الاسلام يتحدى

الاسلام يتحدى30%

الاسلام يتحدى مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 190

الاسلام يتحدى
  • البداية
  • السابق
  • 190 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62797 / تحميل: 8035
الحجم الحجم الحجم
الاسلام يتحدى

الاسلام يتحدى

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

والتصديق هما قسما العلم، وكلاهما يعرَّفان بحصول الصورة لدى العقل، والفَرق بينهما أن التصور لا يوجب الإذعان والحكم، بينما التصديق يوجب حصول الإذعان والحكم؛ ولذا فالحكم خارج عن التصديق وليس هو جزء القضية، وإنما هو فعل تقوم به النفس، فبعد تصور الموضوع والمحمول والنسبة، تصل إلى الحكم، وهو الدمج بين الموضوع والمحمول، وهذه وظيفة العقل العملي الذي يقوم بالحكم والإذعان بما أدركه وتصوَّره العقل النظري، وهذا فعل غير الإدراك، تقوم به قوة غير القوة التي وظيفتها الإدراك.

ومن هنا نقول: إن العقل له أمر ونهي تكويني؛ أي بعث وزجر للقوى الأخرى الكُلِّية.

* بناء على هذا التفكيك بين القوتين تتَّضح لنا حقيقة العقل النظري؛ فهو يدرك نمطين من القضايا، أحدهما: لا يرتبط بالعمل كالقول بان الوجود المادي متناهي، والأخرى: ترتبط بالعمل، وهذا القسم من الإدراكات يتناوله العقل العملي بعدئذ ويؤثِّر على القوى المادُون لتنصاع إليها، فهو الرابط بين العقل النظري والقوى السفلية، وكمال العقل العملي هو الانصياع إلى إدراكات العقل النظري الصادقة.

* بالبيان السابق اتضحت النقاط التي كنا أثرناها في مقدِّمة الفصل الأوَّل؛ من أن معنى الإيمان والتسليم هو الإذعان، وهو وظيفة العقل العملي، وأنه ليس إدراكاً صرفا، فهناك ثلاث مراحل: فحص، و إدراك، وإذعان وإيمان.

* قال العرفاء: إن الإنسان في حالة صعود وهبوط دائمين. ومقصودهم من ذلك: أن الإنسان في حركاته اليومية وطريقة تفكيره ينتقل في درجات وجودية مختلفة أدناها هي المتصلة بعالم المادة وأعلاها هي المجرَّدة تجرُّداً تامَّا، فيبدأ من الدرجات الحسية، وهي المجردة عن المادة - دون أحكام المادة - إلى الخيال، وهي مجردة عن المادة - لا عن المقدار - ولا ترتبط بالجزئي الحقيقي كالحسي، إلى الوهم،

٦١

وهو إدراك المعاني الخالية عن المقدار كالحب والبغض، وهي مع تجرُّدها عن المادة وأحكامها إلاّ أنها متعلِّقة ومضافة إلى جزئي معين؛ إلى العقل ذي التجرُّد التامِّ عن المادة وأحكامه، وهذه كلها درجات وجودية في الإنسان.

والإنسان المهذَّب والكامل في صَلاته يتوجَّه بقلبه إلى ما فوق عالم العقل؛ حيث الصقع الربوبي والرؤية القلبية، وإلى هذا نمط من الإدراك، لكنَّه ليس بالقوة العاقلة، ويطلق عليه: الإدراك القلبي؛ وهو ذو درجات أربع: سر، وخفي، وأخفى، وهي ليست من سنخ الإدراكات الحصولية، بل إدراكات حضورية، وهذا استدراك لتوضيح درجات الإنسان الوجودية ومعرفة النفس البشرية، وسوف يأتي مزيد بيان للعلاقة والارتباط بين هذه المراتب.

* من النقاط السابقة يتَّضح لنا تعريفاً آخر للعقل العملي؛ وذلك لأننا قلنا: إن مهمته الأساسية هي الإذعان والحكم، وهذا قد يكون بقضايا ترتبط بالعمل، وحينئذٍ يترتَّب على الحكم والإذعان بها تأثُّر القوى السفلية، وقد يكون بالحكم والإذعان بقضايا لا ترتبط بالعمل كحدوث العالم وعدم تناهيه.

٦٢

التنبيه الأوَّل:

الحسن والقبح العقليَّان

هذه المسألة من أمهات مسائل علم الفلسفة وعلم الكلام والتي جرى البحث عنها منذ القدم في بداية عهد الفلسفة الإسلامية وقبلها الفلسفات الهندية الفهلوية واليونانية. وقد ذهب الأشاعرة إلى كونهما اعتباريين بجعل العقلاء، وأيَّدهم في ذلك بعض الإمامية وذهب كثير منهم إلى القول بعقليَّـتهما وتكوينيَّـتهما. ويبتني على هذه المسألة ثمرات عدَّة؛ إذ أن أغلب البراهين تعود إلى حسن العدل وقبح الظلم، فإذا كان الحسن والقبح اعتباريين، فإن الاستدلالات سوف تكون خطابية لا برهانية. وتظهر خطورة المسألة أكثر حيث يذهب كثير من المتأخرين إلى اعتبارها من المشهورات التي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء، وينتج عن ذلك اختلال البنية التحتية للشريعة؛ وذلك لأن المتكلمين يقولون: إن الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية؛ أي أن العقل لو علم بمِلاكات الأحكام الشرعية، لحكم بها، فهي موضوعات لطف في الكمال يحكم بها العقل لو اطلع عليها. فإذا كانت البنية التحتية للشريعة هي الأحكام العقلية، وهي مسألة الحسن والقبح، وهي مسألة اعتبارية بيد المعتبر وتتَّبع نظره، فينتج من ذلك تغيير الأحكام تبَعاً لتغيير الأفكار، وهو ما يُعرف حديثا بنظرية: تغيُّر المعرفة الدينية أو بسط وقبض الشريعة، فلا

٦٣

تتَّصف الشريعة حينئذ بالثبات، ولكن بحمد للَّه ومنّه هذا الإشكال وغيره مدفوع حتّى على القول باعتبارية الحسن والقبح كما سوف يأتي بيانه.

من الناحية التاريخية المسألة مرَّت بمراحل متعدِّدة:

1 - إن الفلاسفة القدمى قبل الإسلام، سواء في الهندية أم البهلوية أم الحرانية أم اليونانية، كلُّهم قائلون بعقلية المسألة، وممَّن أشار إلى عقليَّـتهما من المسلمين الفارابي في كتابه المنطقيات.

2 - إن ابن سينا الذي قام بمهمة ترجمة كتب القدماء عدل عن هذا الرأي ولم يبيِّن عدوله ولم يشر إليه، وهكذا أثَّر في مَن أتى مِن بعده؛ حيث تعاملوا مع كتبه على أنها ترجمة أمينة لكتب القوم. وقد تأثَّر هو في ذلك بما ذكره أبو الحسن الأشعري في التفكيك بين معاني الحسن والقبح.

وابن سينا تتضارب كلماته، فهو في منطق الشفاء والإشارات يمثِّل للمشهورات بالحسن والقبح؛ وهي الآراء المحمودة التي تطابقت عليها آراء العقلاء، وفي مقام أخر في النمط الثالث من الإشارات يقول: (إن أحكام العقل العملي تستعين بالنظري وقضاياه، إما أوَّليَّات أو مشهورات)، وكذلك عبارات أخرى كما في إلهيات الشفاء في مسألة استجابة الدعاء يذكر فيها: أن قضايا الحسن والقبح قضايا حقَّة يمكن إقامة البرهان عليها.

3 - بعض المتأخرين كالمحقق اللاّهيجي في كتابة (گوهر مراد)، والسبزواري في (شرح الأسماء الحسنى)، ذهب إلى أنها تكوينية ولا ينافي كونها مشهورة من جهة أخرى.

4 - المحقَّق الأصفهاني ومَن بعده ذهب إلى أنها اعتبارية مطلقاً ولا يمكن إقامة البرهان عليها، وهذا هو المذهب السائد إلى الآن.

٦٤

من خلال هذا السبر التاريخي نلاحظ كيف تحوَّلت هذه القضية من عقلية تكوينية إلى اعتبارية جعْلية.

أمَّا الأسباب التي دعت ابن سينا إلى القول بالاعتبارية:

1 - المغالطة التي ذكرها أبو الحسن الأشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح وجعل بعض المعاني تكوينية، أمّا معنى المدح والذم، فليس كذلك؛ وذلك لأنه لو كان بديهيا لأذعن به الجميع، فمن ثَمّ أدرجه في المشهورات. ولم يكن هو أول من ذكر هذه المغالطة، بل أن السوفسطائيين اليونانيين معاصرو سقراط قالوا بهذه المقالة وردهم سقراط في مؤلَّفاته.

2 - تعريفه للعقل العملي؛ حيث إنه قد عرَّفه بتعريف هو عين العقل النظري والاختلاف بينهما في المُدرَك، وأن العقل، مطلقاً، شأنه الإدراك، وليس من شأنه التأثير والانفعال، فكيف يمكن تصوّر أنَّ العقل له تدخُّل في أعمال الأفعال النفسانية! بل العمليات ليست إلاّ تأديبات وعادات، وهذا المبنى على خلاف مبنى الفلاسفة المتقدِّمين كالفاربي وتقسيمهم الحكمة إلى نظرية وعملية.

3 - غضَّ ابن سينا النظر عن أحد قسمي البرهان الذين ذكرهما أرسطو، وهو البرهان العياني أو الشهودي، ويمتاز هذا البرهان بأنه يقام على إثبات الجزئيات الحقيقية، واكتفى بالقسم الأول المعروف في باب البرهان، وهو مختص بالكليَّات؛ لذا يشترط فيه الأبدية وعدم التغيير.

ولا بأس بذكر نبذة عن هذا البرهان:

هناك قوة في الإنسان تسمَّى: قوَّة الفطنة، وهذه قوة تُرَوِّي أعمال الإنسان وتُراعي صدور الإرادة على طبق الحكمة، فهي قوة تكون محيطة بأحوال الأمور الواقعية الجزئية فتوجب انطباق الكليات على الجزئيات والوصول إلى الكمال المنشود.

٦٥

توضيح ذلك:

أن إدراك القضايا، حتّى العملية، لا يكفي للوصول إلى الكمال، وإنما هذا هو كمال لقوة خاصة وهي العقل النظري، وكمال العقل العملي والقوى السفلى يكون بالانصياع إلى القوة العملية، ولكن هذا وحده لا يكفي، بل يجب أن تكون هناك آلة وأداة تميِّز حال الجزئيات الحقيقية، لا سيما في الأمور الاجتماعية. وعدم إدراك الواقع الجزئي على ما هو عليه يؤثِّر في عدم الوصول للكمال المنشود؛ لأن تنزُّل القضايا الكلية إلى الجزئية لا يتمُّ إلاّ بأداة قادرة على استكشاف حال الجزئي على ما هو عليه وتطبيق الكلي عليه، فيكون تسلسل الادراكات بالنحو التالي:

* - مرحلة إدراك الكمال في الأعمال والبرهان عليها، وهذا يقوم به العقل النظري.

* - ثُم مرحلة الإذعان في العقل العملي والتأثير على القوى السفلى.

* - ثُم مرحلة تشخيص الأمور الجزئية بالدقة وتطبيق تلك الكليات عليها.

