيز الإيمان والعمل على أساس المعتقد الديني أكثر فأكثر.لو أنّ جبرئيل كلّفنا أنا وأنت في عالم اليقظة وليس في المنام بذبح ولدنا بأيدينا فلا طاقة لنا بسماع ذلك، ناهيك عن تنفيذ الحكم والأمر الإلهي بذبح الولد، لكن إبراهيمعليه‌السلام بادر لتنفيذ أمر الله دون توانٍ، ودون أن يفسح المجال أمام أي شكل للتطرّق إلى نفسه في صحة ما أُوحي إليه بأنّه ما المصلحة في قتل ولدٍ بريء ؟.فطرح القضية على ولده :( فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قَالَ يَا بُنَيّ إِنّي أَرَى‏ فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى‏ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ ) (١) فعندما شبّ الولد وكان يسعى إلى جانب والده بين الصفا والمروة، قال له أبوه : يا بني إنّني رأيت في المنام بأن يجب أن أذبحك قرباناً لله فما هو رأيك ؟ بهذه الدرجة إيمان إبراهيم وتسليمه، فاجلس وشاهد درجة تسليم الابن وإيمانه، وانظر طاعته أمام أمر الله وأبيه؛ لتستحوذ عليك الحيرة لإخلاص وإيمان الذين يعجز القلم والبيان عن وصفهم، وإياك أن تفقد الحذر في أن تسمّي نفسك مسلماً.

فأجاب إسماعيل، هذا الولد الذي تعلّم من أبيه درس التسليم أمام أمر الله، بجواب هو أبعد مدىً من التعبير على الموافقة، حاثاً أباه على تنفيذ الأمر الإلهي لئلا يبقى أمر

____________________

(١) الصافات : ١٠٢.

٥٣

الله مطروحاً على الأرض، ودون أن يسأل أباه عن فلسفة ذبحه، وبلا أن يدفع والده إلى التريّث والتأمل في أداء تكليفه، قال إسماعيلعليه‌السلام لأبيه :( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) .

إنّ العظماء يتخذون القرار ويبادرون لأداء واجباتهم لاسيما الواجبات الجسمية بعد الاستعانة بالله تبارك وتعالى والتوكل عليه، فهم يطلبون العون والمساعدة منه في جميع الأعمال ويقولون بكل أدب : إنّني أنجز هذا الواجب إن شاء الله وإذا مدّني بعونه.وهنا أيضاً لا يعوّل إسماعيلعليه‌السلام على قوته بل يقول لأبيه :( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) .فالله هو الذي يعينني وأصبر إن شاء الله؛ لتتوفّق في أداء واجبك الإلهي.

ويصوّر الله تبارك وتعالى سيماء إبراهيمعليه‌السلام وحالة تسليمه أمام ربّه عن لسان إبراهيمعليه‌السلام بما يلي :( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (١) أي : إنّني وجّهت وجهي لله خالق السموات والأرض بإيمان خالص ولن أؤمن أبداً بعقيدة المشركين الجاهلية.

يجب أن يكون إيماننا بالله والقرآن كإيمان واعتقاد إبراهيمعليه‌السلام ، وفي هذه الحالة يتحقق الشرط الثاني الأساسي للانتفاع بالقرآن الكريم أي هداية المجتمع على أساس توجيهات القرآن.

بناءً على هذا؛ إنّ وجود القرآن دون إيمان راسخ واعتقاد قلبي لا يسعد الإنسان والمجتمع أبداً، ومن الواضح بالطبع أنّ ما يضفي العينية على مهمة هداية القرآن - بالإضافة إلى الإيمان والاعتقاد - هو تحقّق الشرط الثالث أي العمل وفقاً لتعاليم القرآن، وتجسيد أحكامه في صلب الحياة الفردية والاجتماعية.

____________________

(١) الأنعام : ٧٩.

٥٤

الفصل الثانيفهم وتفسير القرآن

٥٥

٥٦

المشكلة الحقيقية

أصبحت نتيجة الفصل السابق أنّ القرآن كتاب الهداية الإلهية، ونحن جميعاً مكلّفون بالإيمان به وأن ندير حياتنا ومجتمعنا على أساس توجيهات القرآن؛ لننال السعادة في الدنيا والآخرة، وذلك بالعمل بتعاليمه وأحكامه، واتخاذه أسوة على صعيد الحياة الفردية والاجتماعية، والآن نريد أن نطرح السؤال التالي : بالرغم من وجود القرآن - هذه الوصفة الشافية للأدواء الفردية والاجتماعية - بين أوساط المسلمين ومن بينها مجتمعنا الثوري والإسلامي، فلماذا نعاني في نفس الوقت من بعض المشكلات لاسيما المشكلات الثقافية ؟

