المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر0%

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 392

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد محمد باقر الصدر
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
تصنيف: الصفحات: 392
المشاهدات: 91306
تحميل: 8998

توضيحات:

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 392 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91306 / تحميل: 8998
الحجم الحجم الحجم
المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

المعالم الجديدة للأصول غاية الفكر

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر (قدّس سره)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إناءين وفرض أنّ أحدهما مجرىً لاستصحاب الطهارة في نفسه فهو يعلم بخروج هذا الطرف عن عموم دليل الاستصحاب، أو خروج الطرف الآخر عن عموم دليل أصالة الطهارة، إذ لا يعقل شمول الاستصحاب المؤمِّن لفرده، وشمول أصالة الطهارة لفردها أيضاً، وإلاّ يلزم المخالفة القطعية، فأحد الدليلين يعلم بتخصيصه، وهذا العلم يوجب، أوّلاً : عدم إمكان إعمال العمومين في كلا الدليلين، وحيث يكون ترجيح كلٍّ من عموم دليل الاستصحاب وعموم دليل القاعدة على الآخر بلا مرجّحٍ فيتساقطان، فالعلم الإجمالي بتخصيص أحد الدليلين يؤثّر في إجمال كلٍّ من الدليلين، وبعد عروض الإجمال لدليل الاستصحاب لمكان العلم الإجمالي المزبور يتمّ اقتضاء أصالة الطهارة في مورده، ويحصل علم إجمالي آخر : إمّا بخروج هذا المورد عن دليل أصالة الطهارة، أو خروج الطرف الآخر، إذ دخولهما معاً مستلزم للمخالفة القطعية، فكما كان يعلم إمّا بخروج ذاك المورد عن الاستصحاب أو الآخر عن دليل أصالة الطهارة - إذ لو لم يكن شيء منهما خارجاً لَلَزمت المخالفة القطعية - كذلك يعلم - بعد تمامية اقتضاء أصالة الطهارة في ما كان مورداً للاستصحاب - بعدم شمول دليل القاعدة لأحد الطرفين، فهذا العلم الإجمالي موجود لا محالة.

وإنّما الكلام في أنّ هذا العلم الإجمالي هل يكون هناك مانع عن تنجيزه وإيجابه لإجمال دليل أصالة الطهارة بالإضافة إلى كلا الطرفين، أو لا يكون منجِّزاً وموجباً للإجمال، فلا يمنع عن الأخذ بالقاعدة وإعمال دليلها في ما كان مورداً للاستصحاب.

وغاية ما يقرَّب به عدم التنجيز وعدم إيجابه للإجمال دعوى : أنّ أحد طرفي العلم الإجمالي المزبور منجَّز بمنجِّزٍ سابق، بمعنى أنّ دليل أصالة الطهارة بالإضافة إلى غير ما كان مورداً للاستصحاب قد أصبح مجملاً بالعلم الإجمالي

٣٤١

الأوّل، فلا يبقى مجال لتنجيز العلم الإجمالي الثاني.

وبتعبيرٍ آخر : أنّ لدينا عِلمين إجماليّين : أحدهما العلم بعدم شمول دليل الاستصحاب لِمَا لَه حالة سابقة ولنفرضه الماء، أو عدم شمول القاعدة للآخر ولنفرضه الثوب.والآخر العلم بعدم شمول دليل القاعدة للثوب، أو عدم شمولها للماء، فبين العِلمين طرف مشترك، وهو عدم شمول دليل القاعدة للثوب، فإنّه طرف لكلا العلمين الإجماليّين، وحيث إنّه منجَّز بالعلم الإجمالي الأول أوّلاً، فلا يبقى مجال لتنجّزه بالعلم الثاني فينحلّ العلم الثاني ككلّ علمٍ يتنجّز أحد طرفيه سابقاً.

ولكنّ هذه الدعوى ممنوعة ؛ لأنّ الطرف المشترك - وهو عدم شمول دليل القاعدة - لم يثبت له التنجّز لا في زمانٍ سابقٍ على العلم الإجمالي الثاني، ولا في رتبةٍ سابقة عليه.

والحاصل : لا بدّ إمّا من إثبات السبق الزماني لتنجّز الطرف المشترك على العلم الثاني، أو السبق الرتبي له، وكلاهما ممنوع.

أمّا الأوّل فلأنّ المنجِّز للطرف المشترك مع قطع النظر عن العلم الثاني هو العلم الإجمالي الأوّل، والعلمان متقارنان زماناً، وليس لأحدهما سبق زماني على الآخر ليتنجّز الطرف المشترك به في زمانٍ سابقٍ بحيث يمنع عن تنجيز المتأخّر.

وأمّا الثاني فلأنّ العلم الإجمالي الثاني معلول لتمامية اقتضاء دليل القاعدة بالإضافة إلى الماء ليحصل العلم الإجمالي بتخصيصه بأحد الطرفين، وتمامية اقتضائه كذلك معلول لإجمال دليل الاستصحاب بالإضافة إلى الماء، وإلاّ لم يكن لدليل القاعدة اقتضاء الشمول للماء، وإجمال دليل الاستصحاب كذلك وسقوطه معلول للعلم الإجمالي الأوّل.وإذن فالعلم الإجمالي الثاني متأخّر مرتبةً عن

٣٤٢

سقوط الاستصحاب وإجمال دليله المعلول للعلم الأوّل، لا عن إجمال دليل القاعدة بالإضافة إلى الثوب وسقوطها فيه.

