الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية13%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140548 / تحميل: 8466
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

هـ - أوّل اعتبار قام الذهن بتصويره حتّى يُحرِّك الإرادة هو إيجاد نسبة الضرورة بين موضوع ومحمول لم تكن بينهما تلك النسبة من قبل؛ بيان ذلك:

إن الإنسان يرى وجود نسبة حقيقية بين ذاته وبين أعضائه، فيقوم بجعل نفس هذه النسبة بين نفسه وبين الأكل، فيسعى نحو تحقيقه، فيتحرك نحو الغذاء. وعبّر عن هذا بأنه أوَّل خديعة.

بعض تلامذة العلاّمة يصوّر الخديعة بنحو أخر؛ وذلك بأن الخديعة التي تقوم بها هي: تصوير أن حاجات البدن هي حاجات الروح، ويجعلها ضرورية لها، وتفسير هبوط آدم إنه هبوط إدراكي؛ حيث جعلت الروح البدن جزءَ حقيقةٍ نفسها، فجعلت كمالات البدن وحاجاته هي حاجات لها، فأول خديعة هي من جعل البدن جزء من الروح؛ خدعته بها الفطرةُ الإنسانية؛ لتتوصَّل بها إلى الخير بالذات والكمال المطلق الحقيقي.

و - إن نسبة الضرورة تعني الوجوب، وهو متقدِّم على الحرمة، كما أن الاستحباب متقدِّم على الكراهة؛ وذلك لأن الشعور بالحاجات والضرورات متقدِّم على الشعور بالمضرَّات والمؤذيات التي هي نسبة الامتناع.

ز - مثال آخر على نشأة اعتبار آخر؛ هو (اعتبار الملكية) وكيفية حصوله: هو أنه رأى وجود نسبة حقيقية بين الإنسان وسلطته على أعضائه وتصرُّفه بها كما يشاء، فجعل هذه السلطة بين الأمر الخارجي وبين نفسه حتّى يستطيع التصرُّف والاستفادة منه وحده؛ لا ينازعه فيه أحد.

ح - وأوَّل اعتبار اجتماعي نشأ؛ هو: اعتبار الألفاظ ودلالتها على المعاني، ثُم بعد ذلك تولَّد اعتبار العقد والمعاملات، واعتبار الرئاسة؛ وذلك لأن في الإنسان توجد قوة العقل التي تكون مهيمنة على بقيَّة القوى، فانتزع العقل هذه النسبة وجعلها في مملكة صغيرة هي مملكة الأسرة ورئاسة وهيمنة ربِّها، ثُم للمجتمع.

٨١

ط - إن الاعتبارات غير ثابتة و متزلزلة، فلا يمتنع أن لا يأتمر و لا يتبع الإنسان ذلك الاعتبار، لذا مسَّت الحاجة إلى أن تَعتبر ما يدعم هذا الاعتبار ويجعله مؤثِّراً في إرادة الإنسان، فاعتُبر الثواب والعقاب، واعتُبر المدح والذم. فاعتبار المدح والذم إنما هو لأجل أن يكون دافعاً لأن يتَّبع الإنسان الاعتبار الأصلي؛ حيث يضعف تأثيره، وكلَّما قوي تأثيره، ضعفت الحاجة إلى الثواب والعقاب أو إلى مدح وذم العقلاء.

والعلاّمة الطباطبائي في المقالة الثانية من رسالة الاعتباريات يركِّز على أمر مهم؛ وهو كيفية نشأة التكوين من الاعتبار، حيث أوضح في مقالته الأولى كيفية نشأة الاعتبار من التكوين والحقيقة، وكيف أن الاعتبار هو إعطاء حد الشي‏ء أو حكمه لشئ آخر بتصرف الوهم، وأنه ينشأ بسبب النقص؛ وهو أمر حقيقي. أمّا في المقالة الثالثة، فبيّن أن الاعتبار يولِد الإرادة، والإرادة تُحقِّق الفعلَ التكويني الخارجي؛ وهو إما كمال للإنسان أو نقص، فينشأ حينئذ التكوين من الاعتبار، فولِّد العقلُ التكوين من خلال عنوانٍ اعتباري.

وجوه التأمل في نظرية العلاّمة:

لا يخفى ما في النظرية من ظرافة ودقَّة نظر، ويظهر كذلك مدى أهميتها في صياغة الفكر البشري، وهذا لا يمنع من وجود بعض التأملات لنا عليها:

١ - إننا نتَّفق مع العلاّمة في:

* إن العقل النظري لا يحرِّك الإرادة؛ لذا سوف يأتي في الفصل الثاني أن التوحيد النظري من دون التوحيد العملي؛ وهو تولّي وليّ اللَّه الذي يهدي لإرادات اللَّه ومشيئآته، لا يوجب تحرَّك الإنسان، بل توجد مراتب أخرى متوسطة حتّى تصل إلى مدرَكات العقل العملي.

٨٢

* إن الفاعل الإرادي لا يتكامل إلاّ بتوسط إرادته.

* إن الإرادة لا تسعى إلى تحصيل ما هو متحقق بالفعل لأنه تحصيل للحاصل.

لكن نختلف مع العلاّمة في تحديد القضايا الحقيقية، فقد ذكر أن كل ما ليس له تحقق خارجي فعلي فهو قضية اعتبارية، وهذا غير صحيح وغفلة منه‏(قدِّس سرُّه)؛ وذلك لأن القضية الحقيقة لا تساوي القضية الخارجية، بل هي تشمل ما يكون الموضوع فيها حاكٍ عن وجودات في ظرف الاستقبال، وما تكون حاكية عن وجود تقديري، وما تكون حاكية عن موضوعات ممتنعة وهي القضايا غير البتِّية التي ليس فيها سوى فرض الوجود، وهذا أمر متسالم عليه، وبناء عليه فإن القضية التي يتصورها العقل ويحكم بها العقل العملي هي غير حاصلة في الخارج فعلاً، لكنها ليست اعتباراً محضا، بل تكون قضية حقيقية.

٢ - لقد حصر العلاّمة (رحمه الله) ‏الحاجة إلى الاعتبار في أنه مولِّد للإرادة، وهذا غير صحيح، بل إن الحاجة للاعتبار هو أمر آخر ذكره المتكلِّمون والأصوليون؛ حاصله:

إن الإرادة تنبعث من مدرَكات العقل العملي، ومدرَكات العقل العملي هي من الكلِّيات الفوقانية كحسن العدل وقبح الظلم، ومن هذه المدرَكات التي تمثِّل رأس مال العقل العملي ينطلق في سلسلة إدراكاته، وكذلك يستطيع إدراك الكلِّيات القريبة وفوق المتوسطة كحسن الصدق وقبح الكذب. أمَّا الكلِّيات النازلة والجزئيات الحقيقية، فإن العقل العملي لا يصل إليها كما في قبح القمار، ونكاح الشغار، ناهيك عن الجزئيات الحقيقية المتكثِّرة وغير المتناهية، من هنا يُحتاج إلى ضابطة تكون كاشفة عن حسن هذه الأمور وقبحها؛ وهذه الضابطة تكون بالاعتبار، فالاعتبار وظيفته الكشف عن الحقائق وما تخبِّأه من حسن وقبح، وحينئذٍ تنطلق الإرادة من هذا الاعتبار الكاشف، لا من كونه اعتباراً محضا.

والاعتبار إنما يكون كاشفاً صائباً للواقع في حال صدوره من العقل اللاّمحدود

٨٣

الذي يعلم بحسن وقبح جميع الأفعال.

٣ - ما ذكره من توسُّط الاعتبار بين حقيقتين وتكوينين صحيح، لكنَّه الاعتبار بما هو كاشف، لا بما هو اعتبار.

ونضيف على ما ذكره العلاّمة، وتكملة لِمَا ذكرناه من الحاجة للاعتبار:

ـ إنه قد يُتساءل: لماذا لجأ إلى الاعتبار - الذي هو إنشاء - في الكشف عن الحقائق، ولم يلتجأ إلى الإخبار عن حقيقة الأفعال الخارجية؟

والجواب عنه:

أ - إن الجزئيات غير متناهية، فإذا اعتمد أسلوب الإخبار التفصيلي، فهذا يعني إخبارات غير متناهية؛ لعدم تناهي الأفعال وعدم تناهي الأشخاص، فيجب أن يكون إخباراً لكل واحد. ويترتَّب عليه أن يُجعل كل الناس أنبياء، وأن لا يخطئ الكل في فعل، وهذا يبطل عالم الامتحان والابتلاء.

ب - إن برهان النظام الأصلح يقتضي وجود مراتب في العلم والوجود، والإخبار التفصيلي لكل واحد يقتضي عدم وجود مراتب، ويبطل النظام الأصلح.

جـ - إن الإخبار قد يؤدِّي إلى اختلاط الجزئيات؛ حيث إن الجزئي قد تكون له جهة حسن، وله قبح من جهة أخرى هي العامة، وقد يختلف الجزئي الواحد في تقديم جهة على جهة عن جزئي آخر، فلا تنضبط القضايا بضابط معين، بخلاف ما لو جعل ضابط يكون غالب المطابقة للواقع، فإنه ينظِّم حالة الإنسان بنحو أفضل. فالاعتبار أحد أمثلته: القانون الوضعي؛ حيث يراد من وضعه أن يكون كشفه غالبيا.

د - إن وساطة الاعتبارين الحقيقين هي وساطة إثباتية؛ باعتبار كشفه عن الواقع، ولا يتبعه الإنسان لأنه اعتبار، بل لأنه كاشف عن الواقع؛ وما ذلك إلاّ لأن الإنسان لا ينطلق إلاّ من الحقائق.

وما ذكره من أن أول اعتبار هو الأكل ونحوه، محلُّ إشكال؛ إذ لا داعي فيه إلى الاعتبار؛ حيث إن الأكل يُعتبر مكمِّلاً للبدن، ويَشعر الإنسان

٨٤

بحاجته ويقصد إليه، وهذه حقيقة يتولَّد منها الشوق والإرادة، وهذه الواقعية يدركها العقل - سواء العملي أم النظري - بسهولة، فلا حاجة إلى الاعتبار.

وهنا قد يرد تساؤل حول ما يظهر من التناقض بين قولنا فيما سبق: إن الإرادة تنطلق دوماً من

الحقائق( القضايا الحقيقية)، وبين ما ذكرناه في الأسطر السابقة من انطلاق الفاعل الإرادي من القضايا الاعتبارية.

وحلُّ هذا الإشكال يتمُّ بالتدقيق فيما بيَّناه من الحاجة إلى الاعتبار؛ إذ إنما يَلجأ إليه العقل لجهة كشفه عن جهات الحسن والقبح في الفعل، فهذا الاعتبار يساوق الحقيقة؛ لأنه يكون كاشفاً عن أمر واقعي، وليس بما هو اعتبار محض. ومن هنا لا يتَّبع الفاعل الإرادي أيَّ مُعتبر كان، بل يتحرى المُعتبرَ المطّلع على جهات الحسن والقبح، وخير مثال على ذلك: الاعتبار التشريعي الإلهي. فالإنسان يتَّبعه لأنه صادر من عقل لا محدود ومن المحيط بكل شي‏ء، فهو كاشف عن الواقع والتكوين، وهكذا الاعتبار في القانوني الوضعي؛ لأنه يقتضي صدوره من الكُمّلين في مجتمع بشري ما، فيتَّبعه لهذا الكشف أيضا؛ ومن ثَمّ ذكر أرسطو أنه لا يمكن أن يصدر التقنين إلاّ ممَّن يكون إنساناً إلهيَّا.

أمّا ما ذكر من الإثارة، وهي التغيُّر في التشريع وعدم الثبات، فيمكن الجواب عنه بما يلي:

١ - إن الحسن والقبح واقعيان، فأحكام العقل العملي ليست متغيِّرة، وقد برهنا على ذلك.

٢ - إن الاعتبار ليس أمراً اعتباطياً يقوم به كل واحد، بل لأجل الكشف عن الواقع، فيجب أن يتولاَّه مَن تكون له تلك القدرة؛ وآية ذلك أن المقنِّن الوضعي لا يُوكل كلَّ مَن هب ودبّ، بل يتخيَّر من أفراد المجتمع فئة خاصة تمتلك الخبرة والتجربة.

