الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية13%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140478 / تحميل: 8460
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فالمراتب القلبية تدرك الشي‏ء بوجوده العيني وهويته العينية. أمَّا القوة العقلية، فهي تعمل أكثر لاصطياد المدرك بمعناه ومفهومه ويمكن التمثيل للفرق بين الإدراكين بمَن يُدرك الشي‏ء المقابل للمرآة تارة، ويدرك تارة أخرى صورته في المرآة.

والمرآة هي القوى الإدراكية الحصولية العقلية.

٦ - إن الإدراكات العقلية يتصوَّر فيها التصور والشك والترديد والجزم. أمَّا في المدركات القلبية، فهي صحيحة دوماً، على صواب أبدا، لا مكان للشك فيها حال المعاينة القلبية؛ والسر في ذلك أنه في الإدراكات العقلية يكون المدرَك هو صورة الشي‏ء، والحاكي عن الشي‏ء، فيرد التساؤل عن مدى مطابقته للواقع أو عدم مطابقته، (وقد ذكرنا في نهاية التنبيه الأول مشكلة الخطأ في الفكر البشري وكيفية معالجته، وأن تحصيل اليقين في الأمور النظرية من الأمور الصعبة) بخلاف ما إذا كان نفس الشي‏ء وعينه حاضرا، فإنه يكون يقينا؛ لا لبس فيه ولا ترديد. ومن هنا نجد أن الكثير من روّاد علم المعارف الإلهية أشار إلى ندرة الحصول على اليقين، بل كلّها ظنون متاخمة لليقين، وتطرق إلى ذلك السيد الصدر في بحثه عن الاستقراء ( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) .

ومن هنا نعرف السر في حثِّ كثير من العلماء على تنزيه النفس وتربيتها لنيل تلك العلوم اليقينية، وألّا يُقتصر على تحصيل العلوم التي لا تتجاوز الصور؛ إذ الإدراكات القلبية أشرف من العلوم الحصولية وإن كانت هي البوابة المأمونة لها.

٧ - إن مراتب الإدراكات القلبية تتفاوت شدة وضعفا؛ حيث إن الوصول إلى الحقائق يتبع سعة ظرفية الواصل (المدرِك)، فقد يصل الإنسان إلى هذه المراتب بنحو العرض، وقد يصل إلى تلك المراتب وتكون بالنسبة إليه كفصل جوهري؛ حيث يكون قد حصل لذاته تكامل ورقي وجودي أوصله إلى تلك المرحلة فيتصفَّح حيث ما شاء في العالم الغيبي.

١٠١

فالذي يُدرك الغيب لا يعني أنه أدرك كل الغيب، فاللَّه عزَّ وجلَّ لا تحيطه الأبصار والقلوب، بل عرفته القلوب بحقائق الإيمان.

٨ - مما ذكرنا يتَّضح السر في أن المسلمين قد صرفوا النظر عن العلوم الحصولية والعلوم المادية، وأوغلوا في بحوث الاعتقادات وفقه الأحكام من أجل تحصيل ذلك اليقين ونيل المراتب القلبية، وذلك مع تهذيب النفس وانشغالها بالعبادة، حتّى تتهيأ النفس لتصفُّح أنوار الملكوت وتقوى الإدراكات القلبية، فمنهم مَن وصل إلى المراد؛ وهو المتَّبع لطريقة أهل البيت‏ عليهم‌السلام ومنهم مَن ضل الطريق وأضل غيره.

٩ - إن معرفة الإنسان لنفسه هي بوابة المعرفة الربوبية؛ وذلك لأن كل مخلوق هو آية لخالقه، وكل كامل نازل هو آية للكمال الصاعد، فيقال: إن كل غيب نازل له حكاية تكوينية لغيب صاعد، وهذه الحكاية ليست على نسق حكاية الصور الحصولية، بل هي حكاية الرقيقة عن الحقيقة، كما عبَّر بذلك الفلاسفة، أو حكاية المظهر عن الظاهر كما عبَّر العرفانيُّون، لكن هذه الحكاية وإن كانت غير قابلة للخطأ والصواب، بل هي صواب دائم، إلاَّ أنها ليست حكاية إحاطة؛ لأن الرقيقة لا تمثِّل كل كمالات الحقيقة.

١٠ - من الأمور التي تدلِّل على أهمية الإدراكات القلبية هو رجوع جميع الإدراكات العقلية إليها؛ بيان ذلك:

إنه قد ثبت في محلِّه رجوع جميع التصورات والتصديقات النظرية إلى البديهيات التصورية والتصديقية؛ وهي رأس مال الإنسان في تحصيل علومه، وحينما نقوم بتحليل هذه البديهيات نرى أنها في تكونها محتاجة إلى الإدراكات القلبية؛ فعندما نقول: إنه صادق، فيعني عدم احتمال اللاّمطابقة؛ والسر في ذلك أن النفس تدرك ذاتها ووجودها، والصورة نفسها مدرَكة لديها بالعلم الحضوري، فالمحكي والحاكي كلاهما موجود لدى النفس فلا يحتمل اللاّنطباق، وهذا ببركة

١٠٢

العلم الحضوري.

ونفس الشي‏ء يقال في أول البديهيات التصديقية، وهو استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما، فموضوع القضية: اجتماع النقضين، ومحمولها هو: الامتناع، حيث تقيس النفس بين مفهوم الوجود ونفي الوجود، وحيث إن للوجود محكيَّاً، فترى أن هذا المحكي مع نفي هذا المفهوم لا يجتمعان.

من خلال هذا العرض نصل إلى حقيقة في وجود الإنسان هي: إنه في اتصاله بعالم المادة يكون عبر قنطرة الصور الحصولية. أمَّا اتصاله بالغيب، فهو اتصال حضوري مباشر.

الجهة الثانية:

حول ضابطة حُجِّـيَّة المعارف القلبية.

قد يتراءى لغْوية هذا البحث؛ وذلك لِمَا ذكرناه سابقاً من أن المدرَك بالقلب هو عين ومتن الواقع فلا يحتمل الخطأ، وبالتالي فهو حُجَّة كلُّه، بل كل إدراكه صدق، ولكن في الواقع نحن بحاجة إلى هذا البحث؛ وذلك لأن العرفاء أنفسهم يشيرون في بحث المكاشفات إلى أن المكاشفات على أقسام، وأن الإدراكات الحضورية على درجات، وأن بعض الأشياء العينية قد تكون من تسويل وتمثُّلات العيانية من الشياطين أو كون قوى النفس قد اختلقتها، فلا يمكن القول بحجية كل الإدراكات القلبية. فكما ذكرنا في العلوم الحصولية؛ قد تحصل الحجب والأمراض التي تمنع عن إدراك الحقائق، فهنا كذلك تحصل حُجُب النفس التي تحجب الواقع عن إدراكه. وقد تعرَّضنا - وبنحو مفصَّل - في بحث الرؤية القلبية (١) إلى أن تصرُّف الشياطين والجن في

____________________

(١) انظر كتاب: دعوى السفارة في الغيبة الكبرى - مسألة: الرؤية القلبية.

١٠٣

قلب الكائن البشري، هو تصرف تكويني وفعل حضوري، ولكن ليس حضور الحقائق العالية.

ـ وقد ذكر القيصري نفسه في مقدمات شرح الفصوص، والسيد حيدر الآملي في نصِّ النصوص، على أن مِن الكشف ما هو رحماني ومنه الشيطاني ومنه النفساني.... فقالوا: إن الميزان في تمحيص المكاشفة الصحيحة عن الخاطئة هو الكتاب والسنة؛ باعتبار أن الكتاب ارتباط بعالم الغيب، وأن القرآن تنزُّل من الصقع الربوبي.

نلاحظ ممَّا تقدَّم أن العرفاء ركَّزوا على نكتة أن المدرَكات قد لا تكون من الحقائق؛ فلذا يجب الاعتماد على الميزان المعصوم وإدراك معصوم.

