الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية18%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140559 / تحميل: 8466
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

لطيفة يشير إلى العلاقة القريبة بينهما ، وهكذا كان نوحعليه‌السلام يوضح لمخالفيه أمر التوحيد بالاستدلال عن طريق نظام الخلقة ويستدل كذلك بها على المعاد.

ثمّ يعود مرّة أخرى إلى آيات الآفاق وعلامات التوحيد في هذا العالم الكبير ، ويتحدث عن نعم وجود الأرض فيقول :( وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ) (١) .

ليست هي بتلك الخشونة بحيث لا يمكنكم الانتقال والاستراحة عليها ، وليست بتلك النعومة بحيث تغطسون فيها ، وتفقدون القدرة على الحركة ، ليست حارقة وساخنة بحيث تلقون مشقّة من حرّها ، وليست باردة بحيث تتعسر حياتكم فيها ، مضافا إلى ذلك فهي كالبساط الواسع الجاهز المتوفر فيه جميع متطلباتكم المعيشية.

وليست الأراضي المسطحة كالبساط الواسع فحسب ، بل بما فيها من الجبال والوديان والشقوق المتداخلة بعضها فوق البعض والتي يمكن العبور من خلالها.

( لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً ) .

«فجاج» على وزن (مزاج) ، وهو جمع فج ، وبمعنى الوادي الفسيح بين الجبلين ، وقيل الطريق الواسعة(٢) .

وبهذا فإنّ نوحعليه‌السلام يشير في خطابه تارة إلى العلامات الإلهية في السماوات والكواكب والسماوية ، وتارة أخرى إلى النعم الإلهية الموجودة في البسيطة ، وثالثة الى وجود الإنسان الذي يعتبر بحدّ ذاته دليل على معرفة الله تعالى وإثبات المعاد ، ولكن لم تؤثر أي من هذه الإنذارات والبشائر والرغائب والاستدلالات المنطقية في قلوب هؤلاء القوم المعاندين الذين استمروا

__________________

(١) بساط من أصل بسط بمعنى وبسط الشيء ، ولهذا فإنّ كلمة «بساط» تطلق على كل شيء واسع وأحد مصاديقها «البساط».

(٢) مفردات الراغب ، مادة (فج).

٦١

مخالفتهم وكفرهم ، وأخذتهم الأنفة عن الانقياد لحميد العاقبة ، وسنرى عاقبة هذا العناد في الآيات القادمة.

* * *

٦٢

الآيات

( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) )

التّفسير

لطف الله معك :

عند ما رأى نوحعليه‌السلام عناد قومه وقد بذل في سبيل هدايتهم منتهى مساعيه التي طالت مئات السنين ، وما كانوا يزدادون فيها إلّا فسادا وضلالا ، يئس منهم وتوجّه إلى ربّه ليناجيه ويطلب منه أن يعاقب قومه ، كما نقرأ في هذه الآيات محل البحث ،( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً ) .

٦٣

تشير هذه الآية إلى أنّ رؤساء هؤلاء القوم يمتازون بكثرة الأموال والأولاد ، ولكنّها لا تستخدم لخدمة الناس بل للفساد والعدوان ، ولا يخضعون لله تعالى ، وهذه الامتيازات الكثيرة سببت في طغيانهم وغيهم.

وإذا ما نظرنا إلى تاريخ الإنسان لوجدنا أنّ الكثير من رؤساء القبائل هم من هذا القبيل ، من الذين يجمعون المال الحرام ، ولهم ذرّية فاسدة ، ويفرضون في النهاية أفكارهم على المجتمعات المستضعفة ، ويكبّلونهم بقيود الظلم.

ثمّ يضيف في قوله تعالى :( وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً ) .

«كبّار» صيغة مبالغة من الكبر ، وذكر بصيغة النكرة ، ويشير إلى أنّهم كانوا يضعون خططا شيطانية واسعة لتضليل الناس ، ورفض دعوة نوحعليه‌السلام ، ومن المحتمل أن يكون عبادة الأصنام واحدة من هذه الخطط والأساليب ، وذلك طبقا للرّوايات التي تشير إلى عدم وجود عبادة الأصنام قبل عصر نوحعليه‌السلام وأن قوم نوح هم الذين أوجدوها ، وذكر أنّ في المدّة الزمنية بين آدم ونوحعليهما‌السلام كان هناك أناس صالحون أحبّهم الناس ، ولكن الشيطان «أو الأشخاص الشيطانيين» عمد إلى استغلال هذه العلاقة ، وترغّبهم في صنع تماثيل أولئك الصالحين بحجّة تقديسهم وإجلالهم ، وبعد مضي الزمن نسيت الأجيال هذه العلاقة التاريخية ، وتصورت أنّ هذه التماثل هي موجودات محترمة ونافعة يجب عبادتها ، وهكذا شغلوا بعبادة الأصنام ، وعمد الظالمون والمستكبرون إلى إغفال الناس وتكبيلهم بحبائل الغفلة ، وهكذا تحقق المكر الكبير.

وتدل الآية الأخرى على هذا الأمر ، إذ أنّها تضيف بعد الإشارة إلى خفاء هذا المكر في قوله تعالى :( وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ) .

ولا تقبلوا دعوة نوح إلى الله الواحد ، وغير المحسوس ، وأكدوا بالخصوص على خمسة أصنام ، وقالوا :( وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ) .

٦٤

ويستفاد من القرائن أنّ لهذه الأصنام الخمسة مميزات وخصائص ، وأنّها لقيت عناية بالغة من القوم الظالمين ، ولهذا كان رؤسائهم المستغلون لهم يعتمدون على عبادتهم لها.

وهناك روايات متعددة تشير إلى وجود وابتداع هذه الأصنام ، وهي :

١ ـ قال البعض : إنّها أسماء خمسة من الصالحين كانوا قبل نوحعليه‌السلام وعند ما رحلوا من الدنيا اتّخذوا لهم تماثيل لتبقى ذكرى ، وذلك بتحريك وإيحاء من إبليس ، فوقّروها حتى عبدت تدريجيا بمرّ العصور.

٢ ـ قيل أنّها أسماء خمسة أولاد لآدمعليه‌السلام كان كلّما يموت أحدهم يضعون له تمثالا وذلك لتخليد ذكراه ، وبمرور الزمن نسي ذلك الغرض وأخذوا يروجون عبادتها بكثرة في زمن نوحعليه‌السلام .

٣ ـ البعض الآخر يعتقد أنّها أسماء لأصنام في زمن نوحعليه‌السلام ، وذلك لأنّ نوحاعليه‌السلام كان يمنع الناس من الطواف حول قبر آدمعليه‌السلام فاتخذوا مكانه تماثيل بإيعاز من إبليس وشغلوا بعبادتها(١) .

وهكذا انتقلت هذه الأصنام الخمسة إلى الجاهلية العربية ، وانتخبت كل قبيلة واحدة من هذه الأصنام لها ، ومن المستبعد أن تكون الأصنام قد انتقلت إليهم ، بل إنّ الظاهر هو انتقال الأسماء إليهم ثمّ صنعهم التماثيل لها ، ولكن بعض المفسّرين نقلوا عن اين عباس أنّ هذه الأصنام الخمسة قد دفنت في طوفان نوحعليه‌السلام ، ثمّ أخرجها الشيطان في عهد الجاهلية ودعا الناس إلى عبادتها(٢) .

وفي كيفية تقسيم هذه الأصنام على القبائل العربية في الجاهلية ، قال البعض : إنّ الصنم (ود) قد اتّخذته قبيلة بني كلب في أراضي دومة الجندل ، وهي مدينة قريبة من تبوك تدعي اليوم بالجوف ، واتّخذت قبيلة هديل (سواعا) وكانت

__________________

(١) مجمع البيان ، تفسير علي بن ابراهيم ، تفسير أبو الفتوح الرازي ، وتفاسير اخرى ذيل الآيات التي هي مورد البحث.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ١٠ ، ص ٦٧٨٧.

٦٥

في بقاع رهاط ، واتّخذت قبيلة بني قطيف أو قبيلة بني مذحج (يغوث) ، وأمّا همدان فاتّخذت (يعوق) ، واتّخذت قبيلة ذي الكلاع (نسرا) ، وهي قبائل حمير(١) .

وعلى كل حال ، فإنّ ثلاثة منها أي (يغوث ويعوق ونسر) وكانت في اليمن ولكنّها اندثرت عند ما سيطر ذو نؤاس على اليمن ، واعتنق أهلها اليهودية(٢) .

يقول المؤرخ الشهير الواقدي : كان الصنم (ود) على صورة رجل ، و (سواع) على صورة امرأة و (يغوث) على صورة أسد و (يعوق) على صورة فرس و (نسر) على صورة نسر (الطائر المعروف).(٣)

وبالطبع أنّ هناك أصنام أخرى كانت لعرب الجاهلية ، منها «هبل» الذي كان من أكبر أصنامها التي وضعوها داخل الكعبة ، وكان طوله ١٨ ذراعا ، والصنم (أساف) المقابل للحجر الأسود ، والصنم (نائلة) الذي كان مقابل الركن اليماني (الزاوية الجنوبية للكعبة) وكذلك كانت (اللات) و (العزى).(٤)

ثمّ يضيف عن لسان نوحعليه‌السلام :( وَقَدْ أَضَلُّوا ) (٥) ( كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً ) المراد من زيادة الضلال للظالمين هو الدعاء بسلب التوفيق الإلهي منهم : ليكون سببا في تعاستهم ، أو أنّه دعاء منه أن يجازيهم الله بكفرهم وظلمهم ويسلبهم نور الإيمان ، ولتحلّ محله ظلمة الكفر.

