الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية13%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140366 / تحميل: 8458
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لا غلوّ ولا تقصير

بل معرفة بحقّهم

والملاحظ ممّا تقدّم، من التوصية القرآنية عن الوقوع في كلّ من جانبي زيغ الغلوّ وزيغ التقصير، وكذلك لسان الروايات المتضمّن لاصطلاح الغلوّ والغلاة، والتقصير والمقصّرة، هو تخطئة كلا المنهجين والأمر بمنهج آخر يُعتمد فيه نفي الغلوّ الذي هو إفراط، ونفي التقصير الذي هو تفريط، وأنّ هذا النهج الوسط من الدقّة بمكانَةٍ يَصْعُب المحافظة على تجنّب الوقوع في الطرفين.

ومن ثمّ يُلاحظ، رسوخ هذا الاصطلاح في ذهنية علماء الطائفة الأقدمين والمتقدّمين والمتأخّرين، وتشدّدهم على توخّي نهج المعرفة والعارف بالأئمّة عليهم‌السلام ، وهو النهج الوَسَط، ومحاذرة الوقوع في طرفي الغلوّ والتقصير، فلا غلوّ ولا تقصير، بل معرفةِ عارفٍ بحقّهم عليهم‌السلام . وهذا ميزان أطّره لنا الكتاب والسنّة المطهّرة، نظير: لا تعطيل ولا تشبيه بل توصيف بما وصف به نفسه وهو التوحيد، ونظير: لا جبر ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرين.

كما يتبيّن ممّا تقدّم أنّ الغلوّ ذو درجات - وكذلك التقصير - شدةً وضعفاً، وأنّ محذور التقصير - لا سيّما في بعض مراتبه - ليس هو بأدون من محذور الغلوّ. وأنّ النجاة في سلوك نهج التعرّف وكسب المعرفة بكيفية مقاماتهم ومراتبهم، والتسليم الإجمالي أثناء ذلك السلوك.

هذا وقد وقف أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام قبالة ظاهرة التقصير في معرفة الأئمّة عليهم‌السلام ،

٢١

نظير وقوفهم أمام ظاهرة الغلاة، حتّى فشا وانتشر عند أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام أنّ التقصير والغلوّ والتفويض من الزيغ عن جادة سواء الحقّ، وهذا المعيار تلقّاه شيعتهم بتعليم منهم عليهم‌السلام ، وقد ورد مكرّراً تأكيدهم على زيارة قبورهم بحال كون الزائر عارفاً بحقّ الإمام حقّ معرفته، أو عارفاً بحقّه، وأنّ أدنى حقّ معرفة الإمام كونه منصوباً منتجباً من قبله تعالى لهداية الخلق.

ومحذور التقصير كونه يؤدّي بصاحبه إلى الإنكار والجحود، وبالتالي إلى نقص الإيمان أو المروق منه، ومن ثمّ قد ورد مستفيضاً (1) ، أو متواتراً الحثّ على التسليم، وأنّها من صفات الإيمان الكبرى، بل في بعضها أنّها من أعظم صفات الإيمان ولوازمه، وإليه تشير الآية الكريمة: ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ) (2) ، كما قد أُطلق عليه في الروايات الإخبات، كما في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ ) (3) .

ومن هذا الباب أيضاً ما ورد من حرمة الردّ للأحاديث المرويّة وإن كانت ضعيفة السند، وهذا الحكم وإن لم يكن بمعنى حجّية واعتبار الروايات الضعيفة، إلاّ أنّه يعني - فيما يعنيه - وجوب التسليم الإجمالي لِما صدر عنهم عليهم‌السلام ، فضلاً عمّا يتولّد من الأخبار الضعيفة نتيجة تراكم حساب الاحتمالات من تولّد المستفيض والمتواتر أو الموثوق بصدوره.

وهذا الحكم قد اتّفق عليه علماء الإمامية الأصوليون منهم والأخباريون، فاللازم في الخبر الضعيف ردّ عِلْمه إليهم، والتسليم إجمالاً بالواقع وحقائق الدين

____________________

(44) أُصول الكافي، ج1، ص 390، باب التسليم وفضل التسليم.

(45) سورة النساء: 65.

(46) سورة هود: 23.

٢٢

وإن لم نعلمها تفصيلاً، ولا يسوغ الردّ والإنكار ولا المبادرة بالنفي والإنكار.

وهذا المفاد ممّا قرّره الحكماء بقولهم: كلّ ما قَرع سمعك ممّا لم يزدك واضح البرهان فذره في بقعة الإمكان، ويشيرون بذلك إلى هذا المنهج المنطقي الفطري؛ من أنّ الإثبات كما يحتاج إلى دليل كذلك النفي والإنكار يحتاج إلى دليل.

ولك أن تقول: إنّ الفحص والتنقيب عن الأدلّة في الشبهات الحكمية من الأحكام الشرعية الفرعية إذا كان لازماً وكان إجراء الأُصول - النافية للتكليف قبل الفحص التامّ البالغ في أبواب الأدلّة - غير سائغٍ، فكيف يسوغ في المعارف العقائدية حول شؤونهم ومقاماتهم ومراتبهم المبادرة إلى النفي والإنكار من دون فحص تامّ ومن دون تضلّع وممارسة علمية ممتدّة؟ لا سيّما وأنّ أبواب الأدلّة في المعارف هي أضعاف مضاعفة على عدد وكمّ أبواب أدلّة الفروع، وكذلك الحال في آيات القرآن في المعرفة هي أضعاف آيات الأحكام الفرعية التي عددها خمسمائة ونيف، وهو أقل من عُشر آيات القرآن!

ويكفي للمتتبّع أن يُلاحظ المجاميع الروائية ككتب الصدوق، فإنّ أغلب أسمائها هي في أبواب وفصول المعارف، وكذلك بقيّة المحدّثين وأصحاب الجوامع الروائية من متأخّري الأعصار كصاحب البحار، حيث قد وضع لروايات الفروع عشر مجلّدات (الطبعة الحديثة)، بينما الغالب في بقية المجلّدات بحوث المعارف، فإذا كانت أدلّة المعارف بهذه السعة والترامي - فضلاً عن أهمّية وخطورة أحكام المعارف التي هي مدلول تلك الأدلّة -، فكيف يتهاون في الفحص والتنقيب والممارسة العلمية الطويلة؟ وكيف يتسنّى الفحص في كلّ تلك الأبواب في وقت قصير؟ فضلاً عن البحث في الدلالة، ومعالجة العامّ والخاصّ، والحاكم والمفسّر، وتأليف القرائن العديدة، والتمعّن في الدلالات الإلتزامية، وتبويب الأدلّة في طوائف،

٢٣

كيف يتمّ ذلك في برهة قصيرة؟ فلا يسوغ المبادرة بالإجابة بنفي ثبوت الأمر الفلاني أو الكذائي، أو زعم أنّه لم يقم دليل عليه، ونحو ذلك من التعابير، التي تطلق مع عدم استنفاذ الفحص وعدم المِراس والاضطلاع والخبرة المعرفية في تلك الأبواب، ومع عدم الإحاطة بأقوال علماء الإمامية، من المتكلّمين، والمحدّثين، والمفسّرين، على اختلاف مبانيهم ومشاربهم، والإحاطة بشتّى الوجوه المذكورة، وربط المسائل بعضها ببعض، فالحريّ والعزيمة - في مثل ذلك - هو التوقّف قبل استتمام الفحص، كما هو ديدن فتاوى وأجوبة الشيخ المفيد في المسائل العقائدية في الموارد التي لم يكمل تمحيصها ولم يستنفذ الوسع في الفحص والتنقيب عنها، بمثل قوله: لم أقف على الروايات في ذلك، أو المسألة بعد محتاجة إلى التأمّل، ونحو ذلك من التعابير.

وهذا منهج السالك المتعلّم من علومهم عليهم‌السلام على سبيل النجاة، وأمّا المبادرة بالنفي والإنكار فهو طابع منهج التقصير والمقصّرة.

٢٤

إلفات إلى

قاعدة في الغلو

قال تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ ) الآية (1) ، وقال تعالى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ) (2) .

ذُكر في تفسير هاتين الآيتين أنّ الغلوّ هو التجاوز عن الحدّ والزيادة والإفراط، وغير الحقّ الباطل، وادّعاء أنّه ما أنزل اللَّه. في المعجم الوسيط: (غلا السعر وغيره، غلواً وغلاءً، زاد وارتفع وجاوز الحدّ فهو غالي وغلي... و[ غلا ] فلان في الأمر والدين، تشدّد فيه وجاوز الحدّ وأفرط) (3) .

وظاهر الآيتين يشير إلى ضابطةٍ وقيد مقوّمٍ لمعنى الغُلوّ، وهو أنّ الغلوّ تجاوز الحدّ في الشي‏ء والإفراط فيه، بغير الحدّ الذي له في الدين، وبالتالي وضْعه في غير محلّه الذي وضعه له الدين، أي: التجاوز برتبته الرتيبة التي جعلها الدين لذلك الشي‏ء، ومن ثَمّ وضعه في غير حقّ موضعه الذي حُدّد في الدين، وإلى ذلك تشير الآية الثانية.

كما يلزم من الغلوّ القول على اللَّه بغير الحقّ؛ لأنّ التديّن والديانة بالإفراط في

____________________

1) النساء: 171.

2) المائدة: 77.

3) المعجم الوسيط، ج2، ص 660.

٢٥

الشي‏ء ينطوي على تشريعه و نسبة ذلك إلى دين اللَّه تعالى، وبالتالي الافتراء على اللَّه عزّ وجلّ، وإلى هذا المعنى تشير الآية الثانية.