ويتبقى جانب آخر نشير إليه؛ وهو تنزُّل المدركات القلبية إلى المدركات العقلية، حيث إن العلوم الحضورية يجب أن تنزَّل إلى القوة العقلية حتّى يستطيع أن يستفيد منها الإنسان وتكون مؤثِّرة في واقعه الحياتي، وهذا التنزّل يجب أن يكون مأموناً؛ والمقصود بالأمن: أن الصور الحصولية التي يلتقطها العقل يجب أن تكون متطابقة مع حقائق الأشياء التي توصَّل إليها بالعلم الحضوري.

فكما ذكرنا سابقا، توجد أمراض تمنع من تنزّل إدراكات العقل النظري وتمنع من سيطرة العقل العملي على القوة السفلى، فهنا أيضاً توجد أمراض وأخطار تمنع من حصول الإدراكات العقلية الصحيحة. فالعقل هو كالمرآة التي تنطبع عليه مدركات القلب، فقد يكون المنطبِع شبح الحقيقة لا عين الحقيقة، وقد تكون الصورة مشوشة. وبتعبير أخر: إن مرآة العقل قد تشوبها حجب بسبب الأخلاق الرديئة أو الأعمال السيئة، فلا تنطبع فيها صور الحقائق بنحو صاف وسليم. ومن هنا نحتاج إلى ضابط وميزان لتمييز الحجة من اللاّحجة؛ حيث ليس لنا أمان من الزلل والخطأ، لا في نفس المدرَك، ولا في تنزُّله. و من هنا تظهر الميزة

١٠٤

للفرد المعصوم؛ حيث إنه لا يدرك إلاّ ما هو حق، ولا يتنزَّل إلاّ بتنزّل من الحق. ومن هنا نرى أن القران يُوصف بأوصاف متعددة ( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) فهو مدرك حق، ( فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) أي المعصومون من الذنوب والخطأ، ( بالحَقِّ أنْزَلناهُ وَبالحَقِّ نَزَلَ ) فالعصمة في صدوره لا تكفي، بل عصمة في التنزُّل من العوالم العلوية. فالقران الكريم سار مسيرة طولية؛ من العوالم العلوية إلى نفس النبي الأطهر صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن يصل إلى رسم الخط، فيجب أن يحرز أن هذا الرسم والصوت مطابق لقوة الإدراك الحسي، وهي مطابقة لقوة المخيَّلة المطابقة لقوة العاقلة العملية المطابقة للعقل النظري المطابق للقلب ومراتبه القلبية المطابق لِمَا أُوحي له من اللَّه عزَّ وجل؛ لذلك نُفي عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله الجنون ونفي عنه الشعر ونفي عنه الكهانة، فقواه العقلية تسير بالسير الفطري مطابقة المادون للأعلى وعدم تصرُّف الشيطان في قلبه. فكل ذلك الوارد في وصف القرآن والوارد في وصف الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ من أجل بيان أن هذه القناة معصومة مأمونة من الخطأ والزلل. وهذا دليل على أنه ليست كل مدركات القلب حجة، وإلاّ لَمَا احتيج إلى كل ذلك التأكيد ودفع الشبهات.

فالضابطة والميزان في كل ذلك هو الكتاب والسنة؛ حيث يعبِّران عن الوحي المعصوم، وكذلك العقل البديهي والنظري، فيمكن عرض التنزُّل على تلك البديهيات ليعلم الصحيح منها من السقيم.

وهذه النتيجة لا تعني إنكار الغيب أو إنكار للمدركات القلبية، بل هي الضابطة التي تحتاج إليها النفوس البشرية غير المعصومة، ونحن لا ننفيها بنحو مطلق، بل ننفي الحجية المطلقة لها.

١٠٥

خاتمة:

حول العلاقة بين الحجج الأربع.

لقد مضى الكلام في هذا الفصل حول الطرق والحجج الأربع؛ اثنان نقليَّان هما: الكتاب والسنة، واثنان تكوينيَّان هما: العقل والقلب. والغرض من هذه الخاتمة هو الإشارة إلى الارتباط والعلاقة بين هذه الطرق.

وقد ذكر للعلاقة بينها أمور:

ـ إن الفلسفة وهي الباحثة عن مدركات العقل، والعرفان وهو الباحث عن لغة الإدراكات الحضورية، تلميذان يؤهِّلان لفهم نكات الوحي.

ـ إن العقل والقلب يُرجع إليهما في رفع متشابهات النص، وإنه يُرجع إلى محكمات النص لتُرفع متشابهات العقل والقلب، فيُرفع متشابه كلٍّ منهما بمحكم الآخر.

ـ إن العقل والقلب شأنهما الإدراك. أمَّا الوحي، فهو نفس المدرَك.

ـ وقال البعض: إن وظيفة العقل والقلب هي التصور، وأمّا الحكم، فهو من وظيفة الوحي؛ بمعنى أن المخاطَب هو العقل والقلب، أمّا نفس الخطاب، فهو الكتاب والسنة؛ حيث إنهما مواد الوحي. فالمخاطَب ليس هو القوى النازلة، بل المخاطب هو العقل والقلب، واللغة اللسانية وظيفتها إحداث التصوّر، واللغة العقلية وظيفتها إحداث أصل الإدراك، والحكم والتصديق يكون من الشارع، فالمدرِك لهذا الحكم والتصديق والتصوير هو العقل، والمدرِك لهذه الإشعاعات النورية هو القلب. فكما أن الألفاظ موصلة للمعنى و بها يُحتج، فكذلك في لغة العقل بهما يحتجُّ على الإنسان، فالعقل والقلب هما المخاطبان ولغة الخطاب هي الوحي.

بتعبير آخر: إن العقل أيضاً يحكم ويصدِّق ويُدرك التصورات، ولكن يتبع حكم الوحي والشارع، فليس فيه إلغاء لدورهما.

١٠٦

ـ إن هناك سنناً تكوينية جعلها اللَّه عزَّ وجلَّ في طريقة التفكير البشري، فالعلم وإن كان نوراً يقذفه اللَّه في قلب الإنسان، إلاّ أن طريقة القذف تعتمد على أحد نحوين:

الأوَّل: هي الوصول إلى الاستنتاج عن طريق تهيئة المقدِّمات والمواد، وعبر مراعاة موازين ما يسمَّى بالمنطق، وذكرنا أنها مُعِدَّات تعدُّ الإنسان لكي يفاض عليه النتائج.

والآخر: هو التصفية والتخلية عن الرذائل، والتحلية بالفضائل والإيمان والمعارف، فيصلُ الإنسان إلى العلوم الحضورية، وهذا مسلك الإشراق والعرفاء....

فهاتان سنتان تكوينيتان في نيل الفكر والمعرفة الإنسانية، ويضاف إلى هاتين السنتين سنة وطريقة ثالثة وهي الوحي(الكتاب والسنة).

وهذه الطُرق ليست متقابلة، بل يجب الاستعانة بكل منها مع الأخر. فإذا استمد الإنسان بالسنُّتين التكوينيَّتين دون الوحي، فإن ذلك يعني خسران المعارف الهائلة، وكذلك لا يستفيد تمام وكمال الفائدة من الرافد الأخير إلاّ بالرافدين الأوَّليين لأنهما قناتيْ وطريقي المعارف.

ـ ووجه آخر لبيان العلاقة وهو أن الرياضة العقلية في العلوم العقلية، والرياضة القلبية في العلوم القلبية العرفانية بالغتا الأهمية من حيث كونهما مُعدَّتان للتأهُّل وخوض الوحي لفهم أسراره.

والعمدة التي تدور حولها جميع هذه الأجوبة لبيان العلاقة هو بيان التلازم بين هذه الطُرق المختلفة، بوضع كلٍّ في دوره الموظَّف له؛ بحيث لا يُلغى أحدهما الأخر، بل الوصول إلى الحالة الوسطية. وهذه الوجوه هي لبيان تلك الحالة الوسطية؛ ومنها جعل العقل والقلب الحجة الباطنة، وجعل الوحي الحجة الظاهرة.