أو أنّ هذه هي خصوصية أعمالهم التي تنسب إلى الله تعالى ، وذلك لأنّ كل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٦٤ ، وأعلام القرآن ، ص ١٣١.

(٢) المصدر السابق.

(٣) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٦٤.

(٤) المصدر السابق.

(٥) الضمير في «أضلوا» يعود إلى أكابر قوم نوحعليه‌السلام بقرينة الآية السابقة :( وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ ) واحتمل بعض المفسّرين أنّ الضمير يعود إلى (الآلهة) لأنّها سببت في ضلالهم وجاء ما يشابه ذلك في الآية (٣٦) من سورة ابراهيمعليه‌السلام وبصورة ضمير جمع المؤنث لا ضمير جمع المذكر ، وهذا الاحتمال بعيد.

٦٦

موجود يؤثر أي تأثير فهو بأمر من الله تعالى ، وليس هناك ما ينافي الحكمة الإلهية في مسألة الإيمان والكفر والهداية والضلالة ولا يسبب سلب الإختيار.

وبالتالي فإنّ الآية الأخيرة في البحث ، يقول الله تعالى فيها :

( مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً ) .(١)

تشير الآية إلى ورودهم النّار بعد الطوفان ، وممّا يثير العجب هو دخولهم النّار بعد الدخول في الماء! وهذه النّار هي نار البرزخ ، لأنّ بعض الناس يعاقبون بعد الموت ، وذلك في عالم البرزخ كما هو ظاهر في سياق بعض الآيات القرآنية ، وكذا ذكرت الرّوايات أنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النيران.

وقيل من المحتمل أن يكون المراد بالنّار هو يوم القيامة ، ولكن بما أنّ وقوع يوم القيامة أمر حتمي وهو غير بعيد ، فإنّها ذكرت بصورة الفعل الماضي.(٢) واحتمل البعض أنّ المراد هي النّار في الدنيا ، حيث يقولون أنّ نارا قد ظهرت بين تلك الأمواج بأمر من الله تعالى وابتلعتهم.(٣)

* * *

__________________

(١) «من» في( خَطِيئاتِهِمْ ) بمعني باء السببية أو (لام التعليل) و (ما) زائدة للتأكيد.

(٢) الفخر الرازي ينقل ذلك في تفسيره بعنوان قول من الأقوال في ج ٣٠ ، ص ١٤٥.

(٣) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٣٨٠.

٦٧

الآيات

( وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨) )

التّفسير

على الفاسدين والمفسدين أن يرحلوا :

هذه الآيات تشير إلى استمرار نوحعليه‌السلام في حديثه ودعائه عليهم فيقول تبارك وتعالى :( وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ) .

دعا نوحعليه‌السلام بهذا الدعاء عند ما يئس من هدايتهم بعد المشقّة والعناء في دعوته إيّاهم ، فلم يؤمن إلّا قليل منهم.

والتّعبير بـ «على الأرض» يشير إلى أنّ دعوة نوحعليه‌السلام كانت تشمل العالم ، وكذا مجيء الطوفان والعذاب بعده.

«ديار» : على وزن سيار ، من أصل دار ، وتعني من سكن الدّار ، وهذه اللفظة تأتي عادة في موارد النفي المطلق كقول : ما في الدار ديّار ، أي ليس في الدار أحد.(١)

__________________

(١) قال البعض أنّ الأصل كان (ديوار) على وزن حيوان ثمّ بدلت الواو بـ (ياء) وأدغمت في الباء الاولى وصارت ديار (البيان

٦٨

ثمّ يستدل نوحعليه‌السلام للعنه القوم فيقول :( إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً ) ، وهذا يشير إلى أنّ دعاء الأنبياء ومن بينهم نوحعليه‌السلام لم يكن ناتجا عن الغضب والانتقام والحقد ، بل إنّه على أساس منطقي ، وأنّ نوحاعليه‌السلام ليس ممن يتضجر ويضيق صدره لأوهن الأمور فيفتح فمه بالدعاء عليهم. بل إنّ دعا عليهم بعد تسعمائة وخمسين عاما من الصبر والتألم والدعوة والعمل المضني.

ولكن كيف عرف نوحعليه‌السلام أنّهم لن يؤمنوا أبدا وأنّهم كانوا يضللون من كان على البسيطة ويلدون أولادا فجرة وكفّارا.

قال البعض : إنّ ذلك ممّا أعطاه الله تعالى من الغيب ، واحتمل أنّه أخذ ذلك عن طريق الوحي الإلهي حيث يقول الله تعالى :( وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ ) .(١) (٢)

ويمكن أن يكون نوح قد توصل إلى هذه الحقيقة بالطريق الطبيعي والحسابات المتعارفة ، لأنّ القوم الذين بلّغ فيهم نوحعليه‌السلام تسعمائة وخمسين عاما بأفصح الخطب والمواعظ لا أمل في هدايتهم ، ثمّ إنّ الغالبية منهم كانوا من الكفار والأثرياء وهذا ممّا كان يساعدهم على إغواء وتضليل الناس ، مثل أولئك لا يلدون إلّا فاجرا كفّارا ويمكن الجمع بين هذه الاحتمالات الثّلاثة.

«الفاجر» : يراد به من يرتكب ذنبا قبيحا وشنيعا.

«كفّار» : المبالغ في الكفر.

__________________

في غرائب القران ، ج ٢ ، ص ٤٦٥ ، تفسير الفخر الرازي ، ذيل هذه الآيات).

(١) هود ، ٣٦.

(٢) ورد هذا المعنى أيضا في الرّوايات كما في تفسير الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٢٨.

٦٩

والاختلاف بين هذين اللفظين هو أن أحدهما يتعلق بالجوانب العملية ، والآخر بالجوانب العقائدية.

ويستفاد من هذه الآيات أنّ العذاب الإلهي إنّما ينزل بمقتضى الحكمة ، فمن يكن فاسدا ومضللا ولأولاده ونسله لا يستحق الحياة بمقتضى الحكمة الإلهية ، فينزل عليهم البلاء كالطوفان أو الصّاعقة والزلازل ليمحو ذكرهم كما غسل طوفان نوحعليه‌السلام تلك الأرض التي تلوثت بأفعال ومعتقدات تلك الأمة الشريرة ، وبما أنّ هذا القانون الإلهي لا يختصّ بزمان ومكان معينين ، فإنّ العذاب الإلهي لا بدّ أن ينزل إذا ما كان في هذا العصر مفسدون ولهم أولاد فجرة كفّار ، لأنّها سنّة إلهية وليس فيها من تبعيض.

ويمكن أن يكون المراد بـ( يُضِلُّوا عِبادَكَ ) الجماعة القليلة المؤمنة التي كانت مع نوحعليه‌السلام ، ولعل المراد منها عموم الناس المستضعفين الذين يتأثرون بالطواغيت.

ثمّ يدعو نوحعليه‌السلام ، لنفسه ولمن آمن به فيقول :( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً ) .(١)

طلب المغفرة هذا من نوحعليه‌السلام كأنّه يريد أن يقول إنني وإن دعوة قومي مئات السنين ولقيت ما لقيت من العذاب والإهانة ، ولكن يمكن أن يكون قد صدر منّي الترك الأولى ، فلذا أطلب العفو والمغفرة لا أبرئ نفسي أمام الله تعالى.

هذا هو حال أولياء الله ، فإنّهم يجدون أنفسهم مقصرين مع كلّ ما يلاقونه من محن ومصاعب ، ولهذا تجدهم غير مبتلين بآفات الغرور والتكبر ، وليس كالذين يتداخلهم الغرور عند إتمامهم لعمل صغير ما يمنون به على الله تعالى ، ويطلب نوحعليه‌السلام المغفرة لعدّة أشخاص وهم :

__________________

(١) «تبار» : تعني الهلاك ، وقيل الضرر والخسارة.

٧٠

الأوّل : لنفسه ، لئلا يكون قد مرّ على بعض الأمور المهمّة مرورا سريعا ، ولم يعتن بها.

الثّاني : لوالديه ، وذلك تقديرا لما تحمّلاه من متاعب ومشقّة.

الثّالث : لمن آمن به ، وإن كانوا قلائل ، الذين اصطحبوه في سفينته التي كانت بمثابة الدار لهعليه‌السلام .

الرّابع : للمؤمنين والمؤمنات على مرّ العصور ، ومن هنا يوثق نوحعليه‌السلام العلاقة بينه وبين عموم المؤمنين في العالم ، ويؤكّد في النهاية على هلاك الظالمين ، وأنّهم يستحقون هذا العذاب لما ارتكبوه من ظلم.