وشبيه هذا التسديد عند التنزُّل من الأعلى إلى الأسفل قوله تعالى: ( بِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبالْحَقِّ نَزَلَ ) فهو إشارة إلى السداد والعصمة في مراحل التنزيل؛ حيث كونه حقَّاً لوحده لا يكفي، بل يجب أن يكون السداد في النزول، وفي النفس الإنسانية الإدراك والإذعان وحده غير كافٍ، بل يجب أن يحصل التسديد في التنفيذ على الأمور الخارجية الجزئية، وهذا لا يكون إلاّ بقوة الفطنة، وهي قوة فوق القوى المادون (الغضبية والعمّالة والشهوية)، فهي تستخدم هذه القوى للوصول إلى الجزئي الحقيقي المندرج تحت الأجناس العالية، فتصدر بعد ذلك أوامرها في عالم النفس لتولِّد الشوق والإرادة وصدور الفعل بعد ذلك.

وقوة الفطنة هي التي تقوم بالبرهان العياني الذي يحتاجه الإنسان في تطبيق الكليات على الجزئيات، والكمال في الواقعة الجزئية مبتنٍ على هذا البرهان.

فتلخص الفارق بين البرهان العياني والبرهان النظري:

٦٦

1 - إن البرهان النظري هو مختص بالكليات، والعياني للجزئيات.

2 - إن النظري يتوسَّط العقل النظري والعملي، أمّا العياني، فيتوسَّط العقل النظري والعملي والفطنة.

أمَّا كيف أدَّت الغفلة عن هذا القسم من البرهان إلى إنكار الحسن والقبح العقلي، فبيانه:

إنه لو أذعنَّا بلزوم كون الأعمال برهانية، فلا بدَّ من القول بارتكاز الجزئيات على أنها قضايا برهانية، والذي يمكنه البرهنة على أن الجزيئات حسنة وحكيمة إمّا الحسن والقبح وإمّا التشريع؛ أي أنّ إدراك حسن وكمال الأفعال الجزئية يكون بأحد هذين، والأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية.

وبتعبير أخر: أن البرهان العياني يبرهن على أن العمل الجزئي على وفق الحكمة والكمال، ولا يمكن البرهنة على كل واقعة جزئية إلاّ بتوسط استناد البرهان إلى قضايا يقينية، لا قضايا مشهورة لا أساس لها إلاّ الاعتبار، فحينئذ يحصل الالتفات إلى أن قضايا العقل العملي والحسن والقبح تكوينية لا مشهورة.

ـ وحينئذٍ نقول: إن التوحيد النظري وحده - من دون تنزُّله إلى توحيد عملي - هو توحيد أجوف، ولا يحصل هذا التنزُّل من التوحيد النظري إلى التوحيد في الطاعة إلاّ بالبرهان العياني وقوة الفطنة.

ومن هنا أن التوحيد والاعتقاد بالنبوة من دون الولاية لا يُقبل: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) وسيأتي بسط الكلام فيه.

فهذه الأمور الثلاثة هي التي سبَّبت الخلط الحاصل لدى ابن سينا، وعليه ابتنى اشتباه المتأخرين.

بعد اتضاح هذا الخلط التاريخي في مسألة القبح والحسن، نعرض للأدلة التي أُقيمت على اعتباريَّتهما ومناقشتها، ثُم نعرض إلى الأدلة التي ذكرها صدر

٦٧

المتألهين.

أدلَّة اعتبارية الحسن والقبح:

1 - اختلاف العقلاء في تحسين بعض الأمور وتقبيحها باختلاف الأزمنة والأمكنة، فهذا يعني عدم وجود واقع تكويني ثابت؛ بحيث يبقى الشي‏ء حسناً دائماً أو قبيحاً دائما.

2 - نفس وقوع التشاجر بين العلماء حول اعتباريتهما أو عقليَّتهما.

3 - يذكرون في إثبات النفس: أن الإنسان لو خلق من دون أعضاء أصلا، فإنه سوف يدرك ذاته، وهذا يدل على مغايرة الذات للبدن، وهكذا فيما نحن فيه، فلو خُلق الإنسان وحيداً في هذا العالم ولم يؤدَّب على العادات الحسنة ولم يلاقِ أيَّ إنسان آخر، فإنه سوف لن يحكم بحسن العدل وقبح الظلم، فهذا يدل على أنهما ليسا تكوينين، بل هما أمران جعليَّان.

4 - إن العقلاء إنما يحكمون بهذا الحكم من أجل مصلحة اجتماعهم ونظامهم، فلو انعدم الاجتماع والنظام، لَمَا حكم العقلاء بذلك وبعبارة أخرى: أنّ هذه الأحكام للوصول لإغراض أخرى بواسطة هذا الاعتبار.

5 - ما ذكره المحقِّق الأصفهاني: أن الفعل المقتضي للمدح والذم على أحد نحوين، إمّا بنحو اقتضاء السبب لمسبَّبه والمقتضي لمقتضاه، وإمّا بنحو اقتضاء الغاية لذي الغاية.

أما السببية والمسبَّبية، فهي تكوينية، لكنَّها ليست ناشئة عن النزعة العقلية وقوى الإنسان العقلية؛ بل هي ناشئة بدواع حيوانية كالانتقام والتشفِّي والغيظ. أما الغاية وذي الغاية، فإنها إذا ثبتت، فهي تعني وتدل على الاعتبارية؛ لأن الغاية لهيئة الاجتماع الاعتبارية، والمدح والذم،موجب لِمَا فيه صلاح العامة، فهو اعتباري محض.

٦٨

6 - ما ذكره ابن سينا والأصفهاني: أن الحسن والقبح لو كانا عقليين تكوينيين، لَمَا خرجا عن إحدى البديهيات الست وهما ليسا بواحدة منها، فيبطل كونها من البديهيَّات.

7 - إن المدح والذم يعدُّه العقلاء من الإنشائيات، والإنشاء من سنخ الاعتباريات.

8 - ما ذكره الشهيد الصدر: أن تعريف العدل هو إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، والظلم هو منع الحق، والحق أمر اعتباري قانوني، فكذلك العدل والظلم. ومن هذا القبيل ما ذكره العلامة الطباطبائي من عروض الحسن والقبح على الأمور الاعتبارية كالتوقير والاحترام.

و هذه الأدلة كلها مردودة. و قبل أن نستعرضها نتعرض لِمَا ذكره الأشعري بالتفكيك بين معاني الحسن والقبح، و هو كما ذكرنا أحد الأسباب التي أدَّت إلى مغالطة ابن سينا.

* إننا يجب أن نلاحظ الحد الماهوي للمدح و الذم؛ فالمدح هو القضية المتكفِّلة لحمل كمال معين على موضوع معين، والذم بخلافه. وعليه يُعلم أنه يجب أن يكون الممدوح آتٍ بكمالٍ، فيكون المدح هو التوصيف بالكمال، والذم هو التوصيف بالنقص، ولا يمكن أن يُمدح بغير كمال أو يذم بغير نقص؛ فيجب أن يكون هناك واقع يطابقه المدح والذم.

وبتعبير أخر: إن وظيفة المدح هو الحكاية الحقيقية عن الكمال، أي المحمول الذهني الحاكي عن الكمال الحقيقي الخارجي، والذم كذلك، فالارتباط بينهما هو الارتباط بين الحاكي والمحكي عنهما، وهما متَّحدان هويةً ومختلفان وجودا، فالكمال الحقيقي وجود خارجي، والمدح وجود ذهني. وحكاية وجود عن وجود أمر متسالم عليه، وأكمل صورة هو حكاية

٦٩

الموجودات عن وجود الخالق؛ إذ أنها آيات عظمته وقدرته، وكلَّما كان الوجود أكمل، فحكايته عن الوجود الإلهي أعظم وأتم. وقد قال عليه‌السلام : (ما للَّه آية أكبر منّي) باعتبار أن الكمالات التي وصل إليها عليه‌السلام ( بغير وجوده البدني) حاكية عن وجود الحق أكثر من حكاية السماوات والأرضين. فالوجود الخارجي يكون حاكياً عن وجود خارجي آخر أكمل وأتم من الأول. فالحكاية ليست مقتصرة على الوجود الذهني، بل إن الأفعال القبيحة الصادرة من الفاعل البشري المختار حاكية عن الهيئات الرديئة في النفس.

* ثُم إنه لا مضايقة في أن يخلق الإنسان وجودات اعتبارية للأمور الخارجية العينية؛ وذلك لغرض الاحتياج إلى هذا الاعتبار من أجل الاجتماع والتفاهم، وهذا الوجود الاعتباري لا يلغي الوجود التكويني الخارجي العيني، ومثاله الواضح: الوجود اللفظي والوجود الكتبي، فهما وجوادن اعتباريان دعت إليهما الحاجة، وهذان الوجودان الاعتباريان يكونان حاكيين عن الوجود العيني الخارجي. وقد تدعو الحاجة إلى اعتبار وجودات أخرى حاكية عن الوجود الغيبي.

وهكذا نستطيع ملاحظة الهجاء الوارد في القرآن، فهو وإن كان إنشائياً، لكنَّه حاكٍ عن أمور تكوينية وواقع خارجي، وإنما أظهره القرآن بإنشاء الهجاء؛ لإعلام الآخرين بما حصل في الأقوام الآخرين.

* ثُم إن الشجار في الأمر البديهي لا يؤدِّي إلى عدم البداهة؛ نوضح ذلك من خلال علم المنطق: إنه قد تعتري الإنسان أسباب تؤدِّي إلى إنكار البديهة كالمغالطة والشبهة في قبال البديهة، وهذا الإنكار لا يؤدِّي إلى إنكار بديهية القضية.

وقد يكون الإنكار في بعض الأحيان نتيجة حالة مرضية تصيب القوة العاقلة؛ حيث لا ينصاع العقل العملي لمدرَكات العقل النظري، فيصاب بحالة التشكيك الدائم كما وقع للرازي. فهذا كلُّه لا يؤدِّي إلى عدم بداهة القضية.

٧٠

هذا كلُّه جواب إجمالي عن أدلة اعتبارية الحسن والقبح، أمَّا الجواب التفصيلي:

1 - إن اختلاف العقلاء في التحسين والتقبيح حسب اختلاف الأزمنة والأمكنة إما أن يكون ناشئاً من اختلاف التشخيص؛ أي عدم إصابة الكمال الواقعي والنقص الواقعي، وذلك لاختلاف الافهام والعقول، وإما أن يكون ناشئاً من اختلاف الظروف البيئية المختلفة كالاختلاف بين الأماكن الباردة والحارة، فإنه في الأولى يقبح لبس الملابس الخفيفة بخلاف الثانية.

2 - أمّا وقوع التشاجر والخلاف بين العلماء، فيُعلم جوابه مما مر.

3 - أمّا ما ذكروه من أن الإنسان لو خُلق وحيداً أو لم يؤدب، لَمَا حَكم بحسن أو قبح، فإن هذا كالمصادرة على المطلوب، بل إن العقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم ولو لم يكن هناك اجتماع أو لم يؤدب، فإن الظلم - كما سوف نبيِّن - هو ممانعة شخص لكمال آخر، فلو عرِف العقل بذلك التعريف وفكّر به، فإنه سوف يحكم لا محالة بقبحه.

وابن سينا نفسه وقع في التناقض؛ حيث قال في إلهيات الشفاء في مسألة استحابة الدعاء والتضرُّع والتوسُّل: إن أكثر ما في أيدي الناس من الحسن والقبح حقٌّ يقام عليه البرهان.

