فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد10%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 248240 / تحميل: 11112
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

انفتل جلس في قبلته والناس حوله. فبينما هم كذلك إذ أقبل شيخ من مهاجرة العرب ، عليه سمل قد تهلّل وأخلق (١) وهو لا يكاد يتمالك كِبَراً وضعفاً، فأقبل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يستحثّه الخبر، فقال الشيخ: يا نبي الله أنا جائع الكبد فأطعمني، وعاري الجسد فاكسني، وفقير فارشني (٢) .

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أجد لك شيئاً، ولكنّ الدال على الخير كفاعله، انطلق إلى منزل مَن يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، يؤثر الله على نفسه، انطلق إلى حجرة فاطمة.

وكان بيتها ملاصقاً بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يتفرّد به لنفسه من أزواجه، وقال: يا بلال قم فقف به على منزل فاطمة.

فانطلق الأعرابي مع بلال، فلمّا وقف على باب فاطمة نادى بأعلى صوته: السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة ومختلف الملائكة، ومهبط جبرئيل الروح الأمين بالتنزيل من عند ربّ العالمين.

فقالت فاطمة: وعليك السلام، فمَن أنت يا هذا؟

قال: شيخ من العرب، أقبلت على أبيك سيّد البشر مهاجراً من شقّة، وأنا - يا بنت محمد - عاري الجسد، جائع الكبد، فواسيني يرحمك الله.

وكان لفاطمة وعلي - في تلك الحال - ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثاً ما طعموا فيها طعاماً، وقد علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من شأنهما.

____________________

(١) السمل: الثوب الخلق. تهلّل الثوب: انخرق.

(٢) ارشني: أحسن إليّ.

٢٠١

فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ (١) كان ينام عليه الحسن والحسين، فقالت: خذ هذا يا أيّها الطارق، فعسى الله أن يرتاح لك ما هو خير منه.

فقال الإعرابي: يا بنت محمد شكوت إليك الجوع، فناولتني جلد كبش؟ ما أنا صانع به مع ما أجد من السغب؟ (٢)

قال: فعمدت فاطمة - لما سمعت هذا من قوله إلى عقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمّها حمزة بن عبد المطلب، فقطعته من عنقها، ونبذته إلى الأعرابي فقالت: خذه وبِعهُ، فعسى الله أن يعوِّضك به ما هو خير منه.

فأخذ الأعرابي العقد، وانطلق إلى مسجد رسول الله، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في أصحابه فقال: يا رسول الله أعطتني فاطمة بنت محمد هذا العقد فقالت: بِعه فعسى الله أن يصنع لك.

قال: فبكى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: وكيف لا يصنع الله لك، وقد أعطته فاطمة بنت محمد سيّدة بنات آدم.

فقام عمار بن ياسر (رحمة الله عليه) فقال: يا رسول الله أتأذن لي بشراء هذا العقد؟ قال: اشتر يا عمار، فلو اشترك فيه الثقلان ما عذبّهم الله بالنار، فقال عمار: بكَمْ العقد يا أعرابي؟ قال: بشبعة من الخبز واللحم، وبردة يمانية استر بها عورتي وأصلّى فيها لربّي، ودينار يبلغني إلى أهلي.

وكان عمار قد باع سهمه الذي نفله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من خيبر ولم يبق منه شيئاً فقال: لك عشرون ديناراً ومائتا درهم

____________________

(١) القرظ: شيء يدبغ به الجلد.

(٢) السغب: الجوع.

٢٠٢

هجرية، وبُردة يمانية، وراحلتي تبلغك أهلك، وشبعك من خبز البر واللحم.

فقال الإعرابي: ما أسخاك بالمال أيّها الرجل؟ وانطلق عمار فوفّاه ما ضمن له.

وعاد الإعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له رسول الله: أشبعت واكتسيت! قال الأعرابي: نعم، واستغنيت بأبي أنت وأُمّي: قال: فأجزِ فاطمة بصنيعها؟ فقال الأعرابي: اللّهمّ أنت إله ما استحدثناك، ولا إله لنا نعبده سواك، فأنت رازقنا على كل الجهات، اللّهمّ أعط فاطمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت... وإلى أن قال: فعمد عمار إلى العقد فطيّبه بالمسك، ولفَّه في بردة يمانية، وكان له عبد اسمه سهم ابتاعه من ذلك السهم الذي أصابه بخيبر، فدفع العقد إلى المملوك، وقال له: خذ هذا العقد فادفعه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنت له.

فأخذ المملوك العقد فأتى به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبره بقول عمار فقال النبي: انطلق إلى فاطمة فادفع إليها العقد وأنت لها. فجاء المملوك بالعقد وأخبرها بقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذت فاطمة العقد، وأعتقت المملوك.

فضحك المملوك فقالت: ما يضحكك يا غلام؟ فقال: أضحكني عِظَم بركة هذا العقد، أشبع جائعاً، وكسا عرياناً وأغنى فقيراً، وأعتق عبداً، ورجع إلى ربّه أي إلى صاحبه.

وفي كتاب البحار ج ٤٣ عن تفسير فرات بن إبراهيم، عن أبي سعيد الخدري قال:

٢٠٣

أصبح علي بن أبي طالبعليه‌السلام ذات يوم ساغباً(١) وقال: يا فاطمة هل عندك شيء تغذّينيه؟ قالت: لا، والذي أكرم أبي بالنبوة، وأكرمك بالوصية ما أصبح الغداة شيء، وما كان شيء أطعمناه مذ يومين إلاَّ شيء كنت أؤثرك به على نفسي، وعلى ابني هذين: الحسن والحسين.

فقال علي: يا فاطمة؟ ألا كنتِ أعلَمتِني فأبغيكم شيئاً؟ فقالت: يا أبا الحسن إنّي لأستحيي من إلهي أن أكلّف نفسك ما لا تقدر عليه.

فخرج علي بن أبي طالب من عند فاطمةعليهما‌السلام واثقاً بالله بحسن الظن، فاستقرض ديناراً، فبينما الدينار في يد علي بن أبي طالبعليه‌السلام يريد أن يبتاع لعياله ما يصلحهم، فتعرَّض له المقداد بن الأسود، في يوم شديد الحر، قد لوّحته الشمس من فوقه، وآذته من تحته فلمّا رآه علي بن أبي طالبعليه‌السلام أنكر شأنه فقال: يا مقداد ما أزعجك هذه الساعة من رحلك؟ قال: يا أبا الحسن خلّ سبيلي ولا تسألني عمّا ورائي!!

فقال: يا أخي إنّه لا يسعني أن تتجاوزني حتى أعلم علمك. فقال: يا أبا الحسن رغبة إلى الله وإليك أن تخلّي سبيلي، ولا تكشفني عن حالي!!!

فقال له: يا أخي إنه لا يسعك أن تكتمني حالك.

فقال: يا أبا الحسن! أمَّا إذا أبيتَ! فو الذي أكرم محمد بالنبوّة، وأكرمك بالوصية ما أزعجني من رحلي إلاَّ الجهد وقد تركت عيالي

____________________

(١) أي: جائعاً.

٢٠٤

يتضاغون جوعاً، فلمّا سمعت بكاء العيال لم تحملني الأرض، فخرجت مهموماً، راكب رأسي، هذه حالي وقصّتي!!

فانهملت عينا علي بالبكاء حتى بلّت دمعته لحيته فقال له: أحلفُ بالذي حلفتَ: ما أزعجني إلاَّ الذي أزعجك من رحلك، فقد استقرضت ديناراً، فقد آثرتك على نفسي.

فدفع الدينار إليه ورجع حتى دخل مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فصلَّى فيه الظهر والعصر والمغرب، فلمّا قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المغرب مرَّ بعلي بن أبي طالب وهو في الصف الأوّل فغمزه برجله، فقام علي متعقباً خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى لحقه على باب من أبواب المسجد، فسلَّم عليه فردَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله السلام، فقال: يا أبا الحسن هل عندك شيء نتعشّاه فنميل معك؟

فمكث مطرقاً لا يحير جواباً، حياءً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان النبي يعلم ما كان من أمر الدينار، ومن أين أخذه وأين وجّهه، وقد كان أوحى الله تعالى إلى نبيّه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتعشّى تلك الليلة عند علي بن أبي طالب.