* * *

بحث

نوحعليه‌السلام أوّل أنبياء أولي العزم

ذكر نوحعليه‌السلام في كثير من الآيات القرآنية ، ومجموع السور التي ذكر فيهاعليه‌السلام (٢٩) سورة ، وأمّا اسمهعليه‌السلام فقد فقد ورد ٤٣ مرّة.

وقد شرح القرآن المجيد أقساما مختلفة من حياتهعليه‌السلام شرحا مفصلا ، وتتعلق أكثرها بالجوانب التعليمية والتربوية والمواعظ ، وذكر المؤرخون أنّ اسمه كان «عبد الغفار» أو «عبد الملك» أو «عبد الأعلى» ، ولقب بـ «نوح» لأنّه كان كثير النياحة على نفسه أو على قومه ، وكان اسم أبيه «لمك» أو «لامك» ، وفي مدّة عمرهعليه‌السلام اختلاف ، فقال البعض : ١٤٩٠ عاما ، وجاء في بعض الرّوايات أنّ عمره ٢٥٠٠ عام ، وأمّا عن أعمار قومه الطويلة فقد قالوا ٣٠٠ عام ، والمشهور هو أن عمره كان طويلا ، وصرح القرآن بمدّة مكثه في قومه وهي ٩٥٠ عاما ، وهي مدّة التبليغ في قومه ، كان لنوحعليه‌السلام ثلاثة أولاد ، وهم (حام) (سام) (يافث) ويعتقد المؤرخون بأنّ انتساب البشر يرجع إلى هؤلاء الثلاثة ، فمن

٧١

ينتسب إلى حام يقطن في القارة الإفريقية ، والمنتسبون لسام يقطنون الأوسط والأقصى ، وأمّا المنتسبون إلى يافث فهم يقطنون الصين ، وقيل أنّ المدّة التي عاشها بعد الطوفان ٥٠ عاما ، وقيل ٦٠ عاما.

وورد بحث مفصل عن حياة نوحعليه‌السلام في التوراة المتواجد حاليا ، إلّا أنّ هناك اختلافا كبيرا بينه وبين القرآن المجيد ، وهذا الاختلاف يدل على تحريف التوراة ، وقد ذكرت هذه البحوث في الفصول ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ، ١٠ من سفر التكوين للتوراة.

وكان لنوحعليه‌السلام ابن آخر يدعى (كنعان) وكان مخالفا لأبيه ، إذ رفض الالتحاق به في السفينة ففقد بقعوده هذا الشرف الانتساب إلى بيت النبوّة ، وكانت عاقبته الغرق في الطوفان كبقية الكفّار ، وأمّا عن عدد المؤمنين الذين آمنوا به وركبوا السفينة معه فقد قيل ٧٠ نفرا ، وقيل ٧ أنفار ، ولقد انعكست آثار كثيرة من قصّة نوحعليه‌السلام في لأدب العربي وأكثرها قد حكت عن الطوفان وسفينة النجاة.(١)

كان نوحعليه‌السلام اسطورة للصبر والمقاومة ، وقيل هو أوّل من استعان بالعقل والاستدلال المنطقي في هداية البشر ، بالإضافة الى منطق الوحي (كما هو واضح من آيات هذه السورة) وبهذا الدليل يستحق التعظيم من قبل جميع الناس.

وننهي ما وضحناه عن نوحعليه‌السلام بحديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام إذ قال : «كان نوحعليه‌السلام يدعو حين يمسي ويصح بهذا الدعاء : «أمسيت أشهد أنّه ما أمسى بي من نعمة في دين أو دنيا فإنّها من الله لا شريك له ، له الحمد بها عليّ والشكر كثيرا ، فأنزل الله :( إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً ) فهذا كان شكره».(٢)

في قوله تعالى :( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ) قيل في معني البيت هنا هو بيته الخاص ، وقيل المسجد ، وقيل سفينة نوح ، وقيل هو دينه وشريعته.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١١.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ٢٩١ ، ح ٣.

٧٢

وورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام أنّه قال : «من دخل في الولاية دخل في بيت الأنبياء».(١)

اللهمّ ارحمنا بقبول ولاية أهل البيتعليه‌السلام حتى ندخل بيت الأنبياء.

ربّنا ، منّ علينا بالاستقامة كما مننت على الأنبياء كنوحعليه‌السلام لنبقى دعاة إلى دينك بلا تقاعس.

اللهم ، نجّنا بسفينة نجاة لطفك ورحمتك عند نزول الطوفان غضبك وسخطك.

آمين يا ربّ العالمين

نهاية سورة نوحعليه‌السلام

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٢٩.

٧٣
٧٤

سورة

الجنّ

مكيّة

وعدد آياتها ثمان وعشرون آية

٧٥
٧٦

«سورة الجن»

محتوى السورة :

تتحدث هذه السورة حول نوع من الخلائق المستورين عن حواسنا ، وهم الجن ، كما سمّيت السورة باسمهم ، وأنّهم يؤمنون بنبيّنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن خضوعهم للقرآن وإيمانهم بالمعاد ، وأنّ فيهم المؤمن والكافر وغير ذلك ، وفي هذا القسم من السورة (١٩) آية من (٢٨) آية تصحح ما حرّف من معتقدات حول الجن ، وهناك قسم آخر من السورة يشير إلى التوحيد والمعاد ، والقسم الأخير يتحدث عن علم الذي لا يعلمه إلّا ما شاء الله.

فضيلة سورة الجن :

ورد في حديث عن الرّسول الأكرم : «من قرأ سورة الجن اعطي بعدد كلّ جني وشيطان صدق بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذّب به عتق رقبة».(١)

وفي حديث آخر عن الإمام الصّادقعليه‌السلام : «من أكثر قراءة( قُلْ أُوحِيَ ) لم يصبه في الحياة الدنيا شيء من أعين الجن ولا نفثهم ولا سحرهم ، ولا كيدهم ، وكان مع محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول : يا ربّ ، لا أريد منه بدلا ، ولا أبغي عنه حولا».

وطبعا التلاوة مقدّمة وتمهيد لمعرفة محتوى السورة والتدبّر بها ، ثمّ العمل بما فيها.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٦٥.

٧٧

الآيات

( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) )

سبب النّزول

ما جاء في سبب نزول سورة الأحقاف في تفسير الآيات (٢٩ ـ ٣٢) مطابق لسبب نزول هذه السورة ، ويدل على أنّ السورتين يتعلقان بحادثة واحدة ، وتوضح سبب النّزول باختصار كما يلي :

١ ـ انطلق الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى سوق عكاظ في الطائف بعد قدومه من مكّة ليدعو الناس إلى الإسلام ، فرجع بعد رفض الناس لدعوته إلى واد يدعى وادي الجن ، وبقي فيه ليلا وهو يقرأ القرآن ، فاستمع إليه نفر من الجن فآمنوا به ثمّ راحوا

٧٨

يدعون قومهم إليه.(١)

٢ ـ عن ابن عباس قال : كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منشغلا بصلاة الصبح ، وكان يقرأ فيها القرآن ، فاستمع إليه الجن وهم يبحثون عن علّة انقطاع الأخبار من السماء ، فقالوا : هذه الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا إلى قومهم ليبلغوا ما سمعوا.(٢)

٣ ـ بعد وفاة أبي طالبعليه‌السلام اشتدّ الأمر برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعزم على الذهاب إلى الطائف ليبحث عن أنصار له ، وكان أعيان الطائف يكذبونه ويؤذونه ، ويرمونه بالحجارة حتى أدميت قدماهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالتجأ متعبا إلى ضيعة من الضياع ، فرآه غلام صاحب الضيعة وكان اسمه «عداس» ، فآمن بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رجع إلى مكّة ليلا وصلّى صلاة الصبح وهو بنخله ، فاستمع إليه نفر من الجن من أهل نصيبين أو اليمن ، وكانوا قد مرّوا بذلك الطريق فآمنوا به(٣) .

وقد نقل بعض المفسّرين ما يشابه هذا المعنى في أوّل السورة ، ولكن جاء في سبب نزول هذه السورة ما يخالف هذا المعنى ، وهو أنّ علقمة بن قيس قال : قلت لعبد الله بن المسعود : من كان منكم مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الجن؟ فقال : ما كان منّا معه أحد ، فقدناه ذات ليلة ونحن بمكّة فقلنا : اغتيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو استطير ، فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلا من نحو حراء ، فقلنا : يا رسول الله ، اين كنت؟ لقد أشفقنا عليك ، وقلنا له : بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك ، فقال : «إنّه أتاني الجن فذهبت أقرئهم القرآن»(٤) .

* * *

__________________

(١) تفسير علي بن ابراهيم على ما نقله تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩ (مع الاختصار).

(٢) صحيح البخاري ، مسلم ، ومسند طبقا لما نقله صاحب (في ظلال القرآن) ج ٧ ، ص ٤٢٩ (باختصار).

(٣) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٩٢ ، وسيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ٦٢ ـ ٦٣ (باختصار).

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٦٨.

٧٩

التّفسير

القرآن العجيب!!