ويتحصّل من ذلك: أنّ للغلوّ معنىً عامّ وهو التجاوز بالشي‏ء والإفراط في رتبته زيادةً على الرتبة التي حدّدها الشارع لذلك الشي‏ء. ولهذا المعنى العامّ موارد ومصاديق لا تحصى؛ إذ لا يقتصر الغلوّ على التأليه - وهو ما ارتكبته النصارى في النبيّ عيسى عليه‌السلام -، بل يعمّ الإفراط والتجاوز في كلّ شي‏ء زاد عن حدّه المرسوم في دين اللَّه، فلو أُعتُقِد في الإمام أنّه نبيّ لكان ذلك من الغلوّ، وكذا لو أُعتُقِد في النبيّ غير المرسَل أنّه رسول لكان من الغلوّ أيضاً، وهكذا لو اعتُقد في صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعصمة لكان من الغلوّ أيضاً، وكذا لو أُعتُقِد في علماء الأُمّة وفقهائها، أو في بعض العارفين السالكين، أو في بعض الحكماء والفلاسفة، بالعصمة لكان من الغلوّ أيضاً، وكذا لو أُعتُقِد في بعض أركان فروع الدين أنّه برتبة تفوق بعض أصول الدين الاعتقادية كان من الغلوّ أيضاً...

وبالجملة، فوضع أيّ شي‏ء في رتبةٍ زائدةٍ عن الرتبة التي حدّدها الدين لذلك الشي‏ء فهو من الغلوّ، ولا يقتصر ذلك على التأليه، كما لا يقتصر شكل الغلوّ ونموذجه على التصريح بالإفراط في رتبة الشي‏ء، بل قد يتّخذ أشكالاً وأنماطاً متعددة ترجع في جوهرها إلى الإفراط في الحدّ والرتبة، وذلك مثل ترتيب أحكام وآثار على ذلك الشي‏ء تتجاوز برتبتها عن رتبة الشي‏ء، مثل أن نجعل قول الصحابي في قِبال قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن الغريب زعم أهل سنّة الخلافة غلوّ الشيعة في أئّمتهم مع أنّهم لا يقولون فيهم إلاّ ما أجاز لهم القرآن في ذلك والنصوص النبوية بفقه غور تلك المعاني، ولم يتعدّوا في مقامات الأئّمة عليهم‌السلام إلاّ ما هو دون مقام سيّد الأنبياء عليهم‌السلام : (مسلِّمين للَّه، مطيعين لأمر رسوله).

٢٦

بينما ترى أنّ أهل سنّة الخلافة يقرّون ويصحّحون للصحابي - كالخليفة الثاني - مواقف يعترض فيها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ الوحي ينزل بتصويب الثاني وتخطأة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حكايات اختلقوها في أسباب النزول، مشحونة بالتناقض والتهافت.

أو يروون بأنّ الثاني كانت غِيْرَته على الدين - والعياذ باللَّه - أكثر من النبيّ، وأنّه أشدّ نكيراً للباطل منه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومع أنّهم ينفون وينكرون دعوى العصمة في الصحابي - حسب زعمهم - ومع ذلك تراهم يفرطون ويغلون فيه إلى ما فوق عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن جانب قد وقعوا في الغلوّ في شأن بعض الصحابة، ومن جانب آخر وقعوا في التقصير في شأن مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعصمته، التي قال تعالى: ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1) . وإنّ اجتهاد الصحابي على حدّ حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بزعم أنّه اجتهاد منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك جعل قول الحكيم، والفيلسوف، والعالِم، في قِبال قول المعصوم!.

هذا وقد ورد عن الأئمّة الأطهار أقوال تحثّ شيعتهم على تنزيههم عن الربوبيّة: (نزّلونا عن الربوبية) و (قولوا فينا إنّا عبيد مخلوقون) و(لا تزعموا أنّا أنبياء وقولوا فينا ما شئتم)، أي: في بيان الحدّ الذي هو دون الخالقية، أي حدّ المخلوق المكرّم عند اللَّه، (ولن تبلغوا كنه معرفتنا)، أي رتبة الإكرام والحظوة والزُلفى التي لهم عند اللَّه (2) ، وفي هذه القاعدة توصية بعدم الغلوّ فيهم، كما أنّ ذيلها متضمّن للتوصية بعدم التقصير بمعرفتهم.

____________________

1) سورة النجم: 2 - 4.

2) سيأتي بحثه مستقلاً في أبواب الفصول الآتية في معرفتهم.

٢٧

ملازمة بين الغلوّ والتقصير:

وبعد ما تبيّن أنّ للغلوّ أصنافاً وأقساماً عديدة، يجدر الإلفات إلى أنّ بعض أقسام الغلوّ هي ملازمةٌ إلى أنماطٍ من التقصير، بل التدقيق يُرشد إلى تلازم كلّ أنواع الغلوّ لنمطٍ من أنماط التقصير، فمثلاً التأليه للبشر المخلوق - من نبيّ أو إمام - هو في الواقع تقصير في معرفة الباري؛ للزومه الشرك، ونحوه، وكذلك البناء على العصمة في الصحابي رافقه الخدشة في عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبكلمةٍ جامعةٍ: إنّ الغلوّ كما هو وضع الشي‏ء زيادةً على رتبته، فهو يستلزم سلب الشي‏ء الآخر رتبتَه، وإعطائها للطرف الأوّل الذي حصل فيه الغلوّ، وهذا من ميزات باب الغلوّ والتقصير، أنّهما متلازمان من جهتين، وإن كانا متقابلين في الجهة الواحدة، فلا يظنّ أنّ الخلاص من الغلوّ هو بالتقصير، بل التقصير هو وقوع في الغلوّ من نمط آخر من حيث لا يشعر المقصّر.

قال الإمام الصادق عليه‌السلام : (إلينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصّر فنقبله. فقيل: كيف ذلك يابن رسول اللَّه؟ قال: لأنّ الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحجّ، فلا يقدر على ترك عادته وعلى الرجوع إلى طاعة اللَّه عزّ وجلّ أبداً، وإنّ المقصّر إذا عرف عمل وأطاع) (1) .

أسباب التقصير:

إنّ أسباب التقصير عديدة - كما هو الحال في أسباب الغلوّ - فبعضها ناجمٌ عن قصور عِلمي، وكلّ مورد بحسب العلم الذي يتكفّله، أو إلى عوامل نفسانية ذاتية، وبعضها عن تقصير.

____________________

1) أمالي الطوسي، ص 645، المجلس 33، ح 12.

٢٨

وقد تقدّم أنّ القصور حالة بشرية ملازمة لغير المعصوم مهما بلغ سعيه العلمي والعملي، إلاّ أنّ المحذور هو في إنكار ما وراء الحدّ الذي بلغه الشخص، بخلاف ما إذا كان مسلِّماً بما لا يحيط بمعرفته التفصيلية (1) .

نعم، هناك من الدواعي العمدية للتقصير قد ارتكبتها طوائف من هذه الأُمّة لمنازعة الحقّ أهله، ومدافعة الأئمّة المعصومين المطهّرين، تارةً في المقامات التكوينية، وهي الخلافة الإلهية في جانبها الملكوتي. وأُخرى في الحاكمية والإمامة السياسية، وهي الخلافة الإلهية في جانبها المُلكي لتدبير النظام الاجتماعي.

وممّن وقع في ورطة النموذج الأوّل: جملة غفيرة من الصوفية والعُرفاء، حيث قالوا: بأنّ القطب في كلّ زمن من الكُمّلين، وهو لا يقتصر على أشخاص بأعيانهم محدودين، بل هو مقام نوعي، وهو الغوث والإمامة النوعية.

وممّن وقع في النموذج الثاني: فقهاء أهل سنّة الجماعة، حيث بنوا على عدم لزوم العصمة في الحاكم، وأنّ دور العِلم الكسبي يكفي في إدارة الأُمور العامّة. ومن ثمّ ترى أصحاب النموذجين ينالون من مقامات أئمّة أهل البيت وقيعةً؛ بداعي فسح المجال لتسنّم مراتبهم.

ويشير إلى هذه الظاهرة في دواعي التقصير، وإلى النموذج الأوّل ما قاله علي بن الحسين عليه‌السلام ، قال: (انتحلت طوائف من هذه الأُمّة بعد مفارقتها أئمّة الدين والشجرة النبوية إخلاص الديانة، وأخذوا أنفسهم في مخائل الرهبانية، وتعالَوا في العلوم، ووصفوا الإيمان بأحسن صفاتهم، وتحلّوا بأحسن السنّة، حتّى إذا طال عليهم

____________________

1) كما ورد عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام : (لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا)، الكافي، ج2، ص 388، ح19.

٢٩

الأمد وبعدت عليهم الشقَّة، وامتحنوا بمحن الصادقين، رجعوا على أعقابهم ناكصين عن سبيل الهدى وعلم النجاة، يتفسّخون تحت أعباء الديانة تفسّخ حاشية الإبل تحت أوراق البزل.

ولا تحرز السبق الرزايا وإن جرت

ولا يبلغ الغايات إلاّ سبوقها

وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا، واحتجّوا بمتشابه القرآن فتأوّلوا بآرائهم، واتّهموا مأثور الخبر ممّا استحسنوا (1) ، يقتحمون في أغمار الشبهات، ودياجير الظلمات، بغير قبس نورٍ من الكتاب، ولا أثرة علم من مظانِّ العلم، بتحذير مثبطين، زعموا أنّهم على الرشد من غيِّهم. وإلى من يفزع خَلَف هذه الأُمّة؟ وقد درست أعلام الملّة، ودانت الأُمّة بالفرقة والاختلاف يكفّر بعضهم بعضاً، واللَّه تعالى يقول: ( وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) (2) .

فمَن الموثوق به على إبلاغ الحجّة وتأويل الحكمة إلاّ أهل الكتاب وأبناء أئمّة الهدى ومصابيح الدجى؟ الذين احتجّ اللَّه بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدى من غير حجّة. هل تعرفونهم أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجر المباركة، وبقايا الصفوة الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وبرّأهم من الآفات، وافترض مودّتهم في الكتاب؟

هم العروة الوثقى وهم معدن التقى

وخير حبال العالمين وثيقها) (3) .

