المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر0%

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 392

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 392
المشاهدات: 91273
تحميل: 8998

توضيحات:

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91273 / تحميل: 8998
الحجم الحجم الحجم
المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المردّد لا وجود له خارجاً، فكيف يكون معلوماً، حتى يقال : إنّ المردّد وإن لم يكن له وجود خارجاً إلاّ أنّ المقدار المنكشف من الوجود الخارجي مردّد، وهو لا يقتضي كون المردّد موجوداً في الخارج بما أنّه مردّد، وإنّما هو لأجل أنّ ما في الخارج لم ينكشف بتمامه، بل بمقدارٍ مردّدٍ منه، بل المحذور في انكشاف المردّد هو استحالة التردّد في نفس الصورة العلمية ؛ لأنّها وجود ذهني.

وحينئذٍ نقول : إنّ ما به يكون الواقع جزئياً ومتخصّصاً - وهو خصوصيته المفردة له - إن كان موجوداً في ضمن الصورة فمعناه انكشاف الواقع المعيّن بتمامه، وإن لم يكن موجوداً ومنكشفاً فمعناه كون المنكشف أمراً كلّياً قابلاً للصدق على كلّ طرف، إذ لم تنكشف الخصوصية التي يكون بها جزئياً، ولا شقّ ثالث، إذ انكشاف خصوصيةٍ مردّدةٍ بين خصوصية هذا الطرف وذاك عبارة أخرى عن كون الصورة العلمية وجوداً للخصوصية المردّدة، وهو محال.

وتجد هذا المعنى في حاشية المحقّق الأصفهاني(١) بعباراتٍ مختلفةٍ في مقام إقامة البرهان على استحالة التردّد في المعلوم، فراجع.

وأمّا أنّ مفاد قولنا : ( إمّا هذا وإمّا ذاك ) هو المعلوم الإجمالي ففيه : أنّه إن أريد بتعلّقه بهذا أو ذاك أنّه متعلّق بهذا فقط أو بذاك فقط رجع إلى كون العلم الإجمالي متعلّقاً بالواقع.وإن أريد أنّ متعلّقه دائماً لا يختلف، وهو عبارة عن - إمّا هذا، وإمّا ذاك - رجع إلى أنّ الصورة العلمية هي إمّا هذا، وإمّا ذاك، وهو محال ؛ لأنّ المردّد لا يوجد في الموطنين.

هذا تمام ما وسعني تحقيقه بحسب الفكر القاصر في مقام تصوير العلم الإجمالي وتحقيق المسالك فيه.

____________________

(١) نهاية الدراية ٣ : ٨٩ - ٩٠ و ٤ : ٢٣٦ - ٢٣٧.

٢٨١

منجّزية العلم الإجمالي وما يتنجّز به

وحيث اتّضحت المباني في حقيقة العلم الإجمالي ومقدار تعلّقه ومتعلّقه يقع الكلام في مقدار تنجيزه وما يتنجّز به، وذلك في مرحلتين :

الأولى : في حرمة المخالفة القطعية.

والثانية : في وجوب الموافقة القطعية.

١ - حرمة المخالفة القطعيّة :

أمّا المرحلة الأولى فالحقّ فيها علّية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية، بمعنى أنّه يصحِّح العقاب على ارتكاب كلا الطرفين المعلوم حرمة أحدهما، وليست مصحّحيّته للعقاب المزبور وقبح المخالفة القطعية مشروطين بشرطٍ أصلاً ؛ لأنّ الجامع ما بين الطرفين معلوم على جميع تلك المباني المزبورة، وإنّما يمتاز بعضها بدعوى معلومية شيءٍ آخر مضافاً إلى الجامع، ومن المعلوم أنّ ضمّ معلومٍ آخر إلى العلم التفصيلي بالجامع لا يوجب خروج هذا العلم عن المنجّزية بنحو العلّية، كما هو الحال في سائر موارد العلم التفصيلي، فلو فُرِض أنّ المعلوم الآخر الذي يُدَّعى معلوميّته على بعض تلك المباني كَلاَ معلومٍ لكان العلم التفصيلي بوجوب الجامع بين الظهر والجمعة في المقام نظير العلم التفصيلي بوجوب الجامع في موارد التخيير العقلي أو الشرعي، فكما يكون هذا منجّزاً بنحو العلّية فكذلك ذاك.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ ما يزيد على الجامع ممّا يكون معلوماً على بعض تلك المباني لا يتنجّز بانكشافه ؛ لِمَا سنحققه في المرحلة الثانية من أنّه لا يتنجّز بالعلم

٢٨٢

الإجمالي شيء غير الجامع على جميع المسالك، وحينئذٍ فما يكون منجّزاً بالوصول هو الجامع فقط، ووجود شيءٍ آخر واصلٍ بوصولٍ منجّزٍ أو غير منجّزٍ لا يؤثّر في عدم تنجّز الجامع بالعلم الوجداني المتعلّق به على نحوٍ تنجّز كلّ معلومٍ بعلمه التفصيلي.فالتكليف الواقعي بمقدار كونه تكليفاً بالجامع يتنجّز.

