الإمامة الإلهية الجزء ١

الإمامة الإلهية9%

الإمامة الإلهية مؤلف:
المحقق: محمد بحر العلوم
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 440

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 440 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140557 / تحميل: 8466
الحجم الحجم الحجم
الإمامة الإلهية

الإمامة الإلهية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

هـ - أوّل اعتبار قام الذهن بتصويره حتّى يُحرِّك الإرادة هو إيجاد نسبة الضرورة بين موضوع ومحمول لم تكن بينهما تلك النسبة من قبل؛ بيان ذلك:

إن الإنسان يرى وجود نسبة حقيقية بين ذاته وبين أعضائه، فيقوم بجعل نفس هذه النسبة بين نفسه وبين الأكل، فيسعى نحو تحقيقه، فيتحرك نحو الغذاء. وعبّر عن هذا بأنه أوَّل خديعة.

بعض تلامذة العلاّمة يصوّر الخديعة بنحو أخر؛ وذلك بأن الخديعة التي تقوم بها هي: تصوير أن حاجات البدن هي حاجات الروح، ويجعلها ضرورية لها، وتفسير هبوط آدم إنه هبوط إدراكي؛ حيث جعلت الروح البدن جزءَ حقيقةٍ نفسها، فجعلت كمالات البدن وحاجاته هي حاجات لها، فأول خديعة هي من جعل البدن جزء من الروح؛ خدعته بها الفطرةُ الإنسانية؛ لتتوصَّل بها إلى الخير بالذات والكمال المطلق الحقيقي.

و - إن نسبة الضرورة تعني الوجوب، وهو متقدِّم على الحرمة، كما أن الاستحباب متقدِّم على الكراهة؛ وذلك لأن الشعور بالحاجات والضرورات متقدِّم على الشعور بالمضرَّات والمؤذيات التي هي نسبة الامتناع.

ز - مثال آخر على نشأة اعتبار آخر؛ هو (اعتبار الملكية) وكيفية حصوله: هو أنه رأى وجود نسبة حقيقية بين الإنسان وسلطته على أعضائه وتصرُّفه بها كما يشاء، فجعل هذه السلطة بين الأمر الخارجي وبين نفسه حتّى يستطيع التصرُّف والاستفادة منه وحده؛ لا ينازعه فيه أحد.

ح - وأوَّل اعتبار اجتماعي نشأ؛ هو: اعتبار الألفاظ ودلالتها على المعاني، ثُم بعد ذلك تولَّد اعتبار العقد والمعاملات، واعتبار الرئاسة؛ وذلك لأن في الإنسان توجد قوة العقل التي تكون مهيمنة على بقيَّة القوى، فانتزع العقل هذه النسبة وجعلها في مملكة صغيرة هي مملكة الأسرة ورئاسة وهيمنة ربِّها، ثُم للمجتمع.

٨١

ط - إن الاعتبارات غير ثابتة و متزلزلة، فلا يمتنع أن لا يأتمر و لا يتبع الإنسان ذلك الاعتبار، لذا مسَّت الحاجة إلى أن تَعتبر ما يدعم هذا الاعتبار ويجعله مؤثِّراً في إرادة الإنسان، فاعتُبر الثواب والعقاب، واعتُبر المدح والذم. فاعتبار المدح والذم إنما هو لأجل أن يكون دافعاً لأن يتَّبع الإنسان الاعتبار الأصلي؛ حيث يضعف تأثيره، وكلَّما قوي تأثيره، ضعفت الحاجة إلى الثواب والعقاب أو إلى مدح وذم العقلاء.

والعلاّمة الطباطبائي في المقالة الثانية من رسالة الاعتباريات يركِّز على أمر مهم؛ وهو كيفية نشأة التكوين من الاعتبار، حيث أوضح في مقالته الأولى كيفية نشأة الاعتبار من التكوين والحقيقة، وكيف أن الاعتبار هو إعطاء حد الشي‏ء أو حكمه لشئ آخر بتصرف الوهم، وأنه ينشأ بسبب النقص؛ وهو أمر حقيقي. أمّا في المقالة الثالثة، فبيّن أن الاعتبار يولِد الإرادة، والإرادة تُحقِّق الفعلَ التكويني الخارجي؛ وهو إما كمال للإنسان أو نقص، فينشأ حينئذ التكوين من الاعتبار، فولِّد العقلُ التكوين من خلال عنوانٍ اعتباري.

وجوه التأمل في نظرية العلاّمة:

لا يخفى ما في النظرية من ظرافة ودقَّة نظر، ويظهر كذلك مدى أهميتها في صياغة الفكر البشري، وهذا لا يمنع من وجود بعض التأملات لنا عليها:

١ - إننا نتَّفق مع العلاّمة في:

* إن العقل النظري لا يحرِّك الإرادة؛ لذا سوف يأتي في الفصل الثاني أن التوحيد النظري من دون التوحيد العملي؛ وهو تولّي وليّ اللَّه الذي يهدي لإرادات اللَّه ومشيئآته، لا يوجب تحرَّك الإنسان، بل توجد مراتب أخرى متوسطة حتّى تصل إلى مدرَكات العقل العملي.

٨٢

* إن الفاعل الإرادي لا يتكامل إلاّ بتوسط إرادته.

* إن الإرادة لا تسعى إلى تحصيل ما هو متحقق بالفعل لأنه تحصيل للحاصل.

لكن نختلف مع العلاّمة في تحديد القضايا الحقيقية، فقد ذكر أن كل ما ليس له تحقق خارجي فعلي فهو قضية اعتبارية، وهذا غير صحيح وغفلة منه‏(قدِّس سرُّه)؛ وذلك لأن القضية الحقيقة لا تساوي القضية الخارجية، بل هي تشمل ما يكون الموضوع فيها حاكٍ عن وجودات في ظرف الاستقبال، وما تكون حاكية عن وجود تقديري، وما تكون حاكية عن موضوعات ممتنعة وهي القضايا غير البتِّية التي ليس فيها سوى فرض الوجود، وهذا أمر متسالم عليه، وبناء عليه فإن القضية التي يتصورها العقل ويحكم بها العقل العملي هي غير حاصلة في الخارج فعلاً، لكنها ليست اعتباراً محضا، بل تكون قضية حقيقية.

٢ - لقد حصر العلاّمة (رحمه الله) ‏الحاجة إلى الاعتبار في أنه مولِّد للإرادة، وهذا غير صحيح، بل إن الحاجة للاعتبار هو أمر آخر ذكره المتكلِّمون والأصوليون؛ حاصله:

إن الإرادة تنبعث من مدرَكات العقل العملي، ومدرَكات العقل العملي هي من الكلِّيات الفوقانية كحسن العدل وقبح الظلم، ومن هذه المدرَكات التي تمثِّل رأس مال العقل العملي ينطلق في سلسلة إدراكاته، وكذلك يستطيع إدراك الكلِّيات القريبة وفوق المتوسطة كحسن الصدق وقبح الكذب. أمَّا الكلِّيات النازلة والجزئيات الحقيقية، فإن العقل العملي لا يصل إليها كما في قبح القمار، ونكاح الشغار، ناهيك عن الجزئيات الحقيقية المتكثِّرة وغير المتناهية، من هنا يُحتاج إلى ضابطة تكون كاشفة عن حسن هذه الأمور وقبحها؛ وهذه الضابطة تكون بالاعتبار، فالاعتبار وظيفته الكشف عن الحقائق وما تخبِّأه من حسن وقبح، وحينئذٍ تنطلق الإرادة من هذا الاعتبار الكاشف، لا من كونه اعتباراً محضا.

والاعتبار إنما يكون كاشفاً صائباً للواقع في حال صدوره من العقل اللاّمحدود

٨٣

الذي يعلم بحسن وقبح جميع الأفعال.

٣ - ما ذكره من توسُّط الاعتبار بين حقيقتين وتكوينين صحيح، لكنَّه الاعتبار بما هو كاشف، لا بما هو اعتبار.

ونضيف على ما ذكره العلاّمة، وتكملة لِمَا ذكرناه من الحاجة للاعتبار:

ـ إنه قد يُتساءل: لماذا لجأ إلى الاعتبار - الذي هو إنشاء - في الكشف عن الحقائق، ولم يلتجأ إلى الإخبار عن حقيقة الأفعال الخارجية؟

والجواب عنه:

أ - إن الجزئيات غير متناهية، فإذا اعتمد أسلوب الإخبار التفصيلي، فهذا يعني إخبارات غير متناهية؛ لعدم تناهي الأفعال وعدم تناهي الأشخاص، فيجب أن يكون إخباراً لكل واحد. ويترتَّب عليه أن يُجعل كل الناس أنبياء، وأن لا يخطئ الكل في فعل، وهذا يبطل عالم الامتحان والابتلاء.

ب - إن برهان النظام الأصلح يقتضي وجود مراتب في العلم والوجود، والإخبار التفصيلي لكل واحد يقتضي عدم وجود مراتب، ويبطل النظام الأصلح.

جـ - إن الإخبار قد يؤدِّي إلى اختلاط الجزئيات؛ حيث إن الجزئي قد تكون له جهة حسن، وله قبح من جهة أخرى هي العامة، وقد يختلف الجزئي الواحد في تقديم جهة على جهة عن جزئي آخر، فلا تنضبط القضايا بضابط معين، بخلاف ما لو جعل ضابط يكون غالب المطابقة للواقع، فإنه ينظِّم حالة الإنسان بنحو أفضل. فالاعتبار أحد أمثلته: القانون الوضعي؛ حيث يراد من وضعه أن يكون كشفه غالبيا.

د - إن وساطة الاعتبارين الحقيقين هي وساطة إثباتية؛ باعتبار كشفه عن الواقع، ولا يتبعه الإنسان لأنه اعتبار، بل لأنه كاشف عن الواقع؛ وما ذلك إلاّ لأن الإنسان لا ينطلق إلاّ من الحقائق.