4 - أمّا ما ذكره المحقق الأصفهاني؛ من أن سببية الفعل للمدح والذم تكون من مناشئ حيوانية، فهو غير تام؛ وذلك لأن للعقل ملائمات ومنافرات، وبالتالي يمكن أن يكون المنشأ هو داعٍ عقلي محض، ويكون العقل سبباً للمدح والذم، وهذا واضح في الكُمّلين من البشر، حيث نلاحظ أن انفعالاتهم ومدحهم وذمهم ليس ناشئاً من دواع حيوانية؛ وذلك لأن قواهم كلّها منصاعة تماماً للقوى العقلية، فتكون كل تصرفاتهم منبعثة عن العقل، فعندما يذمُّون ظالماً - مثلاً - لا يكون الذم بداعي

٧١

الغريزة الحيوانية. ويمكن أن يكون تعبير القرآن عن موسى: ( وَلَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسى الغَضَبُ ) إشارة إلى

ذلك؛ إذ أن النطق والسكوت من خصائص الإنسان، بخلاف الحركة والسكون العامة لمطلق الحيوان، فقد استخدم تعبير السكوت للدلالة على أن غضبه لم يكن ناشئاً من القوى الحيوانية، بل من القوى العاقلة؛ وسرُّه هو ما ذكرناه.

وهذا التحليل هو الذي يفسِّر لنا كيف أن الإنسان الكامل يكون رضاه رضا اللَّه وغضبه غضب اللَّه؛ لأن قواه كلها منصاعة لقواه العقلية التي هي معصومة في ما تتلقَّاه من مدرَكات عن العوالم العلْوية من مشيئة اللَّه.

ومن الجهة الأخرى؛ أي عندما نُخبَر بأن رضا اللَّه في رضا فاطمة (إن اللَّه يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها) فإن هذا يعني عصمتها؛ لأن هذا يعني سلامة النفس والانقياد إلى القوة العاقلة التي هي في اختيار مشيئة اللَّه، والتعبير المزبور إنما يُطلق ويصدق عندما يكون العبد تمام مظهر الطاعة والتبعية لربِّه.

5 - أمّا إشكال الشهيد الصدر، فجوابه بمخالفته لتعريف الظلم والعدل، فإن التعريف الصحيح للعدل هو: وصول كل موجود إلى كماله المطلوب من دون إعاقة وممانعة موجود آخر. والظلم هو: ممانعة موجود من وصول موجود آخر لكماله. فالعدالة الاجتماعية - مثلاً - هي: وصول كل أفراد المجتمع في حسن نظام المجتمع إلى كمالاته الممكنة من دون إعاقة الأفراد الآخرين، أما عندما تصل طبقة لكمالها على حساب طبقة أخرى، فإنه يكون من الظلم الاجتماعي. والتشريع إنما يكون عادلاً؛ لأنه يكون كاشفاً عن الكمالات المخبوءة في الأفعال والتي بها يصل الإنسان لكمالاته.

فالعدل كمال والظلم نقص، فيكون توصيف العدل والظلم بالحسن والقبح تكوينياً لا اعتباريا.

٧٢

أما الاحترام والتعظيم، فنفس الاحترام والتعظيم ليس بشي‏ء، بل المهم هو الداعي للاحترام والداعي للتعظيم؛ لِمَا فيه من ترويض النفس، وهو في الواقع تقديس واحترام للكمال المخبوء في ذلك الشخص، فالتقديس ليس للبدن، بل للصفات العالية، ومن هنا نقول: إن التقديس إذا كان للحقائق والكمالات، فهو دعوة نحوهما وسير حثيث اتجاههما.

وبهذا يختلف عن تقديس الأباطيل والخرافات، فهذه قدسية باطلة. وبتعبير آخر، يمكن القول: إن القدسية والتقديس هو خضوع قوى الإنسان السفلى إلى قواه العقلية العملية، فإذا كانت تلك القوى العملية مصابة بحالة مرضية وتنصاع للأباطيل، فتكون قدسية مذمومة. أمّا لو كانت القوة العملية منصاعة للكمالات العالية والتي بها تكبح جماح القوى المادون، فإنها قدسية محمودة.

6 - أمّا ما ذكر من أن المدح والذم من الإنشائيات، فقد ذكرنا أن الإنشاء لا يصدر إلاّ من داعي، وهذا الداعي أمر تكويني؛ فالهجاء هو إظهار للنقص التكويني، والمدح إبراز للكمال الخارجي الحقيقي، والبلاغيُّون قد أذعنوا بأن أقسام الإنشاء هي عناوين لماهيَّات الدواعي.

فتبيَّن من كل ما سبق: أن الحسن والقبح أمران تكوينيان واقعيان، وليسا اعتباريين كما ذهب إليه جلّ المتأخرين.

أدلَّة واقعية الحسن والقبح:

ونلفت أخيراً إلى براهين أقامها صدر المتألهين تثبت تكوينية الحسن والقبح؛ ذكرها بعد أن كان قد أنكر واقعيتهما عندما تعرض لهما ابتداءً، وهذا يلفت إلى الخلط والتردد الحاصل لدى مَن أتى بعد ابن سينا، بسبب الاضطراب الحاصل في كلماته.

والبراهين التي ذكرها للدلالة على واقعية الحسن والقبح ثلاثة:

٧٣

1 - العناية الإلهية:

أي أن للحق تعالى عناية بخلقه. والقاعدة الفلسفية المثبَتة هنا هي: أن علمه بالنظام الأتم والأكمل ورضاه به لهذا النظام. توضيح ذلك:

أن الباري يكون على أكمل وأشرف وأعلى ما يمكن أن يكون في مقام ذاته، فالصادر من الحق يكون كذلك؛ حيث أن آيات ومخلوقات اللَّه تدل على صفة الكمال في الباري، والنظام الذاتي يكون علة للنظام الخلقي، وإفاضة الكمال على ما دون هو من العناية.

وهكذا يستفيد الملا صدرا أنّ علم الباري هو منشأ إفاضة الكمالات للمخلوقات، وصفة العناية هذه هي التي تفيض ما يعرف بالنظام الأحسن والأكمل، حيث يكون كل عالم من العوالم بنحو يؤدي إلى تحقيق الكمالات الوجودية بنحو أكثر وأرفع، فعناية الحق توصل تلك الموجودات الفاعلة بالإرادة إلى أكمل ما يمكن أن تكون عليه، ومن هنا يستدل على ضرورة التشريع والتقنين الإلهي؛ حيث إنه يرشد الفاعل الإرادي إلى طريق هذا الكمال.

ومؤدّى هذه القاعدة (العناية) يمكن أن يستبدل بقاعدة اللطف المعروفة إلاّ أن الأولى الحاكم بها هو العقل النظري، والثانية الحاكم بها هو العقل العملي.

ونعود فنقول: إن الأفعال يجب أن تؤدي إلى الكمال المطلوب، وهذا يقتضي أن يكون لهذه الأفعال في الواقع كمال مُعين (العلم تابع للمعلوم الذاتي) وهو النظام الكمالي الذاتي، فالعلم (فعله الصادر) يتحدَّد طبقاً للكمال الذي في المعلوم، وهذا يعني أن في الأفعال الإرادية، في حد نفسها، كمال ونقص، وأن الخير والشر نابع من واقع الفعل الإرادي، وأن الحكم التشريعي الإلهي على طبق ما في الأفعال من خير وشر، فهو كاشف عمّا هي عليه في الواقع، لا كما يقوله الأشعري: إن واقع الفعل تابع لنمط التشريع، ولا هوية له في نفسه. أو لك أن تقول ما قدَّمناه؛ من أن حقيقة المدح: الإخبار عن الكمال. والذم: الإخبار عن النقص، فللأفعال الإرادية في نفسها مدح وذم؛ أي حسن وقبح.

٧٤

2 - تجسُّم الإعمال:

وهي قاعدة مهمة نقَّحها بوضوح فائق فلاسفة الإمامية مسترشدين بالروايات الواردة في ذلك؛ ومؤداها: أن تكرار الفعل يولِّد ملكات إما حسنة نورانية أو ملكات رديئة، وكلّما ازدادت، ترسَّخت في النفس أكثر حتّى تصبح جوهرية. من هنا قالوا: إن الإنسان ليس هو النوع الأخير، بل يتلبَّس بعد الصورة الإنسانية بصورة وفعل إما ملكي أو شيطاني أو بهيمي أو سبعي. وهكذا - وفي كل نوع - هناك شعب أخرى. بيان ذلك:

إن الإنسان في سعيه نحو الكمال إنما يبتغي أن يحصل على ما له ثبات، والكمال العرضي يكون في معرض الزوال، فيعود حاله إلى ما كان عليه قبل تحصيله. فهو يسعى لأن يحصل على كمال ذاتي يكون بنحو جوهري لا أن يكون معرَّضاً للزوال، وبهذا يتكامل ويصعد في سُلّم الكمالات ويثبت عند كل درجة، ويحصل هذا التغيير الجوهري عن طريق الأفعال المؤدية للكمال؛ حيث يُحدث الفعل - عند تكراره والمواظبة عليه - حالات في النفس تنتقل إلى هيئات، ثُم تتنقل إلى ملكات، فتشتد حتّى تصل وتصبح فصولاً جوهرية.

بالإضافة إلى ذلك، فإن البدن يكون بشكل يتناسب مع القوة التي يتملَّكها الإنسان وغيره، فمثلاً في الذئب الهيئة الجسمانية لها تناسب مع القوة التي يمتلكها، ودلَّت الروايات على أن الأجسام الأخروية هيئتها تابعة للفصول الجوهرية التي يتكامل بها الإنسان أو يتناقص.

أمّا تطبيق القاعدة على ما نحن فيه، فهو أن موارد الحكم بالحسن هي نفسها في موارد الفضائل والكمالات، حيث يتبين أنها توجب تجسُّم تلك الأعمال بصورة نورانية، وموارد الحكم بالقبح هي نفسها موارد النقص التي تتجسَّم بصور رديئة ظلمانية، فيظهر من ذلك أن الحكم بالحسن والقبح ليس اعتبارياً، بل أمراً عقلياً له من مناشئ تكوينية.

٧٥

3 - قاعدة الغاية:

وهذه قاعدة تُبحث في أبحاث العلل، وهي تعني وجود ارتباط بين صدور الفعل وغايته؛ بمعنى أن تصور النتيجة المترتبة على الفعل القصدي تكون دافعاً لرغبته للقيام بذلك الفعل، فهناك ارتباط بين الوجود العلمي للغاية وفاعلية الفاعل، وهناك ارتباط بين الوجود الخارجي للفعل والتوصل للغاية، فالوجود العلمي هو في سلسلة العلل المتقدِّمة على الفعل والثانية متأخرة عن وجود الفعل. وقد وردت هذه القاعدة في بيانات عدّة ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) فهناك تقدير مقدّم على الخلق وهداية لهم بعد الخلق، فالمخلوقات في سير تكاملي، وهو الغاية التي من اجلها خُلقت. وهذا البرهان بهذا النحو يختلف عن برهان النظم وإن اقتربا من بعضهما. وإنكار العلة الغائية يساوق إنكار العلة الفاعلية.

أما تطبيق ذلك على الحسن والقبح، فبيانه: أن الفاعل الإرادي لا يفعل فعلاً إلاّ لأجل غاية، وهذه الغاية هي تحقيق الكمال، فالكمال يتحقق بهذا الفعل، وهذه هي الموارد التي يحكم بها العقل بالحسن، فالحسن راجع لكمالٍ يتحقق بواسطة هذا الفعل، فهو أمر واقعي، والكمال المقصود هو: كمال للقوة العاقلة وما فوقها من درجات النفس، وتكون موجِبة للقرب الإلهي. أما في موارد القبح، فإن الكمال الذي تحققه بالأفعال هي كمالات للقوى الشهوانية والغضبية، فدعوى الأشعري: أن لا حسن ولا قبح واقعي في الأفعال، يساوق إنكار العلة الغائية، وإنكار العلة الغائية يؤدي إلى إنكار العلة الفاعلية.

فتلخَّص من مجمل البحث أن الحسن والقبح العقليين أمران تكوينيان واقعيان بالأدلة المثبِتة، سواء على مبنى المتقدِّمين كابن سينا أو على مبنى صدر المتألهين.

