دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي0%

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي مؤلف:
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 224

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف: الغدير للدراسات والنشر
تصنيف:

الصفحات: 224
المشاهدات: 81951
تحميل: 9688

توضيحات:

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81951 / تحميل: 9688
الحجم الحجم الحجم
دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف:
العربية

البحث الرابع

مُعطَيات الحُكم والموضوع

ونتائج البحث وأهدافه وفرضيّته المركزيّة

ظهر من ثنايا البحث أنّ العقيدة الإسلاميّة المتمثّلة بفلسفة الاستخلاف، وفقاً لقوانينه المركزيّة الثلاثة ذات أثر على أحكام السلوك الإنساني عامّة، ونمَط الإنفاق خاصّة، والقوانين هي:

1 - المُلك كلّه لله، والعلاقة بين الخالق والكون علاقة ربوبيّة تفيد الخلْق والقيّومة ( اللّهُ لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ ) [البقرة: 255]، الأمر الذي ترتّب عليه اختصاصه عزّ وجلّ بالمُلك التامّ والمطلق للكون، دلّ على ذلك قوله تعالى: ( للّهِ‏ِ مُلْكُ السّموَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنّ وَهُوَ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) [المائدة: 120]، ويدخل في مطلق المُلك الموارد والطاقات كافّة.

2 - إنّ الله خلَق الكون مهيّأً ومسخّراً لمنفعة الإنسان؛ دلّ على ذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَوْا أَنّ اللّهَ سَخّرَ لَكُم مَا فِي السّموَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) [لقمان: 20].

3 - إنّ الله تعالى أعطى للإنسان الحقّ في استثمار الموارد (إنتاجاً واستهلاكاً)، بنيابةٍ مشروطةٍ تفويضـاً واختبـاراً؛ دلّ على ذلك قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة: 30].

ولمّا كان شكل استخلاف الله للإنسان بوكالةٍ مشروطة بضوابط الاستخلاف، فإنّ السفَه، والسرَف، وسوء استخدام الموارد، وانعدام ترشيد الاستثمارات، وترشيد الاستهلاك ممّا يخلّ بالضوابط، بما يترتّب على هذا الإخلال إيقاف حقّ التصرّف، بما سمّاه الفقهاء الحَجْر (1) ، وقد ترتّب على ذلك أنّ الإسلام يرى مفهوم الحاجة الاقتصاديّة التي يسوغ الإنفاق لأجلها:

____________________

(1) الحسب (فاضل)، في الفكر الاقتصادي العربي الإسلامي، ص: 28.

١٢١

(ما يؤدّي تحقيقها وتلبيَتها إلى الإنماء العامّ للطاقات اللازمة لعمارة الأرض) (1) ، ويكون المفهوم الإسلامي للسلعة: المنتجات النافعة الخيّرة للإنسان فقط، أو ما يؤدّي استهلاكها إلى المنفعة الشاملة للمُستهلِك.

وإنّ أهمّ نتيجة يصل إليها الباحث (أنّ ما يكفي لتحقيق هدف الإنماء هو المطلوب شرعاً: الإنفاق لأجله على مستوى الدخل الفرديّ أو القوميّ، وما زاد عنه يكتسب حكم الزيادة على المطلوب، كراهةً أو تحريماً) (2) ، على وفق المحدّدات الكميّة والنوعيّة في نمط الاستهلاك القائم على الكتاب والسنّة، وما لذلك مِن آثار على نمط العلاقة بين الاستهلاك والتراكم؛ لأنّ ترشيد الاستهلاك بمعيار كهذا يؤيّد الادّخار الفرديّ الذي يُعدّ أحد روافد التراكم العامّ، ذلك الشرط الأساسيّ في التنمية الاقتصاديّة.

يميل الباحث إلى تفسير الرشد بعلاماته، ابتداءً بالبلوغ (نُضج العُمر الزمنيّ والعُمر العقليّ معاً)، وهي أن يبلغ القاصر عاقلاً، فإن بلَغ مجنوناً فلا يرتفع عنه الحَجْر، وأن يُراعى فيه بعد تمامية هذه الشرائط الرُشد الذي هو إصلاح المال وتثميره المنضبط بالعدالة ابتداءً، أو أقلّ درجة من درجات الالتزام بأوامر الله ونواهيه؛ لأنّ المفسّر قتادة (*) الموافق لبعض ما روي عن آل البيت (عليهم السلام) والسدي هو الأشمل؛ ذلك أنّه يرى الرشد: العقل، صلاح الدين، صلاح المال، وفي رأيه يجتمع الأثر العقلاني على السلوك والأثر العقائدي، والتفكير التنموي في الإنتاج والاستهلاك.

وهذا الرأي يمثّل مكوّنات الشخصيّة السويّة، التي تُنتج عن محصلة للأجهزة الإدراكيّة والمعرفيّة والانفعاليّة الإيجابيّـة، التي تحدّد استجابات الفرد لبيئته، الأمر الذي يمكننا أن نقول:

إنّ إسهام المفسّرين والفقهاء المستند إلى القرآن الكريم، في مناقشتهم لموضوع الرشد قد حدّد أركان الشخصيّة السويّة ومكوّناتها، وقد تجاهل

____________________

(*) قتادة بن دعامة بن قتادة السدوسي، أبو الخطّاب البصري الحافظ العلاّمة المفسّر، مات بواسط سنة (118 هـ).