وما ذكره من أن أول اعتبار هو الأكل ونحوه، محلُّ إشكال؛ إذ لا داعي فيه إلى الاعتبار؛ حيث إن الأكل يُعتبر مكمِّلاً للبدن، ويَشعر الإنسان

٨٤

بحاجته ويقصد إليه، وهذه حقيقة يتولَّد منها الشوق والإرادة، وهذه الواقعية يدركها العقل - سواء العملي أم النظري - بسهولة، فلا حاجة إلى الاعتبار.

وهنا قد يرد تساؤل حول ما يظهر من التناقض بين قولنا فيما سبق: إن الإرادة تنطلق دوماً من

الحقائق( القضايا الحقيقية)، وبين ما ذكرناه في الأسطر السابقة من انطلاق الفاعل الإرادي من القضايا الاعتبارية.

وحلُّ هذا الإشكال يتمُّ بالتدقيق فيما بيَّناه من الحاجة إلى الاعتبار؛ إذ إنما يَلجأ إليه العقل لجهة كشفه عن جهات الحسن والقبح في الفعل، فهذا الاعتبار يساوق الحقيقة؛ لأنه يكون كاشفاً عن أمر واقعي، وليس بما هو اعتبار محض. ومن هنا لا يتَّبع الفاعل الإرادي أيَّ مُعتبر كان، بل يتحرى المُعتبرَ المطّلع على جهات الحسن والقبح، وخير مثال على ذلك: الاعتبار التشريعي الإلهي. فالإنسان يتَّبعه لأنه صادر من عقل لا محدود ومن المحيط بكل شي‏ء، فهو كاشف عن الواقع والتكوين، وهكذا الاعتبار في القانوني الوضعي؛ لأنه يقتضي صدوره من الكُمّلين في مجتمع بشري ما، فيتَّبعه لهذا الكشف أيضا؛ ومن ثَمّ ذكر أرسطو أنه لا يمكن أن يصدر التقنين إلاّ ممَّن يكون إنساناً إلهيَّا.

أمّا ما ذكر من الإثارة، وهي التغيُّر في التشريع وعدم الثبات، فيمكن الجواب عنه بما يلي:

١ - إن الحسن والقبح واقعيان، فأحكام العقل العملي ليست متغيِّرة، وقد برهنا على ذلك.

٢ - إن الاعتبار ليس أمراً اعتباطياً يقوم به كل واحد، بل لأجل الكشف عن الواقع، فيجب أن يتولاَّه مَن تكون له تلك القدرة؛ وآية ذلك أن المقنِّن الوضعي لا يُوكل كلَّ مَن هب ودبّ، بل يتخيَّر من أفراد المجتمع فئة خاصة تمتلك الخبرة والتجربة.

٣ - هناك نظريتان مشهورتان؛ أحدهما: المسمَّاة بنظرية التضاد أو الديالكتيكية.

٨٥

والأخرى: نظرية العقل التجريدي.

الأولى؛ تفترض عدم الثبات والتغيُّر الدائم. أمَّا الثانية، فتفترض الثبات ولو بنحو الموجبة الجزئية. وقد أُثري البحث فيهما بنحو تام وكامل، وثبت خطأ الأولى؛ لأنهم لابدّ أن يفترضوا ثوابت حتّى في نفس نظريتهم، فيكون نقضاً عليهم. إذن؛ لابدَّ من الاستناد إلى ثوابت، وإذا افترض أن كل شي‏ء في تغيُّر وغير ثابت، فما هو الهدف من البحث والاكتشافات؟ فإن كان للإثبات، فالسعي من أجل اكتشاف المجهول لن يصل إلى حد وغاية؛ حيث لا واقع ثابت.

٤ - إنَّا نسلِّم بوجودِ ثابتٍ وبوجود متغيِّر، لكن المشكلة في تحديد ضابط كلٍّ منهما. فمنطقة الثبات - كما أشرنا إليها سابقا - هي منطقة الكلِّيات العالية - كحسن العدل وقبح الظلم - والكلِّيات المتوسطة القريبة من العالية كالأخلاق الفاضلة المنبعِثة عن المَلَكات الفاضلة. أمَّا ما دونها؛ وهي منطقة الاعتبار، فهي تحتاج إلى ضوابط لمعرفة المتغيِّر والثابت.

ونستطيع أن نستفيد من القانون الوضعي وتقسيمه لتقريب فكرة الثابت والمتغيِّر في الاعتبار، بعد ثبوت أن لغة القانون والاعتبار واحدة. فإن القانون الوضعي على ثلاثة أقسام: الدستور / التشريعات البرلمانية / التشريعات الوزارية. فالقسم الأول غير قابل للتغيُّر عادة (١) ، والقسم الثاني أقلُّ ثباتا. أما الثالث، فهو دائم التغيُّر، وهكذا في الاعتبار؛ فنجد بعض الاعتبارات غير قابلة للتغيير، والبعض الأخر يحصل فيه التغيير والتبديل.

لكن ما هي ضابطة الأمور والاعتبارات المتغيِّرة؟

لقد ذُكر هنا ضوابط متعدِّدة، نذكر منها:

____________________

(١) والدستور ينطلق في وضعه من أهداف وأغراض ثابتة بحسب رشد مقنِّني الأمة كهدف الاستقلال والحرية والعدالة.

٨٦

١ - ذكر الميرزا النائيني أن ما هو قابل للتغيُّر هو الأحكام السياسية. أمَّا بقيَّة التشريعات، فثابتة. وتوضيح المقصود من الأحكام السياسية كالتالي:

إن التسيُّس هو التدبير وكيفية جعل الجزئيات متطابقة مع الكلِّيات الفوقانية؛ حيث إن الأمر الكلي الذي يُكتشف بقوة العقل يتنزَّل حتّى يصل إلى هذا الجزئي الحقيقي، فابتداءً هذا الجزئي لا يكون مندرجاً تحت قانون معيَّن، ولا محدود بميزان مخصوص، وإنما يختلف باختلاف الأعصار والأمصار، ويتغيَّر بتغيُّر المصالح والمقتضيات، وبالتالي يجب أن تكون هناك قوة خاصة لدى الإنسان تُرجِع هذه الجزئيات إلى كلِّياتها حسب جهات الحسن والقبح، وهذا يكون بقوة الفطنة. وهذه الجزئيات هي منطقة البرهان العياني؛ فالفطنة لا تتدخَّل في الجزئي الخارجي بقدر ما تُشخِّص إنه تحت أي كلي؟ وكيف يتنزَّل هذا الكلي في مدارج النفس إلى العمل الجزئي؟

٢ - من الأمور التي تؤدِّي إلى تغيُّر الأحكام، هو تبدُّل الموضوع الجزئي.

٣ - وجود التزاحم والورود بالعناوين الثانوية كالعسر والحرج والضرر على صعيد الأحكام الاجتماعية والأمور العامة، ولكن ليُلْتفت إلى أن الحكم الثانوي لا يكون إلاّ مؤقَّتاً دائما، ولا ينقلب إلى الدوام؛ لأنه خروج عن مقتضاه.

٤ - الاختلاف في الإحراز ومدى رعاية الضوابط الموضوعة، سواء في فهم القانون الإلهي أم القانون الوضعي، فكم نجد من فقهاء القانون يختلفون في تفسير القواعد القانونية، وهكذا في فقهاء الشريعة؛ حيث يختلفون في تفسير وفهم بعض النصوص الإلهية.

وهذا الاختلاف لا يتناول الكلِّيات الفوقانية؛ وذلك لأنها ثابتة وغير متغيِّرة، والأمور الثابتة أكثر وضوحا، والخفاء فيها يقل، بل يندر، والخفاء يظهر في الجزئيات والمتوسطات التي هي ذات درجات كثيرة وعرض عريض؛ حيث تتداخل

٨٧

الجزئيات مع بعضها البعض، فيكون عنصر الغموض.

وتتفق هذه الأسباب الثلاث على أن مورد الاختلاف والتغيُّر هو في الجزئيات، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى فهم الضوابط التي تمنع الإنسان من الوقوع في الاشتباه عند تمييز الجزئيات، وهذه الضوابط تقع في مباحث أصول الفقه.

و يتلخَّص من كل ما مر:

١ - إن الأساس للأحكام الشرعية هو الحسن والقبح العقليين، وهما برهانيان، وهذا يعني أن لا تبدل فيهما ولا تغيُّر.

٢ - إن منشأ الحاجة للاعتبار هو محدودية العقل البشري، فتظهر عناية ولطف واجب الوجود بأن يبيِّن لهم تشريعات ثابتة في تلك المنطقة التي لا يدركها العقل المحدود.

٣ - إن جهات التغيُّر والتبدُّل في الاعتبار هي غالباً في منطقة الجزئيات.

٨٨

التنبيه الرابع:

في تبعية الولاية التشريعية للولاية التكوينية

المقصود من هذا البحث بيان أن مَن له صلاحية التشريع وسنِّ القوانين يجب أن يكون له مقام

تكويني خاص. فبعد اتفاق جميع الموحِّدين أن المشرّع الأول والمحيط بالواقع وحقائق الوجود هو اللَّه عزَّ وجل، يرد التساؤل والبحث: هل أُعطيت صلاحية مقدار من التشريع للبشر؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فأي بشر هو الذي يمكنه سنُّ القوانين؟

للإجابة عن هذا التساؤل يوجد مسلكان:

المسلك الأول: النقل والاستدلال بالآيات القرآنية والروايات الشريفة الدالة على هذه التبعية؛ من نحو قوله تعالى: ( مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تسليماً ) (٢) ، ( لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٣) .

ومن أمثلة الروايات: ما ورد أن الصلاة الرباعية كانت ثنائية، فأوكِل التشريع للرسول فجعلها رباعية، وغيرها من الروايات.

المسلك الثاني: العقل. وهذا هو المقصود بالبحث هنا، فيمكن إقامة وجوه ثلاثة لإثبات تلك التبعية:

____________________

(١) الحشر ٥٩: ٧.