١٠٧

وفي حديث طويل عن الصادق عليه‌السلام : (أن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا تنفع شي‏ء إلا به، العقل الذي جعله اللَّه زينة لخلقه ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنهم مخلوقون.... وعرفوا به الحسن من القبيح، وأن الظلمة في الجهل وأن النور في العلم، فهذا ما دلهم عليه العقل. قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال: إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله اللَّه قوامه وزينته وهدايته، عَلِم أن اللَّه هو الحق، وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة، وأن له كراهية، وأن له طاعة،وأن له معصية، فلم يجد عقله يدله على ذلك، وعلم أنه لا يوصل إليه إلاّ بالعلم وطلبه، وأنه لا ينتفع بعقله إن لم يصب ذلك بعلمه...)الحديث (١) .

لقد بيَّن الإمام عليه‌السلام أن مصدر الأمور وأسسها هو العقل،ثُمَّ سأل سائل: هل يكتفي بالعقل؟ فقال: إنه علّم العقل بأنه لا يصل إلى الحقائق من رضى اللَّه وغيرهما.... بل يصل إليها بعلم الوحي، فلابدَّ منهما كليهما.

ولا يتوَّهم أن الشريعة والمعارف تجريد وغيب محض، بل هو غيب وشهادة؛ وذلك أنَّنا إذا حافظنا على موازين تلقِّي معارف الغيب، حينئذٍ يكون التنزُّل سليماً حتّى إلى عالم الحس والشهادة، فبيوت الغيب يجب أن تُؤتى من أبوابها، فلابدَّ من التدرُّج عبر بوَّابة العقل،ثُمَّ بوَّابة القلب، فكما أن سنة اللَّه مع عالم المخلوقات جرت بالتدرُّج، فكذلك تنزُّل هذه المعارف.

فالنتيجة أن التمسُّك بالوحي ورفض العقل والقلب، هو رفض للوحي أيضا؛ وذلك لأن المخاطَب بالكتاب والسنّة هو العقل، وجعل المخاطب غير العقل وإلغاء شرط العقل هو في الواقع إلغاء للكتاب والسنّة.

وكذلك مَن تمسّك بالعقل من دون الكتاب والسنّة، فقد ضيَّع العقل أيضا؛

____________________

(١) أصول الكافي، ج ١، ص٢٩.

١٠٨

وذلك لأن التمسُّك بالعقل والقلب هو إبقاء الإنسان في الحدود النازلة وعدم ارتقائه إلى المعاني العالية، وهو حرمان للعقل من المعارف الإلهية، وكذلك مَن ادعى أنه يفهم الكتاب والسنة من دون الالتفات إلى النكات العقلية، فقد أنزل المعارف من مستواها العالي؛ فلابد من الوسطية والتوازن.

وقد حاول العلاّمة الطباطبائي أن يذكر في كل مسألة الفحص في هذه الطرق الأربعة، ولا يقتصر على جانب دون آخر. وممَّن حاول أيضاً الجمع بين هذه الطرق، الملاّ صدرا في الحكمة المتعالية، وبغض النظر عن مدى موفقية كلٍّ منهما في النتائج التي توصَّلا إليها، إلاّ أنها محاولة جريئة وجديدة في بابه، فلم يقصر فكره على طريقة واحدة ومنهجية واحدة؛ حيث إنه استفاد من نكات مذكورة في السنّة في إيجاد براهين عقلية لأمور عجز العقل في السابق عن إثباتها كالمعاد الجسماني.

ـ أمَّا الشيخ الأنصاري، فيذكر في الرسائل:

أن التنافي بين الأدلة النقلية والأدلة العقلية، لو قُدِّر وجوده، لا يخرج عن صور ثلاث:

إمَّا صورة التعارض لدليلين قطعيَّين.

وإمّا صورة تعارض نقلي قطعي وعقلي نظري.

وإمّا صورة تعارض نقلي ظنِّي وعقلي قطعي (نظري وبديهي).

أمَّا الصورة الأولى، فلا وجود لها ولم يشر أحد من الباحثين إليها قط.

أمَّا الصورة الثانية، فهي وإن كانت بدواً تعارض، إلاّ أن الإنسان إذا دقَّق ولاحظ في مواد الدليل العقلي، لوجد أنها ظنية وليست قطعية، والمشكلة تكمن أنَّنا - للوهلة الأولى - لا نلتفت إلى ذلك، بل بعد فترة من الزمن، حيث نتصوّر استحكام التعارض؛ والسرُّ في عدم التعارض هو: أن الوحي برهان وقطعي حيث ثبتت واقعيَّـته، وأنه من واجب الوجود، فلا يمكن أن يتصادم مع العقل القطعي. وقد نبَّه الملاّ صدرا إلى أن

١٠٩

قول المعصوم يمكن أن يستخدم كوسط في البرهان لعصمته عن الخطأ.

أمَّا الصورة الثالثة، فإنه لو أعيد النظر في العقل القطعي وتأكَّدتَ مِن قطعيَّـته، فإنه يكون قرينة على التصرُّف في الظاهر الظني والتأويل.

وتوجد صورة رابعة في التعارض بين الظني النقلي والظني العقلي، وفي هذه الصورة نلاحظ أن العقل الظني ليس بحجة. أمّا النقلي الظني، فقد ذكرنا في بداية بحثنا إمكان اعتباره ووقوعه كما يظهر من عبارة الشيخ في بحث الانسداد، ومال إلى ذلك كثير من علمائنا كالبهائي والشيخ الطوسي والميرزا القمي وغيرهم.

ويشير الشيخ إلى توصية هامة وهي:

أنه في بحوث المقام يجب التتبُّع وبذل الجهد للحصول على المعارف النقلية، القطعية منها والظنية المعتبرة، بناءً على اعتباره في التفاصيل النظرية في شعب المعرفة، فكما نجهد أنفسنا في البحوث العقلية البحتة أو القلبية، فإنه يجب بذل الجهد بعناية فائقة في تحصيل القطعيَّات النقلية. وممَّا يؤسف له قلَّة الجهود المبذولة في هذا المضمار بالقياس إلى حجم النقل الواصل بأيدينا وبالقياس إلى ما يُبذل من جهود في المجال الآخر، فإنه لو أثريت البحوث العقلية الاستدلالية في المعارف النقلية، لتوفّر تبويب كثير من الطوائف للأدلة النقلية، ولأمكن العثور على جمٍّ كبيرٍ من القرائن والاستفاضات المعنوية في كثير من المسائل.

١١٠

الفصل الثاني:

نظريَّة الحُكم على ضوء الإمامة الإلهيَّة

١١١

١١٢

نظريَّة الحُكم على ضوء الإمامة الإلهيَّة

المبحث الأوَّل:

لمحة تاريخية

إن الناظر للتاريخ الإسلامي وللمذاهب التي نشأت في هذا الدين وما ذكرته لنا في مسألة الخلافة والحاكمية، يرى كم هو البون الشاسع بين المبدأ والمنتهى، وبين التنظير والتطبيق لدى أكثر المذاهب الإسلامية، فكثير ممَّن رفعوا راية الشورى لم يثبتوا على مبدأ واحد وقول متَّحد منذ بداية الخلافة الإسلامية وحتّى يومنا هذا؛ لا يوجد تطابق بين ما ادعوه من شوروية الحكم وما طُبِّق. كما أن بعض القائلين بالنص في عصرنا لم يثبتوا على مقولتهم، بل نرى ذلك البعض يحاول أن يخفِّف من وطأتها ويدمجها مع الشورى، ويحاول أن يجعلها شورى عند التطبيق... وهكذا.

