دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي0%

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي مؤلف:
تصنيف: علم الفقه
الصفحات: 224

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف: الغدير للدراسات والنشر
تصنيف:

الصفحات: 224
المشاهدات: 81957
تحميل: 9688

توضيحات:

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 81957 / تحميل: 9688
الحجم الحجم الحجم
دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

دراسات في الفكر الاقتصادي الإسلامي

مؤلف:
العربية

وقد نُوقشت قضيّة رأس المال في بحوث مُتعدّدة، نذكر منها بحث البعّاج: (مغزى الحلقات المفرغة) الذي انتهى إلى أنّها وسيلة تضليليّة؛ لتسويغ بقاء تخلّف دول العجز في العالم المعاصر واستمراره (1) .

أمّا تدنّي إنتاجيّة العمل، فهو - كما يظهر مَن ولجَ هذا الموضوع - نتيجة لِما تقدّم من معايير، ولم تصمد التفسيرات السوسيولوجيّة بعَزو التخلّف إلى نمط الثقافة والدين والأنظمة الاجتماعيّة والفروق العنصريّة واللون، وتصنيف البشر إلى مجتمعات راكدة وأُخرى راكدة هجينة، إلاّ بمساسها بالمدخل الفكريّ؛ لتوضيح تصوّر الإسلام للمدخل السليم لتفسير التخلّف، وإلاّ فهي دراسات منحازة تضمّ بين جنباتها أغراضاً غير علميّة، وتحتوي على درجة من التعصّب ورمي شعوب العالم الثالث بعيب (الأدْنَويّة)، وتهدف إلى تقرير آراء عنصريّة تلصق التفوّق الطبيعيّ بعناصر وسلالات بشريّة في العالم (*) ، وهكذا لم تقف معايير المنظومة أمام التفسير الإسلاميّ للتخلّف.

ثانياً: التنمية

1 - التصوّر والإجرائيّة في النُظم الاقتصاديّة الوضعيّة المُعاصرة

لقد تعدّدت الزوايا التي ينظر الباحثون من خلالها إلى التّنمية.

فقد لاحظ بعضهم أنّها (الزيادة المُستمرّة في إنتاج الثروات الماديّة) (2) .

ولاحظ آخرون أنّها عمليّة زيادة الدَخل الفرديّ أو الإنتاج الاجتماعيّ، وقد اعترض على ذلك عونار ميردال (3) .

ويلاحظ هانسن ( Hansen ) ارتباط التنمية بالعلاقات الدوليّة.

ويربطها اسمان بالتحوّلات الحضاريّة للدول الأقلّ تصنيعاً من الاقتصاد الرعويّ أو الزراعيّ إلى التنظيم الصناعيّ للأنشطة الاقتصاديّة.

____________________

(*) وقد تخطّى البحث تفسير التخلّف باستعمال منهجيّة المراحل خشية التطويل، كما جاء عند الألمان والأمريكان، مثل نظريّة والت روستو.

(1) البعّاج، اُنظر كذلك حتى التفسير الماركسي عند ( Nurkse )، أو ( Lebenshtin Ianger ) الذي يركّز على ضرورة التراكم.

(2) س. كوزيتتس.

(3) تحليل بالدوين (مبير)، اُنظر: ميردال في نقد النموّ، ترجمة عيسى عصفور، سوريا، 1980م.

٢١

أمّا (فريد ويكسر)، فيراها عمليّة شموليّة بأبعاد مُختلفة.

وركّز (حجبر) على أنّها إطلاق قوى مُعيّنة خلال مدّة زمنيّة طويلة نسبيّاً تُحدث زيادة في الدخل أكبر من زيادة السكّان.

هذه الرّؤى تدور حول محورين هما: العلاقات المورديّة، وانخفاض متوسّط الدخل الفرديّ.

وقد توصّل عدد من الباحثين إلى وضع اليد على خطأ منهجيّ صاحَب تلك الدراسات على مدى نصف قرن؛ وهو أنّها تفصل بين الجوانب الاقتصاديّة والإطار الاجتماعيّ والدوافع العقائديّة؛ لتحسين هذا الإطار وتكييفه، بلحاظ توزيع إمكانات النموّ وثماره (1) .

كما توصّلوا إلى ضرورة التفريق بين مفاهيم النموّ ( Growth )، ومفهوم التنمية ( Development )، ومفهوم التحديث ( Modernization ). ولوحظ أنّ تلك الدراسات ركّزت على النموّ؛ متأثّرة بالتدرّج التاريخيّ لتطوّره من خلال أفكار مُجتهدي المدرسة الاقتصاديّة الكلاسيكيّة، فقد ظهرت مقولات النموّ عند سمث ( Sm i th ) من أفكاره في تقسيم العمل وتقرير حقّ الفرد المُطلق، بوصفه أساساً لتطوّر ثروة الأُمم، وتأكيداته على التوازن الآلي بين تأثيرات العرْض والطلب على السوق، فأعطاه دور المعيار في ماذا يُنتج؟ ولمَن؟ وافتراضات المدرسة بصيرورة كلّ اقتصاد لدرجة التشغيل وتطويره، ومن ثَمّ تحقّق الكفاءة الإنتاجيّة، وتطوّر المعدّات، وتعظيم الادّخارات؛ لتوسيع حجم السوق الداخليّة والخارجيّة، وتأكيداته على تراكميّة النموّ.

وهكذا تطوّرت مفهومات النموّ عند (ريكاردو) في نظريّته في التوزيع الوظيفيّ على العناصر المساهمة في الإنتاج، بالتركيز على مقولة العمل ونظريّته في الرَيع التفاضليّ، وبظهور (مارشال) ظهرت أفكار ومتغيّرات جديدة دخلت في محاور دراسة النموّ، مثل التطوّرات الفنّية والاندماج، ونظريّة الوفورات وأثرها على تقليل الكُلَف وتطوير المهارات.