(1) عابد (عبد العزيز)، مفهوم الحاجات وأثره على الإنماء الاقتصادي.

(2) كاظم (عبد الأمير)، التنمية في الاقتصاد الإسلامي، ص: 329 - 332.

١٢٢

الباحثون في العالَم، أو غفلوا عن آراء فقهاء المسلمين، فنُسب إلى العُلماء الأوروبيّين فضل ابتكار (اكتشاف مكوّنات الشخصيّة)، كما ورد في فرضيّة البحث عن ( stagner - 1974 م) (*) . وأنّهم رتّبوا على اختلاف أحد أركانها تروكاً قانونيّة سُمّيت في مباحثهم بكتاب الحَجْر.

إنّ حُكم الحَجْر يُلقي على مُنظّري فلسفة التربية في المجتمعات الإسلاميّة وظيفةَ وضْع الأهداف العامّة للتربية؛ لكي تسهم في تكوينٍ سليمٍ لشخصيّة المتعلّمين، فيكون الهدف العقلانيّ، والهدف الاعتقادي، والهدف الاقتصاديّ التنمويّ في كلّ مراحل التربية (الأُسريّة، المدرسيّة) (**) ، الأمر الذي يُحسّن ويُعمّق المهارات البشريّة، التي تُعدّ أُولى مستلزمات التنمية الاقتصاديّة كما تراها فلسفة الاستخلاف، وما توصّلت إليه - بعد معاناة العقل البشريّ - الدراسات التنمويّة المعاصرة، وتسهُم أحكام الحَجْر في دفع الإنسان إلى تفضيل أحد الاستعمالات للموارد على الاستعمالات الأُخـرى، في سبيل الحصول على منفعة اقتصاديّة، بما ينتج عن موازنة بين منافع الموارد ومنافع الاستعمالات المُختلفة (1) .

ولمّا كانت الدراسات الاقتصاديّة قد استقرّت على أنّ الموازنة ذات صبغة شخصيّة، فإنّ العناصر الموضوعيّة التي تحدّد نمط الموازنة تكمن في مقولة (الإسراف والتبذير والإقتار والسفَه)، وهي مقولات يقف مفهوم الرشد مانعاً لها من أن تُداخل الموازنة؛ لكي يتوصّل بها إلى غاية تحقيق المنفعة الشاملة، إذ ستشكّل ما يسمّونه بأثَر الوسط الاجتماعي، وستشكّل أيضاً غايات التخطيط ( Economic plan )، ذلك أنّ النُظم المعاصرة لا تستطيع أن توقِف شخصاً له قوّة شرائيّة غير محدودة عند سقفٍ إنفاقيٍّ معيّن إلاّ بقوّة

____________________

(*) اُنظر: فرضيّة البحث.

(**) يفرّق علماء التربية الأوربيّون بين أنماط التربية، فيجعلون تربية الأُسرة تربية غير مقصودة، وتربية المدارس ومعاهد التعليم تربية مقصودة، لكن الباحث يعتقد أنّ التربية الإسلاميّة في مراحلها كافّة تربية مقصودة.

(1) المحجوب (رفعت)، الاقتصاد السياسي: 1/92.

١٢٣

القانون غير المبرّر، بينما تستثمر الشريعة ضوابط الاستخلاف لإيقافه وتربطه بالجزاء الأُخْروي؛ وبذلك تكون الشريعة أقدر مِن النُظم المعاصرة على تحقيق مقولتَي ترشيد استخدام الموارد، وترشيد الاستهلاك.

ظهر من حُكم الحَجْر على غير الراشد أنّ الشخصية غير السويّة لا يحقّ لها أن تتصرّف بالمال تصرّفاً مطلقاً، إلاّ أن تضمّ إليها شخصيّة سويّة ممثّلة بوليّ القاصر، أو وليّ المحجور عليه، وبالتالي فإنّ الحَجْر يُعَدّ:

1 - قيداً شرعيّاً على التصرّف المطلق بالملكيّة الخاصّة لصالح ملكيّة المجتمع؛ لأنّه أَولى بالمِلك المطلق التامّ (ملكيّة الله للموارد) من الفرد.

2 - إنّ انضمام شخصيّة الوليّ تعني ثبات حالة الترشيد بشِقّيها.

3 - إنّ مضمون قول الله تعالى: ( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) [النساء: 5]، كما فسّرها الطبرسي: تعني درّبوهم على التعامل اليوميّ السويّ لتعميق المهارات، وبها تتجاوز التنمية في العالم الثالث الحلَقات المفرغة، خاصّة في مجتمع يطبّق قوانين الشريعة الإسلاميّة.