بعض الباحثين في شؤون المِلل والنحل ذكروا لنا اتجاهاً ثالثاً بين الشورى والنص؛ وهو التلفيق بين هاتين النظريتين، ولم يعدُّوها من القول بالنص، بل يجعلونها من القول بالشورى، وأوضح مثال على ذلك هو: ما سارت عليه الزيدية والإسماعيلية؛ حيث حسبوا أن هناك تصادماً بين القول بالنص وبين لزوم إقامة الحكم الإسلامي، وهذا التصادم هو الذي ألجأهم إلى التلفيق. وهذا المنزلق استطاعت الإمامية أن تخرج منه، وحافطت على وتيرة القول بالنص من دون تلفيق مع الشورى. وقد يكون من الأمور التي دفعت إلى التلفيق هو إحجام مَن نُص عليه

١١٣

عن إقامة الحكم السياسي، مع عدم الالتفات إلى أن الأئمَّة عليهم‌السلام كانت لهم حكومة حقيقية مبسوطة على كل مَن شاء الرجوع إليهم. وإن المتتبِّع للروايات المتناثرة هنا وهناك، يرى أن الأئمَّة كانوا يمارسون كل أنواع السلطة وكافَّة شؤونها، وأنهم لم يحجموا في واقع الأمر، وإنما قد أدبر الناس عنهم.

وأكثر مؤلفي الشيعة ممّن تعرَّضوا للمِلل والنحل ردُّوا شبه الزيدية؛ فراجع: إكمال الدين والغيبة للطوسي، وأصول الكافي للكليني، والكشِّي في رجاله.

فنرى الشهرستاني في المِلل والنحل يقول: (والاختلاف في الإمامة على وجهين؛ أحدهما: القول بأن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار. والثاني: القول بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين. فمن قال: إن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار، قال بإمامة كل مَن اتفقت عليه الأمة أو جماعة معتبرة من الأمّة؛ إمّا مطلقاً، وإمّا بشرط أن يكون قرَشيَّاً على مذهب قوم، وبشرط أن يكون هاشمياً على مذهب قوم) (١) .

وقال: (الخلاف الخامس: في الإمامة. وأعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة؛ إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلَّ على الإمامة في كلِّ زمان...) ثُمَّ نقل كلام عمر حين حضر مع أبي بكر سقيفة بني ساعدة: (فقبْل أن يشتغل الأنصار بالكلام مَدَدت يدي إليه، فبايعته وبايعه الناس، وسكنت الفتنة، إلاّ أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى اللَّه المسلمين شرَّها، فمَن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيّما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فإنها تَغِرَّة يجب أن يقتلا.... وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة) (٢) .

وقال: (الخلاف الثامن: في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة وقت الوفاة.

____________________

(١) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص٣٣.

(٢) المصدر، ص ٣٠ ـ٣١.

١١٤

فمن الناس مَن قال: قد ولَّيت علينا فظَّاً غليظاً. وارتفع الخلاف....) (١) .

وقال في الباب السادس: (الشيعة: هم الذين شايعوا عليَّاً(رضي الله عنه‏)على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصَّاً ووصيَّةً؛ إمَّا جليَّاً وإمَّا خفيَّاً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده. وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل‏ عليهم‌السلام إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامّة وإرساله. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولِّي والتبرِّي قولاً وفعلاً، وعقداً، إلاّ في حال التقيَّة، ويخالفهم بعض الزيدية في ‏ذلك) (٢) .

وقال في الزيدية: (أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(رضي الله عنهم) ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة(رضي اللَّه عنها)، ولم يجوِّزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلاّ أنهم جوَّزوا أن يكون كل فاطمي عالم زاهد شجاع سخي خرج بالإمامة، أن يكون إماماً واجب الطاعة.... وجوَّزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال، ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة).ثُم َّذكر السليمانية من فِرق

الزيدية: (أصحاب سليمان بن جرير وكان يقول: إن الإمامة شورى بين الخلق ويصحُّ أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنها تصحُّ في المفضول مع وجود الأفضل، وأثبت إمامة أبي بكر وعمر حقَّاً باختيار الأمة حقَّاً اجتهادياً. وربَّما كان يقول: إن الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود علي(‏رضي الله عنه‏) خطأً لا يبلغ درجة الفسق... قالوا: الإمامة من مصالح الدين، ليس يحتاج إليها لمعرفة اللَّه تعالى وتوحيده، فإن ذلك حاصل بالعقل، لكنَّها يحتاج إليها لإقامة الحدود

____________________

(١) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص٣١.

(٢) المصدر، ص١٣١.

١١٥

والقضاء....) (١) .

وقال عن الصالحية والبترية من الزيدية:

(وقولهم في الإمامة كقول السليمانية... وأكثرهم - في زماننا - مقلِّدون؛ لا يرجعون إلى رأي واجتهاد. أمَّا في الأصول، فيرون رأي المعتزلة حذو القُذَّة بالقُذَّة، ويعظِّمون الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمَّة أهل البيت. وأمَّا في الفروع، فهم على مذهب أبي ‏حنيفة....) (٢) .

ويقول سعد بن عبداللَّه الأشعري القمي - وهو من الفقهاء، أخذ أصل كتابه في الفِرق عن النوبختي والأخير من المتكلِّمين له كتاب: الفِرق والمقالات، إلاّ أن سعداً أضاف على ما أخذه -: (واختلف أهل الإهمال في إمامة الفاضل والمفضول؛ فقال أكثرهم: هي جائزة في الفاضل والمفضول إذا كانت في الفاضل علّة تمنع عن إمامته، ووافق سائرهم أصحاب النص على أن الإمامة لا تكون إلاّ للفاضل المتقدِّم. واختلف الكل في ‏الوصية؛ فقال أكثر أهل الإهمال: توفِّي رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يوصِ إلى أحد من الخلق... ) ثُمَّ عدّ البترية والسليمانية من فِرق الزيدية من أهل الإهمال (٣) .

وقال عن الجارودية من الزيدية: (.... فقالوا بتفضيل علي، ولم يروا مقامه لأحد سواه، وزعموا أن مَن رفع عليَّاً عن هذا المقام، فهو كافر، وأن الأمة كفرت وضلَّت في تركها بيعته، ثُمَّ جعلوا الإمامة بعده في الحسن بن علي، ثُمَّ في الحسين بن علي، ثُمَّ هي شورى بين أولادهما؛ فمَن خرج منهم وشهر سيفه ودعا إلى نفسه، فهو مستحقٌّ للإمامة) (٤) (... وزعموا أن الإمامة صارت بالنص من رسول اللَّه لعلي بن أبي طالب، ثُمَّ الحسن بن علي، وبعد أن مضى الحسين بن علي لا تثبت إلاّ

____________________

(١) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص١٣٧ - ١٤٢.

(٢) المصدر، ص١٤٢ - ١٤٣.

(٣) الأشعري، سعد بن عبد الله، المقالات والفِرق، ص٧٢.

(٤) المصدر، ص١٨.

١١٦

باِختيار ولد الحسن والحسين وإجماعهم) (١) .

وفي المقالات لأبي الحسن الأشعري المتوفَّى ٣٢٤ هـ (ص ٤٦٧ - ٤٥١) قال: (وأجمعت الروافض على إبطال الخروج وإنكار السيف ولو قتلت، حتّى يظهر لها الإمام، وحتّى يأمرها بذلك....).

فهو يشير إلى نفس النكتة التي ألمح إليها الشهرستاني من حصر الحاكمية لدى الإمامية في النص، وفي قبالهم المعتزلة والزيدية والخوارج والمرجئة؛ حيث يرون خلاف ذلك.

ومن خلال هذه اللمحة التاريخية يتَّضح لنا أمران:

١ - إن الصياغات المختلفة للشورى، والتلفيق بينها وبين النص، معدودة عند أصحاب التراجم والمؤرِّخين في منهج يقابل النص.

٢ - إن بعض الفِرق الشيعية - في الأصل - انتقلت من النصِّ إلى الشورى أو إلى التلفيق بسبب ما رأوه من تصادم بين النص وبين مسلَّمة لزوم إقامة الحكومة الإسلامية؛ حيث عجزت أفكارهم عن إيجاد حلٍّ ضمن إطار النص، بخلاف فقهاء الإمامية الاثنى عشرية الذين استطاعوا - مع بقائهم وتمسُّكهم بالنص - إيجاد صيغ بديلة عن الشورى أو التلفيق.