بيّن عليه‌السلام أنّ هنالك نموذج من هذه الأُمّة ممّن ينازع الحقّ أهله - وهم أئمّة العترة - في بعد كمالاتهم الملكوتية، فهو ينسب نفسه إلى إخلاص الديانة، أي إلى درجة المخلِصين - بالكسر والفتح -، وتزيّوا بالرسوم الظاهرية من الرهبانية والزهد

____________________

1) في نسخة: (بما استحسنوا من أهوائهم).

2) سورة آل عمران: 105.

3) كشف الغمّة، ج2، ص 98 - 100.

٣٠

والانقطاع عن الدنيا، ونسبوا لأنفسهم مراتب من العلوم وأجهدوا أنفسهم في تحصيلها، وتبجّحوا في وصف الإسلام تعريضاً بالمديح لأنفسهم أنّهم يتحلّون بتمام درجات الإسلام، إلاّ أنّهم لم يتمكّنوا - لطبيعة شأنهم - في الاستقامة على هذا المنوال؛ لاحتياجه إلى إعداد رباني للذات الإنسانية، وهو الاصطفاء والانتخاب، وهم لم يُصطَفوا لذلك فلم يقدروا على مواصلة الطريق وتبيّن حال تقمّصهم لهذا المقام، وهو مقام الإمامة الملكوتية التي تنطوي على مقام العلم اللدنّي بمنبع غيبي، وعلى كمال روحي يكون فيه الشخص مخلَصاً - بالفتح - وعلى اتّصاف النفس بتمام الكمالات الروحية.

وهذا الغلوّ الذي ادّعاه هؤلاء لأنفسهم استلزم التقصير في من له حقّ تلك الرتبة، وهم الأئمّة من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما مرّ بنا: كلّ غلوّ يستتبع تقصير من جهة أُخرى، وإنّ كلّ تقصير يستتبع غلوّ من جهة أُخرى، وقد وقع في شراك هذا النموذج من الغلوّ والتقصير أكثر الصوفية وكثير من العُرفاء، حيث قالو: بأنّ القطب والغوث في كلّ زمان شخص، ويتبدّل من زمان إلى آخر، ولا ينحصر في عدد محدود، وإنّ الولاية الإلهية لنوع الواصلين، وبالتالي فالعصمة الذاتية تتعدّى وتتحقّق لكلّ سالك للقرب الإلهي، فباب الوصول الكامل مفتوح للكلّ.

وقال تعالى: ( قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِراً ولاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ) (1) .

وفي هذه الواقعة التي سردها لنا القرآن الكريم تنبيه على منهجية وضابطة في طبيعة الإنسان - بل وكلّ موجود مدرك -، وهي أنّ الأُمور التي يصعب عليه معرفتها

____________________

1) سورة الكهف: 67 - 70.

٣١

بالتفصيل، وتَبْهُم لديه وتَجْمُل حقيقتها عن أفق إدراكه، تحصل لديه النِفرَة والجموح عن الإذعان بها، فيبادر إلى الإذعان بنفيها، وكأنّه توصّل إلى أنّ نفيها هو الحقّ، مع أنّ فرض الحال أنّ الأمر مبهم ومجمل عليه، وأنّ إبائه ونفرته منه هو لأجل ذلك، لكن يحصل لديه الخلط بين ذلك وبين أن يحسبه أنّه من قبيل ما يعلم ببطلانه وبعدمه في الواقع. وهذا الخلط في كيفية الاستنتاج يُربك على الإنسان طريقة الاستنتاج الصحيحة؛ فإنّ المطلوب منطقياً ومنهجياً في الحالة الأُولى هو التوقّف عن النفي أو الإثبات، وعن الإنكار أو القبول تفصيلاً، والقيام بعملية الفحص العلمي، لا المبادرة باستنتاج النفي ومن ثمّ الإنكار والجحود.

وهذا المنهج جاري في كلّ مسألة صعبة ومعقّدة في أيّ علم من العلوم، كعلم الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، وغيرها من العلوم التجريبية، أو العلوم الإنسانية، أو علوم المعارف الإلهية، كما قد يحصل خلط لدى الإنسان بين حالة الفحص والبحث والتنقيب، وحالة التشكيك؛ فإنّ حالة التشكيك في ظاهر صورتها أنّها عملية تساءل وتنقيب، إلاّ أنّ في طياتها استنتاج عجول للنفي ومبادرة سريعة للإنكار غير مبنية على أُسس الفحص العلمي، والتمييز بين الحالتين غامضٌ يَدقّ على أفهام عامّة البشر.

ويذكر القرآن الكريم لنا مثالاً آخر في قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ

٣٢

تَكْتُمُونَ ) (1) . ففي المثال يضرب تعالى عبرة لنا بالملائكة مع قدسيتهم ومكانتهم، إلاّ أنّه لاحتجابهم عن علم الغيب الإلهي بدر منهم استنكار ما جهلوه، ومسارعة إلى التنديد به مع كونه الحقّ.

ويشير إلى النموذج الثاني الإمام أبو عبد اللَّه عليه‌السلام في قوله: (إنّما مَثل علي عليه‌السلام ، ومَثَلُنا من بعده مِن هذه الأُمّة كمَثَل موسى عليه‌السلام والعالم، حين لَقِيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه اللَّه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه، وذلك أنّ اللَّه قال لموسى: ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) (2) ، ثمّ قال: ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (3) ، وقد كان عند العالِم علم لم يُكتب لموسى في الألواح، وكان موسى يظنّ أنّ جميع الأشياء التي يحتاج إليها في نبوته، وجميع العلم قد كُتب له في الألواح. كما يظنّ هؤلاء الذين يدّعون أنّهم فقهاء وعلماء، وأنّهم قد أثبتوا جميع العلم والفقه في الدين ممّا تحتاج هذه الأُمّة إليه وصحّ لهم عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلموه وحفظوه.

وليس كلّ علم رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله علموه، ولا صار إليهم عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا عرفوه؛ وذلك أنّ الشي‏ء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه، ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول اللَّه، ويستحيون أن ينسبهم الناس إلى الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه.

ولذلك استعملوا الرأي والقياس في دين اللَّه، وتركوا الآثار ودانوا اللَّه بالبدع، وقد قال رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ بدعة ضلالة، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شي‏ء من دين اللَّه فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول اللَّه ردّوه إلى اللَّه وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم، لَعلِمهُ

____________________

1) سورة البقرة: 30 - 33.

2) سورة الأعراف: 144.

3) سورة الأعراف: 145.

٣٣

الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد عليهم‌السلام ، والذي منعهم من طلب العلم منّا العداوة والحسد لنا، لا واللَّه ما حسد موسى عليه‌السلام العالِم، وموسى نبيّ اللَّه يُوحي اللَّه إليه، حيث لقيه واستنطقه وعرّفه بالعلم ولم يحسد كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما عَلِمنا وما ورثنا عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يرغبوا إلينا في عِلمنا كما رَغب موسى عليه‌السلام إلى العالِم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالِمَ ذلك عَلِم العالِمُ أنّ موسى عليه‌السلام لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمَه ولا يصبر معه، فعند ذلك قال العالِم: ( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ) (1) ، فقال موسى عليه‌السلام له وهو خاضع له يستعطفه على نفسه كي يقبله: ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) (2) .

وقد كان العالم يعلم أنّ موسى عليه‌السلام لا يصبر على علمه، فكذلك - واللَّه يا إسحاق بن عمّار - حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم، لا يحتملون - واللَّه - علمنا ولا يقبلونه ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه، كما لم يصبر موسى عليه‌السلام على علم العالِم حين صحبه ورأى ما رأى من علمه، وكان ذلك عند موسى عليه‌السلام مكروهاً، وكان عند اللَّه رضاً وهو الحقّ وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه لا يؤخَذ وهو عند اللَّه الحقّ) (3) .

وفي هذه الرواية العديد من الوجوه على ضرورة موقعية الإمام في القيمومة على الشريعة، وسيأتي بيانها مفصّلاً، إلاّ أنّنا نقتصر في المقام على نبذة مجملة منها، وهي أنّ النبيّ موسى عليه‌السلام مع كونه نبيّاً مرسلاً من أولي العزم يتنزل عليه الوحي، أي إنّه محيط بالأحكام الشرعية وتشريعات اللَّه على ما هي عليه في الواقع، أي بالأحكام الواقعية، إلاّ أنّ ذلك لم يغنه عن العلم اللدنّي الذي أعطاه اللَّه

____________________

1) سورة الكهف: 68.

2) سورة الكهف: 69.

3) تفسير البرهان، ص 652 - 651.

٣٤

للخضر وهو الشريعة في نظامها الكوني والإرادات الإلهية التكوينية. وهذا العلم اللدنّي غير النبوّة، وهو حقيقة الإمامة، والذي كان مجتمعاً بشكله الأكمل والأتمّ في خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا تُغني الإحاطة بالأحكام الواقعية لكلّ تفاصيل ظاهر الشريعة عن شريعة الإرادات الإلهية الكونية وتأويلها، فضلاً عن إحاطة الفقهاء القاصرة عن الإلمام بكلّ الأحكام الواقعية لظاهر الشريعة.

بل الفقهاء - كما ذكر المحقّق النائيني في بحث الإجزاء - لا يحيطون بجميع الأحكام الظاهرية، التي دورها إحراز الأحكام الواقعية لظاهر الشريعة؛ فإنّ جملة من الأحكام التي يستنبطها هي أحكام تخيّلية، وهي التي ينكشف له كون استنباطها على غير الموازين من الأدلّة.