ظهر لنا أنّ العقل الإنساني حين ينطلق من الفرضيّات، مروراً بالحلول المناسبة إلى التَقْنين، وصولاً إلى تقرير الحقائق بالاستقراء، سيجد نفسه منسجماً مع ما يختزله القرآن الكريم من جُهد للإنسان لو أعمَل آياته وتدبّرها؛ ليصل إلى فكرٍ متوازن شامل يلبّي سعادة الدارَين.

١٢٤

المصادر

أ - القرآن الكريم.

ب - كُتب التفسير:

1 - الطبرسي (الفضل بن الحسن)، مجمع البيان في تفسير القرآن، شركة المعارف الإسلامية ب. ت. ب. م.

2 - الطوسي (محمّد بن الحسن، 460هـ)، تفسير التبيان، تحقيق أحمد القصير، مطبعة النعمان، النجف، سنة 1969م.

3 - محمّد بن الحسين بن القاسم، منتهى المرام في شرح آيات الأحكام، الدار اليمنيّة - صنعاء، ط2، 1986م.

4 - الجزائري (أحمد)، قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر، مطبعة النعمان - النجف، ب. ت.

5 - القرطبي (محمّد بن أحمد الأنصاري)، الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب المصرية، 1964م.

6 - الجصّاص (أبو بكر بن عليّ الرازي)، (370هـ)، أحكام القرآن، دار الكتاب العربي - بيروت.

7 - السيوري (المقداد الحلّي)، (826هـ)، كنز العرفان في فقه القرآن، مطبعة الغري - النجف، ب. ت.

8 - السايس (محمّد علي)، تفسير آيات الأحكام، مطبعة محمّد علي صبيح - القاهرة.

9 - الكاظمي (الجواد)، مسالك الإفهام إلى آيات الأحكام، تحقيق محمّد باقر شريف، منشورات المكتبة الرضويّـة، ب. م.

10 - المالكي (ابن العربي)، أحكام القرآن، تحقيق محمّد علي البجاوي، مطبعة محمّد علي صبيح - القاهرة، 1962م.

١٢٥

جـ - كُتب الفقه:

فقه الإماميّة:

11 - الطوسي (محمّد بن الحسن، 46هـ)، المبسوط، المطبعة الحيدريّة - النجف، 1387هـ - الخلاف، طبعة حجريّة.

12 - المحقّق الحلّي (جعفر بن الحسن)، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، مطبعة الآداب - النجف، 1969م.

13 - النجفي (محمّد حسن بن محمّد باقر)، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، منشورات دار الكتب الإسلامية، ب. م.، ط1، 1397هـ.

فقه الحنفيّة:

14 - الكاساني (علاء الدين بن أحمد، 587هـ)، بدائع الصنائع، مطبعة الجمالية - مصر، 1328هـ.

15 - الميرغناني (عليّ بن أبي بكر)، الهداية، شرح بداية المبتدي، مطبعة البابي الحلبي - مصر.

فقه الحنابلة:

16 - المرداوي (علاء الدين بن عليّ بن سليمان، 885هـ)، الإنصاف في مسائل الخلاف، تحقيق حامد الفقي، مطبعة أنصار السنّة - القاهرة، 1956م.

17 - ابن قدامة (موفق الدين عبد الله بن محمّد، 620هـ)، المغني، مطبعة الإمام - مصر، ب. ت.

فقه الشافعيّة:

18 - الشافعي (محمّد بن إدريس، 204هـ)، الأُم، طبع شركة الطباعة الفنّية - مصر، ب. ت.

19 - الشيرازي (إبراهيم بن عليّ بن يوسف، 476هـ)، المهذّب في فقه مذهب الإمام الشافعي، مطبعة عيسى البابي الحلبي - مصر.

١٢٦

فقه المالكيّة:

20 - ابن رشد (محمّد بن أحمد)، بداية المجتهد، مطبعة الاستقامة - القاهرة.

21 - الصاوي (أحمد بن محمّد)، بُلغة السالك لأقرب المسالك في فقه الإمام مالك، مطبعة البابي الحلبي، 1952م.

فقه الظاهريّة:

22 - الظاهري (عليّ بن أحمد بن سعيد) المحلّي، طبع المكتب التجاري - بيروت.

فقه الزيديّة:

23 - المرتضى (أحمد بن يحيى، 840هـ)، البحر الزخّار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، تحقيق الجرافي، مطبعة أنصار السنّة - القاهرة، 1949م.

24 - زيدان (عبد الكريم)، المدخل لدراسة الشريعة الإسلاميّة.

25 - بحر العلوم (عز الدين)، الحَجْر وأحكامه، دار الزهراء - بيروت، ط1، 1980م.

د - الوسائل الجامعيّة:

26 - زاهد (عبد الأمير كاظم صالح)، التنمية في الاقتصاد الإسلامي، رسالة ماجستير، مقدّمة إلى كلّية الشريعة - جامعة بغداد، 1987م (رونيو).

27 - سعيد (عبد الحميد)، خصائص الشخصيّة، رسالة دكتوراه (رونيو).