(٢) النساء ٤: ٦٥.

(٣) الأحزاب ٣٣: ٢١.

٨٩

الوجه الأول:

وهو ما ذكرناه سابقاً في التنبيه الثاني من وجه الحاجة إلى الاعتبار؛ حيث بينَّا:

أ - الحاجة إلى التشريع والقانون لتنظيم الاجتماع ولمسيرة الإنسان في هذه الحياة.

ب - إن العقل البشري لمحدوديته لا يستطيع التوصل إلى الواقع، ولا يحيط بجهات الحسن والقبح والموازنة بينها.

ح - يحتاج العقل المحدود إلى مَن يسنُّ له تلك القوانين، فتتم صياغة الحقائق عن طريق قضايا اعتبارية قانونية.

وحتّى لا تكون هذه الصياغات جهلاً، يجب أن تكون مطابقة للواقع، فيجب أن يتصف مَن يسنُّ تلك التشريعات أن يكون له علم متصل ومرتبط بالذات المقدَّسة، وإلاّ لأصاب التشريع والتقنين التغيير والتبديل كما نراه في التشريعات الوضعية الحديثة على مرّ الزمان.

د - إن من رحمة اللَّه بعباده ورأفته بهم أن يوصل العباد إلى كمالاتهم ويُبعدهم عن نقائصهم، فطِبقاً لذلك، ولِمَا ذكره المتكلِّمون بقاعدة اللطف أو ما ذكره الفلاسفة بقاعدة العناية الإلهية، يجعل الباري تعالى في بني الإنسان مَن له ذلك الاتصال الغيبي وتلك المنزلة الرفيعة.

وبذلك يثبت أنَّ مَن تكون له الولاية التشريعية وصلاحية سنِّ القوانين، له أيضاً ولاية تكوينية واتصال غيبي بالذات المقدَّسة.

الوجه الثاني:

ويعتمد على:

١ - ملاحظة الجهاز الإدراكي للإنسان وتفصيل قواه العقلية وكيفية توصُّـله للنتائج. وقد ذكر الفلاسفة أن هناك جهازين يحكمان إدراكات الإنسان؛

أحدهما: الجهاز القلبي؛ وهو يُعني بالعلم الحضوري. ومراتبه أربع: قلب، وسر، وخفي، وأخفى.

٩٠

وثانيهما: الجهاز العقلي الذي يحكم إدراكاته الحصولية. ومراتبه هي: العقل النظري، والعقل العملي، وقوة الفطنة والرؤية، والقوة النازلة الإدراكية كقوة الوهم والخيال والحس، والقوى العملية النازلة كقوى الغضبية والشهوية.

وهذه القوى النازلة تكون منصاعة إلى قوة العقل العملي بحسب الفطرة الإلهية الأصلية، وهو يمارس هيمنته وتوجيهه لها.

٢ - ذكرنا في التنبيه الأول ما يميِّز العقل العملي عن النظري؛ فالإدراك لأيِّ قضية يمرُّ عَبر أفعال ثلاثة:

أحدها: الفحص والبحث في الفكر.

الثاني: إدراك النتيجة المتولِّدة من المقدمات.

الثالث: الإذعان بتلك النتيجة والتسليم بها.

وقد أشار صدر المتألهين في رسالته في التصوير والتصديق وتبعه جلُّ المتأخرين: أن النتيجة والحكم في القضية لا يعتبر جزءاً للقضية. فالتصور؛ وهو الصورة الحاصلة لدى الذهن، تارة تكون مؤدِّية ومؤثِّرة في حصول الحكم، فتكون تصديقا، وتارة لا تكون مؤثِّرة، فتسمّى تصورا. وهاتان المقدمتان هما من إدراك العقل النظري؛ فهو يدرك النتيجة المتولِّدة من المقدمات، لكن هذا غير الإذعان والحكم الذي هو من أفعال العقل العملي. ويفسر العلاّمة الطباطبائي الحكم بأنه (١) : قيام النفس بدمج صورة الموضوع مع صورة المحمول في صورة واحدة.

وقد تقدَّم منَّا الإشارة إلى أن المراد من وجوب المعرفة هو الفعل الثالث، ومن هنا قلنا بإمكانية كونه واجباً شرعياً.

٣ - كثير من المفكِّرين يتوهَّمون بأن العلاقة والارتباط بين المقدِّمات (الصغرى والكبرى) والنتيجة، والعلاقة بين النتيجة والحكم والإذعان، هي علاقة العلية والمعلولية؛ بمعنى استحالة تخلُّف النتيجة عن مقدِّماتها واستحالة تخلُّف الإذعان عن النتيجة، لكن الحق أن الفلاسفة اثبتوا خلاف ذلك. فقد ذكر السبزواري في منظومته في بحث القياس أن الرابطة ليست هي رابطة العلة والمعلول، بل المقدمات

____________________

(١) نهاية الحكمة، ص ٢٥٢.

٩١

إعدادية فقط. والمتكلِّمون ذكروا بأن سنَّة اللَّه جلَّ وعلا قد جرت على أنه إذا أُدركت تلك المقدمات، فإنها تكون مُعِدَّة لإفاضة النتيجة على الإنسان، وهذه الإفاضة من العقول العالية على العقل البشري النازل.

والذي أوقع البعض في هذا الوهم، هو عدم التخلّف، وغفلوا عن أن هذا لا ينحصر بالعلية. وقد ذكر الحق سبحانه في مثال الفلاح الذي يقوم بعملية الزرع؛ حيث نصَّ سبحانه على أن وظيفته ليست إفاضة وجود الشجرة على البذرة، بل يقوم الفلاح بالإعداد عن طريق تهيئة التربة ووضع البذرة وريّها. أمّا المُفيض لوجود هذا النبات فهو الحق سبحانه: ( ءَأَنتُمْ تَزرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) . وقد أثبت الفلاسفة أن الجسم لا يمكن أن يُفيض صورة جسمية أخرى. وهكذا الارتباط بين النتيجة والحكم والإذعان؛ فالوظيفة التي يقوم بها العقل العملي هي الإذعان بالنتيجة، فهذا هو الحالة الطبيعية، وهي بذلك تكون مُعِدَّة لحصول ذلك الإذعان وليست علة.

٤ - إن ما ذكرناه سابقاً في تسلسل عملية الإدراك في الجهاز الوجودي للإنسان هي الحالة الطبيعية والتي بمقتضاها ينصاع الأسفل إلى الأعلى، وتمارس القوى العُليا هيمنتها على القوى النازلة، وتنساب عملية الفكر والإدراك في هذه المراحل المتسلسلة، لكن هذا التسلسل لعملية الإدراك يواجه عوائق وموانع تمنع عن حصول الإدراك الصحيح، وتمنع من خروج التصرف الصحيح طبقاً للإدراك الصحيح، وتؤدِّي هذه العوائق إلى قلب عملية التفكير؛ حيث تُسيطر القوى النازلة على القوى العالية وتتحكَّم بإدراكاتها؛ بمعنى أن ما ندركه، هو ما يحقِّق كمالات تلك القوى، فيندفع الإنسان حينئذ إلى تحقيق شهواته وإشباع رغباته الفتَّاكة.

ومن هذه الأمراض (١) :

مرض الجُربزة؛ وهي مقابل للبلادة؛ وهي البطء الشديد في إدراك النتائج بعد

____________________

(١) لاحظ: ملاّ صدرا، الأسفار، ج٨.

٩٢

إدراك المقدمات.

العناد: وهو عدم انسياق العقل العملي لمدركات العقل النظري مع العلم بصحتها.

... الوسوسة، الاضطراب.

فهذه الأمراض هي التي تمنع من حصول إذعان النفس بمدركات العقل النظري، وهذه الأمراض هي التي تصيب قوى الإنسان في إدراكاته الحصولية. وهناك أمراض تصيب درجات إداركه الحضورية؛ حيث تمنعه من الترقِّي الوجودي، وتمنعه من الوصول إلى/ بل ومن الاتصال بـ الصقع الربوبي، فيبتعد أكثر عن ساحة الحق ويصير بينه وبين الحقائق حاجباً وساتراً لا يزول إلاّ بالتقوى والعمل الصالح ولقد قال عزَّ من قائل: ( اتَّقُوا اللَّهَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ) (١) .

ومن هذه المقدمات الأربع ننتقل إلى ما نريد التوصُّل إليه؛ وهو إنه مع وجود هذه المراحل في إدراك الإنسان، ووجود مثل تلك الموانع والعوائق التي تؤثِّر في صدور القرار الصحيح والفعل النافع، كيف يمكن تقليده صلاحية التقنين والتشريع؟ إذن؛ فإن من الواجب أن يمتلك زمام التشريع والتقنين مَن يكون جهازه الإدراكي في مأمن من تلك العوائق والموانع، ويكون محلّاً لإفاضة العلوم عليها من العوالم العلوية وتنزُّلها، في مأمن من تشويش ومشاغبة قوى النفس الدنيا؛ هذا إذا أرادنا تشريعاً يكون مظهراً للحقائق الواقعية، مطابقاً وصحيحا.

وهذا الإنسان الذي يمتلك تلك القابلية، هو الذي يكون مظهراً للرضا الإلهي وللغضب الإلهي وللعزائم الإلهية؛ وذلك لا يكون ألاّ بأن تتساوى كلُّ حركاته وسكناته بلحاظ التأثُّر بالعوالم العلوية. ومَن لا يمتلك تلك المكانة والقابلية لن يكون تشريعه سالماً وصحيحا؛ ومن هنا قلنا: إن الولاية التشريعية تابعة للمقام التكويني الخاص.

والمقام الأكمل الذي يصل إليه المشرِّع والمُسِن للقوانين هو مقام العصمة، وهي كما لا يخفى على درجات؛ فبعضهم أصحاب شرائع، وبعضهم أولوا عزم،

____________________

(١) البقرة: ٢٨٢.