فلمّا نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى سكوته فقال: يا أبا الحسن ما لَك لا تقول: لا. فانصرف؟ أو تقول: نعم. فأمضي معك؟ فقال - حياءً وتكرّماً -: فاذهب بنا!!

فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يد علي بن أبي طالب فانطلقا حتى دخلا على فاطمةعليها‌السلام وهي في مصلاّها قد قضت صلاتها، وخلفها جفنة تفور دخاناً.

٢٠٥

فلمّا سمعت كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرجت من مصلاّها فسلّمت عليه وكانت أعزّ الناس عليه، فردّ عليها السلام، ومسح بيده على رأسها وقال لها: يا بنتاه كيف أمسيت؟

قالت: بخير.

قال: عشّينا، رحمك الله، وقد فعل.

فأخذت الجفنة فوضعتها بين يدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي بن أبي طالب...

فقال علي لها: يا فاطمة أنّى لك هذا الطعام الذي لم أنظر إلى مثل لونه قط، ولم أشمّ ريحه قط، وما آكل أطيب منه؟؟

قال: فوضع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كفّه الطيّبة المباركة بين كتفي علي بن أبي طالبعليه‌السلام فغمزها، ثم قال: يا علي، هذا بدل دينارك، وهذا جزاء دينارك من عند الله، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب.

ثم استعبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باكياً، ثم قال: الحمد لله الذي أبى لكم أن تخرجا من الدنيا حتى يجزيكما ويجريك - يا علي - مجرى زكريا، ويجري فاطمة مجرى مريم بنت عمران:( كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً ) .

٢٠٦

فاطمة الزهراءعليها‌السلام والعبادة

العبادة لها معنيان: معنى عام ومعنى خاص.

فالعبادة بمعناها العام هي: كل ما يتقرَّب الإنسان به إلى الله سبحانه، من النوايا الطيّبة والأقوال الحسنة والأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة وغيرها.

والعبادة بمعناها الخاص هي الصلاة والصوم والحج والزكاة وغيرها، ممّا هو واضح للجميع.

وقد تجلّت العبادة - بكل معانيها وأبعادها - في حياة السيدة الطاهرة فاطمةعليها‌السلام .

فحياتها كلّها عبادة، منذ البداية حتى النهاية، فمن حمل الماء إلى بيوت الفقراء والمساكين وإطعام الطعام والإيثار، وتعليم الأحكام الشرعيّة، وتحمّل متاعب الأعمال المنزليَّة، والزهد والحرمان والبساطة في العيش، وحُسن التبعّل، والدفاع عن الإمامة والولاية، وما أصابها من الآلام والمصائب بعد وفاة أبيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وغيرها - ممّا قرأته وتقرأه في صفحات حياتها المشرقة - كلّها عبادة خالصة لوجه الله سبحانه.

بالإضافة إلى الصلاة والخشوع والمناجاة وغيرها.

وقد رُوي عن ابن عباس في قوله تعالى:( كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) (١) ، قال:نزلت في علي بن أبي طالب

____________________

(١) الذاريات.

٢٠٧

وفاطمة والحسن والحسين (١) .

وفيما يلي نذكر بعض الأحاديث المرويَّة في هذا المجال:

١ - رُوي عن الإمام الحسنعليه‌السلام قال: رأيت أمِّي فاطمةعليها‌السلام قامت في محرابها ليلة جُمعتها، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتَّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتُسمّيهم، وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء.

فقلت لها: يا أُمَّاه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟

فقالت: يا بُني، الجار ثم الدار (٢) .

٢ - وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: وأمَّا ابنتي فاطمة فإنّها سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين، وهي بضعة منّي وهي نور عيني وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيَّ، وهي الحوراء الإنسية.

متى قامت في محرابها بين يدي ربّها (جلّ جلاله) زَهَر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله (عزّ وجل) لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى أَمَتي فاطمة، سيّدة إمائي قائمة بين يدي، ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أنّي قد أمنت شيعتها من النار... إلى آخر الحديث(٣) .

٣ - وفي كتاب عدّة الداعي: وكانت فاطمةعليها‌السلام تنهج في الصلاة من خيفة الله. والنهج - بفتح النون والهاء -: تتابع النَفَس.

____________________

(١) شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج ٢ ص ١٩٤.

(٢) بحار الأنوار ج ٤٣.

(٣) بحار الأنوار ج ٤٣.

٢٠٨

٤ - وروى الحسن البصري:ما كان في هذه الأُمّة أعبد من فاطمة، كانت تقوم حتى تورَّمت قدماها (١) .

٥ - وروي عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام أنّه قال: (مَن صلّى أربع ركعات، يقرأ في كل ركعة(٢) خمسين مرّة:( قل هو الله أحد ) كانت صلاة فاطمة، وهي صلاة الأوّابين)(٣) .

٦ - وعنهعليه‌السلام قال: كانت لأُمّي فاطمة ركعتان تصلّيهما، علَّمها جبرئيلعليه‌السلام فإذا سلّمت سبّحت التسبيح(٤) ثم تقول:

(سبحان ذي العزّ الشامخ المنيف، سبحان ذي الجلال الباذخ العظيم، سبحان ذي المـُلك الفاخر القديم، سبحان مَن لبس البهجة والجمال، سبحان مَن تردّى بالنور والوقار، سبحان مَن يرى أثَر النمل على الصَفّا، سبحان مَن يرى وقع الطير في الهواء، سبحان مَن هو هكذا، لا هكذا غيره) (٥) .

٧ - ورُوي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأمير المؤمنين وابنته فاطمةعليهما‌السلام : إنّني أريد أن أخصّكما بشيءٍ من الخير ممّا علّمني الله (عزّ وجلّ)، وأطلعني الله عليه، فاحتفظا به.

قالا: نعم يا رسول الله فما هو؟

قال: يصلّي أحدكما ركعتين، يقرأ في كل ركعة: فاتحة الكتاب وآية الكرسي ثلاث مرّات، و( قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ) ثلاث مرّات، وآخر الحشر ثلاث مرّات من قوله:( لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ... ) إلى آخره.

____________________

(١) ربيع الأبرار للزمخشري ص ١٩٥.

(٢) بعد الحمد.

(٣) مَن لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٥٦٤.

(٤) أي: تسبيح الزهراءعليها‌السلام .

(٥) بحار الأنوار ج ٨٩، ورُويت الصلاة بصورة أُخرى أيضاً.

٢٠٩

فإذا جلس فليتشهد وليُثن على الله (عزّ وجلّ) وليصلّ على النبي وليدع للمؤمنين والمؤمنات، ثم يدعو على أثر ذلك، فيقول:

(اللّهمّ إنّي اسألك بحقّ كلّ اسم هو لك يحقّ عليك فيه إجابة الدعاء إذا دُعيت به، وأسألك بحقّ كلّ ذي حقٍّ عليك، وأسألك بحقّك على جميع ما هو دونك أن تفعل بي... كذا وكذا) (١) .

