كتاب الغيبة

كتاب الغيبة18%

كتاب الغيبة مؤلف:
تصنيف: الإمام المهدي عجّل الله فرجه الشريف
الصفحات: 316

كتاب الغيبة
  • البداية
  • السابق
  • 316 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51752 / تحميل: 6622
الحجم الحجم الحجم
كتاب الغيبة

كتاب الغيبة

مؤلف:
العربية

كتاب الغيبة

تأليف:

الشيخ الاجل ابن ابي زينب محمد بن ابراهيم النعماني

من اعلام القرن الرابع

تحقيق:

علي اكبر الغفاري

١

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا الشيخ ابوالفرج محمد بن على بن يعقوب بن أبى قرة القناني(١) -رحمه‌الله - قال: حدثنا أبوالحسين محمد بن على البجلي الكاتب - واللفظ من أصله ; وكتبت هذه النسخة وهو ينظر في أصله - قال: حدثنا أبوعبدالله محمد بن إبراهيم النعمانى بحلب(٢) : الحمد لله رب العالمين، الهادي من يشاء إلى صراط مستقيم، المستحق الشكر من عباده بإخراجه إياهم من العدم إلى الوجود، وتصويره إياهم في أحسن الصور، و إسباغه عليهم النعم ظاهرة وباطنة لا يحصيها العدد على طول الامد كما قال عزوجل: " إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها "(٣) ، وبمادلهم عليه وأرشدهم إليه من العلم بربوبيته والاقرار بوحدانيته بالعقول الزكية(٤) والحكمة البالغة، والصنعة المتقنة، والفطرة

____________________

(١)القنانى - بفتح القاف ونونين بينهما ألف - نسة إلى قنان بن سلمة بن وهب بن عبدالله بن ربيعة بن الحارث بن كعب من مذحج كما في اللباب لابن الاثير.

والرجل عنونه النجاشى وقال محمد بن على بن يعقوب بن اسحاق بن أبى قرة أبوالفرج القنانى الكاتب، كان ثقة، وسمع كثيرا وكتب كثيرا، وكان يورق لاصحابنا - إلى آخر ما قال -.

(٢)وفى نسخة: " حدثنى محمد بن على أبوالحسين الشجاعى الكاتب - حفظه الله - قال: حدثنى محمد بن ابراهيم ابوعبدالله النعمانىرحمه‌الله تعالى في ذى الحجة سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة قال: ".

وفى بعض النسخ مكان " أبوالحسين " " ابوالحسن " ولعله هو الصواب.

(٣)ابراهيم: ٣٤.

(٤)في بعض النسخ " المرضية ".

(*)

٢

الصحيحة، والصبغة الحسنة، والآيات الباهرة، والبراهين الظاهرة، وشفعه ذلك ببعثه إليهم الخيرة من خلقه رسلا مصطفين، مبشرين ومنذرين، دالين هادين، مذكرين ومحذرين، ومبلغين مؤدين، بالعلم ناطقين، وبروح القدس مؤيدين، وبالحجج غالبين، وبالايات لاهل الباطل قاهرين، وبالمعجزات لعقول ذوي - الالباب باهرين، أبانهم من خلقه بما أولاهم من كرامته، وأطلعهم على غيبه، ومكنهم فيه من قدرته، كما قال عزوجل: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول [فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا] "(١) ترفعا لاقدارهم، وتعظيما لشأنهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ولتكون حجة الله عليهم تامة غير ناقصة.

والحمد لله الذي من علينا بمحمد سابق بريته إلى الاقرار بربوبيته، وخاتم أصفيائه إنذارا برسالته، وأحب أحبائه إليه، وأكرم أنبيائه عليه، وأعلاهم رتبة لديه، وأخصهم منزلة منه، أعطاه جميع ما أعطاهم، وزاده أضعافا على ما آتاهم، وأحله المنزلة التى أظهر بها فضله عليهم، فصيره إمامالهم إذ صلى في سمائه بجماعتهم وشرف مقامه على كافتهم، وأعطاه الشفاعة دونهم، ورفعه مستسيرا إلى علو ملكوته(٢) حتى كلمه في محل جبروته بحيث جاز مراتب الملائكة المقربين، ومقامات الكروبيين والحافين.

وأنزل عليه كتابا جعله مهيمنا على كتبه المتقدمة، ومشتملا على ما حوته من العلوم الجمة وفاضلا عليها بأن جعله كما قال تعالى " تبيانا لكل شئ(٣) " لم يفرط فيه من شئ، فهدانا الله عزوجل بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله من الضلالة والعمى، وأنقذنا به من الجهالة والردى، وأغنانا به وبما جاء به من الكتاب المبين - وما أكمله لنا من

____________________

(١)الجن: ٢٦.

(٢)في بعض النسخ " ورفعه مستزيدا إلى علو مملكته ".

(٣)النحل: ٨٩.

(*)

٣

الدين، ودلنا عليه من ولاية الائمة الطاهرين الهادين - عن الآراء والاجتهاد، و وفقنا به وبهم إلى سبيل الرشاد(١) .

صلى الله عليه وعلى أخيه أمير المؤمنين تاليه في الفضل ومؤازره في اللاواء والازل(٢) وسيف الله على أهل الكفر والجهل، ويده المبسوطة بالاحسان والعدل، والسالك نهجه في كل حال(٣) والزائل مع الحق حيثما زال، والخازن علمه(٤) ، والمستودع سره، الظاهر على مكنون أمره، وعلى الائمة من آله الطاهرين الاخيار الطيبين الابرار.

معادن الرحمة، ومحل النعمة، وبدور الظلام، ونور الانام، وبحور العلم وباب السلام الذى ندب الله عزوجل خلقه إلى دخوله، وحذرهم النكوب عن سبيله حيث قال: " يا أيهاالذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين " أفضل صلواته وأشرفها، وأذكاها وأنماها، وأتمها وأعلاها وأسناها، وسلم تسليما كثيرا كما هو أهله وكما محمد وآلهعليه‌السلام أهله منه.

أما بعد: فإنا رأينا طوائف من العصابة المنسوبة إلى التشيع المنتمية(٥) إلى نبيهامحمد وآله صلى الله عليهم - ممن يقول بالامامة التي جعلها الله برحمته دين الحق ولسان الصدق وزينا لمن دخل فيها(٦) ونجاة وجمالا لمن كان من أهلها وفاز بذمتهاو تمسك بعقدتهاو وفى لها بشروطها من المواظبة على الصلوات وإيتاء الزكوات والمسابقة

____________________

(١)الضمير المفرد راجع إلى الكتاب أو النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والضمير الجمع راجع إلى الائمةعليهم‌السلام .

(٢)اللاواء: الشدة والمحنة.

والازل - بالزاى الساكنة - الضيق والشدة.

(٣)في بعض النسخ " على كل حال ".

(٤)في بعض النسخ " والحاوى علمه ".

(٥)الانتماء: الانتساب.أى المنتسبة إلى النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٦)في بعض النسخ " زينة لمن دخل فيها ".

(*)

٤

إلى الخيرات، واجتناب الفواحش والمنكرات، والتنزه عن سائر المحظورات، ومراقبة الله تقدس ذكره في الملا والخلوات، وتشغل القلوب وإتعاب الانفس والابدان في حيازة القربات - قد تفرقت كلمها(١) ، وتشعبت مذاهبها، واستهانت بفرائض الله عز وجل، وحنت(٢) إلى محارم الله تعالى، فطار بعضها علوا، وانخفض بعضها تقصيرا، وشكوا جميعا إلا القليل في إمام زمانهم وولى أمرهم وحجة ربهم التي اختارها بعلمه كما قال عزوجل: " [وربك] يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة(٣) " من أمرهم، للمحنة الواقعة بهذه الغيبة التي سبق من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكرها، وتقدم من أمير المؤمنينعليه‌السلام خبرها، ونطق في المأثور من خطبه والمروي عنه من كلامه وحديثه بالتحذير من فتنتها، وحمل أهل العلم والرواية عن الائمة من ولدهعليهم‌السلام واحدا بعد واحد أخبارها حتى ما منهم أحد إلا وقد قدم القول فيها، وحقق كونها ووصف امتحان الله - تبارك وتعالى اسمه - خلقه بها بما أوجبته قبائح الافعال ومساوي الاعمال، والشح المطاع، والعاجل الفاني المؤثر على الدائم الباقي، والشهوات المتبعة، والحقوق المضيعة التي اكتسبت سخط الله عز وتقدس، فلم يزل الشك والارتياب قادحين في قلوبهم - كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في كلامه لكميل ابن زياد في صفة طالبي العلم وحملته: " أو منقادا لاهل الحق لابصيرة له، ينقدح الشك في قلبه لاول عارض من شبهة "(٤) - حتى أداهم ذلك إلى التيه والحيرة والعمى والضلالة ولم يبق منهم إلا القليل النزر الذين ثبتوا على دين الله وتمسكوا بحبل الله ولم يحيدوا عن صراط الله المستقيم، وتحقق فيهم وصف الفرقة الثابتة على الحق التى لا تزعزعها الرياح ولا يضرها الفتن، ولا يغرها لمع السراب، ولم تدخل في دين الله بالرجال فتخرج منه بهم.

____________________

(١) " قد تفرقت " الجملة مفعول ثان لرأينا وما بينهما جملة معترضة.

(٢)كذا صححناه، وفى النسخ " وخفت " والمعنى استخفت محارم الله تعالى.

(٣)القصص: ٦٨.

(٤)في اللغة قدح الشئ في صدرى أى أثر.

(*)

٥

كما روينا عن أبي عبدالله جعفر بن محمدعليهما‌السلام أنه قال: " من دخل في هذا الدين بالرجال أخرجه منه الرجال كما أدخلوه فيه.ومن دخل فيه بالكتاب والسنة زالت الجبال قبل أن يزول ".

ولعمري ما اتى من تاه وتحير وافتتن وانتقل عن الحق وتعلق بمذاهب أهل الزخرف والباطل إلا من قلة الرواية والعلم وعدم الدراية والفهم فإنهم الاشقياء لم يهتموا لطلب العلم ولم يتعبوا أنفسهم وفى اقتنائه وروايته من معادنه الصافية على أنهم لوروواثم لم يدروا لكانوا بمنزلة من لم يرو، وقد قال جعفر بن محمد الصادقعليهما‌السلام : " اعرفوا منازل شيعتنا عندنا على قدر روايتهم عنا وفهمهم منا " فإن الرواية تحتاج إلى الدراية، و " خبر تدريه خير من ألف خبر ترويه ".

وأكثر من دخل في هذه المذاهب إنما دخله على أحوال، فمنهم من دخله بغير روية ولاعلم، فلما اعترضه يسير الشبهة تاه.