ومن أمثلة هذه الفِرق: الزيدية؛ الذين ذهبوا - نتيجة هذا التصادم - إلى ما ذهبوا إليه. وقد عقد الشيخ الصدوق في كتابه: إكمال الدين وإتمام النعمة (ص ٧٧) فصلاً في الجواب عنه.

____________________

(١) الأشعري، سعد بن عبد الله، المقالات والفِرق، ص١٩.

١١٧

١١٨

المبحث الثاني:

النظريَّات المختلفة في إدارة شؤون الحكم ودور الشورى فيها (١)

النظرية الأولى المشهورة:

من أن للأمة صلاحية البتِّ في ولاية الحكم والقيادة من رأس الهرم إلى كافَّة

____________________

(١) مجموع هذه النظريات وأدلَّتها ووجوهها الآتية مستخلصة من الكتب التالية:

١ - تفسير المنار، محمد رشيد رضا.

٢ - روح البيان، الآلوسي.

٣ - فقه الدولة الإسلامية، الشيخ المنتظري، ج١.

٤ - مفاهيم القرآن، دراسة موسَّعة عن صيغة الحكومة الإسلامية، الشيخ السبحاني.

٥ - بيام قرآن، ج١٠ (قرآن مجيد وحكومت اسلامى)، الشيخ مكارم الشيرازي.

٦ - طرح حكومت اسلامى، الشيخ مكارم الشيرازي.

٧ - تفسير الميزان، ج٤، ص١٢٤، العلامة الطباطبائي.

٨ - الحكومة الإسلامية في أحاديث الشيعة، للشيخ السلطاني، والمظاهري، والمصلحي، والخرازي، والأستادي.

٩ - الاجتماع السياسي الإسلامي، الشيخ شمس الدين.

١٠ - مجلَّة: حكومت إسلامي، ع ١ و ٢، مقالات الشيخ مهدي الحائري.

١١ - تنبيه الأمَّة وتنزيه الملَّة، الميرزا النائيني.

١٢ - حكومت در إسلام، السيد الروحاني.

١٣ - الإسلام يقود الحياة، ص١٧٢، الشهيد السيد الصدر.

١٤ - الفقه - الاجتهاد والتقليد، ج١، السيد الشيرازي.

وغيرها من الكتب التي صدرت أخيراً عن الحكومة الإسلامية وخصَّت الشورى بباب أو فصلٍ مستقل.

١١٩

الأجنحة، وهذه النظرية مع شهرتها إلاّ أنها لا تجد أساساً تطبيقياً في التاريخ الإسلامي من انتخاب الخلفاء الثلاثة إلى دولة بني أميّة وبني العبّاس؛ لذا نجد أن معالمها قد تكاملت مع العصور المتأخرة ويمكن التعبير عنها بالمصطلح الحديث: إن السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد الأمة.

ولكن بقي في هذه النظرية نقاط لم تحسم:

منها: أن المدار في الانتخاب هل هو على الأكثرية الكمية أو على الكيفية؛ ممَّا قد يَصطلح عليه أهلُ الحلِّ والعقد؟ وعلى الفرضية الأولى: هل هي مطلق الكثرة النسبية؛ ولا يلتفت إلى الطرف المقابل ولو كان بنسبة ٤٠% فما فوق، حتّى وإن كان الطرف الأقل أكثر وعياً وأبصر بالأمر؟

ثُم هل المدار على ما يهوى المنتخِبون من دون ملاحظة شرائط ومواصفات في المنتخَب أو أنهم مقيَّدون في ‏انتخابهم بشرائط خاصة؟ وهل عليهم مراعاة توفُّرها بالنحو الأكمل في المنتخَب أم بأيِّ درجة كانت؟

ومنها: أن الأساس القانوني أو - بتعبير آخر - شرعية الحاكم في تولِّي السلطة لم يتم تشخيصه وتحديده؛ فهل الحاكم المختار هو وكيل عن الجماعة في إدارة شؤونها العامة؟ وهذا يعني وجود عقد وكالة بينهم، مع ما يستلزمه هذا من القول بأنه وكالة من نوع خاص؛ إذ لا تسري عليه كل أحكام الوكالة.

أو أن سلطة الحاكم المختار هي ولاية على الأمة؟ وهذه يُتصوَّر على نحوين:

أحدهما: أن تنقل الأمة الولاية التي لديها على نفسها إلى هذا الحاكم.

والأخر: أن يكون له الولاية من قبل أهل الحلِّ والعقد الذين يجعلون الحاكم المنتخَب له الولاية، فتكون ولايته طولية كما في ولاية حاكم المدينة المعيّن من قبل الإمام المعصوم.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

كما أنّ الذين لا يملكون القدرة المالية غير مأمورين إلّا بالقدر الذي تسعه قدرتهم المالية ولا يحقّ للنساء مطالبتهم بأكثر من ذلك.

وبناء على هذا فالذين لديهم المقدرة والاستطاعة ثمّ يبخلون بها فإنّهم يستحقّون اللوم والتقريع لا الذين لا يملكون شيئا.

وفي نهاية المطاف يبشّرهم الله تعالى بقوله :( سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ) أي لا تجزعوا ولا تحزنوا ولا يكن الضيق في المعيشة سببا لخروجكم عن الطريق السوي ، فإنّ الدنيا أحوال متقلّبة لا تبقى على حال ، فحذار من أن تقطع المشاكل العابرة والمرحلية حبل صبركم.

وكانت هذه الآية بمثابة بشرى أبدية للمسلمين الذين كانوا حينذاك يعيشون ضنكا ماديا وعوزا في متطلّبات الحياة ، فهي تبعث الأمل في نفوسهم وتبشّر الصابرين.

ولم تمض فترة طويلة حتّى فتح الله عليهم أبواب رحمته وبركته.

* * *

بحوث

١ ـ أحكام الطلاق الرجعي

قلنا أنّه في الطلاق الرجعي يستطيع الزوج متى شاء أن يرجع إلى زوجته خلال فترة العدّة إلى آخر يوم منها ، بلا حاجة إلى عقد أو ما شابه ، والطريق إلى ذلك سهل يسير يمكن أن يتمّ بأي حديث أو عمل يشمّ منه رائحة العودة ويدلّ على الرجوع في العلاقة الزوجية ، وقد اختصّت بعض الأحكام التي وردت في الآيات أعلاه مثل «النفقة» و «السكن» بحالة الطلاق الرجعي ، يضاف إلى ذلك عدم خروج المرأة من بيت زوجها أثناء العدّة ، فإنّها أيضا من مختصّات الطلاق الرجعي أمّا الطلاق البائن غير القابل للرجوع ، (كالطلاق للمرّة الثالثة) فإنّه غير

٤٢١

مشمول بتلك الأحكام.

أمّا حقّ النفقة والسكن فهو ثابت للنساء الحوامل إلى حين وضع الحمل.

والتعبير بـ( لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ) إشارة إلى أنّ كلّ الأحكام السابقة ـ أو بعضها ـ مرتبط بالطلاق الرجعي(١) .

٢ ـ لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها

ليس العقل وحده يحكم بذلك ، وإنّما الشرع هو الآخر شاهد ودليل على ذلك. أي أنّ تكاليف البشر ومسئولياتهم إنّما هي بقدر طاقاتهم وتعبير( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها ) التي وردت ضمن الآيات السابقة هو إشارة إلى هذا المعنى.

ولكن ورد في بعض الروايات أنّ المقصود بـ( ما آتاها ) هو «ما أعلمها» أي أنّ الله يكلّف الناس بقدر ما أعلمهم به. ولذا استدلّ بهذه الآية على إثبات «أصل البراءة» في مباحث علم الأصول ، فمن لا يعلم حكما ليس عليه مسئولية تجاه ذلك الحكم.