وبعبارة أُخرى: إنّ الفارق بين علم النبيّ موسى وعلم الفقهاء، إنّ علم النبيّ موسى ليس منبعه نقلي، بل هو منبع وَحْياني، بينما منبع علم الفقهاء ليس إلاّ ظنون معتبرة، فضلاً عمّا لو كانت ظنون تخيّلية يتوهّم أنّها معتبرة، ومع كلّ ذلك فلم يُغنِ علم النبيّ موسى - وهو صاحب الشريعة - عن علم التأويل الذي زوّده اللَّه تعالى للخضر لَدُنِيّاً، فكيف يفرض استغناء الفقهاء في أحكام الشريعة عن دوام الرجوع إلى المعصوم؟

٣٥

قاعدة آلية

لنفي الغلوّ والتقصير

وهي ما روي عنهم مستفيضاً من قاعدة: (نزّلونا عن الربوبية) ، (وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا).

فأمّا الروايات الواردة في ذلك فهي:

الأُولى: ما رواه الصدوق في الخصال من حديث الأربعمائة المعروف، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : (إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا عبيد مربوبون، وقولوا في فضلنا ما شئتم) (1) .

الثانية: ما رواه الصفّار في بصائر الدرجات، عن إسماعيل بن عبد العزيز، قال: (قال أبو عبد اللَّه عليه‌السلام في حديث: يا إسماعيل لا ترفع البناء فوق طاقته فينهدم، اجعلونا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا) (2) .

____________________

1) الخصال: ص 614، ط / قم، والبحار، ج10، ص 92.

وطريق الرواية الصدوق، عن أبيه، عن سعد، عن اليقطيني، عن القاسم بن يحيى، عن جدّه الحسن بن راشد، عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، وليس فيه من يتوقّف فيه سوى القاسم بن يحيى وجدّه الحسن بن راشد، وهما وإن لم يوثّقا إلاّ أنّ كلاًّ منهما صاحب كتاب ذكره في المشْيَخَة، وطريق الصدوق والشيخ صحيح إلى القاسم بن يحيى، ويروى كتابه أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري، وإبراهيم بن هاشم، وكذلك اليقطيني، وقد حكم الصدوق بصحّة ما رواه في زيارة الحسين عليه‌السلام عن الحسن بن راشد، وفي طريقه إليه القاسم بن يحيى، وقال: إنّ هذه الزيارة أصحّ الزيارات عنده رواية. الفقيه، حديث 1614 و1615.

2) بصائر الدرجات: ص 64 - 65.

٣٦

الثالثة: ما رواه الصفّار بسنده، عن كامل التمّار، قال: (كنت عند أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ذات يوم فقال لي: يا كامل، اجعل لنا ربّاً نؤوب إليه، وقولوا فينا ما شئتم. قال: قلت: نجعل لكم ربّاً تؤوبون إليه، ونقول فيكم ما شئنا؟ قال: فاستوى جالساً، ثمّ قال: وعسى أن نقول ما خرج إليكم من علمنا إلاّ ألف غير معطوفة (1) . والمراد من الألف غير المعطوفة كناية عن نهاية القلّة).

الرابعة: روى في كشف الغمّة من كتاب الدلائل للحميري عن مالك الجهني، قال: (كنّا بالمدينة حين أُجلبت الشيعة وصاروا فرقاً، فتنحينا عن المدينة ناحية، ثمّ خلونا فجعلنا نذكر فضائلهم وما قالت الشيعة، إلى أن خطر ببالنا الربوبية، فما شعرنا بشي‏ء، إذا نحن بأبي عبد اللَّه عليه‌السلام واقف على حمار، فلم ندرِ من أين جاء، فقال:

يا مالك، ويا خالد، متى أحدثتما الكلام في الربوبية؟ فقلنا: ما خطر ببالنا إلاّ الساعة. فقال: اعلما، أنّ لنا ربّاً يكلأنا بالليل والنهار نعبُده، يا مالك، ويا خالد، قولوا فينا ما شئتم، واجعلونا مخلوقين. فكرّرها علينا مراراً وهو واقف على حماره) (2) .

الخامسة: وروي في البحار في باب معرفتهم بالنورانية (أي: إنّ مبدأ خلقهم هو خلق أنوارهم)، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال: (يا سلمان ويا جندب. قالا: لبيك صلوات اللَّه عليك. قال عليه‌السلام : أنا أمير كلّ مؤمن ومؤمنة ممّن مضى وممّن بقي، وأيّدتُ بروح العظمة، وإنّما أنا عبدٌ من عبيد اللَّه، لا تسمّونا أرباباً وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنّكم لن تبلغوا من فضلنا كُنه ما جعله اللَّه لنا، ولا معشار العشر) (3) .

السادسة: ما رواه الراوندي في خرائجه عن خالد بن نجيع، قال: (دخلت على أبي عبد اللَّه عليه‌السلام وعنده خلق، فجلست ناحية وقلت في نفسي: ما أغفلهم، عند من

____________________

1) بصائر الدرجات، ص 149. والبحار ج 25، ص 283، ح 30.

2) كشف الغمّة عن معرفة الأئمة، ج2، ص 197.

3) البحار، ج26، ص 6.

٣٧

يتكلّمون! فناداني: إنّا واللَّه عبادٌ مخلوقون، لي ربّ أعبده؛ إن لم أعبده عذّبني بالنار. قلت: لا أقول فيك إلاّ قولك في نفسك.

قال: اجعلونا عبيداً مربوبين وقولوا فينا ما شئتم إلاّ النبوّة) (1) . ورواه في بصائر الدرجات بطريقين.

السابعة: ما رواه في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام ، عن آبائه عليهم‌السلام ، قال: (قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا تتجاوزوا بنا العبودية ثمّ قولوا ما شئتم ولا تغلوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصارى؛ فإنّي بريّ من الغالين) (2) .

ورواه في الاحتجاج عن تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : (قال الرضا عليه‌السلام : من تجاوز بأمير المؤمنين عليه‌السلام حدّ العبودية فهو من المغضوب عليهم والضالين).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : (لا تتجاوزوا بنا العبودية ثمّ قولوا ما شئتم ولن تبلغوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصارى؛ فإنّي بريّ من الغالين).

إلى أن قال، بعد شرح غلوّ النصارى: فكذلك هؤلاء، وجدوا أمير المؤمنين عبداً أكرمه اللَّه ليبيّن فضله، ويقيم حجّته، فصغر عندهم خالقهم أن يكون جعل عليّاً له عبداً، وأكبروا عليّاً عن أن يكون اللَّه عزّ وجلّ له ربّاً، فسمّوه بغير اسمه، فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملّته وشيعته، وقالوا لهم: يا هؤلاء! إنّ عليّاً ووُلده عبادٌ مكرمون مخلوقون مدبَّرون، لا يقدرون إلاّ على ما أقدرهم عليه اللَّهُ ربُّ العالمين، ولا يملكون إلاّ ما ملَّكهم) (3) .

الثامنة: ما في غُرر الحكم، (قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا

____________________

1) بصائر الدرجات، ج 65، ص 241. واثبات الهداة، للحرّ العاملي، ج 7، ص 477، حديث 68، و ج 5، ص 417، حديث 154.

2) البحار ج 4، ص 303، ح 31.

3) البحار، ج 25، ص 278 - 274، والاحتجاج، ج 2، 233.

٣٨

مربوبون واعتقدوا في فضلنا ما شئتم) (1) .

التاسعة: ما رواه الكُليني، عن عبد العزيز بن مسلم، قال: (كنّا مع الرضا عليه‌السلام ... ثمّ ساق حديثاً طويلاً عنه في الإمامة، وفيه:

إنّ الإمامة أجلّ قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً، وأمنع جانباً، وأبعد غوراً، مِن أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم... الإمام كالشمس الطالعة المجلَّلة بنورها للعالم، وهي في الأُفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار... فمن الذي يعرف معرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟ هيهات هيهات، ضلّت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون، وتصاغرت العظماء، وتحيّرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وحَصُرت الخطباء، وجهلت الألباء، وكلّت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء، عن وصف شأن مِن شأنه، أو فضيلة مِن فضائله، وأقرّت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكلّه، أو ينعت بكنه، أو يفهم شي‏ء من أمره، أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه، لا، كيف وأنّى؟ وهو بُعد النّجْم عن يد المتناولين، ووصف الواصفين، فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟) (2) .

وروى في المنتخب من بصائر الدرجات، لسعد بن عبد اللَّه الأشعري، عن ابن عيسى بإسناده إلى المفضّل، قال: قال أبو عبد اللَّه عليه‌السلام : (ما جاءكم منّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين، ولم تعلموه ولم تفهموه، فلا تجحدوه، وردّوه إلينا. وما جاءكم عنّا ممّا لا يجوز أن يكون في المخلوقين، فاجحدوه ولا تردّوه إلينا) (3) .

فبيّن عليه‌السلام أنّ الضابطة في صحّة إسناد النعوت والأوصاف لهم عليهم‌السلام ، والمدار في تحقيق مقاماتهم، ليس على عدم غرابة النعت، ولا على تعقُّلِنا لتلك النعوت وإمكان فهمنا لها تفصيلاً، ولا على أُنسَنا لتلك الأوصاف والنعوت، بل ولا على

____________________

1) غرر الحكم: ص 159.

2) أصول الكافي، ج1، ص 198 - 201.

3) البحار، ج 25، ص 364. ومستدرك سفينة البحار، ج1، ص 199.