ومن الواضح أنّ هذا المقدار المتنجّز إنّما يقتضي الحركة إلى الجامع، لا أزيد منه، فيستحقّ العقاب حينئذٍ على ترك الجامع بكلا فرديه، ويكون قبيحاً بنحو العلّية.

وممّا ذكرناه ظهر استحالة الترخيص في المخالفة القطعية للجامع المعلوم في المقام، كما يستحيل الترخيص في مخالفة التكليف في سائر موارد العلم التفصيلي، إذ بعد البناء على تنجيزية حكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفة الجامع وقبحها، لا محالة يكون الترخيص المفروض ترخيصاً في ما هو قبيح بحكم العقل، ومورد العقاب، وهو معنى الترخيص في المعصية، وليس حكم العقل معلّقاً على عدمه حتى يكون الترخيص رافعاً لموضوعه.

فإن قلت : امتناع الترخيص في المخالفة القطعية ليس لأنّه ترخيص في المعصية حتّى يتوقّف على دعوى تنجيزية حكم العقل، بل بملاك التضادّ بينه وبين الإلزام الواقعيّ المعلوم بالإجمال، فإنّهما متضادّان في مقام التأثير والعمل، فإنّ الإلزام بشيءٍ مع الترخيص فيه لا يجتمعان في مقام الوصول ؛ لتضادّهما، مع قطع النظر عن محذور تنجيزية حكم العقل، ولذا لو فرضنا صدور الإلزام ممّن لا يجب امتثاله عقلاً ووصوله من السافل إلى العالي بعنوان الالتماس لَما صحّ للسافل أن يرخِّص في ما ألزم به، مع أنّه ليس فيه ترخيص في المعصية.

قلت : إنّ الإلزام الواصل له اقتضاءان :

أحدهما : اقتضاء تشريعي باعتبار حكم العقل بلزوم امتثاله.

٢٨٣

وثانيهما : اقتضاء تكويني لمن يتعلّق له غرض شخصي في امتثال التكليف.فإنّ هذا إذا عُلم يتكليفٍ جرى على طبق علمه قهراً تحصيلاً لمرامه، كمن يريد الماء فإنّه عند إحرازه لوجوده يجري على طبقه، ولا نتصوّر له اقتضاءً آخر، وحينئذٍ فإن أريد أنّ الترخيص في المخالفة القطعية ينافي الإلزام الواصل من حيث اقتضائه الأوّل فهو معنى لزوم الترخيص في المعصية.وإن أريد أنّه ينافيه من حيث الاقتضاء الثاني ففيه : أنّ غاية ما يلزم من الترخيص حينئذٍ - إذا قطعنا النظر عن الاقتضاء الأوّل - هو الترخيص في فعلٍ يكون موافقاً لغرض المكلّف، ولا محذور فيه أصلاً.

وأمّا التضادّ بين الترخيص والإلزام الواصل بحسب وجوديهما الواقعيّين، أو باعتبار ملاكاتهما فكلّ ذلك ممّا فرغ عن إبطاله في جواب شبهة ابن قبّة.

وإذن فتمام المحذور في الترخيص المزبور هو منافاته لحكم العقل بقبح المخالفة القطعية، ولزوم كونه ترخيصاً في المعصية.

وممّا ذكرناه ظهر الحال في ترخيص غير المولى لما ألزم به.

٢ - وجوب الموافقة القطعية :

وأمّا المرحلة الثانية - أعني وجوب الموافقة القطعية - فالتحقيق فيه عدم اقتضاء العلم الإجمالي لهذه المرتبة من التنجيز - فضلاً عن العلّية - على جميع المسالك المزبورة في تصوير العلم الإجمالي.

وذلك لأنّ وجوب الموافقة القطعية فرع سريان التنجّز إلى الواقع الموجود في البين، بحيث يصير العلم الإجمالي سبباً لحكم العقل بوجوب امتثال ذلك الواقع وصحّة العقاب على مخالفته، ولمّا كان كلّ طرفٍ يحتمل أن يكون هو ذلك الواقع فيكون احتمال التكليف في كلّ طرفٍ احتمالاً للتكليف المنجّز، فتجب

٢٨٤

الموافقة القطعية.

وأمّا إذا لم يوجب العلم الإجمالي تنجّز الواقع بخصوصه، بل اقتصر على تنجّز الجامع ولم يسرِ هذا التنجّز من الجامع إلى الواقع فلا موجب للموافقة القطعية أصلاً، إذا المقدار المنجّز من الإلزام هو الإلزام بالجامع، ومن المعلوم أنّ هذا المقدار إنّما يقتضي الإتيان بالجامع في ضمن أحد أفراده، لا الإتيان بجميع الأطراف، وإذن فوجوب الموافقة القطعية مبنيّ على تنجّز الواقع بالعلم الإجمالي، وعدم اختصاص التنجّز بالجامع، وهذا ممنوع أشدّ المنع.