٩٣

وبعضهم شرائعهم دائمة وأبدية، وهكذا تختلف درجاتهم العصموية باختلاف درجات قربهم من الصقع الربوبي، وتتنزَّل درجات العصمة حتّى تصل إلى العصمة في الإنسان العادي وتتمثَّل في حدود البديهيات الموجودة في العقل البشري؛ حيث إن عدم وجودها يؤدي إلى نوع من الاضطراب والخلل؛ حيث لا يوجد حينئذ ما يتَّكئ عليها الفكر البشري.

الوجه الثالث:

ذكرنا فيما سبق أن الإنسان يُركِّز ويستند في علومه إلى نوع محدود من العصمة؛ وذلك من خلال البديهيات الموجودة في العقل البشري والتي ينتهي إليها في كل قضية، وبدونها يحل الاضطراب في الفكر البشري، كما أشرنا فيما سبق إلى أن مدركات العقل العملي والنظري هي الكلِّيات الفوقانية، وأن العقل البشري - وبسبب محدوديَّـته - احتاج إلى التقنين والاعتبار لضبط الجزئيات الخارجية، وأن التفكير البشري يمرُّ في تنزُّل العلوم الكلية إلى الجزئيات بمراحل متعدِّدة، ويستعين بجملة من البراهين يُحرز من خلالها التفكير الصحيح؛ وهما: البرهان النظري؛ ورأس ماله العلوم البديهية. و البرهان العياني الذي يتَّصل بالجزئيات، وأنه يضمن اختيار الفعل الأصلح عن طريق قوَّة الفطنة والتروِّي التي تستلم من العقل العملي والبرهان النظري النتائج الصادقة الحقيقية. وتستخدم قوة الفطنة القوى الإدراكية الجزئية والقوى العمَّالة السفلية؛ حيث الغضب الرافع للموانع والشهوة المولِّدة للشوق، وبهذا الشكل يصدر الفعل الجزئي صحيحاً غير خاطئ.

٩٤

التنبيه الخامس:

العلاقة بين العقل العملي والعقل النظري

نلاحظ بعض الظواهر التي يتَّحد فيها حكم العقلين وإن اختلف طريقهما؛ من أمثلة ذلك: قاعدة اللطف الكلامية المعروفة، ومدركها العقل العملي، وقاعدة العناية الفلسفية، ومدركها العقل النظري، وهما قاعدتان ينتجان نتائج متشابهة بنحو كبير.

وهكذا في بحث العقوبة الأخروية؛ بمقتضى المعاد الجسماني وكون القبح والحسن عقليين، فإن العقل العملي يحكم بالعقوبة الأخروية؛ حيث إن مدح اللَّه ثوابُه وذمَّه عقابُه، أو أن مدح الفعل بالكمال المنتهي إليه وذمِّ الفعل بالنقص، والعقل النظري يحكم بالعقوبة الأخروية بتوسُّط نظرية تجسُّم الأعمال. وهكذا سوف نجد موازاة بين قواعد أخرى يحكم بها العقلان، فهذا الارتباط بينهما ليس ارتباطاً عفوياً وصدفة؛ وإنما له منشأ تكويني.

بيان ذلك : أن ضابطة مدركات العقل العملي هو ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله، وما ينبغي فعله هو الحب التكويني الفطري والانجذاب نحو الكمال؛ فلذا هو يطلبه طلباً تكوينياً ويبتغيه كغاية، وما لا ينبغي فعله هو خلافه؛ أي ما تنفر منه تكوينا.

والكمال هو الخير والوجود، والنقص هو الشر والعدم، وضابطة مدركات العقل النظري هي الوجود ونفي الوجود، فمباحث الحكمة النظرية مرتبطة بالكمال والوجود، ومباحثه تؤثِّر في العقل العملي الذي ينجذب تكويناً نحو الكمال الذي

٩٥

يحكم به العقل النظري، وقد ذكرنا فيما سبق أن محمولات العقل العملي هي الحسن والقبح بمعنى المدح والذم، والمدح هو الحكاية عمَّا يختزنه الفعل من الكمال، والذم هو الحكاية عمّا يكنزه من النقص.

وهكذا نلاحظ الارتباط الحاصل بين العقلين والاندماج بين مدركاتهما؛ بحيث يفتح باباً جديداً في الاستدلال الحِكمي البرهاني والمعرفة العقلية. ويمكن استخدام الأدلة الكلامية في المباحث الفلسفية؛ حيث تكون كاشفاً كشفاً إنيَّا، وكذلك العكس واستخدام الأدلة الفلسفية في المباحث الكلامية.

٩٦

المبحث الرابع:

حُجِّـيَّة المعارف القلبية

والبحث فيها من جهات:

الجهة الأولى:

في بيان المراد من المعارف القلبية.

إن الحديث عن المعارف القلبية مُتشعِّب وطويل، وسوف نتناول منه ما يهمُّنا في بحثنا و المقدار الذي يكون فيه حجة متميِّزة عن غير الحجة.

يتَّفق الفلاسفة على أن هناك نحوين من الإدراكات التي يتوصل بها الإنسان لمعرفة الحقائق؛

الأول: الإدراكات العقلية.

والثاني: الإدراكات القلبية.

وضابطة التفصيل بينهما يعتمد على كيفية الإدراك؛ فالأول يتمُّ عن طريق الصور الحصولية للأشياء، والثاني يتمُّ عن طريق الإدراكات الحضورية؛ وهو الارتباط بالشي‏ء ارتباطاً ما.

توضيح ذلك: أن الإدراكات العقلية تعتمد على الصور، ويختلف مدى ارتباط هذه الصور بالمادة حسب المراتب:

فالصورة الحسية وإن كانت مجرَّدة عن الخارج، إلاّ أن لها ثلاثة تعلُّقات:

١ - من جهة الأبعاد؛ الطول والعرض والعمق.

٢ - من جهة المشخِّصات والألوان.

٣ - لابدَّ من محاذات وجود خارجي محسوس.

فالصورة الحسية تنطوي على تجرُّد عن نفس المادة، ولها ثلاث تعلُّقات من لوازم المادة.

٩٧

أمَّا الصورة الخيالية، ففيها شي‏ء من اللطافة؛ إذ يضاف إليها تجرُّد عن المحاذات لشي‏ء محسوس، لكن مع تعلُّق من جهة الأبعاد ومن جهة العوارض المشخِّصة.

أمَّا الصورة الوهمية، فيضاف إليها تجرُّد عن الأبعاد الثلاثة وعن العوارض، لكن يبقى لها تعلُّق؛ باعتبار وجوب إضافتها إلى الجزئي الحقيقي كحبِّ زيد وبغض عمرو... وهكذا.

وأمَّا في العقل العملي والنظري، ففيه تجرُّدات تامة، لكن يبقى له تعلُّق بالصور.

والنفس في إدراكها لهذه الصور المختلفة، لها إياب وذهاب وخلط وترتيب وربط بين هذه الصور المختلفة؛ فقد تغرب عن الصور الحسية؛ أي الوهمية أو الخيالية، وتحمل المعنى الوهمي على المعنى الحسي... وهكذا؛ وهذا ما يسمّى في الاصطلاح: أن النفس لها حركة تجرُّد وتعلُّق.

أمّا المعارف القلبية، فهي أشدُّ تجرُّدا؛ حيث لا تتعلَّق بالصور كما في الإدراكات العقلية، بل هو الارتباط بالشي‏ء بنحو ما.

وللنفس أيضاً إياب وذهاب في مراتب المعارف القلبية الأربع وهي:

١ - القلب: وهو الارتباط بحقائق الأشياء من دون توسُّط الصور المادية، نعم، يُدرك في هذه المرحلة الصور العينية البرزخية كما في سماع أنين الموتى من الصالحين، وكذلك تشمل إدراكات عالم المثال، و يقال حينئذ: إنها تدرك صور الجوهر المثالي.

٢ - السر: وهي الإدراكات التي فوق عالم البرزخ والمثال، فهي أكثر سعة من مرتبة القلب، وأكثر إحاطة وجودية.

٣ و٤ - الخفي والأخفى وهما المرتبتان المتعلِّقتان بالأنوار الربوبية وإدراك الأسماء الإلهية.

إذا اتضح ذلك، نقول:

١ - إنه كما أن الإدراكات العقلية موجودة في كل إنسان، لكن قد لا يستطيع

٩٨

البعض استخدامها ويعجز عن الوصول حتّى إلى القوة الوهمية، بل تظل نفسه محبوسة بين الحس والخيال، فهكذا المراتب القلبية؛ فهي مراتب شأنية يستطيع كل إنسان أن ينالها، لكن تحتاج إلى قوة إيمانية وكمالات عالية حتّى يكون للنفس سبح في هذه المراتب، ولا ينالها إلاّ ذو حظٍ عظيم، والإنسان بعمله ومناعة نفسه يرتقي إلى هذه المراتب.

٢ - إن التمييز بين المراتب القلبية الأربعة هو التمييز في الحدود الوجودية.

٣ - إن مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام تبنَّت الرؤية القلبية للذات المقدسة، لا الرؤية الحصولية الوهمية، ولا الخيالية، ولا الحسية. وأمَّا الرؤية العقلية بتوسط المعاني المجردة، فقد أثبتتها العديد من الروايات الواردة عنهم، المتضمِّنة للتنبيه على لزوم الوحدة والبساطة في المعاني والصفات وعدم تطرُّق التركيب العقلي التحليلي فيها، وأنه الفارق في التوصيف العقلي للذات الواجبة عن الممكنات؛ وهو متطابق مع ما قام عليه البرهان الحكمي.