نرجع إلى تفسير الآيات بعد ذكر ما قيل في سبب النّزول

يقول الله تعالى :( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ) (١) .

التعبير بـ( أُوحِيَ إِلَيَ ) يشير إلى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشاهد الجنّ بنفسه بل علم باستماعهم للقرآن عن طريق الوحي ، وكذلك يعلم من مفهوم الآية أنّ للجن عقلا وشعورا وفهما وإدراكا ، وأنّهم مكلّفون ومسئولون ، ولهم المعرفة باللغات ويفرقون بين الكلام الخارق للعادة بين الكلام العادي ، وبين المعجز وغير والمعجز ، ويجدون أنفسهم مكلّفين بإيصال الدعوة إلى قومهم ، وأنّهم هم المخاطبون في القرآن المجيد ، هذه بعض الخصوصيات لهذا الموجود المستور الحي الذي يمكن الاستفادة منها في هذه الآية ، ولهم خصوصيات اخرى سوف نبيّنها في نهاية هذا البحث ، وإنّ شاء الله تعالى.

إنّ لهم الحقّ في أن يحسبوا هذا القرآن عجبا ، للحنه العجيب ، ولجاذبية محتواه ، ولتأثيره العجيب ، ولمن جاء به والذي لم يكن قد درس شيئا وقد ظهر من بين الأميين ، وكلام عجيب في ظاهره وباطنه ويختلف عن أيّ حديث آخر ولهذا اعترفوا بإعجاز القرآن.

لقد تحدثوا لقومهم بحديث آخر تبيّنه السورة في (١٢) آية ، وكل منها تبدأ بـ (أن) وهي دلالة على التأكيد(٢) .

__________________

(١) نفر : على قول أصحاب اللغة والتّفسير : الجماعة من ٣ الى ٩.

(٢) المشهور بين علماء النحو أنّ (إن) في مقول القول يجب أن تقرأ بالكسر كما هي في الآيات الاولى ، وأمّا في الآيات الأخرى المعطوفة عليها فإنّها بالفتح ، ولهذا اضطر الكثير من المفسّرين أن يجعلوا لهذه الآيات تقديرات أو مبررات أخرى ، ولكن ما الذي يمنعنا من القول أنّ لهذا القاعدة أيضا شواذ ، وهي جواز القراءة بالفتحة في موارد يكون العطف فيه على مقول القول ، وما يدل على ذلك آيات هذه السورة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الخبر الذي هو بمنزلة الفعل المضارع يفيد الاستمرار، ومقتضاه الحصر به تعالى في جعل هذا المقام.

الفائدة السادسة والعشرون: أن مقتضى مادة الخلافة تعطي تحلي الخليفة بصفات المستخلِف؛ لأنه ينوب في جهة ومورد الخلافة وإن كان في الباري الأمر بلا عزلة ولا انحسار رباني ولا تفويض باطل.

ثالثاً: قراءة في الخطبة القاصعة

في قراءة للخطبة القاصعة التي يتناول فيها الإمام عليه‌السلام مقامات الأئمة ويتعرَّض للآيات السابقة:

(الحمد للَّه الذي لبس العزَّ والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه وجعلهما حمى وحرماً على غيره، واصطفاهما لجلاله وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده).

ففي هذا المقطع نشاهد أنه انطلق من كون هذين الاسمين مختصيَن به تعالى لأن العز والكبرياء من لوازم الاستقلال وما عداه فهو خاضع ومتذلِّل له، ومن ينازعه فيهما ويدعي له هاتين الصفتين فسوف يبعد عن رحمة اللَّه، ولا يخفى ما في الابتداء من براعة الاستهلال؛ حيث يريد أن يبيِّن في الخطبة حقيقة التوحيد والطاعة، وأن لا استقلالية لأحد على الإطلاق، وسوف نشاهد أن هذا الأمر هو السلك الذي تنتظم عليه فقرات الخطبة، وهو المنتهى إلى وجه ركنية الإمامة في عقيدة التوحيد ونفي الشرك.

(ثُم اختبر بذلك ملائكته المقرَّبين ليميِّز المتواضعين منهم من ‏المستكبرين).

ثم أراد الباري اختبار ملائكته في التوحيد في الطاعة ليتميَّز المتواضع عن المستكبر، ومنه يعلم أن التواضع جذره عقيدتي وليس مجرد أخلاق؛ حيث إن المتواضع هو الذي لا يرى لنفسه موقعاً ومقاماً ومكانا، ومنه أيضاً يتبيَّن أن الملائكة يعملون ويتكاملون لكن فرقهم عن غيرهم أن الملك لا يعمل بغريزة

٣٤١

الشهوة والغضب، واختبارهم يدلل على أنه يفعل ما يفعل عن علم واختيار. ثم إن اختبار التوحيد؛ وهو اتصاف الباري فقط بالاستقلالية، هو في اتباع ولي اللَّه، وهو كما أشرنا إليه مراراً أشقُّ المقامات.

(وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ ) ).

ويوجد بحث بين الفلاسفة أنه هل لدى الملائكة علوماً وصوراً مرتسمة أم لا؟ العلامة الطباطبائي في الميزان والنهاية ينفي ذلك، لكن ما في القرآن ( وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) يدلِّل على أن لديهم نوع من العلم الحصولي، ويركِّز الإمام على الصفة الطينية لآدم، وكذلك اجتماع (فقعوا) مع (السجود) حيث أن فيه زيادة في الإخضاع.

( اعترضته الحمية، فافتخر على أدم بخلقه وتعصب عليه لأصله، فعدو اللَّه إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين الذي وضع أساس العصبية ونازع اللَّه رداء الجبرية وادَّرع لباس التعزُّز، وخلع قناع التذلُّل ) .

فيشير الإمام إلى أن إبليس نازع اللَّه تعالى رداء الكبر الذي لا يحق لأحد إلاّ له سبحانه، واعتقد لنفسه الاستقلال ورفض الانصياع لولي اللَّه وخلع قناع التذلَّل، فجحود خليفة اللَّه تعالى وحجَّته على خلقه جذره ومنشأه كبر في الجاحد واستكبار على أمر اللَّه تعالى ورؤية استقلالية للجاحد في ذاته، وكانت عاقبته:

(ألا يرون كيف صغّره اللَّه بتكبُّره، ووضعه بترفُّعه؟! فجعله في الدنيا مدحوراً وأعدَّ له في الآخرة سعيرا).

وهذه هي نتيجة الكفر الإبليسي وعدم الانصياع لأوامر اللَّه تعالى، وعاقبة مَن لا ينزل نفسه منزلتها ويرى الأنا دون خالقه.

٣٤٢

(ولو أراد اللَّه أن يخلق أدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه، ويبهر العقول رواؤه، وطيب يأخذ الأنفاس عَرفه، لفعل، ولو فعل لظلت له الأعناق خاضعة، ولخفت البلوى فيه على الملائكة، ولكن اللَّه سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله؛ تمييزاً بالاختبار لهم، ونفياً للاستكبار عنهم، وإبعاداً للخُيلاء منهم).

فهكذا نرى أن آدم لو كان في خلقه مبهِراً للعقول، لاستجاب له الملائكة؛ لأنه بهرهم، لا لأن اللَّه أمرهم بذلك. ومن هنا كان امتحان الإمامة أصعب الامتحانات وأشقها حيث يكون المعنى حرفياً دالاً عليه فقط، وبه يكون التوحيد خالصاً حيث لا يكون في اتباع الواسطة سوى حرفيته وآيتيَّته للَّه جلَّ وعلا، فإذا نجح في هذا الامتحان الشاق واستطاع أن يكبح جماح ذاته وأناه، فبها، وإلاّ لم تنفعه عبادته الماضية كإبليس.

(فاعتبروا بما كان من فعل اللَّه بإبليس؛ إذ أُحبط عمله الطويل وجهده الجهيد - وكان قد عبد اللَّه ستة ألاف سنة، لا يُدرى أمن سنيِّ الدنيا أم من سنيِّ الآخرة - عن كبر ساعة واحدة، فمَن ذا بعد إبليس يسلم على اللَّه بمثل معصيته؟! كلا ما كان اللَّه سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً).

ويتبين أن إبليس كان ملكاً، كما يشير إلى أن القانون واحد بين أهل الأرض والسماء، وسير الكمال واحد، وحكمه واحد.

(فاحذروا عباد اللَّه عدو اللَّه أن يعديكم بدائه، وأن يستفزَّكم بخيله ورجله؛ فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق إليكم بالنزع الشديد...

فأطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية، فإن تلك الحمية تكن في المسلم من خطرات

الشيطان...

ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم! الذين تكبروا عن حسبهم وترفَّعوا فوق نسبهم، وألقوا الهجينة على ربهم وجاحدوا اللَّه على ما صنع بهم...

٣٤٣

ولا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، وخلطتم بصحتكم مرضهم، وأدخلتم في حقكم باطلهم، وهو أساس الفسوق وأحلاس العقوق، اتخذهم إبليس مطايا ضلال، وجنداً بهم يصول على الناس، وتراجمة ينطق على ألسنتهم، استراقاً لعقولكم ودخولاً في عيونكم ونفثاً في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله وموطئ قدمه ومأخذ يده).