والحاصل : أنّ العِلمين الإجماليّين اللذَين لهما طرف مشترك إنّما يمنع أحدهما عن تنجيز الآخر إذا كان الآخر متأخّراً عن تنجّز الطرف المشترك للعلم الآخر، إمّا زماناً وإمّا رتبةً.ففي المقام العلم الإجمالي الثاني إنّما يصير ممنوعاً عن التنجيز وغير مؤثّرٍ في إجمال دليل أصالة الطهارة بالإضافة إلى الطرفين إذا كان الطرف المشترك بينه وبين العلم الآخر - وهو عدم شمول قاعدة الطهارة للثوب - قد تنجّز، بمعنى أنّه قد صارت القاعدة مجملةً بالإضافة إلى الثوب في زمانٍ سابقٍ أو في رتبةٍ سابقة، وشيء منهما غير حاصل، فالعلم الإجمالي الثاني لا مانع من تنجيزه، فإنّ الثابت في المرتبة السابقة عليه سقوط الاستصحاب في طرف الماء وإجمال دليله، لا سقوط أصالة الطهارة في الثوب وإجمال دليلها، فالعلم الإجمالي بسقوط أصالة الطهارة في الثوب أو أصالة الطهارة في الماء لا مانع عن تنجيزه، بمعنى إيجابه لإجمال دليل الأصل بالإضافة إلى كلٍّ من الطرفين ؛ لأنّه معلول ومتأخّر مرتبةً عن سقوط الاستصحاب في الماء وإجماله من ناحية العلم الإجمالي الأوّل، لا أنّه معلول ومتأخّر رتبةً عن سقوط قاعدة الطهارة في الثوب حتّى يمتنع أن يكون هو المؤثر في إسقاط أصالة الطهارة فيه.نعم، العلم الإجمالي المزبور يكون متأخّراً عمّا هو في عرض سقوط أصالة الطهارة في الثوب وهو سقوط الاستصحاب كما عرفت، إلاّ أنّ تأخّر العلم الإجمالي رتبةً عن شيءٍ لا يوجب تأخّره عمّا يساويه، كما ذكرنا سابقاً.

وإنّما أوضحتُ هذا المطلب بما لا مزيد عليه لأنّي وجدت شبهة عدم سقوط الأصل الطولي عالقةً في الأذهان، فقدَّمت هذا البيان لدفع الشبهات الموجودة في المقام، ومن الله الهداية والتوفيق.

٣٤٣

فرضيّة الترتّب بين طرفي العلم الإجمالي

التنبيه الثاني : فيما إذا كان أحد طرفي العلم الإجمالي بالتكليف في طول عدم الطرف الآخر ومترتّباً على عدمه، كوجوب الحجّ المرتّب على عدم التكليف بالدّين، ونحو ذلك.

والذي يظهر أنّه لا خلاف منهم في إثبات التكليف المترتّب بإجراء الأصل النافي للتكليف المترتّب عليه.

وقد ذكر المحقّق العراقي(١) هذا بعنوان النقض على مختاره من علّية العلم الإجمالي الموافقة القطعية، وإبائه عن الترخيص ولو في بعض الأطراف، بتقريب : أنّه على هذا المبنى لا مجال لإجراء الأصل المرخّص في جانب الدَين المشكوك ؛ لأنّ في رتبة جريانه لم يثبت تكليف بالحجّ ليكون العلم الإجمالي منحلاًّ، بل ثبوت التكليف بالحجّ إنّما يكون في رتبةٍ متأخّرةٍ عن جريان الأصل النافي للدَين، فهو في مرتبة جريانه يكون العلم الإجمالي قائماً، فينا في مع علّيته التامة.

وأجاب عن ذلك بتفصيلٍ ملخّصه : أنّ التكليف المترتّب تارةً يكون مترتّباً على العدم الواقعي للتكليف الآخر، وأخرى يكون مترتّباً على الأعمِّ من العدم الواقعي والظاهري، وثالثةً يكون مترتّباً على المعذورية من جهة التكليف الآخر ولو عقلاً.

أمّا في الأوّل فلا مانع من إجراء الأصل التنزيلي النافي للدَين، وذلك بتقريب : أنّه بعد أن كان وجوب الحجّ من الآثار الشرعية لعدم الدَين، فدليل

____________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣١٥.

٣٤٤

الأصل التنزيلي لاستصحاب عدم الدَين - مثلاً - يقتضي بإطلاق التنزيل فيه ترتّب جميع الآثار الشرعية لهذا العدم التي منها وجوب الحجّ، فإنّه أثر شرعي لعدم الدَين الذي هو مدلوله المطابقي، وحينئذٍ فيرفع اليد عن المدلول المطابقي لدليل الأصل التنزيلي، وهو نفي التكليف بالدَين ظاهراً، ويؤخذ بمدلوله الالتزامي وبإطلاق التنزيل فيه، الذي هو من شئون المدلول المطابقي وهو وجوب الحجّ، وحينئذٍ ينحلّ العلم الإجمالي، وفي الرتبة المتأخّرة يؤخذ بالمدلول المطابقي، إذ في هذه المرتبة لا يبقى مانع عن نفي الدَين بعد انحلال العلم الإجمالي في المرتبة السابقة بالمدلول الالتزامي لدليل الأصل.

والحاصل : أنّ دليل استصحاب عدم الدَين يكون له مدلولان : أحدهما مطابقيّ وهو نفي الدَين، والآخر ثابت بإطلاق التنزيل وهو وجوب الحجّ، فيؤخذ بالمدلول الثاني أوَّلاً ثمّ الأوّل.

وأمّا في الثاني فلا يأتي البيان السابق لتصحيح إجراء أصالة الحلّية، إذ دليل أصالة الحلّية لا يتكفّل لتعبّدين : أحدهما بالحلّية، والآخر بأثرها ليؤخذ بالتعبّد الثاني أوَّلاً، بل لا بدّ من الالتزام بالأخذ بالمدلول المطابقي له وهو الحلّية والترخيص، إلاّ أنّ هذه الحلية ليست مجعولةً بلحاظ التوسعة والمعذّرية، بل يكون الغرض منها مجرّد ترتّب الوجوب الذي هو أثرها عليه، فلا بأس بجعل هذا السنخ من الحلّية في طرف، ولا موجب للالتزام برفع اليد عن دليل الأصل بالمرّة.

وأمّا في الثالث فتنجيز العلم الإجمالي بحدِّ ذاته غير معقول ؛ لأنّ منجّزية كلّ علمٍ لطرفٍ ملازم لمنجّزيته للطرف الآخر، وفي المقام منجّزية العلم الإجمالي في أحد الطرفين توجب الجزم بعدم وجود الطرف الآخر واقعاً إلى آخره.