٨ - وعن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام قال: للأمر المخوف العظيم تصلّي ركعتين، وهي التي كانت الزهراءعليها‌السلام تصلّيها، تقرأ في الأُولى الحمد وقل هو الله أحد خمسين مرّةً، وفي الثانية مثل ذلك، فإذا سلّمت صلّيت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ ترفع يديك وتقول:

(اللهمّ أتوجّه إليك بهم، وأتوسّل إليك بحقّهم (بحقّك - خ ل) العظيم الّذي لا يعلم كنهه سواك، وبحقّ مَن حقّه عندك عظيم، وبأسمائك الحسنى وكلماتك التّامّات الَّتي أمرتني أن أدعوك بها، وأسألك باسمك العظيم الّذي أمرت إبراهيمعليه‌السلام أن يدعو به الطّير فأجابته، وباسمك العظيم الّذي قلت للنّار:( كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) فكانت، وبأحبِّ أسمائك إليك وأشرفها عندك، وأعظمها لديك، وأسرعها إجابةً، وأنجحها طلبةً، وبما أنت أهله ومستحقّه ومستوجبه؛ وأتوسل إليك، وأرغب إليك، وأتصدّق منك، وأستغفرك، وأستمنحك، وأتضرّع إليك، وأخضع بين يديك، وأخشع لك، وأقرّ لك بسوء صنيعتي، وأتملّق وألحّ عليك، وأسألك بكتبك التي أنزلتها على أنبيائك ورسلك صلواتك عليهم أجمعين من التّوراة والإنجيل والقرآن العظيم من أوّلها إلى آخرها، فإنّ فيها اسمك الأعظم، وبما فيها من أسمائك العظمى، أتقرّب إليك، وأسألك أن

____________________

(١) قوله: كذا وكذا. أي: تذكر حاجتك / الحديث في بحار الأنوار ج ٨٩ ص ٣٦٥.

٢١٠

تصلّي على محمّد واله، وأن تفرِّج عن محمّد وآله، وتجعل فرجي مقروناً بفرجهم، وتبدأ بهم فيه، وتفتح أبواب السّماء لدعائي في هذا اليوم، وتأذن في هذا اليوم وهذه اللَّيلة بفرجي وإعطاء سؤلي وأملي في الدّنيا والآخرة، فقد مسّني الفقر ونالني الضّرّ وشملتني الخصاصة، وألجأتني الحاجة، وتوسّمت بالذّلّة، وغلبتني المسكنة، وحقّت علي الكلمة، وأحاطت بي الخطيئة، وهذا الوقت الذي وعدت أولياءك فيه الإجابة.

فصلّ على محمّد وآله، وامسح ما بي بيمينك الشّافية، وانظر إليّ بعينك الرّاحمة، وأدخلني في رحمتك الواسعة، وأقبل إليّ بوجهك الّذي إذا أقبلت به على أسيرٍ فككته، وعلى ضالٍّ هديته، وعلى حائرٍ أذّيته، وعلى فقير أغنيته، وعلى ضعيف قوّيته، وعلى خائف آمنته؛ ولا تخلّني لقاً لعدوّك وعدوّي، يا ذا الجلال والإكرام.

يا مَن لا يعلم كيف هو، وحيث هو، وقدرته إلاّ هو، يا مَن سدّ الهواء بالسّماء، وكبس الأرض على الماء، واختار لنفسه أحسن الأسماء، يا مَن سمّى نفسه بالاسم الذي به يقضي حاجة كلّ طالب يدعوه به، أسألك بذلك الاسم، فلا شفيع أقوى لي منه، وبحقّ محمّد وآل محمّد أن تصلّي على محمّد وآل محمّد، وأن تقضي لي حوائجي، وتسمع محمّداً وعليّاً وفاطمة والحسن والحسين وعليّاً ومحمّداً وجعفراً وموسى وعليّاً ومحمّداً وعليّاً والحسن والحجّة - صلوات الله عليهم وبركاته ورحمته (١) - صوتي، فيشفعوا لي إليك، وتشفّعهم فيّ، ولا تردّني خائباً، بحقّ لا إله إلاّ أنت، وبحقّ محمّدٍ وآل محمّد، وافعل بي كذا وكذا يا كريم(٢) .

____________________

(١) وفي نسخة: صلواتك عليهم وبركاتك ورحمتك.

(٢) مصباح المتهجّد: ص ٢٦٦.

٢١١

٩ - وقال السيد ابن طاووس الحلّي: روى صفوان قال: دخل محمد بن علي الحلبي على أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام في يوم الجمعة فقال له: تعلّمني أفضل ما أصنع في مثل هذا اليوم؟

فقالعليه‌السلام : يا محمّد ما أعلم أحداً كان أكبر عند رسول الله من فاطمة، ولا أفضل ممّا علّمها أبوها محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن أصبح يوم الجمعة فاغتسل وصفَّ قدميه وصلّى أربع ركعات مثنى مثنى، يقرأ في أوّل ركعة الحمد والإخلاص خمسين مرّة، وفي الثانية فاتحة الكتاب والعاديات خمسين مرّةً، وفي الثالثة فاتحة الكتاب وإذا زلزلت الأرض خمسين مرّةً، وفي الرابعة فاتحة الكتاب وإذا جاء نصر الله والفتح خمسين مرّة - وهذه سورة النصر وهي آخر سورة نزلت - فإذا فرغ منها دعا، فقال (١) :

(إلهي وسيّدي، مَن تهيّأ أو تعبّأ أو أعدّ أو استعدّ لوفادة إلى مخلوق رجاء رفده وفوائده ونائله وفواضله وجوائزه، فإليك يا إلهي كانت تهيئتي وتعبيتي وإعدادي واستعدادي رجاء رفدك ومعروفك ونائلك وجوائزك، فلا تحرمني ذلك، يا مَن لا يخيب عليه مسألة السّائل، ولا تنقصه عطيّة نائل فإنّي لم آتك بعملٍ صالحٍ قدّمته، ولا شفاعة مخلوق رجوته، أتقرّب إليك بشفاعة محمّد وأهل بيته صلواتك عليهم أجمعين، أرجو عظيم عفوك الذي عفوت به على الخاطئين عند عكوفهم على المحارم فلم يمنعك طول عكوفهم على المحارم أن عدت عليهم بالمغفرة، وأنت سيّدي العوّاد بالنّعماء، وأنا العواد بالخطاء، أسألك بمحمّد وآله الطّاهرين أن تغفر لي

____________________

(١) جزاء الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه.

٢١٢

الذنب العظيم، فإنّه لا يغفر ذنبي العظيم إلاّ العظيم، يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيم (١) .

والأحاديث في عبادة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام كثيرة، خاصة الأدعية التي كانت تناجي بها ربّها، ولا أراني بحاجة إلى المزيد من التحدّث عن عبادتها، وكثرة شوقها ورغبتها إلى الصلاة، ومدى إقبال قلبها إلى المناجاة مع الله تعالى، فهي بنت أوّل العابدين، الذي كان يقف على قدميه للعبادة طيلة ساعات طوال حتى نزل عليه قوله تعالى:( طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ) .

وهي التي عرفت معنى العبادة وقيمة العبادة بمقدار معرفتها بعظمة الله تعالى؛ فلا عجب إذا كانت السيدة فاطمة تستلذ من العبادة، وترتاح نفسها حين الوقوف بين يدي الله عزّ وجل، والتذلّل والخضوع لربّها، وكأنّها لا تتعب من القيام والركوع والسجود.

____________________

(١) (جمال الأسبوع) ص ١٣٢ - ١٣٣.

٢١٣

تَسبيح فَاطِمَة الزهْرَاءعليها‌السلام

رُوي عن الإمام علي (صلوات الله عليه) أنّه قال لرجل من بني سعد: ألا أُحدّثك عنّي وعن فاطمة؟ إنّها كانت عندي وكانت أحب أهله إليه (١) وإنّها استقت بالقربة حتى أثَّر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت(٢) يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت(٣) ثيابها، فأصابها من ذلك ضرر شديد، فقلت لها: لو أتيتِ أباك فسألتيه خادماً يكفيك حرَّ ما أنتِ فيه من هذا العمل.

فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فوجدت عنده حُدّاثا ً(٤) فاستحت فانصرفت

قال: فعلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّها جاءت لحاجة. قال: فغدا علينا ونحن في لفاعنا(٥) فقال: السلام عليكم. فسكتنا(٦) واستحيينا لمكاننا.

ثم قال: السلام عليكم. فسكتنا. ثم قال: السلام عليكم. فخشينا إن لم نردّ عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك يسلّم ثلاثاً فإن أُذن له وإلاَّ انصرف. فقلت: وعليك السلام يا رسول الله أُدخل.

