فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد10%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 248034 / تحميل: 11084
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي: أنا منك وأنت منّي، أو: أنت منّي وأنا منك(١) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : علي منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمنٍ من بعدي(٢) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث البعث بسورة البراءة المـُجمَع على صحّته: لا يذهب بها إلاّ رجل منّي وأنا منه(٣) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لحمك لحمي ودمك دمي والحق معك(٤) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من نبي إلاَّ وبه نظير في أُمته، وعلي نظيري(٥) .

أو ما صحّحه الحاكم وأخرجه الطبراني عن أم سلمة قالت: كان رسول الله إذا أُغضب لم يجترئ أحد أن يكلَّمه غير علي(٦).

أو قول عائشة: والله ما رأيت أحداً أحبُّ إلى رسول الله من علي ولا في الأرض امرأة كانت أحبُّ إليه من امرأته(٧).

أو قول بريدة وأُبي: أحب الناس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من النساء فاطمة، ومن الرجال علي(٨) .

____________________

(١) مسند أحمد ج٥ ص٢٠٤، الخصائص للنسائي ٣٦و٥١.

(٢) مسند أحمد ج٥ ص٣٥٦.

(٣) الخصائص للنسائي ٨ وغيره.

(٤) المحاسن والمساوئ ج١ ص٣١، مناقب الخوارزمي ٧٦، ٨٣، ٨٧.

(٥) الرياض النضرة ج٢ ص١٦٤.

(٦) الصواعق ٧٣، تاريخ الخلفاء للسيوطي ١١٦.

(٧) مستدرك الحاكم ج٣ ص١٥٤، الخصائص للنسائي ٢٩.

(٨) الخصائص للنسائي ٢٩، مستدرك الحاكم ج٣ ص١٥٥.

٢١

أو حديث جميع بن عمير، قال: دخلت مع عمّتي على عائشة فسألت: أي الناس أحب إلى رسول الله؟! قالت: فاطمة. فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علمت صوَّاماً قوَّاماً(١) .

وكيف كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقدِّم الغير على علي في الالتفات إليه؟! وهو أوّل رجل اختاره الله بعده من أهل الأرض لما اطَّلع عليهم، كما أخبر بهصلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة بقوله: إنّ الله اطّلع على أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبيّاً، ثم اطّلع الثانية فاختار بعلك فأوحى إليَّ فأنكحته واتخذته وصيّاً(٢) .

وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوك والآخر زوجك(٣).

إلى آخر ما ذكره شيخنا الأميني (عليه الرحمة) في سرد الأحاديث الصحيحة في تزييف أباطيل ذلك الكتاب التائه.

هذا، والتهجُّمات القاسية ضدَّ آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كثيرة جدّاً، وسنشير أيضاً إلى بعضها في المستقبل بمناسبة المقام إن شاء الله.

وقبل الخوض في صميم البحث لا بأس بذكر مقدّمة كمدخل في الموضوع.

____________________

(١) جامع الترمذي ٢ ص ٢٢٧ وجمع آخر.

(٣) الطبراني، كنز العمال ج٦ ص١٥٣، مجمع الزوائد ج٩ ص١٦٥.

(٤) مواقف الإيجي ص٨.

٢٢

وحيث إنّ التحدّث في هذا الكتاب إنّما هو عن شخصية فوق المستويات التي عرفها البشر؛ فلابدَّ من تمهيد أمور لعلّها تعتبر من (الماورائيات) فلا بأس، فالشخصية المترجمة عبقرية ماورائية، وسيتَّضح لك صدق هذا القول وصحّة هذا الكلام.

٢٣

قانون الوراثة

من الأمور الثابتة قديماً وحديثاً أنّ صفات الأبوين تنتقل إلى الطفل، وترتكز فيه منذ تكوُّنه في صلب أبيه إلى انتقاله إلى بطن أُمّه، ونشوّه ونُموِّه، وبعد الولادة والنموّ تظهر الصفات تدريجياً. بل وحتى الرضاع له تأثير عجيب في صفات الطفل المرتضع وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : (لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ الرضاع يعدي) وقد كتب الكثيرون حول هذا القانون تفاصيل كثيرة.