وفي بعض الروايات (١) أنه لو أحيل الإدراك بالمعاني ‏العقلية، لكانت المعرفة أمر لا يطاق عند عامة البشر، كما أن الروايات نبَّهت على أن المعبود هو المحكي بالمعاني العقلية وهو المسمَّى، لا نفس المعاني العقلية وهي الاسم. فالذات المقدَّسة لا تُقتنَص بحسٍ ولا بوهمٍ ولا بخيال؛ لعدم الحدود والمقدار فيه، فكيف يمكن اقتناصها بتلك القوى وإثبات الرؤية الحسية لها؟! نعم، الإدراكات العقلية هي الحالة الوسط بين الإدراكات الصورية النازلة وبين الإدراكات القلبية؛ ولذا فهي بوابة على الغيب، لكنَّها تبقى معانٍ حاكية، وليست هي نفس المحكي؛ أي ليست هي نفس الواقع. وهذه الإدراكات العقلية بهذا المقدار، والحاكية عن أقصى غيب

____________________

(١) أصول الكافي، ج١، ص٨٣، ح٦.

٩٩

الغيوب؛ وهو الباري جلَّ وعلا، هو المقدار المكلَّف به الناس؛ أي العبادة عبر إدراكاتهم العقلية.

٤ - فوائد المعارف القلبية:

أ - إن الإنسان لم يخلق للخلود في هذا العالم، بل هو مخلوق لعوالم أخرى، فهو يعيش منذ ولادته عالمَه البرزخي؛ بمعنى إنه يَصنع بأعماله وعقائده عالمَه البرزخي، وعندما يتكامل ويبلغ ويرشد يصنع حياته الأخروية التي هي بعد الحياة البرزخية في عين عيشه حالياً للحياة الدنيوية، والمراتب القلبية تجعله مشرفاً على تلكم العوالم.

وقد يظنُّ البعض أن هذا نوع من الخيال وتسطير الكلمات، فما الحاجة إلى الإشراف على هذه العوالم وهو لم يعشها؛ بمعنى لم يحن ظرفها الزماني، فنقول:

خير مثال على ذلك؛ الطفل الذي يعيش في بطن أمِّه، يكون له أذن وأنف وفم ولسان وشفتين... وكل شي‏ء، فَلِمَ كل هذه الأجهزة؟ هل هي حتّى يستعين بها في حياته داخل رحم أمه؟ بالطبع لا، من الواضح أن هذه الأجهزة لأجل أن يعيش بها في عالم آخر غير عالم الرحم؛ وهو عالم الدنيا. وهكذا الإنسان في مراحله القلبية؛ فالإنسان لا يحتاج إليها في إدارة شؤون عالم الدنيا، إلاّ إنه محتاج لها في عالم الآخرة.

ب - إن المراتب القلبية هي السبيل لمعرفة الغيب، فكلٌّ يستطيع إدراك الغيب وكلٌّ يعيش الغيب ولو مرتبة ضامرة.

جـ - الفائدة الجليلة والعظيمة في الإدراكات القلبية، هي رؤية أشرف مرئي وهو: نور واجب الوجود.

٥ - إن الإنسان إذا أدرك - بلحاظ المراتب القلبية - حقيقة من الحقائق وأرادها أن تنزل إلى الإدراك العقلي النظري، فلابدَّ أن تتنزَّل بمعناها لا بوجودها وحقيقتها؛ فالارتباط بين المراتب القلبية والعقل النظري هي بوحدة المعنى وبوحدة المفهوم،

١٠٠

فالمراتب القلبية تدرك الشي‏ء بوجوده العيني وهويته العينية. أمَّا القوة العقلية، فهي تعمل أكثر لاصطياد المدرك بمعناه ومفهومه ويمكن التمثيل للفرق بين الإدراكين بمَن يُدرك الشي‏ء المقابل للمرآة تارة، ويدرك تارة أخرى صورته في المرآة.

والمرآة هي القوى الإدراكية الحصولية العقلية.

6 - إن الإدراكات العقلية يتصوَّر فيها التصور والشك والترديد والجزم. أمَّا في المدركات القلبية، فهي صحيحة دوماً، على صواب أبدا، لا مكان للشك فيها حال المعاينة القلبية؛ والسر في ذلك أنه في الإدراكات العقلية يكون المدرَك هو صورة الشي‏ء، والحاكي عن الشي‏ء، فيرد التساؤل عن مدى مطابقته للواقع أو عدم مطابقته، (وقد ذكرنا في نهاية التنبيه الأول مشكلة الخطأ في الفكر البشري وكيفية معالجته، وأن تحصيل اليقين في الأمور النظرية من الأمور الصعبة) بخلاف ما إذا كان نفس الشي‏ء وعينه حاضرا، فإنه يكون يقينا؛ لا لبس فيه ولا ترديد. ومن هنا نجد أن الكثير من روّاد علم المعارف الإلهية أشار إلى ندرة الحصول على اليقين، بل كلّها ظنون متاخمة لليقين، وتطرق إلى ذلك السيد الصدر في بحثه عن الاستقراء ( كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) .

ومن هنا نعرف السر في حثِّ كثير من العلماء على تنزيه النفس وتربيتها لنيل تلك العلوم اليقينية، وألّا يُقتصر على تحصيل العلوم التي لا تتجاوز الصور؛ إذ الإدراكات القلبية أشرف من العلوم الحصولية وإن كانت هي البوابة المأمونة لها.

7 - إن مراتب الإدراكات القلبية تتفاوت شدة وضعفا؛ حيث إن الوصول إلى الحقائق يتبع سعة ظرفية الواصل (المدرِك)، فقد يصل الإنسان إلى هذه المراتب بنحو العرض، وقد يصل إلى تلك المراتب وتكون بالنسبة إليه كفصل جوهري؛ حيث يكون قد حصل لذاته تكامل ورقي وجودي أوصله إلى تلك المرحلة فيتصفَّح حيث ما شاء في العالم الغيبي.

١٠١

فالذي يُدرك الغيب لا يعني أنه أدرك كل الغيب، فاللَّه عزَّ وجلَّ لا تحيطه الأبصار والقلوب، بل عرفته القلوب بحقائق الإيمان.

8 - مما ذكرنا يتَّضح السر في أن المسلمين قد صرفوا النظر عن العلوم الحصولية والعلوم المادية، وأوغلوا في بحوث الاعتقادات وفقه الأحكام من أجل تحصيل ذلك اليقين ونيل المراتب القلبية، وذلك مع تهذيب النفس وانشغالها بالعبادة، حتّى تتهيأ النفس لتصفُّح أنوار الملكوت وتقوى الإدراكات القلبية، فمنهم مَن وصل إلى المراد؛ وهو المتَّبع لطريقة أهل البيت‏ عليهم‌السلام ومنهم مَن ضل الطريق وأضل غيره.

9 - إن معرفة الإنسان لنفسه هي بوابة المعرفة الربوبية؛ وذلك لأن كل مخلوق هو آية لخالقه، وكل كامل نازل هو آية للكمال الصاعد، فيقال: إن كل غيب نازل له حكاية تكوينية لغيب صاعد، وهذه الحكاية ليست على نسق حكاية الصور الحصولية، بل هي حكاية الرقيقة عن الحقيقة، كما عبَّر بذلك الفلاسفة، أو حكاية المظهر عن الظاهر كما عبَّر العرفانيُّون، لكن هذه الحكاية وإن كانت غير قابلة للخطأ والصواب، بل هي صواب دائم، إلاَّ أنها ليست حكاية إحاطة؛ لأن الرقيقة لا تمثِّل كل كمالات الحقيقة.

10 - من الأمور التي تدلِّل على أهمية الإدراكات القلبية هو رجوع جميع الإدراكات العقلية إليها؛ بيان ذلك:

إنه قد ثبت في محلِّه رجوع جميع التصورات والتصديقات النظرية إلى البديهيات التصورية والتصديقية؛ وهي رأس مال الإنسان في تحصيل علومه، وحينما نقوم بتحليل هذه البديهيات نرى أنها في تكونها محتاجة إلى الإدراكات القلبية؛ فعندما نقول: إنه صادق، فيعني عدم احتمال اللاّمطابقة؛ والسر في ذلك أن النفس تدرك ذاتها ووجودها، والصورة نفسها مدرَكة لديها بالعلم الحضوري، فالمحكي والحاكي كلاهما موجود لدى النفس فلا يحتمل اللاّنطباق، وهذا ببركة

١٠٢

العلم الحضوري.

ونفس الشي‏ء يقال في أول البديهيات التصديقية، وهو استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما، فموضوع القضية: اجتماع النقضين، ومحمولها هو: الامتناع، حيث تقيس النفس بين مفهوم الوجود ونفي الوجود، وحيث إن للوجود محكيَّاً، فترى أن هذا المحكي مع نفي هذا المفهوم لا يجتمعان.

من خلال هذا العرض نصل إلى حقيقة في وجود الإنسان هي: إنه في اتصاله بعالم المادة يكون عبر قنطرة الصور الحصولية. أمَّا اتصاله بالغيب، فهو اتصال حضوري مباشر.

الجهة الثانية:

حول ضابطة حُجِّـيَّة المعارف القلبية.

قد يتراءى لغْوية هذا البحث؛ وذلك لِمَا ذكرناه سابقاً من أن المدرَك بالقلب هو عين ومتن الواقع فلا يحتمل الخطأ، وبالتالي فهو حُجَّة كلُّه، بل كل إدراكه صدق، ولكن في الواقع نحن بحاجة إلى هذا البحث؛ وذلك لأن العرفاء أنفسهم يشيرون في بحث المكاشفات إلى أن المكاشفات على أقسام، وأن الإدراكات الحضورية على درجات، وأن بعض الأشياء العينية قد تكون من تسويل وتمثُّلات العيانية من الشياطين أو كون قوى النفس قد اختلقتها، فلا يمكن القول بحجية كل الإدراكات القلبية. فكما ذكرنا في العلوم الحصولية؛ قد تحصل الحجب والأمراض التي تمنع عن إدراك الحقائق، فهنا كذلك تحصل حُجُب النفس التي تحجب الواقع عن إدراكه. وقد تعرَّضنا - وبنحو مفصَّل - في بحث الرؤية القلبية (1) إلى أن تصرُّف الشياطين والجن في

____________________

(1) انظر كتاب: دعوى السفارة في الغيبة الكبرى - مسألة: الرؤية القلبية.