ونظرا لأنّ عدم الاطّلاع يؤدّي أحيانا إلى عدم المقدرة ، فمن الممكن أن يكون المقصود هو الجهل الذي يكون مصدرا للعجز.

وبناء على هذا فإنّه سيكون للآية مفهوم واسع يشمل عدم القدرة والجهل الذي يؤدّي إلى عدم القدرة على إنجاز التكليف.

٣ ـ أهميّة النظام العائلي

إنّ الدقّة والظرافة التي عالجت بها الآيات القرآنية أحكام النساء المطلّقات وحقوقهنّ وباقي الجزئيات المتعلّقة في هذا المجال ، الواردة في آيات قرآنية

__________________

(١) راجع الكتب الفقهيّة للتوسّع في ذلك ومنها كتاب «جواهر الكلام ، ج ٣٢ ، ص ١٢١».

٤٢٢

اخرى ، تمثّل بمجموعها المنهج والقانون الإسلامي لمواجهة هذه المشاكل.

كلّ ذلك يبرز الأهميّة الخاصّة التي يوليها الإسلام لنظام العائلة ورعاية حقوق المرأة والأبناء. فهو يسعى لمنع وقوع الطلاق قدر الإمكان ، ويحاول استئصال جذور هذا العمل البغيض ، ولكن إذا وصلت هذه الجهود إلى طريق مسدود وأصبح الطلاق والانفصال هو العلاج الوحيد ، عندها يحذّر من ضياع حقوق الأطفال ويرفض أن تذهب هذه الحقوق ضحيّة هذا النزاع ، حتّى أنّه شرع حكم الطلاق بطريقة يمكن في ضوئها الرجوع عنه غالبا.

إنّ أوامر الإمساك بمعروف والطلاق بمعروف ، وكذلك عدم الإضرار والتضييق على النساء والتشدّد في أمرهنّ ، والتشاور الحسن في شؤون الأطفال ، وما إلى ذلك كلّها شواهد على ذلك.

غير أنّ عدم اطّلاع المسلمين على هذه الأحكام وجهلهم بها ، أو إعراضهم عن الالتزام بها رغم علمهم ، أدّى إلى نشوء مشاكل عائلية عديدة حين الطلاق ، وخاصّة في شأن الأطفال. وذلك نتيجة ابتعاد المسلمين عن مصدر الفيض الإلهي الذي هو القرآن. فمثلا في الوقت الذي يدعو القرآن إلى عدم خروج النساء من بيت الزوج في أيّام العدّة ، ولا يحقّ للزوج إكراهها على الخروج أثناء تلك الفترة المحدّدة مما يؤدّي هذا الحكم إلى العدول عن الطلاق ورجوع النساء إلى الحياة الزوجية ، نرى قلّة من النساء والرجال يلتزمون بذلك بعد وقوع الطلاق ، وهذا ما يدعو إلى الأسف حقّا.

* * *

٤٢٣

الآيات

( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) )

التّفسير

العاقبة المؤلمة للعاصين :

في كثير من الموارد يأتي القرآن على ذكر الأمم السابقة بعد إيراد سلسلة من الأحكام والتكاليف ، لكي يرى المسلمون بأعينهم عاقبة كلّ من (الطاعة

٤٢٤

والعصيان) في تجارب الماضي وتأخذ القضيّة طابعا حسيّا.

ولم يخرج القرآن الكريم في هذه السورة عن هذا النهج ، فبعد ذكر وظائف كلّ من الرجال والنساء عند الطلاق ، يحذّر العاصين والمتمرّدين من العواقب الوخيمة التي تنتظرهم بقوله في البداية :( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً ) (١) .

والمقصود بـ «القرية» هو محل اجتماع الناس ، وهو أعمّ من المدينة والقرية ، والمراد هو أهلها.

«عتت» من مادّة «عتو» على وزن «غلو» بمعنى التمرّد على الطاعة.

و «نكر» على وزن «شكر» ويعني العمل الصعب الذي لم يسبق له مثيل.

«حسابا شديدا» أي الحساب الدقيق المقرون بالشدّة والصرامة ، ويعني العقاب الشديد الذي هو نتيجة الحساب الدقيق. وهو على كلّ حال إشارة إلى عاقبة الأقوام السابقة المتمرّدة العاصية في هذه الدنيا ، التي هلكت بعضها بالطوفان ، وبعضها بالزلازل ، وآخرون بالصواعق والعواصف ، وأمثالهم حلّ بهم الفناء وبقت ديارهم وآثارهم عبرة للأجيال بعدهم.

لذلك يضيف تعالى في الآية اللاحقة :( فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً ) .

وأي خسارة أفدح من خسران رأس المال الذي وهبه الله ، والخروج من هذه الدنيا ـ ليس فقط بعدم شراء المتاع ـ وإنّما بالانتهاء إلى العذاب الإلهي والدمار.

ويرى البعض أنّ «حسابا شديدا» و «عذابا نكرا» يشيران إلى «يوم القيامة»

__________________

(١) «كأين» على الرّأي المشهور لعلماء الأدب اسم مركب من «كاف» التشبيه و «أي» مع التنوين الذي دخل في بناء هذا الاسم ، ويقرأ مع الوقف كذلك ، وكتب أيضا في كتابة المصاحف ومعناها كمعنى «كم» الخبرية ، رغم وجود فرق بسيط بينهما. وعلى الرأي غير المشهور فإنّها اسم بسيط وكافها ونونها جزء من الكلمة.

٤٢٥

واعتبروا الفعل الماضي من باب الماضي المراد به المستقبل ، ولكن لا داعي لهذا التكلّف ، خاصّة أنّ السورة تحدّثت عن يوم القيامة في الآيات اللاحقة ، فذلك يدلّ على أنّ المراد بالعذاب هنا هو عذاب الدنيا.

ثمّ يشير تعالى إلى عقابهم الاخروي بقوله :( أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً ) عذابا مؤلما ، مخيفا ، مذلا ، فاضحا ، دائما أعدّه لهم منذ الآن في نار جهنّم.

والآن( فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا ) .

إنّ الفكر والتفكّر من جهة ، والإيمان والآيات الإلهية من جهة اخرى ، تحذّركم وتدعوكم لملاحظة مصائر الأقوام السابقة المتمرّدة التي عصت أمر ربّها ، والإعتبار بذلك والحذر من أن تكونوا مثلهم ، فقد ينزل عليكم الله غضبه وعذابه الذي لم يسبق له مثيل إضافة إلى عذاب الآخرة.

وبعد ذلك يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين يتفكّرون في آيات الله بقوله :( قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً ) وهو الشيء الذي يوجب تذكركم.

وأرسل لكم رسولا يتلو عليكم آيات الله الواضحة( رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) .

علما أنّ هناك خلافا بين المفسّرين في معنى كلمة «ذكر» ولكلمة «رسولا» اعتبر بعضهم أنّ «الذكر» يعني القرآن ، بينما فسّرها البعض الآخر بأنّها تعني (رسول الله) لأنّ الرّسول هو سبب تذكّر الناس ، وطبقا لهذا التّفسير فإنّ كلمة «رسولا» التي تأتي بعدها تعني شخص الرّسول ، وليس في البين كلام محذوف.

ولكن يصبح معنى «الإنزال» هنا هو وجود الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الامّة وبعثه فيها من قبل الله تعالى.

ولكن إذا أخذنا «الذكر» بمعنى «القرآن» فإنّ كلمة «رسولا» لا يمكن أن تكون بدلا ، وفي الجملة محذوف تقديره «أنزل الله إليكم ذكرا وأرسل إليكم رسولا».

٤٢٦

قال البعض : أنّ «الرّسول» يقصد به «جبرائيل» وبهذا يكون النزول نزولا حقيقيّا ، نزل من السماء ، غير أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع عبارة( يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ ) لأنّ جبرائيل لم يقرأ الآيات القرآنية بصورة مباشرة على المسلمين.