على ضوء هذا القانون ينبغي أن أذكر شيئاً من ترجمة حياة والديّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام كي نستنتج منها بعض جوانب العظمة التي أحاطت بالسيدة فاطمة من ناحية الوراثة، ولكنّ البحث سيطول، وينتقل الكتاب عن موضوعه إلى موضوع آخر، إلاَّ أنّنا نلخّص الكلام في هذه الجُمل الموجزة فنقول: سيّد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أطهر كائن وأشرف مخلوق، وأفضل موجود في العالم كلّه، لأجله خلق الله الكائنات، ولا يوجد في الكون شرف أو فضيلة أو مكرمة إلاَّ وأوفى نصيبٍ ممكنٍ منها متوفّر في الرسول العظيم.

هذه عصارة الخلاصة ممّا يمكن أن يقال في حق الرسول، وليس في هذا التعبير شيء من الغلوّ والمبالغة، بل هو كقولنا: الشمس مشرقة، والعسل حلو.

هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد انحدرت الزهراء

٢٤

من صلبه.

وأمّا السيّدة خديجة، فكانت امرأة بيضاء، طويلة حسناء، شريفة في قومها، عاقلة في أمورها، لها نصيب وافر من الذكاء، وبصيرة في الأمور، تعتمد على نفسها وشخصها، تدير عجلة التجارة بفكرها الوقَّاد، وتعرف مبادئ الاقتصاد والتصدير والاستيراد.

هذا بصفتها إنسان أو بصفتها امرأة.

وأمَّا بصفتها زوجة فقد بذلت تلك الآلاف المؤلّفة من أموالها لزوجها الرسول يتصرّف فيها حسب رأيه، وكان لأموال خديجة كل التأثير في تقوية الإسلام يومذاك؛ إذ كان الدين الإسلامي في دور التكوين، وكان بأمس الحاجة إلى المال، فقيّض الله للإسلام أموال خديجة، وبالفعل تحقّق الهدف.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما نفعني مالٌ قط مثل ما نفعني مال خديجة) وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يفك من مالها الغارم والعاني، ويحمل الكَلَّ، ويعطي في النائبة ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكّة، ويحمل من أراد منهم الهجرة، وكان ينفق منه ما شاء في حياتها، ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها(١) .

وبهذا يتضح كلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما قام ولا استقام الدين إلاّ بسيف علي ومال خديجة).

وكانت معاشرتها للرسول في حياتها الزوجية تستحق كل تقدير

____________________

(١) الأمالي للطوسي ج ٢ ص ٨٢.

٢٥

وتعظيم، ولهذا كان الرسول إذا ذكرها أو ذُكرت عنده بعد وفاتها ترحَّم عليها، وانكسر قلبه عليها وربّما جرت عبرته على خدّه حزناً عليها.

وذات يوم ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة فقالت عائشة: عجوز كذا وكذا قد أبدلك الله خيراً منها!! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أبدلني منها، لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدَّقتني حين كذّبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها، وحرمني ولد غيرها(١) .

____________________

(١) الاستيعاب.

٢٦

زواج الرّسُول الأعْظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

تزوّج الرسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله بالسيدة خديجة الكبرى وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي بنت أربعين سنة، وقيل: ستة وعشرين سنة(١) وقيل: ثمانية وعشرين سنة(٢) .

ويقال إنّها كانت قد تزوّجت قبل الرسول بزوجين متعاقبين، وقيل: بل كانت عذراء يوم تزوّجها الرسول(٣) ولكنّه غير مشهور.