٧٦

التنبيه الثاني:

الخطأ في الفكر البشري

ومن الأمور المهمة التي يجب الإشارة إليها هو في كيفية نشأة الخطأ في الفكر البشري، وقد أثار هذا التساؤل كثير من الفلاسفة والمناطقة وأجابوا بإجابات متعدِّدة:

منها: أن علوم المنطق تتكفَّل عصمة الفكر عن الخطأ، ويبقى على عاتق الإنسان مراعاته عند

التطبيق، فالخطأ الناشئ هو من سوء التطبيق.

ومنها: أن الخطأ ينشأ بسبب خطأ نفس مواد الأقيسة؛ حيث أن بعضها نظري، وكلَّما ابتعدت القضايا عن البداهة زادت نسبة الخطأ.

ومنها: أن الخطأ هو نتيجة عدم توازن في أفعال النفس؛ فقد ذكرنا سابقاً أن الإذعان والجزم الحاصل لدى النفس هو غير النتيجة، وأن وظيفة العقل النظري هو الإدراك، فالخلل يحصل عندما يحصل جزم وإذعان غير متناسب مع درجة الإدراك الحاصلة لدى العقل النظري.

وقد سعى الفلاسفة والمفكرون لإزالة هذا الخطأ، أو على الأقل تقليل نسبة الخطأ، ومن تلك المحاولات ما دعى إليه السيد الشهيد الصدر(رحمه الله) باعتماد منهج الاستقراء وتراكم الاحتمالات في الفكر البشري بدلاً من القياس الأرسطي، والاستقراء طريقة رياضية عملية، حيث تتضاءل احتمالات الخلاف حتّى تصل إلى نسبة قليلة جداً بحيث تقوم النفس بإلغاء احتمال الخلاف، وتتعامل مع النتيجة

٧٧

معاملة اليقين الصحيح التام، وتكون النتيجة حينئذ يقينية برهانية.

ولنا على هذه النظرية تعليق لا يتَّصل بجوهرها، فهي متينة وتامة، لكن:

1 - إن ما توصل إليه السيد الشهيد بحساب الاحتمال وكيفية تضاؤله، ومن كون النتيجة الحاصلة من الاستقراء برهانية،خطأ؛ إذ إن النتيجة ليست برهانية، بل العمل بهذه النتيجة برهاني؛ بمعنى أنه أقام البرهان على تعين العمل بهذه النتيجة، كما يقوم البرهان في علم الأصول عبر دليل الانسداد على وجوب العمل بالظن. وبعبارة أخرى: النتيجة ليست يقينية وإن كان العمل بها لابدَّ منه بالدليل اليقيني.

2 - لقد ذكر السيد أن بإمكان استخدام هذه النظرية لإثبات الغيبيات وما وراء الطبيعة، وهذا غير تام؛ لأن هذه الطريقة تظل غير يقينية ونحن لا نحتاج إليـها في إثبـات الغيـب، إذ لدينـا كثير من البراهين - كبرهان

الصديقين - التي تورث اليقين.

3 - إن احتمال الخلاف يظل قائماً، وجزم النفس على خلافه - وهو قليل جدَّاً - لا ينفيه من أساسه، ولا يتحول إلى يقين.

٧٨

التنبيه الثالث:

الثابت والمتغيِّر

من المسائل المهمة التي تبتني على مسألة الحسن والقبح هي ثبات التشريع وتغيُّره، فبناء على اعتبارية الحسن والقبح وإنه لا واقع حقيقي وراء تطابق آراء العقلاء، فإن الحسن والقبح يتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، وبالتالي لا يوجد ما هو ثابت في التشريع، بل هو متغيِّر. أمّا بناء على أنهما أمران واقعيَّان، فالنتيجة خلافها.

ـ وقد يصاغ هذا البحث بصياغة أخرى، وهي: أن ختم النبوة يعني أنْ لا حاجة إلى النبوة حتّى يوم

القيامة؛ وذلك لأنَّ العقول تكون قد تكاملت بواسطة تلك النبوة الخاتمة، ولا تحتاج إلى رعاية نبي ولا وصي، ولا هدايتهما.

ـ وقد تصاغ بنحو ثالث، كما ذكره العلاّمة الطباطبائي، وخلاصته: أن الإرادة تنبعث من جهات اعتبارية لا حقيقية، وحسب تغيُّر هذا الاعتبار تتغيَّر وجهة سير هذا الإنسان.

أمّا جواب هذه الصياغات:

فأوَّلاً: بما مرَّ من البراهين التي أثبتت تكوينية الحسن والقبح.

ثانياً: أن دعوى تكامل العقول تعني وقوف السير والبحث والفحص العلمي لدى البشرية؛ لاطلاعهم على الحقائق وإصابتهم لها، والحال أنَّا نجد من أنفسنا الإذعان بعدم توقُّف هذا السير ولن يتوقف هذا السعي الحثيث لدى الفطرة

٧٩

البشرية، وهذا يدل على أمرين:

الأول: وجود واقعية وحقيقة ثابتة تسعى البشرية للوصول إليها.

الثاني: عدم إمكان وصول البشرية إلى الإحاطة بتمام تلك الحقيقة الواقعية وإن كانت الإصابة النسبية مستمرة، وهذا وإن لم يزلزل الحقائق المتوصَّل إليها، إلاّ أنها لا تعني تمام الواقع.

وهذان الأمران يستلزمان دوام حاجة البشرية إلى التشريع السماوي والنبوة المحمدية؛ لأن ربَّ الواقعية هو المحيط تماماً بها. كما يثبت بذلك عدم إحاطة البشرية بكنه غايات التشريع السماوي والمصالح المخبوّة فيه.

ثالثاً: أمّا جواب ما يُدَّعى من انبعاث الإرادة دوماً من الاعتبار، وهو الذي ذهب إليه العلامة الطباطبائي، فهو يستدعي أن نُلقي نظرة على ما سطَّره يراعه الشريف في رسالة الاعتبار والتي تُعتبر حصيلة البحث الأصولي في ذلك الوقت.

تحليل مختصر لنظرية الاعتبار:

وملخَّص ما ذكره العلاّمة:

أ - إن الاعتبار يمثِّل جانباً من نشاطات العقل العملي ومدرَكاته، وشأناً من شؤونه.

ب - إن كل موجود يسعى نحو كماله؛ فالفاعل غير الإرادي يوجد له صراط معيَّن يسير فيه. أمَّا الموجود الإرادي، فإنه يسعى نحو كماله من خلال إرادته.

ج - إن الفاعل الإرادي في تحريك إرادته يسعى نحو تحقيق ما هو غير موجود. أمَّا ما هو موجود، فلا يسعى لتحصيله كما هو واضح.

د - إن الإرادة تنطلق من قضايا غير حقيقية؛ أي لا واقع خارجي فعلي لها، فلا محالة تكون القضايا اعتبارية وهي التي تولِّد الإرادة، ومن دونها لا يمكن للإرادة أن تنطلق.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وما عانى النبي كل هذا الا لأجل دعوته، لقد كان من الممكن أن يعيش حياة أخرى، تختلف كل الاختلاف عن الحياة البائسة التي عاشها في سبيل رسالته، ولقد عرضت عليه، حين كان بمكة، عروض مغرية تكفل له العيش الرخي، والمجد السني، فأوفد اليه رؤساء قريش «عتبة بن ربيعة»، الذي جاء ليقول له:

«يا ابن أخي، انك منا، حيث قد علمت من السطة في العشيرة، والمكان في النسب، وانك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم؛ فاسمع مني، أعرض عليك أمورا، تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. فقال له: قل يا ابا الوليد أسمع، قال: يا ابن أخي: ان كنت انما تريد، بما جئت به من هذا الامر، مالا، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالا؛ وان كنت تريد به شرفا، سودناك علينا، حتى لانقطع أمر دونك، وان كنت تريد به ملكا، ملكناك علينا: وان كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لاتستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فانه ربما غلب التابع على الرجل حتىيداوى منه». حتى اذا فرغ عتبة، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستمع منه قال: أقد فرغت يا ابا الوليد؟، قال نعم، قال:

«فاستمع مني، فقال: أفعل. فقرأ عليه الآيات الاولى من سورة (فصلت)، فلما وصل الى قوله تعالى: (مثل صاعقة عاد وثمود)أمسك عتبة على فيه، وانشده الرحم ان يكف(١) ».

***

وفي المدينة المنورة، كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رئيسا لدولة المسلمين، وكان يتمتع بمساعدين مثاليين، يبذلون حياتهم لأجله، ولم يعرف لهم نظراء على مدى التاريخ، ولكن الوقائع التاريخية اثبتت أنه - حتى في أخر أيام حياته، حين أظلت رايته الجزيرة العربية كلها - بقي رجلا عاديا، غير ملتفت الى شهوات الدنيا ومغرياتها، حتى لحق بالرفيق الأعلى.

وقد روى سيدنا عمر بن الخطاب أنه دخل حجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فاذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمل بجنبه، متكئا على وسادة حشوها ليف. قلت: يا رسول الله أدع الله، فليوسع على أمتك، فان فارس والروم قد وسع عليهم، وهم لايعبدون الله. فقال: أو في هذا أنت، يا ابن الخطاب؟ أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، وفي رواية؛ أما ترضى عن أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة(٢) ».

___________________

(١) سيرة ابن هشام١/ ٣١٣ - ٣١٤.

(٢) متفق عليه.

١٢١

ومما تحكى السيدة عائشة «انه كان يمر الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما توقد في أبيات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نار؛ فسألها عروة بن الزبير: فما كانت معيشتكم، ياخالة؟ قالت: الأسودان: التمر والماء. وقالت: وكان لنا جيران من الأنصار لهم ربائب يسقوننا من لبنها، جزاهم الله خيرا.». وقد جاء في حديث آخر: أنها ذكرت «أن آل محمد لم يشبعوا ثلاثة أيام متوالية من طعام بر، حتى مضى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لسبيله(١) ».

***

لقد عاش النبي هذه الحياة القاسية، رغم كونه قادرا، كل القدرة، على أن يعيش حياة النعيم والترف. وعندما انتقل الىرحمه‌الله لم يورث أهله شيئا، لادراهم ولا دنانير، ولاغنما ولا ابلا، تى انه لم يكتب أية وصية. بل ان النبي العظيم، الذي كان على معرفة تامة بأن حدود دولته الاسلامية سوف تمتد عابرة افريقية وآسيا، حتى تصل الى قلب أوروبا - قال: «نحن معاشر الأنبياء، لانورث؛ ماتركنا صدقة».

***

ان هذه الوقائع التي اوردناها، من الايثار، والاخلاص، وسمو الأخلاق، ليست حوادث استثنائية في حياة الرسول، وانما هي حياته بأكملها، بل هي بالأحرى، صورة مصغرة وموجزة عن الوقائع التي كانت تحدث في حياته المثالية، لقد ارتفع بالانسانية الى اسمى قمة تحلم بها، حتى انه لو لم يوجد، لاضطر المؤرخون الى القول: بأنه لم يوجد انسان من هذا الطراز، ولن يوجد في التاريخ.

***

فليس غريبا، مطلقا، أن يقال: انه كان نبي الله، ولكن الغريب أن ينكره أحد منا عنادا وغرورا.

ونحن عندما نسلم بدعواه يمكننا أن نفسر حياته المعجزة.

أما اذا أنكرنا نبوته، فسنفقد أي أساس لتفسير منبع أوصافه العجيبة، التي لم نجد لها مثيلا في التاريخ. وقد اعترف البروفيسور «بوسورث سميث» بهذه الحقائق، حتى انه ليدعو البشرية كلها الى الايمان برسالة النبي:

«لقد ادعى محمد لنفسه في آخر حياته نفس ما ادعاه في بداية رسالته. واني لأجدني مدفوعا.