٣ - هناك نظريتان مشهورتان؛ أحدهما: المسمَّاة بنظرية التضاد أو الديالكتيكية.

٨٥

والأخرى: نظرية العقل التجريدي.

الأولى؛ تفترض عدم الثبات والتغيُّر الدائم. أمَّا الثانية، فتفترض الثبات ولو بنحو الموجبة الجزئية. وقد أُثري البحث فيهما بنحو تام وكامل، وثبت خطأ الأولى؛ لأنهم لابدّ أن يفترضوا ثوابت حتّى في نفس نظريتهم، فيكون نقضاً عليهم. إذن؛ لابدَّ من الاستناد إلى ثوابت، وإذا افترض أن كل شي‏ء في تغيُّر وغير ثابت، فما هو الهدف من البحث والاكتشافات؟ فإن كان للإثبات، فالسعي من أجل اكتشاف المجهول لن يصل إلى حد وغاية؛ حيث لا واقع ثابت.

٤ - إنَّا نسلِّم بوجودِ ثابتٍ وبوجود متغيِّر، لكن المشكلة في تحديد ضابط كلٍّ منهما. فمنطقة الثبات - كما أشرنا إليها سابقا - هي منطقة الكلِّيات العالية - كحسن العدل وقبح الظلم - والكلِّيات المتوسطة القريبة من العالية كالأخلاق الفاضلة المنبعِثة عن المَلَكات الفاضلة. أمَّا ما دونها؛ وهي منطقة الاعتبار، فهي تحتاج إلى ضوابط لمعرفة المتغيِّر والثابت.

ونستطيع أن نستفيد من القانون الوضعي وتقسيمه لتقريب فكرة الثابت والمتغيِّر في الاعتبار، بعد ثبوت أن لغة القانون والاعتبار واحدة. فإن القانون الوضعي على ثلاثة أقسام: الدستور / التشريعات البرلمانية / التشريعات الوزارية. فالقسم الأول غير قابل للتغيُّر عادة (١) ، والقسم الثاني أقلُّ ثباتا. أما الثالث، فهو دائم التغيُّر، وهكذا في الاعتبار؛ فنجد بعض الاعتبارات غير قابلة للتغيير، والبعض الأخر يحصل فيه التغيير والتبديل.

لكن ما هي ضابطة الأمور والاعتبارات المتغيِّرة؟

لقد ذُكر هنا ضوابط متعدِّدة، نذكر منها:

____________________

(١) والدستور ينطلق في وضعه من أهداف وأغراض ثابتة بحسب رشد مقنِّني الأمة كهدف الاستقلال والحرية والعدالة.

٨٦

١ - ذكر الميرزا النائيني أن ما هو قابل للتغيُّر هو الأحكام السياسية. أمَّا بقيَّة التشريعات، فثابتة. وتوضيح المقصود من الأحكام السياسية كالتالي:

إن التسيُّس هو التدبير وكيفية جعل الجزئيات متطابقة مع الكلِّيات الفوقانية؛ حيث إن الأمر الكلي الذي يُكتشف بقوة العقل يتنزَّل حتّى يصل إلى هذا الجزئي الحقيقي، فابتداءً هذا الجزئي لا يكون مندرجاً تحت قانون معيَّن، ولا محدود بميزان مخصوص، وإنما يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، ويتغيَّر بتغيُّر المصالح والمقتضيات، وبالتالي يجب أن تكون هناك قوة خاصة لدى الإنسان تُرجِع هذه الجزئيات إلى كلِّياتها حسب جهات الحسن والقبح، وهذا يكون بقوة الفطنة. وهذه الجزئيات هي منطقة البرهان العياني؛ فالفطنة لا تتدخَّل في الجزئي الخارجي بقدر ما تُشخِّص إنه تحت أي كلي؟ وكيف يتنزَّل هذا الكلي في مدارج النفس إلى العمل الجزئي؟

٢ - من الأمور التي تؤدِّي إلى تغيُّر الأحكام، هو تبدُّل الموضوع الجزئي.

٣ - وجود التزاحم والورود بالعناوين الثانوية كالعسر والحرج والضرر على صعيد الأحكام الاجتماعية والأمور العامة، ولكن ليُلْتفت إلى أن الحكم الثانوي لا يكون إلاّ مؤقَّتاً دائما، ولا ينقلب إلى الدوام؛ لأنه خروج عن مقتضاه.

٤ - الاختلاف في الإحراز ومدى رعاية الضوابط الموضوعة، سواء في فهم القانون الإلهي أم القانون الوضعي، فكم نجد من فقهاء القانون يختلفون في تفسير القواعد القانونية، وهكذا في فقهاء الشريعة؛ حيث يختلفون في تفسير وفهم بعض النصوص الإلهية.

وهذا الاختلاف لا يتناول الكلِّيات الفوقانية؛ وذلك لأنها ثابتة وغير متغيِّرة، والأمور الثابتة أكثر وضوحا، والخفاء فيها يقل، بل يندر، والخفاء يظهر في الجزئيات والمتوسطات التي هي ذات درجات كثيرة وعرض عريض؛ حيث تتداخل

٨٧

الجزئيات مع بعضها البعض، فيكون عنصر الغموض.

وتتفق هذه الأسباب الثلاث على أن مورد الاختلاف والتغيُّر هو في الجزئيات، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى فهم الضوابط التي تمنع الإنسان من الوقوع في الاشتباه عند تمييز الجزئيات، وهذه الضوابط تقع في مباحث أصول الفقه.

و يتلخَّص من كل ما مر:

١ - إن الأساس للأحكام الشرعية هو الحسن والقبح العقليين، وهما برهانيان، وهذا يعني أن لا تبدل فيهما ولا تغيُّر.

٢ - إن منشأ الحاجة للاعتبار هو محدودية العقل البشري، فتظهر عناية ولطف واجب الوجود بأن يبيِّن لهم تشريعات ثابتة في تلك المنطقة التي لا يدركها العقل المحدود.

٣ - إن جهات التغيُّر والتبدُّل في الاعتبار هي غالباً في منطقة الجزئيات.

٨٨

التنبيه الرابع:

في تبعية الولاية التشريعية للولاية التكوينية

المقصود من هذا البحث بيان أن مَن له صلاحية التشريع وسنِّ القوانين يجب أن يكون له مقام

تكويني خاص. فبعد اتفاق جميع الموحِّدين أن المشرّع الأول والمحيط بالواقع وحقائق الوجود هو اللَّه عزَّ وجل، يرد التساؤل والبحث: هل أُعطيت صلاحية مقدار من التشريع للبشر؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فأي بشر هو الذي يمكنه سنُّ القوانين؟

للإجابة عن هذا التساؤل يوجد مسلكان:

المسلك الأول: النقل والاستدلال بالآيات القرآنية والروايات الشريفة الدالة على هذه التبعية؛ من نحو قوله تعالى: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تسليماً ) (٢) ، ( لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٣) .

ومن أمثلة الروايات: ما ورد أن الصلاة الرباعية كانت ثنائية، فأوكِل التشريع للرسول فجعلها رباعية، وغيرها من الروايات.

المسلك الثاني: العقل. وهذا هو المقصود بالبحث هنا، فيمكن إقامة وجوه ثلاثة لإثبات تلك التبعية:

____________________

(١) الحشر ٥٩: ٧.

(٢) النساء ٤: ٦٥.

(٣) الأحزاب ٣٣: ٢١.

٨٩

الوجه الأول:

وهو ما ذكرناه سابقاً في التنبيه الثاني من وجه الحاجة إلى الاعتبار؛ حيث بينَّا:

أ - الحاجة إلى التشريع والقانون لتنظيم الاجتماع ولمسيرة الإنسان في هذه الحياة.

ب - إن العقل البشري لمحدوديته لا يستطيع التوصل إلى الواقع، ولا يحيط بجهات الحسن والقبح والموازنة بينها.

ح - يحتاج العقل المحدود إلى مَن يسنُّ له تلك القوانين، فتتم صياغة الحقائق عن طريق قضايا اعتبارية قانونية.

وحتّى لا تكون هذه الصياغات جهلاً، يجب أن تكون مطابقة للواقع، فيجب أن يتصف مَن يسنُّ تلك التشريعات أن يكون له علم متصل ومرتبط بالذات المقدَّسة، وإلاّ لأصاب التشريع والتقنين التغيير والتبديل كما نراه في التشريعات الوضعية الحديثة على مرّ الزمان.

د - إن من رحمة اللَّه بعباده ورأفته بهم أن يوصل العباد إلى كمالاتهم ويُبعدهم عن نقائصهم، فطِبقاً لذلك، ولِمَا ذكره المتكلِّمون بقاعدة اللطف أو ما ذكره الفلاسفة بقاعدة العناية الإلهية، يجعل الباري تعالى في بني الإنسان مَن له ذلك الاتصال الغيبي وتلك المنزلة الرفيعة.

وبذلك يثبت أنَّ مَن تكون له الولاية التشريعية وصلاحية سنِّ القوانين، له أيضاً ولاية تكوينية واتصال غيبي بالذات المقدَّسة.

الوجه الثاني:

ويعتمد على:

١ - ملاحظة الجهاز الإدراكي للإنسان وتفصيل قواه العقلية وكيفية توصُّـله للنتائج. وقد ذكر الفلاسفة أن هناك جهازين يحكمان إدراكات الإنسان؛

أحدهما: الجهاز القلبي؛ وهو يُعني بالعلم الحضوري. ومراتبه أربع: قلب، وسر، وخفي، وأخفى.

٩٠

وثانيهما: الجهاز العقلي الذي يحكم إدراكاته الحصولية. ومراتبه هي: العقل النظري، والعقل العملي، وقوة الفطنة والرؤية، والقوة النازلة الإدراكية كقوة الوهم والخيال والحس، والقوى العملية النازلة كقوى الغضبية والشهوية.

وهذه القوى النازلة تكون منصاعة إلى قوة العقل العملي بحسب الفطرة الإلهية الأصلية، وهو يمارس هيمنته وتوجيهه لها.

٢ - ذكرنا في التنبيه الأول ما يميِّز العقل العملي عن النظري؛ فالإدراك لأيِّ قضية يمرُّ عَبر أفعال ثلاثة:

أحدها: الفحص والبحث في الفكر.

الثاني: إدراك النتيجة المتولِّدة من المقدمات.

الثالث: الإذعان بتلك النتيجة والتسليم بها.

وقد أشار صدر المتألهين في رسالته في التصوير والتصديق وتبعه جلُّ المتأخرين: أن النتيجة والحكم في القضية لا يعتبر جزءاً للقضية. فالتصور؛ وهو الصورة الحاصلة لدى الذهن، تارة تكون مؤدِّية ومؤثِّرة في حصول الحكم، فتكون تصديقا، وتارة لا تكون مؤثِّرة، فتسمّى تصورا. وهاتان المقدمتان هما من إدراك العقل النظري؛ فهو يدرك النتيجة المتولِّدة من المقدمات، لكن هذا غير الإذعان والحكم الذي هو من أفعال العقل العملي. ويفسر العلاّمة الطباطبائي الحكم بأنه (١) : قيام النفس بدمج صورة الموضوع مع صورة المحمول في صورة واحدة.

وقد تقدَّم منَّا الإشارة إلى أن المراد من وجوب المعرفة هو الفعل الثالث، ومن هنا قلنا بإمكانية كونه واجباً شرعياً.

٣ - كثير من المفكِّرين يتوهَّمون بأن العلاقة والارتباط بين المقدِّمات (الصغرى والكبرى) والنتيجة، والعلاقة بين النتيجة والحكم والإذعان، هي علاقة العلية والمعلولية؛ بمعنى استحالة تخلُّف النتيجة عن مقدِّماتها واستحالة تخلُّف الإذعان عن النتيجة، لكن الحق أن الفلاسفة اثبتوا خلاف ذلك. فقد ذكر السبزواري في منظومته في بحث القياس أن الرابطة ليست هي رابطة العلة والمعلول، بل المقدمات

____________________

(١) نهاية الحكمة، ص ٢٥٢.