لم يكن زواج الرسول بالسيدة خديجة يشبه الزواج المتعارف بين الناس، بل يعتبر هو الزواج الوحيد من نوعه، إذ لم يكن ذلك القِران الميمون نتيجة حُبٍ وغرام، بل لم يكن هناك دافع مادِّي أو ما يشبهه من الأغراض التي كثيراً تحدث في زواج العظماء من جوانب السياسة.

بل لم يكن هناك تناسب بين الرسول وبين السيدة خديجة من حيث الحياة الاقتصادية، فالرسول العظيم كان يعيش تحت كفالة عمِّه الفقير أبي طالب.

والسيدة خديجة هي أثرى وأغنى امرأة في مكّة، فهناك بون شاسع في مستوى المعيشة بين هذا وتلك.

____________________

(١) جنات الخلود.

(٢) بحار الأنوار ج٦.

(٣) البلاذري، وأبو القاسم في كتابيهما، والمرتضى في الشافي. وأبو جعفر في التلخيص، وابن شهرآشوب في المناقب.

٢٧

ولكن السيدة خديجة كانت قد علمت أو سمعت أنّ للرسول مستقبلاً متلألئاً واسع النطاق، ولعلَّ غلامها ميسرة هو الذي حدَّثها بما جرى للرسول في أثناء رحلته إلى الشام قصد التجارة بأموال خديجة، أو بلغها كلام راهب دير بُصرى قرب الشام في حق الرسول.

فهنا اقترحت السيدة خديجة قضية الزواج، وفاتحت الرسول، وطلبت منه أن يطلب يدها من والدها خويلد أو عمّها (على قولٍ).

لكنّ الرسول كان يفضِّل أن يتزوَّج بامرأة فقيرة تنسجم حياتها مع حياة الرسول، واعتذر من خديجة، وامتنع من تلبية طلبها لهذا السبب.

لكنّ السيدة خديجة العاقلة اللبيبة الفاضلة أجابته بأنّها تهب نفسها للنبي فهل يصعب عليها أن تبذل أموالها له، وتجعلها تحت تصرُّف الرسول؟

وطلبت من الرسول أن يرسل أعمامه إلى أبيها خويلد ليخطبوها.

فوجئ أعمام الرسول بهذا النبأ الوحيد من نوعه، واستولت الدهشة على عمّات الرسول حينما سمعن منه الخبر، إنّه لعجيب!!.

سيّدة تملك الآلاف من الأموال، ويعيش العشرات والمئات من العملاء والأجراء من بركات أموالها وتجارتها القائمة صيفاً وشتاءً، بين اليمن ومكّة وبين مكّة والشام.

سيدّة خطبها الأُمراء والأشراف فرفضتهم، سيّدة هكذا تقدِّم نفسها هبةً لشاب فقير يعيش تحت كفالة عمِّه الفقير أبي طالب.

٢٨

فيا ترى هل صدقت خديجة في تقديم نفسها للرسول؟ وهل لهذا الخبر نصيب من الحقيقة؟ قامت صفية بنت عبد المطلب (عمّة النبي) وتوجّهت إلى دار خديجة للتحقيق عن الخبر، وإذا بها تجد الترحيب والاستعداد بجميع معنى الكلمة.

٢٩

السَيّدة خَديجة على أبواب السعادة

رجعت صفية إلى إخوتها (أعمام النبي) وأخبرتهم بصدق الخبر، واستولت الفرحة على أعمام النبي، فرحة ممزوجة بالتعجّب والدهشة والذهول.

فإنّ خديجة خطبها الأمراء وأشراف العرب فرفضت ولم توافق، إذ إنّها لم ترهم لها أكفاءً، فما الذي دعاها إلى انتخاب هذا الزوج الفقير الذي لا يملك من حطام الدنيا تبراً، ولا من الأرض البسيطة شبراً؟ يا للعجب العجاب!.