١٠٣

قلب الكائن البشري، هو تصرف تكويني وفعل حضوري، ولكن ليس حضور الحقائق العالية.

ـ وقد ذكر القيصري نفسه في مقدمات شرح الفصوص، والسيد حيدر الآملي في نصِّ النصوص، على أن مِن الكشف ما هو رحماني ومنه الشيطاني ومنه النفساني.... فقالوا: إن الميزان في تمحيص المكاشفة الصحيحة عن الخاطئة هو الكتاب والسنة؛ باعتبار أن الكتاب ارتباط بعالم الغيب، وأن القرآن تنزُّل من الصقع الربوبي.

نلاحظ ممَّا تقدَّم أن العرفاء ركَّزوا على نكتة أن المدرَكات قد لا تكون من الحقائق؛ فلذا يجب الاعتماد على الميزان المعصوم وإدراك معصوم.

ويتبقى جانب آخر نشير إليه؛ وهو تنزُّل المدركات القلبية إلى المدركات العقلية، حيث إن العلوم الحضورية يجب أن تنزَّل إلى القوة العقلية حتّى يستطيع أن يستفيد منها الإنسان وتكون مؤثِّرة في واقعه الحياتي، وهذا التنزّل يجب أن يكون مأموناً؛ والمقصود بالأمن: أن الصور الحصولية التي يلتقطها العقل يجب أن تكون متطابقة مع حقائق الأشياء التي توصَّل إليها بالعلم الحضوري.

فكما ذكرنا سابقا، توجد أمراض تمنع من تنزّل إدراكات العقل النظري وتمنع من سيطرة العقل العملي على القوة السفلى، فهنا أيضاً توجد أمراض وأخطار تمنع من حصول الإدراكات العقلية الصحيحة. فالعقل هو كالمرآة التي تنطبع عليه مدركات القلب، فقد يكون المنطبِع شبح الحقيقة لا عين الحقيقة، وقد تكون الصورة مشوشة. وبتعبير أخر: إن مرآة العقل قد تشوبها حجب بسبب الأخلاق الرديئة أو الأعمال السيئة، فلا تنطبع فيها صور الحقائق بنحو صاف وسليم. ومن هنا نحتاج إلى ضابط وميزان لتمييز الحجة من اللاّحجة؛ حيث ليس لنا أمان من الزلل والخطأ، لا في نفس المدرَك، ولا في تنزُّله. و من هنا تظهر الميزة

١٠٤

للفرد المعصوم؛ حيث إنه لا يدرك إلاّ ما هو حق، ولا يتنزَّل إلاّ بتنزّل من الحق. ومن هنا نرى أن القران يُوصف بأوصاف متعددة ( لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ ) فهو مدرك حق، ( فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) أي المعصومون من الذنوب والخطأ، ( بالحَقِّ أنْزَلناهُ وَبالحَقِّ نَزَلَ ) فالعصمة في صدوره لا تكفي، بل عصمة في التنزُّل من العوالم العلوية. فالقران الكريم سار مسيرة طولية؛ من العوالم العلوية إلى نفس النبي الأطهر صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن يصل إلى رسم الخط، فيجب أن يحرز أن هذا الرسم والصوت مطابق لقوة الإدراك الحسي، وهي مطابقة لقوة المخيَّلة المطابقة لقوة العاقلة العملية المطابقة للعقل النظري المطابق للقلب ومراتبه القلبية المطابق لِمَا أُوحي له من اللَّه عزَّ وجل؛ لذلك نُفي عن النبي‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله الجنون ونفي عنه الشعر ونفي عنه الكهانة، فقواه العقلية تسير بالسير الفطري مطابقة المادون للأعلى وعدم تصرُّف الشيطان في قلبه. فكل ذلك الوارد في وصف القرآن والوارد في وصف الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ من أجل بيان أن هذه القناة معصومة مأمونة من الخطأ والزلل. وهذا دليل على أنه ليست كل مدركات القلب حجة، وإلاّ لَمَا احتيج إلى كل ذلك التأكيد ودفع الشبهات.

فالضابطة والميزان في كل ذلك هو الكتاب والسنة؛ حيث يعبِّران عن الوحي المعصوم، وكذلك العقل البديهي والنظري، فيمكن عرض التنزُّل على تلك البديهيات ليعلم الصحيح منها من السقيم.

وهذه النتيجة لا تعني إنكار الغيب أو إنكار للمدركات القلبية، بل هي الضابطة التي تحتاج إليها النفوس البشرية غير المعصومة، ونحن لا ننفيها بنحو مطلق، بل ننفي الحجية المطلقة لها.

١٠٥

خاتمة:

حول العلاقة بين الحجج الأربع.

لقد مضى الكلام في هذا الفصل حول الطرق والحجج الأربع؛ اثنان نقليَّان هما: الكتاب والسنة، واثنان تكوينيَّان هما: العقل والقلب. والغرض من هذه الخاتمة هو الإشارة إلى الارتباط والعلاقة بين هذه الطرق.

وقد ذكر للعلاقة بينها أمور:

ـ إن الفلسفة وهي الباحثة عن مدركات العقل، والعرفان وهو الباحث عن لغة الإدراكات الحضورية، تلميذان يؤهِّلان لفهم نكات الوحي.

ـ إن العقل والقلب يُرجع إليهما في رفع متشابهات النص، وإنه يُرجع إلى محكمات النص لتُرفع متشابهات العقل والقلب، فيُرفع متشابه كلٍّ منهما بمحكم الآخر.

ـ إن العقل والقلب شأنهما الإدراك. أمَّا الوحي، فهو نفس المدرَك.

ـ وقال البعض: إن وظيفة العقل والقلب هي التصور، وأمّا الحكم، فهو من وظيفة الوحي؛ بمعنى أن المخاطَب هو العقل والقلب، أمّا نفس الخطاب، فهو الكتاب والسنة؛ حيث إنهما مواد الوحي. فالمخاطَب ليس هو القوى النازلة، بل المخاطب هو العقل والقلب، واللغة اللسانية وظيفتها إحداث التصوّر، واللغة العقلية وظيفتها إحداث أصل الإدراك، والحكم والتصديق يكون من الشارع، فالمدرِك لهذا الحكم والتصديق والتصوير هو العقل، والمدرِك لهذه الإشعاعات النورية هو القلب. فكما أن الألفاظ موصلة للمعنى و بها يُحتج، فكذلك في لغة العقل بهما يحتجُّ على الإنسان، فالعقل والقلب هما المخاطبان ولغة الخطاب هي الوحي.

بتعبير آخر: إن العقل أيضاً يحكم ويصدِّق ويُدرك التصورات، ولكن يتبع حكم الوحي والشارع، فليس فيه إلغاء لدورهما.

١٠٦

ـ إن هناك سنناً تكوينية جعلها اللَّه عزَّ وجلَّ في طريقة التفكير البشري، فالعلم وإن كان نوراً يقذفه اللَّه في قلب الإنسان، إلاّ أن طريقة القذف تعتمد على أحد نحوين:

الأوَّل: هي الوصول إلى الاستنتاج عن طريق تهيئة المقدِّمات والمواد، وعبر مراعاة موازين ما يسمَّى بالمنطق، وذكرنا أنها مُعِدَّات تعدُّ الإنسان لكي يفاض عليه النتائج.

والآخر: هو التصفية والتخلية عن الرذائل، والتحلية بالفضائل والإيمان والمعارف، فيصلُ الإنسان إلى العلوم الحضورية، وهذا مسلك الإشراق والعرفاء....

فهاتان سنتان تكوينيتان في نيل الفكر والمعرفة الإنسانية، ويضاف إلى هاتين السنتين سنة وطريقة ثالثة وهي الوحي(الكتاب والسنة).

وهذه الطُرق ليست متقابلة، بل يجب الاستعانة بكل منها مع الأخر. فإذا استمد الإنسان بالسنُّتين التكوينيَّتين دون الوحي، فإن ذلك يعني خسران المعارف الهائلة، وكذلك لا يستفيد تمام وكمال الفائدة من الرافد الأخير إلاّ بالرافدين الأوَّليين لأنهما قناتيْ وطريقي المعارف.

ـ ووجه آخر لبيان العلاقة وهو أن الرياضة العقلية في العلوم العقلية، والرياضة القلبية في العلوم القلبية العرفانية بالغتا الأهمية من حيث كونهما مُعدَّتان للتأهُّل وخوض الوحي لفهم أسراره.

والعمدة التي تدور حولها جميع هذه الأجوبة لبيان العلاقة هو بيان التلازم بين هذه الطُرق المختلفة، بوضع كلٍّ في دوره الموظَّف له؛ بحيث لا يُلغى أحدهما الأخر، بل الوصول إلى الحالة الوسطية. وهذه الوجوه هي لبيان تلك الحالة الوسطية؛ ومنها جعل العقل والقلب الحجة الباطنة، وجعل الوحي الحجة الظاهرة.

١٠٧

وفي حديث طويل عن الصادق عليه‌السلام : (أن أول الأمور ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا تنفع شي‏ء إلا به، العقل الذي جعله اللَّه زينة لخلقه ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وأنهم مخلوقون.... وعرفوا به الحسن من القبيح، وأن الظلمة في الجهل وأن النور في العلم، فهذا ما دلهم عليه العقل. قيل له: فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره؟ قال: إن العاقل لدلالة عقله الذي جعله اللَّه قوامه وزينته وهدايته، عَلِم أن اللَّه هو الحق، وأنه هو ربه، وعلم أن لخالقه محبة، وأن له كراهية، وأن له طاعة،وأن له معصية، فلم يجد عقله يدله على ذلك، وعلم أنه لا يوصل إليه إلاّ بالعلم وطلبه، وأنه لا ينتفع بعقله إن لم يصب ذلك بعلمه...)الحديث (1) .