ومنهم من أراده طلبا للدنيا وحطامها(١) فلما أماله الغواة والدنياويون إليها مال مؤثرا لها على الدين، مغترا مع ذلك بزخرف القول غرورا من الشياطين الذين وصفهم الله عزوجل في كتابه فقال: " شياطين الانس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا "(٢) .

والمغتر به فهو كصاحب السراب(٣) الذي يحسبه الظمآن ماء، يلمعه عند ظمائه لمعة ماء، فإذا جاء لم يجده شيئا كما قال الله عزوجل(٤) .

ومنهم من تحلى بهذا الامر للرياء والتحسن بظاهره، وطلبا للرئاسة، و شهوة لها وشغفا بها(٥) من غير اعتقاد للحق ولا إخلاص فيه، فسلب الله جماله وغير

____________________

(١)حطام الدنيا: ما فيها من مال، كثير أو قليل.

(٢)الانعام: ١١٢.

(٣)كذا، ولعل الصواب " كطالب السراب ".

(٤)يعنى به قوله تعالى في سورة النور آية ٣٩.

(٥)شعف به وشغف - بالمعجمة - اى أولع به وأحبه مفرطا.

(*)

٦

حاله، وأعد له نكاله.

ومنهم من دان به على ضعف من إيمانه، ووهن من نفسه بصحة ما نطق به منه فلما وقعت هذه المحنة التي آذننا أولياء الله صلى الله عليهم بها مذ ثلاثمائة سنة تحير ووقف كما قال الله عزوجل من قائل: " كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاء‌ت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لايبصرون "(١) ، وكما قال: " كلما أضاء لهم مشوافيه وإذا أظلم عليهم قاموا "(٢) .

ووجدنا الرواية قدأتت عن الصادقينعليهم‌السلام بما أمروا به من وهب الله عزوجل له حظا من العلم وأوصله منه إلى ما لم يوصل إليه غيره من تبيين ما اشتبه على إخوانهم في الدين، وإرشادهم في الحيرة إلى سواء السبيل، وإخراجهم عن منزلة الشك إلى نور اليقين.

فقصدت القربة إلى الله عزوجل بذكر ما جاء عن الائمة الصادقين الطاهرينعليهم‌السلام من لدن أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى آخر من روي عنه منهم في هذه الغيبة التي عمى عن حقيتها(٣) ونورها من أبعده الله عن العلم بها والهداية إلى ما اوتي عنهمعليهم‌السلام فيها ما يصحح(٤) لاهل الحق حقيقة ما رووه ودانوابه، وتؤكد حجتهم بوقوعها ويصدق ما آذنوا به منها.

وإذا تأمل من وهب الله تعالى له حسن الصورة وفتح مسامع قلبه، ومنحه جودة القريحة(٥) وأتحفه بالفهم وصحة الرواية بما جاء عن الهداة الطاهرين صلوات الله

____________________

(١)و(٢) البقرة: ١٧ و ٢٠.

(٣)في بعض النسخ " عن حقيقتها ".

(٤)أى قصدت بذكر ما جاء عنهمعليهم‌السلام - لازالة الشبهات - ما يصحح لاهل الحق ما رووه ودانوابه، ولتؤكد بذلك حجتهم.

(٥)منحه - كمنعه - أى اعطاه، والقريحة الطبيعة، وقريحة الشاعر أو الكاتب: ملكة يقتدربها على نظم الشعر او الكتابة، والجودة: الصلاح والحسن.

(*)

٧

عليهم على قديم الايام وحديثها من الروايات المتصلة فيها، الموجبة لحدوثها، المقتضية لكونها مما قد أوردناه في هذا الكتاب حديثا حديثا، وروي فيه، وفكر فكرا منعما(١) ولم يجعل قراء‌ته نظره فيه صفحا دون شافي التأمل ولم يطمح ببصره عن حديث منها يشبه ما تقدمه دون إمعان النظر فيه والتبيين له ولما يحوي من زيادة المعانى بلفظه من كلام الامامعليه‌السلام بحسب ما حمله واحد من الرواة عنه - علم(٢) أن هذه الغيبة لو لم تكن ولم تحدث مع ذلك ومع ما روي على مر الدهور فيها لكان مذهب الامامة باطلا لكن الله تبارك وتعالى صدق إنذار الائمةعليهم‌السلام بها، وصحح قولهم فيها في عصر بعد عصر، وألزم الشيعة التسليم والتصديق والتمسك بما هم عليه وقوى اليقين في قلوبهم بصحة ما نقلوه، وقد حذر أولياء الله صلوات الله عليهم شيعتهم من أن تميل بهم الاهواء أو تزيغ بهم [و] بقلوبهم الفتن واللاواء في أيامها، ووصفوا ما يشمل الله تعالى خلقه به من الابتلاء عند وقوعها بتراخى مدتها وطول الامد فيها " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة ".

فإنه روى عنهمعليهم‌السلام ما حدثنا به محمد بن همام قال: حدثنا حميد بن زياد الكوفى قال: حدثنا الحسن بن محمد بن سماعة قال: حدثنا أحمد بن الحسن الميثمي، عن رجل من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمدعليهما‌السلام أنه قال: سمعته يقول: " نزلت هذه الآية التى في سورة الحديد " ولا تكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون " في أهل زمان الغيبة، ثم قال عز وجل: " إن الله يحيى الارض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون "(٣) وقال: إنما الامد أمدالغيبة ".

فإنه أراد عزوجل يا امة محمد أو يا معشر الشيعة: لا تكونوا كالذين اوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد، فتأويل هذه الآية جاء في

____________________

(١)أى شافيا دقيقا بالغا.وفي بعض النسخ " ممعنا " من الامعان.

(٢)جواب قوله " واذا تأمل - الخ ".

(٣)السورة: ١٦ و ١٧.

(*)

٨

أهل زمان الغيبة وأيامها دون غيرهم من أهل الازمنة وإن الله تعالى نهى الشيعة عن الشك في حجة الله تعالى، أو أن يظنوا أن الله تعالى يخلى أرضه منها طرفة عين، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام في كلامه لكميل بن زياد: " بلى اللهم لا تخلوا الارض من حجة لله إما ظاهر معلوم أو خائف مغمور، لئلا تبطل حجج الله وبيناته " وحذرهم من أن يشكوا ويرتابوا، فيطول عليهم الامد فتقسو قلوبهم.

ثم قالعليه‌السلام (١) ألا تسمع قوله تعالى في الآية التالية لهذه الآية " اعلموا أن الله يحيى الارض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون " أي يحييها الله بعدل القائم عند ظهوره بعد موتها بجور أئمة الضلال، وتأويل كل آية منها مصدق للآخر وعلى أن قولهم صلوات الله عليهم لابد أن يصح في شذوذ من يشذ، وفتنة من يفتتن ونكوص من ينكص على عقبيه من الشيعة بالبلبلة والتمحيص(٢) والغربلة التى قد أوردنا ما ذكروهعليهم‌السلام منه بأسانيد في باب ما يلحق الشيعة من التمحيص والتفرق والفتنة، إلا أنا نذكر في هذا الموضع حديثا أو حديثين من جملة ما أوردنا في ذلك الباب لئلا ينكر منكر ما حدث من هذه الفرق العاملة بالاهواء، المؤثرة للدنيا.

وهو ما أخبرنا به أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة الكوفي - وهذا الرجل ممن لا يطعن عليه في الثقة ولا في العلم بالحديث والرجال الناقلين له(٣) - قال: حدثنا علي ابن الحسن التيملي(٤) من تيم الله قال: حدثنى أخواى أحمد ومحمد ابنا الحسن بن علي ابن فضال، عن أبيهما، عن ثعلبة بن ميمون، عن أبى كهمس، عن عمران بن ميثم، عن مالك بن ضمرة قال: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام لشيعته: " كونوا في الناس كالنحل

____________________

(١)يعنى أباعبداللهعليه‌السلام في الحديث السابق.

(٢)البلبلة - بالفتح -: شدة الهم والحزن، وأريد بها ههنا الاختبار والامتحان والابتلاء.والتمحيص الاختبار والابتلاء، ومحص الله العبد من الذنوب أى طهره.

(٣)ستأتى ترجمته في أول الباب الاول من الكتاب ص ٣٣.

(٤)يعنى به على بن الحسن بن على بن فضال.

وعلى بن الحسين كما في بعض النسخ تصحيف من النساخ.

(*)

٩

في الطير، ليس شئ من الطير إلا وهو يستضعفها، ولو يعلم ما في أجوافها لم يفعل بها كما يفعل.

خالطوا الناس بأبدانكم وزايلوهم بقلو بكم وأعمالكم، فان لكل امرئ ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب، أما إنكم لن تروا ما تحبون وما تأملون يا معشر الشيعة حتى يتفل بعضكم في وجوه بعض، وحتى يسمى بعضكم بعضا كذابين وحتى لا يبقى منكم على هذا الامر إلا كالكحل في العين والملح في الطعام وهو أقل الزاد(١) وسأضرب لكم في ذلك مثلا: وهو كمثل رجل كان له طعام قد ذراه(٢) وغربله ونقاه وجعله في بيت وأغلق عليه الباب ماشاء الله، ثم فتح الباب عنه فإذا السوس قد وقع فيه(٣) ثم أخرجه ونقاه وذراه، ثم جعله في البيت وأغلق عليه الباب ما شاء الله ثم فتح الباب عنه فاذا السوس قد وقع فيه [وأخرجه ونقاه وذراه ثم جعله في البيت وأغلق عليه الباب، ثم أخرجه بعد حين فوجده قد وقع فيه السوس]، ففعل به كما فعل مرارا حتى بقيت منه رزمة كرزمة الاندر(٤) [الذي] لا يضره السوس شيئا وكذلك أنتم تمحصكم الفتن حتى لا يبقى منكم إلا عصابة لا تضرها الفتن شيئا ".

وروى عن أبى عبداللهعليه‌السلام أنه قال: " والله لتمحصن والله لتطيرن يمينا وشمالا حتى لا يبقى منكم إلا كل امرئ أخذ الله ميثاقه، وكتب الايمان في قلبه وأيده بروح منه ".

وفي رواية اخرى عنهمعليه‌السلام " حتى لا يبقى منكم على هذا الامر إلا الاندر فالاندر ".

وهذه العصابة التى تبقى على هذا الامر وتثبت وتقيم على الحق هى التى امرت بالصبر في حال الغيبة، فمن ذلك ما أخبرنا به على بن احمد البندنيجي، عن

____________________

(١)في بعض النسخ " أو قال في الزاد " مكان " وهو أقل الزاد ".

(٢)ذرى الحنطة: نقاها في الريح.

(٣)السوس: دود يقع في الطعام والثياب والشجر فيفسده.

(٤)الاندر: كدس القمح، البيدر.