٣٩

صحّة السند وعدمه، وإنّما المدار على إمكان كون تلك الصفة صفة المخلوقين، أي عالم الإمكان ما سوى اللَّه، وإن لم يكتنه العقل المحدود للبشر كنه حقيقة تلك الصفة بنحو التفصيل، لكنّه يدرك إجمالاً أنّ الصفةَ صفةُ ممكنٍ حادثٍ، لا صفةً مختصّةً بالذات الأزليّة الغنيّة.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ومنها: عرض أعمال العباد عليهم، قال تعالى: ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ، فإن عرض أعمال كل الأمة المخاطبة في هذه الآية لا يكون على الأمة المخاطبة، وإنما على عدَّة خاصة من المؤمنين الذين يتلون مقام رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وغيرها من المقامات والمناصب الأخرى.

ـ ومن الإشكالات: عدم وجود نص على نصب الفقيه نائباً عن المعصوم، وعندئذ نعود إلى مقتضى القاعدة عند عدم النص؛ وهو كونه بيد المجموع، والأصل عدم تسلُّط أحد على أحد.

وبتقريب آخر: إنه مع الإيمان بوجود الإمام عليه‌السلام في سماء الغيب إلاّ أنه مع عدم تمامية النص على فقيه معين يعني عدم وجود النائب الخاص.

والجواب: أن النص ثابت وجلي في نصب الفقيه كما تقدمت الإشارة إليه من الآية والروايات والدليل العقلي وقد حُرِّر في محلِّه، وقد نشير إليه بنحو أوفى مؤخَّرا.

مضافاً إلى أنه عند عدم النص على النائب كيف يصل الأمر إلى ولاية الشورى والحال أن المعصوم الحيّ هو الوليّ بالفعل؟ بل تصل النوبة طبقاً لقاعدة الحسبة، وهي إمّا يُستكشف منها نيابة الفقيه العادل كما قدمناه، وإمَّا يستكشف مجرد مأذونيه التصدي وتجعل القدر المتيقن هو الفقيه، وهذا واضح من الفقهاء الذين لم تتم لديهم أدلة النيابة العامة للفقيه طبقا ًلقاعدة الحسبة؛ فقد أسدوا جواز التصدِّي والتصرف للفقيه لكن من باب مجرد المأذونية، لا المنصب والتولية في الجهاد ونحوه. وبين التخرجين فروق مذكورة في تلك الأبواب.

وعليه فيمكننا القول إن المذهب الرسمي لفقهاء الإمامية لا ينتهي إلى قاعدة الشورى، بل لا يمكن ملائمة تلك القاعدة مع القول بالإمامة.

٢٤١

فلنستعرض ألان النظرية المختارة، والهدف منها هو: القراءة العقائدية للطرح الموجود في الفقه السياسي؛ أي أن الأطروحة هل تتلاءم مع الأسس التي أُسست في علم الكلام أم لا؟

والوجه الأخر الذي نريد الإشارة إليه هو أن أدلة النص على نيابة الفقهاء تامة، وهي تُوكِل تعيين المصداق الواجد للشرائط بيد الأمة وأنها تظل على مراقبته له. وهذه الطريقة لها نظائر في الفقه الإمامي:

* - في تولّي سُدَّة القضاء؛ فقد تسالم الفقهاء على أن للمتخاصمين وللمتنازعين أن يعيِّنوا مَن يشاؤون من القضاة الجامعي للشرائط فيختارون مَن شاؤوا ويرجعون إليه.

* - ما ورد في المرجعية وسُدَّة الفتيا؛ إذ مَن اجتمعت فيه الشرائط يصح للناس الرجوع إليه فيختار الناس مَن يشاؤون ممَّن اجتمعت فيه الشرائط، وجواز فتياه لا يكون بسبب رجوع الناس إليه، بل بالنصب العام من الإمام عليه‌السلام ‏لمَن اجتمعت فيه شرائط الفتيا.

٢٤٢

المبحث الخامس:

أدلة نصب الفقهاء

ـ أمَّا ما ورد من النصب للفقهاء بنحو عام، فيمكن الاستدلال به بما يأتي:

١ - في سورة المائدة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) (١) .

سبب النزول: يكاد يجمع المفسِّرون من العامة والخاصة على أن سبب النزول هو اختلاف بني النضير وبني قريظة، فقالت بنو قريظة إنه إذا قَتل منهم واحد شخصاً من بني النضير، قتلوا القاتل، وإذا كان القاتل من بني النضير والمقتول من بني قريظة، أعطوا الدية.

وكان اليهود إذا كان الزاني من الأشراف، لم يقيموا عليه الحد، وإذا كان من غيرهم، أقاموا عليه الحد. فنزلت هذه الآيات الشريفة لبيان ماذا يجب على علماء بني إسرائيل وربَّانيهم من الحكم.

ـ إن الآية تدل على أن العلماء مخوَّلون طولياً في طول الربَّانيين ( وهم أوصياء الأنبياء؛ بقرينة ذكرهم بعدهم وقبل الأحبار وغيرها من القرائن التي تقدَّمت الإشارة إليها ) لتولِّي سُدَّة القضاء والفتيا، والتي أُجملت في سدة الحكم. وهذه النيابة ثابتة بإذن المعصوم.

ـ إن هذا التفويض ليس مختصَّاً بعلماء بني إسرائيل؛ وذلك بقرينة كونه خطاباً

____________________

(١) المائدة ٥: ٤٤.

٢٤٣

للرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من بداية آية ٤١، وإنما ذكر التوراة لأنها هي التشريع الإلهي الذي يقضي به الأنبياء والربَّانيُّون والعلماء في ذلك الموقف فكذلك القرآن فيه التشريع الإلهي الذي يحكم به هؤلاء وإنّ هؤلاء هم الذين يصلحون للحكم.

ـ إن الحكم المذكور أعم من القضاء، بل يشمل الفتيا، والحكم إنما يقام لأجل أن يُعمل به ويُنفَّذ.

٢ - رواية عمر بن حنظلة:

جرى الكلام في مدى وثاقة عمر بن حنظلة حيث لم يُنص على توثيقه في كتب الرجال المعروفة؛ ولذا يعتبر البعض رواياته من المقبولات، ولكنَّنا نذهب إلى وثاقته، بل نعدّ هذه الرواية من الصحيح الأعلائي تبعاً لِمَا ذهب إليه عدَّة من الفقهاء منهم الشهيد الثاني، والدليل على ذلك:

أ - ما رواه في الكافي عن يزيد بن خليفة، قال: قلت لأبي ‏عبداللَّه عليه‌السلام : إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبوعبداللَّه‏ عليه‌السلام : (إذاً لا يكذب علينا).

وهذه الرواية واردة في مسألة حسَّاسة كانت محل خلاف بين كبار فقهاء الشيعة في الكوفة، فعندما يكون لابن حنظلة رأي يرويه عن الصادق عليه‌السلام ، فهذا يدل على مكانة علمية له ومرجعيَّته لثُلَّة من الشيعة كما لا يخفى على مَن أحاط خبراً بمسألة الوقت التي ثارت بين جماعة زرارة وجماعة أبي بصير وجماعة محمد بن مسلم وروايات يزيد بن خليفة متينة.

ب - نفس الرواية التي هي مورد الاستشهاد نلاحظ فيها التشقيقات الواردة، وجواب الإمام عن كل منها يدل على فقاهة وعلمية للسائل، وأن الإمام جاراه في تشقيقاته ولم يمانع.

جـ - يُروى عن محمد بن مسلم بسند صحيح (١) أن مشكلة حصلت لدى آل المختار فحمّلوها ابن حنظلة ليسأل الإمام عنها، وإذا عُلم أن ديدن الشيعة هو تحميل

____________________

(١) الوسائل: كتاب الإيمان، ب١١، ح١٠.

٢٤٤

المسائل للكبار المعروفين بالفضل، لاسيما من البيوتات المعروفة، وأن نفس محمد بن مسلم - مع منزلته ومكانته - هو الذي يروي الرواية ولم يذكر مغمزاً في ابن حنظلة ممّا يُدلِّل على أرفعية منزلة ابن حنظلة على ابن مسلم؛ إذ العادة في الأقران عدم التصريح بوقوع مراجعة لقرينه من وجهاء الشيعة في مسألة علمية مهمة.

د - رواية أصحاب الإجماع عنه.

هـ - أن ٢١ راويا مسلّم بوثاقتهم يروون عنه.

د - أن أخيه علي بن حنظلة نصّ على توثيقه، وهو دون أخيه وجاهة وعلمية (١) .

أمَّا فقه الرواية

فالبعض كالسيد الخوئي(‏قُدِّس سرُّه) ‏أصرّ على أن مورد الرواية هو في قاضي التحكيم، والمشهور هو دلالتها على قاضي التنصيب؛ والدليل على ذلك: أن القاضي الذي ينصبه الإمام حيث إنه يحتاج في إنفاذ حكمه وبسط يده إلى مؤازرة الناس، وعبّر عليه‌السلام بـ: (فليرضوا به حكَما)، إلاّ أنه قد جعله حاكماً في الرتبة السابقة معلِّلاً الأمر في (فليرضوا...) وألان تصل النوبة للناس حتى يرضوا به حكَماً.

ويؤيد ذلك أنه في معتبرة أبي خديجة - حيث وردت بنفس اللسان - يعترف السيد الخوئي أنها في قاضي التنصيب، ولا يُعلم وجه التفرقة بينهما.

وبعبارة أخرى: أنه في المعتبرة ذكر بعد (فليرضوا...) (فإني قد جعلته...) وليست الفاء للتفريع، بل هي تعليل لوجه الأمر بالرضا؛ ولو كان قاضي تحكيم لَمَا كان للتعليل وجه.

ويؤيده أنه ورد في المعتبرة: (فالراد عليه كالراد علينا)، ولو كان قاضي التحكيم لَمَا كان هناك وجه لاعتبار الراد عليه كالراد علينا، بل الوجه هو لأنه قاضٍ منصوب من قبل الإمام فالراد عليه هو راد على مقام الطاعة والولاية.

ومادة الحكم - كما ذكرنا - ليست خاصة بالفقهاء، بل الترافع سابقاً كان يجري لدى

____________________

(١) وللمزيد من التعرّف على حاله راجع: كتاب هويَّات فقهية - بحث حكم الحاكم في المِلاك.