فهذا تحذير منه‏ عليه‌السلام من عدوى داء إبليس إليهم؛ ودائه هو عدم التسليم لخليفة اللَّه تعالى والكبر عن طاعة اللَّه في أمره بطاعة حجته، وترفُّع ذاته عن الخضوع لأمر اللَّه بمتابعة خليفته، وأن إبليس أخذ على نفسه إغواء البشر بنفس الغواية التي ابتلي بها، وإخباره‏ عليه‌السلام ‏بأن قد وقع منهم تأثر بعدوى إبليس، وهذا إشارة إلى ترك الناس الائتمام بإمامته‏ عليه‌السلام ‏بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وأن سبب ذلك الحمية الجاهلية التي يسعرها إبليس في قلوبهم إيجاداً للكبر والاستكبار عن متابعة وطاعة خليفة اللَّه تعالى، وأن دواء هذا الداء هو التواضع. ثُم يشير مرة أخرى إلى وجود مَن هو مبتلى بهذا الداء في هذه الأمة ومتابعته لكبرياء إبليس وجحود حجة اللَّه تعالى وأن عليه الوزر والآثام إلى يوم القيامة. ثُم يقتبس‏ عليه‌السلام من القرآن قوله تعالى: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) الوارد في سياق ذم محترفي النفاق في الأمة وتحذيرهم بأنهم لاستكبارهم بحمية وفخر الجاهلية عن طاعة خليفة اللَّه تعالى في أرضه، إذا تقلَّدوا زمام الأمور أمعنوا في الغيِّ وافسدوا في الأرض، إلاّ أنه عليه‌السلام ‏يخبر عن تحقُّق ما حذّرتْ عنه الآية الكريمة.

ثُم إنه‏ عليه‌السلام ‏يحذّر الناس من طاعة واتباع الذين تكبروا عن طاعة أمر اللَّه في خليفته في أرضه وحجته على عباده الذي هو كبر إبليس أيضاً، ووصفهم بأنهم جحدوا اللَّه، وكابروا قضائه... ومن هنا يتبين أن هذه الخطبة أصرح من الخطبة الشقشقية في بيان زلة طريقة القوم.

(فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللَّه وصولاته ووقائعه

٣٤٤

ومَثُلاته، واتعظوا بمثاوي خدودهم، ومصارع جنوبهم...

فلو رخص اللَّه في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه، ولكنَّه سبحانه كره إليهم التكابر...

فإن اللَّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم، بأوليائه المستضعفين في أعينهم، ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون (صلَّى اللَّه عليهما) على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي...

ولو أراد اللَّه سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذُّهبان، ومعادن العقيان... ولو فعل لسقط البلاء وبطل الجزاء واضمحلت الأنباء، ولَمَا وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الأسماء معانيها، ولكنَّ اللَّه سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفاً فيما ترى العين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى.

وكلَّما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل).

فيستعرض عليه‌السلام ‏استكبار الأمم الماضية وكيف آل مصيرهم، ومن المعلوم أن أكثر استكبارهم كان على أنبياء اللَّه استصغاراً لهم، وهو عين الاستكبار والجحود الإبليسي. ثُم وصف‏ عليه‌السلام ‏حالة موسى وهارون عند دخولهما على فرعون من حالة التواضع والمسكنة زيادة امتحان اللَّه لفرعون؛ إذ لو بعث اللَّه أنبياءه بالقدرة المهيبة والسطوة الشديدة، لسقط البلاء وبطل الجزاء ولكان الإيمان عن خوف القوة أو رغبة فيها ولدبّ الشرك في النيات، ولكان التسليم ليس للَّه تعالى وحده؛ ومن ثَم يظهر وجه التناسب الطردي بين شدة الامتحان وشدة الخلوص في التوحيد، وهذا يتجلّى بوضوح في رسل اللَّه تعالى وخلفائه؛ حيث إنه تعالى أراد أن يكون الاتباع لرسله والاستكانة لأمره له

خاصة، أي التذلُّل له تعالى في كل من التابع وهم البشر والمتبوع وهم الرسل والحجج، فيصفى الأمر عن أي كبر وإدعاء استقلالية في البين

٣٤٥

لأن الكبر هو دعوى المخلوق الفقير الغنى والاستقلال عن الباري بأيِّ نحو كان.

(ألا ترون أن اللَّه سبحانه اختبر الأولين من لدن أدم ( صلوات اللَّه عليه ) إلى الآخِرين من هذا العالم بأحجار لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع... ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنات وانهار، وسهل وقرار، جم الأشجار، داني الثمار، ملتف البنى، متصل القرى، بين برة سمراء، وروضة خضراء، وأرياف محدقة، وعراص مغدقة، وزروع ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء... ولكن اللَّه يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبَّدهم بأنواع المَجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله، وأسباباً ذُلُلاً لعفوه...

فاللَّه الله في عاجل البغي، وآجل وخامة الظلم، وسوء عاقبة الكبر؛ فإنها مصيدة إبليس العظمى، ومكيدته الكبرى...

انظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر وقدع طوالع الكبر).

يتعرَّض إلى وجود هذا السلك التوحيدي الجامع لكل أبواب الشريعة؛ فيتعرَّض إلى وجود هذه الحكمة في الحج إلى بيت اللَّه الحرام، وأن ضروب المشقة في السفر وأداء الأعمال ووعورة المسالك، كل ذلك اختباراً بالشدائد وأنواع المجاهد ليخرج التكبر من قلوبهم وإسكاناً للتذلُّل في نفوسهم، إذ حالة التكبر شرك وندية لذوات البشر مع باريهم، وخروج منهم عن طورهم وواقعهم - وهو الفقر لباريهم - بخلاف حالة الذل في النفس فإنها حالة توحيد وخضوع لتسليم الذوات حينئذ بالفقر للباري وأن الغنى والعز خاص به تعالى.

ثُم إنه‏ عليه‌السلام ‏يبين وجود هذه الحكمة أيضاً في بقية الفرائض في الصلاة والزكاة والصيام مع ما فيها من الحِكم الأخرى من أنها تسبب خشوع أبصار البشر، وتسكنّ

٣٤٦

أطرافهم، وتذلل نفوسهم، وتذهب خيلاءهم، وأنها دواء عن السموم القاتلة لإبليس، وهي الكبر الذي وصفه عليه‌السلام ‏بأنه مكيدة إبليس الكبرى.

(ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصَّب لشيء من الأشياء إلاّ عن علة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم، فإنكم تتعصَّبون لأمر ما يُعرف له سبب ولا علة. أمَّا إبليس، فتعصب على أدم لأصله وطعن عليه في خلقته... وأمَّا الأغنياء من مترفة الأمم، فتعصبوا لآثار مواقع النعم...

فإن كان لا بدَّ من العصبية، فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور...

فتعصبوا لخلال الحمد؛ من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض.

واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال وذمم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم، واحذروا أن تكونوا أمثالهم...

وتدبروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص والبلاء، ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباءً، وأجهد العباد بلاءً، وأضيق أهل الدنيا حالاً... ألا وقد قطعتم قيد الإسلام، وعطَّلتم حدوده وأمتم أحكامه).

ثم إنه عليه‌السلام ‏يبين أن العصبية وليدة الكبر والاستكبار على اختلاف ألوانه وأقسامه، وأن الحريّ بالإنسان أن يتعصَّب للفضائل والمكارم المحمودة.

ثم إنه عليه‌السلام ‏بيَّن أن النصرة والعزة لأي أمة من الأمم لا تكون إلاّ بالولاية؛ فإنه بها يذهب تشتت الألفة ويزول اختلاف الكلمة والأفئدة، وكذلك كان حال ولد إسماعيل وبني إسحاق وبني إسرائيل؛ حيث كانت الأكاسرة والقياصرة غالبين لهم، قاهرين عليهم، إلاّ أنه بنعمة اللَّه عليهم حين بعث رسولاً إليهم انتظمت به مِلَّتهم

٣٤٧

وطاعتهم وألفتهم وأُغدقت عليهم البركات، فعادوا قاهرين بعد أن كانوا مقهورين، وغالبين بعد أن كانوا مغلوبين، ولكنَّهم سرعان ما تركوا - بعد رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله - حبل الطاعة والولاية، وهدموا حصن اللَّه تعالى بأحكام الجاهلية، وصاروا بعد الهجرة أعرابا، وبعد موالاتهم لولي اللَّه أحزابا، لم يبقوا إلاّ على ظاهر الإسلام يرفعون شعار النار ولا العار، إلى أن تمادى بهم الأمر أن قطعوا قيد الإسلام وعطَّلوا حدوده وأحكامه.

(ألا وقد أمرني اللَّه بقتال أهل البغي والنكث والفساد في الأرض، فأمَّا الناكثون فقد قاتلت، وأمَّا القاسطون فقد جاهدت، وأمّا المارقة فقد دوَّخت...

أنا وضعت بكلاكل العرب، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر...