أمّا بناءً على تعلّق العلم الإجمالي بالجامع بالنحو الذي حقّقناه، أو بالجامع بمعنى الملغي عنه الخصوصيات بكلّ وجهٍ فواضح، إذ بعد عدم سراية الانكشاف من الجامع إلى الواقع يستحيل سراية التنجّز، فإنّ كلّ وصولٍ إنّما ينجّز الواصل به لا غيره، فالمقدار المعلوم هو المنجّز، والمقدار المعلوم هو وجوب الجامع فيختصّ التنجّز به، وما يقتضيه هذا الوجوب المنجّز ليس أزيد ممّا يقتضيه الوجوب التخييري المتعلّق بالجامع، فكما أنّه لا يقتضي إلاّ الإتيان بصرف الجامع في ضمن أحد أفراده كذلك المقدار المنجّز من الوجوب في المقام.

وحاصل المرام أمران :

أحدهما : أنّ التنجّز لا يسري من الجامع إلى الفرد ؛ لعدم سراية العلم، فالمقدار المنجّز هو الجامع.

ثانيهما : أنّ الإلزام بالجامع الذي هو المنجّز لا يقتضي إلاّ الإتيان بأحد الفعلين، فالإتيان بأحدهما موافقة قطعية للمقدار الواصل المنجّز، بمعنى أنّه لا يبقى له اقتضاء للحركة بعد ذلك.

ومن هنا يظهر ما في كلام المحقّق الإصفهاني(١) ، في مقام تقريب عدم

____________________

(١) نهاية الدراية ٣ : ٩٣، ضمن تعليقة ٤١.

٢٨٥

وجوب الموافقة القطعية، من : أنّ عدم الإتيان بأحد الطرفين مخالفة احتمالية للتكليف الواصل، والمخالفة الاحتمالية للتكليف الواصل ليست قبيحةً عقلاً، بل القبيح هو المخالفة القطعية للتكليف الواصل التي لا تحصل إلاّ بترك الطرفين معاً.

ووجه الإشكال : أنّ ترك أحد الطرفين ليس مخالفةً احتماليةً للمقدار الواصل من الإلزام أصلاً ؛ لأنّ المقدار الواصل هو الجامع الذي لا يقتضي أكثر من الجامع بين الفعلين، فالإتيان بأحدهما موافقة قطعية للمقدار المنجّز وإن كان موافقةً احتماليةً للواقع.

والحاصل : أنّنا لا نقول كما أفيد من أنّ المخالفة الاحتمالية للتكليف الواصل ليست قبيحة، وإلاّ لَلَزم في موارد العلم التفصيلي بوجوب فعلٍ أنّه إذا شكّ في الإتيان به لا يلزم الاحتياط، إذ تركه حينئذٍ ليس إلاّ مخالفة احتمالية للتكليف المعلوم بالتفصيل، مع أنّه لا إشكال في اقتضاء العلم التفصيلي لوجوب الموافقة القطعية له.

وإنّما نقول : إنّ ترك أحد الطرفين في المقام ليس مخالفةً احتماليةً للمقدار الواصل من التكليف أصلاً، فافهم واغتنم.

تقريبات وجوب الموافقة القطعيّة :

ولا بأس بذكر الكلمات والتقريبات التي قُرِّب بها وجوب الموافقة القطعية : إمّا بدعوى سراية التنجّز من الجامع إلى الواقع، أو بدعوى كفاية تنجّز الجامع في إيجاب الموافقة القطعية، وهي متعدّدة :

أحدها : ما في موضعٍ من مقالات المحقّق العراقي(١) من : أنّ العلم بالجامع

____________________

(١) مقالات الأصول ٢ : ٣٣.

٢٨٦

وإن لم يسرِ إلى الأفراد ولكنّ التنجّز الذي هو نتيجته قائم بالجامع وتابع له في قابلية السراية إلى ما انطبق عليه الجامع، ولا يقف على نفس الجامع، غاية الأمر القطع به سبب قيام التنجّز على موضوعه، ومجرّد عدم قابلية السبب للسراية لا يوجب عدم سراية مسبّبه تبعاً لموضوعه، انتهى.

وحاصله : أنّ التنجّز الذي هو حكم عقلي يتبع موضوعه في السراية، لا سببه.

ولكنّ التحقيق : عدم سراية كلٍّ من السبب والموضوع، فلا موجب لسراية التنجّز أصلاً ؛ وذلك لأنّ معنى تنجّز الجامع المسبّب عن العلم بالجامع هو استحقاق العقاب على مخالفته، فالاستحقاق والتنجّز مترتّب على مخالفة الجامع، فما هو الموضوع للتنجّز والاستحقاق عقلاً هو مخالفة الجامع، بمعنى مخالفة ما يقتضيه جامع الإلزام من الحركة في مقام العمل، وما يقتضيه الجامع هو الإتيان بالجامع بين الفعلين، فمخالفته عبارة عن ترك الجامع رأساً.