٩١

إعدادية فقط. والمتكلِّمون ذكروا بأن سنَّة اللَّه جلَّ وعلا قد جرت على أنه إذا أُدركت تلك المقدمات، فإنها تكون مُعِدَّة لإفاضة النتيجة على الإنسان، وهذه الإفاضة من العقول العالية على العقل البشري النازل.

والذي أوقع البعض في هذا الوهم، هو عدم التخلّف، وغفلوا عن أن هذا لا ينحصر بالعلية. وقد ذكر الحق سبحانه في مثال الفلاح الذي يقوم بعملية الزرع؛ حيث نصَّ سبحانه على أن وظيفته ليست إفاضة وجود الشجرة على البذرة، بل يقوم الفلاح بالإعداد عن طريق تهيئة التربة ووضع البذرة وريّها. أمّا المُفيض لوجود هذا النبات فهو الحق سبحانه: ( ءَأَنتُمْ تَزرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) . وقد أثبت الفلاسفة أن الجسم لا يمكن أن يُفيض صورة جسمية أخرى. وهكذا الارتباط بين النتيجة والحكم والإذعان؛ فالوظيفة التي يقوم بها العقل العملي هي الإذعان بالنتيجة، فهذا هو الحالة الطبيعية، وهي بذلك تكون مُعِدَّة لحصول ذلك الإذعان وليست علة.

٤ - إن ما ذكرناه سابقاً في تسلسل عملية الإدراك في الجهاز الوجودي للإنسان هي الحالة الطبيعية والتي بمقتضاها ينصاع الأسفل إلى الأعلى، وتمارس القوى العُليا هيمنتها على القوى النازلة، وتنساب عملية الفكر والإدراك في هذه المراحل المتسلسلة، لكن هذا التسلسل لعملية الإدراك يواجه عوائق وموانع تمنع عن حصول الإدراك الصحيح، وتمنع من خروج التصرف الصحيح طبقاً للإدراك الصحيح، وتؤدِّي هذه العوائق إلى قلب عملية التفكير؛ حيث تُسيطر القوى النازلة على القوى العالية وتتحكَّم بإدراكاتها؛ بمعنى أن ما ندركه، هو ما يحقِّق كمالات تلك القوى، فيندفع الإنسان حينئذ إلى تحقيق شهواته وإشباع رغباته الفتَّاكة.

ومن هذه الأمراض (١) :

مرض الجُربزة؛ وهي مقابل للبلادة؛ وهي البطء الشديد في إدراك النتائج بعد

____________________

(١) لاحظ: ملاّ صدرا، الأسفار، ج٨.

٩٢

إدراك المقدمات.

العناد: وهو عدم انسياق العقل العملي لمدركات العقل النظري مع العلم بصحتها.

... الوسوسة، الاضطراب.

فهذه الأمراض هي التي تمنع من حصول إذعان النفس بمدركات العقل النظري، وهذه الأمراض هي التي تصيب قوى الإنسان في إدراكاته الحصولية. وهناك أمراض تصيب درجات إداركه الحضورية؛ حيث تمنعه من الترقِّي الوجودي، وتمنعه من الوصول إلى/ بل ومن الاتصال بـ الصقع الربوبي، فيبتعد أكثر عن ساحة الحق ويصير بينه وبين الحقائق حاجباً وساتراً لا يزول إلاّ بالتقوى والعمل الصالح ولقد قال عزَّ من قائل: ( اتَّقُوا اللَّهَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ) (١) .

ومن هذه المقدمات الأربع ننتقل إلى ما نريد التوصُّل إليه؛ وهو إنه مع وجود هذه المراحل في إدراك الإنسان، ووجود مثل تلك الموانع والعوائق التي تؤثِّر في صدور القرار الصحيح والفعل النافع، كيف يمكن تقليده صلاحية التقنين والتشريع؟ إذن؛ فإن من الواجب أن يمتلك زمام التشريع والتقنين مَن يكون جهازه الإدراكي في مأمن من تلك العوائق والموانع، ويكون محلّاً لإفاضة العلوم عليها من العوالم العلوية وتنزُّلها، في مأمن من تشويش ومشاغبة قوى النفس الدنيا؛ هذا إذا أرادنا تشريعاً يكون مظهراً للحقائق الواقعية، مطابقاً وصحيحا.

وهذا الإنسان الذي يمتلك تلك القابلية، هو الذي يكون مظهراً للرضا الإلهي وللغضب الإلهي وللعزائم الإلهية؛ وذلك لا يكون ألاّ بأن تتساوى كلُّ حركاته وسكناته بلحاظ التأثُّر بالعوالم العلوية. ومَن لا يمتلك تلك المكانة والقابلية لن يكون تشريعه سالماً وصحيحا؛ ومن هنا قلنا: إن الولاية التشريعية تابعة للمقام التكويني الخاص.

والمقام الأكمل الذي يصل إليه المشرِّع والمُسِن للقوانين هو مقام العصمة، وهي كما لا يخفى على درجات؛ فبعضهم أصحاب شرائع، وبعضهم أولوا عزم،

____________________

(١) البقرة: ٢٨٢.

٩٣

وبعضهم شرائعهم دائمة وأبدية، وهكذا تختلف درجاتهم العصموية باختلاف درجات قربهم من الصقع الربوبي، وتتنزَّل درجات العصمة حتّى تصل إلى العصمة في الإنسان العادي وتتمثَّل في حدود البديهيات الموجودة في العقل البشري؛ حيث إن عدم وجودها يؤدي إلى نوع من الاضطراب والخلل؛ حيث لا يوجد حينئذ ما يتَّكئ عليها الفكر البشري.

الوجه الثالث:

ذكرنا فيما سبق أن الإنسان يُركِّز ويستند في علومه إلى نوع محدود من العصمة؛ وذلك من خلال البديهيات الموجودة في العقل البشري والتي ينتهي إليها في كل قضية، وبدونها يحل الاضطراب في الفكر البشري، كما أشرنا فيما سبق إلى أن مدركات العقل العملي والنظري هي الكلِّيات الفوقانية، وأن العقل البشري - وبسبب محدوديَّـته - احتاج إلى التقنين والاعتبار لضبط الجزئيات الخارجية، وأن التفكير البشري يمرُّ في تنزُّل العلوم الكلية إلى الجزئيات بمراحل متعدِّدة، ويستعين بجملة من البراهين يُحرز من خلالها التفكير الصحيح؛ وهما: البرهان النظري؛ ورأس ماله العلوم البديهية. و البرهان العياني الذي يتَّصل بالجزئيات، وأنه يضمن اختيار الفعل الأصلح عن طريق قوَّة الفطنة والتروِّي التي تستلم من العقل العملي والبرهان النظري النتائج الصادقة الحقيقية. وتستخدم قوة الفطنة القوى الإدراكية الجزئية والقوى العمَّالة السفلية؛ حيث الغضب الرافع للموانع والشهوة المولِّدة للشوق، وبهذا الشكل يصدر الفعل الجزئي صحيحاً غير خاطئ.

٩٤

التنبيه الخامس:

العلاقة بين العقل العملي والعقل النظري

نلاحظ بعض الظواهر التي يتَّحد فيها حكم العقلين وإن اختلف طريقهما؛ من أمثلة ذلك: قاعدة اللطف الكلامية المعروفة، ومدركها العقل العملي، وقاعدة العناية الفلسفية، ومدركها العقل النظري، وهما قاعدتان ينتجان نتائج متشابهة بنحو كبير.

وهكذا في بحث العقوبة الأخروية؛ بمقتضى المعاد الجسماني وكون القبح والحسن عقليين، فإن العقل العملي يحكم بالعقوبة الأخروية؛ حيث إن مدح اللَّه ثوابُه وذمَّه عقابُه، أو أن مدح الفعل بالكمال المنتهي إليه وذمِّ الفعل بالنقص، والعقل النظري يحكم بالعقوبة الأخروية بتوسُّط نظرية تجسُّم الأعمال. وهكذا سوف نجد موازاة بين قواعد أخرى يحكم بها العقلان، فهذا الارتباط بينهما ليس ارتباطاً عفوياً وصدفة؛ وإنما له منشأ تكويني.

بيان ذلك : أن ضابطة مدركات العقل العملي هو ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله، وما ينبغي فعله هو الحب التكويني الفطري والانجذاب نحو الكمال؛ فلذا هو يطلبه طلباً تكوينياً ويبتغيه كغاية، وما لا ينبغي فعله هو خلافه؛ أي ما تنفر منه تكوينا.

والكمال هو الخير والوجود، والنقص هو الشر والعدم، وضابطة مدركات العقل النظري هي الوجود ونفي الوجود، فمباحث الحكمة النظرية مرتبطة بالكمال والوجود، ومباحثه تؤثِّر في العقل العملي الذي ينجذب تكويناً نحو الكمال الذي

٩٥

يحكم به العقل النظري، وقد ذكرنا فيما سبق أن محمولات العقل العملي هي الحسن والقبح بمعنى المدح والذم، والمدح هو الحكاية عمَّا يختزنه الفعل من الكمال، والذم هو الحكاية عمّا يكنزه من النقص.

وهكذا نلاحظ الارتباط الحاصل بين العقلين والاندماج بين مدركاتهما؛ بحيث يفتح باباً جديداً في الاستدلال الحِكمي البرهاني والمعرفة العقلية. ويمكن استخدام الأدلة الكلامية في المباحث الفلسفية؛ حيث تكون كاشفاً كشفاً إنيَّا، وكذلك العكس واستخدام الأدلة الفلسفية في المباحث الكلامية.

٩٦

المبحث الرابع:

حُجِّـيَّة المعارف القلبية

والبحث فيها من جهات:

الجهة الأولى:

في بيان المراد من المعارف القلبية.

إن الحديث عن المعارف القلبية مُتشعِّب وطويل، وسوف نتناول منه ما يهمُّنا في بحثنا و المقدار الذي يكون فيه حجة متميِّزة عن غير الحجة.

يتَّفق الفلاسفة على أن هناك نحوين من الإدراكات التي يتوصل بها الإنسان لمعرفة الحقائق؛

الأول: الإدراكات العقلية.

والثاني: الإدراكات القلبية.

وضابطة التفصيل بينهما يعتمد على كيفية الإدراك؛ فالأول يتمُّ عن طريق الصور الحصولية للأشياء، والثاني يتمُّ عن طريق الإدراكات الحضورية؛ وهو الارتباط بالشي‏ء ارتباطاً ما.

توضيح ذلك: أن الإدراكات العقلية تعتمد على الصور، ويختلف مدى ارتباط هذه الصور بالمادة حسب المراتب:

فالصورة الحسية وإن كانت مجرَّدة عن الخارج، إلاّ أن لها ثلاثة تعلُّقات:

١ - من جهة الأبعاد؛ الطول والعرض والعمق.

٢ - من جهة المشخِّصات والألوان.

٣ - لابدَّ من محاذات وجود خارجي محسوس.

فالصورة الحسية تنطوي على تجرُّد عن نفس المادة، ولها ثلاث تعلُّقات من لوازم المادة.

٩٧

أمَّا الصورة الخيالية، ففيها شي‏ء من اللطافة؛ إذ يضاف إليها تجرُّد عن المحاذات لشي‏ء محسوس، لكن مع تعلُّق من جهة الأبعاد ومن جهة العوارض المشخِّصة.

أمَّا الصورة الوهمية، فيضاف إليها تجرُّد عن الأبعاد الثلاثة وعن العوارض، لكن يبقى لها تعلُّق؛ باعتبار وجوب إضافتها إلى الجزئي الحقيقي كحبِّ زيد وبغض عمرو... وهكذا.

وأمَّا في العقل العملي والنظري، ففيه تجرُّدات تامة، لكن يبقى له تعلُّق بالصور.

والنفس في إدراكها لهذه الصور المختلفة، لها إياب وذهاب وخلط وترتيب وربط بين هذه الصور المختلفة؛ فقد تغرب عن الصور الحسية؛ أي الوهمية أو الخيالية، وتحمل المعنى الوهمي على المعنى الحسي... وهكذا؛ وهذا ما يسمّى في الاصطلاح: أن النفس لها حركة تجرُّد وتعلُّق.

أمّا المعارف القلبية، فهي أشدُّ تجرُّدا؛ حيث لا تتعلَّق بالصور كما في الإدراكات العقلية، بل هو الارتباط بالشي‏ء بنحو ما.