____________________

(1) اُنظر: النجفي (سالم)، التنمية الاقتصاديّة الزراعيّة، جامعة الموصل، ص: 16 و17.

٢٢

وبَرز الجانب المذهبي للرأسماليّة في أفكار (شومبيز) في آرائه في النُظم، وأثره في إحداث النموّ، حتى ظهرت الكينزيّة التي انحاز تحت ظلّها العلميّ محرّك النموّ إلى جانب الطلب بما يبرز أثر الركود العالميّ (1930م)، فأدخلت تعديلات هامّة على دراسة النموّ في ظلّ التفكير الليبرالي، فطالبت بإعطاء الدولة دوراً في التطوير، وتعكّزت على التوزيع وإعادة التوزيع؛ لتنشيط أثر الاستهلاك بغية إيجاد الطلب الفعّال بوصفه مطوّراً للإنتاج.

إنّ الخيط الذي يربط هذا العرض السريع لتطوّر دراسات النموّ الاقتصاديّ، خلال قرنين من الزمن، يُمكن وصفه بأنّ التنمية في ظلّ الاتّجاه الفرديّ ظلّت عمليّة إبداعات الأفراد لتحقيق الرخاء المادّي، أي أنّ تصوّر الليبراليّة للمشكلة الاقتصاديّة دعاها إلى تكليف كلّ فرد بحلّ هذه المشكلة بجهده ونشاطه، وعلى النطاق الجزئيّ، وبجمْع هذه الجهود سيصار إلى تذليل آثار المشكلة في مجمل الاقتصاد القوميّ، بينما ظلّت الآثار التي تسهم فيها قوانين التوزيع في إحداث وتائر النموّ أو تسريعه مهملة، ما عدا تعديلات طفيفة ظهرت في الفكر الكينزي، لم تلبث أن تلاشت وسط الإهمال الذي تفرضه النظريّة برمّتها في فرض قيود معيّنة على الفرد حين يتصرّف تصرّفاً مطلقاً بالثروة والدخل.

  لذلك فإنّ المقياس الذي تُقاس به التنمية، والذي ينسجم مع النسيج النظريّ الليبراليّ في تصوّر النموّ، هو حجم الثورة الكليّة المُتحصّلة للمجتمع خلال مدّة زمنيّة مُعيّنة. وعليه، فقد اعتمد حجم الدخل القوميّ، مقدار الدخل الفرديّ الحقيقيّ، أو حجم التراكم الرأسمالي لسنة الأساس وآثاره ونسب ارتفاعاته، مقاييس في تصنيف المجموعـات البشريّـة (1) .

إلاّ أنّ ذلك الفصل المُتعمّد عن الجوانب غير الاقتصاديّة في التصوّر، قد برز بعد التنفيذ في الشطر الغربيّ من الأرض، عبّر عنه صراحة روستو ( Rosstow ) بوصفه لمرحلة الاستهلاك الوفير القائل: إنّ هذه المرحلة جعلت المواطن الأمريكيّ يطرح على ذاته أسئلة لا تمسّ مسألة النموّ، إنّما تشخّص حالة الفراغ

____________________

(1) اُنظر: د. العمادي (محمّد)، التنمية والتخطيط، دمشق، ط2، 1966م، ص: 71 - 77. مقياس جير الدماير، بالدوين.

٢٣

الذي انتاب المجتمع بعد تحقيقه لمرحلة الرفاهية ( Economic Welfare )، وظهرت في تردّد الأمريكي في الإجابة عن أسئلةٍ مثل: هل يزداد الإنجاب؟ هل يرحل إلى الكواكب الأُخرى؟ هل يجعل العطلة الأسبوعيّة ثلاثة أيّام؟ هل يعود إلى القيَم الروحيّة؟ (1) .

نستطيع القول ممّا تقدّم:

أ - إنّ النصّ الذي عبّر فيه روستو عن الإحساسات الجماعيّة، لِما بعد النموّ، يشير بوضوح إلى أنّ التنمية الغربيّة تتوقّف عند غاية الرفاهية، عند تحقيق الجانب المادّي للحياة.

ب - إنّ التنمية الغربيّة قامت على أساس الضغط على الجانب الإنسانيّ، تجلّى ذلك في تحديد الإنجاب، وعلى الجانب الروحيّ للإنسان الغربيّ في إعراضه عن القيم الروحيّة، وفي تكثيف العمل الأسبوعيّ، إذ إنّ إنقاص ساعات العمل بالشكل المطلق يعني، عِبر زيادة إنتاجيّة العمل وحصيلة التقدّم الفنّي والتكنولوجيّ، زيادة في استغلال جهد إنسانيّ أكبر بالمفهوم النسبيّ (*) .

جـ - إنّ القوّة المادّية المُتحصّلة من التنمية دفَعته إلى بواعث عدوانيّة، وسيطرة جنونيّة على الكون.

2 - التنمية في تصوّر المذهبيّة الاشتراكية (الجماعيّة)

إنّ المُتسالم عليه عند الباحثين أنّ مقولات التنمية قد وجدت تنظيرات ونضجاً في ظلّ التفكير الاشتراكيّ للمشكلة الاقتصاديّة، بينما حظي النموّ ( Grwoth ) بالقسط الأوفر في التفكير الاقتصاديّ الليبرالي.

وبصرف النظر عن الأساس النظريّ والواقع التاريخيّ لهذه المُسلّمة، فإنّ النتيجة الحتميّة للتطوّر الاقتصاديّ في العالم الشرقيّ تتمثّل في أنّ الفكر

____________________

(*) ولست أظنّ القارئ يطالب هنا بالدليل أو المصداق، وإن كان الأمر لصيق بالجانب السياسيّ للنموّ الذي يعرض عنه بحثنا؛ لأنّه في صدد تقويم العناصر الفنّية.