ولقد قرن اللَّه به‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله مِن لدن أن كان فطيماً أعظم ملَك من ملائكته؛ يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره.

ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولايراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة. ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت: يا رسول اللَّه، ما هذه الرنَّة؟ فقال: هذا الشيطان، قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنك لست بنبي، ولكنَّك لوزير، وإنك لعلى خير...).

فبعد ما بيَّن‏ عليه‌السلام ‏أن قوة الأمة وعزَّها بموالاة ولي اللَّه وخليفته في أرضه، وأن هذه الموالاة تذلُّل في النفوس وتواضع للباري تعالى سبب لنزول الفيض الإلهي والبركات والنعم، وأن بدون موالاة حجة اللَّه تعالى في أرضه تدب الفرقة والأهواء والأحزاب؛ لكون ذلك عن كبر في النفوس واستكبار، وهو منشأ نزاع كل منهما مع الآخر.

بعد هذا كله، أخذ عليه‌السلام ‏في بيان الأدلة والبراهين على تقلُّده لمقام خليفة اللَّه

٣٤٨

في أرضه وحجته على عباده بعد رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله من بيان الصفات الخاصة التي يتحلّى بها، سواء للتربية السوية أم الأهلية الروحية الخاصة به حيث يرى نور الوحي والرسالة ويسمع المغيبات حتى قال له رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أنك تسمع ما اسمع وترى ما أرى...) إي أنه قد أوتي مؤهَّلات العلم اللَّدُني، ثُم يبيِّن أنه أول السابقين إلى الإسلام، وأنه معصوم من الزلل والخطل، وأنه أقرب وأشد الناس اتباعاً لرسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيرها من الصفات التي تشير إلى تقلُّده الخلافة الإلهية.

وبهذا يختم خطبته عطفاً على ما بدأ من أن كمال التوحيد وتمام الإخلاص هو بموالاة ولي اللَّه وطاعته كما في سجود الملائكة لآدم؛ ولذلك كفر إبليس اللعين، ودُحر - باستكباره - عن ولاية خليفة اللَّه.

وبذلك يفصح عليه‌السلام ‏عن وجه هذه الواقعة القرآنية التي تكرَّرت في سبع سور من القرآن الكريم، كما أنه‏ عليه‌السلام أفصح عن حقِّه وغصب القوم له. ومن بديع الحكمة الذي أظهره‏ عليه‌السلام أن يبيِّن كيفية كون الصفات الخلقية هي جذر الأفعال، وأن الاعتقادات جذر للصفات الخلقية؛ أي أن كل فعل صادر من الفاعل المختار منشؤه صفة خلقية في نفس الإنسان، وهي منشؤها أمر اعتقادي يبطنه الفاعل ذو الصفة المعينة، وهذا يفسر موالاة ولي اللَّه وخليفته في أرضه وعدم موالاته أنهما يتسبَّبان عن التواضع في النفس في الموالي والمنقاد، والكبر في الجاحد والمنكر، وأن التواضع متسبِّب عن خلوص الشخص لربِّه، أي خلوص توحيده لربه عن الشرك بإقامة ذات نفسه ندَّاً لخالقه، والكبر كفر وجحود وشرك؛ لإقامة المتكبِّر ذات نفسه مستقلة على غير ما هي عليه من الحد الواقعي من الفقر للَّه تعالى.

ومن ثَم يتبيَّن أن الولاية لخليفة اللَّه في أرضه على أصعدة ثلاث: في الفعل، وفي الخلق بالمحبة له، وفي الاعتقاد بالإذعان أنه مجعول من قبل الباري.

وهكذا نرى الإمام يتدرَّج من الكفر الإبليسي إلى الكفر في النبوة، ثُم الكفر في

٣٤٩

الأفعال، ويرى أن جذرها كلها واحد؛ وهو الانصياع إلى الأنا وعدم تسليم النفس للَّه الواحد الأحد، وعدم الانصياع لأوامره، وأن كل شي‏ء ذائب فيه، وأن لا استقلالية لأحد، بل كل في سبيله ومن أجله، وكل آية له سبحانه. و أخيراً يصل إلى الأخلاق وأن منشأ جميع الرذائل يرجع إلى الكبر، ومنشأ كل الفضائل يرجع إلى الخضوع، والإمام في كل هذا يربط بين أقسام الكفر ويرجعها إلى الأصل الواحد.

رابعاً: عصمة آدم

هذه من المسائل المهمة التي كثرت فيها الأقوال والآراء وزلت الأقدام من القديم وحتى يومنا هذا، وخصوصاً أن القران قد عبَّر: ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) ، فكيف يتناسب هذا التعبير مع غيره من نسبة زلة الشيطان لآدم الذي له تلك المقامات العالية والخلافة عن الحق تعالى، وهي خلافة اسمائية؟ وهذا له جواب نقضي وحلي.

أمَّا الجواب النقضي، فهو: أن الواقعة تحكي نوع من المخالفة للملائكة مع أنهم معصومون ولا يعصون اللَّه

ما أمرهم، وذلك عندما قال لهم الحق تعالى: ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ، فإن فيها نوع من التأنيب، فأي جواب يذكر للملائكة فيتجه لآدم. ثُم إن المكان الذي يجب أن يكون فيه هو الأرض، وإنَّ فعله هذا لم يؤثِّر على مقامه وخلافته؛ بدليل رد الاعتبار الذي حصل له بالتوبة، وإن الذي فقده هو الخروج من الجنة ولا يُعلم أن هذا عقاب؛ حيث إن آدم مخلوق أرضي أصلاً، ثُم إن الإنزال للأرض ليس فيه عقاب، بل هو نوع من التكريم؛ لأنها دار الحصاد وفيها الابتلاء والتكامل والسعي نحو الآخرة، وهذه الجنة التي كان فيها ليست جنة الخلد، بل هي أقل شأناً من جنة المأوى والآخرة؛ وذلك لأن الخلود في الأخيرة، وهذا كله شاهد على أن الهبوط للأرض ليس فيه توهين لآدم.

أمَّا الجواب الحلي:

٣٥٠

١ - أن الحق تعالى يتعرض - دائماً - في حديثه عن الأنبياء إلى جنبتهم البشرية، وأنهم مخلوقون له، وأن كمالاتهم بالنسبة إليه ناقصة ومحدودة، كما يتعرض إلى كمالاتهم الغيبية التي يفوقون بها على البشر؛ وهذا ليس لأجل بيان عيوبهم ونقائصهم، بل لأجل بيان أنهم ليسوا بآلهة يعبدون من دون اللَّه، بل هم عباد مكرَّمون محتاجون إلى اللَّه، وحتى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لا خلاف في مقاماته ومنزلته، فإن القران يركِّز على بشريته، كما يركز على مقاماته الغيبية ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ) (١) ففي الحين الذي يؤكد على مماثلته لهم بالبشرية يؤكد على اختلافه معهم بالمقام الغيبي، وهو الارتباط بالوحي والعوالم الإلهية؛ حتى لا يُعبد من دون اللَّه، فهم بالإضافة إلى بارئهم محدودين، كمالاتهم ناقصة، ولكن بالإضافة إلى ما سواهم فهم المعصومون، الأنبياء الواجب اتباعهم واتخاذهم قدوة. وهذا كله لأن الواسطة - في الحين الذي هي ضرورة لا بد منها - يجب أن يتوفّر فيها خاصية الوساطة، لا خاصية الحجاب.

وبتحليل آخر: يشير علماء النفس إلى أن الإنسان يجب أن يستشعر في نفسه النقص، فإذا أحسَّ به سار وسعى نحو الكمال؛ ولذلك كانت العبادة - أي أصل العبادة - تكاملاً، لكن المتعلقة بالمعبود الحقيقي، وحيث كان الأنبياء هم قدوة المخلوقات، فيجب أن يشعر الناس فيهم كلا الجنبتين، يرونهم أعلى منهم شأناً وأرفع منزلة من جهة الهدي الخارق والأفعال التكوينية الخارقة ليستشعر الإنسان النقص في نفسه فيسعى نحو الكمال الذي يراه، ويجب في نفس الوقت أن يلحظوا فيهم جنبة النقص والحاجة للَّه، وأنهم مخلوقون مثلهم حتى لا يكونوا حجاباً دون الحق تعالى فيظهر الحق تعالى جانب النقص فيهم من خلال بعض

____________________

(١) فصِّلت: ٦.

٣٥١

الأفعال؛ ويكون جانب النقص بالإضافة إلى من هو أعلى رتبة منه، لا بالنسبة إلى مَن هو دونه ممَّن يكون لهم إماماً، فالأنبياء والأئمة في حركة إلى اللَّه تعالى.

٢ - الجواب الآخر المذكور في بعض الروايات أن النهي في عالم الجنة ليس هو نهي تكليفي؛ حيث إن الجنة ليست دار تكليف، إذ التكليف مقارن مع الكمال والعقاب والثواب، وبالتالي لا تكون معصيته معاقباً عليها كما في عالم الأرض، مضافاً إلى أن هذه الجنة كانت مختصة بأحكام خاصة؛ منها: أن لا تجوع ولاتعرى. ومن المتفق عليه بين العامة والخاصة أن المخالفة ليست لعزيمة، وليس لها عقوبة أخروية.