وللنفس أيضاً إياب وذهاب في مراتب المعارف القلبية الأربع وهي:

١ - القلب: وهو الارتباط بحقائق الأشياء من دون توسُّط الصور المادية، نعم، يُدرك في هذه المرحلة الصور العينية البرزخية كما في سماع أنين الموتى من الصالحين، وكذلك تشمل إدراكات عالم المثال، و يقال حينئذ: إنها تدرك صور الجوهر المثالي.

٢ - السر: وهي الإدراكات التي فوق عالم البرزخ والمثال، فهي أكثر سعة من مرتبة القلب، وأكثر إحاطة وجودية.

٣ و٤ - الخفي والأخفى وهما المرتبتان المتعلِّقتان بالأنوار الربوبية وإدراك الأسماء الإلهية.

إذا اتضح ذلك، نقول:

١ - إنه كما أن الإدراكات العقلية موجودة في كل إنسان، لكن قد لا يستطيع

٩٨

البعض استخدامها ويعجز عن الوصول حتّى إلى القوة الوهمية، بل تظل نفسه محبوسة بين الحس والخيال، فهكذا المراتب القلبية؛ فهي مراتب شأنية يستطيع كل إنسان أن ينالها، لكن تحتاج إلى قوة إيمانية وكمالات عالية حتّى يكون للنفس سبح في هذه المراتب، ولا ينالها إلاّ ذو حظٍ عظيم، والإنسان بعمله ومناعة نفسه يرتقي إلى هذه المراتب.

٢ - إن التمييز بين المراتب القلبية الأربعة هو التمييز في الحدود الوجودية.

٣ - إن مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام تبنَّت الرؤية القلبية للذات المقدسة، لا الرؤية الحصولية الوهمية، ولا الخيالية، ولا الحسية. وأمَّا الرؤية العقلية بتوسط المعاني المجردة، فقد أثبتتها العديد من الروايات الواردة عنهم، المتضمِّنة للتنبيه على لزوم الوحدة والبساطة في المعاني والصفات وعدم تطرُّق التركيب العقلي التحليلي فيها، وأنه الفارق في التوصيف العقلي للذات الواجبة عن الممكنات؛ وهو متطابق مع ما قام عليه البرهان الحكمي.

وفي بعض الروايات (١) أنه لو أحيل الإدراك بالمعاني ‏العقلية، لكانت المعرفة أمر لا يطاق عند عامة البشر، كما أن الروايات نبَّهت على أن المعبود هو المحكي بالمعاني العقلية وهو المسمَّى، لا نفس المعاني العقلية وهي الاسم. فالذات المقدَّسة لا تُقتنَص بحسٍ ولا بوهمٍ ولا بخيال؛ لعدم الحدود والمقدار فيه، فكيف يمكن اقتناصها بتلك القوى وإثبات الرؤية الحسية لها؟! نعم، الإدراكات العقلية هي الحالة الوسط بين الإدراكات الصورية النازلة وبين الإدراكات القلبية؛ ولذا فهي بوابة على الغيب، لكنَّها تبقى معانٍ حاكية، وليست هي نفس المحكي؛ أي ليست هي نفس الواقع. وهذه الإدراكات العقلية بهذا المقدار، والحاكية عن أقصى غيب

____________________

(١) أصول الكافي، ج١، ص٨٣، ح٦.

٩٩

الغيوب؛ وهو الباري جلَّ وعلا، هو المقدار المكلَّف به الناس؛ أي العبادة عبر إدراكاتهم العقلية.

٤ - فوائد المعارف القلبية:

أ - إن الإنسان لم يخلق للخلود في هذا العالم، بل هو مخلوق لعوالم أخرى، فهو يعيش منذ ولادته عالمَه البرزخي؛ بمعنى إنه يَصنع بأعماله وعقائده عالمَه البرزخي، وعندما يتكامل ويبلغ ويرشد يصنع حياته الأخروية التي هي بعد الحياة البرزخية في عين عيشه حالياً للحياة الدنيوية، والمراتب القلبية تجعله مشرفاً على تلكم العوالم.

وقد يظنُّ البعض أن هذا نوع من الخيال وتسطير الكلمات، فما الحاجة إلى الإشراف على هذه العوالم وهو لم يعشها؛ بمعنى لم يحن ظرفها الزماني، فنقول:

خير مثال على ذلك؛ الطفل الذي يعيش في بطن أمِّه، يكون له أذن وأنف وفم ولسان وشفتين... وكل شي‏ء، فَلِمَ كل هذه الأجهزة؟ هل هي حتّى يستعين بها في حياته داخل رحم أمه؟ بالطبع لا، من الواضح أن هذه الأجهزة لأجل أن يعيش بها في عالم آخر غير عالم الرحم؛ وهو عالم الدنيا. وهكذا الإنسان في مراحله القلبية؛ فالإنسان لا يحتاج إليها في إدارة شؤون عالم الدنيا، إلاّ إنه محتاج لها في عالم الآخرة.

ب - إن المراتب القلبية هي السبيل لمعرفة الغيب، فكلٌّ يستطيع إدراك الغيب وكلٌّ يعيش الغيب ولو مرتبة ضامرة.

جـ - الفائدة الجليلة والعظيمة في الإدراكات القلبية، هي رؤية أشرف مرئي وهو: نور واجب الوجود.

٥ - إن الإنسان إذا أدرك - بلحاظ المراتب القلبية - حقيقة من الحقائق وأرادها أن تنزل إلى الإدراك العقلي النظري، فلابدَّ أن تتنزَّل بمعناها لا بوجودها وحقيقتها؛ فالارتباط بين المراتب القلبية والعقل النظري هي بوحدة المعنى وبوحدة المفهوم،

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وسوف أستعرض هنا هذه الخاصة دليلا ثالثا من أدلتي على صدق القرآن الكريم، ولقد أنزل القرآن قبل عصر النهضة، ولكن أحدا من الناس لم يستطع ابطال شيء مما جاء به، ولو كان هذا القرآن من كلام البشر، لعد ذلك ضربا من ضروب الاحالة.

***

نزل القرآن في عصر لم يكن الانسان يعرف فيه عن الطبيعة الا القليل النادر، وكانوا يرون أن الأمطار تنزل من السماء، وأن الأرض مستوية، كالفراش، وأن السماء سقف الأرض، وكانوا يرون أن النجوم مسامير لامعة من الفضة مركبة في قبة السماء، أو أنها قناديل معلقة في الفضاء! وكان أهل الهند الأقدمون يؤمنون بأن الأرض محمولة على أحد قرني «البقرة الأم»، وهي حين تقوم بنقل الأرض من قرن الى آخر يحدث زلزال على البسيطة(١) . وكان العلماء يرون أن الشمس ساكنة بلا حراك، وأن الأرض تدور حولها، الى أن جاء (كوبرنيك) (١٤٧٣/١٥٤٣م)، وعرض فكرته الشهيرة عن حركة الشمس.

***

وهكذا تقدم العلم رويدا رويدا، الى أن زادت قوة المشاهدة والدراسة لدى الانسان، فكشف عن أسرار كثيرة. والآن لانجد جزءا ما من معلوماتنا عن أجزاء الجسم، وشعب العلم المختلفة، الا وقد تغيرت نظرتنا اليه كلية، وثبت بطلان عقائد العصر القديم.

ويدل هذا بكل صراحة على أنه لاوجود لكلام انساني تدوم صحته كليا. لأن الانسان يتكلم عما هو معروف من المعتقدات والعلوم في عصره، انه سوف يسرد ما وجده في زمنه، سواء وقع كلامه في دائرة الشعور أو اللاشعور. ولذلك لانجد كتابا مضى عليه حين من الدهر الا وهو مملوء بالأغلاط والأخطاء من سائر نواحيه، نظرا الى الكشوف الجديدة في كل الميادين.

ولكن مسالة القرآن الكريم تختلف تمام الختلاف عن هذه الكلية! فهو حق وصادق في كل ما قال، كما كان في القرون الغابرة. ولم يطرأ على مقاله أي تغير رغم مضي قرون وعصور طويلة. وهذا في نفسه دليل على أن منبعه عقل جبار يحيط بالأزل وبالأبد علما، وهو يعلم سائر الحقائق في صورها النهائية والحقيقية، ولايخضع علمه ومعرفته لحواجز الزمان والمكان والأحوال. ولو كان هذا الكلام صادرا عن بشر محدودي النظر والعلم لكان الزمان قد أبطله منذ عصور عديدة، كما يحدث لكل كلام انساني في مستقبله.

___________________

(١) شاعت هذه العقيدة الخرافية كذلك في أوساط العوام وأشباه المتعلمين في شرقنا العربي، وان كان تيار المعرفة العامة الآن يقضي على مثل هذه الخرافات - (المراجع).

١٤١

ان المحور الحقيقي لرسالة القرآن هو السعادة الأخروية، فهو بذلك لايدخل في دائرة أي من علومنا وفنوننا الحديثة. ولكن حيث انه يخاطب «الانسان» في حقيقة الأمر، فهو يمس كل ما هو متعلق بالانسان، وهي مسألة دقيقة، وموقف جد خطير. لأن المرء حين يكون جاهلا، أو ناقص المعلومات حول مشكلة ما، ثم يتجرأ ليتكلم عن تلك المشكلة - ولو اجمالا - فلابد أن يكبو في حديثه، وذلك حين يستخدم كلمات أو عبارات لاعلاقة لها بالواقع والحقائق!.

وعلى سبيل المثال: قال أرسطو استدلالا على أسبقية الرجل على المرأة: ان فم المرأة يحوي أسنانا أقل عددا من أسنان الرجل!! ومن المعروف أن هذا الكلام لاعلاقة له بعلم الأجسام، بل هو يدل على أن صاحبه جاهل بهذا العلم، فان عدد الأسنان سواء لدى الرجل والمرأة. ولكن من المدهش حقا أن القرآن - حتى فيما يمس أكثر العلوم الحديثة من ناحية أو أخرى - لايحتوي كلمة ما أثبت العلم فيما بعد، أنها من صنع رجل جاهل بذلك الموضوع، وهذا يوضح صراحة أنه كلام موجود فوق الطبيعة؛ وهو على معرفة تامة بكل شيء على حين لم يكن أحد يعلم شيئا، وهو يعلم أيضا كل ما يجهله البشر في هذا العصر؛ مع تقدم العلوم.

وسوف أورد هنا بعض الأمثلة التي تدل صراحة على أن القرآن الكريم يحيط بالحقائق التي لم تعرف الا في عصرنا هذا، وان كانت احاطته هذه ضمن اشارات غير مقصودة لذاتها.

ويجب ان أقول، تمهيدا لهذا البحث: ان مطابقة كلمات «القرآن» وألفاظه للكشوف الحديثة مبنية على أن العلم الحديث قد استطاع الكشف عن أسرار الواقعة موضوع البحث، فتوفرت لدينا مواد نافعة لتفسير الاشارات القرآنية في ذلك الموضوع. ولو أن دراسة المستقبل في موضوع ما تبطل واقعة من وقائع العلم الحديث كليا أو جزئيا فليس هذا بضائر مطلقا صدق القرآن، بل معناه أن المفسر أخطأ في محاولته لتفسير اشارة مجملة في القرآن، وانني لعلى يقين راسخ بان الكشوف المقبلة سوف تكون أكثر ايضاحا لاشارات القرآن، وأكثر بيانا لمعانيه الكامنة.

***

تقسيم لآيات القرآن

ونستطيع أن نقسم الآيات القرآنية المتعلقة بهذا الجانب الى نوعين:

الأول: ما عرف عنه الانسان - حتى ذلك العصر - أمورا جانبية وسطحية.

والثاني: ما لم يعرف عنه ذلك الانسان شيئا، مطلقا.

١٤٢

ان هناك أشياء كثيرة كان الأقدمون يعرفون عنها بعض المعارف الجزئية، وكانت معرفتهم هذه ناقصة جدا بالنسبة الى المعرفة التي أتيحت للانسان اليوم، بفضل الاختراعات الحديثة. وقد واجه القرآن في هذا الصدد مشكلة كبرى، فهو لم يكن كتابا في العلوم والهندسة، ولذلك لو أنه كان بدأ يكشف عن أسرار الطبيعة لاختلف الناس فيما بينهم حول ما جاء في القرآن، ولاستحال عندئذ بلوغ الهدف الحقيقي من نزول القرآن، وهو اصلاح العقل الانساني وتزكيته. فمن اعجاز القرآن أنه تكلم في لغة العلم، قبل كشفه، كما أنه استعمل كلمات وتعبيرات لم يستوحشها أذواق الأقدمين ولامعارفهم، على حين أحاطت بكشوف العصر الحديث!.