(1) روستو (والت)، مراحل النموّ الاقتصاديّ، ترجمة إبراهيم جناتي، القاهرة، 1977م.

٢٤

الذي يقف خلفه حاول جادّاً إحداث تحوّلات هيكليّة من خلال الاستثمارات العامّة، باستخدام التخطيط الشامل ( Centralized Economic Planning )، بما يؤدّي إلى تكوين قاعدة استقطاب للموارد المتاحة كافّة.

وبأُسلوب التوزيع المركزيّ للدخل، وفق قاعدة (كلّ حسب عمله)، دفع النشاط العامّ إلى تحقيق تزايد مُنتظم في متوسّط الإنتاجيّة للفرد، وبالتالي في قدرات المجتمع، مستهدفاً - كما تشير أدبيّات التنمية - إلى توفير الحاجات الأساسيّة وفق مبدأ يتمثّل في (إحداث التغييرات الجذريّة في علاقات وقوى الإنتاج، ومن ثَمّ في البنيان الثقافيّ الملائم معها) (1) .

وعليه، اعتمد ذلك التطبيق مسألة الملكيّة الاجتماعيّة، وخوّل الدولة صلاحية تنظيم الإنتاج وتخطيطه مركزيّاً، وتوزيع عوائده بموازنة صارمة بين الاستهلاك الضروريّ والتراكم المخصّص؛ لتوسيع قاعدة الإنماء عموديّاً وأفقيّاً. وقد اعتمدت السياسة الاقتصاديّة القائمة على أساس ذلك الفكر على المناورة في انخفاض حجم الاستهلاك ورفعه لصالح التراكم؛ تمشّياً مع الأهداف البعيدة والمتوسّطة والقصيرة للتخطيط الاقتصاديّ، مع الأخذ بالحسبان الاعتبارات السياسيّة في المراحل المختلفة. ويلاحظ الباحثون أنّ الفكر الماركسيّ جعل الباعث على إحداث النموّ الاقتصاديّ مواجهة جماعيّة بقيادة الدولة في الغالب للمشكلة الاقتصاديّة، بحيث صارت التنمية بالأساس مسؤوليّة الدولة، وحقّ الفرد عليها لتحقيق ذلك السداد المقبول لحاجاته الأساسيّة، وبسدادها تتجدّد قوى الإنتاج، ويستمرّ النموّ الاقتصاديّ (2) .

وهذا يتيح لنا القول: إنّ مفهوم التنمية - كما يراه أصحاب هذا الاتّجاه - ينزع إلى الربط الجدليّ بين الإنتاج والتوزيع، بعلاقة تأثير متبادلة بينهما، وتسخير الثاني - التوزيع - لمصلحة الإنتاج، وتجديده وتحقيق تراكم مناسب، سواء بالضغط على مستوى الأُجور الفعليّة، أمْ على مستويات الاستهلاك، فضلاً عن تحديد لوسائل الإنتاج.

____________________

(1) اُنظر في هذا الصدد:

د. الكواري (علي)، نحو فهم أفضل للتنمية، مركز دراسات الوحدة العربيّة - بيروت، 1984م، ص: 70.

د. محيي الدين (عمرو)، التخلّف والتنمية، ص: 210.

د. عبد الله (إسماعيل صبري)، نحو نظام عالمي، ص: 220.

د. مرسي (فؤاد)، (م. س.)، ص: 176.

(2) عبد الله (إسماعيل صبري)، (م. س.)، ص: 220.

مرسي (فؤاد)، (م. س.)، ص: 176.

٢٥

3 - مفهوم التّنمية في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ

إنّ المُنطلق الذي ينطلق منه تحديد مفهوم الإسلام للتنمية هو: كيف يرى الإسلام المشكلة الاقتصاديّة؟ وما هو الحلّ الذي قدّمه لها؟

  إنّ التصوّر الإسلاميّ يُسلّم أوّلاً بأنّ الموارد المبثوثة في الكون هي من الوفرة بحيث تغطّي الحاجات القائمة والمفترض قيامها عموديّاً وأُفقيّاً إلى يوم القيامة. وهذه الحقيقة إحدى مُعطيات القرآن الكريـم، ولـه فيها دلالـة واضحـة (1) :

( وَآتَاكُم مِن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) [إبراهيم: 34] (2) . ويقف الإسلام إزاء هذه المُسلّمة موقف المحرّض بالوسائل العقائديّة والأخلاقية، ومستخدماً القانون المحرّض على العمل واستثمار هذه الموارد.

إنّ النّدرة المعترف بها في الإسلام هي ندرة الطيّبات، (أي السِلع والخدمات المبذول عليها عمل يكيّفها لإشباع الحاجات) (3) .

لذلك فإنّ الجُهد الإنسانيّ هو الكفيل والمسؤول في آنٍ واحد في إحداث وفرة الطيّبات، بينما لا توكل التنمية في الفكر الليبرالي، بقولها بندرة الموارد، إلى الجهد الإنسانيّ وحده، وحيث إنّ الإنسان مأمور بسدّ مُتطلّباته للتوصّل إلى تحصيل قدرته على العبادة بالمعنى الأخصّ، ومأمور بعمارة الأرض لقوله تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) [هود:61]، وحيثيّات كهذه تشير إلى أنّ العمل والإنتاج ليسا ردود فعل للحاجة الإنسانيّة، أو استجابة لها بقدَر ما هما حُكم شرعيّ ينظّم الاستجابة الإنسانيّة لتحدّي الحاجة.