(*)

١٠

عبيد الله بن موسى العلوى العباسي(١) ، عن هارون بن مسلم، عن القاسم بن عروة، عن بريد بن معاوية العجلى، عن أبي جعفر محمد بن على الباقرعليهما‌السلام في معنى قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنو اصبروا وصابروا ورابطو"(٢) قال: " اصبروا على أداء الفرائض، وصابروا عدوكم، ورابطوا إمامكم المنتظر ".

وهذه العصابة القليلة هي التي قال أمير المؤمنينعليه‌السلام لها: لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلتها فيما أخبرنا أبوالعباس أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة الكوفي قال: حدثنا ابوعبدالله جعفر بن عبدالله المحمدى من كتابه في المحرم سنة ثمان وستين ومائتين قال: حدثنى يزيد بن إسحاق الارحبى - ويعرف بشعر - قال: حدثنا مخول، عن فرات بن أحنف، عن الاصبغ بن نباته قال: سمعت أمير المؤمنينعليه‌السلام على منبر الكوفة يقول: " أيها الناس أنا أنف الايمان، أنا أنف الهدى وعيناه أيها الناس لا تستو حشوا في طريق الهدى لقلة من يسلكه، إن الناس اجتمعوا على مائدة قليل شبعها، كثير جوعها، والله المستعان، وإنما يجمع الناس الرضا والغضب، أيها الناس إنما عقر ناقة صالح واحد فأصابهم الله بعذابه بالرضا لفعله، وآية ذلك قوله عزوجل " فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي

____________________

(١)عبيد الله بن موسى العلوى من الاعلام الشاسعة في هذا الكتاب، وفى كثير من المواضع " عبدالله " مكبرا وكأنه عبيدالله بن موسى الرويانى المعنون في تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٥٣ تحت عنوان " تمييز " وقال: يكنى ابا تراب روى عن عبدالعظيم بن عبدالله الحسنى، وروى عنه على بن أحمد بن نصر البندنيجى - اه‍.

ولا يبعد أن يكون عبدالله بن موسى الهاشمى المعنون في جامع الرواة بعنوان عبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن ابن على بن أبى طالبعليهما‌السلام حيث لقبه بالعلوى.وذكر الخطيب في تاريخ بغداد من مشايخ ابن عقدة عبدالله بن موسى الهاشمى.وابن عقدة وعلى بن أحمد البندنيجى في طبقة واحدة، غير أنه زاد في كثير من الموارد " العلوى العباسى " وكأن العباسى نسخة بدل عن العلوى فأورد هما الناسخ معا.

(٢)آل عمران: ٢٠٠.

(*)

١١

ونذر "(١) وقال: " فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولايخاف عقباها "(٢) ألا ومن سئل عن قاتلى فزعم أنه مؤمن فقد قتلنى، أيها الناس من سلك الطريق ورد الماء، ومن حاد عنه وقع في التية - ثم نزل - ".

ورواه لنا محمد بن همام ومحمد بن الحسن بن محمد بن جمهور جميعا، عن الحسن بن محمد بن جمهور، عن أحمد بن نوح، عن ابن عليم، عن رجل، عن فرات بن أحنف قال: أخبرنى من سمع أمير المؤمنينعليه‌السلام - وذكر مثله - " إلا أنه قال: " لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله ".

وفي قول أمير المؤمنينعليه‌السلام " من سلك الطريق ورد الماء ومن حاد عنه وقع في التيه " بيان شاف لمن تأمله ودليل على التمسك بنظام الائمة(٣) وتحذير من الوقوع في التيه بالعدول عنها والانقطاع عن سبيلها، ومن الشذوذ يمينا وشمالا والاصغاء إلى ما يزخرفه المفترون المفتونون في دينهم من القول الذي هو كالهباء المنثور، وكالسراب المضمحل كما قال الله عزوجل: " الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين(٤) ".

وكما روى عن النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال: " إياكم وجدال كل مفتون فإنه ملقن حجته إلى انقضاء مدته فاذا انقضت مدته ألهبته خطيئته وأحرقته "(٥) ; أخبرنا بذلك عبدالواحد بن عبدالله بن يونس قال: حدثنا محمد بن جعفر القرشى، قال: حدثني محمد بن الحسين بن أبى الخطاب، قال: حدثنا محمد بن سنان، عن أبى محمد الغفاري(٦) ، عن أبي عبدالله، عن آبائهعليه‌السلام قال: قال

____________________

(١)القمر: ٣٠ و ٣١.

(٢)الشمس: ١٤ إلى ١٦.

(٣)في بعض النسخ " بنظام الامامة ".

(٤)العنكبوت: ٢ و ٣.

(٥)ألهبه أى هيجه والهبها: أوقدها.وفى بعض النسخ " الهبته حجته وأحرقته ".وفى بعض الروايات " احرقته فتنته بالنار ".

(٦)هو عبدالله بن ابراهيم بن أبى عمير الغفارى وقد يقال له الانصارى المعنون في الرجال.

(*)

١٢

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - وذكر الحديث.

وقد جمعت في هذا الكتاب ما وفق الله جمعه من الاحاديث التى رواها الشيوخ عن أمير المؤمنين والائمة الصادقينعليهم‌السلام في الغيبة وغيرها مما سبيله أن ينضاف إلى ما روى فيها بحسب ما حضر في الوقت إذ لم يحضرني جميع ما رويته في ذلك لبعده عنى وأن حفظي لم يشمل عليه، والذى رواه الناس من ذلك أكثر وأعظم مما رويته ويصغر ويقل عنه ما عندي، وجعلته أبوابا صدرتها بذكر ما روى في صون سر آل محمدعليهم‌السلام عمن ليس من أهله، والتأدب بآداب أولياء الله في ستر ما أمروا بسترة عن أعداء الدين والنصاب المخالفين وساير الفرق من المبتدعين والشاكين والمعتزلة الدافعين لفضل أمير المؤمنين صلوات الله عليه وآله أجمعين المجيزين تقديم المأموم على الامام والناقص على التام خلافا على الله عزوجل حيث يقول: " أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون "(١) وإعجابا بآرائهم المضلة وقلوبهم العمية كما قال الله جل من قائل: " فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور(٢) "، وكما قال تبارك وتعالى: " قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا "(٣) الجاحدين فضل الائمة الطاهرين وإمامتهمعليه‌السلام المحلول في صدورهم لشقائهم ما قد تمكن فيها من العناد لهم بعد وجوب الحجة عليهم من الله بقوله عزوجل: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا "(٤) ; ومن رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله في عترته: إنهم الهداة وسفينة النجاة، وإنهم أحد الثقلين اللذين أعلمنا تخليفه إياهما علينا والتمسك بهما بقوله " إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتى حبل ممدود بينكم وبين الله، طرف بيدالله وطرف بأيديكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا "(٥) خذلانا من الله

____________________

(١)يونس: ٣٥.

(٢)الحج: ٤٦.

(٣)الكهف: ١٠٤.

(٤)آل عمران: ١٠٣.

(٥)الحديث متواتر، متفق عليه بين الفريقين.

(*)

١٣

شملهم به استخفافهم ذلك وبما كسبت أيديهم، وبإيثارهم العمى على الهدى كما قال عزوجل: " فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى "(١) وكما قال: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم "(٢) يريد على علم لعناده للحق(٣) واسترخائه إياه ورده له واستمرائه الباطل وحلوه في قلبه وقبوله له، و " الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون " وهم المعاندون لشيعة الحق ومحبى أهل الصدق، والمنكرون لما رواه الثقات من المؤمنين عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وعليهم، الرادون العائبون لهم بجهلهم وشقوتهم، القائلون بما رواه أعداؤهم، العاملون به، الجاعلون أئمتهم أهواء‌هم وعقولهم وآراء‌هم دون من اختاره الله بعلمه - حيث يقول: " ولقد اخترنا هم على علم على العالمين "(٤) - ونصبه واصطفاه وانتجبه وارتضاه، المؤثرون الملح الاجاج على العذب النمير الفرات(٥) ، فإن صون دين الله، وطى علم خيرة الله [سبحانه] عن أعدائهم المستهزئين به أولى ما قدم، وأمرهم بذلك أحق ما امتثل.

ثم ابتدأ نا بعد ذلك بذكر حبل الله الذى أمرنا بالاعتصام به وترك التفرق عنه بقوله: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا "(٦) وما روى في ذلك.

وأردفناه بذكر ما روى في الامامة وأنها من الله عزوجل وباختياره كما قال تبارك وتعالى: " وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة "(٧) من أمرهم، وأنها عهد من الله وأمانة يؤديها الامام إلى الذى بعده.

____________________

(١)فصلت: ١٧.

(٢)الجاثية ٢٣.

(٣)في بعض النسخ " معناه عند ما علم عناده للحق ".

(٤)الدخان: ٣٣.

(٥)النمير - بفتح النون -: الزاكى من الماء والحسب، والكثير.

(٦)آل عمران: ١٠٣.

(٧)القصص: ٦٨.قوله " من أمرهم " ليس من الاية.

(*)

١٤

ثم ما روى في أن الائمةعليه‌السلام اثنا عشر إماما وذكر ما يدل عليه من القرآن والتوراة [والانجيل] من ذلك.

بعد نقل ما روي من طريق العامة في ذكر الائمة الاثنى عشر.

ثم ما روى فيمن ادعى الامامة، ومن زعم أنه إمام وليس بإمام، وأن كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت.

[ثم الحديث المروى من طرق العامة](١) .

ثم ما روي فيمن شك في واحد من الائمة صلى الله عليهم، أو بات ليلة لا يعرف فيها إمامه، أو دان الله بغير إمام منه.

ثم ما روى في أن الله تعالى لا يخلى أرضه من حجة.

ثم ما روى في أنه لو لم يبق في الارض إلا اثنان لكان أحدهما الحجة.

ثم ما روى في غيبة الامامعليه‌السلام وذكر أمير المؤمنين والائمة صلوات الله عليهم أجمعين بعده لها وإنذارهم بها.

ثم ما روى فيما امر به الشيعة من الصبر والكف والانتظار في حال الغيبة.

ثم ما روى فيما يلحق الشيعة من التمحيص والتفرق والتشتت عند الغيبة حتى لا يبقى على حقيقة الامر إلا الاقل.

ثم ما روى في الشدة التى تكون قبل قيام القائمعليه‌السلام .

ثم ما روى في صفتهعليه‌السلام وسيرته.

ثم ما نزل من القرآن فيهعليه‌السلام .

ثم ما روى من العلامات التى تكون قبل ظهوره تدل على قيامه وقرب أمره.

ثم ما جاء من المنع في التوقيت والتسمية لصاحب الامرعليه‌السلام .

ثم ما جاء فيما يلقى القائم منذ قيامهعليه‌السلام فيبتلى من جاهلية الناس.