***

النوع الأول

(١) ذكر القرآن الكريم قانونا خاصا بالماء في صورتين: هما الفرقان والرحمن. وجاء في السورة الاولى:

( وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَ هٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً ) (١) .

وأما الآية التي وردت في السورة الأخرى فهي تقول:

( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ ) (٢) .

ان الظاهرة الطبيعية التي يذكرها القرآن في هذه الآيات معروفة عند الانسان منذ أقدم العصور؛ وهي أنه اذا ما التقى نهران في ممر مائي واحد فماء أحدهما لايدخل (أي لايذوب) في الآخر. وهناك، على سبيل المثال، نهران يسيران في «تشاتغام» بباكستان الشرقية الى مدينة «أركان»، في «بورما»، ويمكن مشاهدة النهرين، مستقلا أحدهما عن الآخر، ويبدو أن خيطا يمر بينهما، حدا فاصلا؛ والماء عذب في جانب، وملح في جانب آخر. وهذا هو شأن الأنهار القريبة من السواحل، فماء البحر يدخل ماء النهر عند حدوث «المد البحري»، ولكنهما لايختلطان، ويبقى الماء عذبا تحت الماء الأجاج. وهكذا شاهدت عند ملتقى نهري الكنج والجامونا، في مدينة «الله آباد»، فهما رغم التقائهما لم تختلط مياههما، ويبدو أن خيطا فاصلا يميز أحدهما من الآخر(٣) .

ان هذه الظاهرة، كما قلت، كانت معروفة لدى الانسان القديم. ولكنا لم نكشف

___________________

(١) الفرقان/٥٣.

(٢) الرحمن/٢٠ - ٢١.

(٣) وهو ما كان يشاهد عند التقاء النيل بالبحر الأبيض، قبل بناء السد العالي - (المراجع).

١٤٣

قانونها الا منذ بضع عشرات من السنين. فقد أكدت المشاهدات والتجارب أن هناك قانونا ضابطا للأشياء السائلة، يسمى (قانون المط السطحي) Surface Tension ، وهو يفصل بين السائلين؛ لأن «تجاذب» الجزئيات يختلف من سائل لآخر، ولذا يحتفظ كل سائل باستقلاله في مجاله. وقد استفاد العلم الحديث كثيرا من هذا القانون، الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله سبحانه:( بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ ) . وملاحظة هذا البرزخ لم تخف عن اعين القدماء، كما لم تتعارض مع المشاهدة الحديثة، ونستطيع، بكل ثقة، أن نقول: ان المراد من «البرزخ» انما هو «المط أو التمدد السطحي»، الذي يوجد في الماءين، والذي يفصل أحدهما عن الآخر.

ويمكن فهم هذا المط السطحي بمثال بسيط، وهو: أنك لو ملأت كوبا بالماء، فانه لن يفيض الا اذا ارتفع عن سطح الكوب قدرا معينا. والسبب في ذلك أن «جزئيات» السوائل عندما لاتجد شيئا تتصل به فوق سطح الكوب، تتحول الى ما هو تحتها، وعندئذ توجد (غشاوة مرنة) Elastic Film على سطح الماء؛ وهذه الغشاوة هي التي تمنع الماء من الخروج عن الكوب لمسافة معينة، وهي غشاوة قوية لدرجة أنك لو وضعت عليها ابرة من حديد فانها لن تغوص! وهذه الظاهرة هي مايسمى بالمط السطحي، الذي يحول دون اختلاط الماء والزيت، والذي يفصل بين الماء العذب والملح.

***

(ب) وجاءت في القرآن بيانات مماثلة، وعلى سبيل المثال:

( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) (١)

وهذه الآية مطابقة لما كان يراه الرجل القديم؛ فانه كان يشاهد عالما كبيرا قائما بذاته في الفضاء، مكونا من الشمس والقمر والنجوم، ولكنه لم ير لها أية ساريات أو أعمدة، والرجل الجديد يجد في هذه الآية تفسيرا لمشاهدته، التي تثبت أن الأجرام السماوية قائمة دون عمد في الفضاء اللانهائي، بيد أن هنالك «عمدا غير مرئية»، تتمثل في قانون «الجاذبية) Gravitation Pull ، وهي التي تساعد كل هذه الأجرام على البقاء في أمكنتها المحددة.

(ج) وقد قال القرآن عن الشمس والنجوم:

( وَ کُلٌّ فِي فَلَکٍ يَسْبَحُونَ ) (٢)

وكان الانسان في العصر الغابر يشاهد أن النجوم تتحرك تبتعد عن أمكنتها بعد وقت

___________________

(١) الرعد/٢.

(٢) يس/٤٠.

١٤٤

معين. ولذلك لم يكن هذا التعبير القرآني موضع دهشتهم واستغرابهم، ولكن البحوث الحديثة قد خلعت على هذه التعبيرات ثوبا جديدا؛ فليس هنالك تعبير أروع ولا أدق من «السباحة» لدوران الأجرام السماوية في الفضاء البسيط اللطيف!.

***

(د) وقال القرآن الكريم عن الليل والنهار:

( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ) (١)

ان هذه الآية الكريمة تشرح للانسان القديم سر مجىء الليل بعد النهار. ولكنها تحوي اشارة رائعة الى دوران الأرض محوريا، وهو الدوران الذي يعتبر سبب مجيء الليل والنهار، طبقا لمعلوماتنا الحديثة.

وسوف أذكر القراء - هنا - بأن من بين المشاهدات التي أدلى بها رجل الفضاء الروسي «جاجارين»، بعد دورانه في الفضاء حول الأرض: أنه شاهد (تعاقبا سريع) Rapid Succession للظلام والنور على سطح الأرض بسبب دورانها المحوري حول الشمس.

وهناك بيانات كثيرة جدا من هذا القبيل في القرآن الكريم.

***

النوع الثاني من الآيات

وأما النوع الثاني من الآيات القرآنية المتعلقة بالموضوع، فلم يعرف عنها الرجل القديم شيئا ما على الاطلاق.

وقد تناول القرآن تلك الموضوعات، كاشفا الغطاء عن أسرار بالغة الأهمية، ثبت صدقها بعد الدراسات الحديثة، وسوف أعرض في الصفحات التالية بعض الأمثلة من مختلف فروع العلوم الحديثة.

***

أولا: علم الفلك:

يطرح القرآن الكريم فكرة معينة ومحدودة المعالم حول بداية الكون المادي ونهايته، وكانت هذه الفكرة غير معروفة لدى الانسان الجديد قبل قرن من الزمان. أما الانسان القديم فلا مجال للقول بأنه كان من الممكن أن يتطرق عقله الصغير الى هذه الفكرة أو أجزائها، وجاء العلم الجديد ليشهد على ماجاء على في القرآن الكريم.

___________________

(١) الأعراف/٥٤.

١٤٥

يعبر القرآن عن بداية الكون على النحو التالي:

( أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ کَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضَ کَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ) (١) .

أما عن نهاية الكون، فهو يقول:

( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ) (٢) .

فالكون، بناء على تفسير هذه الآيات كان منضما ومتماسكا (الرتق: منضم الأجزاء)، ثم بدأ يتمدد في الفضاء، ويمكن رغم هذا التمدد تجميعه مرة أخرى في حيز صغير.

وهذه هي الفكرة العلمية الجديدة عن الكون؛ فقد توصل العلماء، خلال أبحاثهم ومشاهداتهم لمظاهر الكون، الى أن «المادة» كانت جامدة وساكنة في أول الأمر؛ وكانت في صورة غاز ساخن، كثيف، متماسك. وقد حدث انفجار شديد في هذه المادة قبل ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠،٥ سنة على الأقل، فبدأت المادة تتمدد وتتباعد أطرافها. ونتيجة لهذا اصبح تحرك المادة أمرا حتميا، لابد من استمراره، طبقا لقوانين الطبيعة، التي تقول: ان قوة «الجاذبية» في هذه الأجزاء من المادة تقل تدريجيا بسبب تباعدها (ومن ثم تتسع المسافة بينها بصورة ملحوظة).

ويعتقد العلماء أن دائرة المادة كانت ٠٠٠،١ مليون سنة ضوئية، في أول الأمر. وقد أصبحت هذه الدائرة الآن، كما يقول البروفيسور «ايدنجتون»: عشرة أمثال بالنسبة الى الدائرة الحقيقية. وهذه العملية من التوسع والامتداد مستمرة دون ما توقف. وكما يقول البروفيسور «ايدنجتون»:

«ان مثال النجوم والمجرات: كنقوش مطبوعة على سطح بالون من المطاط، وهو ينتفخ باستمرار؛ وهكذا تتباعد جميع الكرات الفضائية عن أخواتها بحركاتها الذاتية، في عملية التوسع الكوني(٣) ».

وأما الأمر الآخر، فقد ثبت لنا صدقه، كما ورد في القرآن. فكان الانسان القديم يرى أن النجوم يبتعد بعضها عن بعض رأي العين؛ ولكننا نراها متقاربة لبعدها الهائل عن الأرض وهي في حقيقة الأمر متباعدة بمسافات قياسية.

ولم يقف الأمر بنا عند هذا الحد، بل عرفنا أيضا أن تلك الأجسام والأجرام التي كنا نشاهدها في قديم الزمن، وكنا نحسبها كاملة وسالمة، أكثرها يحتوي على فضاء خال.

___________________

(١) الأنبياء/٣٠.

(٢) السابقة/١٠٤.

(٣) The Limitations of Science, p. ٢٠.

١٤٦

وقد عرفنا أن كل جسم مادي يدور حول نظام له، مثل النظام الشمسي الذي تدور حوله نجوم وسيارات كثيرة. ومن أمثلته نظام «الذرة». فنحن نشاهد الفضاء الخالى في «النظام الشمسي»، ولكننا نعجز عن مشاهدة فضاء «النظام النوري» لصغر حجمه المتناهي. حتى انه يستحيل مجرد مشاهدة هذا النظام(١) . ومعنى ذلك أن كل شيء لو بدا متماسكا - يحوي حيزا من الفضاء في داخله. ومثاله: أننا لو جردنا الفضاء أو المكان Space من الذرات المادية في الجسم الانساني، ذات الستة الأمتار، فلن نجد الا كمية قليلة جدا من المادة، تكاد تكون متناهية الوجود.

وهكذا يرى علماء الطبيعة الفلكية ( Astro - Physicists ) أننا لو طوينا كل شيء في الكون بدون أن نترك للفضاء مكانا، فسيكون حجم الكون كله ثلاثين ضعفا من حجم الشمس!! ويمكن قياس سعة الكون من أن أبعد مجرة استطاع الانسان الكشف عنها تبعد بضعة ملايين من السنين الضوئية عن النظام الشمسي.

***

٣ - لقد توصل العلماء، خلال أبحاثهم، الى أنه لابد في المستقبل القريب - وطبقا لقانون دوران الأجرام السماوية - أن يقترب القمر من الأرض، حتى ينشق من شدة الجاذبية، وتتناثر أجزاؤه في الفضاء(٢) . وسوف تحدث عملية انشقاق القمر هذه بناء على نفس القانون الذي يحكم المد والجزر في البحار. فالقمر هو أقرب جيراننا في الفضاء، ولايبعد عن الأرض غير٠٠٠،٢٤٠ ميلا، وهذا القرب يؤثر على البحار مرتين يوميا، حيث ترتفع فيها أحيانا أمواج يبلغ طولها ستين مترا، وأما تأثير هذه الجاذبية على سطح الأرض فيبلغ عدة بوصات!!.

ان المسافة الفاصلة بين الأرض والقمر مناسبة تماما لصالح أهل الارض. ولو نقص هذا الفاصل الى خمسين ألفا من الأميال - على سبيل المثال - فسوف يحدث طوفان شديد في البحار، وسوف تغطي أمواجها أكثر مناطق الأرض المأهولة، وسوف يغرق كل شيء، حتىلتتحطم الجبال من شدة تموج البحار، وسوف تحدث شقوق مروعة على سطح الأرض من وطأة الجاذبية!!.