نخلص من ذلك إلى القول: إنّ الركن الأوّل في مفهوم التنمية في الإسلام هو الضرورة الشرعيّة للإنتاج، واستخدام أقصى الطاقات البشريّة فيه، ولمّا كان الإنسان هو حلقة الوصل أو محلّ الارتباط في تبادل التأثير بين كفاية التوزيع، وتحقّق القدرة على الأداء الإنتاجيّ، فقد احتلّ التوزيع الركنيّة الثانية في مفهوم الإسلام للتنمية؛ ذلك أنّ التوزيع الإسلاميّ للثروة والدخل قائم على معيارَي العمل والحاجة، وهنا يسهم التوزيع في مساعدة القوى الإنتاجيّة على الحركة الفعّالة

____________________

(1) اُنظر: الكُبيسي (أحمد عواد)، الحاجات في مذهب الاقتصاد، ص: 82 و83.

(2) اُنظر آيات الكتاب الكريم: [إبراهيم: 32 - 34].

(3) د. صقر (محمّد أحمد)، الاقتصاد الإسلاميّ مفاهيم ومُرتكزات، دار النهضة العربية - القاهرة، ط1، 1988م، ص: 23 و24.

٢٦

في إعطائها القوّة المادّية، وتسهم المُسلّمات العقائديّة والأحكام التكليفيّة في إعطاء تلك القوى الدفع الروحيّ المعنويّ.

ما يرتّب، في فهْم التصوّر الإسلاميّ للتنمية، أنّ لها ركنين هما: عدالة التوزيع والإمكانات المادّية، وعدالة توزيع ثمار النموّ لأجل إنتاج يتطلّع إلى عمارة الأرض.

لأجل ذلك كلّه فمفهوم الإسلام للتنمية مفهوم شموليّ لا يُؤكّد على جانب العرض (الإنتاج)، كما هو دأب المدرسة الكلاسيكيّة، ولا يتركّز في جانب التوزيع هدفاً، كما في الماركسيّة، إنّما يجمع بينهما في توليفة متوازنة لإنتاج مفهوم شموليّ للتنمية، ينتج عنه أنّ أُسلوب الإسلام في الإنماء لا يصاب بسوء التوزيع، كما هو محور الكُلفة الاجتماعيّة للتنمية الرأسماليّة، ولا بهبوط الإنتاج كمّاً أو نوعاً، كما هو محور الكُلفة في التنمية الماركسيّة، فضلاً من التأثير السلبيّ لكلّ من هذه النقائص على الركن الآخر.

من ذلك كلّه يستطيع الباحث أن يوجز بعض مفاصل الفهْم الإسلاميّ للتنمية، وعلى الوجه الآتي:

أ - إنّ الإنتاج مسؤوليّة شرعيّة يترتّب التخلّي عنها جزاءات قانونيّة في الدنيا والآخرة.

ب - الامتثال لهذه المسؤوليّة بوصفها حُكماً شرعيّاً عينيّاً يجعل مفاصل الإنتاج مُتعدّدة، فيها الفرد والمجتمع والدولة.

جـ - يجعل الإسلام للعمل مكافأة مادّية وروحيّة، المادّية بشرعيّة الملكيّة، والروحيّة بأجر الامتثال للحكم الشرعيّ.

د - إنّ النمط التوزيعيّ يُهيّئ جميع قوّة العمل المُتاحة للإسهام بالإنماء الاقتصاديّ، طالما ضمِن لأفرادها حدّ الكفاية.

هـ - إنّ غاية التنمية في الإسلام تتخطّى مرحلة زيادة الثروة القوميّة، ومرحلة إشباع الحاجات المادّية فقط، إنّها تضمّ هاتين المرحلتين وتُسخّرهما معاً لهدف أسمى، وهو تسهيل أمر العبوديّة لله تعالى (1) .

____________________

(1) اُنظر في تفصيلات هذه الخصائص:

النجّار (عبد الهادي علي)، الإسلام والاقتصاد، سلسلة المعرفة، الكويت، ص: 75.

العلي (أحمد بويهي)، التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة ومستوى المعيشة، مجلّة البحوث الإدارية - بغداد، العدد الأوّل، ك2، 1978م، ص: 145.

٢٧

4 - أدلّة الوجوب المُستفادة مِن الكتاب الكريم

لقد مرّ بنا الاستدلال بقوله تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [هود: 61]. وقد جاء في تفسيرها عن الجصّاص قوله:

((استعمركم): أي أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه، وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية) (1) .

وجاء في الميزان: (المراد بالاستعمار هُنا الطلب الإلهيّ من الإنسان المُستخلَف أن يجعل الأرض عامرة؛ لكي ينتفع بها، بما يطلب من فوائدها) (2) .

وقد يستدلّ أيضاً بقوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة: 30]، ومهام خلافة الله في الأرض، كما يرى المفسّرون: (إقامة الحقّ وعمارة الأرض) (3) . وهناك استدلالات أُخرى تُنظر في مظانّها من الكتاب والسنّة والقواعد الفقهيّة وتطبيقات عصر الراشدين (4) .

5 - فلسفة الاستخلاف ومفهوم التنمية في الفِكر الإسلاميّ

ترتكز جميع النُظم الاقتصاديّة في العالم على أساس نظريّ يقرّر نمط التعامل مع طبيعة التصرّف بالثروة والدخل، فيقوم النظام الفرديّ على أساس الحقّ الفرديّ المُطلق للفرد بموجب حصّته من العمل، في أيّ ظروف كانت في الاستحواذ على جزء من الثروة القوميّة، والتصرّف المطلق بالدخل الناتج عن العمل فيها. ويقوم النظام الجماعي على أساس عدم أحقّية الفرد في تملّك وسائل الإنتاج غالباً، ويقرّ التخطيط الشامل للأجر والأسعار طبيعة التصرّف بالدخل، وفق مُتغيّرات ودَوال يعتمدها ذلك التخطيط.