ثم ماجاء في ذكر جيش الغضب وهم أصحاب القائمعليه‌السلام وعدتهم.

____________________

(١)ليس هذا الكلام الذى بين القوسين في الاصل انما أضيف اليه بعد.

(*)

١٥

ثم ماجاء في ذكر السفياني وأن أمره من المحتوم الكائن قبل قيام القائمعليه‌السلام . ثم ماجاء في ذكر راية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه لا ينشرها بعد يوم الجمل - إلا القائمعليه‌السلام ، وصفتها. ثم ماجاء في ذكر أحوال الشيعة عند خروج القائمعليه‌السلام وقبله وبعده. ثم ماروي في أن القائمعليه‌السلام يستأنف دعاء جديدا، وأن الاسلام بدا - غريبا وسيعود غريبا كما بدا. ثم ماروي في مدة ملك القائمعليه‌السلام بعد ظهوره. ثم ماروي في ذكر إسماعيل بن أبي عبداللهعليه‌السلام وبطلان مايدعيه - المبطلون الذين هم عن السمع والعلم معزولون. ثم ماروي في أن من عرف إمامه لم يضره تقدم هذا الامر أم تأخر. ونحن نسأل الله بوجهه الكريم وشأنه العظيم أن يصلي على الصفوة المنتجبين من خلقه والخيرة من بريته، وحبله المتين وعروته الوثقى التى لا انفصام لها محمد وآله الطاهرين، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يجعل محيانا ومماتنا وبعثنا على ما أنعم به علينا من دين الحق وموالاة أهله الذين خصهم بكرامته، وجعلهم السفراء بينه وبين خلقه، والحجة على بريته، وأن يوفقنا للتسليم لهم والعمل بما أمروا به، والانتهاء عما نهوا عنه، ولا يجعلنا من الشاكين في شئ من قولهم، ولا المرتابين بصدقهم، وأن يجعلنا من أنصار دينه مع وليه، والصادقين في جهاد عدوه حتى يجعلنا بذلك معهم، ويكرمنا بمجاورتهم في جنات النعيم، ولا يفرق بيننا وبينهم طرفة عين أبدا، ولا أقل من ذلك ولا أكثر إنه جواد كريم.

باب - ١: ماروى في صون سر آل محمدعليهم‌السلام عمن ليس من أهله

*(والنهى عن اذاعته لهم واطلاعهم) *

١ - أخبرنا أبوالعباس أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة الكوفى(١) قال:

____________________

(١)أبوالعباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عبدالرحمن، يعرف بابن عقدة، قال النجاشى: هذا رجل جليل من أصحاب الحديث مشهور بالحفظ، والحكايات تختلف عنه في الحفظ وعظمه وكان كوفيا زيديا جاروديا على ذلك حتى مات، وذكره أصحابنا لا ختلاطه بهم ومداخلته اياهم وعظم محله وثقته وأمانته. وقال الخطيب في ج ٥ ص ١٤ من تاريخه المعروف بتاريخ بغداد: كان أحمد حافظا عالما مكثرا، جمع التراجم والابواب والمشيخة، وأكثر الرواية، وانتشر حديثه، وروى عنه الحفاظ والاكابر - إلى أن قال - " وعقدة: والد أبى العباس، وانما لقب بذلك لعلمه بالتصريف والنحو، وكان يورق بالكوفة ويعلم القرآن والادب - ثم نقل بواسطتين عن أبى على النقار أنه قال -: سقطت من عقدة دنانير على باب دار أبى ذر الخزاز، فجاء بنخال ليطلبها، قال عقدة: فوجدتها ثم فكرت فقلت: ليس في الدنيا غير دنانيرك؟ فقلت للنخال: هى في ذمتك ومضيت وتركته. وكان يؤدب لابن هشام الخزاز فلما حذق الصبى وتعلم، وجه اليه ابن هشام دنانير صالحة، فردها فظن ابن هشام أن عقدة استقلها فأضعفها له، فقال عقدة: مارددتها استقلالا ولكن سألنى الصبى أن أعلمه القرآن فاختلط تعليم النحو بتعليم القرآن فلا أستحل أن آخذ منه شيئا ولو دفع إلى الدنيا. وكان عقدة زيديا وكان ورعا ناسكا، وانما سمى عقدة لاجل تعقيده في التصريف، وكان وراقا جيد الخط، وكان ابنه أبوالعباس أحفظ من كان في عصرنا للحديث - ثم ذكر شطرا مما يدل على كثرة حديثه وحفظه ومكتبته حتى قال: " قال الصورى: وقال لى أبوسعيد المالينى: أراد أبوالعباس أن ينتقل من الموضع الذى كان فيه إلى موضع آخر، فاستأجر من يحمل كتبه وشارط الحمالين أن يدفع لكل واحد منهم دانقا لكل كرة، فوزن لهم اجورهم مائة درهم وكانت كتبه ستمائة حمل.وبالجملة ولد ابن عقدة سنة ٢٤٩ ومات ٣٣٢.راجع تاريخ الخطيب ج ٥ ص ٢٢ و ٢٣.

(*)

١٦

حدثنا القاسم بن محمد بن الحسن بن حازم، قال حدثنا عبيس بن هشام الناشرى، قال: حدثنا عبدالله بن جبلة، عن سلام بن أبي عمرة، عن معروف بن خر بوذ، عن أبى الطفيل عامر بن وائلة(١) قال: قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : " أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ حدثوا الناس بما يعرفون، وأمسكوا عما ينكرون ".

٢ - وحدثنى أبوالقاسم الحسين بن محمد الباوري(٢) قال: حدثنا يوسف بن يعقوب المقرئ [السقطي] بواسط(٣) ، قال: حدثنى خلف البزار، عن يزيد بن هارون(٤) ، عن حميد الطويل قال: سمعت أنس بن مالك، قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: " لا تحدثوا الناس بما لا يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ".

٣ - وحدثنا أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة، قال: حدثنا أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفى أبوالحسن، قال: حدثنا إسماعيل بن مهران، قال: حدثنا الحسن ابن على بن أبي حمزة، عن عبدالاعلى بن أعين، قال: قال لى أبوعبدالله جعفر بن محمدعليهما‌السلام : " يا عبدالاعلى إن احتمال أمرنا ليس معرفته وقبوله، إن احتمال أمرنا

____________________

(١)عامر بن واثلة أبوالطفيل الكنانى الليثى صحابى قال ابن عدى: له صحبة وقد روى عن النبىصلى‌الله‌عليه‌وآله قريبا من عشرين حديثا، وليس في رواياته بأس، وقال صالح بن أحمد عن أبيه: أبوالطفيل مكى ثقة.

(٢)كذا وفى بعض النسخ " البارزى - بتقديم المهملة على المعجمة - " وفى بعضها " البازى " وفى نسخة " الباردى".

(٣)يوسف بن يعقوب المقرى الواسطى عنونه الخطيب في التاريخ ج ١٤ ص ٣١٩ ونقل عن ابن قانع أنه مات بواسط في سنة ٣١٤.

(٤)يزيد بن هارون يكنى أبا خالد السلمى الواسطى وهو أحد أعلام الحفاظ المشاهير، وثقه غير واحد من الرجاليين من العامة كابن معين وأبى حاتم وأبى زرعة و أضرابهم.

روى عن حميد بن أبى حميد الطويل الذى وثقة العجلى وابن خراش وابن - معين وأبوحاتم، وروى عنه خلف بن هشام البزار الذى قال الدار قطنى: كان عابدا فاضلا، ووثقه النسائى كما في التهذيب لابن حجر.

(*)

١٧

هو صونه وستره عمن ليس من أهله، فأقرئهم السلام ورحمة الله - يعني الشيعة - وقل: قال لكم: رحم الله عبدا استجر مودة الناس إلى نفسه وإلينا بأن يظهر لهم ما يعرفون ويكف عنهم ما ينكرون.

[ثم قال: ما الناصب لنا حربا بأشد مؤونة من الناطق علينا بما نكرهه] ".

٤ - وحدثنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا أبوعبدالله جعفر بن عبدالله من كتابه في رجب سنة ثمان(١) ومائتين قال: حدثنا الحسن بن على بن فضال قال: حدثنى صفوان بن يحيى، عن إسحاق بن عمار الصيرفي، عن عبدالاعلى بن أعين عن أبى عبدالله جعفر بن محمدعليهما‌السلام أنه قال: " ليس هذا الامر معرفته وولايته فقط حتى تستره عمن ليس من أهله، وبحسبكم(٢) أن تقولوا ما قلنا وتصمتوا عما صمتنا، فإنكم إذا قلتم ما نقول وسلمتم لنا فيما سكتنا عنه فقد آمنتم بمثل ما آمنا به، قال الله تعالى: " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا "(٣) .

قال على بن الحسينعليهما‌السلام : حدثوا الناس بمايعرفون، ولا تحملوهم ما لا يطيقون فتغر ونهم بنا ".

٥ - وأخبرنا عبدالواحد بن عبدالله بن يونس الموصلى قال: حدثنا محمد بن جعفر القرشى، قال: حدثنى محمد بن الحسين بن أبى الخطاب(٤) ، قال: حدثنا محمد بن غياث، عن عبدالاعلى بن أعين، قال: قال أبوعبدالله جعفر بن محمدعليهما‌السلام : " إن

____________________

(١)كذا وفيه سقط، لان أحمد بن محمد بن سعيد ولد سنة ٢٤٩ والاصل كما تقدم و يأتى " سنة ثمان وستين ومائتين " وجعفر بن عبدالله بن جعفر المحمدى كان ثقة في الرواية.و صحف في النسخ " بمحمد بن عبدالله ".

(٢)أى يكفيكم وقد يقرء " ويحسبكم " بالياء المثناة من تحت.

(٣)البقرة: ١٣٧.

(٤)في بعض النسخ " وأخبر نا عبدالواحد بن عبدالله بن يونس الموصلى قال: حدثنا محمد بن غياث - الخ " وفيه سقط، وعبدالواحد الموصلى أخو عبدالعزيز يكنى أبا القاسم سمع منه التلعكبرى سنة ست وعشرين وثلاثمائة وذكر أنه ثقة(صه).

(*)

١٨

احتمال أمرنا ليس هو التصديق به والقبول له فقط، إن من احتمال أمرنا ستره وصيانته عن غير أهله، فأقرئهم السلام و رحمة الله - يعنى الشيعة - وقل لهم: يقول لكم: رحم الله عبدا اجتر مودة الناس إلى وإلى نفسه، يحدثهم بما يعرفون.

ويستر عنهم ما ينكرون، ثم قال لى: والله ما الناصب [ة] لنا حربا أشد مؤونة علينا من الناطق علينا بما نكرهه - وذكر الحديث بطوله - ".