لقد بيَّن الإمام عليه‌السلام أن مصدر الأمور وأسسها هو العقل،ثُمَّ سأل سائل: هل يكتفي بالعقل؟ فقال: إنه علّم العقل بأنه لا يصل إلى الحقائق من رضى اللَّه وغيرهما.... بل يصل إليها بعلم الوحي، فلابدَّ منهما كليهما.

ولا يتوَّهم أن الشريعة والمعارف تجريد وغيب محض، بل هو غيب وشهادة؛ وذلك أنَّنا إذا حافظنا على موازين تلقِّي معارف الغيب، حينئذٍ يكون التنزُّل سليماً حتّى إلى عالم الحس والشهادة، فبيوت الغيب يجب أن تُؤتى من أبوابها، فلابدَّ من التدرُّج عبر بوَّابة العقل،ثُمَّ بوَّابة القلب، فكما أن سنة اللَّه مع عالم المخلوقات جرت بالتدرُّج، فكذلك تنزُّل هذه المعارف.

فالنتيجة أن التمسُّك بالوحي ورفض العقل والقلب، هو رفض للوحي أيضا؛ وذلك لأن المخاطَب بالكتاب والسنّة هو العقل، وجعل المخاطب غير العقل وإلغاء شرط العقل هو في الواقع إلغاء للكتاب والسنّة.

وكذلك مَن تمسّك بالعقل من دون الكتاب والسنّة، فقد ضيَّع العقل أيضا؛

____________________

(1) أصول الكافي، ج 1، ص29.

١٠٨

وذلك لأن التمسُّك بالعقل والقلب هو إبقاء الإنسان في الحدود النازلة وعدم ارتقائه إلى المعاني العالية، وهو حرمان للعقل من المعارف الإلهية، وكذلك مَن ادعى أنه يفهم الكتاب والسنة من دون الالتفات إلى النكات العقلية، فقد أنزل المعارف من مستواها العالي؛ فلابد من الوسطية والتوازن.

وقد حاول العلاّمة الطباطبائي أن يذكر في كل مسألة الفحص في هذه الطرق الأربعة، ولا يقتصر على جانب دون آخر. وممَّن حاول أيضاً الجمع بين هذه الطرق، الملاّ صدرا في الحكمة المتعالية، وبغض النظر عن مدى موفقية كلٍّ منهما في النتائج التي توصَّلا إليها، إلاّ أنها محاولة جريئة وجديدة في بابه، فلم يقصر فكره على طريقة واحدة ومنهجية واحدة؛ حيث إنه استفاد من نكات مذكورة في السنّة في إيجاد براهين عقلية لأمور عجز العقل في السابق عن إثباتها كالمعاد الجسماني.

ـ أمَّا الشيخ الأنصاري، فيذكر في الرسائل:

أن التنافي بين الأدلة النقلية والأدلة العقلية، لو قُدِّر وجوده، لا يخرج عن صور ثلاث:

إمَّا صورة التعارض لدليلين قطعيَّين.

وإمّا صورة تعارض نقلي قطعي وعقلي نظري.

وإمّا صورة تعارض نقلي ظنِّي وعقلي قطعي (نظري وبديهي).

أمَّا الصورة الأولى، فلا وجود لها ولم يشر أحد من الباحثين إليها قط.

أمَّا الصورة الثانية، فهي وإن كانت بدواً تعارض، إلاّ أن الإنسان إذا دقَّق ولاحظ في مواد الدليل العقلي، لوجد أنها ظنية وليست قطعية، والمشكلة تكمن أنَّنا - للوهلة الأولى - لا نلتفت إلى ذلك، بل بعد فترة من الزمن، حيث نتصوّر استحكام التعارض؛ والسرُّ في عدم التعارض هو: أن الوحي برهان وقطعي حيث ثبتت واقعيَّـته، وأنه من واجب الوجود، فلا يمكن أن يتصادم مع العقل القطعي. وقد نبَّه الملاّ صدرا إلى أن

١٠٩

قول المعصوم يمكن أن يستخدم كوسط في البرهان لعصمته عن الخطأ.

أمَّا الصورة الثالثة، فإنه لو أعيد النظر في العقل القطعي وتأكَّدتَ مِن قطعيَّـته، فإنه يكون قرينة على التصرُّف في الظاهر الظني والتأويل.

وتوجد صورة رابعة في التعارض بين الظني النقلي والظني العقلي، وفي هذه الصورة نلاحظ أن العقل الظني ليس بحجة. أمّا النقلي الظني، فقد ذكرنا في بداية بحثنا إمكان اعتباره ووقوعه كما يظهر من عبارة الشيخ في بحث الانسداد، ومال إلى ذلك كثير من علمائنا كالبهائي والشيخ الطوسي والميرزا القمي وغيرهم.

ويشير الشيخ إلى توصية هامة وهي:

أنه في بحوث المقام يجب التتبُّع وبذل الجهد للحصول على المعارف النقلية، القطعية منها والظنية المعتبرة، بناءً على اعتباره في التفاصيل النظرية في شعب المعرفة، فكما نجهد أنفسنا في البحوث العقلية البحتة أو القلبية، فإنه يجب بذل الجهد بعناية فائقة في تحصيل القطعيَّات النقلية. وممَّا يؤسف له قلَّة الجهود المبذولة في هذا المضمار بالقياس إلى حجم النقل الواصل بأيدينا وبالقياس إلى ما يُبذل من جهود في المجال الآخر، فإنه لو أثريت البحوث العقلية الاستدلالية في المعارف النقلية، لتوفّر تبويب كثير من الطوائف للأدلة النقلية، ولأمكن العثور على جمٍّ كبيرٍ من القرائن والاستفاضات المعنوية في كثير من المسائل.

١١٠

الفصل الثاني:

نظريَّة الحُكم على ضوء الإمامة الإلهيَّة

١١١

١١٢

نظريَّة الحُكم على ضوء الإمامة الإلهيَّة

المبحث الأوَّل:

لمحة تاريخية

إن الناظر للتاريخ الإسلامي وللمذاهب التي نشأت في هذا الدين وما ذكرته لنا في مسألة الخلافة والحاكمية، يرى كم هو البون الشاسع بين المبدأ والمنتهى، وبين التنظير والتطبيق لدى أكثر المذاهب الإسلامية، فكثير ممَّن رفعوا راية الشورى لم يثبتوا على مبدأ واحد وقول متَّحد منذ بداية الخلافة الإسلامية وحتّى يومنا هذا؛ لا يوجد تطابق بين ما ادعوه من شوروية الحكم وما طُبِّق. كما أن بعض القائلين بالنص في عصرنا لم يثبتوا على مقولتهم، بل نرى ذلك البعض يحاول أن يخفِّف من وطأتها ويدمجها مع الشورى، ويحاول أن يجعلها شورى عند التطبيق... وهكذا.

بعض الباحثين في شؤون المِلل والنحل ذكروا لنا اتجاهاً ثالثاً بين الشورى والنص؛ وهو التلفيق بين هاتين النظريتين، ولم يعدُّوها من القول بالنص، بل يجعلونها من القول بالشورى، وأوضح مثال على ذلك هو: ما سارت عليه الزيدية والإسماعيلية؛ حيث حسبوا أن هناك تصادماً بين القول بالنص وبين لزوم إقامة الحكم الإسلامي، وهذا التصادم هو الذي ألجأهم إلى التلفيق. وهذا المنزلق استطاعت الإمامية أن تخرج منه، وحافطت على وتيرة القول بالنص من دون تلفيق مع الشورى. وقد يكون من الأمور التي دفعت إلى التلفيق هو إحجام مَن نُص عليه

١١٣

عن إقامة الحكم السياسي، مع عدم الالتفات إلى أن الأئمَّة عليهم‌السلام كانت لهم حكومة حقيقية مبسوطة على كل مَن شاء الرجوع إليهم. وإن المتتبِّع للروايات المتناثرة هنا وهناك، يرى أن الأئمَّة كانوا يمارسون كل أنواع السلطة وكافَّة شؤونها، وأنهم لم يحجموا في واقع الأمر، وإنما قد أدبر الناس عنهم.

وأكثر مؤلفي الشيعة ممّن تعرَّضوا للمِلل والنحل ردُّوا شبه الزيدية؛ فراجع: إكمال الدين والغيبة للطوسي، وأصول الكافي للكليني، والكشِّي في رجاله.

فنرى الشهرستاني في المِلل والنحل يقول: (والاختلاف في الإمامة على وجهين؛ أحدهما: القول بأن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار. والثاني: القول بأن الإمامة تثبت بالنص والتعيين. فمن قال: إن الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار، قال بإمامة كل مَن اتفقت عليه الأمة أو جماعة معتبرة من الأمّة؛ إمّا مطلقاً، وإمّا بشرط أن يكون قرَشيَّاً على مذهب قوم، وبشرط أن يكون هاشمياً على مذهب قوم) (1) .

وقال: (الخلاف الخامس: في الإمامة. وأعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة؛ إذ ما سُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلَّ على الإمامة في كلِّ زمان...) ثُمَّ نقل كلام عمر حين حضر مع أبي بكر سقيفة بني ساعدة: (فقبْل أن يشتغل الأنصار بالكلام مَدَدت يدي إليه، فبايعته وبايعه الناس، وسكنت الفتنة، إلاّ أن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى اللَّه المسلمين شرَّها، فمَن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيّما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين، فإنها تَغِرَّة يجب أن يقتلا.... وهذه البيعة هي التي جرت في السقيفة) (2) .

وقال: (الخلاف الثامن: في تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة وقت الوفاة.

____________________

(1) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص33.

(2) المصدر، ص 30 ـ31.

١١٤

فمن الناس مَن قال: قد ولَّيت علينا فظَّاً غليظاً. وارتفع الخلاف....) (1) .