ومن المعلوم أنّ مخالفة الجامع التي تكون بترك كلا الفعلين، والتي هي موضوع استحقاق العقاب بسبب العلم الإجمالي ليست منطبقةً على مخالفة التكليف الواقعيّ الموجود في البين، فإنّ مخالفة التكليف الواقعي إنّما تحصل بترك متعلّقه، وترك الجامع ليس نسبته إلى ترك ذاك المتعلّق نسبة الكلّي إلى فرده حتّى يكون منطبقاً عليه ليسري الاستحقاق إلى مخالفة الواقع أيضاً.

والحاصل : أنّ استحقاق العقاب على مخالفة الجامع - الذي هو معنى تنجّز الجامع - ليس سببه سارياً إلى الواقع، ولا موضوعه.

أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلأنّ موضوع الاستحقاق هو مخالفة الجامع، وهي لا تنطبق على مخالفة التكليف الواقعي ؛ لأنّ مخالفة الواقع ليست مخالفةً للجامع حتى يترتّب استحقاق العقاب عليها ويسري التنجّز إليها.

٢٨٧

ثانيها : ما في موضعٍ من نهاية الأفكار(١) من : أنّ الجامع المعلوم بالإجمال في المقام ليس هو الجامع بحيال ذاته، أو بما أنّه حاكٍ عن مقدار منشئه، بل بما أنّه مرآة إجمالية للخصوصية الواقعية المردّدة في نظره بنحوٍ تكون نسبته إليها نسبة الإجمال والتفصيل، ومن البديهي أنّ مثل هذا الجامع يسري التنجّز منه إلى الخصوصية الواقعية.

ويرد عليه : أنّه إن أريد بهذا أنّ الصورة العلمية في المقام صورة شخصية إجمالية لا كلّية، وأنّه لا فرق في تنجّز التكليف بانكشافه بصورته الشخصية بين أن تكون صورته المنكشفة إجماليةً أو تفصيليةً فمرجعه إلى الوجه الرابع الذي سنذكره، ولا معنى حينئذٍ لتسليم كون المعلوم هو الجامع.

وإن أريد أنّ المعلوم الإجمالي وإن كان هو الجامع إلاّ أنّه هو الجامع المتخصّص، بمعنى أنّه يعلم بتخصّصه وتعينه، وليس كالجامع الذي يتعلق به التكليف فيسري التنجّز إلى خصوصيته.ففيه : أنّ ما يفترق به الجامع في المقام عن الجامع المأخوذ في متعلّق التكليف ليس إلاّ العلم بمفهوم الخصوصية والتعيّن، لا بواقع الخصوصية، بمعنى أنّ المعلوم أصل تخصّص الجامع، لا حقيقة تخصّصه بالحمل الشائع، حتّى تتنجّز الخصوصية الواقعية.

والحاصل : أنّ المنكشف هو خصوصية الجامع بالحمل الأوّلي، وهي لا أثر لها، وليست قابلةً للتنجّز، وما هو قابل للتنجّز - أي ما هو خصوصية الجامع بالحمل الشائع - ليست منكشفةً أصلاً.

وإذن فما هو المنكشف من الخصوصية - وهو مفهومها - لا أثر له، ولذا لو فرضنا - ولو محالاً - أنّ الإلزام تعلّق بجامعٍ أخذ فيه مفهوم الخصوصية، ولم تؤخذ

____________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٧.

٢٨٨

فيه خصوصية من الخصوصيات الواقعية لم يكن يزيد في أثره على الإلزام المتعلّق بصِرف الجامع، وإنّما الأثر لخصوصية الظُهر وخصوصية الجمعة، والمفروض أنّهما غير منكشفتين.

فإن قلت : قد ذكرت سابقاً : أنّ التصديق العلمي إنّما يتعلّق بعنوان الجامع المتخصّص بما أنّه فانٍ في فرده، لا بما هو، فقهراً يتنجّز فرده.

قلت : إنّ الجامع المزبور وإن كان محطّاً للتصديق العلمي بما أنّه فانٍ ومرآة، ولكن لا بما أنّه مرآة وحاكٍ عن الخصوصية الواقعية بخصوصها، بل بما أنّه فانٍ في صِرف وجوده، بمعنى أنّ صرف وجود هذا الجامع معلوم، فكيف يسري التنجّز إلى الخصوصية الواقعية بخصوصها ؟

ثالثها : ما أفاده في نهاية الأفكار(١) أيضاً من : أنّه لو سُلِّم وقوف التنجّز على الجامع نقول بعد انحصار فرد هذا الجامع بإحدى الخصوصيتين : لا بدّ في مقام الخروج عن عهدة التكليف بهذا الجامع المنحصر فرده بإحدى الخصوصيتين من الإتيان بكلتا الخصوصيتين، إذ مع الإتيان بإحداهما مع احتمال انحصاره بالأخرى يشكّ في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم.