٦ - وأخبرنا عبدالواحد بن عبدالله قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن رباح الزهرى(١) عن محمد بن العباس الحسنى، عن الحسن بن على بن أبى حمزة البطائني، عن محمد الخزاز(٢) قال: قال أبو عبداللهعليه‌السلام : " من أذاع علينا حديثنا هو بمنزلة من جحدنا حقنا ".

٧ - وبهذا الاسناد، عن الحسن بن على بن أبى حمزة، عن الحسن بن السرى(٣) قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : " إنى لاحدث الرجل الحديث فينطلق فيحدث به عنى كما سمعه فأستحل به لعنه والبراء‌ة منه".

يريدعليه‌السلام بذلك أن يحدث به من لا يحتمله ولا يصلح أن يسمعه.ويدل قوله على أنهعليه‌السلام يريد أن يطوى من الحديث ماشأنه أن يطوى ولا يظهر.

٨ - وبه(٤) عن الحسن بن علي بن أبي حمزة، عن القاسم الصيرفي(٥) ، عن

____________________

(١)هو أبوالحسن أحمد بن محمد بن على بن عمر بن رباح القلاء السواق الزهرى وكان ثقة في الحديث كما في الخلاصة، يروى عن محمد بن العباس بن عيسى وهو ثقة يكنى أبا عبدالله وروى هو عن أبيه والحسن بن على البطائنى(جش) وفى نسخة " الجبلى " بدل " الحسنى ".

(٢)هو محمد الخزاز الكوفى الذى عده البرقى في رجاله من أصحاب أبى عبدالله الصادقعليه‌السلام .

(٣)هو الحسن بن السرى الكاتب الكرخى ثقة له كتاب(جش).

(٤)يعنى بهذا الاسناد.

(٥)الظاهر كونه القاسم بن عبدالرحمن الصيرفى شريك المفضل بن عمر.

(*)

١٩

ابن مسكان قال: سمعت أبا عبداللهعليه‌السلام يقول: " قوم يزعمون أنى إمامهم والله ماأنا لهم بإمام، لعنهم الله كلما سترت سترا هتكوه، أقول كذا وكذا، فيقولون إنما يعنى كذا وكذا، إنما أنا إمام من أطاعنى ".

٩ - وبه عن الحسن، عن كرام الخثعمى قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : " أما والله لو كانت على أفواهكم أوكية(١) لحدثت كل امرئ منكم بما له، والله لو وجدت أتقياء لتكلمت، والله المستعان ".

يريد ب‍ " أتقياء ": من يستعمل التقية.

١٠ - وبه عن الحسن، عن أبيه، عن أبى بصير(٢) قال: سمعت أبا جعفرعليه‌السلام : يقول: " سر أسره الله إلى جبرئيل، وأسره جبرئيل إلى محمد، وأسره محمد إلى على، وأسره على إلى من شاء الله واحدا بعد واحد، وأنتم تتكلمون به في الطرق ".

١١ - [وحدثنا محمد بن همام بن سهيل قال: حدثنا عبدالله بن العلاء المذاري(٣) قال: حدثنا إدريس بن زياد الكوفي(٤) قال: حدثنا بعض شيوخنا قال: قال [المفضل]: أخذت بيدك كما أخذ أبوعبداللهعليه‌السلام بيدي وقال لي:

____________________

(١)جمع وكاء وهو رباط القربة.

(٢)يعنى به يحيى بن القاسم - أو أبى القاسم - الاسدى المكفوف يكنى أبا بصير كان ثقة وجيها مات سنة خمسين ومائة.(جش).

(٣)محمد بن همام بن سهيل بن بيزان أبوعلى الكاتب الاسكافى أحد شيوخ الشيعة الامامية، وكان -رحمه‌الله - كثير الحديث جليل القدر ثقة، له منزلة عظيمة، عنونه الشيخ والعلامة في رجاليهما، وقال الخطيب في تاريخ بغداد: مات أبوعلى محمد بن همام بن سهيل في جمادى الاخرة سنة ٣٣٢ وكان يسكن سوق العطش ودفن في مقابر قريش - انتهى.

والمذارى - بفتح الميم والذال وسكون الالف وفى آخرها راء - والمذار قرية باسفل أرض البصرة، وعبدالله بن العلاء المذارى كان ثقة من وجوه أصحابنا كما في فهرست النجاشى.

(٤)كذا ولعل الصواب " ادريس بن زياد الكفرثوثى " وكان ثقة أدرك أصحاب أبى - عبداللهعليه‌السلام وروى عنهم، كما في(صه).

(*)

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وقد يكون معني تردده، انه كان يرى اتقاء الفضيحة التي لا يسرها عذر امام العالم الاسلامي، في محاربة سيدى شباب أهل الجنة، ابني بنت رسول الله صلى الله عليه واله، وجها لوجه.

وقد يكون انما أغراه باتخاذ هذه الوسيلة دون وسيلة السلاح، كتب الخونة من رؤساء الكوفة وزعماء قبائلها « يعرضون بها له السمع والطاعة، ويتبرعون له بالمواعيد، ويتخذون عنده الايادي، ويستحثونه على المسير نحوهم، ويضمنون له تسليم الحسن عند دنوهم من عسكره، أو الفتك به(١) ».

وكان من أبرع اساليب « الفتنة » ان يجمع معاوية كل ما ورد عليه من كتب هؤلاء، ثم يدعو كلا من المغيرة بن شعبة وعبدالله بن عامر بن كريز وعبدالرحمن بن الحكم، فيوفدهم جميعا بهذه الكتب كلها الى الحسن(٢) نفسه ليطلع عليها، وليعرف نوايا أصحابها من متطوعة صفوفه، ثم ليكون من اللفتة البارعة مدخل للمفاوضة في الصلح أو التفاهم على نصفٍ من الامر، فيما لو وجد هذا الوفد من جانب الحسنعليه‌السلام استعداداً لتفاهم او صلح.

وتفقّد الحسن خطوط الكوفيين وتواقيعهم بشيء من العناية وألامعان كما لو كان يعرف - قبل ذلك خطوطهم وتواقيهم وتأكد صحة نسبة الكتب لاصحاب التواقيع، ولكنها لم تكن لتزيده معرفة بأصحابها، ولم ير فيها جديدا لا يعهده من هذه الطبقة المعروفة بميولها وأهوائها وشذوذها الخلقي، الذي جرّ عليه الشيء الكثير من المآسي والنكبات في شتى مراحله منذ فاه بدعوة الجهاد.

ثم رجع بخطابه الى الوفد الشامي، دقيق العبارة لا يبت بأمر ولا ينكشف عن سرّ، ولم يترك النصيحة للمغيرة ورفاقه، بالدعوة الى الله عزّ وجل، عن طريق نصرته وترك البغي عليه، وذكّرهم بما هم مسؤولون

__________________

١ - سبق ذكر المصادر في الفصل الثالث.

٢ - يراجع اليعقوبي ( ج٢ ص ١٩١ ).

١٦١

عنه أمام الله ورسوله في حقه.

ولا نعلم - بعد ذلك - ولا فيما ترويه المصادر، أنه ذكر الصلح بنفي أو اثبات.

ولكنا علمنا أن المغيرة ورفاقه الذين دخلوا معسكر المدائن حين اذن لهم بدخوله لعرض هذه الكتب على الامام، لم يغادروا المعسكر حتى زرعوا في ميدانه أكبر فتنة في الناس. فخرج الوفد العدّ وويستعرض في طريقه مضارب الجيش، وهو اذ ذاك هدف الانظار في حركته، وهدف الاسماع في حديثه، فقال بعض أفراده لبعض - وهم يرفعون من أصواتهم ليسمعهم الناس -: « ان الله قد حقن بابن رسول الله الدماء وسكن الفتنة، وأجاب الى الصلح(١) ».

وما كان حديثهم هذا الا الفتنة نفسها، ليعبروا بها وبمثيلاتها من هذا الطراز، الى انتزاع الصلح انتزاعا.

و اذا هي الطعنة النجلاء، في ظروف موليّة كظروف المدائن بما كان قد لحقها من التبلبل الذريع، في أعقاب الحوادث المؤسفة في معسكر « مسكن ».

وكانت أكثرية المدائن لا تزال ملحة على مباشرة الحرب، فهي لا ترى للصلح مكانا، وكان يخيل اليها أن في بقايا المجاهدين في مسكن كفاية لمنازلة معاوية، وأن في احتياطي المدائن ما يضمن لمسكن القوة على الصمود فيما لو ضعفت كفايتها. وربما كانوا أو كان فيهم، من لا يتخيل شيئا من ذلك، ولكنهم انما يلحّون على الحرب لانهم « يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة(٢) ». وتلك هي نعرة الخوارج في جيش الحسنعليه‌السلام . وكيف يقول المغيرة ورفاقه « ان الحسن أجاب الى الصلح »، انها الكلمة الكافرة التي لا يجوز الصبر عليها - برأيهم -.

وكان شغب فئة كبيرة كالخوارج، مدعاة لزلزلة فئات أكثر عددا ولا سيما من أغرار الناس المتارجحين بين الطاعة والعصيان، والمتأهبين للفتن

__________________

١ - يراجع اليعقوبي ( ج ٢ ص ١٩١ )

٢ - البحار ( ج ١٠ ص ١١٠ ) والارشاد.

١٦٢

والاضطرابات مع كل ناعق بها وفي كل آن.

وجاءت الخطة المدبرة التي أجاد حياكتها الثالوث الشامي، فتنة عنيفة الاثر على مقدرات المدائن، ناشزة على خطط التدبير.

ومن السهل أن نفطن الان - جازمين - الى ان اجوبة الحسن لهذا الوفد، لم تكن لتشتمل على ذكر الصلح او الاستعداد له، لانه لو كان قد اجاب اليه كما اشاعه الوفد عند خروجه منه، لا نتهي كل شيء ولا غلق الموقف بين العراق والشام.فلم هذه الفتن اذاً؟. وهل هي الا من قبيل استعمال السلاح مع الصلح؟ وهل معني الصلح الا نزع السلاح؟.

وعلى هذا، فلا تصريح بقبول الصلح من جانب الحسن قطعا.

وانما هي الفتتة، وهي سلاح الشام الانكي.

وتلوّن معاوية في هذا السلاح تولّنا مخفيا جدا، فعمد الى سلة أكاذيب، يختار مضامينها اختيارا دقيقا، وينخل أساليبها نخلا فينا، ثم يبعث بها الى معسكرات الحسن، هنا وهناك.

« فكان يدس الى عسكر الحسن - في المدائن - من يتحدث: ان قيس بن سعد - وهو قائد مسكن بعد فرار ابن عباس - قد صالح معاوية وصار معه(١) ».

«ويوجه الى عسكر قيس - في مسكن - من يتحدث ان الحسن قد صالح معاوية وأجابه(٢) ».