___________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد١/٤٠٠ ومابعدها.

١٢٢

الى الاعتقاد بأن كلا من الفلسفة العليا والمسيحية الصادقة سوف تضطران، يوما ما، الى التسليم بأنه كان نبيا. نبيا صادقا من عند الله(١) .

***

أما الناحية الأخرى في قضية اثبات الرسالة المحمدية، فهي ذلك الكتاب الذي جاء به صاحب الرسالة، مدعيا أنه منزل من عند الله تعالى.

وهذا الكتاب يفيض بخصائص ومزايا تدل صراحة على أنه كلام غير انساني، وأنه من عند الله. ولما كان البحث في هذه الناحية ذا طبيعة خطيرة - نظرا لأهميته - فقد قدرنا أن ندرسه في باب مستقل.

___________________

(١) Mohammad & Mohammanism, p. ٣٤٤

١٢٣

الباب السابع : القرآن صوت الله

عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: «ما من الأنبياء نبي الا اعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وانما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله الى، فارجوا اني أكثرهم تابعا يوم القيامة(١) ».

ان هذا الحديث النبوي يعين جوانب بحثنا الصحيحة، فهو يقول: ان أهم وسائلنا لمعرفة النبي هو الكتاب الذي جاء به، مدعيا أنه من عند الله، والقرآن هو، رسالة الرسول بين ظهرانينا، كما أنه يبرهن على صدقه.

فما الخصائص التي تبرهن على أن القرآن من عند الله؟.

انها متعددة الجوانب كثيرة، نستطيع أن نلخصها في الفصول التالية:

أولا - اعجاز القرآن

أول خاصة يتنبه اليها الباحث في العلوم القرآنية هي ذلك التحدي الصريح الذي وجهه القرآن الى الناس كافة، منذ أربعة عشر قرنا، وبخاصة أولئك الذين ينكرون رسالة القرآن، ولم يستطع أحد من عباقرة البشر أن يرد التحدي الى الآن. لقد أعلن القرآن، بصوت عال، لاابهام فيه ولا غموض:

( وَ إِنْ کُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَدَاءَکُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ کُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (٢) .

انه أغرب تحد في التاريخ، وأكثره اثارة للدهشة، فلم يجرؤ أحد من الكتاب في التاريخ الانساني - وهو بكامل عقله ووعيه - أن يقدم تحديا مماثلا، فان مؤلفا مالا يمكن أن يضع

___________________

(١) صحيح البخاري: الاعتصام.

(٢) سورة البقرة: ٢٣.

١٢٤

كتابا، يستحيل على الآخرين أن يكتبوا مثله، أو خيرا منه. فمن الممكن اصدار مثيل من أي عمل انسان في أي مجال، ولكن حين يدعى أن هناك كلاما ليس في امكان البشر الاتيان بمثله، ثم تخفق البشرى على مدى التاريخ في مواجهة هذا التحدي، حينئذ يثبت تلقائيا أنه كلام غير انساني، وانها كلمات صدرت عن صميم المنبع الالهي Divineorigin ، وكل مايخرج من المنبع الالهي لايمكن مواجهة تحدياته.

***

وفي صفحات التاريخ بعض الوقائع، غر أصحابها الغرور، فانطلقوا يواجهون هذا التحدي.

وأولى هذه الوقائع ما حدث من الشاعر العربي لبيد بن ربيعة، الشهير ببلاغة منطقه، وفصاحة لسانه، ورصانة شعره. فعندما سمع أن محمد يتحدى الناس بكلامه قال بعض الابيات ردا على ماسمع، وعلقها على باب الكعبة، وكان التعليق على باب الكعبة امتيازا لم تدركه الا فئة قليلة من كبار شعراء العرب، وحين رأى أحد المسلمين هذا أخذته العزة، فكتب بعض آيات الكتاب الكريم، وعلقها الى جوار أبيات لبيد، ومر لبيد بباب الكعبة في اليوم التالي، ولم يكن قد أسلم بعد، فأذهلته الآيات القرآنية، حتى انه صرخ من فوره قائلا: (والله ما هذا بقول بشر، وأنا من المسلمين)(١) .

___________________

(١) هذا الخبر عن لبيد أورده المؤرخ ج. ساروار في كتابه Mohammad The Holy Prophet ص٤٨٨ - كراتشي، وهو على هذا النحو غير مسلم، لأن لبيدا لم يسلم الا في السنة التاسعة للهجرة، حين وفد على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضمن وفد كلاب (أنظر: الطبقات الكبرى ٦/٣٣، وأيضا ١/٣٠٠، - ط بيروت، والشعر والشعراء لابن قتيبة ١/٢٧٥ - تحقيق الشيخ أحمد شاكر). وانما كان الذي حدث قريبا من هذا الذي ذكره المؤلف مع استبعاد رواية اسلامه، فقد ذكر الحافظ أبو نعيم في الحلية١/١٠٣ أن عثمان بن مظعون رضى الله عنه كان في أول الاسلام يعيش في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى ما يحدث لاخوانه من أذى المشركين عز عليه أن يعذبوا دونه، فرد جوار الوليد، ثم مضى الى الكعبة فوجد لبيد بن ربيعة في المجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان، فقال لبيد وهو ينشدهم:

(ألا كل شيء ما خلا الله باطل).

فقال عثمان: صدقت. فقال:

(وكل نعيم لامحالة زائل)

فقال عثمان: كذبت، نعيم أهل الجنة لايزول، فقال لبيد: يا معشر قريش والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث فيكم هذا؟ الى آخر الخبر، ومفهوم هذا أن لبيدا قد بقي على جاهليته حتى أسلم سنة تسع، ويذكر ابن قتيبة أنه لم يقل في اسلامه غير بيت واحد هو:

الحمد لله اذ لم يأتني أجل

حتى كساني من الاسلام سربالا

وقيل هو قوله:

ماعاتب المرء الكريم كنفسه

والمرء يصلحه الجليس الصالح (المراجع)

١٢٥

وكان من نتيجة تأثر هذا الشاعر العربي العملاق ببلاغة القرآن أنه هجر الشعر، وقد قال له عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يوما: يا ابا عقيل: أنشدني شيئا من شعرك، فقرأ سورة البقرة، وقال:. ماكنت لأقول شعرا بعد اذ علمني الله سورة البقرة وآل عمران(١) .

وأما الحادث الثاني فهو أغرب من الأول، وهو عن ابن المقفع، أورده المستشرق (ولاستن) في كتابه، وعلق عليه قائلا:

« ان اعتداد محمد بالاعجاز الأدبي للقرآن لم يكن على غير أساس، بل يؤيده حادث وقع بعد قرن من قيام دعوة الاسلام(٢) ».

والحادث كما جاء عن لسان المستشرق، هو أن جماعة من الملاحدة والزنادقة أزعجهم تأثير القرآن الكريم في عامة الناس، فقرروا مواجهة تحدي القرآن، واتصلوا لاتمام، خطتهم بعبد الله بن المقفع(٧٢٧م)، وكان أديبا كبيرا، وكاتبا ذكيا. يعتد بكفاءته فقبل الدعوة للقيام بهذه المهمة. وأخبرهم ان هذا العمل سوف يستغرق سنة كاملة، واشترط عليهم أن يتكفلوا بكل ما يحتاج اليه خلال هذه المدة.

ولما مضى على الاتفاق نصف عام، عادوا اليه، وبهم تطلع الى معرفة ما حققه أديبهم لمواجهة تحدي رسول الاسلام؛ وحين دخلوا غرفة الأديب الفارسي الأصل، وجدوه جالسا والقلم في يده، وهو مستغرق في تفكير عميق، وأوراق الكتابة متناثرة أمامه على الأرض، بينما امتلأت غرفته بأوراق كثيرة، كتبها ثم مزقها.

لقد حاول هذا الكاتب العبقري أن يبذل كل مجهود، عساه أن يبلغ هدفه، وهو الرد على تحدي القرآن المجيد. ولكنه أصيب باخفاق شديد في محاولته هذه، حتى اعترف أمام أصحابه، والخجل والضيق يملكان عليه نفسه، أنه، على الرغم من مضي ستة أشهر، حاول خلالها أن يجيب على التحدي، فانه لم يفلح في أن يأتي بآية واحدة من طراز القرآن! وعنئذ تخلى ابن المقفع عن مهمته، مغلوبامستخزيا.(٣) .

***

___________________

(١) أنظر في هذا الخبر: الشعر والشعراء لابن قتيبة السابق.

(٢) Mohammad : His life & Doctrine, p. ١٤٣.

(٣) وردت في التاريخ أمثلة أخرى حاول أصحابها مواجهة هذا التحدي، غير أنهم أخفقوا اخفاقا ذريعا، ومن هؤلاء: مسيلمة بن حبيب الكذاب، وطليحة بن خويلد الأسدي، والنضر بن الحارث، وأبو الحسين أحمد بن يحيى المعروف بابن الرواندي، وأبو الطيب المتنبي، وأبو العلاء المعري، صاحب كتاب «الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات»، أنظر للتفصيل كتاب الرافعي: اعجاز القرآن - المترجم.

١٢٦

وهكذا لايزال تحدي القرآن الكريم قائما ومستمرا على مر القرون والأجيال، وهي خاصة عظيمة ورائعة في صالح القرآن، تثبت، دون مرية، انه كلام من هو فوق الطبيعة. وأن انسان يتمتع بكفاءة التفكير والامعان، في حقيقة الأمر، يكفيه ذلك ليؤمن بهذا الكتاب.

ومما لاشك فيه أن العرب - وهم الذين لم يعرف لهم مثيل في التاريخ: في البلاغة والبيان، حتى أطلقوا على غيرهم اسم «العجم» لشدة اعتزازهم ببيانهم - قد اضطروا أن يركعوا أمام القرآن، معترفين بعجزهم عن الاتيان بمثله، فلزمتهم بذلك الحجة.

ومما جاء في كتب الحديث عن ابن عباس أن (ضمادا) قدم مكة. وكان من ازد شنوءة، وكان يرقى(١) من هذه الريح (الجنون ومس الجن). فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: ان محمدا مجنون. فقال: لو أني رأيت هذا الرجل، لعل الله يشفيه على يدي. قال: فلقيه؛ فقال: يا محمد! اني أرقى من هذه الريح، وان الله يشفى على يدي من شاء، فهل لك؟فقال رسول الله: «ان الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلاهادي له، وأشهد أن لا اله الا الله وحده لاشريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد.» قال: فقال: أعد على كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث مرات، قال: فقال: «لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فماسمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر (قعره الأقصى(٢) .

ان هناك عددا لايحصى من الاعترافات التي ادلى بها أرباب الشعر والأدب والفكر، في شأن القرآن الكريم، سطرت في صفحات التاريخ القديم، كما أنها توجد بكثرة في تاريخ العصر الحاضر.

___________________

(١) من الرقية، وهي العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة.

(٢) صحيح مسلم٢/٥٩٣ - حديث رقم ٨٦٨ طبعة محمد فؤاد عبد الباقي. وبقية الحديث كما في الصحيح: قال: فقال: هات يدك أبايعك على الاسلام، قال: فبايعه، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وعلى قومك»، قال: وعلى قومي. قال: فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرية فمروا بقومه، فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة، فقال: ردوها فان هؤلاء قوم ضماد.