٣ - أن الآية تدل على أن هناك مقامات ورتب و مدارج في الإمامة؛ وهي تلك الوجودات الحية النورية الشاعرة التي عرضها على آدم، وهي بالتأكيد غير الذات الإلهية المقدَّسة، ونسبتهم لآدم كنسبة آدم لبقية الخلق.

الطائفة الثانية: آيات الكتاب

وهي كل آية ورد فيها لفظ القرآن أو الكتاب، وعمدة البحث في آيتين الأولى: ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (١) .

الثانية: ( أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ) (٢) .

أوَّلاً: البحث في الآية الأولى

والبحث في الآية الأولى، ويقع في أمور:

____________________

(١) الرعد ١٣: ٤٣.

(٢) هود ١١: ١٧.

٣٥٢

١ - في شأن النزول: المعروف أن سورة الرعد مكِّية وإن ادعى البعض أن خصوص الآية التي هي مورد بحثنا مدنية، على أساس أن المقصود من ( مَن عنده علم الكتاب ) هم أهل الكتاب، وهؤلاء أسلموا في المدينة، وهذا ليس بشيء؛ لأن الاتفاق على نزولها في مكة.

كما أن السورة - كأغلب السور المكية - واردة في بيان التوحيد والرسالة والرسول، وتأكيد أن الرسول حق من عند اللَّه عزَّ وجل، وقد ورد فيها لفظ الكتاب ٧ مرات، والآية واردة مورد الاحتجاج مع الكفار حيث ظلُّوا يجحدون بآيات اللَّه ويستهزؤن بالرسول، فهي بقرينة ( بيني وبينكم ) دالة على ورودها مورد الاحتجاج، وهذا كله يدفع ورودها في المدينة؛ حيث لم يتعرض الرسول لمثل هذه المواقف.

٢ - أن الآية تذكر شهادتين؛ الأولى: شهادة اللَّه تعالى، والثانية: شهادة مَن عنده علم الكتاب، واقترانها بالأولى يدل على عظمها وفضلها، وهي غيرها وإلاّ لَمَا ذكرت ثانية، فإن التعدد دال على المغايرة.

٣ - كيفية شهادة اللَّه: إن الكفار لمَّا كانوا مشركين فأنهم يؤمنون بالقدرة المطلقة للَّه، غايته أنهم يشركون بعبادته ويكفرون بنبوة النبي الخاتم‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أنهم يذعنون بكبرى مؤداها أن الذي يتقوَّل على المقام الربوبي - سيما مقام الشريعة وبيان مطلق الإرادات الإلهية - فهذا ليس بكذب في مسألة جزئية، بل هو ادعاء مقام من وإلى الرب، ومن هاتين كان وجه حجية المعجزة أنه إقدار الباري بقدرة يعجز عنها بقية البشر وتكون مقرونة بدعوى الوساطة. وهم مع إذعانهم أنها قدرة خاصة لا تصدر من البشر، إلاّ أنهم يغالطون ويقولون: إنها قدرة سحرية، فهم يذعنون كبروياً أن القدرات التي لا يقدر عليها البشر لا بدَّ أن يكون منبعها الغيب.

فشهادة اللَّه هي إقداره للنبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إي إعطاؤه قدرة غيبية، وكيفيتها هي نفس كيفية المعجزات، وأنها هي شهادة منه، والمعجزة هنا هي القرآن

٣٥٣

الكريم.

ويمكننا القول أن الشهادة نوع من البرهان، وهو لا ينحصر بالعلم الحصولي، بل يطلق على ما يولّد العلم الحضوري، وذكرنا أن الكثير من الفلاسفة ومنذ عهد ابن سينا غفل عن البرهان العياني، وغرضنا أن شهادة اللَّه هي من نوع البرهان العياني، خلافاً لِمَا هو مشهور عند المتكلمين من الخاصة والعامة مِن حصر برهانية المعجزة في العلم الحصولي، بيان ذلك:

أن معجزات الأنبياء المذكورة في الكتاب باقية، وليست منصرمة ومختصة بزمن معين؛ وذلك لأن الغرض من المعجزة هو تحدِّي جميع الأقوام، وليس خصوص القوم الذي أُرسل لهم الرسول، ولو كانت المعجزة خاصة بمَن أُرسل إليهم، لأمكن أن يطلع على إيجادها الأمم الأخرى، فينتهون إلى بطلان نبوته، ولا تكون في واقعها معجزة، بل أمراً عادياً خفى سببه عن الآخرين، فلابد أن يتوفر في المعجزة أنها تحدٍ أبدي للبشرية؛ أي ما يعجز عنه الأولون والآخِرون، ولذا نقول إنه يطلق على المعاجز البرهان العياني.

أمَّا تطبيق البرهان العياني على شهادة اللَّه، فذلك بعد كون بعض مواده المؤلِّفة عيانية لا بتوسط الصور الحصولية، وهنا قد يتساءل عن وجه تقديم (باللَّه) على (شهيداً)؟ والجواب: أنه من جهة الحصر، ثُم من جهة العيانية، فاللَّه حاضر بقدرته اللامتناهية واللامحدودة فكفى باللَّه الحاضر عياناً وكفى بحضوره العياني. ويذكر بعض المفسرين أن التعبير بـ (شهيداً) وليس بشاهد، دليل على إرادة الحضور لا الشهادة المنشأة بالكلام.

وممَّا يدلِّل على أن المراد من الشهادة الشهادة التكوينية لا الاعتبارية، هو الرجوع إلى أصل اشتقاقها اللغوي حيث إنها أطلقت على التأدية والأداء مع أنها اسم للتحمل

٣٥٤

والحضور، فأطلقت على التأدية باعتبار المنشأ، أي أن مَن له التأدية هو مَن كان حاضراً فتحمّل الشهادة، والشهادة في الأمور الاعتبارية تجعل السامع كالحاضر حين التحمُّل. أمَّا في الأمور التكوينية، فإنها تجعل المشهود له في أكمل إدراك وأقصى ما يمكن تصوُّره، وهذا لا يكون إلاّ بحصول علم لديه من الشهادة علما حضوريا.

وكأن المعنى: كفى باللَّه حاضراً وتشهدون حضوره في بيان الحق، حيث إن هذه القدرة المدرَكة في القرآن التي يعجزون عنها نحو مَن رفع الستار عن قدرة الغيب، فهو ظهور للغيب عياني لهم بعد كونهم يذعنون بأن اللَّه موجود وحاضر.

٤ - شهادة مَن عنده علم الكتاب: وهاهنا تطرح أسئلة متعددة في كيفية شهادة هذا الشاهد، وفي إمكان كونها شهادة على صدق النبي وفي مصداقها؛ وذلك لأن المشهود به هو النبوة والإرسال، فكيف يكون هذا الشاهد شاهداً على إرساله، وهذا يعني أنه يكون حاضراً في مقام إنباء الرسول حتى يستطيع تحمّل الشهادة والإدلاء بها، وإذا لم يكن حاضراً عند تحمله، فسوف تكون شهادته اطمئناناً بصدق النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومقتضى كون النبي في مقام الاحتجاج أن هذا الشاهد حاضر الإنباء حتى يستطيع الإدلاء. ومن هنا نستطيع أن نفهم ما ورد في الخطبة القاصعة (إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى)، وهذا يعني أن(مَن عنده) جُهِّز بجهاز وجودي وروح ذات خصائص معينة مشابهة للروح النبوية ( وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ) .

قد يقول قائل: إنَّ تحمَّل (مَن عنده) ببرهان حصولي ثبت لديه، سوَّغ له الشهادة كما في قصة ذي الشهادتين؛ حيث شهد لمجرد أنَّ الرسول هو الذي أخبر أن الدرع له.

وهذا القول مدفوع بأن تسمية هذا بالشهادة من باب التنزيل، وهذا مسلَّم به، ولو كان حصول العلم لدى الشاهد بهذه الطريقة، فالأولى أن يذكر نفس البرهان، ولا

٣٥٥

حاجة حينئذ لشهادته؛ لأن ترامي الشهادة إضعاف للمشهود به، فلو أمكن الإدلاء بالمشهود به، فهو أولى، فالغرض من الشهادة أن ما حصَّله الشاهد بعين الشهود واليقين المستند إلى العلم الحضوري، وهذا يدل على أن مستند الشاهد ليس علماً حصوليا.