ربّما ستجيبون مستعينين بالمطالب المتقدمة بأنّه لا يجري العمل بالقرآن وتعاليمه المنقذة كما ينبغي، وهذا الجواب وإن كان صحيحاً ولكن يبدو أن سؤالاً أهم يُطرح وهو لماذا لا يعمل بالقرآن كما ينبغي ؟ وفي الحقيقة ما هي الأسباب التي تؤدي إلى إضعاف القرآن في المجتمع، وأن يبتعد الناس تدريجياً عن القرآن والثقافة الدينية والقيم الإلهية ؟

نظراً لأنّ موضوع البحث هو القرآن في منظار نهج البلاغة فبإمكاننا طرح هذا السؤال بهذه الصيغة وهي : أين تكمن المشكلة الحقيقية لمجتمعنا في نظر عليعليه‌السلام ، وما الطريق الذي يشقه أمامنا لعلاجها ؟ لغرض الإجابة عن هذا السؤال وبيان كلام عليعليه‌السلام بهذا الصدد نورد مقدمةً في البداية، ومن ثَمّ نتطرق إلى الموضوع الأصلي.

٥٧

كما جرى بيانه في الفصل المتقدم أنّ الإيمان بالله والإحكام الإلهية، والتسليم لأوامر الله يمثّل أهم شروط الهداية والتنعّم بهدى القرآن الكريم، فلابد من وجود إيمان وتسليم إبراهيمي، واعتقاد ممزوج مع الروح ليتسنّى الظفر بالأمان من مصائد الشيطان.يجب أن تجمع الحصيّات في مشعر المعرفة؛ كي يُرمى بها شيطان النفس الأمارة لدى الرجوع إلى القرآن الكريم، ويجب الوقوف بوجه أهواء النفس، وترجيح كلام الله على نزوات النفس، ومنع النفس عن إصدار الأحكام المسبقة في فهم القرآن الكريم؛ كي لا يقع الخطأ عند الرجوع إلى آيات الله وفهم القرآن الكريم، فليس كل امرئ قصد القرآن بأيّة نية وأي مذهب يستطيع الاستفادة منه بصورة صحيحة، وبعبارة واحدة : إذا قبلنا بالعبودية لله فيجب أن نسلّم له تسليماً كاملاً، ونجعل القلب تبعاً لإرادته ومشيئته سبحانه وتعالى، ونقتنع قناعةً تامةً أنّ الله يعرف منافع عباده أفضل منهم، ولا يأمر أو ينهى إلاّ لصالحهم وفائدتهم، ومن خلال مثل هذا الاعتقاد والإيمان فقط يتيسّر لبني الإنسان إمكانية الفهم الصحيح لهذا الكتاب الإلهي والانتفاع بتوجيهاته الحياتية.

بناءً على هذا؛ إنّ أَوّل وأهم شرطٍ للتنعّم بالهداية الإلهية هو امتلاك روح التسليم، وتجنّب إصدار أي حكم مسبق وأي محورية للذات، إنّ الطبيب الماهر ولدى كتابته الوصفة للمريض يلزمه بتناول الدواء، ويذكر له الأطعمة التي يجوز له تناولها، وينهاه عن الأدوية والأطعمة التي تؤخر الشفاء والعلاج أو ربّما تفشله.

ولكن هل أنّ جميع تعليمات الطبيب تنسجم مع رغبات وميول المريض ؟ ربّما يتناول المريض بعض الأدوية الموصوفة له بكل اندفاع، ويمتنع عن رغبة عن بعض الأطعمة المحظورة عليه، ولكن غالباً ما تتعارض ميول المريض مع تعليمات الطبيب، فقد يرغب المريض بأكل الطرشي رغبةً شديدةً، لكن الطبيب يرى أكل الطرشي سمّاً قاتلاً بالنسبة للمريض، في هذه الحالات ربّما يشكك المريض بتشخيص الطبيب؛ بفعل حبّه لذلك الشيء ويأخذ بافتعال التبريرات من عند نفسه كي يتناوله.

٥٨

إنّ الإنسان - فيما يتعلق بالأمراض الجسمية - وبسبب حبّه الشديد لصحته قلّما يكون على استعداد لمخالفة تعليمات الطبيب، وغالباً ما يحاول تقديمها على رغباته الشخصية، وأن يعمل بصورة مضبوطة بهذه التعليمات، أمّا على صعيد الأمراض الروحية فليسوا قلةً أولئك الذين يجعلون أهواءهم النفسية ملاكاً للحكم، وينبرون لتفسير الدين وأحكام الله على أساس أحكام مسبقة وعقول خاطئة وأهواء ضالة.