وتفسير (ناعوس البحر) بأنه: قعره الأقصى - منقول عن صحيح مسلم، من اضافة شارحه، وهي كلمة غير معروفة من كلام العرب، قال ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث٥/٨١) عن أبي موسى: «هكذا وقع في صحيح مسلم، وفي سائر الروايات: (قاموس البحر) أي: وسطه ولجته». أقول: ولعلها لهجة ضماد. (المراجع)

١٢٧

ثانيا - نبوءات القرآن

الجانب الثاني من عظمة القرآن الكريم يتجلى في تنبؤاته المختلفة، التي ثبتت صحتها فيما بعد بطرق عجيبة. ان عددا كبيرا من اذكياء الناس. ومن العباقرة. قد جرؤوا على أن يتنبأوا عن أنفسهم أو غيرهم. ولكننا نعرف أن الزمان لم يصدق هذه النبؤات مطلقا، بل جاء يكذبها بكل قسوة، ولقد تحفز الفرص المواتية، والأحوال المساعدة. والكفاءات العالية، وكثرة الأعوان والأنصار، والنجاح الخارق في البداية الكثيرين - وهم يرون أنهم يسيرون تجاه نتائج مرضية - أن يتنبأوا بنتيجة معينة بكل يقين، ولكن الزمن يبطل هذه الدعاوي ويكذبها دائما. والزمن نفسه هو الذي اثبت صحة ماجاء في القرآن من التنبؤات في حين أنها جميعا جاءت في أحوال غير مواتية، ان هذه التنبؤات - وقد وقعت فعلا على مايحدثنا التاريخ - تجعل علومنا المادية حائرة عند تفسيرها. ومادمنا ندرسها في ضوء علومنا المادية. فلن نستطيع ادراك حقائقها، الا أن ننسبها الى مصدر غير بشري.

***

كان نابليون بونابرت من أعظم قواد الجيوش في عصره، وقد دلت لفتوحاته الأولى على أنه سوف يكون ندا لقيصر، والاسكندر المقدوني. وترتب على ذلك أن وجد الغرور منفذه الى راس نابليون، فأصبح يتوهم أنه هو مالك القدر. وازداد هذا الشعور لديه. حتى انه ترك مستشاريه، وادعى أنه لم يكتب في قدره غير الغلبة الكاملة على من في الأرض. ولكنا جميعا نعرف النهاية التي كتبت له في لوح القدر.

سار نابليون من باريس يوم ١٢ من يونيه، سنة ١٨١٥، مع جحفله العظيم، ليقضي على أعدائه وهم في الطريق. ولم تمض غير ستة أيام حتى ألحق «دوق ولنجتون» شر هزيمة بجيش نابليون الجبار، في «ووترلو» بأراضي بلجيكا. وكان (الدوق) يقود جنود انجلترا وألمانيا وهولندا. ولما يئس نابليون، وأيقن من مصيره المحتوم، فر هاربا من القيادة الفرنسية متوجها الى أمريكا ولم يكد يصل الى الشاطىء، حتى ألقت شرطة السواحل القبض عليه، وأرغمته على ركوب سفينة تابعة للبحرية البريطانية، وانتهى به القدر الى أن أرسل الى جزيرة غير معمورة بجنوب الأطلنطي، هي جزيرة «سانت هيلينا»، ومات القائد العسكري في هذه الجزيرة بعد سنوات طويلة من البؤس والشقاء والوحدة، في ٥ مايو ١٨٢١.

والبيان الشيوعي المعروف، الذي صدر سنة ١٨٤٨، تنبأ بأن أول البلاد التي ستقود الثورة الشيوعية هي (ألمانيا)، ولكن ألمانيا، على الرغم من مضي مائة وعشرين عاما من هذه النبوءة، لاتزال صفحات تاريخها خالية من مثل هذه الثورة.

١٢٨

ولقد كتب كارل ماركس في مايو سنة ١٨٤٩ قائلا: «ان الجمهورية الحمراء تبزغ في سماء باريس!» ورغم أنه قد مر على هذه النبوءة أكثر من قرن، فان شمس الجمهورية الحمراء البازغة لم تشرق على أهالي باريس!.

***

وقد قال أدولف هتلر في خطابه الشهير الذي ألقاه بميونيخ في ١٤ من مارس سنة١٩٣١:

«انني سائر في طريقي، واثقا تمام الثقة بأن الغلبة والنصر قد كتبا لي(١) ». والعالم بأجمعه يعرف اليوم أن الذي كتب في قدر الجنرال الألماني العظيم كان هو الهزيمة والانتحار.

***

وقد شاهدنا وقائع عديدة من هذه النبوءات المضحكة في «الهند». فقد أعلن زعيم الشيوعيين: س. ب. جوشي، في المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي الهندي، الذي انعقد في (مدوراي) بجنوب الهند، في سنة ١٩٥٤، بأن الحزب الشيوعي سوف يحكم، مستقلا بنفسه، في الانتخابات العامة القادمة، في ولايات: ترارنكو - كوتشين (كيرالا)، ومدراس، وآندهرا، والبنغال الغربية، وآسام. وقد أجريت ثلاثة انتخابات عامة (وانتخابات تكميلية أخرى) في هذه المدة الطويلة، ولم يستطع الحزب الشيوعي تأليف وزارة مستقلة في أية ولاية من ولايات الهند(٢) .

***

وسط هذه الجحافل من المتبنئين والنبوءات، لانجد غير «القرآن» الذي تحققت نبوءاته حرفا حرفا. وهذا الواقع يكفي في ذاته لاثبات أن هذا الكلام صادر من عقل وراء الطبيعة يمسك بزمام الأحوال والحوادث، وهو على معرفة بكل ما سيحدث منذ الأزل الى الأبد،

وسوف نورد هنا خبرين من التنبؤات الكثيرة التي أدلى بها الاسلام، وتحققت بكاملها. والشهادتان اللتان سنذكرهما، تتعلق احداهما بغلبة الاسلام نفسه، على حين تعلق بغلبة الروم مرة أخرى.

***

(أ) عندما بدأ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوته وقفت الجزيرة العربية كلها ضده، وكان على النبي مواجهة ثلاث جبهات في وقت واحد:

___________________

(١) A Study of History (Abridgment) p. ٤٤٧

(٢) تمكن الحزب الشيوعي من تأليف وزارة ائتلافية في كيرالا في الانتخابات العامة لسنة ١٩٦٧، كما تمكنت «الجبهة المتحدة» في البنغال الغربية من تأليف وزارة ائتلافية في الانتخابات التكميلية التي أجريت في الولاية في ١٩٦٩، وكان الشيوعيون يتمتعون بالأغلبية في الجهة المتحدة. (المترجم)

١٢٩

أولاها: القبائل المشركة، بعد أن أصبحوا أعداء حياته.

وثانيتها: الرأسمالية اليهودية.

وثالثتها: أولئك المنافقون الذين تسربوا داخل المسلمين للقضاء على حركتهم، من داخل معاقلهم.

وكان الرسول يجاهد في سبيل رسالته السامية على كل هذه الجبهات: قوة المشركين، والرأسمالية اليهودية، والطابور الخامس. وقد وقف أمام هذا الطوفان الطاغي وقفات رائعة لامثيل لها، ولم يسانده في مواقفه غير حفنة من المهاجرين والأنصار، وجماعة أسلمت من العبيد. ومما لاشك فيه أنه قد انضم اليه بعض كبار قريش، ولكن سرعان ما انقطعوا عن أهلهم وذويهم، وعادتهم قريش كمعاداتها للنبي.

وقد سارت هذه الحركة بمكة قدما، تكافح وتناضل، حتى أصبحت الأمور غاية في السوء، واضطر النبي وأصحابه أن يهاجروا إلى جهات مختلفة، حتى اجتمع شملهم في المدينة المنورة، وهم في أشد حالات العوز والفقر، بعدما تركوا ثرواتهم في مكة - موطنهم الأصلي. ويمكن قياس بؤس هؤلاء المهاجرين بتلك الجماعة التي عاشت في المسجد النبوي، حيث لم تكن لديهم بيوت، وكانوا ينامون على «صفة» في فناء المسجد النبوي، فأطلق عليهم: «أهل الصفة». ومما روي في كتب التأريخ أن تعداد هؤلاء الصحابة الكرام، الذين عاشوا على «الصفة»، بلغ في بعض الأحيان أربعمائة صحابي.

فعن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه ، قال: رأيت سبعين من أهل الصفة يصلون في ثوب، فمنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من هو أسفل من ذلك؛ فاذا ركع أحدهم قبض عليه، مخافة أن تبدو عورته.

وعنه (أبي هريرة)رضي‌الله‌عنه أنه قال: «لقد رأيتني أصرع بين منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبين حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها، فيقول الناس: انه مجنون، وما بي جنون، ما بي الا الجوع!».

***

وفي هذه الحالة البائسة، حيث كان المسلمون في أسوأ أحوالهم؛ مكشوفين في عراء المدينة المنورة، خائفين؛ يترقبون الأعداء من كل جانب، مخافة أن يتخطفوهم في أي وقت؛ في هذه الحالة نجد القرآن يبشرهم مرة بعد أخرى:

( کَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي ) (١) .

___________________

(١) المجادلة/٢١.

١٣٠

وقال أيضا:

( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْکَافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ کُلِّهِ وَ لَوْ کَرِهَ الْمُشْرِکُونَ ) (١) .

ولم تمض على هذه البشرى أيام طويلة، حتى وجد المسلمون الجزيرة العربية كلها تحت أقدامهم؛ فقد انتصرت أقلية ضئيلة لاتملك الخيول ولا الأسلحة، على أعداء يملكون الجيوش الكبيرة، والعدة، والعتاد.

وليس بوسعنا تفسير هذه التنبؤات في ضوء المصطلحات المادية، الا أن نسلم بأن صاحب هذا الاخبار بالغيب لم يأت به من عند نفسه، وانما كان خليفة عن الله؛ فلو أنه كان انسانا عاديا لاستحال كل الأستحالة أن تصنع كلماته أقدار التاريخ. وكما قال البروفيسور (ستوبارت) «انه لايوجد مثال واحد في التاريخ الانساني بأكمله يقارب شخصية محمد.».

وهو يضيف قائلا:

«ألا. ما أقل ما امتلكه من الوسائل المادية، وما أعظم ما جاء به من البطولات النادرة، ولو أننا درسنا التاريخ من هذه الناحية، فلن نجد فيه اسما منيرا هذا النور، وواضحا هذا الوضوح، غير اسم النبي العربي(٢) ».

ان هذا الأمر هو أعظم دليل على كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلا من لدن الحق تبارك وتعالى. وقد اعترف السير وليام ميور، ذلك العدو اللدود للاسلام، بهذا الأمر بطريقة غير مباشرة، حين قال:

«لقد دفن محمد مؤامرات أعدائه في التراث، وكان يثق بانتصاره ليل نهار، مع حفنة من الأنصار والاعوان، رغم أنه كان مكشوفا عسكريا من كل ناحية، وبعبارة أخرى: كان يعيش في عرين الأسد، ولكنه أظهر عزيمة جبارة، لا نجد لها نظيرا غير ماذكر في الأنجيل، من أن نبيا قال لله تعالى: «لم يبق من قومي الا أنا(٣) !».

***

(ب) أما النبوءة الثانية التي وردت في القرآن، فهي الاخبار بغلبة الروم على الفرس. وقد جاء في أول سورة الروم قوله تعالى:

___________________

(١) الصف/٨و٩.

(٢) Islam & Its Founder, p. ٢٢٨.

(٣) Life of Mohammad, p. ٢٢٨ وربما يذكرنا هذا الاقتباس بقول القرآن حكاية على لسان موسىعليه‌السلام :( قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِکُ إِلاَّ نَفْسِي وَ أَخِي ) - المائدة/٢٥ (المراجع).