ويرد عليه أوّلاً : أنّ تنجيز العلم الإجمالي في الصورة الثانية - أي فيما إذا

٣٤٥

كان أحد التكليفين مترتّباً على عدم الآخر الأعمّ من الظاهري والواقعي - غير معقول، بمعنى أنّ مانعية العلم الإجمالي المزبور عن جريان أصالة الحلّية في الطرف المترتّب عليه، أي في طرف الدَين ممتنعة، فمثلاً لو نذر صوم يومٍ على تقدير ثبوت الحكم بحلّية مائعٍ مخصوصٍ أعمّ من الواقعية والظاهرية فيكون له علم إجمالي يستحيل أن يكون مانعاً عن جريان أصالة الحلّية في المائع، فلا حاجة لأن يتكلّف لجريانها بما أفيد من البيان ممّا لا يخلو عن المناقشة أيضاً.

والوجه في استحالة مانعية العلم الإجمالي المزبور عن جريان أصالة الإباحة في المائع هو : أنّ تنجيز العلم الإجمالي موقوف على عدم انحلاله بالعلم التفصيلي بأحد طرفيه، فإنّ العلم التفصيلي بذلك وإن لم يكن موجباً للانحلال الحقيقي عند المحقّق العراقي إلاّ أنّه مانع عنده عن تأثير العلم الإجمالي وتنجيزه، وإذن فالعلم الإجمالي في المقام تنجيزه متوقّف على عدم حصول العلم التفصيلي بوجوب الصوم ومشروط بذلك، وإلاّ لو حصل العلم التفصيلي بذلك لَما نجّز، وعدم حصول العلم التفصيلي بوجوب الصوم موقوف على عدم جريان أصالة الإباحة في المائع، وإلاّ لو جرت أصالة الإباحة في المائع لحصل العلم التفصيلي بوجوب الصوم، إذ المفروض أنّ وجوب الصوم لا يتوقّف إلاّ على ثبوت الحلّية ولو ظاهراً في المائع، فحيث تجري أصالة الحلّية في المائع يتحقّق وجوب الصوم جزماً، فيتّضح أنّ تنجيز العلم الإجمالي في المقام مشروط بعدم حصول العلم التفصيلي بوجوب الصوم، وعدم حصول العلم التفصيلي بذلك مشروط بعدم جريان الإباحة في المائع، ومعنى هذا أنّ تنجيز العلم الإجمالي المزبور متوقّف - بواسطةٍ - على عدم جريان الإباحة في المائع، فلا يعقل أن يكون تنجيزه مانعاً عن جريانها، إذ أنّ ما يكون متوقّفاً على عدم شيءٍ لا يعقل أن يكون هو المانع عن

٣٤٦

وجوده، وإلاّ لزم كون الشيء محقّقاً لشرط وجوده، وهو محال، وهذا لخلافه في سائر موارد العلم الإجمالي فإنّه لا يكون فيها جريان أصالة الإباحة في أحد طرفيه مانعاً عن تنجيز العلم الإجمالي وموجباً لانحلاله.

والحاصل : أنّ عدم جريان الإباحة في المائع في المقام من مبادئ تنجّز العلم الإجمالي، فهو في مرتبةٍ سابقةٍ على تنجّزه ككلِّ شرطٍ بالنسبة إلى مشروطه، بمعنى أنّه لا بدّ أن يثبت في المرتبة السابقة على تنجّزه عدم جريان الأصل في المائع، وفي هذه المرتبة السابقة لا مانع من جريان الأصل أصلاً، فتدبّره فإنّه دقيق.

ويرد عليه ثانياً : أنّ لازم ما ذكره في الصورة الأولى من الأخذ أوّلاً بالمدلول الالتزامي لدليل الأصل التنزيلي، وبتعبيرٍ آخر : بمدلول الإطلاق فيه من ثبوت وجوب الحجّ، ثمّ يؤخذ بالمدلول المطابقي له وهو الترخيص في طرفه، محذورٌ لا يلتزم به أحد.

وتوضيح ذلك : أنّه لو فرض أنّ وجوب الحجّ مترتّب على عدم الدين واقعاً وكانت قد تواردت على المكلّف كلتا الحالتين : من ثبوت الدَين في زمانٍ، وعدمه في زمانٍ ويشكّ في المتأخّر منهما فإنّه لا إشكال من أحدٍ - بناءً على جريان الاستصحاب في نفسه في المقام - في وقوع المعارضة بين استصحاب الدَين واستصحاب عدم الدَين، مع أنّ لازم ما ذكره أن يكون استصحاب الدَين حاكماً على استصحاب عدم الدَين.

وتحقيق ذلك : أنّ موضوع كلٍّ من استصحاب عدم الدَين واستصحاب وجوده هو الشك في الدَين، ولاستصحاب عدم الدَين اقتضاءان ومدلولان : أحدهما مدلول مطابقيّ وهو نفي الدَين، والآخر مدلول ثابت بإطلاق التنزيل بلحاظ الآثار وهو وجوب الحجّ، ولا بأس بتسميته بالمدلول الالتزامي.وبناءً

٣٤٧

علىما أفيد يكون ثبوت المدلول المطابقي لاستصحاب عدم الدَين في طول مدلوله الالتزامي، ومتوقّف على ثبوته في المرتبة السابقة لينحلّ به العلم الإجمالي.وثبوت المدلول الالتزامي لاستصحاب عدم الدَين في المرتبة السابقة متوقّف على تمامية أركان الاستصحاب المزبور في هذه المرتبة : من اليقين بعدم الدَين حدوثاً، والشكّ فيه بقاءً، وإلاّ لو لم تكن أركان الاستصحاب تامّةً في هذه المرتبة لَما كان هناك مجال لإجراء استصحاب عدم الدّين حينئذٍ ولو بمقدار مدلوله الالتزامي.

ومن الواضح أنّ استصحاب بقاء الدَين بلحاظ مدلوله المطابقي - وهو وجود الدَين - يلغي الشكّ في الدَين، ويهدم بذلك أركان استصحاب عدم الدّين، فلا يبقى مجال لإعمال مدلوله الالتزامي في المرتبة الأولى ؛ لانهدام أركانه، ولا لإعمال مدلوله المطابقي، وهو نفي الدَين في المرتبة المتأخّرة ؛ لأنّه فرع ثبوت المدلول الالتزامي له في الرتبة السابقة، والمفروض أنّه محكوم في الرتبة السابقة باستصحاب وجود الدَين.