ويرى علماء الفلك أيضا أن الارض قد مرت بكل هذه الأدوار أثناء عملية التكوين، حتى وصلت الى بعدها الحالي من القمر، بناء على قانون الفلك، وهذا القانون هو نفسه سوف يأتي بالقمر قريبا من الأرض مرة أخرى. ويرون أن من المتوقع حدوث هذا قبل

___________________

(١) أنظر التفصيلات من «الذرة» في الباب الرابع من هذا الكتاب.

(‌٢) Man Does not Stand Alone, p. ٢٤.

١٤٧

بليون سنة(١) . وعندئذ سوف ينشق القمر، وسوف يتناثر حول فضاء الأرض في صورة حلقة.

أليست هذه النظرية من أعظم موافقات العلم لتلك النبوءة الواردة في القرآن الكريم، حول انشقاق القمر، حين تقترب القيامة(٢) ؟.

أقرأوا قوله تعالى:

( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ ، وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) (٣) .

***

ثانيا - علم طبقات الأرض:

١ - جاء في القرآن الكريم، غير مرة، أن الجبال أرسيت في الأرض حفاظا على توازنها، ومن ذلك قوله تعالى:

( وَ أَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِکُمْ ) (٤) .

ولقد ظل العلم جاهلا بهذه الحقيقة طوال القرون الثلاثة عشر الماضية، ولكن دارسي الجغرافيا الحديثة يعرفونها جيدا تحت اسم «قانون التوازن) Isostasy ولايزال العلم الحديث في مراحله البدائية بالنسبة الى أسرار هذا القانون، ويقول الأستاذ انجلن:

___________________

(١) هذا مجرد تعبير عن الامكان العلمي، وحدوده الزمنية. وليس ببعيد أن تقع هذه الظاهرة في وقت أقل مما حدده الفلكيون، وكلامهم لاينفي هذا.

(٢) رويت معجزة «انشقاق القمر» في الصحيحين وكتب الحديث الأخرى، بروايات صحيحة الاسناد، ومنها ما رواه عبد الله بن مسعودرضي‌الله‌عنه ، وهو من الشهود العيان لذلك الحادث الخارق، وبرغم ذلك لاتزال مسألة «انشقاق القمر» موضع خلاف شديد بين المفسرين والعلماء. فيرى الجمهور أنه قد حدث فعلا، «. وقال بعض المفسرين: سينشق» كما يرى صاحب التفسير «الكبير»، ومن القائلين به الامام الحسن البصري، وقد نقل عنه أبو حيان الأندلسي القول التالي: «ان المعنى اذا جاءت الساعة انشق القمر بعد النفخة الثانية». البحر المحيط، ج - ٨، ص - ١٧٣ وهاك فئة ثالثة من العلماء تؤثر «التوفيق» بين الرأيين، فهم يرون أن معجزة شق القمر، التي جاء ذكرها في الأحاديث وقعت أمام جمع من المسلمين والمشركين «بمنى» في مكة، المكرمة. ويرى الامام الغزالي والشاه ولي الله الدهلوي أنها وقعت «بتصرف البصر». وان الممكن أن تكون قد حدثت فعلا نتيجة انشقاق فلكي. وهكذا ستكون الواقعة الأولى آية أولية للأحداث التي سوف يجرى وقوعها قرب القيامة. وفيها يقول المفسر الهندي الكبير العلامة شبير احمد العثماني في تفسير للقرآن:

«لقد كانت معجزة شق القمر مثالا على أن كل شيء سينشق هكذا عند اقتراب القيامة».

(٣) القمر/١و٢.

(٤) لقمان/١٠.

١٤٨

«من المفهوم الآن أن المادة - الاقل وزنا - ارتفعت على سطح الأرض، على حين أصبحت أمكنة المادة الثقيلة خنادق هاوية، هي التي نراها الآن في شكل البحار. وهكذا استطاع الارتفاع والانخفاض أن يحافظا على توازن الأرض(١) ».:

ويرى عالم آخر من باحثي الجغرافيا:

«وفي البحار، أيضا، توجد وديان مثل وديان البر. ولكن وديان البحر أكثر غورا وأبعد عمقا من تلك التي توجد في البر؛ كما أنها بعيدة عن المجال التجريبي للانسان. ويبدو أنه قد حدثت مغارات عميقة في البحار. (ويبلغ عمق بعض هذه الوديان ٣٥ ألف قدم عن سطح البحر؛ وهذا العمق أعلى من أعظم جبال العالم ارتفاعا. ويبلغ من عمق هذه الوديان البحرية أحيانا أنه لو وضعت فيها قمة «ايفرست»، من سلسلة جبال «الهملايا»، والتي يبلغ طولها ٠٠٢،٢٩، فسيكون سطح البحر فوقها بمسافة ميل كامل)!.

«ومن الظواهر المحيرة أن هذه الخنادق البحرية توجد قرب السواحل البرية بدل أن توجد في أعالي البحار. ومن ذا يستطيع أن يعلم قدر ذلكم الضغط الهائل، الذي أحدث هذه المغارات السحيقة في قاع البحار. ولكن قرب هذه الوديان من الجزر والبراكين يدل على أن هناك علاقة بين طول الجبال والخنادق البحرية. وهو أن الأرض يقوم توازنها على أساس الارتفاع والعمق (في أجزائها المختلفة). ويرى بعض كبار علماء الجغرافيا أنه من الممكن أن تكون الأغوار البحرية علامات على جزر قد تظهر في المستقبل. وسببه أن الرواسب والمخلفات لكل من البر والبحر تترسب في هذه الوديان، وقد سويت مناطق كبيرة من هذه الوديان بعد أن ملأتها هذه الرواسب. ولهذا من الممكن - بناء على عدم التوازن الذي يحدث عن هذه العملية - أن تبرز جبال جديدة في أي وقت، أو تظهر سلسلة جديدة من الجزر، ومما يؤكد ذلك أنه قد وجدت آثار الرواسب البحرية في بعض الجبال الساحلية.

وعلى كل حال، لاتوجد نظرية - في ضوء المعلومات الحالية للانسان - لتقوم بتفسير الوديان البحرية، وهذه المغارات الدائمة البرودة، والتي توجد في ظلام حالك، وتحت ضغط قدره سبعة أطنان على كل بوصة، لازال ذلك كله لغزا أمام الانسان، كألغاز البحر الأخرى(٢) !!».

٢ - وقد جاء في القرآن الكريم أنه قد مض على الأرض زمن طويل سواها الله خلاله؛ قال تعالى:

___________________

(١) C. R Von Anglen , Geomovpholgy, pp. ٢٦ - ٢٧ , (N.Y., ١٩٤٨)

(٢) The World We Live In, N. Y., ١٩٥٥.

١٤٩

( وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذٰلِکَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَ مَرْعَاهَا ) (١) .

وهذه الآية الكريمة تطابق مطابقة عجيبة أحدث الكشوف العملية؛ وهو: «نظرية تباعد القارات» أو انتشارها ( Theory of Drifting Continents ). مغزى هذه النظرية: أن جميع القارات كانت في وقت من الأوقات أجزاء متصلة، ثم انشقت وبدأت «تنقذف»، أو تنتشر من تلقاء نفسها، وهكذا وجدت قارات تحول دونها بحار واسعة.

وقد طرحت هذه النظرية في العالم عام ١٩١٥، لأول مرة، حين أعلن خبير طبقات الأرض الألماني الأستاذ «الفريد واجنر» أنه لو قربت القارات جميعا، فسوف تتماسك ببعضها، كما يحدث في ألعاب الالغاز التي تسمى Jigsaw Puzzle ويمكن مشاهدتها في الأشكال الثلاثة، التي تبين هذه النظرية «انظر ص١٥٠».

وهناك شبه كبير يوجد على سواحل البحار المختلفة، كأن نجد جبالا متماثلة عمرها الأرضي (واحد)؛ وكأن نجد فيها دواب وأسماكا ونبات متماثلة أيضا! وهذا هو مادفع عالم النباتات البروفيسور رونالد جود ( Rand Good ) في كتابه: جغرافيا نباتات الزهور ( Geography of Flwoering Plants ) - الى أن نقول:

«لقد اتفق علماء النباتات على النظرية القائلة بأنه لايمكن تفسير ظاهرة وجود نباتات متماثلة في مختلف قارات العالم الا اذا سلمنا بأن أجزاء الأرض هذه كانت متصلا بعضها ببعض في وقت من الأوقات».

وقد أصبحت هذه النظرية علمية تماما بعد تصديق «الجاذبية الحجرية» لها ( Fossil Magnetism )، فان العلماء اليوم - بعد دراسة اتجاهات ذرات الحجارة - يستطيعون تحديد موقع أي بلد وجدت به هضبة تلك الحجارة في الزمن القديم. وقد أكدت هذه الدراسة في «الجاذبية الأرضية» أن أجزاء الأرض لم تكن موجودة في القديم بالأمكنة التي توجد بها اليوم، وانما كانت في ذلك المكان الذي تحدده «نظرية تباعد القارات، وفي هذا الأمر يقول البروفيسور بلاكيت(٢) :

«ان دراسة أحجار الهند تبين أنها كانت توجد في جنوب خط الاستواء قبل سبعين مليون سنة؛ وهكذا تثبت دراسة جبال جنوب افريقيا أن القارة الافريقية انشقت عن القطب الجنوبي قبل ثلاثمائة مليون سنة(٣) ».

___________________

(١) النازعات/٣٠ - ٣١.

(٢) P.M.S.Blacket ، أستاذ (الطبيعة) في الكلية الملكية بلندن - المعرب.

(٣) أنظر التفصيل: ريدز دايجست، عدد يونيه (حزيران) من عام ١٩٦١.

١٥٠

لقد ورد في الآية المذكورة آنفا لفظة «الدحو»، ومعناه تسوية الشيء ونثره، كما يقال «دحا المطر الحصى عن وجه الأرض»، وهذا هو نفس مفهوم الكلمة الانجليزية: « Drift » التي استخدمت في التعبير عن النظرية الجغرافية الحديثة. لسنا نملك أمام هذا التوافق المدهش بين ماورد في الماضي البعيد، وما اكتشف بالأمس القريب - الا أن نؤمن بأن هذا الكلام صادر عن موجود يحيط علمه بالماضي، والحال، والمستقبل، على السواء.

ثالثا - علم الأغذية: ان قائمة الأغذية التي يقررها لنا القرآن الكريم تحرم (الدم)، وكان الانسان غافلا عن أهمية هذا التحريم، ولكن التحليلات التي أجريت للدم قد أكدت أن هذا القانون كان مبنيا على أهمية خاصة بالنسبة الى الصحة. فالتحليل يثبت أن (الدم) يحتوي كمية كبيرة من «حمض البوليك) Uric Acid ، وهو مادة سامة تضر بالصحة لو استعملت غذاء. وهذا هو السر في الطريقة الخاصة التي أمر بها القرآن في ذبح الحيوانات. والمراد من «الذبح» في المصطلح الاسلامي هو الذبح بطريقة معينة حتى يخرج سائر الدم من جسم الحيوان، وهي أن نقطع الوريد الرئيسي. الذي يوجد في العنق، فقط. وأن نمتنع عن قطع الأوردة الأخرى، حتى يمكن استمرار علاقة المخ بالقلب الى ان يموت الحيوان، لكيلا يكون سبب الموت الصدمة العنيفة التي وجهت الى أحد أعضاء الحيوان الرئيسية، كالدماغ، أو القلب، أو الكبد، والمقصود من هذا هو أن الدماء تتجمد في العروق، وتسري الى أجزاء الجسم، لو مات الحيوان في الحال - على اثر صدمة عنيفة - وهكذا يتسمم اللحم كله، نتيجة سريان «حمض البوليك» في أنحائه. ولقد حرم القرآن لحم (الخنزير)، ولم يعرف الانسان في الماضي شيئا عن أسرار هذا التحريم، ولكنه يعرف اليوم أن لحم الخنزير يسبب أمراضا كثيرة، لأنه يحتوي أكبر كمية من «حمض البوليك» بين سائر الحيوانات على ظهر الأرض، أما الحيوانات الأخرى، غير الخنزير، فهي تفرز هذه المادة بصفة مستمرة عن طريق البول. وجسم الانسان يفرز٩٠% من هذه لمادة بمساعدة (الكليتين). ولكن الخنزير لايتمكن من اخراج «حمض البوليك» الا بنسبة اثنتين في المائة(٢%)، والكمية الباقية تصبح جزءا من لحمه ولذلك يشكو الخنزير من آلام المفاصل، والذين يأكلون لحمه، هم الآخرون، يشكون من آلام المفاصل، والروماتيزم(١) ،

___________________

(١) ليكن مفهوما هنا أنه عند وصف تاثير أي غذاء، لايمكن الا بيان تأثيره الذاتي من المنافع والمضار، وليس معناه أن تأثير ذلك الغذاء سوف يكون واحدا لدى كل انسان يأكله. والسبب في ذلك أن الانسان لايأكل شيئا بمفرده، وانما يبتلعه مع مأكولات من أنواع عديدة، ولذلك قد ينقص تأثير ذلك الغذاء، أو يزول في بعض الأحايين، نتيجة ردود الفعل والأغذية المضادة لتأثير ذلك الغذاء، وعلى رغم ذلك كله فلايمكننا وصف تأثير أي شيء الا بما عرف عنه بصفته الفردية.