وبصورة عامّة ، فإنّ كلّ أي من هذه الآراء يحتوي على نقاط قوّة ونقاط ضعف ، ويبقى التّفسير أو الرأي الأوّل أفضل الآراء أي أنّ «الذكر» يقصد به «القرآن» و «رسولا» يقصد به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وذلك لأنّ القرآن الكريم أطلق على نفسه «الذكر» في آيات كثيرة ، خصوصا أنّها كانت مقرونة بكلمة «إنزال» إلى الحدّ الذي أصبح كلّما جاءت عبارة «إنزال الذكر» تداعى إلى الأذهان القرآن الكريم.

ثمّ نقرأ في الآية (٤٤) من سورة النحل( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) .

وجاء في الآية (٦) من سورة «الحجر»( وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) .

وإذا جاء في بعض الروايات عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المقصود من «الذكر» هو رسول الله و «أهل الذكر» هم «الأئمّة» ، فقد يكون المقصود هو المعنى الباطني للآية ، لأنّنا نعلم أنّ «أهل الذكر» في آية( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) النحل (٤٣) ليس خصوص أهل البيتعليهم‌السلام ، بل إنّ شأن نزولها هو علماء أهل الكتاب ، ولكن نظرا لاتّساع معنى الذكر فإنّه يشمل رسول الله كأحد مصاديقه.

على أي حال فإنّ الهدف النهائي من إرسال الرّسول وإنزال هذا الكتاب السماوي ، هو لإخراج الناس من الظلمات والكفر والجهل وارتكاب الذنوب والمآثم والمفاسد الأخلاقية ، إلى نور الإيمان والتوحيد والتقوى.

والواقع أنّ تمام أهداف بعثة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزول القرآن يمكن تلخيصها بهذه الجملة ، وهي الخروج من الظلمات إلى النور.

٤٢٧

وتجدر الإشارة إلى أنّ «الظلمات» ذكرت بصيغة الجمع بينما ذكر النور بصيغة المفرد ، لأنّ الكفر والشرك والفساد تؤدّي إلى الفرقة والاختلاف ، بينما يؤدّي الإيمان والتوحيد والتقوى إلى الوحدة والتلاحم.

وفي ختام الآية يشير إلى أجر العاملين المخلصين بقوله :( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً ) .

وأشار بالفعل المضارع «يؤمن» و «يعمل» إلى أنّ إيمانهم وعملهم الصالح ليسا محدودين بحدود الزمان والمكان ، وإنّما لهما استمرار وديمومة(١) .

والتعبير بـ (خالدين) دليل على كون الجنّة خالدة ، وبذلك تكون كلمة «أبدا» التي جاءت بعدها تأكيد لهذا الخلود.

والتعبير بـ «رزقا» بصيغة نكرة إشارة إلى عظمة وأهميّة الأرزاق الطيّبة التي يهيّؤها الله لهذه الجماعة ، وقد يتّسع معناها ليشمل كلّ النعم الإلهية في الدنيا والآخرة ، لأنّ الصالحين والمتّقين لهم حياتهم الكريمة حتّى في الحياة الدنيا.

* * *

__________________

(١) ينبغي الالتفات إلى أنّ الضمائر في الآية بعضها بصيغة الجمع وبعضها الآخر بصيغة المفرد ، وهذا يعني انّه في الموارد التي جاء بصيغة المفرد يكون بمعنى الجنس والجمع أيضا.

٤٢٨

الآية

( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢) )

التّفسير

الهدف من خلق العالم :

هذه الآية هي آخر آية من سورة الطلاق ، وفيها إشارة معبّرة وصريحة إلى عظمة وقدرة البارئ جلّ شأنه في خلق السموات والأرض وبيان الهدف النهائي للخلق ، ثمّ تكمل الآية الأبحاث التي وردت في الآيات السابقة حول الثواب العظيم الذي أعدّه الله للمؤمنين المتّقين ، والعهود التي قطعها على نفسه لهم فيما يخصّ حلّ مشاكلهم المعقّدة. إذ من الطبيعي أنّ الذي أوجد هذا الخلق العظيم له القدرة على الوفاء بالعهود سواء في هذا العالم أو العالم الآخر.

يقول تعالى أوّلا :( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ) .

( وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ ) .

بمعنى أنّ الأرضين سبع كما السماوات سبع ، وهذه هي الآية الوحيدة التي

٤٢٩

تشير إلى الأرضين السبع في القرآن الكريم.

والآن لنر ما هو المقصود من السموات السبع والأرضين السبع؟

مرّت أبحاث مطوّلة في هذا المجال في ذيل الآية (٢٩) من سورة البقرة ، وفي ذيل الآية (١٢) من سورة فصّلت ، لذا نكتفي هنا بإشارة مقتضبة وهي :

إنّه من الممكن أن يكون المراد من عدد (٧) هو الكثرة ، فكثيرا ما ورد هذا التعبير للإشارة إلى الكثرة في القرآن الكريم وغيره ، فنقول أحيانا للمبالغة لو أتيت بسبعة أبحر لما كفت.

وبناء على هذا فسيكون المقصود بالسموات السبع والأرضين السبع هو الإشارة إلى العدد العظيم والهائل للكواكب السماوية والكواكب التي تشبه الأرض.

أمّا إذا اعتبرنا العدد سبعة هو لعدد السموات وعدد الأرضين ، فإنّ مفهوم هذه الآية مع الالتفات إلى الآية (٦) من سورة الصافات التي تقول :( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) سيكون شيئا آخر ، وهو أنّ علم البشر ومعرفته مهما اتّسعت فهي محدودة ومتعلّقة بالسماء الاولى التي توجد وراءها ثوابت وسيّارات ستة هي عبارة عن العوالم الاخرى التي لا تتسع لها معرفتنا المحدودة ولا ينالها إدراكنا الضيّق.

أمّا الأرضين السبع وما حولها ، فربّما تكون إشارة إلى طبقات الأرض المختلفة ، لأنّ الأرض تتكوّن من طبقات مختلفة كما ثبت اليوم علميّا. أو لعلّها تكون إشارة إلى المناطق السبع التي تقسّم بها الأرض في السابق وحاليا. علما أنّ هناك اختلافا بين التقسيم السابق والتقسيم الحالي ، فالتقسيم الحالي يقسّم الأرض إلى منطقتين : منطقة المنجمد الشمالي ، والمنجمد الجنوبي. ومنطقتين معتدلتين ، وأخريين حارتين ، ومنقطة استوائية. أمّا سابقا فكان هناك تقسيم آخر لهذه المناطق السبع.

٤٣٠

ويمكن أن يكون المراد هنا من العدد «سبعة» المستفاد من تعبير (مثلهنّ) هو الكثرة أيضا التي أشير بها إلى الكرات الأرضية العديدة الموجودة في العصر الراهن ، حتّى قال بعض علماء الفلك : إنّ عدد الكرات المشابهة للأرض التي تدور حول الشموس يبلغ ثلاثة ملايين كرة كحدّ أدنى(١) .

ونظرا لقلّة معلوماتنا حول ما وراء المنظومة الشمسية ، فإنّ تحديد عدد معيّن حول هذا الموضوع يبقى أمرا صعبا. ولكن على أي حال فقد أكّد علماء الفلك الآخرون أنّ هناك ملايين الملايين من الكواكب التي وضعت في ظروف تشبه ظروف الكرة الأرضية ، ضمن مجرّة المجموعة الشمسية ، وهي تمثّل مراكز للحياة والعيش.

وربّما ستكشف التطورات العلمية القادمة معلومات أوسع وأسرار اخرى حول تفسير مثل هذه الآيات.

ثمّ يشير تعالى إلى إدارة هذا العالم الكبير وتدبيره بقوله جلّ شأنه( يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ ) .

وواضح أنّ المراد من «الأمر» هنا هو الأمر التكويني لله تعالى في خصوص إدارة وتدبير هذا العالم الكبير ، فهو الهادي وهو المرشد وهو المبدع لهذا المسار الدقيق المنظّم ، والحقيقة أنّ هذه الآية تشبه الآية (٤) من سورة السجدة حيث تقول :( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ) .