والحاصل : أنّ استصحاب عدم الدَين لو كان يقتضي ثبوت مدلوله المطابقي ابتداءً لكان معارضاً لاستصحاب وجود الدَين، كما هو الشأن في سائر موارد توارد الحالتين، إذ كلّ منهما يلغي الشكّ في الدَين فلا حكومة لأحدهما على الآخر، ولكنّ المفروض أنّ اقتضاءه لمدلوله المطابقي فرع تمامية اقتضائه لمدلوله الالتزامي وفعليته، بحيث لو لا فعلية المدلول الالتزامي أوَّلاً لَما كان للدليل اقتضاء للمدلول المطابقي لاستصحاب عدم الدَين ؛ لمنافاته حينئذٍ لبرهان منجِّزية العلم الإجمالي المخصّص لأدلّة الأصول، فإذا كان اقتضاء الاستصحاب للمدلول المطابقي متوقّفاً على اقتضائه للمدلول الالتزامي فلا محالة يكون استصحاب وجود الدَين حاكماً على المدلول الالتزامي لاستصحاب عدم الدَين ؛ لأنّه رافع

٣٤٨

لموضوع الاستصحاب المزبور، وهو الشكّ في الدَين، بخلاف المدلول الالتزامي المزبور لاستصحاب عدم الدَين فإنّه لا يلغي الشكّ في الدَين حتى يكون في عرض استصحاب بقاء الدَين، بل مفاده التعبد بوجوب الحجّ فقط.

وعليه فاستصحاب وجود الدَين يكون حاكماً على المدلول الالتزامي لاستصحاب عدم الدَين؛ لأجل رفعه لموضوعه وهو الشكّ في الدَين، بخلاف العكس، فلا يثبت المدلول الالتزامي لاستصحاب عدم الدَين لأجل المحكومية، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الأخذ بالمدلول المطابقي لاستصحاب عدم الدَين ؛ لأنّه موقوف على ثبوت المدلول الالتزامي، والمفروض محكوميته وعدم ثبوته.

وإن شئت قلت : إنّ ملاك الحكومة - وهو دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص - موجود في المقام، فإذا أخذنا باستصحاب بقاء الدَين كان اقتضاء الاستصحاب الآخر لمدلوله الالتزامي محكوماً وخارجاً بالتخصّص، وكذلك ينهدم اقتضاؤه في المرتبة المتأخّرة لمدلوله المطابقي.

وأمّا إذا أخذنا باستصحاب عدم الدَين بكلا مدلوليه الالتزامي والمطابقي كان ذلك تخصيصاً بالإضافة إلى استصحاب بقاء الدَين لا تخصّصاً.

فاتّضح أنّه على ما أفاد من الجواب يلزم حكومة استصحاب بقاء الدَين على استصحاب عدمه في موارد توارد الحالتين، مع أنّ الأصحاب الذين هو بصدد توجيه كلامهم على مبانيه لا يلتزمون بذلك.

ويرد عليه ثالثاً : أنّنا لا نتعقّل تشكّل علمٍ إجماليٍّ في الصورة الثالثة أصلاً، أي فيما إذا كان وجوب الحجّ مترتّباً على المعذّرية من ناحية وجوب الوفاء بالدَين، فما ذكره : من أنّ الأمر ينتهي حينئذٍ إلى العلم الإجمالي بوجوب الوفاء بالدَين أو وجوب الحجّ إلاّ أنّه غير قابلٍ للتنجيز، ممنوعٌ ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي متقوّم بطرفين أو أكثر.

٣٤٩

ففي المقام العلم الإجمالي المُدَّعى أحد طرفيه هو وجوب الحجّ، ولا بدّ له من طرفٍ آخر، فإن ادُّعي أنّ الطرف الآخر هو وجوب الوفاء بالدَين ففيه : أنّ المكلّف يحتمل عدم ثبوت التكليفين معاً، وذلك في فرض عدم ثبوت وجوب الوفاء واقعاً مع تنجّزه ظاهراً، فإنّه على هذا التقدير لا يكون كلا الحكمين ثابتاً.

أمّا وجوب الوفاء فلأنّه مفروض العدم واقعاً.وأمّا وجوب الحجّ فلعدم تحقّق موضوعه - وهو المعذرية - من ناحية الدَين.وإذن فالمكلّف يحتمل عدم ثبوت كلا التكليفين على بعض التقادير، فكيف يدّعى كونه عالماً بأحدهما على كلِّ تقدير ؟ !

والحاصل : أنّ فرض عدم وجوب الحجّ ليس هو فرض وجوب الوفاء واقعاً البتّة حتى يكون الأمر دائراً بينهما ويكون المكلف عالماً بأحدهما إجمالاً، بل فرض عدم وجوب الحجّ هو فرض عدم موضوع، أي عدم المعذورية من ناحية الدَين، وتنجّزه، وهو أعمّ من كونه ثابتاً في الواقع، أوْ لا، فوجوب الوفاء بالدَين بوجوده الواقعي ليس طرفاً للعلم الإجمالي أصلاً، وإن ادّعي أنّ العلم الإجمالي المدّعى تشكيله في المقام أحد طرفيه وجوب الحجّ، والآخر هو وجوب الوفاء بالدَين، ولكن لا بوجوده الواقعي، بل بوجوده التنجّزي، بمعنى أنّ المكلف يعلم : إمّا بوجوب الحجّ، أو بتنجّز وجوب الوفاء بالدَين.

فيدفعه : أنّ التنجّز لا يعقل أن يكون طرفاً للعلم الإجمالي ؛ لأنّ من شؤون الطرفية للعلم الإجمالي أن يكون مشكوكاً.ومن الواضح أنّ المنجِّزية لا يتصوّر فيها الشكّ ؛ لأنّها ليست إلاّ عبارةً عن إدراك العقل لإمكان العقاب على تقدير مخالفة التكليف وصحّته، وهذا ممّا لا يمكن التردّد فيه، فإنّ الاحتمال أمر وجداني، فإن احتمل العقل العقاب فالمنجّزية ثابتة جزماً، وإلاّ فلا منجّزية جزماً.

وإذن فطرفيّة المنجّزية للعلم الإجمالي غير معقولة.