____________________

(١) أحبّ أهله أي أهل رسول الله بقرينة المقام.

(٢) مجلت: ثخن جلدها.

(٣) دكنت: اغبرت واتسخت.

(٤) حُدّاث: جماعة يتحدثون.

(٥) لفاع: لحاف.

(٦) السلام إذا كان للاستئذان لا يجب ردّه، والله العالم.

٢١٤

فلم يعدُ أن جلس عند رؤوسنا فقال: يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟

قالعليه‌السلام : فخشيت إن لم تجبه أن يقوم فأخرجت رأسي فقلت: أنا - والله - أخبرك يا رسول الله! إنّها استقت بالقربة حتى أثَّرت في صدرها وجرّت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألتيه خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من العمل.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفلا أعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما فسبّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين. قال: فأخرجت عليها‌السلام رأسها فقالت: رضيت عن الله ورسوله، رضيت عن الله ورسوله، رضيت عن الله ورسوله (١) .

وعن دعائم الإسلام عن عليعليه‌السلام قال: أهدى بعض ملوك الأعاجم رقيقاً(٢) فقلت لفاطمة اذهبي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستخدميه خادماً، فأتته فسألته ذلك...

فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا فاطمة أعطيك ما هو خير لك من خادم ومن الدنيا بما فيها:

تكبّرين الله بعد كل صلاة أربعاً وثلاثين تكبيرة، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين تحميدة، وتسبّحين الله ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، ثم تختمين ذلك بلا إله إلاّ الله، وذلك خير لك من الذي أَردت ومن الدنيا وما فيها.

____________________

(١) بحار الأنوار ج ٤٣.

(٢) الرقيق: العبيد والجواري يطلق على المفرد والجمع.

٢١٥

فلزمت (صلوات الله عليها) هذا التسبيح بعد كل صلاة، ونسب إليها هذا التسبيح، فيقال: تسبيح فاطمة(١) .

كما عن قرب الإسناد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال: يا أبا هارون إنّا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمةعليها‌السلام كما نأمرهم بالصلاة فألزمه، فإنّه لم يلزمه عبد فشقي(٢) .

وفي مكارم الأخلاق ص ٣٢٨: أنّ فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت سُبحتها من خيط صوف مفتّل، معقود عليه عدد التكبيرات، فكانت تديرها بيدها، تكبّر وتسبّح، إلى أن قُتل حمزة بن عبد المطلبرضي‌الله‌عنه سيّد الشهداء، فاستعملت تربته، وعملت التسابيح فاستعملها الناس، فلما قُتل الحسين (صلوات الله عليه) عُدل بالأمر إليه، فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزية.

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : وتكون السبحة بخيوط زرق، أربعاً وثلاثين خرزة، وهي سبحة مولاتنا فاطمةعليها‌السلام لما قُتل حمزة عملت من طين قبره سبحة تسبّح بها بعد كل صلاة.

وقال الإمام الباقرعليه‌السلام : (ما عُبد الله بشيء من التمجيد أفضل من تسبيح فاطمة، ولو كان شيء أفضل لنَحلَه رسول الله فاطمة)(٣) .

وعن الإمام أبي عبد الله (الصادق)عليه‌السلام قال: من سبَّح تسبيح فاطمةعليها‌السلام فقد ذكر الله ذكراً كثيراً(٤) .

____________________

(١) كتاب دعائم الإسلام، وفي البحار ج ٤٣.

(٢) كتاب قرب الإسناد وفي البحار ج ٤٣.

(٣) بحار الأنوار ج ٤٣ ص ٦٤.

(٤) تفسير مجمع البيان ج ٨ في تفسير قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً ) . وذكره العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ج ٤٣.

٢١٦

هذا... والروايات في فضل تسبيح فاطمةعليها‌السلام كثيرة ومختلفة في كيفيتها، وفي بعض الروايات: التكبير ثم التسبيح ثم التحميد، وهذا هو الأشهر والأقوى عند فقهائنا.

وقد ذكر شيخنا المجلسي أقوال الفقهاء وآرائهم حول الترتيب والتقديم والتأخير بصورة مفصّلة(١) .

لقد اتضح لنا من هذه الأحاديث أنّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام مع جلالة قدرها وعظم شأنها وشرف نسبها كانت تقوم بأعمال البيت، وتدير أمور البيت بنفسها، وكان عليعليه‌السلام يعينها ويتعاون معها، كما في البحار، عن جامع الأخبار، عن عليعليه‌السلام قال: دخل علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وفاطمة جالسة عند القدر وأنا أنقّي العدس.

قال: يا أبا الحسن.

قلت: لبّيك يا رسول الله.

قال: اسمع منّي، وما أقول إلاّ من أمر ربّي: ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلاّ كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة، صيام نهارها، وقيام ليلها... إلى آخر الحديث(٢) .

____________________

(١) بحار الأنوار ج ٨٥.

(٢) جامع الأخبار، وفي البحار ج ٤٣.

٢١٧

فاطمة الزهراءعليها‌السلام والعِلم

لقد عرفت - من مجموع هذه الأحاديث الماضية - أنّ السيدة الزهراءعليها‌السلام كانت أقرب إنسانة إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتصالها وارتباطها بالنبي هو اتصال وارتباط الجزء بالكل، وارتباط بعض الشيء بالبعض الآخر، فالحب والعطف والانسجام والعلاقات الودّية قد بلغت إلى أقصى درجة...

فلا عجب إذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعلّم ابنته أفضل الأعمال، ويرشدها إلى أحسن الأخلاق، ويفيض عليها أحسن المعارف وأرقاها.

والزهراءعليها‌السلام تلتهم العلوم الربّانية من ذلك النبع العذب الزلال، وتمتص رحيق الحقيقة من مهبط الوحي، فيمتلئ قلبها الواعي الواسع بأنواع الحكمة، ويساعدها عقلها الوقّاد، وذكاؤها المفرط على فهم المعاني ودرك المفاهيم، وحفظ المطالب على أتمّ وجه وأكمل صورة.

لقد سمعتْ من أبيها الرسول الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكثير الكثير من العلوم، وتعلّمت منه القدر الغزير من الأحكام والأدعية والأخلاق والحِكَم.

هذا كلّه... بالإضافة إلى ما ألهمها الله تعالى من العلم والمعرفة.

وقد مرَّ عليك بعض التفصيل عند التحدّث عن اسمها: (المحدّثة) .

وروى جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله (صلّى الله عليه

٢١٨

وآله وسلّم) أنّه قال: (إنّ الله جعل عليّاً وزوجته وأبناءه حجج الله على خلقه، وهم أبواب العِلم في أُمّتي، مَن اهتدى بهم هُدي إلى صراط مستقيم)(١) .

ولكنّ المؤسف حقّاً أنّه قد رُوي عنها القليل، حسَب ظروفها الخاصة، ولما ستعرفه قريباً.

ولو كانت الزهراءعليها‌السلام تعيش أكثر ممّا عاشت - مع فسح المجال أمامها - لملأت الدنيا علماً وثقافة ومعرفة.

وليس هذا ادّعاءاً فارغاً، بل هو الواقع الذي لا شكّ فيه.

فقد وجدت السيدة الزهراء المجال في حياتها ساعتين فقط: ساعةً خطبت فيها في مسجد أبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وساعةً خطبت في بيتها في جمع النساء اللاّتي حضرن لعيادتها.

وستعرف قريباً مدى مواهبها وسعة اطّلاعها، وكثرة معلوماتها، ومقدار قدرتها على الأداء والشرح والبيان.

ولكنّها - أسَفي عليها - ما عاشت إلاّ يسيراً، وقد عرفت تاريخ ميلادها وستعرف تاريخ وفاتها، وستعرف أنّها ماتت ولم تبلغ العشرين من العمر!!