ويرد عليه : أنّه بعد فرض اختصاص التنجّز بالجامع فالمقدار المنجّز من التكليف الواقعي هو مقدار تعلّقه بأحد الفعلين، لا تعلّقه بأحدهما المعيَّن، وعليه فعند الإتيان بأحد الفعلين يقطع بفراغ الذمّة عن المقدار الواصل المنجّز ؛ وذلك لأنّ تعلّق الوجوب بالجامع الذي هو المنجّز لا يقتضي من الحركة إلاّ بمقدار أحد الفعلين.فالجامع في نفس الأمر وإن احتُمل كونه متعيّناً بنحوٍ لا يحصل امتثاله بالفعل المأتيّ به إلاّ أنّه بما أنّه معلوم لا يكون متخصّصاً بخصوصية الظهر

____________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٨.

٢٨٩

ولا الجمعة، فلا يقتضي أكثر من الإتيان بأحدهما.

وإن شئت قلت : إنّ مصداقية المأتيّ به من أحد الفعلين في الواجب الواقعي وإن كانت مشكوكةً إلاّ أنّ مصداقيته للمقدار المعلوم منه معلومة، فالمكلّف بعد الإتيان بالظهر - مثلاً - لا يشكّ في الخروج عن عهدة المقدار المعلوم أصلاً.

رابعها : ما في مقالات المحقّق العراقي(١) من : أنّ تنجّز الأحكام إنّما هو من لوازم وجودها خارجاً، لا من لوازم صورها الذهنية، غاية الأمر أنّ الحكم بوجوده الخارجي إنّما يكتسب التنجّز باعتبار انكشافه بصورته، ولا يفرّق في صورته التي تكسبه التنجّز بين أن تكون صورةً إجماليةً له أن تفصيلية.

والحاصل : أنّ التنجّز ليس ثابتاً لنفس الصورة العلمية حتى يقال بعدم سريانه تبعاً للعلم، بل هو ثابت للحكم الواقعي، ومجرّد كون ثبوته له باعتبار الصورة العلمية لا يوجب تبعيّته لها في عدم السراية.

ويرد عليه :

أوّلاً : أنّ التنجّز بمعنى استحقاق العقاب على شيءٍ من لوازم العلم والوجود العلمي للتكليف، فتمام الموضوع والسبب له هو العلم، ولذا لا فرق في استحقاق العقاب بين موارد إصابة القطع وموارد خطئه.وأمّا التكليف بوجوده الواقعي فليس هو موضوع الاستحقاق وملزومه، ولا جزء موضوعه أصلاً، كما نقّحنا ذلك مفصّلاً في مبحث التجرّي، فراجع.

وثانياً : أنّه لو فرض كون التنجّز من لوازم الوجود الخارجي للحكم، لا العلمي، إلاّ أنّنا نقول: إنّه لا يكفي في اكتساب الحكم الواقعي للتنجّز انكشافه بالصورة الإجمالية التي نِسبتها إليه نسبة المجمل إلى المفصَّل، بناءً على تعقّل

____________________

(١) مقالات الأصول ٢ : ٢٣٦.

٢٩٠

ذلك، والالتزام بأنّ العلم الإجمالي صورة إجمالية للواقع، فإنّه مع ذلك لا يكون الواقع منجّزاً بالصورة الإجمالية أصلاً ؛ وذلك لأنّها غير طاردةٍ للشكّ الذي هو مناط المعذّرية عقلاً.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ انكشاف الشيء والعلم به بوجوده الواقعي لا يزيد على نفس الواقع، وإنّما ينجّز بوجوده الواصل، وفي المقام لم يحرز معلومية الواقع وكونه هو المنكشف بالصورة الإجمالية ليتنجّز، فموجب اكتساب الحكم للتنجّز إنّما هو انكشافه بصورته التفصيلية، ولذا لو لم يكن الجامع في المقام منكشفاً بالصورة التفصيلية لَما تنجّز شيء من أطراف العلم أصلاً.

والحاصل : أنّه على تقدير تسليم كون العلم الإجمالي صورةً إجماليةً للواقع لا يمكن الالتزام بتنجّز الواقع بها، وكون منكشفيته بها موجبةً لتنجّزة، وإن لم يحرز المكلّف كونه منكشفاً بها.

فإن قلت : إنّ منكشفية الواقع بالصورة الإجمالية وإن لم تكن واصلةً بالعلم التفصيلي إلاّ أنّها واصلة إجمالاً ؛ للعلم بمنكشفية أحد الطرفين بالصورة الإجمالية.

قلت : ننقل الكلام إلى هذا العلم الإجمالي بمنكشفية أحد الطرفين، فإنّه لا يمكن أن ينجّز الواقع أيضاً، بل إنّما ينجّز الجامع بين منكشفية هذا الطرف ومنكشفية ذاك الطرف.

والذي يدلّ على أنّ منكشفية الواقع بالصورة العلمية الإجمالية لا تكفي لتنجيزه بوجودها الواقعي : أنّه لو كان وجوب الظهر منكشفاً بالصورة العلمية الإجماليّة بأنّ علم المكلّف إجمالاً بوجوب الظُهر أو الجمعة، ثمّ جرى الأصل المثبت لوجوب الجمعة، فإنّه لا إشكال في عدم تنجيز العلم الإجمالي حينئذٍ لوجوب الظهر، مع أنّه لو قلنا بأنّ منكشفية تكليفٍ بصورته الإجمالية واقعاً يكفي

٢٩١

في تنجيزه لكان وجوب الظهر منجَّزاً، إذ المفروض أنّه منكشف بالصورة العلمية الإجمالية واقعاً.وسوف يأتي لهذا الإشكال مزيد توضيحٍ في مبحث الانحلال، فانتظر.