١٢٧

البحث الخامس

الجريمة الاقتصاديّة

وسُبُل الوقاية منها في الإسلام

١٢٨

١٢٩

مقدّمة

إنّ لكلّ أُمّة أُصولاً حضارية تعود إليها في تأسيس البُنية الفكريّة، التي تصبح أرضيّة فلسفيّة للتشريع لمجتمعاتها بمختلف وجوهها، وللتربية ومناهجها، وللبناء الاجتماعيّ وأمْنه. وهذا ما يطلق عليه المذهبيّة الاجتماعيّة للأمّة.

ومن المُتسالم عليه أنّ للعقيدة أثراً بالغاً في تحديد السلوك وتوجهيه، لا سيّما إذا كان القانون مستقىً من أُسسها، منسجماً في مفاصله وجزائاته مع مفاصلها.

وتختلف فلسفات المجتمعات من جهة المُشرّع بين المصدر الإلهيّ والبشريّ، بما يتمتّع به الأوّل من زيادة في قوى الإلزام للفرد، وعدم احتياجه إلى الرقابة خارج الذات، زيادةً على ما للأوّل من شموليّة، وعُمق في الولاء، وآثار ذلك في تقليل الكُلَف المادّية والإجرائيّة في توجيه سلوك الأفراد.

ولأجل ما استقرّ عليه البحث من أنّ الطبيعة البشريّة قد زُوّدت بالاستعداد الإيجابي للبناء والخير وعمارة الأرض، كما خُلقت مزوّدة بالاستعداد السالب الذي ينطوي على الاستحواذ على جُهد الآخرين، واعتماد السلوك الهدّام المسبّب للتخلّف، فإنّ دَور المذهبية الفكرية هنا، يبرز في تحفيز البواعث لاعتماد السلوك الإيجابي، وتنبيه الرغبة في انتهاجه وتعميقها من قِبل الأفراد أو المجتمع ككلّ.

فإذا كان هذا ممّا يُتّفق بشأنه، فإنّه من الممكن القول إنّ العقائد والفلسفات تختلف في مدى ما تؤثّر في سلوكيّات مواطنيها.

وتتفاوت العقائد في تأسيس نظريّتها في الأمن الاجتماعي بوجهَيها: الوقاية والعلاج، وذلك يستدعي بحثاً مقارناً تفصيليّاً، لكنّنا سنقف عند دَور

١٣٠

العقيدة الإسلاميّة والشريعة المستندة إلى أُصولها بقدر تعلّق الأمر بهدف البحث في معرفة:

(أثر العقيدة والشريعة الإسلاميّة في وقاية المجتمع من الجريمة الاقتصادية).

أهداف البحث

يهدف البحث إلى معرفة مفهوم الجريمة الاقتصاديّة وبواعثها في الشريعة الإسلاميّة، والوقوف عند البواعث الاقتصاديّة للجريمة بصورة عامّة، ومدى الأثر الذي تُحدثه العقيدة والشريعة الإسلاميّة في مصادرة البواعث الاقتصاديّة للجريمة بصورة عامّة، ومحاصرة البواعث والوقائع السلوكيّة المنحرفة في مجال النشاط الاقتصادي في المجتمع الإسلامي.

أهمّية البحث

يرى الباحث أنّ هذا البحث مهمّ لعدّة اعتبارات، أبرزها:

يُعَدّ مجال النشاط الاقتصادي، من بين مجالات النشاط البشريّ، أهمّ المجالات القابلة لحصول السلوك المنافي للقانـون.

ولأنّ وسائل الحصول على الملكيّة والمال والحيازة وكيفيّة التصرّف بها تشكّل دافعاً رئيساً للسلوك الإجرامي، كما تشكّل رصيداً للبناء والإعمار؛ وذلك لآثار دَور الربح في السلوك الإنساني بوصفه باعثاً له سلباً وإيجاباً، وآثار التفاوت في مداخيل الأفراد وعدمه في الفعل الإجراميّ، وعلاقة الأجور بالأسعار.

لذلك جاء البحث ليفحص أثر الترابط العضوي بين العقيدة والنُظم التشريعيّة الحياتيّة المستندة إليها، في تنزيه السلوك البشري، وأثر ارتباط القانون والاقتصاد بمجموعة من القيَم والفضائل في النظريّة العامّة الموجّهة لاقتصاديّات المجتمع، وأثر وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السموّ بسلوك الأفراد نحو الإيجابيّة، وآثار الطاعة الاختياريّة، وفكرة المعاد والحساب، ومسؤوليّة أعمال القلوب في الردع الذاتي.

١٣١

ولقد اعتمد الباحث للوصول إلى فحص فرضيّته - المتمثّلة بالوصول إلى مدى آثار هذه المفاصل - الخطّة الآتية: مقدّمة ، ومدخل : عرَض فيهما مفهوم الجريمة عامّة وبواعثها في الفكر الإسلامي، وأهمّية البواعث الاقتصاديّة.

ثُمّ عرض في الفصل الأوّل للجرائم في مجال النشاط الاقتصادي والإنتاج، التبادل، التوزيع، الاستهلاك من جهة التجريم القانوني قضاءً وديانةً.