على أي حال فإنّ هذا العالم سيفنى ويتلاشى إذا ما رفعت عنه يد التدبير والهداية الإلهية لحظة واحدة.

وأخيرا يشير تعالى إلى الهدف من وراء هذا الخلق العظيم حيث يقول :( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) .

__________________

(١) تفسير «المراغي» ، ج ٢٨ ، ص ١٥١ ، في حديث نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «لهذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الأرض.(تفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ١٥).

٤٣١

كم هو تعبير لطيف ، إذ يعتبر الهدف من هذا الخلق العظيم هو تعريف الإنسان بصفات الله في علمه وقدرته ، وهما صفتان كافيتان لتربية الإنسان.

ومن ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ الله محيط بكلّ أسرار وجوده ، عالم بكلّ أعماله ما ظهر منها وما بطن. ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ وعد الله في البعث والمعاد والثواب والعقاب وحتمية انتصار المؤمنين ، كلّ ذلك غير قابل للتخلّف والتأخّر.

نعم ، إنّ هذا الخالق العظيم الذي له هذه «القدرة والعلم» والذي يدير هذا العالم بأجمعه ، لا بدّ أنّ أحكامه على صعيد تنظيم علاقات البشر وقضايا الطلاق وحقوق النساء ستكون بمنتهى الدقّة والإتقان.

أوردنا بحثا مفصّلا حول موضوع «الخلقة» في ذيل الآية (٥٦) من سورة الذاريات.

الجدير بالذكر أنّ هناك إشارات وردت في آيات عديدة من القرآن الكريم تبيّن الهدف من خلق الإنسان أو الكون ، وقد تبدو مختلفة ، ولكن بالنظرة الدقيقة نلاحظ أنّها ترجع إلى حقيقة واحدة.

١ ـ في الآية (٥٦) من سورة الذاريات يعتبر «العبادة» هي الهدف من خلق الجنّ والإنس( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) .

٢ ـ وفي الآية (٧) من سورة هود يضع امتحان الإنسان وتمحيصه كهدف لخلق السموات والأرض :( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) .

٣ ـ في الآية (١١٩) من سورة هود يقول : إنّ الرحمة الإلهية هي الهدف «ولذلك خلقهم».

٤ ـ وفي الآية مورد البحث اعتبر العلم والمعرفة بصفات الله هي الهدف «... لتعلموا ...».

٤٣٢

إنّ تدقيقا بسيطا في هذه الآيات يرينا أنّ بعضها مقدّمة للبعض الآخر ، فالعلم والمعرفة مقدّمة للعبودية ، والعبادة هي الاخرى مقدّمة للامتحان وتكامل الإنسان ، وهذا مقدّمة للاستفادة من رحمة الله «فتأمّل!»

ربّنا قد عرفتنا بهدف خلقك العظيم فأعنا على الوصول إلى ذلك الهدف.

اللهمّ ، إنّ رحمتك واسعة وكرمك دائم وقدرتك نافذة ، فأفض علينا من رحمتك.

اللهمّ ، إنّك أنزلت القرآن والرّسول لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فأخرجنا من ظلمات الذنوب وأهواء النفوس وأنر قلوبنا بنور الإيمان والتقوى.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة الطلاق

* * *

٤٣٣
٤٣٤

سورة

التّحريم

مدنيّة

وعدد آياتها اثنتا عشرة آية

٤٣٥
٤٣٦

«سورة التّحريم»

محتوى السورة :

تتكوّن هذه السورة من أربعة أقسام رئيسيّة :

القسم الأوّل : يرتبط بقصّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بعض أزواجه حينما حرم بعض أنواع الطعام على نفسه ، فنزلت الآيات من ١ ـ ٥ وفيها لوم لزوجات الرّسول لأسباب سنذكرها في سبب النزول.

القسم الثّاني : خطاب لكلّ المؤمنين في شؤون التربية ورعاية العائلة ولزوم التوبة من الذنوب ، وهو من الآية ٦ ـ ٨.

القسم الثّالث : وهو الآية التاسعة التي تتضمّن خطابا إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بضرورة مجاهدة الكفّار والمنافقين.

القسم الرّابع : وهو القسم الأخير للسورة ، من الآية ١٠ ـ ١٢ ويتضمّن توضيحا للأقسام السابقة بذكر نموذجين صالحين للنساء ، وهما (مريم العذراء ، وزوجة فرعون) ونموذجين غير صالحين (زوجة نوح ، وزوجة لوط) ويحذّر نساء النبي من هذين النموذجين الأخيرين ويدعوهنّ إلى الاقتداء بالنموذجين الأوّلين.

فضيلة تلاوة سورة التحريم :

في حديث عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من قرأ سورة يا أيّها النّبي لم تحرّم ما

٤٣٧

أحل الله لك أعطاه الله توبة نصوحا»(١) .

وفي حديث عن الإمام الصادق قال : «من قرأ سورة الطلاق والتحريم في فريضة أعاذه الله من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف أو يحزن وعوفي من النار وأدخله الله الجنّة بتلاوته إيّاهما ومحافظته عليهما لأنّهما للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(٢) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣١١.

(٢) (ثواب الأعمال) طبقا لنقل تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٦٧.

٤٣٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥) )

اسباب النّزول

وردت روايات عديدة في أسباب نزول هذه السورة في كتب الحديث

٤٣٩

والتّفسير والتاريخ ، عن الشيعة والسنّة ، انتخبنا أشهر تلك الروايات وأنسبها وهي :

كان رسول الله يذهب أحيانا إلى زوجته (زينب بنت جحش) فتبقيه في بيتها حتّى «تأتي إليه بعسل كانت قد هيّأته لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن لمّا سمعت عائشة بذلك شقّ عليها الأمر ، ولذا قالت : إنّها قد اتّفقت مع «حفصة» إحدى (أزواج الرّسول) على أن يسألا الرّسول بمجرّد أن يقترب من أيّ منهما بأنّه هل تناول صمغ «المغافير» (وهو نوع من الصمغ يترشّح من بعض أشجار الحجاز يسمّى «عرفط» ويترك رائحة غير طيّبة ، علما أنّ الرّسول كان يصرّ على أن تكون رائحته طيّبة دائما) وفعلا سألت حفصة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا السؤال يوما وردّ الرّسول بأنّه لم يتناول صمغ «المغافير» ولكنّه تناول عسلا عند زينب بنت جحش ، ولهذا أقسم بأنّه سوف لن يتناول ذلك العسل مرّة اخرى ، خوفا من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذّت على شجر صمغ «المغافير» وحذّرها أن تنقل ذلك إلى أحد لكي لا يشيع بين الناس أنّ الرّسول قد حرّم على نفسه طعاما حلالا فيقتدون بالرّسول ويحرّمونه أو ما يشبهه على أنفسهم ، أو خوفا من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألّم لذلك.

لكنّها أفشت السرّ فتبيّن أخيرا أنّ القصّة كانت مدروسة ومعدّة فتألّم الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك كثيرا فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضّح الأمر وتنهى من أن يتكرّر ذلك مرّة اخرى في بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وجاء في بعض الروايات أنّ الرّسول ابتعد عن زوجاته لمدّة شهر بعد هذا الحادث(٢) ، انتشرت على أثرها شائعة أنّ الرّسول عازم على طلاق زوجاته ، الأمر الذي أدّى إلى كثرة المخاوف بينهنّ(٣) وندمن بعدها على فعلتهن.

* * *

__________________

(١) هذا الحديث أورده في الأصل (البخاري) في ج ٦ ، من صحيحه ص ١٩٤ ، والتوضيحات التي ذكرت في الأقواس تستفاد من كتب اخرى.

(٢) تفسير القرطبي وتفاسير اخرى ذيل الآية مورد البحث.

(٣) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ١٦٣.

٤٤٠