قام أعمام النبي وقصدوا دار خديجة، وخطبوها من أبيها خويلد أو عمِّها، فامتنع ثم وافق بعد ذلك. ثم لابدَّ من تقديم مبلغ من المال صداقاً يليق بمقام خديجة، فكيف يمكن تحصيل هذا المال؟ ومن أين؟ ومَن الذي يتبرع بالصداق؟

وإذا بالسيدة خديجة تباغتهم مرّةً أُخرى، وتدفع إلى الرسول أربعة آلاف دينار هدية، وتطلب منه أن يجعل ذلك المبلغ صداقاً لها ويقدِّمه إلى أبيها خويلد.

وفي رواية: أنّ أبا طالب هو الذي دفع الصداق من ماله.

إن كانت السيدة خديجة تؤمن بالقيَم، وتضحّي بالمادة في سبيل تحصيل الشرف فإنّ أباها خويلد لم يكن يحمل هذه الفكرة، وكثيراً ما تجد التفاوت الكثير بين ثقافة الأب وابنه أو ابنته.

٣٠

وهذا الاختلاف في التفكير موجود بين طبقات الناس، وحتى بين الأخ وأخيه، والرجل وزوجته، والأب وما ولد.

كانت هذه المبادرة نادرة عجيبة جداً، فلم يعهد أحد في العرب أنّ المرأة تقدِّم الصداق لزوجها، فلا عجب إذا هاج الحسد بأبي جهل وقال: (يا قوم رأينا الرجال يمهرون النساء، وما رأينا النساء يمهرن الرجال).

فيجيبه أبو طالب مغضباً: (ما لك؟ يا لكع الرجال! مثل مُحمد يُحمل إليه ويُعطى، ومثلك يُهدي ولا يُقبل منه) أو قال: (إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوَّجوا إلاَّ بالمهر الغالي).

وتمَّ الزواج المبارك الميمون على أحسن ما يرام، وانتقل الرسول إلى دار السيدة خديجة، فكانت خديجة تشعر أنّها في أسعد أيام حياتها إذ إنّها وصلت إلى أغلى أمانيها وأحلى أحلامها.

وأنجبت السيدة خديجة أولاداً ماتوا كلّهم في أيام الصغر، وأنجبت بنات أربع: زينب وأُمّ كلثوم ورقية وفاطمة الزهراء، وكانت فاطمة أصغرهنَّ سنّاً وأجلَّهنَّ شأْناً وأعظمهنَّ قدراً. وهناك اختلاف بين المؤرّخين والمحدّثين حول البنتين الأوليين، فقيل: إنّهما ليستا من بنات النبي، والصحيح أنّهما من بناته وصلبه. وسيأتي الكلام حول ذلك في المستقبل بالمناسبة بإذن الله(١) .

____________________

(١) التقطنا تفاصيل زواج السيدة خديجة من بحار الأنوار ج ١٦.

٣١

كَلِمَة خَاطِفَة حَوْلَ (المـَاوَرَائيّات)

هذه هي السيدة خديجة الكبرى، وهذا بعض مناقبها وفضائلها التي تُعتبر كل فضيلة منها مثالاً رائعاً للإنسان الكامل، وهذه السيدة هي التي أنجبت السيدة فاطمة الزهراء، وأرضعتها اللبن الممزوج بالمواهب والفضائل.

وفاطمة الزهراء سليلة أبوين هذا بعض ما يتعلّق بحياتهما ومحاسنهما، وهذه نظرة خاطفة أو صورة مصغّرة يمكن لنا أن ننظر منها إلى عبقرية سيّدتنا فاطمة الزهراء؛ وبذلك تظهر لنا زاوية من حياتها على ضوء الوراثة.

وهناك حقائق ثابتة لا يمكن إنكارها، وقد صرّحت بذلك أحاديث شريفة كثيرة متواترة عن الرسول الأقدس وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام لم يكتشفها العلم الحديث، ولم تصل إليها الاكتشافات الحديثة بالرغم من سعتها وانتشارها، وبالرغم من وصولها إلى الذرّة فما فوقها وإلى الكواكب فما دونها.