٢٤٥

السلطات والقاضي على حد سواء، مضافاً إلى أن القاضي كان يمارس جميع الأمور الحسبية والفتيا بالجهاد (وهو أمر تنفيذي كما في الفتيا الملعونة لابن شريح بقتل سيد الشهداء عليه‌السلام ) وكذا إقامة الحدود والقصاص (وهو جانب تنفيذي يتعلق بأمن الدولة والمجتمع) وغيرها من المجالات التي يجدها المتصفِّح لعصر صدور الرواية، والتفكيك بين القضاء والفتيا وبين الممارسة السلطوية غير تام.

٣ - التوقيع الشريف الصادر عن الناحية المقدَّسة.

فقد اعتبره البعض ضعيفاً لوروده في الاحتجاج مرسلاً، لكن الشيخ الطوسي أورده في الغيبة بسند عالٍ؛ حيث يورده عن الكليني، وكان يتشدَّد في التوقيعات أكثر من تشدُّده في الرواية العادية، والسرُّ في ذلك أنه صادر عن الإمام الحي الفعلي، فهو يعيِّن التكليف الفعلي للسائل، مضافاً إلى ظروف التقيَّة، ووجود النائب الخاص الذي يستطيع تكذيبه، وأنّ إجابة الناحية المقدسة للسائل يعتبر نحو تشريفٍ له، فلو لم يكن التوقيع موثَّقاً لَمَا رواه الكليني.

نعم، قد أُشكل أنه لم يورد الكليني هذا التوقيع في الكافي، وجوابه: أن الكافي خالي من التوقيعات تماماً مع أنه معاصر للنوَّاب الخاصِّين؛ ويُعزى سبب ذلك إلى أن الكليني أراد أن ينشر كتابه ومع ظروف التقية واختفاء الإمام نقل التوقيع يُعلم منه وجود الإمام ونحوه.

ثُم إن الكليني يروى عنه الطوسي كثيراً من الروايات وهي غير موجودة في الكافي، فهذا يعني أنه لم يودع كل ما يرويه في الكافي، مضافاً إلى ضياع بعض مؤلَّفات الكليني وعدم وصولها إلينا.

أمَّا فقه الرواية:

فإن التوقيع يحمل أجوبة عن أسئلة متعددة لا ارتباط بينها، ومحل الاستشهاد الفقرة: (وأمَّا الحوادث الواقعة).

٢٤٦

أ - يصرف المحقق الأصفهاني في حاشية المكاسب ظهور هذه الفقرة عن محل الاستشهاد، ويذكر أن لها ارتباطاً بما ذُكر سابقاً في التوقيع ويتعرّض فيه لوقت الظهور، وأن الوقَّاتين كاذبون أو المقصود بالحوادث أي الأمور المرتبطة بعلامات الظهور لا ارتباط لها بجعل الفقهاء في سُدَّة الحكم والقضاء والفتيا.

ويجاب عنه: بأنّ الفاصل بين الفقرتين فقرات ترتبط بمواضيع أخرى، فلا يعقل أن تعود الحوادث لعلامات الظهور.

ب - واحتُمل أن يكون المراد من الحوادث هي الشبهات الواقعة من قبيل حكمها الكلي، فيرجع فيها إلى رواة الحديث والفقهاء. أو يقال يراد منها - بالإضافة إلى ما سبق -: الشبهات الحكمية من حيث حكمها الجزئي؛ أي من جهة فصل الخصومة، وهو القضاء، وجعل سُدَّة القضاء للفقيه. لكن الجمع بينهما غير ممكن؛ لأن الشبهة الحكمية من حيث حكمها الجزئي تتبع موازين القضاء، ومن حيث حكمها الكلي تتبع موازين الفتيا.

وقد استدل البعض للتعميم بقوله: (هم حجتي عليكم)، وهذا لا يناسب مقام الفتيا؛ إذ لا موقعية لكلام المعصوم، فالفتيا إخبار عن المعصوم، وهو مخبر محض عن الرسول عن اللَّه، فيكون المقصود الولاية في القضاء أو الولاية في تدبير الشؤون، وهذا أيضاً غير تام؛ لأن في فتيا الفقيه ونقله - في مقام الفتيا - عن المعصوم موضوعية، وليس طريقاً محضاً؛ إذ فتيا الفقيه هي دراية للحديث، لا رواية للحديث. وأمَّا كون فهم الفقيه فتيا مستندة إلى ما فهمه من قول المعصوم، فله موضوعية أيضاً؛ لحجية قول المعصوم، لا من باب أنه راوٍ بحت للحكم كبقية الرواة، بل إنهم ‏ عليهم‌السلام ‏يبلّغون عن اللَّه بقنوات ربانية مسدَّدة لا يداخلها الوهم والخيال ولا وساوس الشيطان ولا الهوى ولا الجهل، فمستسقى علمهم لَدُني؛ معصوم من الزلل والخطأ، ينقلونه بالحق والصواب، ويؤدُّونه إلى الخلق بالحق والصواب. فعلمهم ليس مرهون بدرجة

٢٤٧

التتبع والفحص وقوة التدبر والاستظهار نظير أفراد الفقهاء والمجتهدين، فلا يصح التنظير لحكمهم وإخبارهم عن اللَّه ورسوله وتقدمه على حكم وإخبار غيرهم برواية الأعدل والأضبط عند المعارضة برواية الأقل عدالة وضبطاً؛ فإن هذا التنظير مرتكِز على نظرة بقية المذاهب، لا نظرة الإمامية والنصوص القرآنية والنبوية في حقِّهم.

جـ - إن (ال) في الحوادث ليست عهدية أو إشارة إلى حوادث معينة، بل هي مطلقة تشمل كل الحوادث، ويدلِّل على ذلك أن هذا التعبير متَّخذ كالاصطلاح في الأوساط العلمية من العامة والخاصة آنذاك، بل منذ القرن الثاني يدل على مجريات الأمور الحادثة وسُدَّة الحكم. فراجع كلمات العامة عن متقدِّميهم.

ـ إنه قد ورد في التوقيع: (أنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللَّه) فهذا تصريح بالطولية وأن حُجِّـيَّـتهم منبثقة عن حجية المعصوم، وهي وإن لم تكن عينها، بل بينهما فوارق، لكن إطلاق المتعلَّق للحجية يفيد الشمول لكل من‏ الحكم والقضاء والفتيا. وبعبارة أخرى: أن متعلق حجيته (عج) سارية في ‏الموارد الثلاثة، ومع إطلاق النيابة المدلول عليها بالطولية في التعبير المزبور تشمل الموارد المزبورة مع التحفُّظ على عدم الإطلاق بنحو التطابق كما ذكرنا سابقاً لموضوعية العصمة كما لا يخفى.

وههنا إشكال معروف له صياغتان:

إحداهما: أنه كيف يُتصوَّر في عهد الغيبة الصغرى ومع وجود النوَّاب الخاصِّين، جعل النيابة العامة والولاية للفقهاء؟

والأخرى: أن رواية ابن حنظلة ومعتبرة أبي خديجة إذا استفيد منها النصب العام، فهو نصب من قبل الإمام الصادق‏ عليه‌السلام ‏فكيف يبقى ذلك التنصيب إلى زمن الحجة عليه‌السلام ‏والمعروف أنه بموت المنوب عنه تبطل النيابة؟

وجواب هذا الإشكال يُعلم من التأمل في حالة النيابة العامة وفلسفتها؛ حيث إن الأئمة عليهم‌السلام ‏وأتباعهم كانوا يعيشون ظرفاً خاصاً، فمع أنهم أرادوا المحافظة على المذهب وتعاليمه، أرادوا ألاّ يظهروا بمظهر المخالف؛ حتى لا ينالوا عقاب السلطة

٢٤٨

الحاكمة آنذاك. فمع هذه الظروف كان هناك وكلاء خاصُّون للأئمة، لكنَّهم كانوا محطَّ نظر لا يستطيع الشيعة الرجوع إليهم دائما، فجُعل النصب العام والنيابة العامة حتى يكون للأئمة عليهم‌السلام ‏أذرع مختلفة، فيسهل الأمر على الشيعة في الرجوع إليهم.

مضافاً إلى أن الحكم الولائي التنفيذي لا يلزم أن يكون مؤقَّتاً، بل يمكن أن يكون دائماً؛ فإذا وُجدت القرائن على ذلك - كصيغة الحكم هنا - ووردت على نحو القضية الحقيقية، دلَّت على عمومه وديمومته. نعم، إذا وُجدت قرائن تدل على توقيته، فإنه يبطل بوفاة الإمام مباشرة، وعندئذٍ لا يسمّى تنصيباً، بل يكون نحواً من الوكالة والمأذونية. أمَّا الديمومة، فإنها تُتَصوَّر في التنصيب.

هذا كله مضافاً إلى ما تقدم في المناقشات السابقة من الإشارة إلى الوجه العقلي للنيابة، ووجه قاعدة الحسبة في استكشاف النيابة للفقيه العادل وغيرها من الوجوه المحرَّرة في موضعها من علم الفقه.

الخلاصة:

١ - إن للفقيه الولاية بحسب بسط يده، وهذه نظرية مشهورة بين علماء الإمامية، فلاحظ ما ذكروه في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما صرَّح بذلك المفيد في أوائل المقالات وغيره من الفقهاء، فهم يقومون بالرقابة التنفيذية على شؤون الحاكمين إذا أُتيح لهم المجال، وهذه الرقابة لا تكون في مورد النزاع والتخاصم فقط، بل في المجال التنفيذي، نعم، ذلك لا يعني عدم استعانته بالخبرات الكفوءة، بل لابد منه كلٌّ حسب مجاله وخبرته واستشارتهم أو إيكال بعض الأمور في تلك المجالات لهم مع رقابته، وبعبارة أخرى: شكل الجهاز والنظام هو بحسب آليَّته بحسب الظروف مع مراعاة الموازين العامة.