وهاهنا تساؤل يطرح: أنه كيف تكون شهادة الشاهد، وهو من تابعي النبي، يحتج بها على الكفار الذين يشككون في النبي؟

ومن أجل الإجابة على هذا التساؤل يجب الإشارة إلى أن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قبل البعثة معروفاً لدى قومه ببعض الخصال والصفات التي استيقن منها الجميع كالصدق والأمانة وأنه من الذين يستسقى بهم الغمام، وهو من عائلة سلِّمت إليها زعامة قريش؛ وذلك لأهليَّتهم وصدور خوارق العادات منهم، ومن هنا كان يُتَّهم بالسحر، وقد تواتر النص التاريخي من المشركين على وصفه (أنه سحر قديم في بني هاشم) مع ما هو مقرَّر عند قريش من كونهم من نسل إبراهيم وإسماعيل الذبيح وهم ورّاثهما، وقد ذكر الإمام ذلك في ذيل الخطبة القاصعة (وأني لمِن قوم لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم كلام الأبرار، عمار الليل ومنار النهار، متمسِّكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللَّه وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يغلون ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل) أي أنه من قوم وشجرة توفَّرت فيهم صفات الكمال من الحكمة والصدق والإحسان والعفاف والشجاعة والخلوص للَّه تعالى والاجتهاد في العبادة والتحلِّي بالعصمة العملية، فلم يشاهد لهم زلل ولا خطل في جاهلية قريش ولا في الإسلام.

ثم أن نفس ولادة الإمام في الكعبة وانشقاق الجدار ودخول فاطمة بنت أسد وبقاؤها داخل الكعبة ثلاثة أيام لم يكن بالأمر الذي لاقى استنكاراً من قريش؛ لِمَا تعوَّدوه من أهل هذا البيت من خوارق العادات.

٣٥٦

وعلى كل حال لا نجد فيما بأيدينا من أخبار وتواريخ اعتراض الكفَّار على هذه الشهادة وطعنهم فيها، ثُم إن وصفه بأنه عنده علم الكتاب يعطي الحجية على وجه الاستشهاد به؛ لأن في ذلك إشارة إلى انطوائه‏ عليه‌السلام ‏على العلم الجامع، وفي ذلك تبيان لكيفية استعلام ذلك بالمسائلة ونحوها ليتحقَّقوا من ثبوت الوصف ومن ثم يستثبتوا وجه حجية شهادته‏ عليه‌السلام ، وهذا الكتاب إمَّا أن يراد به الكتب السماوية أو القرآن الكريم، والأخير هو الأرجح؛ حيث إن سورة الرعد نزلت دفعة واحدة، غير متقطعة، وموارد الكتاب فيها قد قُصد منها القران الكريم، بل في بعض الآيات من السورة إرادة كتاب التكوين كما في أم الكتاب.

٥ - مَن عنده علم الكتاب: من بين معاني الإضافة الأنسب أن تكون الإضافة بيانية استغراقية؛ ولو أريد منها التبعيض لأتى بلفظ من كما في وصف آصف بن برخيا في سورة النمل، وقد ذكرنا أن الاختلافات الواردة في تعابير القرآن تدل على اختلاف المعاني وليس الهدف منها بلاغياً أدبيا، والإحاطة بمعاني الكتاب ليس بالعلم الحصولي، بل بالعلم الحضوري، حيث إن الكتاب ليس الموجود النقشي، بل كتاب التكوين كما سوف يأتي بيانه فيما بعد. هذا مضافاً إلى أن العلم لو كان ببعض الكتاب، لَمَا كان في شهادته مزية؛ حيث إن المشهود عليه هو أعظم الغيبيات، وهو نبوة النبي الخاتم.

ثم إن ماهية هذا العلم لا يمكن أن تكون حصولية؛ وذلك لِمَا ذكرناه من أن هذا العلم جعل منشأ لحجية الشهادة، ومقتضاه أن يكون التحمُّل حضوريا.

وقد ينقض على هذا المعنى بأن القرآن استشهد بشهادة بعض أصحاب الكتب السابقة؛ وذلك في عدة آيات، منها: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُم بِهِ وَشَهِدَ

٣٥٧

شَاهِدٌ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ) (١) .

ومنها: ( أَوَ لَمْ يَكُن لَهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) (٢) .

ومنها: ( لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً ) (٣) .

ومنها: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُم لاَ تَعْلَمُونَ ) (٤) .

والجواب العام عن هذه الموارد أن الاستشهاد بطائفة من علماء بني إسرائيل وما شابههم ليس من جهة أشخاصهم، بل استشهاد بما ورد في كتبهم من بشارات بالنبي الخاتم، وواضح أن هذه الكتب غيبية من عند اللَّه، والمشركون متأكِّدون من أن كتبهم متقدمة بقرون على زمن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي منسوبة إلى السماء وليست من السحر، وفي ذلك بيِّنة وبرهان قاطع على نبوة النبي الخاتم؛ فهي شهادة الكتب السماوية بالنبوة، وهي تكون من سنخ شهادة اللَّه، وهي بمعنى آخر شهادة الأنبياء السابقين على صدق النبي الخاتم، وشهادة الملائكة أيضاً شهادة غيبية وسنخها ليس بالعلم الحصولي، وعليه نصل إلى نتيجة أن جميع الشهادات ترجع إلى سنخ واحد.

أمَّا الأجوبة التفصيلية:

١ - فشهادة الملائكة ليس شهادة عادية؛ وذلك لأنهم لا يستطيعون استنطاق الملائكة، فكيفيَّتها يجب أن تكون بما ذكر في شهادة اللَّه؛ من أن ذلك هو بمحضره

____________________

(١) الأحقاف: ١٠.

(٢) الشعراء: ١٩٨.

(٣) النساء: ١٦٦.

(٤) النمل: ٤٥.

٣٥٨

وقدرته، حيث إن مشركي قريش يذعنون بوجود الملائكة وأنهم أعوان اللَّه؛ وذلك بدليل نسبتهم الأنوثة لملائكة للَّه وأنهم بنات اللَّه (والعياذ باللَّه تعالى).

٢ - أن قريش والمشركين كانوا على اطلاع وخبر من علم أحبار اليهود ببعثة النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث كانوا من قبل يستبشرون ببعثته ويأملون النصر به على المشركين، قال تعالى: ( وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) (١) .

٣ - أن الآية الأخيرة ليس فيها استشهاد على أصل الرسالة والبعثة، بل دفع لاستبعادهم كون الرسول المرسَل بشراً رجلا، ومع ذلك فإن الاستشهاد بأهل الذكر لا باعتبار أشخاصهم كما قدمنا.

٦ - ونتعرَّض فيه لمقام القران الكريم ومراتبه.

وفيه مسائل ثلاث:

المسألة الأولى: أن القران ذو حقيقة تكوينية؛ بمعنى أن القرآن لا تنحصر درجات وجوده بالعبارات الوارد ذكرها بين الدفتين، وأنَّ هذا الوجود للقرآن هو المعبر عنه بالكتبي، وأنه معبَّر عن وجود آخر للقرآن؛ وهو الوجود التكويني، ويدل على هذه المرتبة للقرآن مجموعة من الشواهد:

أ - أن التنزُّل يدل على أن القرآن كان موجوداً ثُم تنزَّل بما نراه نحن الآن، وهذا التنزُّل لا يضاهيه التعبير بأنه كان لفظاً مصوتاً وكلاماً نفسيا.

ب - بعض الآيات القرآنية التي تدل على آثار للقرآن لا يمكن نسبتها إلى هذا الوجود الاعتباري؛ من نحو: ( وَلَوْ أَنَّ قُرآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْكُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بِل لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً ) (٢) ، حيث إنه قد ذكر في شأن النزول أن قريش اقترحت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يباعد بين جبال مكَّة؛ لأن مكة ضيقة فتتوسع وتصبح بها

____________________

(١) البقرة: ٨٩.

(٢) الرعد: ٣١.

٣٥٩

وديان وسهول ومزارع وما شابه ذلك، وطلبوا منه أن يحيي لهم قصي جد قريش وأجدادهم ليكلموهم، فاللَّه تعالى يخاطبهم أن لو أظهر لهم تلك الآثار بالقرآن، لَمَا آمنوا، وهذه الآثار لا تُفترض للكتاب الاعتباري؛ لأن هذه ألفاظ، والوجود اللفظي وجود تنزيلي للشي‏ء.

جـ - قوله تعالى: ( لَوْ أَنزَلْنَا هذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ) (١) ، وواضح أن المقصود في هذه الآية ليس القرطاس والورق الذي كتب عليه القرآن له هذه الخصوصية، ولم ينزل القرطاس المكتوب على صدر النبي الخاتم، بل إن ما نزل هو المعاني وإن حقيقة القرآن التكوينية هو الذي يجعل الجبل خاشعاً متصدِّعا، ولدينا شاهد على تصدع الجبل؛ وهو في قوله تعالى: ( فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ) فتدكدك الجبل هو من تجلي النور الإلهي، والحقيقة القرآنية هي التي تجعل الجبل متصدِّعا، وهي التي لها الآثار التكوينية.

د - قوله تعالى: ( بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ) (٢) ، فهذا القرآن المتَّصف بالمجد، وهو نوع من العلو والرفعة والعز والعظمة، في اللوح المحفوظ، فهو متنزِّل من حقيقة أخرى.

هـ - قوله تعالى: ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (٣) وهذه الآية صريحة في كون حقيقة القرآن التكوينية في كنٍّ محفوظ لا يناله إلاّ المعصومون.

المسألة الثانية: ما ورد من وصف الكتاب بالمبين، وقد ورد ذلك في أماكن

____________________

(١) الحشر: ٢١.

(٢) البروج: ٢١.

(٣) الواقعة: ٧٤ - ٧٦.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440