٣٥٠

على أنّه لو فرض طرفيتها لم تكن حينئذٍ مورداً للأصل المؤمِّن بلا إشكال ؛ لأنّ احتمال المنجّزية مساوق لاحتمال التكليف المنجّز، ومن المعلوم أنّ احتمال التكليف المنجّز ليس مورداً للأصل المؤمِّن، بل مورده احتمال التكليف الواقعي.

والحاصل : أنّنا لا نتعقّل حصول علم إجماليٍّ في هذه الصورة أصلاً، بل لا بدّ من ملاحظة وجوب الوفاء بالدَين المشكوك، فإن كان هناك من سائر الجهات ما يوجب تنجّزه تنجّز وانعدم وجوب الحجّ جزماً، وإن لم يكن له منجّز في نفسه جرت عنه البراءة، وثبت وجوب الحجّ من دون الانتهاء إلى علمٍ إجماليٍّ بوجوب الوفاء أو وجوب الحجّ ليمنع عن قابليته للتنجيز.

نعم، لو فرض أنّ وجوب الحجّ مترتّب على الجامع بين المعذورية عقلاً وبين العدم الواقعي لوجوب الوفاء لحصل العلم الإجمالي بأحد التكليفين، إلاّ أنّه خلاف فرض الصورة الثالثة من كونه ناشئاً من القدرة المسبّبة عن مجرّد معذورية المكلف عقلاً من ناحية الدَين.

وإن شئت قلت : إنّ المكلف في هذه الصورة على تقدير تنجّز الدَين عليه بمنجِّزٍ ما يعلم تفصيلاً بعدم وجوب الحجّ، ويحتمل وجوب الوفاء بالدَين، وكون المنجِّز للدَين مطابقاً للواقع.وعلى تقدير عدم وجود منجّزٍ له يعلم تفصيلاً بوجوب الحجّ، ويشكّ بَدواً في وجوب الوفاء، ولا ثالث لهذين التقديرين، إذ لا يتصوّر الشكّ في وجود منجِّزٍ عقلاً للدَين، فأين العلم الإجمالي المدّعى ؟ !

فاتّضح بهذا كلّه : أنّ القول بالعلّية لا يلائم جريان الأصل النافي للتكليف المترتّب عليه في الصورة الأولى ؛ لعدم خلوِّه عن محذور، وهو حكومة استصحاب الدَين على استصحاب عدمه في موارد توارد الحالتين.وأمّا في الصورة الثانية فيستحيل تنجيز العلم الإجمالي، كما عرفت.وأمّا في الصورة الثالثة فلا علمَ إجماليٌّ أصلاً.

٣٥١

تعلّق العلم الإجمالي بجزء الموضوع

التنبيه الثالث : لا إشكال في أنّ التكليف الفعلي الذي يكون موضوعاً لوجوب الامتثال على تقدير وصوله إنّما يكون بتمامية الكبرى والصغرى، بمعنى وجود الجعل من قِبَل المولى، وتحقّق تمام الموضوع المأخوذ في مقام الجعل بقيوده وأجزائه، وعليه فالعلم الإجمالي إنّما ينجِّز إذا كان علماً بتمام الموضوع ولو في ظرفٍ متأخّر ؛ لأنّه حينئذٍ يكون علماً بالتكليف الفعلي.

وأمّا العلم بجزء الموضوع إجمالاً فلا أثر له في تنجيز حكم ذلك الموضوع.فإذا علم المكلّف إجمالاً بخمرية أحد المائعين تتنجّز حرمة الشرب المتعلّقة بالخمر ؛ للعلم بتمام موضوعها وهو الخمرية، ولكن لا يتنجّز وجوب الحدّ ؛ لعدم العلم بتمام موضوعه المركّب من الخمر وشربه، بل لا يتحقّق بعد شرب أحد المائعين إلاّ احتمال تحقّق موضوعه بلا علمٍ إجماليٍّ به، وتجري حينئذٍ أصالة البراءة عن وجوب الحدّ بلا معارض ؛ لعدم وقوعه طرفاً لعلمٍ إجماليٍّ أصلاً، وهذا كبروياً ممّا لا ريب فيه، وإنّما الكلام في بعض المصاديق المشتبهة التي يشتبه تنجّز تكليفٍ فيها ؛ لاشتباه كون المعلوم الإجمالي تمام موضوعه حتى يتنجّز، أو جزء موضوعه حتى لا يتنجّز.

والمهمّ منها مسألتان :

حكم النماء عند العلم الإجمالي بالغصبيّة :

المسألة الأولى : ما إذا علم بغصبية إحدى الشجرتين أو الحيوانين، ثمّ تجدّد لإحداهما ثمرة دون الأُخرى فقد يقال بجواز التصرّف في الثمرة تكليفاً، وعدم ضمانها وضعاً ؛ لعدم العلم بما هو تمام الموضوع للتكليف أو الوضع المتعلّق بالثمرة.

٣٥٢

وقد يقال : بتنجّز الحرمة والضمان معاً بالنسبة إلى الثمرة، كما اختاره المحقّق النائينيقدس‌سره (١) ، بعد فراغ كلا الفريقين عن تنجيز العلم الإجمالي لضمان كلٍّ من الأصلين وحرمة التصرّف فيه.

ووجه القول بتنجّز ضمان الثمرة هو : أنّ وضع اليد على العين المغصوبة موجب لضمانها وضمان منافعها إلى الأبد، ومن ثَمّ جاز للمالك الرجوع إلى الغاصب الأوّل في المنافع المتجدّدة بعد خروج العين عن يده ودخولها تحت الأيدي المتأخّرة، فالعلم الإجمالي بغصبية إحدى الشجرتين كما يترتّب عليه ضمان نفس العين المغصوبة كذلك يترتّب عليه ضمان منافعها المتأخّرة؛ لأنّ وضع اليد على العين ولو آناً ما تمام الموضوع لذلك.