أمّا بالنسبة للتصوّر الإسلامي، فكيف يرسم طبيعة التصرّف بالملكيّة؟

لتوضيح طبيعة التصرّف لا بدّ من عرض القوانين المركزيّة في مذهبيّة الاستخلاف: إنّ الشريعة الإسلاميّة تقرّر ابتداءً أنّ الملكيّة الحقيقيّة لله تعالى، ونمط العلاقة بين الخالق والكون علاقة ملك تامّ وحقيقيّ، فيه أعلى درجات

____________________

(1) الجصّاص، أحكام القرآن: 3/165.

(2) طباطبائي (محمد حسين)، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة الأعلمي - بيروت، ط 2: 10/310.

اُنظر: الطبرسي (أبو علي الفضل بن الحسن)، مجمع البيان، مطبعة دار الفكر: 12/178.

(3) الطبرسي، (م. س.): 1/ 74.

البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مطبعة مصطفى محمّد: 1/135.

(4) المياحي (عبد الأمير كاظم)، (م. س.)، ص: 75 - 81.

٢٨

الاختصاص، يظهر ذلك من قوله تعالى: ( للّهِ‏ِ مُلْكُ السّموَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) [المائدة: 120].

قال المفسّرون: إنّ معنى الآية: (لله ملك السماوات والأرض دون كلّ مَن سواه لقدرته عليه وحده)، وقيل: (إنّ هذا جواب لسؤال مُضمر في الكلام، كأنّه قيل: مَن يُعطيهم ذلك الفوز العظيم؟ فقيل: الذي له ملك السماوات والأرض).

فهو يقدر على المعدومات بأن يوجدها، وعلى الموجودات بأن يعدمها (1) ؛ وبناءً على ذلك، فإنّ مطلق الموارد والطاقات والسلع الحرّة والاقتصاديّة تدخل في طبيعة هذا المِلك.

وأهمّ ثمرة تكمن وراء تقرير هذه الحقيقة انتفاء الملكيّة الحقيقيّة الأصليّة للإنسان، فالإنسان، مِن حيث كونه غير موجِد وغير مُدبّر لديمومة الموارد والطاقات، لا يصحّ اعتباره مالكاً؛ لأنّه ليس سبباً للإيجاد والتدبير، إلاّ أنّ الله تعالى أوكَل للإنسان حقّاً في استثمار الموارد المُتاحة في الكون وإعمار الأرض، والانتفاع بتلك الموارد وفق نيابة مشروطة، واختباراً له في طريقة التعامل مع هذه النيابة، كما حدّدتها الشريعة، ويدلّ على هذا القانون قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة: 30].

وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ مَكّنّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ) [الأعراف: 10]. قال الطبرسي: (التمكين من التصرّف فيها، والمعايش: أنواع الرزق ووجوه النِعم، وقيل: المكاسب والإقدار عليها بالعلم والقدرة والآلات. ومع كلّ هذه النِعم قلّ شكرُكم) (2) ؛ أي بعدم التزامكم بضوابط الاستخلاف...

وأخيراً، فإنّ القانون الثالث للاستخلاف هو أنّ الله القادر جعل هذه الموارد قابلة لتقديم المعطيات للإنسان، وأنّها وضعت مهيّأة للانتفاع بها إذا ما مارس الإنسان عليها جُهداً، فهي ليست عصيّة على مَن استخلفه الله، يدلّ

____________________

(1) اُنظر: الطبرسي، (م. س.) 3/270.

(2) الطبرسي، (م. ن): 4: 400.

٢٩

على ذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) [لقمان: 20].

قال الطبرسي: ( مَا فِي السَّمَوَاتِ ) : أي الشمس والقمر والنجوم، الفضاء كلّه مُسخّر للإنسان، وما في الأرض من الحيوان والنبات وغير ذلك، ممّا تنتفعون به وتتصرّفون فيه بحسب ما تريدون.

( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) ، يقصد بالظاهرة: ما يُمكّنكم جهدكم من خلْقِه وإحيائه سلعاً نافعاً، خلَق القدرة فيكم على العمل، وخلَق الشهوة فيكم؛ أي خلق الرغبة في العمل.

أمّا الباطنة: فالتي لا يعرفها إلاّ مَن أمعن النظر فيها (1) ؛ أي الموارد المكتشفة باستخدام العلم والمعرفة، والتي تبقى محجوبة عن الإنتاج ما لم يتحرَّها الإنسان بسلطان القدرة العلميّة والعمليّة.

6 - النتائج ذات العلاقة بالتنمية

أ - يترتّب على القانون الأوّل: نفي الملكيّة الحقيقيّة عن الإنسان، إنّما جُلّ الأمر تمكينه بوساطة الحُكم الشرعي للحيازة والانتفاع بالموارد لفرد أو مجموعة، أو للأمّة على اختلاف في الشكل واتّحاد في المُحتوى.

ب - الحيازة بموجب تلكم مفتوحة، فلا تمييز لطبقة النُبلاء؛ لأنّ الوسائل الشرعيّة للحيازة عامّة للجميع، وأهمّ الوسائل ضرورة العَمل، واعتباره الشرعي سبباً للمعاوضة المُنتجة للملكيّة.

وبهذا تشكّل الملكيّة، في منطق هذه القوانين، (حكماً شرعيّاً قدّر وجوده في عينٍ أو منفعة، يقتضي - ذلك الحُكم - تمكين مَن أُضيف إليه انتفاعه بالعين أو المنفعة أو الاعتياض عنها، ما لم يوجد مانع من ذلك) (2) .

جـ - لمّا كان الحُكم الشرعيّ سبباً للملكيّة (حيازةً أو انتفاعاً) دائميّاً، فإنّ انتهاك السبب يعني فساد النتيجة المُترتّبة عليه.

____________________

(1) الطبرسي، (م. ن): 8/320.