فما تقول لو كانت الزهراء تعيش حتى تبلغ الخمسين والستين من العمر مع فسح المجال؟!

لكانت تترك للأُمّة الإسلامية أعظم ثروة فكريَّة وعلمية في شتّى المواضيع والفنون!!

ولكن...؟!

____________________

(١) شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج ١ ص ٥٨.

٢١٩

أيّها القارئ الكريم: إليك الآن بعض ما رُوي عنها من الأحاديث الشريفة:

١ - عن تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام قال: حضرت امرأة عند الصدِّيقة فاطمة الزهراءعليها‌السلام فقالت: إنّ لي والدة ضعيفة وقد لبس - أي: اشتبه - عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألكِ، فأجابتها فاطمةعليها‌السلام عن ذلك، فثنّت(١) فأجابت(الزهراء) ، ثم ثلّثت إلى أن عشّرت(٢) فأجابت، ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشقّ عليكِ يا ابنة رسول الله.

قالت فاطمة: هاتي وسلي عمّا بدا لكِ، أرأيت من أكتُرِيَ (أي استؤجِر) يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراه (أي أجرته) مائة ألف دينار يثقل عليه؟

فقالت: لا.

فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، فأحرى أن لا يثقل عليَّ؛ سمعت أبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: إنّ علماء شيعتنا يُحشرون، فيُخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجِدّهم في إرشاد عباد الله، حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور، ثم ينادي منادي ربّنا عزّ وجل: أيّها الكافلون لأيتام محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمّتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم، فاخلعوا

____________________

(١) أي: جاءت المرأة مرَّة ثانية أو سألت مرّة أخرى.

(٢) أي: جاءت مرة عاشرة، أو: سألت عشر مرات.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

وأقول :

ما ذكره من اتّفاق العلماء على أنّ الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجّح ، خطأ ظاهر ، فإنّ قومه ـ وهم الأشاعرة ـ لا يوافقون عليه ، ويزعمون أنّ بقاء الممكن الموجود ، وعدم الممكنات الأزلي ، لا يحتاجان إلى مرجّح وسبب.

ولذا قالوا : إنّ المحوج إلى السبب هو الحدوث ، أي خروج الممكن من العدم إلى الوجود ، لا الإمكان(١) .

ولكن غرّ الخصم أنّه رأى في أوّل مباحث الممكن من « المواقف » وشرحها دعوى ضرورية حاجة الممكن إلى السبب بالتقرير الذي ذكره الخصم ، ولم يلتفت إلى أنّهما ذكرا ذلك عن الحكماء القائلين بأنّ المحوج إلى السبب هو الإمكان(٢) ، خلافا للأشاعرة.

ولذا بعدما ذكرا عن الحكماء أنّ الحكم مركوز في طباع البهائم ، ولذا تنفر من صوت الخشب ، أوردا عليه بقولهما : « قلنا ذلك ، أي نفورها لحدوثه لا لإمكانه ، فإنّه لمّا حدث الصوت بعد عدمه ، تخيّلت البهائم أن لا بدّ له من محدث ، لا أنّها تخيّلت تساوي طرفي الصوت ، وأن لا بدّ هناك من مرجّح »(٣) .

ولو سلّم الاتّفاق على حاجة الممكن إلى السبب ، وعلى أنّه يمتنع

__________________

(١) شرح المقاصد ٢ / ١٥.

(٢) انظر : المواقف : ٧١ ، شرح المواقف ٣ / ١٣٥ ـ ١٣٦.

(٣) المواقف : ٧١ ، شرح المواقف ٣ / ١٣٧.

٢٨١

ترجّح أحد طرفيه بدون مرجّح فهو خارج عمّا نحن فيه ؛ لأنّ كلام المصنّف في إمكان ترجيح الفاعل لأحد الطرفين بلا مرجّح كما هو مذهب جماعة ومنهم الأشاعرة.

ولذا قال في « المواقف » في البحث عن أفعال العباد ، بعدما ذكر الدليل المذكور الذي نقله المصنّف عن الأشاعرة : « واعلم أنّ هذا الاستدلال إنّما يصلح إلزاما للمعتزلة ، القائلين بوجوب المرجّح في الفعل الاختياري ؛ وإلّا فعلى رأينا يجوز الترجيح بمجرّد تعلّق الاختيار بأحد طرفي المقدور ، فلا يلزم من كون الفعل بلا مرجّح كونه اتّفاقيا »(١) .

بل يستفاد من هذا ـ لا سيّما قوله : « يجوز الترجيح بمجرّد تعلّق الاختيار » ـ جواز ترجيح المرجوح على الراجح فضلا عن المساوي ، كما يدلّ عليه أيضا تجويزهم تقديم المفضول على الفاضل في مسألة الإمامة(٢) ، وتجويزهم عقلا أن يعذّب الله الأنبياء ويثيب الفراعنة والأبالسة(٣) ، وقولهم : لا يجب على الله شيء ولا يقبح منه شيء(٤) ، وحينئذ فما أجاب به الخصم عن مثال الرغيفين ونحوه غير صحيح عند أصحابه.

وأمّا ما أجاب به عن الوجه الرابع ، فمن الجهل أيضا ؛ لأنّ المصنّف

__________________

(١) المواقف : ٣١٣.

(٢) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ٢ / ٢٩٦ ، المواقف : ٤١٢ ، شرح المقاصد ٥ / ٢٤٧.

(٣) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ١١٥ ـ ١١٦ ، تمهيد الأوائل : ٣٨٥ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ١٣٤.

(٤) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٥ ، المواقف : ٣٢٨ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٩٤.

٢٨٢

لم ينكر أنّ القول بكون القدرة غير صالحة للضدّين يوجب عدم القدرة على الترك بعد فرض تعلّقها بالفعل ، وإنّما يقول : إنّ القول بهذا القول مناف للاستدلال بذلك الدليل ؛ لأنّ الاستدلال به مبنيّ على جواز تعلّق القدرة بالضدّين ، وهم لا يقولون بتعلّقها بهما.

وأمّا ما ذكره من أنّ قول المصنّف : « إن خالفوا مذهبهم من تعلّقها بالضدّين لزمهم شيء يخترعه من عند نفسه ثمّ يجعله محذورا »

ففيه : إنّ هذا القول من المصنّف جواب عن سؤال مقدّر ، وهو : إنّ ما ذكرته من منافاة الدليل لمذهبهم مبنيّ على التزامهم هنا بقولهم بعدم جواز تعلّق القدرة بالضدّين ، فلعلّهم خالفوا هنا ذلك وأجازوا تعلّقها بهما.

فقال : وإن خالفوا ذلك لزمهم محذور آخر ، وهو اجتماع الضدّين أو تقدّم القدرة على الفعل ، وكلاهما مخالف لمذهبهم.

وهذا ليس من باب اختراع النسبة إليهم ، كما توهّمه الخصم وأبان به وبما قبله عن جهله بمقاصد المصنّف وبمذهبهم ، وعن سرقته لكلام « المواقف » وشرحها من دون معرفة بمخالفته لمذهبهم ، وبعدم انطباقه على المورد!!

* * *

٢٨٣

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ (١) :

وفي الثاني من وجهين :

الأوّل : العلم بالوقوع تبع الوقوع فلا يؤثّر فيه ، فإنّ التابع إنّما يتبع متبوعه ويتأخّر عنه بالذات ، والمؤثّر متقدّم.

الثاني : إنّ الوجوب اللاحق لا يؤثّر في الإمكان الذاتي ، ويحصل الوجوب باعتبار فرض وقوع الممكن ، فإنّ كلّ ممكن على الإطلاق إذا فرض موجودا ، فإنّه حالة وجوده يمتنع عدمه ، لامتناع اجتماع النقيضين ، وإذا كان ممتنع العدم كان واجبا ، مع أنّه ممكن بالنظر إلى ذاته.

والعلم حكاية عن المعلوم ومطابق له ، إذ لا بدّ في العلم من المطابقة ، فالعلم والمعلوم متطابقان ، والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم ، فإنّه لولاه لم يكن علما به.