١٣١

( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ. ألم. غُلِبَتِ الرُّومُ‌ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ )

كانت الأمبراطورية الفارسية تقع شرقي الجزيرة العربية، على الساحل الآخر للخليج العربي، على حين كانت الامبراطورية الرومانية تمتد من غربي الجزيرة على ساحل البحر الأحمر الى ما فوق البحر الأسود. وقد سميت الأولى - أيضا - بالأمبراطورية الساسانية، والأخرى بالبيزنطية. وكانت حدود الامبراطوريتين تصل الى الفرات ودجلة، في شمال الجزيرة العربية. فكانتا أقوى حكومتين شهدهما ذلك العصر.

ويبدأ تاريخ الامبراطورية الرومانية - كما يرى المؤرخ «جبن» - في القرن الثاني بعد الميلاد، وكانت تتمتع حينئذ بمكانتها كأرقى دولة حضارية في العالم.

وقد شغل المؤرخين تاريخ زوال الروم، كما لم يشغلهم زوال أية حضارة أخرى(١) . وليس يغني كتاب من الكتب التي ألفت حول هذا الموضوع عن الكتب الأخرى، ولكن يمكن اعتبار كتاب المؤرخ «ادوارد جبن»: «تاريخ سقوط واندحار الامبراطورية الرومانية»(٢) أكثرها تفصيلا وثقة، وقد ذكر المؤرخ في الجزء الخامس من كتابه الوقائع المتعلقة ببحثنا هنا.

***

اعتنق الملك «قسطنطين» الدين المسيحي عام٣٢٥م، وجعله ديانة البلاد الرسمية، فآمنت بها أكثرية رعايا الروم. وعلى الجانب الآخر، رفض الفرس - عباد الشمس - هذه الدعوة.

وكان الملك الذي تولى زمام الامبراطورية الرومانية في أواخر القرن السابع الميلادي هو «موريس»، وكان ملكا غافلا عن شؤون البلاد والسياسة، ولذلك قاد جيشه ثورة ضده، بقيادة «فوكاس Phocas وأصبح فوكاس ملك الروم، بعد نجاح الثورة، والقضاء على العائلة الملكية بطريقة وحشية؛ وأرسل سفيرا له الى امبراطور ايران «كسرى أبرويز الثاني»، وهو ابن «أنو شيروان» العادل.

وكان «كسرى» هذا مخلصا للملك «موريس»، اذ كان قد لجأ اليه عام ٥٩٠ - ٥٩١م، بسبب مؤامرة داخلية في الامبراطورية الفارسية، وقد عاونه «موريس» بجنوده لاستعادة العرش. ومما يروى أيضا أن «كسرى» تزوج بنت «موريس»، أثناء اقامته ببلاد الروم، ولذلك كان يدعوه «بالأب».

___________________

(١) Western Civilization, p. ٢١٠.

(٢) The History of The Decline and Fall of the Roman Empire, By Edward Gibbon

١٣٢

ولما عرف بأخبار انقلاب الروم، غضب غضبا شديدا، وأمر بسجن السفير الرومي، وأعلن عدم اعترافه بشرعية حكومة الروم الجديدة.

وأغار «كسرى أبرويز» على بلاد الروم، وزحفت جحافله عابرة نهر الفرات الى الشام. ولم يتمكن «فوكاس» من مقاومة جيوش الفرس التي استولت على مدينتي «أنطاكية والقدس»، فاشعت حدود الامبراطورية الفارسية فجأة الى وادي النيل. وكانت بعض الفرق المسيحية - كالنسطورية واليعقوبية - حاقدة على النظام الجديد في روما، فناصرت الفاتحين الجدد، وتبعها اليهود، مما سهل غلبة الفرس.

***

وأرسل بعض أعيان الروم رسالة سرية الى الحاكم الرومي في المستعمرات الافريقية، يناشدونه انقاذ الأمبراطورية، فأرسل الحاكم جيشا كبيرا بقيادة ابنه الشاب «هرقل»، فسار بجيشه في الطريق البحرية، بسرية تامة. حتى أن «فوكاس» لم يدر بمجيئهم الا عندما شاهد الأساطيل، وهي تقترب من السواحل الرومانية، واستطاع هرقل - دون مقاومة تذكر - أن يستولي على الامبراطورية، وقتل «فوكاس» الخائن. بيد أن هرقل لم يتمكن - رغم استيلائه على الامبراطورية، وقتله «فوكاس» - من ايقاف طوفان الفرس. فضاع من الروم كل ما ملكوا من البلاد في شرقي العاصمة وجنوبها، لم يعد العلم الصليبي يرفرف على العراق والشام وفلسطين ومصر وآسيا الصغرى، بل علتها راية الفرس: «درفش كاوياني»!! وتقلصت الأمبراطورية الرومانية في عاصمتها، وسدت جميع الطرق في حصار اقتصادي قاس؛ وعم القحط؛ وفشت الأمراض الوبائية؛ ولم يبق من الامبراطورية غير جذور شجرها العملاق. وكان الشعب في العاصمة خائفا يترقب ضرب الفرس للعاصمة، ودخولهم فيها؛ وترتب على ذلك أن أغلقت جميع الأسواق، وكسدت التجارة، وتحولت معاهد العلم والثقافة الى مقابر موحشة مهجورة. وبدأ عباد النار يستبدون بالرعايا الروم للقضاء على المسيحية. فبدءوا يسخرون علانية من الشعائر الدينية المقدسة، ودمروا الكنائس، وأراقوا دماء مايقرب من ٠٠٠،١٠٠ من المسيحيين المسالمين، وأقاموا بيوت عبادة النار في كل مكان، وأرغموا الناس على عبادة الشمس والنار، واغتصبوا الصليب المقدس وأرسلوه الى «المدائن».

ويقول المؤرخ «جبن» في المجلد الخامس من كتابه:

«ولو كانت نوايا «كسرى» طيبة في حقيقة الأمر، لكان اصطلح مع الروم، بعد قتلهم «فوكاس»، ولاستقبل «هرقل» كخير صديق أخذ بثأر حليفه وصاحب نعمته «موريس»، بأحسن طريقة؛ ولكن أبان عن نواياه الحقيقة عندما قرر مواصلة الحرب.»(١) .

___________________

(١) كتاب جبن/مجلد/ ٥ ص٧٤.

١٣٣

ويمكن قياس الهوة الكبرى التي حدثت بين الروم والفرس من خطاب وجهه «كسرى» الى «هرقل»، من بيت المقدس، قائلا:

«من لدن الاله كسرى، الذي هو أكبرالآلهة، وملك الأرض كلها، الى عبده اللئيم الغافل: هرقل: انك تقول:انك تثق في الهك! فلماذا لاينقذ الهك القدس من يدي؟!».

واستبد اليأس والقنوط بهرقل من هذه الأحوال السيئة، وقرر العودة الى قصره الواقع في «قرطاجنة» على الساحل الافريقي. فلم يعديهمه أن يدافع عن الامبراطورية، بل كان شغله الشاغل انقاذ نفسه. وأرسلت السفن الملكية الى البحر، وخرج «هرقل» في طريقه ليستقل احدى هذه السفن الى منفاه الاختياري.

وفي هذه الساعة الحرجة تحايل كبير أساقفة الروم باسم الدين والمسيح، ونجح في اقناع «هرقل» بالبقاء، وذهب «هرقل» مع الاسقف الى قربان «سانت صوفيا» يعاهد الله تعالى على أنه لن يعيش أو يموت الا مع الشعب الذي اختاره الله له. وباشارة من الجنرال الايراني سين ( Sain ) أرسل «هرقل» سفيرا الى «كسرى» طالبا منه الصلح؛ ولكن لم يكد القاصد الرومي يصل الى القصر، حتى صاح «كسرى» في غضب شديد: «لا أريد هذا القاصد! وانما أريد «هرقل» مكبلا بالأغلال تحت عرشي؛ ولن أصالح «الرومي» حتى يهجر الهه، الصليبي، ويعبد الشمس الهتنا!»(١) .

***

وبعد مضي ستة أعوام على الحرب، رضى الامبراطور الايراني أن يصالح «هرقل»، على شروط معينة، هي أن يدفع ملك الروم:

«ألف تالنت(٢) من الذهب، وألف تالنت من الفضة، وألف ثوب(٣) من الحرير، وألف جواد، والف فتاة عذراء». ويصف «جبن» هذه الشروط بأنها «مخزية» دون شك، وكان من الممكن أن يقبلها «هرقل»، لولا المدة القصيرة التي أتيحت له لدفعها من المملكة المنهوبة، والمحدودة الأرجاء، ولذلك آثر أن يستعمل هذه الثروة كمحاولة أخيرة، ضد أعدائه.

***

___________________

(١) (ص - ٧٦ - ج٥).

(٢) Talent ، ميزان يوناني قديم، حوالي ستة وعشرين كيلو جراما، لدى الأثينيين، وقد يطلق على كمية النقود الذهبية أو الفضية التي تزنه - المراجع.

(٣) الثوب: ثلاثون مترا من القماش تقريبا - المراجع.

١٣٤

وبينما سيطرت على العاصمتين الفارسية والرومية هذه الأحداث، فقد سيطرت على شعب العاصمة المركزية في شبه الجزيرة العربية - وهي «مكة» المكرمة - مشكلة مماثلة: كان الفرس مجوسا من عباد الشمس والنار، وكان الروم من المؤمنين بالمسيح، وبالوحي، وبالرسالة، وبالله تعالى. وكان المسلمون مع الروم - نفسيا - يرجون غلبهم على الكفار والمشركين، كما كان كفار مكة مع الفرس، لكونهم من عباد المظاهر المادية. وأصبح الصراع بين الفرس والروم رمزا خارجيا للصراع الذي كان يدور بين أهل الاسلام وأهل الشرك في «مكة». وبطريقة نفسية كانت كل من الجماعتين تشعر بأن نتيجة هذا الصراع الخارجي هي نفس مآل صراعهما الخارجي. فلما انتصر الفرس على الروم عام٦١٦م. واستولوا على جميع المناطق الشرقية من دولة الروم، انتهزها المشركون فرصة للسخرية من المسلمين، قائلين: لقد غلب اخواننا على اخوانكم، وكذلك سوف نقضي عليكم، اذا لم تصطلحوا معنا تاركين دينكم الجديد!! وكان المسلمون بمكة في أضعف وأسوأ أحوالهم المادية، وفي تلك الحالة البائسة، صدرت كلمات من لسان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ. ألم. غُلِبَتِ الرُّومُ‌ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ‌. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ‌. وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لٰکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) .-الروم: ١ - ٦.

وتعليقا على هذه النبوءة يكتب «جبن»:

«في ذلك الوقت، حين تنبأ القرآن بهذه النبوءة، لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعا، لأن السنين الاثنتي عشرة الأولى من حكومة «هرقل» كانت تؤذن بانتهاء الامبراطورية الرومانية(١) ».

ولكن من المعلوم أن هذه النبوءة جاءت من لدن من هو مهيمن على كل الوسائل والأحوال، ومن بيده قلوب الناس وأقدارهم، ولم يكد جبريل يبشر النبي بهذه البشرى، حتى أخذ انقلاب يظهر على شاشة الامبراطورية الرومانية!!.

ويرويه «جبن» على النحو التالي:

«انها من أبرز البطولات التاريخية، تلك التي نراها في «هرقل». فقد ظهر هذا الامبراطور غاية في الكسل والتمتع بالملذات وعبادة الأوهام في السنين الأولى والأخيرة من حكومته، كان يبدو كما لو كان متفرجا أبله، استسلم لمصائب شعبه، ولكن الضباب

___________________

(١) ص - ٧٤، المجلد٥.