(2) القرافي (شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن)، الفروق، دار إحياء الكتب العربيّة: 3/308.

٣٠

د - العلاقة بين الإنسان (المُستخلف) وبين الموارد، ليست علاقة صراع أساسه الندرة، بل علاقة تكامليّة بين الموارد الكافية والمُسخّرة، والتكليف الإلهيّ للإنسان بالعمل وعمارة الأرض.

أي أنّ كلّ جزء من مخلوقات الله يؤدّي دوراً في عمليّة الإعمار، وكلّ هذه الأدوار يكمّل بعضها بعضاً، متّجهة نحو هدف واحد هو إعمار الأرض، وتحسين مستوى الحياة لأغراض تسيير عبادة الله تعالى.

هـ - لمّا كان الإنسان في اعتبار التصوّر الشامل في الإسلام للتنمية هو المستفيد الوحيد من التسخير والاستخلاف، فإنّه يتوجّب عليه ولوج الحياة بكلّ فاعليّة وإيجابيّة، فتعطيل الموارد بعدم الاستخدام أو سوء الاستخدام يُسبّب مناط الحكم أو علّته بسحب الحقّ (1) ، ولأشكال الاستخلاف علاقة خاصّة بالتنمية تشكّل لها حافزاً إيجابيّاً مؤثّراً (2) .

فالأُصول المذهبيّة للاقتصاد الإسلاميّ، إذن، ثلاثة:

1 - الملكيّة: ملكيّة الموارد المادّية والبشريّة، الطبيعة والإنسان، هي لله عزّ وجلّ.

2 - الاستخلاف: هو إنابة المالك لعباده من البشر حيازة تلك الموارد والاختصاص بها.

3 - التسخير: من حيث إنّ الموارد الطبيعيّة، بعوالمها الثلاثة: النباتيّ والحيوانيّ والمعدنيّ، المكتشفة حاليّاً والتي لم تُكتشف بعد، مُسخّرة لهؤلاء البشر.

وتتجسّد وحدة القوانين المركزيّة الثلاثة هذه في مهمّة عمارة الأرض؛ باعتبارها التكليف الشرعيّ للإنسان، الغاية منه إنتاج المستلزمات المادّية الضروريّة له لتأديته مهمّة عبادة الخالق تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56].

____________________

(1) اُنظر: السبهاني (عبد الجبّار عبيد)، الاستخلاف والتركيب الاجتماعي في الإسلام، رسالة ماجستير مقدّمة إلى كلّية الإدارة والاقتصاد، رونيو 88، جامعة بغداد، 1985م.

محمود محمّد بابللي، السوق الإسلاميّة المشتركة، ص: 40.

د. الحسب (فاضل)، في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ، دار المعرفة، ص: 39.

(2) المياحي (عبد الأمير كاظم)، (م. س)، ص: 101.

٣١

ثالثاً: العمل الإنسانيّ وأقسام الحُكم التكليفي

العمل: هو الجُهد البشريّ المنظّم بمجموعة من الوسائل، بمستوى معيّن من التقنيّة والتكنولوجيا، المُستهدف تحويل الموارد المُتاحة (السلع الحرّة) إلى سلع اقتصاديّة، بأن يضيف إليها قيمة أي كمّية عمل معيّنة.

ونسْب العمل إلى الإنسان؛ باعتباره ينتج من عمليّات عقليّة مستعيناً بالتقنيّة، ولكونه جهداً هادفاً إلى غاية اقتصادية.

ما حكم العمل في الشريعة الإسلاميّة؟ وهل يمكن الاستدلال بالقرآن الكريم، وبخاصّةٍ الآيات الدالّة على العمل، إشارةً إلى العمل الدنيويّ، أو نتوقّف فيه على ما توقّف عليه أغلب المفسّرين مِن أنّ المُراد القرآني، وفقاً للظهور، وهو حجّة عند الأصوليّين على العمل العبادي بالمعنى الأخص بمصاديق ظاهرة، كإقامة الصلاة والصوم والحجّ... إلخ؟ أو نقطع بالقول: إنّه كلّ جهد اقترن بالباعث الذي يتّجه نحو تحصيل مرضاة الله تعالى؟ أي لا يعدّ العمل جهداً شرعيّاً يدخل ضمن موضوع الحُكم التكليفي، إلاّ إذا اقترن بالنيّة.

قبل الإجابة عن هذه التساؤلات، لا بدّ من التفريق بين مقولة العمل في الفكر الوضعيّ وبين مقولته في الفكر الإسلامـيّ.

فهو في الوضعيّ: (الجُهد البدني أو العقليّ الذي ينزل في مجالات النشاط الاقتصاديّ لغرض الكسب) (1) .

أمّا في الفكر الإسلامي: فهناك - إضافة لما تقدّم - قيد يلحق هذا المفهوم، وهو الجهد المبرّر شرعاً، أي المُنسجم مع أحكام الشريعة.

يرى ابن كثير أنّ الحلال مِن الكسب هو عون على العمل الصالح (2) ، بما يشير إلى أنّ الشريعة ترى العمل مقدّمة للكسب الحلال (3) .

____________________

(1) السعيد (صادق مهدي)، اقتصاد وتشريع العمل، بغداد، مطبعة المعارف، ط4، 1969م، ص: 10.

(2) ابن كثير (عماد الدين أبو الفداء إسماعيل)، تفسير القرآن، دار الأندلس - بيروت، ط1، 1385م: 5/22.

(3) على أنّنا هنا لا نحكم على المقدّمة حُكماً أُصوليّاً؛ لأنّ في مقدّمات الوجوب والواجب، خلافاً أُصوليّاً مُتشعّباً. لا يُريد الباحث استعراضه هُنا أو الحُكم باتّخاذ القاعدة طريقاً للاستنباط؛ لأنّ ما تطرّق إليه الخلاف لا يصحّ به الاحتجاج القطعيّ. اُنظر: عليان (رشدي)، العقل عند الشيعة، مطبعة دار السلام - بغداد، ط1، 1973 م، ص: 440.