وإذن، فهذا كاشف عن أنّ منكشفية الشيء بوجودها الواقعي لا أثر لها، وإنّما التنجّز فرع المنكشفية المحرَزة، فلا يتنجّز الواقع بالصورة العلمية الإجمالية أصلاً.

خامسها : ما أفاده المحقّق الأصفهاني(١) من : أنّ عنوان عدم المبالاة بالتكليف اللزومي وعدم الانبعاث ببعثه في وجدان العقل ظلم على المولى ؛ لخروجه عن زَيِّ الرِقّيّة، ومن المعلوم أنّ المبالاة بالوجوب المتعلّق بما لا يخرج عن الطرفين ليست إلاّ بالانبعاث عنه، والانبعاث عن المعلوم لا عن الواقع لا يكون إلاّ بفعلهما معاً، فإنّ الانبعاث عن المعلوم المحكوم بالحسن عقلاً ليس إلاّ الانبعاث في وجدان العقل، وفعل أحدهما وإن كان يحتمل أن يكون انبعاثاً لكنّه انبعاث عن الواقع المحتمل، لا انبعاث عن المعلوم، فالانبعاث عن البعث المعلوم في وجدان العقل إنّما هو بإتيان كلا الفعلين، فعدم الجمع بينهما عبارة أخرى عن عدم الانبعاث عن البعث المعلوم، وهو مصداق لعنوان عدم المبالاة بأمر المولى ؛ الذي هو قبيح بحكم العقل، فينتج : أنّ ترك المخالفة القطعية مصداق لعنوانٍ قبيحٍ عقلاً.

ويتّضح الجواب عنه بما ذكرناه لدفع التقريب الثالث، فإنّ المقدار المعلوم من التكليف لا يقتضي عقلاً إلاّ الإتيان بأحد الفردين، إذ المقدار المعلوم هو الإلزام بالجامع، والخصوصيات لمَّا كانت مشكوكةً فوجودها وعدمها سيّان.

فالإلزام بالجامع المعلوم في المقام لا يزيد على الإلزام بالجامع في موارد

____________________

(١) نهاية الدراية ٣ : ٩٤.

٢٩٢

التخيير العقلي أو الشرعي، إلاّ بخصوصيات غير واصلة، فلو كان زائداً عليه في الأثر لكان معنى هذا أنّ تلك الخصوصيّات غير الواصلة مؤثّرة، وهو محال.

وإذن فكما أنّ الإلزام بطبيعيّ صلاة الظهر يكون الإتيان بأحد مصاديقها انبعاثاً عنه كذلك الإلزام بالجامع بين الجمعة والظهر - الذي هو المقدار المعلوم في المقام - يكون الإتيان بالظهر فقط انبعاثاً عنه، بمعنى أنّه إتيان بما يقتضيه عقلاً.وإذن، فالانبعاث بأحد الفعلين انبعاث عن المقدار المعلوم، وليس الانبعاث عنه بالإتيان بكلا الفعلين.نعم، الانبعاث عن التكليف الواقعي في وجدان العقل إنّما يكون بإيجاد الفعلين معاً.

والحاصل : أنّ معنى الانبعاث عن تكليفٍ هو الإتيان بما يقتضيه عقلاً، والإلزام بالجامع المعلوم في المقام إنّما يقتضي عقلاً الإتيان بأحد الفعلين، لا غير، فيكون الإتيان بأحدهما انبعاثاً عن المقدار المعلوم وتوفيةً لما هو حقّه عقلاً من الحركة.

سادسها : أنّ تنجّز الجامع يوجب تعارض الأُصول في الأطراف وتساقطها، فتجب الموافقة القطعية.

ولا يخفى أنّ هذا ليس تقريباً لتنجيز العلم الإجمالي للواقع، بل هو تقريب لتنجّزه بالاحتمال بعد تعارض الأصول، وهو مبنيّ على تسليم وقوع المعارضة في الأطراف، وسوف يأتي ما هو الحقّ في ذلك في الناحية الثانية.

هذا كلّه ما وصل إلى ذهني القاصر لإثبات عدم تنجّز الواقع بالعلم الإجمالي، ودفع جميع ما أفيد من التقريبات، فافهم واغتنم.

وممّا ذكرناه ظهر : أنّه لا يفرّق في ما ادّعيناه من إنكار تنجّز الواقع بالعلم الإجمالي بين القول بتعلّقه بالجامع أو بالواقع على سبيل الإجمال ؛ لِمَا عرفت من أنّ العلم الإجمالي لو كان عبارةً عن صورةٍ إجماليةٍ للواقع لَما صلح لتنجيزه أيضاً.