من الطبيعي أن تنتفي مع مثل هذه الروحية إمكانية الفهم الصحيح للقرآن والدين، فحتى لو كان الافتراض بأنّ المرء ينوي حقاً فهم الدين والقرآن فهماً صحيحاً وتنتفي بشأنه أية نيّة لخداع الآخرين وإغوائهم، ولكن بما أنّه أراد فهم القرآن والدين بعقلية خاطئة، فلا يمكن إلغاء تأثير الأحكام المسبقة، والعقلية المشوبة، والأهواء النفسية، تماماً في فهمه وإدراكه للآيات والأحاديث، وبالطبع فإنّ قصة الذين يعمدون إلى تحريف أحكام الدين وتعاليمه عالمين عامدين عارفين، تحت يافطة القراءات المتعددة؛ لخداع الناس، وتدمير الثقافة الدينية للمجتمع هي قصة على حدة، سوف نتطرق إليها في محلّها، وسوف نقوم وباختصار ببحث الأسباب والدوافع التي تقف وراء هذه الفكرة المعادية للدين من وجهة نظر نهج البلاغة، لنرى الآن ما هو الطريق الصحيح للرجوع إلى القرآن وفهم أحكامه وتعاليمه من وجهة نظر عليعليه‌السلام ؟

وصية عليعليه‌السلام في التعاطي مع القرآن

بعد كلامه النوراني حول الإخبار بعالم القيامة والمعاد، ورضا أتباع القرآن عن أعمالهم وماضيهم، وابتلاء المتخلّفين عن القرآن في ذلك اليوم، يوصي الإمامعليه‌السلام الناس بما يلي : ( فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَاسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ ) فاعرفوا الله من خلال كلامه، واعرفوا أوصاف الخالق عن طريق القرآن، فالقرآن دليل يهديكم إلى الله، واستعينوا بهذا الدليل الإلهي لمعرفة رسول الله، وآمنوا بالله الذي يصفه لكم القرآن : ( وَاسْتَنْصِحُوهُ

٥٩

عَلَى أَنْفُسِكُمْ ) فإنّكم أيّها البشر بحاجة إلى مَن ينصحكم، ويكون حريص عليكم؛ كي يقدّم لكم النصح والموعظة عند الحالات الضرورية، فاتخذوا القرآن ناصحاً لكم واعملوا بنصائحه الخيّرة؛ لأنّ القرآن ناصح حريص، لا يخونكم أبداً وهو يهديكم على أفضل وجه إلى الصراط المستقيم.

بناءً على هذا؛ إنّ علياًعليه‌السلام يوصي المسلمين والتوّاقين إلى السعادة في الدنيا والآخرة، أن يجعلوا القرآن دليلهم ويستمعوا إلى نصائحه المشفقة إذ :( إِنّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلّتي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) (١) .

الأمر الذي يحظى بالتأكيد في هذا المقطع من البحث هو لزوم الإيمان، والاعتقاد الممزوج بالروح بمضمون هذه الآية الكريمة؛ لأنّ مثل هذا الإيمان بالقرآن إذا لم يتحكّم بروح الإنسان، وما لم يضع الإنسان نفسه تحت تصرف الله سبحانه وتعالى بشكل كامل، ولا يزكّي نفسه من الأحكام المسبقة والأهواء النفسية، فربّما يقع في مكيدة الوساوس الشيطانية، ويضلّ في كل لحظة، فعندما يرجع إلى القرآن يقوم دون إرادة منه بالبحث في القرآن عن الموضوعات والآيات التي تبدو مطابقة لأهوائه النفسية.

من الطبيعي ليست جميع تعاليم القرآن وأحكامه تنسجم مع رغبات الإنسان النفسية ونزعاته الحيوانية، فللإنسان بمقتضى طبيعته أهواء ورغبات، ويرغب بأن يتحدث القرآن وفقاً لهواه، وعليه فمن الطبيعي أن لا يُقبل الإنسان على القرآن بوجه صبوحٍ عندما يتحدث خلافاً لنزعاته الحيوانية والنفسية، ويواجهه بوجه بشوش حينما تكون الآيات متطابقة مع أهوائه النفسية.وبالطبع فإنّ كلّ هذه الانفعالات والتفاعلات تجري بالخفاء وفي الباطن لكن آثارها تظهر في أفعال الإنسان وسلوكه؛ لذلك فإنّ العقل يقضي بأن يفرّغ الإنسان عقله من كل حكم مسبق قبل الرجوع إلى القرآن، ويتخلى عن كل أهوائه ورغباته النفسية ليدخل مدرسة القرآن بروح ملؤها

____________________

(١) الإسراء : ٩.

٦٠