ولا فرق بين فرض الشيء وفرض ما يطابقه ، بما هو حكاية عنه ، وفرض العلم هو بعينه فرض المعلوم.

وقد عرفت أنّ مع فرض المعلوم يجب ، فكذا مع فرض العلم به.

وكما إنّ ذلك الوجوب لا يؤثّر في الإمكان الذاتي ، كذا هذا الوجوب ، ولا يلزم من تعلّق علم الله تعالى به وجوبه بالنسبة إلى ذاته ، بل بالنسبة إلى العلم.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٣.

٢٨٤

وقال الفضل (١) :

قد ذكرنا أنّ هذه الحجّة أوردها الإمام الرازي على سبيل الفرض الإجمالي ، في « مبحث التكليف والبعثة »(٢) ، وهذا صورة تقريره :

« ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد ، وإلّا جاز انقلاب العلم جهلا وما علم الله وجوده من أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد ، وإلّا جاز الانقلاب.

ولا مخرج عنهما لفعل العبد ، وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع ، فيبطل حينئذ التكليف وأخواته ؛ لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم.

فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال ، فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء ».

قال الإمام الرازي : ولو اجتمع جملة العقلاء ، لم يقدروا أن يوردوا على هذا حرفا إلّا بالتزام مذهب هشام ، وهو أنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها »(٣) .

وقال شارح « المواقف » : « واعترض عليه بأنّ العلم تابع للمعلوم ، على معنى أنّهما يتطابقان ، والأصل في هذه المطابقة هو المعلوم ، ألا يرى إلى صورة الفرس مثلا على الجدار ، إنّما كانت على الهيئة المخصوصة ؛ لأنّ

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٠٨.

(٢) تقدّم عن الفخر الرازي وغيره كما في الصفحة ٢٦٧ ه‍ ١.

(٣) الأربعين في أصول الدين ١ / ٣٢٨.

٢٨٥

الفرس في حدّ نفسه هكذا ، ولا يتصوّر أن ينعكس الحال بينهما.

فالعلم بأنّ زيدا سيقوم غدا مثلا ، إنّما يتحقّق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه ، دون العكس ، فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه ، وسلب القدرة والاختيار ، وإلّا لزم أن لا يكون تعالى فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما »(١) ، انتهى كلام شارح « المواقف ».

وظهر أنّ الرجل السارق الحلّي سرق هذين الوجهين من كلام أهل السنّة والجماعة وجعلهما حجّة عليهم.

وجواب الأوّل من الوجهين : إنّا لا ندّعي تأثير العلم في الفعل ـ كما ذكرنا ـ حتّى يلزم من تأخّره عن المعلوم عدم تأثيره ، بل ندّعي انقلاب العلم جهلا(٢) ، والتابعيّة لا تدفع هذا المحذور ؛ لما ستعلم.

وجواب الثاني من الوجهين : إنّا نسلّم أنّ الفعل الذي تعلّق به علم الواجب في الأزل ممكن بالذات ، واجب بالغير.

والمراد حصول الوجوب الذي ينفي الاختيار ويصير به الفعل اضطراريا ، وهو حاصل ، سواء كان الوجوب بالذات أو بالغير.

وأمّا جواب شارح « المواقف » فنقول : لا نسلّم أنّ العلم مطلقا تابع للمعلوم ، بل العلم الانفعالي الذي يتحقّق بعد وقوع المعلوم هو تابع للمعلوم.

وإن أراد بالتابعيّة التطابق ، فلا نسلّم أنّ الأصل في المطابقة هو

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٥٥ ـ ١٥٦.

(٢) تقدّم في الصفحة ٢٦٥.

٢٨٦

المعلوم في العلم الفعلي ، بل الأمر بالعكس عند التحقيق ، فإنّ علم المهندس الذي يحصل به تقدير بناء البيت ، هو الأصل والعلّة لبناء البيت ، والبيت يتبعه ، فإن خالف شيء من أجزاء البيت ما قدّر المهندس في علمه الفعلي ، لزم انقلاب العلم جهلا.

وأنت تعلم أنّ علم الله تعالى بالموجودات التي ستكون هو علم فعليّ ، كعلم المهندس الذي يحصل من ذاته ثمّ يطابقه البيت.

كذلك علم الله تعالى هو سبب حصول الموجودات على النظام الواقع ، ويتبعه وجود الممكنات ، فإن وقع شيء من الكائنات على خلاف ما قدّره علمه الفعلي في الأزل ، لزم انقلاب العلم جهلا ، وهذا هو التحقيق!

* * *

٢٨٧

وأقول :

تقدّم أنّ إيراد الرازي له على سبيل النقض لا ينافي اتّخاذ الأشاعرة له دليلا ، كما نقله عنهم من هو منهم ، وهو القوشجي كما مرّ(١) .

وأمّا ما ادّعاه من ظهور سرقة المصنّف للجوابين بسبب ما نقله عن شارح « المواقف » ، فمن المضحكات ؛ لأنّ تصنيف « شرح المواقف » متأخّر عن تصنيف المصنّف لهذا الكتاب بنحو من مائة سنة ، فإنّ السلطان محمّد خدابنده تشيّع سنة سبع بعد السبعمائة ، وصنّف له هذا الكتاب(٢) ، وكان تصنيف « شرح المواقف » سنة سبع بعد الثمانمائة ، كما ذكره الشارح في آخر شرحه(٣) .

على أنّ الجواب الثاني من خواصّ هذا الكتاب ، إذ لم يذكر في « شرح المواقف » ولا غيره.

ولو كان واحد من الجوابين من كلام الأشاعرة لما خفي على صاحب « المواقف » ، فإنّ عادته جمع كلامهم وكلام غيرهم ، سوى كثير من كلمات أهل الحقّ! فلمّا لم يطلع عليهما علم أنّهما من خواصّ خصومهم ، كما هي

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٢٦٧ من هذا الجزء.

(٢) انظر : نهج الحقّ : ٣٨ مقدّمة العلّامة الحلّي ؛ وانظر : أعيان الشيعة ٩ / ١٢٠ ، الذريعة ٢٤ / ٤١٦ رقم ٢١٨٣.

(٣) شرح المواقف ٨ / ٤٠١.

وقد كانت وفاة العلّامة الحلّي 1 كانت في سنة ٧٢٦ ه‍ ، وتوفّي الإيجي مؤلّف « المواقف » في سنة ٧٥٦ ه‍ ، فيما كانت وفاة الجرجاني شارح « المواقف » في سنة ٨١٢ ه‍.

٢٨٨

عادتهم في ترك النظر بكلمات الإمامية ، رغبة عن الحقّ ، وتعصّبا لما هم عليه.

لكن لمّا كان لشارح « المواقف » حاشية على « شرح التجريد القديم »(١) ، اطّلع على الجواب الأوّل ، فذكره في « شرح المواقف »(٢) ؛ لأنّ شيخ المتكلّمين نصير الدين1 قد ذكره في « التجريد »(٣) ، فكان هذا الجواب من خواصّ نصير الدين ، والجواب الثاني منخواصّ المصنّف.

ثمّ إنّ ما أجاب به الخصم عن الأوّل بقوله : « بل ندّعي انقلاب العلم جهلا » غير نافع له ؛ لأنّ لزوم الانقلاب ما لم يكن العلم مؤثّرا لا يوجب سلب تأثير قدرة العبد كما هو مدّعاهم ، وإنّما يوجب أن يقع ما علم الله تعالى على الوجه الذي علمه من الاختيار أو الاضطرار ، كما إنّ صدق الصدق في الأخبار إنّما يقتضي ذلك.

وأمّا ما أجاب به عن الثاني

ففيه : إنّ الوجوب بالغير ، الحاصل من فرض وقوع الممكن

__________________

(١) هو الشرح المسمّى « تشييد القواعد » أو « تسديد القواعد في شرح تجريد العقائد » تأليف : شمس الدين محمود بن عبدالرحمن بن أحمد الأصفهاني ، المتوفّى سنة ٧٤٦ ه‍.