ثم ينشر في اشاعة اخرى على معسكر المدائن « الا ان قيس بن سعد قد قتل فانفروا(٣) ».

وما ظنك بأثر هذه الشائعات في جيش مثل جيش المدائن، وقد سبق له أنه علم خيانة قائد سابق لم يكن أهلا للخيانة، فلِم لا يصدق خيانة الثاني، أو الخبر بقتله؟.

وفي مسكن مثل ما في المدائن من مآسٍ ودفائن وقوافل تنزع الى

__________________

١ و ٢ - اليعقوبي ( ج ٢ ص ١٩١ ).

٣ - ابن الاثير ( ج ٣ ص ١٦١ ) والطبرى ( ج ٦ ص ٩٢ ) وابن كثير ( ج ٨ ص ١٤ ) والدميري في حياة الحيوان ( ص ٥٧ ).

١٦٣

الفرار، وعملاء لا يفتأون يبعثون الفتن ويبثون افظع الاخبار.

وهكذا بلغ معاوية « بفتنه » ما أراد، وبات الجيشان كلاهما طمعة الاضطرابات والحوادث المؤسفة التي لا تناسب ساحة قتال.

وما مني الاسلام منذ ضرب بجرانه على جزيرة العرب، بأفظع من هذه النكبة التي يترنح بها موقف الخلافة الاسلامية، بين تثاقل الجنود، وتخاذل الزعماء وخيانة القائد، وفتن العدو!.

انها الظروف القاهرة التي بدأت تنذر باكداس من الخطوب وألنكبات والتي ستجر حتما الى نهاية تاريخ قصير، كان انصع وأروع صفحات التاريخ الاسلامي، وابعدها ارتفاعا في المجد، وأقربها اسبابا الى الفخر.

انها الكارثة التي تؤذن باللحظة المشؤومة في تاريخ الاسلام، اللحظة القائمة على عملية الفصل بين العهدين، عهد الخلافة بمميزاتها ومثاليتها، وعهد « الملك المعضوض(١) » وبلائه المقدَّر المفروض.

وكان الحسنعليه‌السلام ، أعرف الناس بقيم هذه المعنويات المهددة وأحرص المسلمين على حفظ الاسلام، والرجل الحديدي الذي لا تزيده النكبات المحيطة به، الا لمعانا في الاخلاص، واتقادا في الرأي، واستبسالا في تلبية الواجب، وتفاديا للمبدأ.

ولم يكن لتساوره الحيرة، على كثرة ما كان في موقفه من البواعث عليها، ولا وجد في صدره حرجا(٢) ولا تلوّما ولا ندما، ولكنه وقف ليختار الرأي، وليرسم الخطة، وليتخذ التدابير.

وكان لابد لاصطفاء الرأي، من دراسة سائر الاراء.

وذلك ما نريد أن نسيمه: « موقف الحيرة ».

__________________

١ - قال الدميري ( ج ١ ص ٥٨ ) بوعد ان ذكر خلافة الحسنعليه‌السلام وأحصى ايامها: « وهي تكملة ما ذكره رسول الله (ص) من مدة الخلافة، ثم تكون ملكا عضوضا ثم تكون جبروتا وفسادا في الارض، وكان كما قال رسول الله (ص) ».

٢ - قال ابن كثير ( ج ٨ ص ١٩ ): « وهو - يعني الحسنعليه‌السلام - في ذلك، الامام البار الراشد الممدوح، وليس يجد في صدره حرجا ولا تلوما ولا ندما بل هو راض بذلك، مستبشر به ».

١٦٤

موقف الحيرة

١٦٥

وانصرف الى التفكير، فما كان ليغيب عنه ما يهدد موقفه من عبءٍ، بعضه فجيعة. وبعضه هوان، وبعضه موت لا يشبه موت العظماء.

ولم تكن الحيرة عنده بالغة الغور، ولكنها كانت بالغة الاسى مشبوبة الاحاسيس، تخزه وخز الشوك الملتهب، وتستفزُّه بالحاح الى اختراع المخرج الذي لا يساوره الهوان، ولا يخضع للفجيعة، ولا هو من الموت المغتصب، الذي تربأ عن مطارحته الذكريات الكريمة.

وكل ما كانت تحتفل به اللحظة القائمة بين يديه، هو اللجاجة اللاغبة، والشائعات الكاذبة، والاندفاع في تيار الفوضي الرهيب.

والحسن بين هذه الهزاهز، الجبل الذي لا تزعزعه العواصف، والاماام البر الذي لا يغيظه جهل الجاهلين عليه، ولا يُحفظه سخط الناقمين منه، ووقف غير عابئ بما يدور حوله، ولكن ليسقرئ الخطط فيضع خطته، وليستعرض الاراء فيبت برأيه.

وليس بمقدورنا الان ان نقرأ - بتفضيل - الافكار التي كانت تحت سيطرته ساعة أذ، أو كان هو تحت سيطرتها، ولكنها - بالاجمال - لم تكن لتعدو « ما يريده الله وما يؤثر عن رسول الله وما يجب لصيانة المبدأ ».

أما ما يقوله الناس، فلم يكن مما يعنيه كثيرا.

ولنتذكر دائما، انه الامام الروحي، الذي لا يريد الحياة بين الناس الا بمقدار ما تكون الحياة بذلةً في سبيل الله، ووسيلة للنفع العام ومثلا يحتذى في الاصلاح ونشر الاحسان. فما قيمة ما يقول الناس الى

١٦٦

جنب هذه المعنويات الممعنةفي اتجاهها الى الله. والامام بصفته الروحية التي يقود بها الغير الى الخير، لايهجس ابدا بغير هذا النوع من التفكير، ولا ينصرف بخلجاته ومشاعره وعواطفه الى غير الله، وسيرة النبي (ص)، والمبدأ الصحيح.

لذلك لم تكن الحيرة عنده - كما قلنا - بالغة الغور، لان طريق الله لاحب، وأسوة رسول الله واضحة، ولكنها كانت حيرة مريرة المذاق.

وكم من المزعج ان يساق الانسان من ظروفه، ومن حيث لا يد له، الى وضع لا يسيغه طبع، تصطلح عليه الازمات، ثم لا يفتأ يقوم من نفسه على عقُدٍ لا تنقطع الا لتتصل. ذلك هو الوضع « الشاذ » الذي لايعهد الا مع الحيرة، ولا يطرد في نوازعه الا مع القلق، ولا تكون النفس معه الا بين الاقدام وألاحجام وأليأس وألرجاء. وللنفس - مع هذا الوضع - حاجتها القصوى الى التأمل والتفكير، والى الكلاءة والتثبيت. وللضمير - مع هذا الوضع - موقفه الدقيق الذي تتفاوت فيه معادن الناس.

وايّ نفس كانت هي تلك النفس، وأيّ ضمير كان هو ذلك الضمير!!؟؟. انها النفس المطمئنة التي ترجع عند كل هول يعصف بها الى ربها راضية مرضية، لا تستكفي بغيره، ولا تسترشد بسواه. وانه الضمير الطاهر النقي، الذي لم يضعف على ثقل الواجب وأنما كان - على كل حال - أصلب من الكارثة. ولم نسمع عن الحسن ان احدا ممن حوله شعر عليه في لحظات مرزأته، أنه المرزأ في دخيلته او الممتحن في موقفه، اذ لا حزن ولا انكسار، وانما كل ظاهراته ثبات وعزم وأستقرار، وحتى في مناجاته لربه فانه كان مثال الصبر واللجأ الى الله والاستكفاء به من دون الناس.

وكان من دعائهعليه‌السلام : «اللهم ياذا القوة والسلطان يا عليَّ المكان، كيف أخاف وأنت املي، وكيف أخشى وعليك توكلي. أفرغ علىَّ من صبرك، وأظهرني على أعدائي بأمرك، وأيدني بنصرك. اليك اللجا، وبك الملتجا، فاجعل لي من أمري فرجا ومخرجا. يا كافي أهل

١٦٧

الحرم من أصحاب الفيل، والمرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، ارم من عاداني بالتنكيل! ».

والتمعت على جوانب فِكَرِه اليائسة، وفي زوايا تاملاته العابسه؟ اشعاعة من الامل، كانت جواب دعائه الى الله عزّ وجل، ففاحت ذكية العرف، ولاحت مضواءة الملامح، كأنها نذر البشارة.

وكانت مفاجأة غريبة أغلقت في وجهه هموم حاضره كلها فاذا هو بين طوفان من الذكريات التي لا تمتّ الى ظرفه ولا تتصل بأرزاء لحظته. ذكريات تشيع فيها اللذة وتجد فيها النفس الوانا من الامتاع والمؤانسة.

وللنفس اذا أفرط بها الالم وأرهقها الفكر والصمت العميق، انتفاضتها المباركة التي تفرُّ بها من الضيق الى السعة، ومن اليأس الى الرجاء، ومن الحيرة الى الدلالة المليئة بالامال.

انه ليفكر لحاضره من هذه المزعجات، ولمستقبله من هذا العدو المستهتر بالمقدسات، وانه ليظن « بأنه لو وضع يده في يده فسالمه لم يتركه أن يدين لدين جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ».

اما هذه المفاجأة الجديدة، فقد رجعت به الى ثلث قرن مضى وحواليه فاذا هو بين منازل النبوة تتجاذبه، ومهابط الوحي تتلاقفه، وحلقات المهاجرين والانصار تحتفل به.

رؤيً تملك الحس وأحلام لذيذة تؤاسي الجراح.

هذا جده الاعظم، وهذا سلطان نبوته في قومه، وهذه نجوم الاي الكريمة تتنزل بين الفينة والفينة. كأنها بريد السماء الى الارض ولا تتنزل الا في بيته، وهذا أبوه، وزير النبي والمجاهد الاكبر الذي أخضع صناديد العرب لكلمات الله، كأنه يرجع الان وقد فتح حصن خبير، وهذه أمه الطاهرة البتول، التي باهل بها الرسول فكانت بحق سيدة نساء العالمين.

__________________

١ - من كلمات الحسن نفسه كما يرويها البحار ( ج ١٠ ص ١٠٧ ).

١٦٨

واذا لم يكن شيء مما يراه الان، واقعا خارجيا، فليكن بحقيقته واقعا نفسيا، جلاه لناظره تيار روحي لا ينقطع بروحه عن هذا الجد وهذين الابوين، كما كان لا ينقطع عنهم بجسمه - في الواقع الخارجي - يوم الف الله وفده لمباهلة نصارى نجران، فكان الوفد هو الحسن وجده وأباه وأمه وأخاه، ويوم دعا رسول الله صلى الله عليه واله بالكساء فلفّه على الصفوة المختارة ( أصحاب الكساء الخمسة ) فكانوا ( الحسنين وأبويهما وجدهما الاعظم )، يوم نزلت آية التطهير ففسَّرها النبي (ص) بالخمسة الميامينعليهم‌السلام .