وقال في الباب السادس: (الشيعة: هم الذين شايعوا عليَّاً(رضي الله عنه‏)على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصَّاً ووصيَّةً؛ إمَّا جليَّاً وإمَّا خفيَّاً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده. وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل‏ عليهم‌السلام إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامّة وإرساله. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولِّي والتبرِّي قولاً وفعلاً، وعقداً، إلاّ في حال التقيَّة، ويخالفهم بعض الزيدية في ‏ذلك) (2) .

وقال في الزيدية: (أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(رضي الله عنهم) ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة(رضي اللَّه عنها)، ولم يجوِّزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلاّ أنهم جوَّزوا أن يكون كل فاطمي عالم زاهد شجاع سخي خرج بالإمامة، أن يكون إماماً واجب الطاعة.... وجوَّزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال، ويكون كل واحد منهما واجب الطاعة).ثُم َّذكر السليمانية من فِرق

الزيدية: (أصحاب سليمان بن جرير وكان يقول: إن الإمامة شورى بين الخلق ويصحُّ أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنها تصحُّ في المفضول مع وجود الأفضل، وأثبت إمامة أبي بكر وعمر حقَّاً باختيار الأمة حقَّاً اجتهادياً. وربَّما كان يقول: إن الأمة أخطأت في البيعة لهما مع وجود علي(‏رضي الله عنه‏) خطأً لا يبلغ درجة الفسق... قالوا: الإمامة من مصالح الدين، ليس يحتاج إليها لمعرفة اللَّه تعالى وتوحيده، فإن ذلك حاصل بالعقل، لكنَّها يحتاج إليها لإقامة الحدود

____________________

(1) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص31.

(2) المصدر، ص131.

١١٥

والقضاء....) (1) .

وقال عن الصالحية والبترية من الزيدية:

(وقولهم في الإمامة كقول السليمانية... وأكثرهم - في زماننا - مقلِّدون؛ لا يرجعون إلى رأي واجتهاد. أمَّا في الأصول، فيرون رأي المعتزلة حذو القُذَّة بالقُذَّة، ويعظِّمون الاعتزال أكثر من تعظيمهم أئمَّة أهل البيت. وأمَّا في الفروع، فهم على مذهب أبي ‏حنيفة....) (2) .

ويقول سعد بن عبداللَّه الأشعري القمي - وهو من الفقهاء، أخذ أصل كتابه في الفِرق عن النوبختي والأخير من المتكلِّمين له كتاب: الفِرق والمقالات، إلاّ أن سعداً أضاف على ما أخذه -: (واختلف أهل الإهمال في إمامة الفاضل والمفضول؛ فقال أكثرهم: هي جائزة في الفاضل والمفضول إذا كانت في الفاضل علّة تمنع عن إمامته، ووافق سائرهم أصحاب النص على أن الإمامة لا تكون إلاّ للفاضل المتقدِّم. واختلف الكل في ‏الوصية؛ فقال أكثر أهل الإهمال: توفِّي رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يوصِ إلى أحد من الخلق... ) ثُمَّ عدّ البترية والسليمانية من فِرق الزيدية من أهل الإهمال (3) .

وقال عن الجارودية من الزيدية: (.... فقالوا بتفضيل علي، ولم يروا مقامه لأحد سواه، وزعموا أن مَن رفع عليَّاً عن هذا المقام، فهو كافر، وأن الأمة كفرت وضلَّت في تركها بيعته، ثُمَّ جعلوا الإمامة بعده في الحسن بن علي، ثُمَّ في الحسين بن علي، ثُمَّ هي شورى بين أولادهما؛ فمَن خرج منهم وشهر سيفه ودعا إلى نفسه، فهو مستحقٌّ للإمامة) (4) (... وزعموا أن الإمامة صارت بالنص من رسول اللَّه لعلي بن أبي طالب، ثُمَّ الحسن بن علي، وبعد أن مضى الحسين بن علي لا تثبت إلاّ

____________________

(1) الشهرستاني، المِلل والنحل، ص137 - 142.

(2) المصدر، ص142 - 143.

(3) الأشعري، سعد بن عبد الله، المقالات والفِرق، ص72.

(4) المصدر، ص18.

١١٦

باِختيار ولد الحسن والحسين وإجماعهم) (1) .

وفي المقالات لأبي الحسن الأشعري المتوفَّى 324 هـ (ص 467 - 451) قال: (وأجمعت الروافض على إبطال الخروج وإنكار السيف ولو قتلت، حتّى يظهر لها الإمام، وحتّى يأمرها بذلك....).

فهو يشير إلى نفس النكتة التي ألمح إليها الشهرستاني من حصر الحاكمية لدى الإمامية في النص، وفي قبالهم المعتزلة والزيدية والخوارج والمرجئة؛ حيث يرون خلاف ذلك.

ومن خلال هذه اللمحة التاريخية يتَّضح لنا أمران:

1 - إن الصياغات المختلفة للشورى، والتلفيق بينها وبين النص، معدودة عند أصحاب التراجم والمؤرِّخين في منهج يقابل النص.

2 - إن بعض الفِرق الشيعية - في الأصل - انتقلت من النصِّ إلى الشورى أو إلى التلفيق بسبب ما رأوه من تصادم بين النص وبين مسلَّمة لزوم إقامة الحكومة الإسلامية؛ حيث عجزت أفكارهم عن إيجاد حلٍّ ضمن إطار النص، بخلاف فقهاء الإمامية الاثنى عشرية الذين استطاعوا - مع بقائهم وتمسُّكهم بالنص - إيجاد صيغ بديلة عن الشورى أو التلفيق.

ومن أمثلة هذه الفِرق: الزيدية؛ الذين ذهبوا - نتيجة هذا التصادم - إلى ما ذهبوا إليه. وقد عقد الشيخ الصدوق في كتابه: إكمال الدين وإتمام النعمة (ص 77) فصلاً في الجواب عنه.

____________________

(1) الأشعري، سعد بن عبد الله، المقالات والفِرق، ص19.

١١٧

١١٨

المبحث الثاني:

النظريَّات المختلفة في إدارة شؤون الحكم ودور الشورى فيها (1)

النظرية الأولى المشهورة:

من أن للأمة صلاحية البتِّ في ولاية الحكم والقيادة من رأس الهرم إلى كافَّة

____________________

(1) مجموع هذه النظريات وأدلَّتها ووجوهها الآتية مستخلصة من الكتب التالية:

1 - تفسير المنار، محمد رشيد رضا.

2 - روح البيان، الآلوسي.

3 - فقه الدولة الإسلامية، الشيخ المنتظري، ج1.

4 - مفاهيم القرآن، دراسة موسَّعة عن صيغة الحكومة الإسلامية، الشيخ السبحاني.

5 - بيام قرآن، ج10 (قرآن مجيد وحكومت اسلامى)، الشيخ مكارم الشيرازي.

6 - طرح حكومت اسلامى، الشيخ مكارم الشيرازي.

7 - تفسير الميزان، ج4، ص124، العلامة الطباطبائي.

8 - الحكومة الإسلامية في أحاديث الشيعة، للشيخ السلطاني، والمظاهري، والمصلحي، والخرازي، والأستادي.

9 - الاجتماع السياسي الإسلامي، الشيخ شمس الدين.

10 - مجلَّة: حكومت إسلامي، ع 1 و 2، مقالات الشيخ مهدي الحائري.

11 - تنبيه الأمَّة وتنزيه الملَّة، الميرزا النائيني.

12 - حكومت در إسلام، السيد الروحاني.

13 - الإسلام يقود الحياة، ص172، الشهيد السيد الصدر.

14 - الفقه - الاجتهاد والتقليد، ج1، السيد الشيرازي.

وغيرها من الكتب التي صدرت أخيراً عن الحكومة الإسلامية وخصَّت الشورى بباب أو فصلٍ مستقل.

١١٩

الأجنحة، وهذه النظرية مع شهرتها إلاّ أنها لا تجد أساساً تطبيقياً في التاريخ الإسلامي من انتخاب الخلفاء الثلاثة إلى دولة بني أميّة وبني العبّاس؛ لذا نجد أن معالمها قد تكاملت مع العصور المتأخرة ويمكن التعبير عنها بالمصطلح الحديث: إن السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية بيد الأمة.

ولكن بقي في هذه النظرية نقاط لم تحسم:

منها: أن المدار في الانتخاب هل هو على الأكثرية الكمية أو على الكيفية؛ ممَّا قد يَصطلح عليه أهلُ الحلِّ والعقد؟ وعلى الفرضية الأولى: هل هي مطلق الكثرة النسبية؛ ولا يلتفت إلى الطرف المقابل ولو كان بنسبة 40% فما فوق، حتّى وإن كان الطرف الأقل أكثر وعياً وأبصر بالأمر؟

ثُم هل المدار على ما يهوى المنتخِبون من دون ملاحظة شرائط ومواصفات في المنتخَب أو أنهم مقيَّدون في ‏انتخابهم بشرائط خاصة؟ وهل عليهم مراعاة توفُّرها بالنحو الأكمل في المنتخَب أم بأيِّ درجة كانت؟

ومنها: أن الأساس القانوني أو - بتعبير آخر - شرعية الحاكم في تولِّي السلطة لم يتم تشخيصه وتحديده؛ فهل الحاكم المختار هو وكيل عن الجماعة في إدارة شؤونها العامة؟ وهذا يعني وجود عقد وكالة بينهم، مع ما يستلزمه هذا من القول بأنه وكالة من نوع خاص؛ إذ لا تسري عليه كل أحكام الوكالة.

أو أن سلطة الحاكم المختار هي ولاية على الأمة؟ وهذه يُتصوَّر على نحوين:

أحدهما: أن تنقل الأمة الولاية التي لديها على نفسها إلى هذا الحاكم.

والأخر: أن يكون له الولاية من قبل أهل الحلِّ والعقد الذين يجعلون الحاكم المنتخَب له الولاية، فتكون ولايته طولية كما في ولاية حاكم المدينة المعيّن من قبل الإمام المعصوم.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440