ووجه عدم تنجّز الضمان : أنّه تارةً يكون ذو الثمرة مجرىً للأصل المثبت لملكية الغير له ؛ فلا إشكال في ضمان الثمرة، وأخرى لا تكون كذلك فلا ضمان ؛ لأنّ ضمان المنفعة موقوف على أن تكون منفعة للعين المغصوبة الداخلة تحت اليد، فما لم يحرز كونها كذلك لم يحرز كونها مصداقاً لموضوع الضمان، فبقاء اليد على العين المغصوبة الى حين تجدّد المنفعة، بحيث تكون المنفعة تحت اليد، وإن لم يكن شرطاً في ضمان المنافع ؛ لكفاية كون العين تحت اليد آناً ما في ضمان منافعها الحادثة ولو بعد ارتفاع اليد إلاّ أنّه لا بدّ في ضمان المنفعة من أن تكون منفعةً لعين مغصوبةٍ واقعةٍ تحت اليد ولو آناً ما، وفي المقام بمجرّد العلم الإجمالي بغصبية إحدى العينين لا يحرز كون المنفعة منفعةً مضافةً إلى المغصوب ولو إجمالاً.

هذا ملخَّص ما أفيد في المقام.

____________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٧٣ - ٧٦.

٣٥٣

والتحقيق في النظر القاصر : أنّ العلم الإجمالي بغصبية إحدى الشجرتين لا يوجب ضمان إحداهما إذا تلفت، ولا ينجّز الحكم بتداركها فضلاً عن منافعها المتجّددة، بمعنى أنّ ذا الثمرة لا يكون ضمانه منجّزاً بالعلم الإجمالي المزبور، فكيف بمنافعه ؟! ولا يفرّق في هذا المدّعى بين سائر المسالك المعروفة في الضمان.

توضيح ذلك : أنّ الضمان تارةً يقال بأنّه عبارة عن اشتغال الذمّة بالمثل أو القيمة على تقدير التلف، فهو اشتغال مشروط بالتلف، كما لعلّه المشهور.

وأخرى يقال : إنّه عبارة عن دخول الشيء في عهدة الضامن بالمقدار الممكن أداؤه منه، فما دامت العين قائمةً يكون متعلّق العهدة هو العين بخصوصيّاتها الشخصية، وإذا تعذّرت سقطت الخصوصيات الشخصية من العهدة، وبقي متعلّقها مطلقاً من ناحية الخصوصيات الشخصية وإن كان مقيّداً بالخصوصيات النوعية والصنفية، وهو المعبَّر عنه بضمان المثل، ومع تعذّر هذه الخصوصيات أيضاً تسقط من العهدة، وتبقى المالية لا بشرط.

وثالثةً يقال : إنّ الضمان بمعنى كون العين الشخصية بخصوصياتها في العهدة، من دون أن يسقط شيء منها بتعذّر أوصاف الشخص أو النوع، وإنّما يختلف أثرها التكليفي، فإنّ أثرها مع التمكّن من أوصاف الشخص وجوب ردّ نفس العين، ومع تلفها وجوب ردّ المثل في المثليات، والقيمي في القيميات.

فعلى الأوّل يكون موضوع الضمان - الذي هو بمعنى اشتغال الذمّة - مركّب من وضع اليد على العين المغصوبة وتلفها، إذ المفروض أنّه عبارة عن الاشتغال المشروط بالتلف، وهذا الموضوع المركّب غير محرزٍ ولو إجمالاً، بل العلم الإجمالي تعلّق بجزء الموضوع، وهو وضع اليد على عينٍ مغصوبة، وأمّا تلفها فليس محرزاً أصلاً.

٣٥٤

والحاصل : عند تلف إحدى العينين لا يكون موضوع الضمان معلوماً ولو بالإجمال، فأصالة البراءة عن ضمان العين التالفة تجري بلا معارض، وليس المعلوم الإجمالي - وهو غصبية إحدى العينين - تمام الموضوع للضمان حتى يتنجّز بالعلم الإجمالي.

وأمّا على المسلك الثاني فالمعلوم الإجمالي - وهو وضع اليد على العين المغصوبة المردّدة - تمام الموضوع لكون العين بخصوصياتها متعلقةً للعهدة، إذ لا يتوقّف كون العين في العهدة بخصوصياتها الشخصية إلاّ على وضع اليد العادية عليها، وهذا معلوم في المقام إجمالاً، إلاّ أنّ العهدة المتعلقة بالعين بشخصها لا تقتضي أكثر من ردّ نفس العين دون المثل أو القيمة على تقدير التلف الذي يراد إثبات تنجيزه في المقام، بل الذي يقتضي دفع المثل هو العهدة المتعلّقة بالشجرة لا بشرطٍ من جهة الخصوصيات الشخصية، ومن المعلوم أنّ العهدة المتعلّقة بالمال لا بشرط من جهة الخصوصيّات الشخصيّة مشروطة بتعذّر الخصوصيات الشخصية وتلف العين، إذ ما لم تتلف العين تكون بخصوصياتها في العهدة.

وإذن فوضع اليد المعلوم إجمالاً إنّما يكون تمام الموضوع للعهدة المتعلّقة بشخص العين، وهذه العهدة ليست هي العهدة الضمانية المقصود إثبات تنجّزها ؛ لأنّها لا تقتضي إلاّ رد نفس العين، والعهدة الضمانية المدّعى تنجّزها بالعلم الإجمالي في المقام هي العهدة المقتضية لدفع المثل أو القيمة، أي العهدة المتعلّقة بنوع العين، أو بِصرف ماليتها، ووضع اليد على العين لا يكون تمام الموضوع لهذه العهدة ؛ لكونها متوقّفةً على أمرٍ آخر وهو تعذّر الخصوصيات الشخصية، إذ ما لم تتعذّر تكون العهدة متعلقةً بشخص العين لا بنوعها، وهذا الأمر الأخير الذي هو شرط لتحقق عهدة المثل أو القيمة ليس معلوماً ولو إجمالاً، فعند تلف إحدى العينين لا يكون هناك إلاّ الشكّ البَدوي في تعلّق العهدة بالمثل أو القيمة، أي نوع

٣٥٥

العين أو أصل ماليتها ؛ لأنّ موضوعها ليس محرزاً أصلاً ؛ لاحتمال كون المغصوب غير التالف، فنسبة العهدة المتعلّقة بالمثل - أي بنوع العين المقتضية لدفع المثل - إلى وضع اليد المعلوم إجمالاً نسبة الحكم إلى جزء موضوعه، كوجوب الحدِّ بالنسبة إلى وجود الخمر ؛ لأنّ موضوع العهدة المزبورة مركّب من وضع اليد على العين وتعذّر خصوصياتها، وهذا الموضوع المركّب غير معلوم أصلاً ؛ لاحتمال أنّ العين المغصوبة ليست هي التالفة المتعذّرة خصوصياتها.