خصائص من العظمة لا يشاركهم فيها أحد في الاسلام.

وتراءت له من وراء أفقه الحزين، صور ممتعة من طفولته المباركة وصباه الباكر الكريم، فتطلع منها الى أيامه البيض الحافلة بالنور في المدينة المنوَّرة، يوم كان يدرج فيها بموقعه الممتاز، ومقامه المدلّل المرموق بين أقرانه وأترابه، ويوم كان يلعب ويمرح فيها، ولكن بين سواعد أبويه العظيمين وعلى صدر جده الاعظم أو على ظهره المقدس او على أعواد منبره الشريف، ويوم كان يتلقّف الوحي منذ لحظاته الاولى، ويتعلم كلمات الله من لسان نبيّ الله (ص)، ويتخرج بعلمه على مصدر العلم، ويضع النقاط على الحروف ليستقبل سيادته على الناس، وأمامته المفروضة في أعناق المسلمين. وأنه ليستمع الى جده حين كان يراود الناس في كل مناسبة على الاعتراف له - بلسان أشبه بمباهاة - كلما ذكر ابنه الحسن للسيادة وألامامة. وطالما ذكره لمهما في حديثه أو ذكرهما له.

كانت عهودا مفعمةً بروح العظمة وبعظمة الروح، جديرة بأن تهيب بالحسن فيتذكر منها اطيب الذكريات، وأحفلها بالغبطة والقوة والمكرمات.

وكانت الذكرى الاخاذة التي تمكنت بسلطانها من نفسه حتى انتزعت منه ابتسامته الملذوذة غير مظنون الابتسام في ظرفه. انه رأى جده رسول الله صلى الله عليه واله كأنه ينتزعه الان من عاتق أمه فيأخذه بيده،

١٦٩

ويوقفه على قدميه المباركتين، ثم لا يزال يباغمه بأنشودته المقدسة: « حزقه حزقه، ترقَّ عينَ بقّه » فيرقى بقدميه الصغيرتين متدرجا حتى يضعهما على صدر جده العظيم، ويفتح فاه، اذ يقول له: « افتح فاك »، فيقبله بفيه، ثم يقول: « اللهم انى احبه فأحبَّه وأحبَّ من أحبَّه(١) ».

ثم كانت هذه الذكرى مفتاح ذكريات كان من حقها ان تؤنسه وأن تنسيه مزعجات لحظته الاخيرة، وأن أسطع فترة في حياة كل انسان هي فتره طفولته البريئة بما يعمرها من الروابط المقدسة - بينه وبين الاحضان التي يلجأ اليها، وبينه وبين المجتمع الذي يعيش فيه -. وأن ذكريات تلك الفترة من حياة أيّ انسان تبقى خالدة في رأسه وفي قلبه وفي روحه ولا يمكن نسيانها ابدا.

فذكر مرةً جده رسول الله صلى الله عليه واله. وقد وضعه على منكبه الايمن، ووضع أخاه الحسين على منكبه الايسر، فاستقبله أبوبكر فقال لهما: « نعم المركب ركبتما ياغلامان ». فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ونعم الراكبان هما، ان هذين الغلامين ريحانتاي من الدنيا!(٢) ».

وذكر يوم جثا جده وأركبه على ظهره، وأركب معه أخاه الحسين، وقال لهما: « نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان أنتما(٣) ».

وذكر مرةً اخرى يوم جاء وجده ساجد فركب رقبته وهو في صلاته(٤) . ويوم جاء وجده راكع، فأخرج له بين رجليه حتى خرج من الجانب الاخر(٥) . ويوم قيل لجده: « يا رسول الله انك تصنع بهذا

__________________

١ - الزمخشري وابن البيع والطبراني وينابيع المودة والاصابة ( ج ٢ ص ١٢ ) وغيرها.

٢ - كتاب سليم بن قيس، والبيهقي في المحاسن والمساويء ( ص ٤٩ ) وروى الاخير قول الحميري في نظمه الحديث:

اتى حسنا والحسين الرسول

وقد برزا ضحوة يلعبان

فضمهما وتفداهما

وكانا لديه بذاك المكان

و مرا وتحتهما عاتقاه

فنعم المطيه وألراكبان

٣ - الابانة لابن بطة.

٤ - الحلية لابي نعيم.

٥ - الاصابة ( ج ٢ ص ١١ ).

١٧٠

- يعني الحسن - شيئا لم تصنعه بأحد »، فقال: « ان هذا ريحانتي، وان ابني هذا سيد سيصلح الله به بين فئتين من المسلمين(١) ».

وذكر ركوبه على رقبة جده (ص) وهو يخطب في مسجده، حتى لقد كان يرى بريق خلخاليه من أقصى المسجد، وهما يلمعان على صدر جده العظيم، ثم لا يزال كذلك حتى يفرغ النبي من خطبته(٢) .

وذكر نزول جده رسول الله صلى الله عليه واله من على منبره فزعا وكان هو قد عثر عند باب المسجد، فحمله وأخذه معه الى منبره، ثم قال: « أيها الناس ما الولد الا فتنة(٣) ».

وذكر جده وهو يقول له غير مرة: « أشبهت خلقي وخلقي(٤) ».

وذكر يوم استيقظ من نومه، فاذا جده وأمه يتحدثان، فأقبل على جده قائلا: « يا جداه اسقني »، فأخذه جده وقام الى لقحة(٥) كانت له، فاحتلبها ثم جاء بالعُلبة(٦) وعلى اللبن رغوة، ليناوله الحسن، فاسيتقظ الحسين فقال: « يا أبت اسقني »، فقال له: « يابُنَّي أخوك أكبر منك، وقد استسقاني قبلك(٧) ».

وذكر يوم كان طفلا بين يدي أمه فاطمةعليهما‌السلام ، ودخل عليها أبوها رسول الله صلى الله عليه واله، ورآه يلعب، فقال لها: « ان الله تعالى سيصلح على يدي ابنك هذا، بين فئتين عظيمتين من المسلمين(٨) ».

وذكر من ملامح سلطانه في صباه، يوم جاء الى أبي بكر وهو على منبر جده رسول الله صلى الله عليه واله، فقال له: « انزل عن مجلس أبي!(٩) ».

__________________

١ - الحلية

٢ - البحار ( ج ٦ ص ٥٨ ).

٣ - المناقب والترمذي والسمعاني وفضائل أحمد.

٤ - الغزالي والمكي في الاحياء، وقوت القلوب.

٥ - الناقة الكثيرة اللبن.

٦ - العلبة بضم اوله: اناء من جلد أو خشب.

٧ - كتاب سليم بن قيس ( ص ٩٨ ).

٨ - العقد الفريد ( ج ١ ص ١٩٤ ) والبيهقي ( ج ١ ص ٤٠ )، والبخاري والخطيب والسمعاني والحركوشي والجنابذى وابو نعيم في الحلية وينابيع المودة ومروج الذهب وغيرها.

٩ - الصواعق المحرقة ( ص ١٠٥ ) واخرجه الدار قطني.

١٧١

وذكر جده وقد أخذه معه الى منبره، فهو يقبل على الناس مرة، وعليه مرةّ، ويقول: « ان ابني هذا سيد ولعل الله ان يصلح به بين فئتين من المسلمين(١) ».

وكانت مناظر وجدان مؤثرة في الحسن، وذكريات تاريخ ملذوذة في النفس بدلت من وحشة اللحظة، وخففت من عرامة الخطب، وكانت كل ذكرى تثير ذكريات، وكل منظر يمرّ يوقظ مناظر أخريات.

وانه ليطمئن الى قول جده صلى الله عليه واله، كما يطمئن الى محكم التنزيل. وها هو ذا جده العظيم يقول له، وكان صوته الشريف يرنّ بعذوبته المحببة في اذنه، ويقول لامه الطاهرة البتول، ويقول على منبره، ويقول بين أصحابه، ويقول ما لا يحصى كثرة: « ان ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين من المسلمين ».

ويرجع الحسن الى نفسه فيقول:

ترى، هل أراد رسول الله (ص) ان اصالح اليوم أهل الشام؟.

وهل أهل الشام البغاة، فئة مسلمة يصح أن يعنيها هذا الحديث؟.

وهل هذه هي الفتنة التي أرادني رسول الله (ص) لاصلاحها؟. أو قد فدنا الكفاية لقمعها من طريق القوة؟.

كل ذلك كان يراود الحسن، فيثير في نفسه تفاعلا عنيفا،ينذر بانقلاب تاريخ، وكل هذه الاسئلة كانت تنتظر الجواب من الحسن استعدادا للمصير الاخير.

وبعثت هذه الذكريات بما فيها التوجيه النبويّ الذي استشعر منه الحسن حماية جده له في أحرج ساعاته، فكرة الانقاذ للموقف، فيما لو اتيح لهذه الاسئلة أجوبتها المطابقة لمقتضى الحال.

- نعم ان رسول الله (ص) قال ذلك يقينا دون شك.

__________________

١ - البخاري ومسلم وألاصابة ( ج ٢ ص ١٢ ).

١٧٢

وان هذه الفتنة هي الفتنة التي عناها فيما لوَّح اليه في أحاديثه الشريفة، ولا فتنة أعظم من فتنة تشق المسلمين انشقاقهم هذا، فتلهيهم عما يُراد بهم أعدائهم الواقفين لهم بالمرصاد(١) ، وعما يراد منهم من اعمار وتنظيم وجهاد.

واما الحكم على البغاة بحصانة الاسلام، فهو ما يشير اليه موقف أمير المؤمنينعليه‌السلام منهم، حين منع سبي نسائهم وذراريهم، وكفى بسيرة أميرالمؤمنين أسوةً صالحة وقدوة في الدين راجحة.

واما السؤال عن الكفاية لقمع هذه الفتنة بالقوة، وهو الحلم اللذيذ الذي هتف به الشيعة المتحمسون بالكوفة ابان النهضة للجهاد.

فالجواب عليه، يتوقف على دراسة الموقف من ناحيتيه المعنوية والعددية معا، وذلك باستعراض الامكانيات الحاضرة على حقيقتها. والمعنويات في الجيوش هي رمز القوة التي تدخر لربح الوقائع، وهي أهم بكثير من تصاعد الاعداد التي لا تعزّزها الروح العسكرية الرفيعة.

وكان للحسن في مَسكن بقية من جيش، لا تجد المعنويات سبيلها اليه الا بالمعجزة، بعد النكبة التي أصيب بها هذا المعسكر بخيانة قائده وفرار ثمانية الاف من أفراده.

وفي المدائن، مجموعة من أشباح، كشفت الارجافات الدوة المربكة عن نواياها، فاذا بها لا تفتأ تتلقّف الفتن، وتهمّ بالعظائم ولا ترجى لميدان حرب، وهذه هي الناحية المعنوية على واقعها.