١٥١

وما الى ذلك من الأمراض المماثلة(١) .

***

ان الباحث في القرآن الكريم يجد أمثلة لاحصر لها من هذا القبيل الذي أشرنا الى بعضه في الصفحات الماضية، وهي دليل قطعي على أن القرآن صادر عن عقل غير انساني. وتؤكد البحوث التي اضطلع بها العلماء في العصر الحاضر بطريقة مدهشة صدق تكلم النبوءة، التي وردت في القرآن الكريم:

( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (٢) )

***

وسوف أختم هذا الباب بواقعة رواها العالم الهندي المغفور له الدكتور عناية الله المشرقي، وهو يقول:

«كان ذلك يوم أحد، من أيام سنة١٩٠٩، وكانت السماء تمطر بغزارة، وخرجت من بيتي لقضاء حاجة ما، فاذا بي أرى الفلكي المشهور السير جيمس جينز الاستاذ بجامعة كمبردج، ذاهبا الى الكنيسة، والانجيل والشمسية تحت ابطه، فدنوت منه، وسلمت عليه، فلم يرد علي، فسلمت عليه مرة أخرى، فسألني: «ماذا تريد مني؟» فقلت له: «أمرين، ياسيدي! الأول هو: أن شمسيتك تحت ابطك رغم شدة المطر!» فابتسم السير جيمس وفتح شمسيته على الفور. فقلت له: «وأما الأمر الآخر فهو: ما الذي يدفع رجلا ذائع الصيت في العالم - مثلك - أن يتوجه الى الكنيسة؟» وأمام هذا السؤال توقف السير جيمس لحظة، ثم قال: «عليك اليوم أن تأخذ شاي المساء عندي». وعندما وصلت الى داره في المساء، خرجت «ليدي جيمس» في تمام الساعة الرابعة، بالضبط، وأخبرتني أن السير جيمس ينتظرني. وعندما دخلت عليه في غرفته، وجدت أمامه منضدة صغيرة موضوعة عليها ادوات الشاي. وكان البروفيسور منهمكا في أفكاره. وعندما شعر بوجودي، سألني: «ماذا كان سؤالك؟»، ودون أن ينتظر ردي، بدأ يلقي محاضرة عن تكوين الأجرام السماوية، ونظامها المدهش، وأبعادها وفواصلها اللامتناهية، وطرقها، ومداراتها وجاذبيتها، وطوفان أنوارها المذهلة، حتى انني شعرت بقلبي يهتز بهيبة الله وجلاله. وأما (السير جيمس)

___________________

(١) لعل العلة الأخرى في تحريم الخنزير أساسا انه حيوان قذر، يأكل النجاسات، فالى جانب التحريم القطعي النصي له، يمكن أن نلحظ فيه علة تحريم(الجلالة) التي تأكل النجاسة، فقد نهى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أكلها أو شرب ألبانها. أنظر: بداية المجتهد لابن رشد - ٢/٤١٨ (المراجع).

(٢) فصلت/ ٥٣.

١٥٢

فوجدت شعر رأسه قائما، والدموع تنهمر من عينيه، ويداه ترتعدان من خشية الله، وتوقف فجأة. ثم بدأ يقول: «يا عناية الله! عندما ألقى نظرة على روائع خلق الله يبدأ وجودي يرتعش من الجلال الالهي، وعندما أركع أمام الله واقول له: «انك لعظيم!» أجد أن كل جزء من كياني يؤيدني في هذا الدعاء، وأشعر بسكون وسعادة عظيمين. وأحس بسعادة تفوق سعادة الآخرين ألف مرة، أفهمت، ياعناية الله خان، لماذا أذهب الى الكنيسة؟».ويضيف العلامة عناية الله قائلا: لقد أحدثت هذه الحاضرة طوفانا في عقلي، وقلت له: «ياسيدي لقد تأثرت جدا بالتفاصيل العلمية التي رويتموها لي، وتذكرت بهذه المناسبة آية من آي كتابي المقدس، فلو سمحتم لي، لقرأتها عليكم»، فهز رأسه قائلا: «بكل سرور»، فقرأت عليه الآية التالية:

( ومن الجبال جدد بيض وحمر، مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك. انما يخشى الله من عباده العلماء ) .(١) .

فصرخ السير جيمس قائلا:

ماذا قلت؟ - انما يخشى الله من عباده العلماء؟! مدهش! وغريب، وعجيب جدا!! ان الأمر الذي كشفت عنه دراسة ومشاهدة استمرت خمسين سنة، من أنبا محمدا به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقيقة؟ لو كان الأمر كذلك، فاكتب شهادة مني أن القرآن كتاب موحى من عند الله. ويستطرد السير جيمس جينز قائلا: لقد كان محمدا أميا، ولايمكنه أن يكشف عن هذا السر بنفسه، ولكن «الله» هو الذي أخبره بهذا السر. مدهش! وغريب، وعجيب جدا(٢) !!».

___________________

(١) فاطر٥٣.

(٢) مجلة «نقوش» الباكستانية، العدد الخاص بالشخصيات العالمية، شخصية (المرحوم - العلامة عناية الله المشرقي ص - ١٢٠٨ - ٩).

- والعلامة «المشرقي» هذا من أعظم علماء الهند في الطبيعة والرياضيات، ويتمتع بشهرة كبيرة في الغرب لاكتشافاته العديدة وأفكاره الجديدة، وهو أول من عرض فكرة القنبلة الذرية، غير أنه ترك الميدان العلمي، فخاض غمار السياسة نظرا لسوء حالة المسلمين في الهند (كان ذلك قبل الاستقلال) فأسس «حزب الخدام الالهيين) Khaaksar Party ، وكان رجاله (المتطرفون) يؤمنون بوجوب اقامة الفرائض الدينية بالقوة، واتخذوا من «المعول» شعارا لحركتهم. ومن أهم مؤلفات العلامة: «التكملة» (لرسالة الاسلام)!، وقد طلبت منه «لجنة جائزة نوبل» أن يترجم هذا الكتاب الى اللغة الانجليزية لاعطائه جائزة العلم، ولكن العلامة رفض الفكرة بشدة قائلا:

«لست في حاجة الى جائزة لاتعترفلجنتها باللغة الأردية العظيمة!» - المعرب.

١٥٣

الباب الثامن الدين ومشكلات الحضارة التشريع

السؤال الأساسي الذي يفرض نفسه عند البحث في المشكلات الحضارية يكون دائما عن التشريع أو الدستور. فهذه المشكلات تنشأ عن علاقة الفرد بغيره، والتشريع هو الذي يحدد هذه العلاقة على أساس من العدل والانصاف. ولكن من المذهل أن أقول: ان الانسان لم يفلح الى الآن في الكشف عن دستور حياته! صحيح أن جميع الدول في العالم قائمة على أسس الدستور؛ ولكن هذه الدساتير مخفقة تماما في الوصول الى أهدافها، بل لايوجد هناك مايسوغ وجود هذه الدساتير سوى أنها تنفذ بالقوة والاجبار.

ومن الحقائق المعروفة لرجال القانون أن جميع الدساتير الرائجة في هذا العصر تفقد أية أسس علمية أو نظرية تجيز بقاءها. ويرى الأستاذ (فولر) L.L.Fuller أن «القانون لم يكشف عن نفسه بعد!». وفولر هذا هو الذي وضع كتابا أسماه: «القانون يبحث عن نفسه The Law in Quest of Itself ».

***

وقد وضعت كتب لاحصر لها حول هذا الموضوع بالذات؛ وبذلت عقول جبارة من علمائنا أوقاتها في سبيل البحث عن مقومات القانون. وكما يرى محرر «موسوعة تشامبرز» «لقد أعطى القانون أهمية علم هام، حتى رفع من شانه الى أقصى الحدود». ولكن كل هذه الجهود لم توفق في الحصول على صورة متفق عليها من القانون. وقد تشعبت بهم السبل، حتى قال خبير في التشريع: «لو طلبت من عشرة خبراء أن يعرفوا القانون، فعليك أن تستعد لسماع أحد عشر جوابا!!».

وقد انقسم خبراء التشريع الى مدارس فكرية كثيرة؛ ولكننا - رغم تعدد هذه المدارس - قد لانجد لبعض كبار علماء القانون فيها مكانا! يقول البروفيسور

١٥٤

١٥٥

(باتون) G. W. Paton عن «جون آستين»: «انه لايصلح لأي من الأقسام العريضة Broad Divisions(١) »:

وأما السبب وراء هذا الاختلاف بين خبراء التشريع، فهو عدم توصلهم الى أساس صحيح يمكن اقامة صريح التشريع عليه. انهم يجدون أن القيم التي يحاولون جمعها في هيكل الدستور يستحيل وضعها في ميزان واحد. ومثل رجل القانون في محاولته هذه كمثل الرجل الذي يزن مجموعة من الضفادع بمجموعة أخرى مماثلة؛ فكلما وضع مجموعة في كفة وجد أن ضفادع الكفة الثانية قد وثبت الى الماء مرة أخرى!!.

ومن ثم باءت كل الجهود - التي استهدفت الحصول على الدستور المثالي - بالفشل الذريع.

ويعبر الأستاذ «و. فريدمان» عن هذه المشكلة قائلا:

«. وانها لحقيقة: أن الحضارة الغربية لم تجد حلا لهذه المشكلة غير أن تنزلق من وقت لآخر، من نهاية الى أخرى(٢) !».

***

وقد لاحظ «جون آستين» أن الدستور - أي دستور - لايصبح نافذ المفعول الا اذا كانت تسنده قوة من ورائه، فعرف «القانون» في كتابه، الذي نشر لأول مرة عام ١٨٦١، على النحو التالي:

«القانون هو الحكم الذي أصدره «رجل رفيع المنزلة سياسيا لمن هو أدنى منه في المرتبة السياسية(٣) ».

وقد أصبح التشريع بناء على هذا التعريف «مرسوما لصاحب السيادة(٤) »! ولذلك شن المحدثون من العلماء حملة شديدة على هذه الفكرة، وقالوا: أنه لايمكن منع انحرافات الحكام الا اذا كان «رضا الشعب العام» دعامة أساسية في التشريع. وأنكروا أي قانون أو دستور لايحرز رضا الجماهير؛ وترتب على ذلك أن ضوابط كثيرة، يجمع على صحتها وافادتها جميع أهل العلم ومعلمي الأخلاق - لايمكن تنفيذها، لأن الشعب لايوافق عليها. وعلى سبيل المثال لم يتمكن الأمريكيون من ادخال مشروع قرار يحرم الخمر، لأن الشعب لم يرض عنه. كما اضطر البريطانيون الى ادخال تعديلات هامة في قانون عقوبة القتل،

___________________

(١) A. Text Book of Jurisprudence, ١٩٠٥ , p. ٥.

(٢) W. Friedman, Legal Theory, p. ١٨.