٢ - في حالات عدم بسط اليد لا تكون الولاية لغيره؛ لأن بسط اليد من قبيل قيد الواجب، وهو فرض إمكان تنفيذ الوظيفة. نعم، في الأمور التي لا يستطيع مباشرتها يوكلها للمتخصِّص الكفؤ.

٢٤٩

٣ - التعبير الوارد (فارجعوا... فليرضوا... واجعلوا) خطاب عام لكل المكلَّفين بوجوب السعي إلى تعيين المصداق من بين الفقهاء كما مرَّ بيانه.

٤ - إن الاستشارة لازمة وإنْ كانت غير ملزِمة له، وأفضليَّـتها من باب أن الاستعانة بالعقل الجماعي أسد وأفضل ممَّا يتوصل إليه العقل الفرد، وهو ما يسمّى حديثاً بالاستعانة ببنك المعلومات.

٥ - ذكر بعض أصحاب التلفيق بين نظرية النص والشورى في كيفية الحكم في عصر الغيبة من أن النصوص عمومها مجموعي، وبالتالي يصل إلى شورى الفقهاء. وإن إرادة العموم الاستغراقي يلزم الترجيح بلا مرجِّح؛ إذ ترجع كل فئة إلى واحد، فترجيح أحدهما على الأخر يكون بلا مرجِّح.

والجواب عن هذا:

أ - أن ظاهر لسان الدليل: (فاجعلوا رجلاً...) هو الاستغراق لا المجموع، وديدن الفقهاء على استظهار الاستغراق منها، وتكون النتيجة أن يتصدَّى الكل للفتيا، ولو في عرض واحد، ويمارس الكل الجانب التنفيذي وإن كان في منطقة محدودة وإلاّ لزم في القضاء أن لا ينفذ إلاّ الحكم الصادر من المجموع، وهو كما ترى.

ب - أن استظهار الاستغراق لا ينافي إمكان أخذ شورى الفقهاء، إذ قد يرى الفرد والأمة الصلاحية في فَقِيهين أو أكثر، وقد أثير نظيره في بحث القضاء في أحكام اتخاذ قاضِيَين أو أكثر، ويذكرون هناك كيف يكون الحل عند الاختلاف.

وللمسألة تفريعات وتشقيقات تُستعرض في مواضعها.

٢٥٠

الفصل الثالث:

المقام الغيبي في الإمامة

٢٥١

٢٥٢

مقدِّمة:

المقام الغيبي في الإمامة

كما ذكرنا في بداية الكتاب أن الحديث حول الإمامة له جوانب متعددة وجهات مختلفة، وقد تناول علماؤنا المتقدمون والمتأخرون (رضوان اللَّه تعالى عليهم) البحث حول إثبات النص وإفحام الخصم وإقامة الأدلة المتنوِّعة على إثبات إمامة أمير المؤمنين‏ عليه‌السلام وخلافته عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أمثال: الإرشاد والغدير وعبقات الأنوار والمراجعات... وغيرها كثير، وكانت نتيجة هذه الجهود المتواصلة أن أصبح البحث حول صحة وتواتر حديث من أحاديث الولاية من السهولة واليسر ممَّا لا ينكره إلاّ مكابر أو معاند.

والبحث الذي نريد أن نتناوله هنا هو حقيقة الإمامة وماهيَّتها وكنهها، وهو ليس أمراً مبتكراً في بابه، فقد تناوله الأعلام لكن بنحو مضغوط ومبعثر في ذيل تفسير بعض الآيات القرآنية، وفي شرح بعض الأحاديث الشريفة، ونسعى إلى طرح ذلك من خلال نهج واضح وأسلوب يرفع الستار عن كثير من الحقائق التي خفيت في كتب الأقدمين ويعتبرها بعض أهل العصر من العجائب والغرائب، وقبل الشروع في ذلك نقدِّم ذكر بعض الأمور التي لها مدخليَّة في البحث:

أولاً: تحرير محل النزاع

يعتبر مصطلح الإمامة من الموضوعات التي كانت مثار بحث وجدل بين المتكلِّمين والفقهاء من الصحابة والتابعين وغيرهم منذ بدأ عصر الرسالة، وعندما

٢٥٣

يحرِّرون محل النزاع يقال: إن الإمامة ترادف الزعامة الدنيوية، وأن البحث حول الإمامة هو البحث حول مَن يجب أن يتولّى إدارة أمور المسلمين ومَن يكون له الأمر والنهي، وبالتعبير الحديث حصر محل النزاع في ما يصطلح عليه اليوم بـ: الفقه السياسي.

وتوسَّع بعض المتكلمين من الإمامية، بل أكثرهم، في محل النزاع، وأضافوا إليه الزعامة الدينية؛ بمعنى أنه بالإضافة إلى دور الإمام في إدارة شئون المجتمع، فهو يقوم ببيان الدين والذب عنه ونشر الأحكام الشرعية، فيُعد قوله وتقريره مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي.

ونحن لا ننكر هذين الموردين - وإن كان العامة قد أنكروهما وأصبح مورداً للنزاع - لكن نقول: إن الأمر لا ينحصر بهما، بل أن الإمامة تحمل في طيَّاتها معنى أوسع وأكبر ممَّا ذكره هؤلاء جميعا. ويمكننا القول أن علماءنا (رضوان اللَّه تعالى عليهم) ألجأتهم ظروف التخاصم والتقية إلى ذكر ذلك كمحل للنزاع ولا يحصرون اعتقادهم بالإمامة في هذا النطاق.

فالإمامة في حقيقتها هي محور الاتصال بين الأرض والسماء؛ حيث إن الاتصال الغيبي بين الخالق ومخلوقه لم ولن ينقطع منذ بدء الخليقة حتى قيام الساعة، فدائماً يوجد مَن يمثِّل تلك الصلة الروحية والمعنوية، ومِن هنا اعتبروا الإمامة امتداداً للنبوة والرسالة، فهي من تلك الجهة تؤدِّي نفس وظيفة النبوة في عالم الدنيا.

فإن الأدلة قائمة على ضرورة وجود حجة للَّه عزَّ وجل في كل زمان، وأن الاتصال لا ينقطع بوفاة النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا هو المقام الإلهي الذي يثبته الإمامية الاثني عشر، وهو من الأمور التي انفردوا بها عن بقية المذاهب حتى الإسماعيلية والزيدية، وهنا يكمن النزاع والخلاف مع المذاهب الأخرى، وتلك الحقيقة هي

٢٥٤

التي نريد إماطة اللثام عنها.

ومن الشواهد التي تؤيِّد ما ذكرناه: أن الأئمة في دعواهم للإمامة لم يكونوا ليقْصروا حديثهم على زعامة المسلمين، بل كانوا يركِّزون على مقامات أكبر من ذلك ويذكرون في كلماتهم اتصالهم بالغيب، وتحديث الملَك لهم، وأن علومهم من نور، وإطلاعهم على أعمال العباد، وأن ما لديهم هو علم لدني.

والجدير بالذكر أن مثل هذه الدعاوى لم تصدر عن غيرهم ممَّن عاصرهم أو مَن أتى بعدهم، بل غاية ما ادعوه هو تصدِّيهم للزعامة الدنيوية، ومن هنا نرى بعض المنحرفين يرمون الأئمة بدعوى الإلوهية والنبوة، وذلك لأن الأئمة كانوا يركزون على مسألة الاتصال بالغيب وهي أعم من النبوة والإمامة.

بل في موقف عمر بن الخطاب مع سلمان المحمدي ما يدلِّل على أعمق من ذلك؛ فقد روى الشيخ الطبرسي (١) أن سلمان قال لعمر: أشهدُ أني قد قرأت في بعض كتب اللَّه المنزلة أنك باسمك ونسبك وصفتك باب من أبواب جهنم. فقال لي: قل ما شئت! أليس قد أزالها اللَّه عن أهل هذا البيت الذين قد اتخذتموه أرباباً من دون اللَّه ؟(٢) .

وفي ذيل قوله تعالى: ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنَا ) (٣) يذكر البحراني في البرهان، وكذلك الطباطبائي في الميزان، أن نافع كان على خط الخليفة الثاني جالساً في المسجد الحرام في موسم الحج، إذ رأى أن الناس قد تجمعوا حول شخص، وهو الإمام الباقر عليه‌السلام ، فسأل هشام بن عبد الملك: مَن هذا الجالس الذي اجتمعت عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة.

____________________

(١) الاحتجاج، ٢١٠.

(٢) كتاب سليم بن قيس، ٩٠.

(٣) الزخرف، ٤٥.

٢٥٥

فهم كانوا يعرفون أن عقيدة الإمامية هي بأن هؤلاء هم الرابط بين السماء والأرض، فالتهمة بالربوبية ليست تهمة جديدة، بل لها جذورها من العصر الأول؛ والسبب في ذلك أن دعوى الربوبية - في أذهانهم - تختلف عن دعوى الإلوهية، فالربوبية تعني اتحاد الوسائط بين الأرض والسماء، وذلك لأن الإنسان بنفسه يذعن بعدم إمكانيته الاتصال بالغيب، وفي نفس الوقت يشهد عقله بأن الاتصال بالغيب لابد منه.

فحكم الفطرة يوجب أن تكون هناك واسطة، ولكن يجب في هذه الوسائط أمران:

أحدهما: أن تكون مجعولة من قبل الخالق الواحد الأحد، لا أن يختلقها بنو الإنسان كما كانوا يفعلون في الأصنام.

والثاني: أن لا تصل هذه الوسائط إلى رتبة الإلوهية، فهي مخلوقة للَّه، وهي ذليلة للَّه تعالى ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً ) (١) وخاضعة له سبحانه في السر والعلانية، وسوف يأتي مزيد بيان لهذا المطلب.