أمّا في الفصل الثاني، فقد توقّف عند سُبل الوقاية، وانتقل من ثمّ إلى معالجات المشرّع للجريمة بمجموعة من الوسائل.

وفي خاتمة المطاف، توقّف عند أهمّ النتائج، وتقييم ما إذا تحقّقت أهداف البحث.

أرجو أن يكون البحث في لُغته المكثّفة ومْضةً فكريّةً تسهم إلى جنْب أعمال الباحثين في جلاء الحقائق، سعياً وراء البناء الخلاّق لمجتمعات جَعلت من كلمة (لا إله إلاّ الله) شعاراً لبقائها، وتميّزها بين الأُمم، حاملة لحضارة تحتضن السلام الاجتماعي بين المجتمعات نفسها، وألَم الأرض كلّها.

وأن يجعله الله تعالى... قرضاً حسناً يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.

١٣٢

مدخل البحث

المبحث الأوّل: مفهوم الجريمة في الشريعة الإسلاميّة

يرى العلماء أنّ الجريمة: (محظورات شرعيّة زجر الله عنها بحدٍّ أو تعزير) (1) ، والمراد بالمحظورات: إمّا فعل أمرٍ نهى الشارع عنه، أو ترْك فِعلٍ أمرَ الشارع به. وقيود شرعيّة: أي ما ورد الأمر بها في الكتاب والسنّة أو الاجتهاد المبني عليهما. أمّا قيد زجَر الله عنه بحدّ أو تعزير: أي ما نصّ على عقوبته مع ذِكر مقدار العقوبة أو لا، فهل هذا يعني أنّ تقييد النصّ بالعقوبة ركن في اعتبار السلوك جريمة؟.

وهل مفهوم المخالفة يعني أنّ ما لم يُقرَن بعقوبة من الأفعال السلبيّة، ليس ممّا عدّ من الجرائم؟ بمعنى هل النهي، الأمر، مضافاً إلى تحديد العقوبة، هما رُكنا الجريمة في الفقه الجنائي الإسلامي، أو أنّ النظرة الشموليّة تقتضي الوقوف عند تحقّق النهي عن الفعل، النهي عن الترك مطلقاً في باب الجرائم؟

اختلف الفقهاء في هذا، فكان هناك ثلاثة مذاهب:

الأوّل: مَن اعتمد الرُكنين، وهو رأي الماوردي (2) .

الثاني: إنّ فعل ما أمرَ الشارع بترْكه على وجه الإلزام، أو ترْك ما أمَر الشارع بفِعله على وجه الإلزام يُعدّ جريمـة، وهو رأي المتأخّرين مثل أبي زهرة (3) .

فكلّ ما جانَب الامتثال للشارع حين ألزم، هو جريمة.

الثالث: مَن يرى أنّ مفهوم الجريمة أخصّ مِن مطلق المخالفة، فالمخالفة هي جميع صور عدم الامتثال، بينما الجريمة هي ما اقترن منه بعقوبة في الشرع، وعلى هذا ابن رشد (4) . والراجح أنّ في المسألة جانبين:

الجانب القضائيّ: الدنيوي.

____________________

(1) الماوردي، الأحكام السلطانيّة، ص: 333.

(2) المصدر نفسه.

(3) أبو زهرة، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، ص: 23، اُنظر: الندوة العلميّة لتطبيق التشريع الجنائي: 1/39.

(4) ابن رشد، بداية المجتهد: 2/387.

١٣٣

والجانب الدِيني: الأُخرَوي.

فإذا لاحظنا الجانبين معاً، فإنّ مطلق الذنْب في الشريعة هو جريمة، سواء شُرّعت له عقوبة دنيويّة أم لا، بينما إذا لوحظت المسألة القانونيّة المادّية (الإجراءات الدنيويّة لتطبيق الأوامر والنواهي)، فإنّ رأي الماوردي هو الراجح؛ لذلك سمّي ما اقترن النهي عنه بعقوبة الجنايات، قال ابن رشد: (الجنايات التي لها حدود مشروعة أربعة) (1) ، وهي:

ما وقع على النفوس والأبدان وأعضاء الجسد، كالقتل، وإتلاف الأعضاء.

وما وقع على الفروج، كالزنا واللواط والسفاح.

وما وقع على الأموال، كالحرابة والبغي والسرقة والغصب.

وما وقع على الأعراض والشرف، كالقذف.

وما وقع باستباحة ما حرّمه الشارع، كشرب الخمر.

وعلى هذا الرأي وقع اختيار علماء القانون، إذ عدّوا الجريمة هي: (الفعل الضارّ الصادر من إنسان، والذي يقرّر له القانون عقوبةً ما) (2) ، بينما اعتبر علماء الاجتماع أنّ الفعل المعبّر عن انحراف عن المعايير والضوابط الجمعيّة للسلوك، سواء نصّ القانون على اعتباره جريمة أم لا، سلوك إجراميّ من جهة المفهوم (3) ، وهو ما يتوافق مع الاتّجاه الثاني الذي عبّر عنه الشيخ محمّد أبو زهرة (4) ، الذي يرى أنّ الفعل الإجراميّ هو فعل ما نهى الله عنه، وترْك ما أمَر به. بما يُرادف مفهوم المعصية أو الذنب في الشريعة الإسلاميّة، أي أنّه متى وُجد الخروج من دائرة الطاعة، فإنّ أهمّ أركان الجريمة يتحقّق، وهو عدم الامتثال للأمر الإلهي.