٣٢

إنّ العمل الذي يعترف به القرآن هو العمل الصالح، وهو الجُهد الاقتصاديّ الذي يبذل في إنتاج السِلع والخدمات المسموح بها شرعاً، ولإشباع الحاجات المعتبرة والمُعترف بها مِن قِبَل الشرع كذلك (1) .

وقد أشارت السنّة إلى ذلك بعدد من الأحاديث نذكر منها:

قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ مِن الذنوب ما لا تكفّرها الصلاة ولا الصيام ولا الحجّ ولا العمرة)، قالوا: فما يكفّرها يا رسول الله؟ قال: (الهموم في طلب المعيشة).

وقوله: (مَن أمسى كالاًّ مِن عمل يده أمسى مغفوراً له) (2) .

إنّ هذا الحثّ - كما يراه الأُصوليّون - لا يخرج عن الإباحة أو الاستحباب، وكذلك لا يخرج الحثّ عليه في آيات سورة الجمعة (3) عن الإباحة والرُخصة والإذن، وهذا هو الأمر المستعمل فيه (4) .

والأمر منوط هنا بأنّ بعض المسلمين توهّم، في بدء الرسالة، بأنّ العمل أيّام الحجّ محظور، فأزال الله هذا الوهْم بالإباحة التي لا تتنافى مع الإخلاص في أعمال الحجّ، فإذا انتقلنا إلى تعريف الحُكم التكليفي: (الاعتبار الشرعيّ المتعلّق بأفعال العباد تعلّقاً مُباشر) (5) ، سيظهر أنّ لموضوع العمل نظريّتين هما: الكلّية والفرديّة. وقد أجمع جمهور الأُصوليّين من المسلمين - ما عدا أُصوليي الحنفيّة - على تقسيم الحُكم التكليفي إلى: الوجوب، الندب، الإباحة، الكراهية، الحُرمة.

فيُراد بالوجوب: الإلزام بالفعل، مع عدم الترخيص بالترك إلاّ لضرورة مُعتبرة شرعاً، وينطبق على هذا ما كانت الأُمّة بحاجة إليه حاجّة ماسّة.

ويراد بالندب: ما دعا الشارع إلى فعله، ولم يُلزم به، فهو المستحب مِن الأعمال، كالأعمال التي تتوقّف عليها حاجات الأُمّة التحسينيّة.

أمّا الإباحة: فإنّها تشمل الأعمال التي تكمل وتزيد نمط الحياة جمالاً وسعةً، والحاجات الكماليّة المبرّرة الخالية من الإسراف والتبذير.

ويدخل في الكراهة ما كان طريقاً إلى محرّم، أو كانت مفاسده أكثر من

____________________

(1) اُنظر: سيله (عبد الرحمان)، الأسعار في الفكر الاقتصاديّ، رسالة ماجستير، رونيو، ص: 58 و59.

(2) اُنظر: الهيثمي (نور الدين علي)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 4/64.

(3) اُنظر الآية 10 من السورة.

(4) اُنظر: الطوسي (أبو جعفر محمّد بن الحسن)، في تفسير التبيان، تحقيق أحمد حبيب القصير، الأعلمي - بيروت، مجلّد 10، ص: 9.

(5) اُنظر: مباحث الحُكم عند الأُصوليين: 1/55، الإحكام في أُصول الأحكام، للآمدي: 1/49.

٣٣

محاسنه مِن الجانب العملي.

  إنّ الذي عليه المسلمون يتمثّل في أنّ الأوامر والنواهي وليدتا المصالح والمفاسد، وحيث أنّ النهي عن الشيء لا يستلزم الأمر بحرمة تركه على الفرد من حيث هو فرد، ولمّا كانت الذمّة الفرديّة مشغولة بتحقّق النتائج، فإنّ الأسباب لا تعدّ من الأحكام التكليفيّة لإمكان اندراجها ضمن الحكم الوضعيّ، كالشرط والسبب. ولقد أنكر صاحب (الكفاية) كون الشرط أو السبب قابلاً للجعل الشرعيّ؛ لأنّه مجعولٌ بالتكوين، وهذا ما تُشير إليه فلسفة الاستخلاف.

إذ ربّما يكون العمل اختياريّاً بالنسبة للإنسان؛ ولذلك تبقى الترغيبات مُتوفّرة على تحسين الفاعليّة بخفض التكاليف، والإتقان، ويربط العمل بالنيّة؛ لقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (الساعي على الأرملة والمسكين كالمُجاهد في سبيل الله) (1) . فإنّ مفاصل السياسة الاقتصاديّة التي تتوفّر غالباً على مجال الإباحة قد ترفع العمل إلى مصاف الوجوب أو إلى الكراهة، ونادراً إلى الحرمة، إضافةً إلى العناوين الأوّليّة في حرمة العمل المُنتج لسلعة مُحرّمة (2) .

وهذه هي النقلة الثانية لمُناقشة مقولة العمل على مستوى الاقتصاد الكلّي ( Macro )، ذلك أنّ العمل البشريّ هو التكليف الشرعيّ للإنسان بوصفه المقدّمة العقليّة لتحصيل أسباب ديمومة العيش، فلا يدخل من حيث كونه مفردة منحلة إلى الفرد ضمن الحكم التكليفي، كإقامة الصلاة باعتبارها ليست مقدّمة؛ إذ هي نتيجة العمل وترتّب نتائجه.

إنّ الذي حدّدته الشريعة هو: أنّ العمل الذي يرضى عنه الباري: هو الجُهد الذي يسهم في تحصيل المَنفعة الشاملة للمُستخلف، باتّجاه عمارة الحياة والكون، بوصف هذا التكليف عمليّة شرعيّة كلّية أمَر بها القرآن في غير موضع.