ثانياً: الإمامة وراثة نسَبية أم روحيّة؟

يُنسب إلى الشيعة القول بأن الإمامة وراثية، وبالتالي فهم يقولون إن الزعامة تنتقل بالوراثة كما تنتقل الرئاسة بين الملوك وأبنائهم. وهذا لا أساس له من الصحة؛ إذ بناء على ما ذكرنا من أن الإمامة مقام إلهي واتصال بالغيب، فإنها تكون بعيدة عن التوريث النسَبي، بل هي مقام تكويني ووراثة روحية بمعنى وجود استعداد في روح أخرى للكمالات التي أفيضت على روح سابقة، وعندما يقال: أن الإمامة وراثة فإن ما ذكرنا هو المقصود منه، قال تعالى ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ

____________________

(١) مريم ١٩: ٩٣.

٢٥٦

إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) (١) .

ثالثاً: الإمامة نصّ أم شورى؟

ممَّا ذكرنا في الأمر الأول يتَّضح أن مثل هذا المقام لا يكون بيد الانسان، بل للَّه عزَّ وجل يجعله حيث يشاء. أمَّا إذا اقتصرنا في محل النزاع على الزعامة الدنيوية، فواضح أن ما يطرحه العامة من جعله بيد الناس واختيارهم، يكون أوهم إلى العقول وأميل إلى النفوس، وكأنه أشبه بلغة العصر، لنفرة الإنسان من تسلُّط فئة معينة على إرادته وتقييدها في إدارة شئون مجتمعه، فطرح محل النزاع بتلك الصورة يخدم العامة. أمَّا على ما ذكرناه من حقيقة الإمامة، فيتضح السبب في إيكال ذلك الأمر إلى اللَّه عزَّ وجل، وما إن يجعل الحق تعالى إماما، فلا معنى للِّجوء إلى طرق أخرى لتعيين مَن له الزعامة الدنيوية، بل يكون هو المتعيَّن، وبتعبير آخر: أن مَن تثبت فيه الكمالات الروحانية العالية ومَن يتَّصل بالغيب لا يمكن أن يلجأ الناس إلى غيره لإدارة شئونهم، وبهذا ترى أن مركز الزعامة الدنيوية متفرِّع على ذلك المقام وتابع، كما رأينا في حياة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنه بعد ثبوت نبوته وإيمان الناس به، لم ينازع أحد في حاكميته.

والخلاصة: أنه يمكننا القول أن مقام الزعامة الدنيوية هو أدنى مراتب الإمامة ومقاماتها.

رابعاً: الاعتبار والتكوين

إن وظيفة النص في تعيين الإمام لا تنحصر في الجعل والاعتبار والإنشاء كما يقوم أي حاكم في تعيين حاكم آخر، بل إن النص سوف يكون كاشفاً عن الإرادة التكوينية والجعل الإلهي.

ومن هنا يتَّضح أن نصب الرسول - أو الإمام السابق - للإمام اللاحق، لا يقوم به مَن

____________________

(١) آل عمران:٣٤.

٢٥٧

تلقاء نفسه، بل هو بإيحاء من اللَّه عزَّوجل؛ فهو جعل اعتباري كاشف عن الجعل التكويني.

خامساً: الإمامة من أصول الدين

من الأمور المهمة التي تترتب على تغيير محل النزاع هو أن مسألة الإمامة تدخل في ضمن المسائل الاعتقادية الأصلية في الدين؛ لأنها تكون بمنزلة النبوة وإن اختلفت عنها، وتكون هذه المسألة ما بها النجاة يوم القيامة، بخلاف المسائل الاعتقادية غير الأصلية؛ وهي التي لا تكون النجاة يوم القيامة مرهونة بها.

بيان ذلك: أنا ذكرنا أن الركن الأساسي في مقام الإمامة هو مقام السفارة الإلهية، ومَن يكون سفيراً من قبل الغيب ومَن هو حجة اللَّه على خلقه، فالأمر الرئيسي هنا هو في الاعتقاد والتسليم بهذه السفارة والسفير، وهذا أمر اعتقادي وليس مسألة عملية فرعية. نعم، هذا المقام تلحقه شؤون عملية وفرعية، لكن الأمر الأساس هو الأمر الاعتقادي، كما هو الحال في بحث النبوة.

وللأسف الشديد نجد البعض يعبّر بأن مسألة الإمامة خارجة عن الأصول وداخلة في الفروع، وهذا بلا شك غفلة عن حقيقة الحال، وله لوازم فاسدة؛ من نحو عدم وجود فائدة عملية لهذا البحث في زماننا الحاضر، وذلك لأن الإمام غائب فينتفي موضوع الزعامة ولو انتفاء مؤقتا، كما أنه لا فائدة من البحث عمَّن كان يجب أن يخلف النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهذا حدث تاريخي قد مضى. أمَّا على ما ذكرنا، فإن البحث تبقى له أهميته القصوى؛ إذ قضية الاعتقاد لا ترتبط بحضوره وعدم حضوره، ولا بحياته وعدم حياته.

ومثل هذا في الوهن أن يقال: إن أهمية بحث الإمامة تنحصر في أن الإمام هل هو مصدر من مصادر التشريع الإسلامي أم لا؟ فهذا وإن كان صحيحاً إلا أن فائدة البحث لا تنحصر به، بل البحث في أمر اعتقادي جوانحي كما يُبحث حول النبوة مع

٢٥٨

عدم وجود نبي على قيد الحياة، إلاّ أن البحث له أهمية وخطورة من حيث وجوب الاعتقاد على كل مسلم.

فليس البحث حول مَن يكون رئيساً وزعيماً فقط، وليس البحث عن ميزان استنباط الأحكام الفرعية وهل السنة تشمل النبي والأئمة أم يقتصر فيها على النبي؟ فهذه كلها أمور فرعية تبتني على ذلك الأصل الاعتقادي، وهو أن الإمامة استمرار لمسيرة النبوة فالاعتقاد بها على نحو الاعتقاد بالنبوة.

سادساً: مقامات الأئمّة عليهم السلام

إن البحث قد يتعمَّق إلى البحث حول مقامات الأئمة (سلام اللَّه عليهم)، وليعلم أن مقام الإمامة مِن أهم هذه المقامات كما أن مقام الزعامة أدناها وأقلها، فتوجد مقامات أخرى تتجاوز الإمامة ككونهم كلمات اللَّه (١) وأسماء اللَّه الحسنى، وغيرها من المقامات العالية التي تعدُّ مِن أسرار معارف أهل البيت، وفي كل هذه المقامات لا يخرجون عن زيِّ العبودية، بل إن خضوعهم وتذللهم التام وفنائهم في المعبود هو الذي جعلهم ينالون هذه المقامات.

وبعض هذه المقامات يشاركهم فيها غيرهم من الأنبياء والمرسلين، وفي بعضها يتفرَّدون ويشاركون بها الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك الزهراء عليها‌السلام ‏تشاركهم في بعض هذه المقامات كمقام حجة اللَّه، كما ورد في الخبر المتواتر معنى (وفاطمة حجة اللَّه علينا) أو كون مصحفها مصدر من مصادر علومهم.

سابعاً: الوظيفة الشرعيّة

إذا تمَّ مقام الإمامة، فسوف يتوجَّه إلى المكلَّفين عدد من الوظائف الشرعية، بدءاً من الاعتقاد والمعرفة والتسليم إلى التولِّي والتبرِّي القلبي والعملي، ووظائف

____________________

(١) قال تعالى: ( إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) آل عمران، ٤٥.

٢٥٩

أخرى سوف نأتي على ذكرها في الخاتمة.

ولا يخفى أن هذه المقامات الأخرى لا يتوقف عليها الإيمان، فكثير من علمائنا في علم الرجال يشيرون إلى أن الاعتقاد بأدنى مراتبه، وهو إجمال الزعامة الدينية والدنيوية - كما هو حال كثير من الناس والرواة - كافٍ في اعتبارهم من الإمامية.

ثامناً: تحليل الاقتداء

وقد يطرح هاهنا إشكال؛ حاصله:

إن إثبات المقامات الغيبية للنبي والأئمة، وتعميق هذا الجانب في شخصيتهم البشرية، يتنافى مع جعلهم قدوة للبشرية، ولا يتلاءم مع أمر اللَّه عزَّ وجل باتباعهم واتخاذهم أسوة.

بيان ذلك: أن طبيعة الاقتداء والإتباع أن يأمل المقتدي من الوصول إلى مرتبة المقتدى، وأن يجعل همَّه الأول هو الوصول إليه والسير على هداه، وهذا يعني أن يكون المقتدى بمرتبةٍ ومقامٍ يمكن الوصول إليه. أمّا إذا كان مقامه ممَّا لا يمكن الوصول إليه، بل هو ممتنع المنال، فكيف يُجعل قدوة ونؤمَر باتخاذه أسوة؟! فعليه يجب حصر الجانب الغيبي في ما يظهرونه من معجزة لإثبات الرسالة والإمامة فقط.

وقد يطرح الإشكال بنحو آخر: بأن تعميق هذا الجانب الغيبي في أحكام الإقتداء في أحكام الدين، سوف يبعد الدين عن الجوانب الاجتماعية والمادية التي جعلها ضمن اهتماماته. وبتعبير آخر: أنه لو قلنا أن مِلاكات الأحكام أمور غيبية بعيدة عن التأثيرات الوضعية والدنيوية، فسوف يفقد المكلَّف الدافع المحرِّك للسعي وتحصيل تلك المِلاكات.

وفي الواقع ليس هذا الإشكال بصياغتيه شيئاً جديداً مبتكرا، بل هو إشكال يعود في جذوره إلى ما قبل الإسلام؛ حيث كان الناس يعتقدون أن الوصول والاتصال

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440