وتسميته بالشرح القديم لا لكونه أقدم الشروح ، بل لتقدّمه على « شرح التجريد » المعروف ب‍ « الشرح الجديد » ، للشيخ علاء الدين عليّ بن محمّد القوشجي ، المتوفّى سنة ٨٧٩ ه‍.

وقد كتب شارح « المواقف » السيّد الشريف عليّ بن محمّد الجرجاني ، المتوفّى سنة ٨١٦ ه‍ حاشية على الشرح القديم هذا ، اشتهرت باسم « حاشية التجريد ».

انظر : الذريعة ٣ / ٣٥٤ ، مقدّمة تجريد الاعتقاد : ٨٠ ، كشف الظنون ١ / ٣٤٦.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٥٥.

(٣) تجريد الاعتقاد : ١١٣ ـ ١١٤.

٢٨٩

بالاختيار ـ كما بيّنه المصنّف ـ لا يجعل الفعل اضطراريا ، وإلّا كان خلفا ، بل كثير من الوجوب أو الامتناع بالغير لا يسلب القدرة والاختيار ، كالظلم وفعل القبيح ، فإنّهما ممتنعان على الله تعالى لقبحهما ، وهو قادر مختار في تركهما.

وبالجملة : المدار في القدرة والاختيار على كون الفعل منوطا بإشاءة الفاعل وأفعال العباد كذلك ، غاية الأمر أنّ الله تعالى علم أنّهم يفعلون أفعالا ويتركون أفعالا بإشاءتهم للأمرين ، كما يعلم ذلك في حقّه تعالى ، وهو لا يوجب الخروج عن القدرة والاختيار.

وأمّا ما أورد به على الجواب الذي نقله شارح « المواقف »

ففيه : إنّه إن أراد بقوله : « إنّ علم الله تعالى بالموجودات فعليّ » أنّه سبب حقيقي مؤثّر فيها ، ومنها أفعالنا ، فهو باطل ألبتّة حتّى لو قلنا : إنّه تعالى فاعل لأفعالنا ؛ لأنّ المؤثّر فيها قدرته لا علمه.

وإن أراد به أنّ علمه شرط لها ، فلا يضرّنا تسليمه ، إذ لا يستدعي خروج أفعالنا عن قدرتنا ؛ لأنّ الأثر للفاعل ، لا للشرط.

والقوم يعنون بكون العلم الفعلي سببا لوجود المعلوم في الخارج ، أنّه دخيل في السببية من حيث كونه شرطا ، كعلم المهندس ، بخلاف العلم الانفعالي ، فإنّه ليس بشرط للمعلوم ، بل هو مسبّب ، أي : فرع عن وجود المعلوم ، كعلمنا بما وقع.

وبخلاف الفعلي والانفعالي أيضا الذي يعرّفونه بما ليس سببا لوجود المعلوم في الخارج ، ولا مسبّبا عنه ، كعلم الله سبحانه بذاته ، فإنّه بالاتّفاق عين ذاته ، ويختلفان بالاعتبار.

على أنّ الحقّ أنّ العلم الفعلي ليس شرطا لوجود المعلوم ، ضرورة

٢٩٠

أنّ العلم تابع للمعلوم ؛ لأنّه انكشاف الشيء وحضوره لدى العالم به ، فيكون وجود المعلوم واقعا متقدّما رتبة على العلم ؛ لكونه شرطا له أو بحكمه.

فلو كان العلم الفعلي شرطا أيضا لوجود المعلوم جاء الدور(١) ، فلا بدّ أن يكون العلم الفعلي كغيره ، ليس شرطا في وجود المعلوم.

نعم ، تصوّر الشيء شرط لإقدام العاقل الملتفت على إيجاد الشيء ، وهو أمر آخر ، ومنه تصوّر المهندس ، وهو غير العلم الفعلي المصطلح عليه بالعلم الحضوري

فإذا عرفت هذا ، عرفت ما في كلام الخصم من الخطأ ، فتدبّر!

* * *

__________________

(١) وبه قال الفخر الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٠٧.

٢٩١

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ (١) :

وأمّا المعارضة في الوجهين ، فإنّهما آتيان في حقّ واجب الوجود تعالى.

فإنّا نقول في الأوّل : لو كان الله تعالى قادرا مختارا فإمّا أن يتمكّن من الترك أو لا ، فإن لم يتمكّن من الترك كان موجبا مجبورا على الفعل ، لا قادرا مختارا.

وإن تمكّن ، فإمّا أن يترجّح أحد الطرفين على الآخر أو لا ، فإن لم يترجّح لزم وجود الممكن المساوي من غير مرجّح ، فإن كان محالا في حقّ العبد ، كان محالا في حقّ الله تعالى ، لعدم الفرق.

وإن ترجّح فإن انتهى إلى الوجوب لزم الجبر ، وإلّا تسلسل أو وقع المتساوي من غير مرجّح ، فكلّ ما تقولونه ها هنا نقوله نحن في حقّ العبد.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٤.

٢٩٢

وقال الفضل (١) :

ذكر صاحب « المواقف » هذا الدليل في كتابه ، وأورد عليه أنّ هذا ينفي كون الله تعالى قادرا مختارا ، لإمكان إقامة الدليل بعينه ، فيقال : لو كان الله موجدا لفعله بالقدرة استقلالا ، فلا بدّ أن يتمكّن من فعله وتركه ، وأن يتوقّف فعله على مرجّح ، إلى آخر ما مرّ تقريره.

وأجيب عن ذلك بالفرق بأنّ إرادة العبد محدثة ، أي الفعل يتوقّف على مرجّح هو الإرادة الجازمة ، لكن إرادة العبد محدثة ، فافتقرت إلى أن تنتهي إلى إرادة يخلقها الله تعالى فيه ، بلا إرادة واختيار منه ، دفعا للتسلسل في الإرادات التي تفرض صدورها عنه ، وإرادة الله تعالى قديمة فلا تفتقر إلى إرادة أخرى(٢)

فظهر الفرق واندفع النقض.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١١٣.

(٢) المواقف : ٣١٢ ـ ٣١٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٩ ـ ١٥١.

٢٩٣

وأقول :

هذا الجواب للرازي في « الأربعين » كما نقل عنه(١) .

وأورد عليه المحقّق الطوسيرحمه‌الله في « التجريد » بما مضمونه : إنّ التقسيم إلى الإرادتين ، والفرق بينهما بالحدوث والقدم ؛ لا يدفع الإشكال ؛ لأنّ الترك إن لم يمكن مع الإرادة القديمة كان الله تعالى موجبا لا قادرا مختارا.

وإن أمكن ، فإن لم يتوقّف فعله تعالى على مرجّح استغنى الجائز عن المرجّح.

وإن توقّف كان الفعل معه موجبا ، فيكون اضطراريا(٢) .

وسيأتي للكلام تتمّة عند القول في المعارضة الآتية.

* * *

__________________

(١) انظر : الأربعين في أصول الدين ١ / ٣٢٣.

(٢) تجريد الاعتقاد : ١٩٢ و ١٩٩.

٢٩٤

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ (١) :

ونقول في الثاني : إنّ ما علمه تعالى إن وجب ولزم بسبب هذا الوجوب خروج القادر منّا عن قدرته وإدخاله في الموجب ، لزم في حقّ الله تعالى ذلك بعينه ، وإن لم يقتض سقط الاستدلال.

فقد ظهر من هذا أنّ هذين الدليلين آتيان في حقّ الله تعالى ، وهما إن صحّا لزم خروج الواجب عن كونه قادرا ، ويكون موجبا.

وهذا هو الكفر الصريح ، إذ الفارق بين الإسلام والفلسفة هو هذه المسألة.

والحاصل : إنّ هؤلاء إن اعترفوا بصحّة هذين الدليلين لزمهم الكفر ، وإن اعترفوا ببطلانهما سقط احتجاجهم بهما.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٤.