٢٩٣

وكذلك الأمر بناءً على كون المعلوم بالإجمال هو الفرد المردّد، إذ لا يعقل حينئذٍ سراية التنجّز إلى الواقع بشخصه لمّا لم يكن منكشفاً بعينه، وتنجّز الفرد المردّد ووجوب الإتيان به عقلاً لا معنى له ؛ لأنّ المردَّد لا يعقل وجوده في الخارج حتّى على هذا المبنى، إذ المدّعى في هذا المبنى تعقّل التردّد في الصورة العلمية، لا في الوجود الخارجي، وإذن فلم يبقَ شيء يعقل تنجّزه إلاّ الجامع.

وبما ذكرناه اتّضح أيضاً انهدام القول بعلّية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية بجميع تقريباتها ؛ لأنّ العلّية مبنية على أمرين :

أحدهما : تنجّز الواقع بالعلم الإجمالي، ووقوعه موضوعاً لحكم العقل بسبب ذلك.

وثانيها : أنّ هذا الحكم تنجيزيّ من قبل العقل، وليس معلَّقاً على عدم ورود الترخيص الشرعي، وعليه ففي كلّ طرفٍ يحتمل التكليف المنجّز بنحوٍ يأبى عن الترخيص فيه، ونحن قد هدمنا أساس العلّية بإنكار الأمر الأول، كما هو واضح.

وأمّا تقريب الكفاية للعلّية وللتلازم بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية فهو مبنيّ على مبانيها غير المقبولة عندنا، وقد مرّ تفصيل الكلام فيه وفي مبانيه في مبحث العلم الإجمالي من مباحث القطع، فراجع.

والمتحقّق في هذه الناحية : أنّ العلم الإجمالي علّة تامّة لحرمة المخالفة القطعية، ولا اقتضاء بالإضافة إلى وجوب الموافقة القطعية.

٢٩٤

مباحث الاشتغال ٢

مدى جريان الأُصول في أطراف العلم الإجمالي

جريان الأصول النافية في جميع الأطراف.

جريان الأصول النافية في بعض الأطراف.

جريان الأصول المثبتة مع العلم بالترخيص.

٢٩٥

٢٩٦

الناحية الثانية

وهي أنّه بعد أن تحقّق أنّ المقدار المنكشف بالعلم الإجمالي إنّما هو الجامع، والمقدار المنجَّز هو الجامع أيضاً فقط - كما بيّناه في الناحية الأولى - نريد أن نعرف أنّ هذا المقدار من الوصول والتنجّز هل يمنع عن جريان الأصول النافية في المقام، أوْ لا ؟

وتمام الكلام في جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي يستوفى بالبحث في مقامين :

المقام الأوّل : في جريان الأصول النافية في جميع الأطراف.

المقام الثاني : في جريانها في بعض الأطراف.

جريان الأصول النافية في جميع الأطراف

أمّا المقام الأوّل فلم أرَ مَن يستشكل في امتناع جريان الأصول النافية في جميع الأطراف، بعد البناء على علّية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية وقبحها، بدعوى أنّ مقتضى جريانها في جميع الأطراف الترخيص في المعصية القبيحة بحكم العقل، وهي المخالفة القطعية، إذ المفروض هو البناء على سببية

٢٩٧

العلم الإجمالي لقبح المخالفة القطعية، فبعد البناء على هذا لا مجال لجريان الأُصول في تمام الأطراف المؤدّي إلى الإذن فيها.

والتحقيق : أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ جريان الأصول المؤمِّنة في تمام الأطراف إذا أدّى إلى الترخيص في المخالفة القطعية يكون ممتنعاً، بعدما اتّضح في الناحية الأُولى من استقلال العقل بقبح المخالفة القطعية، وعلِّية العلم الإجمالي لذلك، فالحريّ بنا أن نبحث عن أنّ جريانها في جميع الأطراف هل يؤدّي إلى ذلك ليكون ممتنعاً، أوْ لا ؟

والإنصاف : أنّ للمنع عن تأديته إلى ذلك مجالاً واسعاً، فإنّ جريان الأصول في تمام الأطراف لا ينافي حرمة المخالفة القطعية، وعلِّية العلم الإجمالي لتنجيزها وقبحها أصلاً، من دون فرقٍ بين الأصل العقلي - أي قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ - أو الأصل الشرعي النافي، كالبراءة أو الاستصحاب.

فالكلام إذن يقع : تارةً في جريان البراءة العقلية في تمام الأطراف، وأخرى في جريان البراءة الشرعية كذلك، وثالثةً في جريان الاستصحاب النافي في الجميع.