فإن قلت : إنّ المكلّف عند تلف إحدى العينين، يحصل له علم إجمالي بعهدةٍ مردّدةٍ بين العهدة المتعلّقة بنفس العين التي لم تتلف، - المقتضية لِلزوم ردّها بشخصها - والعهدة المتعلّقة بنوع العين التي تلفت، المقتضية لِلزوم دفع المثل، فإنّه إن كان المغصوب هو التالف ففي عهدته مثل التالف، وإن كان المغصوب هو العين الأخرى ففي عهدته شخص هذه العين، ويكون هذا العلم الإجمالي منجّزاً، فلا بدّ من ردّ العين التي لم تتلف وإعطاء مثل التالف.

قلت : إنّ هذا العلم الإجمالي بالعهدة المردّدة لا يكون منجِّزاً ؛ لأنّ أحد طرفين - وهو عهدة العين التي لم تتلف - قد تنجّزت بعلمٍ إجماليٍّ سابق، فلا ينجِّز بالنسبة إلى الطرف الآخر، كما سيأتي دعوى ذلك منهم، فإنّ المكلف حين وضعه اليد على العين المغصوبة المردّدة بين عينين يعلم إمّا بدخول هذه العين بشخصها في عهدته، أو تلك كذلك، فبعد تلف إحداهما وإن تشكّل علم إجمالي بدخول غير التالف بشخصه في عهدته، أو دخول نوع التالف في عهدته إلاّ أنّ الطرف الأوّل، لمَّا كان منجّزاً بالعلم الأول فلا بدّ من انحلال العلم الإجمالي الثاني.

فإن قلت : إنّ العلم الإجمالي الثاني وإن كان منحلاًّ وغير منجّز ؛ لأنّ العهدة الشخصية لغير التالف منجَّزة سابقاً إلاّ أنّه بعد دفع العين التي لم تتلف يشكّ في بقاء تلك العهدة المردّدة المعلومة بالإجمال ؛ لأنّه إن كان المغصوب هو العين التالفة

٣٥٦

فعهدته قد تعلّقت بنوع التالف، وهذه العهدة باقية حتى بعد دفع العين التي لم تتلف.وإن كان المغصوب هو العين التي لم تتلف فعهدته قد تعلّقت بشخص العين غير التالفة، وتكون عهدته حينئذٍ ساقطة بدفعها.وإذن بعد أداء العين التي لم تتلف يشكّ في بقاء العهدة المعلومة بالإجمال.

قلت : إن أريد استصحاب العهدة المعلومة قبل تلف كلٍّ من العينين ففيه : أنّ تلك العهدة الثابتة حال وضع اليد هي عهدة متعلّقة بشخص المغصوب، وهي معلومة الارتفاع تفصيلاً بعد تلف إحدى العينين وأداء الأخرى، إذ أنّ المغصوب :

إن كان هو التالف، فالعهدة المتعلّقة به قد ارتفعت وتبدّلت إلى عهدةٍ مباينةٍ لها وهي عهدة المثل.وإن كان هو غير التالف فالعهدة المتعلّقة به قد ارتفعت بأدائه.

وإن أريد استصحاب العهدة المعلومة بالإجمال حال تلف إحدى العينين المردّدة بين عهدة نوع التالف ومثله، أو عهدة شخص العين الأخرى، فهي وإن كانت على التقدير الأوّل تكون باقيةً وعلى التقدير الثاني تكون مرتفعةً فيستصحب الجامع بين العهدة المرتفعة على تقدير ثبوتها والعهدة الباقية على تقدير ثبوتها على نحو استصحاب الكلّي في القسم الثاني إلاّ أنّ هذا الاستصحاب لا يجري.

أمّا أوّلاً فلأنّه معارض باستصحاب عدم الفرد الطويل، أي عدم تعلّق عهدةٍ له بنوع التالف، بناءً على أنّ استصحاب عدم الفرد الطويل إذا لم يسقط بالمعارضة باستصحاب عدم الفرد القصير يعارض به استصحاب الكلّي، فإنّ المقام من هذا القبيل، إذ أنّ استصحاب عدم الفرد القصير من العهدة - أي عهدة شخص العين غير التالفة - قد سقط بالمعارضة مع استصحاب عدم عهدة شخص العين الأخرى بمجرّد وضع اليد على العينين، فحين تلف إحداهما وتشكّل علمٍ إجمالي إمّا بعهدة نوع التالف أو عهدة شخص ما لم يتلف لا يكون لاستصحاب عدم حدوث عهدة

٣٥٧

نوع التالف معارض في نفسه، فيعارض استصحاب كلّيّ العهدة الذي يُدَّعى جريانه بعد أداء العين الباقية، وإن كان المبنى غير منقّح.

وأمّاثانياً فلأنّ الجامع بين عهدة شخص غير التالف وعهدة نوع التالف لا أثر له فعلاً ليمكن إثباته بالاستصحاب، إذ أنّه جامع بين عهدة شخص غير التالف التي لا أثر لها فعلاً لأنّ المفروض أنّه قد أدّاها للمالك، وبين عهدة نوع التالف التي لها أثر، فإن أريد باستصحاب الجامع بين العهدتين إثبات مجرّد الجامع، فيدفعه : أنّ الجامع بين عهدة لها أثر وعهدة ليس لها أثر لا أثر له ليثبت بالتعبّد الاستصحابي، وإن أريد إثبات عهدة المثل باستصحاب الجامع فهو مثبت.