المبحث الثاني: الباعث على الجريمة في الشريعة الإسلاميّة

اختلف علماء الإجرام في الباعث على الجريمة، فكان هناك عدّة آراء أبرزها:

____________________

(1) ابن رشد، (م. ن).

(2) نشأت (أكرم)، الأحكام العامّة في قانون العقوبات: 13/19.

(3) المغربي (سعد)، المجرمون، ص: 113، اُنظر: د. محمّد (عوض)، مبادئ عِلم الإجرام، ص: 38.

(4) أبو زهرة، (م. س)، ص: 23، ندوة التشريع الجنائي: 1/39.

١٣٤

1 - الباعث النفسي.

2 - الباعث الوراثي.

3 - الباعث الاقتصادي.

ويؤثّر هذا الاختلاف قضائيّاً في مدى اختلاف أصحابه في تحديد أركان العمل الجُرمي والظروف المحقّقة له، وسبُل الوقاية منه، وأُسلوب معالجته؛ لذلك اختلفت المذهبيّات في ضوء هذه المرتكزات، نظراً لاعتماد معايير تُترجِم موقف الفلسفة من الفعل عِبر الهيئات التشريعيّة، من جهة مدى تعارُضَه مع القيَم السائدة أو المرغوب في سيادتها.

إنّ حدود بحثنا تتمثّل في الفحص عن الباعث في الشريعة الإسلاميّة، فإنّنا نُعرض عن عَرْض أدلّة الآراء والموازنة بينها، ونكتفي بالإشارة إليها بوصفها مدخلاً لعرض نظريّة الباعث في الشريعة الإسلاميّة.

ومفهوم الباعث مطلقاً، (هو السبب وراء دفع المَرء لارتكاب الجُرم في الحياة الواقعيّـة المادّيـة أو الاجتماعيّـة) (1) ، أمّا في الشريعة الإسلاميّة، فإنّ حشداً من النصوص يشير إلى أنّ الشريعة تفصل بين البواعث من جهة أثرها باعتماد علّة أُولى، ويمكن أن نطلق عليه الباعث الموضوعي، وما البواعث الأُخرى المُدّعاة سوى صورٍ أو نتائج لذلك السبب، وإن احتلّت مجال السبب الوسيط بين الأساسي والنتائج المترتّبة عليه، وهو السلوك الإجرامي، ويتّضح ذلك مـن:

1 - إشارات القرآن الكريم إلى أنّ فقدان الفرد للإيمان، أو ضعف إيمانه بالأُصول الاعتقاديّة؛ هو السبب في ارتكاب الجريمة.

من ذلك قول الله تعالى عن غواية الشيطان: ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) [ص: 82].

وقوله تعالى: ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ ) [البقرة: 268].

وقوله أيضاً: ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ) [المائدة: 91].

____________________

(1) خليفة (أحمد محمد)، أُصول علم الإجرام الاجتماعي: ص: 5.

اُنظر أيضاً: سعيد (مصطفى): الأحكام العامّة في قانون العقوبات: 1/388. إلياس (يوسف)، مجموعة العقوبات العربيّة: 1/87.

١٣٥

2 - ما جاء في السنّة النبويّة الشريفة:

قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ألا إنّ في الجسد مُضغة إذا صلُحت صلُح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب) (1) .

وما يماثل هذا الحديث في المعنى.

3 - وآراء المفكّرين المسلمين:

ومثاله ما قاله الغزالي: (إنّ دواعي المعصية هي أبواب الشيطان المفتوحة إلى القلب)؛ لذلك يرى (أنّ حماية القلب فرضُ عَين على كلّ عبد) (2) .

إنّ هذه النصوص.. ممثّله لحشدٍ كبير ممّا ورد في الكتاب والسنّة وآراء العلماء في هذا الباب، بما يكشف عن أنّ الباعث في التصوّر الإسلامي هو ضعف الإيمان لدى المسلم، وانعدامه لدى غير المسلم، ومن صوره استسهال اقتراف المعصية؛ ذلك لأنّ الإيمان يستلزم التقيّد بالأحكام التكليفيّة الإلزاميّة والقيَم الأخلاقيّة التي أمَر بها الشارع على الأقلّ، إذ إنّ هناك تكاليف أكثر تقييداً للإنسان في دائرة الندْب والكراهية (3) ؛ ذلك لأنّ العلماء يرون أنّ مصطلح الإيمان: (تصديق بالجَنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان)، وأنّه كما وصفه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (بضْع وسبعون شعبة، أرفعها قول لا إله إلاّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن طريق المسلمين) (4) .