١٣٥

الذي يسود السماء ساعتي الصباح والمساء، يغيب حينا من الوقت لشدة شمس الظهيرة، وهذا هو ما حدث بالنسبة الى هرقل، فقد تحول «أرقاديوس(١) القصور» الى «قيصر ميدان الحرب(٢) » فجأة، واستطاع أن يستعيد مجد الروم خلال ست حروب شجاعة شنها ضد الفرس. وكان من واجب المؤرخين الروم أن يزيحوا الستار عن الحقيقة، تبيانا لأسرار هذه اليقظة والنوم، وبعد هذه القرون التي مضت يمكننا الحكم بأنه لم تكن هناك دوافع سياسية وراء هذه البطولة، بل كانت نتيجة غريزة هرقل الذاتية، فقد انقطع عن كافة الملذات، حتى انه هجر ابنة أخته «مارتينا» - التي تزوجها لشدة هيامه بها، رغم أنها كانت محرمة عليه(٣) ».

***

هرقل - ذلك الملك الغافل الفاقد العزيمة - وضع خطة عظيمة لقهر الفرس، وبدأ في تجهيز العدة والعتاد، ولكن رغم ذلك كله، عندما خرج هرقل مع جنوده، بدا لكثيرين من سكان «القسطنطينية» أنهم يرون آخر جيش في تاريخ الامبراطورية البيزنطية.

وكان هرقل يعرف أن قوة الفرس البحرية ضعيفة، ولذلك أعد بحريته للغارة على الفرس من الخلف. وسار بجيوشه عن طريق البحر الأسود الى «أرمينيا»، وشن على الفرس هجوما مفاجئا في نفس الميدان الذي هزم فيه الاسكندر جيوش الفرس، لما زحف على أراضي مصر والشام. ولم يستطع الفرس مقاومة هذه الغارة المفاجئة، فلاذوا بالفرار.

وكان الفرس يملكون جيشا كبيرا في «آسيا الصغرى»، ولكن «هرقل» فاجأهم بأساطيله مرة أخرى، وأنزل بهم هزيمة فادحة، وبعد احراز هذا النصر الكبير عاد «هرقل» الى عاصمته «القسطنطينية» عن طريق البحر، وعقد معاهدة مع الأفاريين ( Avars )، واستطاع بنصرتهم أن يسد سيل الفرس عن عاصمتهم.

وبعد الحربين اللتين مر ذكرهما شن هرقل ثلاثة حروب أخرى ضد الفرس في سنوات ٦٢٣، ٦٢٤، ٦٢٥م. واستطاع أن ينفذ الى أراضي العراق القديم (ميسو بوتانيا) عن طريق البحر الأسود، واضطر الفرس الى الانسحاب من جميع الأراضي الرومية، نتيجة هذه الحروب، وأصبح «هرقل» في مركز يسمح له بالتوغل في قلب الامبراطورية

___________________

(١) أرقاديوس (٣٧٧ - ٤٠٨م)، أحد أباطرة الرومان، وهو الابن الاكبر لتيودوس الأول، تولى العرش سنة ٣٩٥م. واشته بالجبن - المراجع.

(٢) قيصر أو «سيزار»(١٤٤ - ١٠١ ق. م.) قائد وسيايس رومي عظيم.

(٣) ص - ٧٦ - ٧٧، المجلد الخامس.

١٣٦

الفارسية، وكانت آخر هذه الحروب المصيرية- تلك الحرب التي خاضها الفريقان في «نينوا» على ضفاف «دجلة» في ديسمبر عام ٦٢٧م.

***

ولما لم يستطع «كسرى أبرويز» مقاومة سيل الروم، حاول الفرار من قصره الحبيب «دستكرد»، ولكن ثورة داخلية نشبت في الامبراطورية، واعتقله ابنه «شيرويه»، وزج به في سجن داخل القصر الملكي، حيث لقي حتفه، لسوء الأحوال في اليوم الخامس من اعتقاله، وقد قتل ابنه «شيرويه» ثماني عشرة من أبناء أبيه (كسرى) أمام عينيه.

ولكن «شيرويه» هو الآخر لم يستطع أن يجلس على العرش أكثر من ثمانية أشهر، حيث قتله أحد أشقائه، وهكذا بدأ القتال داخل البيت الملكي، وتولى تسعة ملوك زمام الحكم في غضون أربعة أعوام. ولم يكن من الممكن، أو المعقول في هذه الأحوال السيئة، أن يواصل الفرس حربهم ضد الروم. فأرسل «قباد الثاني» ابن كسرى أبرويز الثاني يرجو الصلح، وأعلن تنازله عن الأراضي الرومية، كما أعاد الصليب المقدس، حيث كان يجر مركبته أربعة أفيال، واستقبله آلاف مؤلفة من الجماهير، خارج العاصمة، وفي أيديهم المشاعل وأغصان الزيتون(١) !!.

***

وهكذا صدق ما تنبأ به القرآن الكريم عن غلبة الروم في مدته المقررة، أي في أقل من عشر سنين، كما هو المراد في لغة العرب من كلمة: «بضع»!.

وقد أبدى «جبن» حيرته واعجابه بهذه النبوءة، ولكنه كي يقلل من أهميتها ربطها برسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى «كسرى».

يقول جين:

وعندما أتم الامبراطور الفارسي نصره على الروم وصلته رسالة من مواطن خامل الذكر، من «مكة» دعاه الى الايمان بمحمد، رسول الله، ولكنه رفض هذه الدعوة ومزق الرسالة، وعندما بلغ هذا الخبر رسول العرب، قال: سوف يمزق الله دولته تمزيقا، وسوف يقضي على قوته.

و«محمد، الذي جلس في الشرق على حاشية الامبراطوريتين العظيمتين، طار فرحا، مما سمع عن تصارع الامبراطوريتين وقتالهما، وجرؤ في ابان الفتوحات الفارسية وبلوغها القمة

___________________

(١) جين: ص - ٦٤، ج - ٥.

١٣٧

أن يتنبأ بأن الغلبة تكون لراية اليوم بعد بضع سنين. وفي ذلك الوقت، حين ساق الرجل هذه النبوءة، لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعا، لأن الأعوام الاثني عشر الأولى من حكومة هرقل كانت تشي بنهاية الامبراطورية الرومانية(١) .».

بيد أن جميع مؤرخي الاسلام يعرفون معرفة تامة أن هذه النبوءة لاعلاقة لها بالرسالة التي وجهها النبي الى «كسرى أبرويز»، لأن تلك الرسالة انما أرسلت في العام السابع من الهجرة، بعد صلح الحديبية، أي عام ٦٢٨م، في حين أن آية النبوءة المذكورة نزلت بمكة عام ٦١٦، أي قبل الهجرة بوقت طويل، فبين الحدثين فاصل يبلغ اثني عشر عاما(٢) .

***

___________________

(١) المرجع السابق، ص٧٣ - ٧٤.

(٢) أنظر: Encyclopaedia of Religion and Ethics- ١٠/٥٤٠ - ٥٤٥.

١٣٨

ثالثا: القرآن والكشوف الحديثة

والميزة الثالثة التي سوف أدرسها في هذا الباب للابانة عن صدق القرآن وحقيته، هي أنه رغم نزول القرآن قبل قرون كثيرة من عصر العلوم الحديثة، لم يتمكن أحد من اثبات أية أخطاء علمية فيه، ولو أنه كان كلاما بشريا لكان هذا ضربا من المستحيل.

***

كانت بعثة لطلبة الصين تدرس بجامعة كاليفورنيا منذ بضع سنين، وقد ذهب اثنا عشر من هؤلاء الطلبة الى كاهن «كنيسة بركلي» طالبين منه أن ينظم لهم دراسة حول الدين المسيحي في أيام الأحد، وقالوا له بكل صراحة: اننا غير راغبين في اعتناق المسيحية، ولكننا نريد أن نعرف مدى تأثير هذا الدين على الحضارة الأمريكية، واختار القسيس عالما في الرياضة والفلك، هو البروفيسور «بيتر و. ستونر»، للتدريس لهؤلاء الشبان. وبعد أربعة أشهر من هذا الواقع اعتنقوا الدين المسيحي!!.

أما الدوافع وراء هذا العمل المدهش، فلنسمعها من الأستاذ نفسه:

«لقد كان السؤال الأول أمامي: ماذا أقول لهم عن الدين؟ انهم لايؤمنون بالانجيل اطلاقا، وتدريس الانجيل على الطريقة التقليدية لن يأتي بفائدة ما، وفي ذلك الوقت تذكرت أني أثناء دراستي كنت ألاحظ علاقة كبيرة بين العلوم الحديثة وسفر التكوين في الانجيل، ولذلك رأيت أن أعرض هذا الكلام امام هذه الجماعة من الشبان.

«وكنا - أنا والطلبة - نعرف بطبيعة الحال أن ماجاء في هذا الكتاب عن بدء الكون قد كتب قبل آلاف السنين من كشوف العلوم الحديثة عن الأرض والسماء، وكنا نشعر

١٣٩

كذلك أن أفكار الناس في زمن موسى ستبدو لغوا باطلا، لو درسناها في ضوء معلومات العصر الحاضر.

«وقد أمضينا فترة الشتاء كلها ندرس في سفر التكوين، وكان الطلبة يكتبون الاسئلة حول ما جاء في هذا السفر، ثم يبحثون عن أجوبتها بكل جهد في مكتبة الجامعة. وعند انتهاء الشتاء أخبرني القسيس أن الطلبة حضروا اليه ليخبروه أنهم يريدون اعتناق المسيحية، وقد أقروا أنه ثبت لهم أن الانجيل كتاب موحى من عند الله(١) .».

***

وعلى سبيل المثال يقول سفر التكوين عن حالة الأرض في بداية الأمر:

«لقد غشى على الأغوار ظلام»(٢)

وهذا هو أحسن تصوير للحالة التي وجدت في الأرض في ذلك الوقت، كما عرفناها من العلوم الحديثة، فكان سطح الأرض حارا جدا، وتبخرت المياه بسبب هذه الحرارة، ولم يصل النور الى سطح الأرض، لأن مياه بحارنا كانت معلقة في صورة سحب كثيفة، في الفضاء، وكان ظلم حالك يسود الأرض.

***

اننا نؤمن بأن الانجيل والتوراة من الكتب الالهية، مثل القرآن الكريم، ولذلك توجد فيهما قبسات من العلم الالهي، ولكن النصوص الأصلية قد ضاعت، وطرأ فارق كبير بين الانجيل الحقيقي وانجيل هذا العصر، بعد مضي ألفي عام حافلة بعمليات الترجمة من لغة الى أخرى، ثم بأعمال التحريف البشري Human Interpolation الذي أصاب النسخة الالهية أكثر ماأصاب، على حد تعبير العالم الأميركي «كريسي موريسون(٣) ».

ولما كانت هذه الصحائف قد فقدت قيمتها، نتيجة لما حدث، فقد أرسل الله تعالى «طبعة جديدة» من كتابه الى البشر، وهذا الكتاب هو «القرآن الكريم» وهو يحمل، من أجل صحته وكماله، كل الميزات والخصائص التي لاتوجد منها سوى لمحات في الكتب القديمة.

___________________

(١) The Evidence of God, PP. ١٣٧ - ٣٨.

(٢) تقول الترجمة العربية للتوراة (المنقولة عن اليونانية): «وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة.» الاصحاح: ١ - (المراجع).

(٣) Man Does not Stand Alone, p. ١٢٠.، ومن الثابت أن الأناجيل لم تكتب في حياة المسيح، ولاحتى بعد وفاته بنصف قرن كما أن التوراة آخر ما كتب من عصر السبي البابلي (٥٨٦ - ٥٣٨) ق. م. (المراجع)

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190