وأمّا على المسلك الثالث في باب الضمان فعهدة الشخص وإن كان قد علم بما هو تمام الموضوع لها إجمالاً - وهو وضع اليد - إلاّ أنّ الحكم التكليفي بوجوب دفع البدل لا يكفي فيه مجرّد كون العين في العهدة ؛ فإنّ كون العين في العهدة على هذا المسلك ملائم مع وجوب ردّ نفس العين ومع وجوب دفع مثلها.وإذن فوجوب دفع المثل مشروط بتلف العين، بمعنى أنّ عهدة الشخص إنّما تقتضي وجوب المثل وتكون موضوعاً له بشرط تلفها، وإلاّ فلا تكون موضوعاً إلاّ لوجوب ردّ نفس العين، فموضوع وجوب المثل مركّب من وضع اليد المحقّق لعهدة العين المغصوبة، ومن تلفها المحقّق لاقتضاء العهدة لوجوب المثل، وحيث إنّ الجزء الثاني غير محرزٍ ولو بالإجمال، فتجري عند تلف إحدى الشجرتين البراءة عن وجوب البدل.

حكم الملاقي لبعض الأطراف :

المسألة الثانية : ما إذا علم إجمالاً بنجاسة أحد المائعين ثمّ لاقى شيء ثالث أحدهما، فإنّه يتكلّم في أنّ نجاسة الملاقي هل تتنجّز بالعلم الإجمالي بنجاسة أحد المائعين أوْ لا ؟

٣٥٨

وقد بنيت المسألة على القول بالسراية بمعنى التوسّع والانبساط، وعدمه.فعلى الأول نجاسة الملاقِي هي بنفسها نجاسة الملاقَى - بالفتح - التي تنجّزت بالعلم الإجمالي، فلا تكون مجرىً للأصل المؤمِّن، بخلافه على الثاني.

والتحقيق : أنّ السراية بمعنى انبساط النجاسة وتوسّعها أمر مستحيل، بناءً على الصحيح من أنّ النجاسة حكم شرعيّ واعتبار مولوي فإنّ الاعتبار يتشخّص بمتعلّقه، ولا يعقل توسّع متعلّقه ولا تضيّقه، إذ هو خلاف تشخّصه في أفق الاعتبار بأطرافه ومشخّصاته.

فما ذكره

المحقّق العراقي قدس‌سره (١) وغيره(٢) من : أنّ نجاسة الملاقي يمكن أن تكون لمحض التعبّد الشرعي، ويمكن أن تكون من جهة السراية بمعنى الاكتساب، بأن تكون نجاسة الملاقي ناشئةً عن نجاسة الملاقَى - بالفتح - ومسبّبةً عنها نشوء حركة المفتاح من حركة اليد، ويمكن أن تكون نجاسته من السراية بمعنى الانبساط، بأن تكون الملاقاة منشأً لاتّساع دائرة نجاسة الملاقَى وانبساطها إلى الملاقِي، بحيث تكون نجاسته عين نجاسته، ممنوع ؛ لأنّ نفس النجاسة لا يتصوّر فيها السريان والاتّساع ؛ لكونها اعتبارية.

ومنه يظهر الإشكال في السراية بمعنى إيجاب الملاقاة لعلّية نجاسةٍ لنجاسة، كما اختاره، فإنّ العلّية والاكتساب لا يتصوّر في الأمور الاعتبارية القائمة كلّها بالمعتبر قيام الفعل بفاعله، أو المعلول بعلّته.نعم، كون نجاسة الملاقَى - بالفتح - معدّةً لصدور اعتبارٍ آخر من المعتبر بنحوٍ من معاني الإعداد أمر معقول.وبعد عدم معقولية السراية بكلا معنييها لا حاجة إلى التكلّم في مقام الإثبات.

____________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣٥٣ - ٣٥٤.

(٢) كالمحقّق النائيني في أجود التقريرات ٢ : ٢٥٧، وفوائد الأصول ٤ : ٤١ - ٤٢.

٣٥٩

هذا كلّه، مضافاً إلى أنّه لو تمّ مبنى السراية بمعنى الانبساط ثبوتاً وإثباتاً لَما اقتضى تنجّز نجاسة الملاقي بالعلم الإجمالي ؛ لأنّ انباسط النجاسة على الملاقي من الملاقى وسعة دائرتها واختلاف حدّها لو تعقّلناه، فلا يمكن تنجّزه بالعلم الإجمالي ؛ لأنّه فرع ملاقاة الملاقي للشيء النجس، فالمعلوم الإجمالي ليس تمام الموضوع للسراية وسعة دائرة النجاسة، بل هو مع فرض ملاقاة الملاقي له، ومن المعلوم أنّ ملاقاة النجس المعلوم بالإجمال ليست معلومةً ولو إجمالاً.

فظهر بذلك النظر في ما أفادهالمحقّق النائيني (١) ، من : أنّ التنجيس لو كان من جهة السراية لَوجب الاجتناب عن ملاقي طرف الشبهة ؛ لأنّ العلم الإجمالي يوجب تنجّز معلومه بتمام مَالَه من الأثر، فكلّ ما يترتّب عليه من أثرٍ على فرض وجوده في أيِّ طرفٍ من الأطراف يتنجّز بالعلم الإجمالي، وحيث إنّ المفروض كون وجوب الاجتناب عن الملاقي من آثار نفس المعلوم بالإجمال على تقدير وجوده في ما لاقاه فمقتضى العلم الإجمالي هو ترتيب ما للنجاسة من الأثر، فيجب الاجتناب عن الملاقي أيضاً.

ووجه النظر : أنّ العلم الإجمالي - كما أفيد - إنّما ينجِّز الآثار التي يكون المعلوم الإجمالي تمام الموضوع لها، بمعنى أنّه إذا علم بنجاسة الإناء الأبيض أو الأصفر - مثلاً - فأيّ أثرٍ يكفي في وجوده مجرّد تحقّق النجاسة المعلومة بالإجمال في الأبيض يتنجّز، وأمّا إذا كان مجرّد وجودها في الأبيض، لا يكفي، بل يحتاج إلى تحقّق أمرٍ آخر ليتحقّق الأثر فلا يتنجّز الأثر أصلاً، والمقام من هذا القبيل، فإنّه لو فرض ملاقاة الثوب للإناء الأبيض لا يكون مجرّد انطباق النجاسة المعلومة بالإجمال على الأبيض كافياً في وجوب الاجتناب عن الثوب، بل

____________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٢٥٩، وفوائد الأصول ٤ : ٤٢.

٣٦٠