لِما تقدّم يرى الباحث أنّ العقيدة الإسلاميّة بعد ثبوتها للمكلّف بالأدلّة القطعيّة، تستلزم الإيمان بأنّ الله تعالى مشرّع حكيم، وأنّ هدْيَه وهديَ رسوله منهاج الحياة الأصوب مطلقاً، وأنّ أوامره ونواهيه متعلّقها مصلحة الأفراد والجماعات، والتقيّد بها من لوازم الإيمان، وأنّ من أبرز مهام وليّ الأمر تطبيق الشريعة في وقائع المجتمع، وأنّ الإيمان بالمعاد الأُخروي، وبعِلم الله المحيط بالإنسان؛ سبب لشعور الفرد بأنّ جميع أعماله ونواياه مُحصاةٌ عليه.

لذلك فإنّ السلوك السلبي ناتج عن الكفر والفسق والعصيان، والسلوك الإيجابي البنّاء ناتج طبيعيّ عن الإيمان ومقتضياته.

____________________

(1) البخاري، صحيح البخاري، ص: 2011، سنن ابن ماجة: 2/1319، الحديث رقم 3984.

(2) الغزالي، إحياء علوم الدين: 3/27.

(3) عليان (رشدي)، الدوري (قحطان)، أصول الدين الإسلامي.

(4) سنن ابن ماجة، ص: 2211، الحديث رقم 57.

١٣٦

أمّا الباعث النفسي، فللإيمان أُسلوبه في معالجة الانحراف الداخلي، والسيطرة المنظّمة على الغرائز.

  أمّا الباعث الوراثيّ، فإنّ الشريعة لا تحسبه عاملاً، على الرغم من أنّها تأمر بالتزوّج بالأباعد، بينما في الجانب الاقتصاديّ، فإنّ أُسلوب الشريعة تتكفّله بالمكافل والضمان، وبذلك تصادر آثاره السلبيّة من النفس والضمير، زيادةً على ما تضخّ داخلها من نور الهداية التي تبصّر الإنسان بالفعل البنّاء الخلاّق، وأثره في الرفعة والسموّ الاجتماعيّ للفرد في الحياة الدنيا والثواب الأُخروي، ذلك أنّ مفهوم الزمن في الشريعة، قد جُعل على مرحلتين:

المؤقّت وهو دار الامتحان والاختبار، والدائم الخالد وهو زمن الجزاء. وبذلك تُبعده هذه المفاهيم العقائديّة عن ارتكاب الفعل الضارّ.

المبحث الثالث: أهميّة البواعث الاقتصاديّة على الجريمة

تقدّم أنّ الشريعة الإسلاميّة تُرجع البواعث جميعها إلى باعثٍ واحد هو الإيمان بالله ومقتضياته، وأنّها جعلت الباعث النفسي والمناخي أو الجغرافيّ، إمّا صور خارجيّة لذلك الباعث، أو عوامل مساعدة. وأيّاً كان اعتبار الشريعة للعامل الاقتصاديّ، فما مدى أهميّته في دفع الفرد باتّجاه السلوك الإجرامي؟.

لقد أظهرت الدراسات المتعدّدة أنّ بين الجريمة وسوء الأوضاع الاقتصاديّة للأفراد علاقة جدليّة، تصلُح كلّ منهما لأنْ تكون علّة ومعلولاً للأُخرى، وإن كانت علّة ثانويّة، وأوضحَتْ أنّ سوء الأوضاع الاقتصاديّة، وانخفاض دخْل الفرد، أو قصوره وعجزه من تلبية الحاجات الأساسيّة وسدادها حالة مفضية إلى الجريمة، فالفقرُ - عامّةً - واحد من أهمّ أسباب ارتكاب الجريمة الاقتصاديّة، كالسرقة، والغشّ، والتورّط في الإنتاج المضرّ، والرشوة، والمعاملات الربويّة، مع عموم الجريمة.

لكن التصوّر الإسلامي - كما عرفنا - يَعدّه عاملاً مساعداً لارتكاب الجريمة؛ لأنّه اقترن مع ضعف الإيمان، فصار الجوّ العامّ (الباعث) مهيّأً وقابلاً لارتكابها.

١٣٧

وإلى هذا التقييم مال المؤتمرون في ميلانو عام 1985م، حيث انقسم المجتمعون إلى اعتبار البواعث الاقتصاديّة عوامل رئيسة، أو عوامل مساعدة (1) .

وفي دراسة أُخرى أُجريت عام (1950م) على عيّنة مقدارها (200) من الأحداث الجانحين، تبيّن أنّ ثلاثة أرباع هؤلاء الجانحين من أُسَر ذات مستوى اقتصاديّ متدنٍّ، وأنّها تعتمد في كفافها على مساعدات ماليّة تقدّم إليها من هيئات متخصّصة (2) .

وتوصّلت دراسة في إيطاليا إلى أنّ (85 - 90%) من المحكوم عليهم بجرائم اقتصاديّة ممّن ينسب إلى الطبقات الفقيرة.