____________________

(1) اُنظر الترمذي، صحيح الترمذي، ط1، 1934م، ص: 146.

(2) مكاسب الشيخ الأنصاري، 1/15.

٣٤

٣٥

المصادر

- القرآن الكريم.

1 - الأنصاري (مرتضى)، المكاسب، منشورات جامعة النجف الدينيّة - النجف.

2 - بانللي (محمود محمّد)، السوق الإسلاميّة المُشتركة، دار الكتاب اللبناني - بيروت، ط1، 1975م.

3 - البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مطبعة مصطفى محمّد - مصر، جـ 1، ب. ن.

4 - الجصّاص، أحكام القرآن، دار الكتاب العربي - بيروت.

5 - الحسب (فاضل عبّاس)، في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ، عالم المعرفة - بيروت، 1981م.

6 - روستو (والت)، مراحل النموّ الاقتصاديّ، ترجمة إبراهيم جناتي، القاهرة، ب. ن، 1977م.

7 - السبهاني (عبد الجبّار عبيد)، الاستخلاف والتركيب الاجتماعيّ في الإسلام، رسالة ماجستير، كلّية الإدارة والاقتصاد - جامعة بغداد، نيسان 1985م.

8 - صقر (محمّد أحمد)، الاقتصاد الإسلاميّ، مفاهيم ومرتكزات، القاهرة، ب. ن.

٣٦

9 - الطباطبائي (محمّد حسين)، الميزان في تفسير القرآن، الأعلمي - بيروت، 1973م.

10 - الطبرسي (أبو علي الفضل بن الحسن)، مجمع البيان، شركة المعارف الإسلاميّة، 1379هـ.

11 - عبد الله (إسماعيل صبري)، مجمع البيان، شركة المعارف القاهرة.

12 - علي (أحمد بريهي)، بحوث التنمية الاقتصاديّة، مجلّة البحوث الاقتصاديّة والإداريّة - بغداد، مركز البحوث الاقتصاديّة والإدارية، العدد (1)، 1978م.

13 - العمادي (محمّد)، التنمية والتخطيط، دمشق، ط2، 1966م.

14 - غونار (ميردال)، العالم الفقير يتحدّى، ترجمة عصفور، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1975م.

15 - القرافي (أحمد بن إدرسي)، الفروق، دار إحياء الكُتب العربيّة.

16 - كبيسي (أحمد عوّاد)، الحاجات في مذهب الاقتصاد الإسلاميّ، مطبعة العاني - بغداد، 1987م.

17 - الكواري (علي)، نحو فهم أفضل للتنمية، مركز دراسات الوحدة العربيّة - بيروت.

18 - محيي الدين (عمرو)، التخلّف والتنمية، دار النهضة العربيّة - بيروت، 1975م.

19 - مرسي (فؤاد)، التخلّف والتنمية، دار الوحدة للطباعة - ط1، مصر، 1982م.

20 - المياحي (عبد الأمير كاظم)، التنمية في الاقتصاد الإسلاميّ، رسالة ماجستير، كلّية الشريعة، جامعة بغـداد، 1987م.

21 - النجّار (عبد الهادي)، الإسلام والاقتصاد، سلسلة عالم المعرفة - الكويت، 1980م.

22 - النجفي (سالم)، التنمية الاقتصاديّة الزراعيّة، جامعة الموصل.

٣٧

البحث الثاني

الحاجة الاقتصاديّة

في المذهب الاقتصاديّ الإسلاميّ

٣٨

٣٩

مقدّمة

يُمكن مُعالجة مقولة الحاجة في المذهب الإسلامي الاقتصادي، مِن جانب كونها مقولة إنتاجيّة، ومِن خلال تبيّن أثرها في تكييف الفَهم الإسلامي للمشكلة الاقتصاديّة. ويظهره ارتباط جانب العرض في الحاجة نفسها مع جانب الطَلب عند مُعالجتها من حيث هي مقولة توزيعيّة، مِن خلال النَمط الإسلامي في توزيع الثروة والدَخَل. وبطبيعة الحال ينحلّ التبادل إلى ما يخدم جانب العرض في الحاجة نفسها، من حيث هو تسهيل لعنصري القيمة الاستعمالي والتبادلي في السلعة أو إنضاج لهما، فهو يخدم جزءاً مِن التبادل من جانب الطَلب على السِلع التي تشبع تلك الحاجات القائمة فعلاً، أو قوّةً (الحاجة الكامنة).

لذلك يكوّن التبادل الرابطة بين حَجم الحاجات وأنواعها مِن جهة كونها مقولة إنتاجيّة، وبين دورها وأثرها في نمط استهلاك إسلاميّ، من حيث هي مقولة توزيعيّة.

1 - الحاجة في الفِكر الاقتصادي الحديث والمعاصر

تُعدّ الحاجة بما تحمل مِن خصائص الرُكن الثاني الذي يكوّن المشكلة الاقتصاديّة مع ما يُسمّى بنُدْرة الموارد، فالمشكلة التي صلحت دافعاً لتكوين علم الاقتصاد وتطوّره، تقوم على أساس أنّ الموارد المُتاحة لا تكفي لهذا التعدّد غير القابل للحصر من جهة، وعدم كفاية الموارد الطبيعيّة المُتاحة لسدّ هذا التعدّد من جهة أُخرى، فلا بدّ - إذن - مِن استخدام العَقل البشريّ بوصفه المُنظّم والمُرشد للحاجات بما يتلاءم مع المُتاح مِن العرض، مورداً كان أمْ سلعاً مُنتجة.

ويرى أغلب الاقتصاديّين أنّ للحاجة خصائص أهمّها:

٤٠