البراءة العقليّة في جميع الأطراف :

أمّا الأوّل - أي البراءة العقلية، وقاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ - : فقد اتّضح في الناحية الأولى أنّ موضوعها في كلٍّ من الطرفين في نفسه محقَّق، إذ العلم الإجمالي إنّما يكون بياناً للجامع فقط، كما عرفت، فكلّ طرفٍ لم يتمَّ البيان عليه، وإنّما تمّ البيان على الجامع، إلاّ أنّه قد يتوهّم أنّ موضوعها في كلّ طرفٍ وإن كان محقّقاً لعدم تمامية البيان عليه إلاّ أنّ إجراء القاعدة في كلٍّ من الطرفين معاً ينافي الحكم باستحقاق العقاب على المخالفة القطعية، إذ أنّ إجراء البراءة العقلية عن

٢٩٨

وجوب الظهر - بمعنى قبح العقاب على تركها - وإجراءَها عن وجوب الجمعة - بمعنى قبح العقاب على تركها - يؤدّي إلى قبح العقاب على تركهما معاً، الذي هو معنى المخالفة القطعية، فلا بدّ من الالتزام بعدم إعمال القاعدة في الطرفين ؛ لمنافاته مع الحكم بصحة العقاب على المخالفة القطعية.

ولكنّه يندفع بوضوح : أنّ قبح العقاب على كلٍّ من ترك الظهر والجمعة لا ينافي صحة العقاب على ترك الجامع بينهما، بمعنى أنّ الإتيان بالظهر لا مقتضي له ؛ لعدم إحراز وجوبها فيقبح العقاب على تركها ؛ لأنّه عقاب بلا بيانٍ وبلا مقتضي كما أنّ الإتيان بالجمعة لا مقتضي له ؛ لعدم وصول وجوبها، فيقبح العقاب على تركها بنفس المناط المزبور.

وأمّا الإتيان بالجامع بينهما فله مقتضٍ، إذ المفروض أنّ المكلّف قد أحرز تعلق الإلزام الشرعي بمقدار الجامع بين الفعلين، فالعقاب على ترك الجامع عقاب مع المقتضي للحركة، ومع البيان الموصل للتكليف.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ مرجع قاعدة قبح العقاب بلا بيانٍ - كما بيّنه المحقّق النائيني(١) في محلّه، وأوضحناه في الجزء الثالث - إلى أنّ حركة المكلّف إذا لم يكن لها مقتضٍ يقبح العقاب على تركها، وأنّ المقتضي للحركة منحصر في التكليف بوجوده الواصل، وحينئذٍ ففي المقام المقدار الواصل من التكليف - وهو الإلزام بالجامع - إنّما يقتضي الحركة بمقدار الجامع، ولا يقتضي الحركة إلى الظهر خاصّة، ولا إلى الجمعة خاصّة ؛ لما عرفت في الناحية الأولى من عدم سراية التنجّز من الجامع إلى الواقع، فالحركة إلى الجامع لها مقتضٍ للعقاب فيصحّ العقاب على تركها، وأمّا الحركة إلى الظهر والحركة إلى الجمعة فلا مقتضي لهما فيقبح

____________________

(١) فوائد الأصول ٢ : ٢١٧ - ٢١٨.

٢٩٩

العقاب على ترك كلٍّ منهما.والعقاب الذي يحكم به العقل عند ترك المكلّف للفعلين معاً ليس على أحد التركين بخصوصه ليكون منافياً لقبح العقاب على كلٍّ منهما بخصوصه، بل على الجمع بين التركين الذي هو عبارة أخرى عن ترك الجامع.

فاتّضح : أنّه لا مانع من إعمال البراءة العقلية في كلٍّ من الطرفين، بمعنى الحكم بقبح العقاب من جهة ترك الظهر وقبح العقاب من جهة ترك الجمعة، ولا ينافي الحكم بصحة العقاب في مورد المخالفة القطعية من جهة ترك الجامع، إذ أنّ الحركة إلى الجامع كان لها منجّز ومقتضي، فتركها مورد للعقاب، بخلاف الحركة إلى الجمعة والحركة إلى الظهر فإنّه لم يكن هناك منجِّز لأيٍّ منهما.

البراءة الشرعيّة في جميع الأطراف :

وأمّا الثاني - أي البراءة الشرعية - : فهي أيضاً تجري في جميع الأطراف من دون أن تنافي تنجّز الجامع، سواء ما كان منها بلسان الرفع -كرُفِعَ ما لا يعلمون - أو بلسان الحلّية -ككلّ شيءٍ حلال - إلى آخره.

أمّا الرفع فلأنّه بعد معلومية أنّه ليس رفعاً واقعياً ليكون إجراء الرفع في كلٍّ من الطرفين مؤدّياً إلى رفع الجامع واقعاً لا محالة، بل هو رفع ظاهريّ للتكليف المشكوك بعدم إيجاب الاحتياط من جهته، ولا أعني بذلك أنّ الرفع منصبّ ابتداءً على وجوب الاحتياط بحيث يكون هو المرفوع، بل الرفع متعلّق بالواقع ولكن لا في قبال وضعه الواقعي، بل في قبال وضعه الظاهري بإيجاب الاحتياط، فإنّ وضع التكليف المشكوك ظاهراً إنّما هو بجعل منجّزٍ له، كإيجاب الاحتياط، فرفعه ظاهراً المقابل لذلك الوضع يرجع إلى أنّ التكليف المشكوك لم يوضع في الظاهر

٣٠٠