وفي الوطن العربي لاحظتْ دراسةٌ أنّ نسبة الإجرام ترتفع مع نسبة البطالة، وتنخفض بانخفاضها، ووجدَت أنّ تدنّي الأُجور وتقلّبات الدخل أمران مؤثّران في السلوك الإجرامي، كالاتّجار بالسلع المحرّمة، والرشوة، والسرقة، كلّ ذلك لكي يحقّق الفرد أجراً إضافيّاً، ولاحظتْ كذلك أنّه عند ارتفاع الأُجور تنخفض جرائم المال (3) .

وقد ذهبت النظريّة الاجتماعيّة المفسّرة لظاهرة الجريمة إلى أنّ ما يرتكب اعتداءً على المال (4) في الشتاء أكثر؛ لأنّه وليد حاجة الفرد إلى الغذاء والملبس بسبب انخفاض الدخل.

يرى الباحث ممّا تقدّم أنّ العوامل - البواعث - الاقتصاديّة تعدّ عوامل هامّة، خلافاً لِما انفردت به بعض مدارس علم الإجرام بجعله الباعث الرئيس، وقد اتّضح لديك أنّ موقف الشريعة حينما تعدّه عاملاً مساعداً للعلّة الأساسيّة، وهي تدنّي التقوى في ارتكاب الجريمة عامّة، والجريمة الاقتصاديّة خاصّة، فإنّها تسعى في تشريعاتها إلى إلغاء أثره السالب، على أنّنا ينبغي أن نشير إلى أنّه أكثر البواعث وضوحاً في أثره على السلوك، وسنلحظ في الوقاية والمعالجات أنّ الشريعة الإسلاميّة لا تكتفي بصيانة الفرد في

____________________

(1) الوقائع المنشورة للمؤتمر السابع للأمم المتّحدة لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين، ميلانو (1985م) ص 3/128.

(2) د. خليفة، (م. س)، ص: 104، 110.

(3) رمضان (عمر السعيد)، (م. س)، ص: 121.

(4) العطيف (جمال)، فكرة الجريمة الاقتصاديّة، ص: 50.

١٣٨

المجال الروحيّ والعقائديّ فقط، بل إنّها تهتمّ بتحقيق مبدأ كفاية الأفراد؛ الأمر الذي يعني أنّ الشارع المقدّس يحتاط لهذا الدافع حيطة تشريعيّة مانعة له من دفع الإنسان إلى ارتكاب الفعل الضار المخالف للقانون، في مجال الجريمة بصورة عامّة، أو الجريمة الاقتصاديّة بصورة خاصّة.

١٣٩

الفصل الأوّل

المبحث الأوّل:

الجرائم الاقتصاديّة: ماهيّتها، أركانها

من معرفة ما تعنيه كلمة الاقتصاد يتّضح مفهوم الجريمة الاقتصاديّة.

فمفهوم الاقتصاد - كما عرّفه سميث -: هو (عِلم الثروة) (1) ، وعرّفه مارشال بأنّه: (نشاط الفرد والمجتمع للحصول على الموارد اللازمة؛ لتحقيق الرفاهيّة العامّة) (2) ، وعرّفه روبنر بأنّه: (ما يهتمّ بسلوك الإنسان كحلقة اتّصال بين الأهداف والحاجات المتعدّدة والوسائل النادرة ذات الاستعمالات المختلفة) (3) .

أمّا ريمون بار، فعرّفه بأنّه: (ما يُبيّن السُبل التي يتّبعها الأفراد والمجتمعات؛ لمواجهة الحاجات المتعدّدة باستعمال وسائل محدودة) (4) .

وفي ضوء هذا الفهْم ينظّم القانون العلاقات بين المُنتِج والمُستهلك، أي تنظيم التبادل، كما يؤسّس القواعد الدستوريّة للتوزيع، ومِن المذهبيّة الاجتماعيّة تظهر محدّدات الإنتاج وأنماطه، والقيود على الاستهلاك، بما يُشكلّ هَرَماً نظريّاً يرسم تنظيماً لمُجمل النشاط الاقتصادي، ويلاحظ مدى دَور الربحيّة والتناسب بين المداخيل وآثار التفاوت والأسعار، وأُسلوب التصرّف بالفائض. فما يحصل من سلوك مخالف لِما نظّمه من هذا القانون، الأمر الذي جعلت عليه عقوبات محدّدة، هو ما يطلَق عليه اسم الجريمة الاقتصادية.

لذا، فأقصر تعريف لمفهوم الجريمة الاقتصادية هو: السلوك المخالف للقوانين المنظِّمة للتصرّف الاقتصادي، والتي نصّ عليها القانون بعقوبة محدّدة)، وحيث إنّ الشريعة الإسلاميّة أسّست المذهب الاقتصاديّ بأُطروحة تمتلك تصوّراً للمشكلة الاقتصاديّة، وإجراءات لحلّها، وقوانين لتنظيم نشاط

____________________

(1) inqury into، the Nuture and Causes the wealth of nation.

(2) A. marchal, System Stem strcture Economic, P: 4/f 1959.

(3) ولعلو (فتح الله)، مدخل للدراسات الاقتصاديّة، ص: 24.

(4) المصدر نفسه.

١٤٠