واما النسبة العددية فقد كان أكبر عدد بلغه جيش الحسنعليه‌السلام فيما زحف به الى لقاء معاوية عشرين الفا أو يزيدها قليلا، وكان جيش معاوية الذي عسكر به على حدود العراق ستين الفا!.

فللحسن - يومئذ - ثلث أعداد جيش معاوية.

__________________

١ - اشارة الى محاولات البيز نطيين عند ثغور الشام سنة ٤٠ هـ.

١٧٣

وجاءت عملية الفرار التي اجتاحت معسكر مسكن والتي انهزم بها ابن العم « ورب ابن عم ليس بابن عم » - كما يقول المثل العربي - بتمانية الاف!. فتصاعدت النسبة صعودا مريعا.

وبقى الحسن في معسكريه جميعا على الخمس من عسكر معاوية!.

واذا اعتبرنا - هنا - القاعدة العسكرية الحديثة التي تنسب القوة المعنوية الى الكثرة العددية، بنسبة ثلاثة الى واحد رجعنا الى نتيجة مؤسفة جدا، هي نسبة واحد الى خمسة عشر.

واذا نظرنا الى جيش الحسن الذي بقى ينازل معاوية في مسكن وحده - على ضوء هذه القاعدة - رأيناه ينازل عدوا يعدّه خمسة واربعين ضعفا بالضبظ.

فأين هي الكفاية لقمع فتنة الشام بالقوة، ياترى؟

ولن تجيز النظم المتبعة لحروب الانسان في التاريخ، مبارزة واحد لخمسة وأربعين، ولا محاربة واحد لخمسة عشر. وما هي - ان اتفقت يوما - بحرب نظامية، تنتظرها النتائج، وأنما هي الحملات المستميتة التي تقصد الى الانتحار عن ارادة وعمد.

فليكن الحسن ابن رسول الله، هو ذلك المخلوق الذي ادخره الله للاصلاح لا للحرب، وللسلام لا للخصام، وليكن الغرس الذي أنبته الله للمسلمين لا لنفسه، وللدين لا للسلطان وليكن نصيبه من هذا الموقف في الباقي دون الزائل، وفي الخالد دون الفاني، وفي الله دون الناس.

وهكذا حالت رسالة الحسن بالسلام، دون أن يشتبك الفريقان بحرب ما، وكان ذلك هو الثابت - تاريخيا - رغم ان بعض المؤرخين حاول التلميح الى موقعة حربية، بين جيش قيس، قائد الحسن على مقدمته - وبين جند الشام في « مسكن ». وصرح السيد في « الدرجات

١٧٤

الرفيعة » بشيء من أطوار هذه الموقعة المزعومة.

ولا نعرف لهذا النبأ مصدرا جديرا بالاعتبار، أقدم من السيد الرفيع الدرجات ( السيد على خان المتوفى سنة ١١٢٠ هـ ).

ولا نجد من دراسة الوضع الراهن يومئذ في مسكن ما يدعم هذا الزعم.

ولا نرى من خطة « حقن الدماء » التي كانت طابع سياسة الحسنعليه‌السلام ، في سائر مراحله، ما يبعثنا على التسليم لهذا الخبر.

ولا نفهم من حديث رسول الله صلى الله عليه واله « بان الله سيصلح بالحسن بي فئتين عظيمتين من المسلمين » الا كون الحسن رسول السلام في الاسلام.

فأنى يكون لجيشه أن يحارب أو يهاجم؟.

وعلمنا من وصية الحسن يوم حضرته الوفاة، أنه لم يرض أن يهرق في أمر محجمة دم، فكان في ذلك وفق رسالته التي أردها أو اريد لها.

على أن شهود عيان كثيرين يؤكدون: « أنه ولي الخلافة ولم يهرق في خلافته محجمة دم » وقال ذلك بعضهم، وهو يعزز كلامه بالقسم(١) مرتين.

__________________

١ - تراجع الاصابة ( ج ٢ ص ١٢ )، وابن كثير في تاريخه ( ج ٨ ص ٨ و ١٤ ) وغيرهما.

١٧٥

١٧٦

بين المبدأ والملك

١٧٧

لعل أفضل طريقة للاستعانة على تجلية موضوعنا في هذا الفصل، ان نبدأه بشيء من الكشف الصريح عن المعنيين المختلف عليهما « للخلافة » في عرف المسلمين. وللكلام على الخلافة [ أو حواليها ]، خطره ومسؤوليته لدى واحد من الجانبيين غالباً، ولديهما معا أحيانا.

ونحن اذ نفهرس الخلافة هنا كما هي عند الفريقين، لا نريد أن نأخذ من موضوعها الا بمقدار ما يتصل منه بموضوعنا.

ونريد مع ذلك أن نعمد - أسطراداً - وعلى ضوء ما نضعه من صيغة البحث، الى تقريب النظريتين المختلفتين، تقريبا جديرا بأن يخلق من بذرتنا هذه شجرة الاصلاح، لو وجد الاصلاح في هذه التربة سبيلا للازدهار، ولا خطر ولا مسؤولية لدى أحد الجانيين ولا لديهما معاً مما نريد، بل هو الخير كله، وما في الاصلاح الا الخير للكل.

فنقول: الخلافة هي النيابة العامة عن النبي صلى الله عليه واله، في رياسة المسلمين بعد وفاته، ولها على الناس الطاعة، وللناس عليها العمل بكتاب الله وسنة رسوله (ص).

واعتاد فريق من المسلمين أن يتقبلوا لهذه النيابة عن النبي (ص) أحدهم فيما لو استطاع أن يدّعيها لنفسه، اما بالقوة، كخلافة معاوية الذي « نال الخلافة بحدّ السيف تارةً وبالمكيدة والسياسة تارةً اخرى(١) »، وكخلافة ابن الزبير، وأبى العباس السفاح، وعبدالرحمن الناصر، وآخرين، وامّا بالعهد اليه من سلفه الذي كان أخذها بالقوة أو بسبب

__________________

١ - تاريخ الاسلام السياسي ( ج ١ ص ٣٩٦ ).

١٧٨

آخر، كخلافة عمر ويزيد وألرشيد وغيرهم، وأمّا باختيار فئة من المسلمين ايّاه بادىء ذي بدء، كخلافة أبي بكر، وعثمان، ومحمد رشاد.

ورجع الفريق الثاني من المسلمين في تعيين النائب عن الرسول (ص) الى نصوص صاحب الرسالة نفسه، فلم ينسيبوا عنه الا من أنابه هو فيما اثر عنه.

وعلى ذلك جرى الفريقان، وعلى ذلك كانا فريقين(١) .

وكما اختلفا في أسباب نصب الخليفة، اختلفا في قابليته للتغيير والعزل، فعلى النظرية الاولى، كان حرياً بالعزل متى وفّق غيره للتغلب عليه، أو متى وجد اقتضاء آخر، وعلى نظرية النص ليس لاحد تغييره ولا عزله، ولن يكون الخليفة المنصوص عليه معرّضاً لنقص يخلّ بمقامه كنائب نبي، ومن هنا يرمز اليه بالعصمة من الله تعالى شأنه، كما هي شأن النبي نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فالخلافة من النوع الاول سلطة عامة مقيدة بدستور خاص، وهي بواقعها أشبه بهذه السلطات القائمة اليوم، لا تختلف عنها الا من ناحية الاختلاف في الدستور، أو كما تختلف بعض هذه السلطات عن بعض.

وقداستها، فرع قابليات الرجل الذي اختير لها أو الرجل الذي تغلّب عليها، وأحياناً كان أفضل الناس قدسا، كما كان في وقت آخر من أشد الناس تمردا على الدين والخلق الصحيح.

وهي من النوع الثاني وعلى نظرية النص منصب آلهي تجب له الطاعة ديناً، كما تجب للنبي، وما هي بهذا المعنى الا ظل النبوة بمعناها الذي يتصل بالسماء، ولكنها انما تتصل بالسماء عن طريق النبي، وهو مصدر روحيتها كما هو مصدر النص عليها.

__________________

١ - فالفريق الاول هم السنة، والفريق الثاني هم الشيعة. ووافق الشيعة أكثرية المعتزلة فقالوا « لا امامة الا بالنص والتعيين ». يراجع « آراء المعتزلة السياسية » ( ص ١٥ )، مجلة الالواح ( ع ١١ س ١ ).

١٧٩

أما قداستها فطبيعية ثابتة لها، ثبوتها للنبوة نفسها. ولا خليفة من خلفاء النص، الا كان أقدس شخصية في الناس وأفضلهم.

وقديما كان موضوع « الخلافة » مثار شغب عنيف بين المسلمين ومصدر مآسٍ كثيرة مؤسفة في تاريخ الاسلام. وما كان من السهل ولا من الممكن يومئذ، ما نظنه اليوم ممكنا وسهلاُ، في موضوع تقريب الفريقين بعضهما من بعض، وجمعهما على نصف من الرأي، ينبذ به الخلاف، ويؤخذ معه بالواجب من الاخوة وألنجوح الى الاصلاح.

وذلك هو ما يقتضيه الاهتمام بالجوهر دون الاعراض، وبالدين الصحيح دون الاغراض، وذلك هو الاسلام الذي يجب أن يتصل به المسلم الى الله على حقيقته، دون أن تخدعه العنعنات أو العواطف أو المؤثرات.

وقضية الدين - وهو العلاقة بين العبد وربه وهو النقطة التي يرتكز عليها مسقبله في حياته الاخرى - لا تشبه القضايا الدنيوية التي يجوز عليها أن تخضع في الكثير من علاقاتها، لهوى النفس أو لتقاليد البيئة، أو لعواطف أو المؤثرات.

وقضية الدين - وهو العلاقة بين العبد وربه وهو النقطة التي يرتكز عليها مستقبله في حياته الاخرى - لاتشبه القضايا الدنيوية التي يجوز عليها أن تخضع في الكثير من علاقاتها، لهوى النفس أو لتقاليد البيئة، أو لعواطف الانسان وميوله وعصبياته.

أمّا صاحب الدين،فلا همّ له في دينه الا الواقع مجرداً.

ولا نريد الآن، في موضوع الخلافة، الا جمع الكلمة على الواقع المجرد دون أيّ تصرّف أو تحريف.

فيعترف الشيعي بالخلافة ( من النوع الاول ) على واقعها يوم وقعت [ ولا ينبغي للاعتراف بأمرٍ ما أن يجاوز واقعه ] بوصفها سلطة عامة قائمة بين المسلمين، لها ما تستحقه من الاطراء في كثير من آثارها في الاسلام.

ويعترف السني بالخلافة ( من النوع الثاني ) على واقعها ايضا بوصفها

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316