٢٩٥

وقال الفضل (١) :

قد عرفت في كلام شارح « المواقف » أنّه ذكر هذا النقض ، وليس هو من خواصّه حتّى يتبختر به ويأخذ في الإرعاد والإبراق والطامّات.

والجواب :

أمّا عمّا يرد على الدليل الأوّل فهو : إنّ فعل الباري محتاج إلى مرجّح قديم يتعلّق في الأزل بالفعل الحادث في وقت معين.

وذلك المرجّح القديم لا يحتاج إلى مرجّح آخر ، فيكون الله تعالى مستقلّا في الفعل.

ولو قال قائل : إذا وجب الفعل مع ذلك المرجّح القديم كان موجبا لا مختارا.

قلنا : إنّ الوجوب المترتّب على الاختيار لا ينافيه بل يحقّقه.

فإن قلت : نحن نقول : اختيار العبد أيضا يوجب فعله ، وهذا الوجوب المترتّب على الاختيار لا ينافي كونه قادرا مختارا.

قلت : لا شكّ أنّ اختياره حادث ، وليس صادرا عنه باختياره ، وإلّا نقلنا الكلام إلى ذلك الاختيار ، وتسلسل ، بل عن غيره ، فلا يكون مستقلّا في فعله باختياره ، بخلاف إرادة الباري ، فإنّها مستندة إلى ذاته ، فوجوب الفعل بها لا ينافي استقلاله في القدرة عليه(٢) .

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١١٧.

(٢) شرح المواقف ٨ / ١٥١.

٢٩٦

وأمّا عمّا يرد على الدليل الثاني فهو : إنّ علم الله تعالى في ذاته مقارن لصفة القدرة والإرادة ، فإذا علم الشيء وتعلّق به علمه ، تعلّق به الإرادة والقدرة وخلق الموجودات.

وكلّ واحد من الصفات الثلاث يتعلّق بمتعلّقه من الأشياء ، وعلى كلّ ما تقتضيه ، فمقتضى العلم التعلّق من حيث الانكشاف ، ومقتضى الإرادة الترجيح ، ومقتضى القدرة صحّة وقوع الفعل والترك فلا يلزم الوجوب ؛ لأنّ صفة العلم لا تصادم صفة القدرة ، لأنّهما قديمتان حاصلتان معا ، بخلاف القدرة الحادثة ، فإنّ العلم القديم يصادمه ، ومقتضى العلم القديم يسلب عنه القدرة ، وهذا جائز في الصفات الحادثة بخلاف الصفات القديمة ، فليس ثمّة إيجاب.

تأمّل ، فإنّ هذا الجواب دقيق ، وبالتأمّل فيه حقيق.

وأمّا ما ذكره من لزوم الكفر ، فمن باب طامّاته وترّهاته ، وهذه مسائل علمية عملية يباحث الناس فيها ، فهو من ضعف رأيه وكثرة تعصّبه ينزله على الكفر والتفسيق ، نعوذ بالله من جهل ذلك الفسّيق.

* * *

٢٩٧

وأقول :

قد بيّنّا أنّ تصنيف المصنّف لهذا الكتاب قبل تصنيف « شرح المواقف » بنحو مائة سنة ، فلا ينافي كون هذا النقض من خواصّ المصنّف ، بل صنّف المصنّف هذا الكتاب سنة سبع بعد السبعمائة أو بعدها بقليل(١) ، والقاضي العضد حينئذ صبي ؛ لأنّه ولد بعد السبعمائة(٢) ، فيكون هذا الكتاب أسبق من « المواقف » فضلا عن شرحها بكثير.

وأمّا التبختر ، فالمصنّف أجلّ منه قدرا ، وإن حقّ له ؛ لأنّه أكثر الناس علما وتصنيفا.

ولا يبعد أنّه صنّف هذا الكتاب بنحو عشرة أيّام ، بحسب ما ذكر العلماء من كثرة تصانيفه وسرعته في تأليفها ، أجزل الله رحمته عليه وضاعف أجره.

وأمّا الإرعاد ، فلا يتوقّف على كون ذلك من خواصّه ، وإن كان قريبا ، بل يكفي فيه أن يكون من إفادات شيخه نصير الملّة والدين ، أو غيره من أصحابنا.

وأمّا ما أجاب به الخصم عن معارضة الدليل الأوّل

ففيه أوّلا : إنّ دعوى عدم صدور اختيار العبد منه بل من الله تعالى باطلة ؛ لما سبق تحقيقه(٣) من أنّ بعض آثار قدرة العبد صادرة عنه

__________________

(١) راجع ما مرّ آنفا في الصفحة ٢٨٨.

(٢) انظر : الدرر الكامنة ٢ / ١٩٦ رقم ٢٢٧٩ ، معجم المؤلّفين ٢ / ٧٦ رقم ٦٧٥٦.

(٣) تقدّم في الصفحة ١٢١ ـ ١٢٢ من هذا الجزء.

٢٩٨

بلا سبق إرادة ، كأكثر أفعال القوى الباطنة ، ومنها : الإرادة ، وبعض أفعال القوى الظاهرة ، كفعل الغافل والنائم ، فلا يتوقّف صدور الإرادة عن العبد بقدرته على إرادة أخرى حتّى يلزم التسلسل.

وثانيا : إنّ كون إرادة الله سبحانه مستندة إلى ذاته لا ينفي الجبر عن فعله على مذهبهم ؛ لأنّها من صفاته ، وصفاته بزعمهم صادرة عنه بالإيجاب ، فيكون فعله المترتّب عليها صادرا عنه بالإيجاب والجبر لا بالقدرة ، كما أشار إليه شارح « المواقف » بعد بيان ما ذكره الخصم في جواب معارضة الدليل الأوّل ، قال :

« لكن يتّجه أن يقال : استناد إرادته القديمة إلى ذاته بطريق الإيجاب دون القدرة ، فإذا وجب الفعل بما ليس اختياريا له ، تطرّق إليه شائبة الإيجاب »(١) .

وقد ترك الخصم ذكر هذا مع أنّ كلامه مأخوذ من « شرح المواقف » بعين لفظه ليروّج منه الباطل! فالله حسيبه.

وأمّا ما أجاب به عن معارضة الدليل الثاني

ففيه : مع أنّ مجرّد القدم لا يرفع دعوى التصادم لو صحّت ، أنّ الذي أوجب عندهم الجبر هو أنّ ما علم الله تعالى وجوده واجب ، وما علم عدمه ممتنع ، وإلّا لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وهذا جار في أفعال الله تعالى وأفعال العبد بلا فرق ، ولا دخل لحديث التصادم في رفعه أصلا.

هذا كلّه إذا قلنا بقدم إرادة الله تعالى المخالفة للعلم بالمصلحة كما يدّعيه الأشاعرة

__________________

(١) شرح الواقف ٨ / ١٥١.

٢٩٩

وأمّا إذا قلنا بحدوثها كما اختاره جماعة(١) ، ودلّ عليه كثير من الآيات ، كقوله تعالى :( إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) (٢) وقوله تعالى :

( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (٣) ونحوهما ، فإنّه حينئذ لا يبقى محلّ لجواب المعارضتين معا كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره من أنّ لزوم الكفر من باب طامّاته

ففيه : إنّه كيف لا يلزمهم الكفر وهي ـ كما قال الخصم ـ مسائل علمية عملية ، فإنّهم إذا التزموا بصحّة الدليلين ، وعملوا واعتقدوا بمقتضاهما ، كان الله تعالى عندهم موجبا لا قادرا مختارا ، وهو عين الكفر ، نعوذ بالله.

* * *

__________________

(١) انظر : المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٦ ق ٢ / ١٣٧ و ١٤٠ ، شرح الأصول الخمسة : ٤٤٠ ، الكشف عن مناهج الأدلّة ـ لابن رشد ـ : ٤٧.

(٢) سورة الإسراء ١٧ : ١٦.

(٣) سورة يس ٣٦ : ٨٢.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568