(٣) A. Text Book of Jurisprudence , p. ٥٦.

(٤) المرجع السابق ض - ٤.

١٥٦

واضطروا الى اباحة أنواع محرمة من العلاقات الجنسية، على الرغم من ضجيج المثقفين، واحتجاج علماء القانون!.

***

وهناك مسالة أخرى اختلف حولها علماء القانون: هل القانون قابل للتغير أو لا؟.

لقد لقيت نظرة «القانون الطبيعي» رواجا كبيرا في القرون الوسطى، وفي العصور التي تلتها، ومؤادها أن الطبيعة البشرية هي المصدر الحقيقي للتشريع:

«فالطبيعة تطالب أن يكون حق السيطرة والحكومة لمطالبها الطبيعية ودعائمها الرائدة. وقد أعطت الطبيعة هذه الدعائم للانسان في صورة «العقل»، ولذلك لابد من اقامة حكومة بقوة العقل(١) »:

وقد أعطت هذه النظرية أساسا كونيا للمشرعين، فقيل: انه لابد من دستور موحد صالح لكل العصور. وهذه هي نظرية علماء القرنين السابع والثامن عشر حول القانون. ثم جاءت مدرسة أخرى ادعت استحالة معرفة الأسس الكونية للدستور. ويقول (كوهلير) في هذا:

«ليس هناك دستور أبدي، وأي تشريع يصلح لعصر ما ليس - بالضرورة - صالحا لعصر آخر. وليس لنا الا أن نجهد أنفسنا في البحث عن دستور يلائم كل حضارة، على حدة. فقد يكون دستور ما خيرا لطائفة من الناس، ثم يسبب هلاك طائفة أخرى(٢) ».

وقد قضت أفكار هذه المدرسة الأخيرة على تحكم القانون واستقراره، فهي تدعو الانسان الى فكرة التغيير العمياء، والنسبية Relativism ؛ وهي لن تنتهي الى حد ما، حيث أنها تفتقر الى الاساس. وقد قلبت هذه الفكرة جميع القيم الانسانية راسا على عقب.

***

وهناك مدرسة أخرى تدعو الى احراز أكبر قدر من مقومات العدل في التشريع. ويكتب «اللورد رايت) Lord Wright معلقا على فكرة دين راسكو باوند»:

«ان راسكو باوند يدعو الى فكرة - اطمأننت الى صدقها بعد جميع تجاربي ودراستي في القانون - وهي أن الهدف الأساسي والابتدائي للتشريع هو «البحث عن العدل(٣) ».

___________________

(١) Boden Liener, Jurisprudence, p. ١٦٤.

(٢) Philosophy of Law, p. ٥.

(٣) Interpretation of Modern Legal Philosophies, N.Y. ١٩٤٧ , p. ٧٩٤.

١٥٧

فاذا سلمنا بهذه النظرية واجهنا سؤالا هاما هو: «ماالعدل؟»؛ «وكيف يمكن تعيينه؟»، وهكذا مرة أخرى، نرجع الى «جون آستين»!.

ومرة أخرى نقف أمام ظاهرة أن الانسان لن يستطيع الكشف عن أساس واقعي للتشريع، رغم الجهود الجبارة التي بذلت في هذا الحقل منذ مئات السنين، ويزداد يوما بعد يوم شعور بالمرارة وخيبة الأمل بين رجال التشريع، لأن الفلسفة الحديثة قد فشلت في بحثها عن أهداف الدستور.

ويتساءل البروفيسور جورج وهيتكروس باتون قائلا:

«ما (المصالح) التي لابد للدستور المثالي أن يحافظ عليها؟ انه سؤال يتعلق «بالقيم»، ويدخل في دائرة فلسفة التشريع. وما أكثر ما نرجو من الفلسفة أن تساعدنا؛ ولكن ما أقل ماهي مستعدة لبذله في هذه السبيل. فقد فشلنا في الكشف عن «ميزان للقيم»» يمكن قبوله لدى جميع الأطراف.

والحقيقة أنه ليس هناك من أساس لشيء من النظم الا للدين؛ ولكن الحقائق الدينية تصلح كعقيدة ووجدان، ولايمكن قبولها على أساس الاستدلال المنطقي(١) ».

وقد نقل البروفيسور «باتون» رأيا لبعض علماء التشريع - يقول: ان جميع محاولات الدراسة الفلسفية للبحث عن «الأهداف» في فلسفة التشريع قد انتهت الى غير ما نتيجة(٢) . ويتساءل «باتون»: أهناك حقا«قيم مثالية» تحدد الأسس عند تطوير التشريعات؟ لم يتمكن المشرعون من التوصل الى هذه القيم حتى الآن، غير أنها لابد منها». ويستطرد قائلا:

«لقد استخرج أصحاب نظرية (القانون الطبيعي) القديمة أسسهم من الحقائق الالهامية في الدين. ولكن اذا ما أردنا نحن أن نأتي بتشريع علماني، فاين سنجد أساس القيم المتفق عليها(٣) ؟».

وهذه التجربة المريرة تدعو الانسان للعودة الىالجهة التي انحرف عنها منذ قرون. فقد كان الدين يسهم اسهاما فعالا في وضع دساتير في الزمن القديم. ويرى خبير القانون المعروف السير هنري مين: أنه «لايوجد مثال واحد في القوانين، التي تم تسجيلها كتابة، من قانون الصين الى بيرو، الا وكان ذا علاقة بالطقوس الدينية والعبادات منذ بداية أمره(٤) ».

___________________

(١) A Text Book of Jurisprudence, p. ١٠٤.

(٢) المصدر السابق: ص١٠٦،

(٣) المصدر السابق - ١٠٩.

(٤) Sir Henry Maine, Early Law & Custom, P. ٥.

١٥٨

لقد آن الأوان أن نعترف بالحقيقة القائلة: بأن البشر لايستطيعون وضع دستور لهم بدون هدى الله. وبدلا من المضي في الجهود التي لاتأتي بنتائج مثمرة، علينا أن نعترف بالواقع الذي يدعونا اليه «الدكتور فرويدمان»، حين يقول:

«يتضح بعد دراسة هذه الجهود المختلفة أنه لابد من هداية الدين لتقييم المعيار الحقيقي للعدل. والأساس الذي يحمله الدين لاعطاء العدل صورة عملية ينفرد هو به في حقيته وبساطته(١) ».

اننا نجد في الدين جميع الأسس اللازمة التي يبحث عنها المشرعون لصياغة دستور مثالي، ولكي يتضح صدق ما نقوله، نأتي بالدراسة الوجيزة التالية في أهم مشكلات التشريع الانساني:

أولا - مصدر التشريع

وأول الأسئلة وأهمها بالنسبة لأي تشريع هو البحث عن مصدر هذا التشريع: من الذي يضعه! ومن ذا يعتمده حتى يصبح نافذ المفعول؟.

لم يصل خبراء التشريع الىاجابة عن هذا السؤال حتى الآن. ولو أننا خولنا هذا الامتياز للحاكم، لمجرد كونه حاكما، فليس هناك أساس نظري وعلمي يجيز تمتعه - هو أو شركاؤه في الحكم - بذلك الامتياز، ثم ان هذا التحويل من ناحية أخرى لايجدي نفعا؛ فان اطلاق أيدي الحكام ليصدروا أي شيء لتنفيذه بوسيلة القوة - أمر لاتطيقه ولاتحتمله الجماهير.

ولو أننا خولنا سلطة التشريع لرجال المجتمع، فهم أكثر جهالة وحمقا، لأن المجتمع - أي مجتمع - اذا نظرنا اليه ككل، لايتمتع بالعلم والعقل والتجربة، وهي أمور لابد منها عند التشريع. فهذا العمل يتطلب مهارة فائقة وعلما وخبرة، وهو مالاتستطيع العامة من الجماهير الحصول عليه؛ كما أنها، وان أرادت، لن تجد الوقت الكافي لدراسة المشكلات القانونية وفهمها.

وللخروج من هذه المشكلة توصل رجال القانون الى حل وسط، وهو أن يقوم (البالغون) من أفراد المجتمع بانتخاب ممثلين لهم، وهؤلاء بدورهم يصدرون التشريعات باسم الشعب.

ومن الممكن أن ندرك حماقة هذا الحل الوسط، حين نجد أن حزبا سياسيا لايتمتع الا بأغلبية٥١% من مقاعد البرلمان يحكم على حزب الأقلية، الذي يمثل ٤٩% من أفراد المجتمع البالغين. والأمر لايقف عند هذا الحد، بلان هذا الحل يحتوي على فراغ كبير جدا تنفذ

___________________

(١) Legal Theory, p. ٤٥٠.

١٥٩

منه «أقلية» لتحكم علىأغلبية السكان. وعلى سبيل المثال، فان الحكومة التي تحكم الهند الآن، قد وصلت الى مقاليد الحكم عن طريق الانتخابات العامة الخمسية الثالثة، التي أجريت في البلاد عام ١٩٦٢. وقد فاز حزب «المؤتمر القومي» بنسبة ٧٠% من مقاعد البرلمان، في حين أن نواب هذا الحزب لم يحصلوا الا على ٤٠% من أصوات الشعب، في الانتخابات. وهذا هو ما حدث في الانتخابات الخمسية الأولى والثانية، التي أجريت قبل سنة١٩٦٢(١) ، وحصل حزب المؤتمر في كلتيهما على أقل من ٥٠% من مجموع الأصوات! ولكنه رغم ذلك كان له الحق في تشكيل الحكومة، لأن أصوات الناخبين الأخرى كانت موزعة بين نواب الأحزاب (المعارضة). ولم تكن بطولة حزب المؤتمر الا في أنه أحرز أصواتا اكثر من أي حزب آخر «على حدة»!.

ولا أستثني من هذه الاقعدة الا الانتخابات الموزعة، التي تجري في الدول الشيوعية، فيفوز زعماؤها بأرقام خيالية للأصوات!.

وهكذا نقف مرة أخرى أمام ظاهرة البحث عن أساس القانون ومصدره.

والدين يستجيب لهذا التحدي الخطير، الذي قد يدمر سعادة البشرية كلها. انه يقول: ان مصدر «التشريع» هو «الله» وحده، خالق الأرض والكون؛ فالذي أحكم قوانين

___________________

(١) أجريت الانتخابات العامة الأولى والثانية في عامي ١٩٥١ - ٥٢، وعام ١٩٥٧، كما أن الانتخابات العامة الرابعة أجريت في عام ١٩٦٧، أي بعد صدور هذا الكتاب، وفي هذه الأنتخابات «فقد المؤتمر، لأول مرة في تاريخه ثماني ولايات: غلبت فيها أحزاب أو مجموعة نيابية ائتلافية. وقد سبق في انتخابات سنة ١٩٦٢ (و١٩٥٧) أن ألف الشيوعيون حكومة ائتلافية بالاستعانة ببعض الأحزاب السيايسة في ولاية (كيرالا) أما في انتخابات ١٩٦٧ فقد انهزم حزب المؤتمر هزيمة فادحة في ولايات: كيرالا، ومدراس، وأوريسة، وبيهار، كما لم يتمكن من احراز أكثرية مطلقة (تمكنه من تأليف الوزارة) في ولايات: البنغال الغربية، وأوتار براديش، وراجستان وبنجاب.».

ومعناه: أن حزب المؤتمر فقد الحكم على نصف الولايات (البالغ عددها ست عشرة ولاية)، ورغم ذلك تمكن هذا الحزب من تشكيل الحكومة الاتحادية (المركزية)، لأن نوابه «الذين أحرزوا هذه المرة أقل من نصف مقاعد البرلمان!» ويمثلون الأغلبية بالنسبة الى عشرات من الأحزاب الأخرى المتنازعة فيما بينها على المصالح والمناقشات العقيمة! ولو اتفقت هذه الأحزاب فيما بينها فكونت جبهة نيابية ائتلافية (كما فعلت بعض الأحزاب في الولايات الاقليمية) لاحتلت مقاعد الحكم ولاضطر نواب حزب المؤتمر الى الجلوس في مقاعد «المعارضة»!.

ويتضح من هذا جليا: «كيف تنفذ اقلية في الفراغ الدستوري الموجود في تشريعاتنا فتحكم على الأغلبية!» - المعرب.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440