تلك الحقائق لا مجال للآلات والمجاهر أن تغزوها وتحيط بها علماً، ولا طريق لعدسات المصوِّرين أن تلتقطها ولو بالأشعة البنفسجية وما فوق البنفسجية.

وتفشل دون إدراكها مقاييس الطبيعة والمنطق، فالحقيقة فوق إدراك المادة والموازين المنطقية، فلا تدرك بالحواس الخمس: (الباصرة، السامعة، الذائقة، الشامّة، اللامسة) بل هي من أسرار الله المـُودَعة في الكائنات، وإن شئت أن تسمّيها بـ (الماورائيات ) فلك ذلك.

٣٢

وقبل عرض تلك الحقائق لابدّ من تمهيد مقدّمة موجزة فنقول: إنّ النطفة التي تنعقد في الرحم ويتكوّن منها الجنين، تتكوّن من الدم، والدم يستخلص من الطعام بعد إنهاء عمليات الهضم والنضج والطبخ في المختبرات التي يحتويها الجسم، فلا شك أنّ النطفة المتكوّنة من الدم المستخلص من لحم الخنزير أو الخمر - مثلاً - تختلف عن النطفة المتكوّنة من الدم المستخلص من لحم الغنم أو ما أشبه ذلك؛ لأنّ نوعيّة هذا اللحم تختلف اختلافاً كبيراً عن نوعيّة ذاك، فكذلك تختلف منتجات كل واحد منهما.

وللطعام تأثير خاص في روح الإنسان ونفسه، فهناك أطعمة مفرِّحة للقلب، مهدئة للأعصاب، تخفّف عن توتّرها، وهناك أطعمة مفعولها عكس ذلك.

وللطعام الحلال والطاهر تأثير في نفس الإنسان وروحه، بعكس الطعام النجس كالخمر أو الحرام كالمسروق والمغصوب.

ونفس التأثير يظهر في النطفة التي تنعقد من الطعام الحلال أو الحرام، أو الطاهر أو النجس، ولو أردنا استعراض الشواهد وإقامة الأدلة والبراهين على ذلك لطال بنا الكلام وخرج الكتاب عن أسلوبه وموضوعه المقصود.

وعلى هذا الغرار فللطعام الذي يأكله الأبوان كل التأثير في توجيه الطفل وتسييره نحو الخير والشر؛ إذ من ذلك الطعام تتكوّن النطفة، ثم تنتقل من صلب الرجل إلى رحم زوجته، وتلتصق بجدار الرحم، وتنمو وتكبر حتى تكمل جنيناً تامّاً.

فالطعام من حيث النوعية ومن حيث الحكم الشرعي كالحلال والحرام، والطاهر، له تأثير عجيب مدهش في مصير الطفل، وكيفية تفكيره في الأمور واختيار الحياة الدينية، وتوجيهه نحو الاعتدال

٣٣

والاستقامة أو الانحراف والانجراف.

وكذلك الحالة النفسية الموجودة عند الزوجين عند العملية الجنسيّة لها كل التأثير في مقدّرات الطفل وحالاته ونفسيّاته في المستقبل.

فالخوف والقلق لهما أسوأ الأثر في مستقبل الطفل المسكين، وبالعكس الطمأنينة والهدوء النفسي له أحسن الأثر في الطفل.

كذلك الرغبة الملحّة والشوق الشديد يؤثّر في جمال الطفل وحسنه وذكائه، بينما عدم الرغبة وضعف الشهوة بسبب خلاف ذلك.

وانطلاقاً من هاتين النقطتين: نقطة تأثير الطعام ونقطة تأثير الحالة النفسية ننتقل بالقرّاء إلى طائفة من الأحاديث المتواترة، فقد ذكر شيخنا المجلسي (قدّس سرّه) في السادس من البحار هذا الحديث الشريف:

اعتزال النبي عن خديجة

... هبط جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فناداه: يا محمد! العليّ الأعلى يقرأ عليك السلام، وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحاً.

فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان لها محبّاً وبها وامقاً (محبّاً) فأقام النبي أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل، حتى إذا كان في آخر أيامه تلك. بعث إلى خديجة بعمّار بن ياسر وقال: قل لها: يا خديجة لا تظنّي أنّ انقطاعي عنك هجرة ولا قلى، ولكنّ ربّي أمرني بذلك لينفّذ أمره، فلا تظنّي يا خديجة إلاّ خيراً، فإنّ الله عزّ وجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مراراً.

فإذا جنّك الليل فأجيفي (ردّي) الباب، وخذي مضجعك من

٣٤

فراشك، فإنّي في منزل فاطمة بنت أسد.

فجعلت خديجة تحزن كل يوم مراراً لفقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا كان في كمال الأربعين هبط حبرئيل فقال: يا محمد! العليّ الأعلى يقرئك السلام وهو يأمرك أن تتأهّب لتحيَّته وتحفته.

طعام الجنّة

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جبرئيل وما تحفة ربّ العالمين وما تحيّته؟ فقال جبرئيل: لا علم لي.

فبينما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطّى بمنديل سندس أو إستبرق، فوضعه بين يدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقبل جبرئيلعليه‌السلام وقال: يا محمد، يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.

قال علي بن أبي طالبعليه‌السلام : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمـَن يرد من الأقطار، فلمّا كان في تلك الليلة أقعدني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على باب المنزل وقال: يا بن أبي طالب إنّه طعام محرَّم إلاّ عليَّ.

قال عليعليه‌السلام : فجلست على الباب، وخلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالطعام، وكشف الطبق، فإذا عذق من رطب، وعنقود من عنب، فأكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله منه شبعاً وشرب من الماء رياً، ومدّ يده للغسل، فأفاض الماء عليه حبرئيل، وغسل يده ميكائيل وتمندله إسرافيل، وارتفع فاضل (باقي) الطعام مع الإناء إلى السماء.

ثم قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليصلي فأقبل عليه جبرئيل وقال: الصلاة محرَّمة عليك

٣٥

في وقتك حتى تأتي إلى منزل خديجة فتواقعها، فإنّ الله عزّ وجلّ آلى (حلف) على نفسه أن يخلق من صلبك هذه الليلة ذرية طيّبة.

فوثب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى منزل خديجة.

قالت خديجة: وقد كنت قد ألفت الوحدة، فكان إذا جنّني الليل غطّيت رأسي، وسجفت (أرسلت) ستري وغلّقت بابي، وصلّيت وِردي، وأطفأت مصباحي، وآويت إلى فراشي؛ فلمّا كانت تلك الليلة لم أكن نائمة ولا بالمنتبهة إذ جاء النبي فقرع الباب، فناديت: مَن هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلاّ محمد؟

فنادى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة فإنّي محمد. قالت خديجة: فقمت مستبشرة بالنبي، وفتحت الباب، ودخل النبي المنزل، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهّر للصلاة ثم يقوم فيصلّي ركعتين يوجز فيهما، ثم يأوي إلى فراشه.

فلما كانت تلك الليلة لم يدعُ بالإناء ولم يتأهب للصلاة... بل كان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء، وأنبع الماء ما تباعد عنّي النبي حتى أحسست بثقل فاطمة في بطني... إلى آخره(١) .

نستفيد من هذا الحديث أموراً:

١ - إنّ الله تعالى أمر نبيّه أن يعتزل خديجة، وأن ينقطع عن رؤيتها لفترة حتى يزداد بها شوقاً ورغبة.

٢ - اشتغاله بالمزيد من العبادة للمزيد من روحانية النفس وسمّوها

____________________

(١) البحار ج١٦ / ٧٨.

٣٦

وتعاليها بسبب الاتصال بالعالم الأعلى.

٣ - إفطاره بالتحفة السماوية الطاهرة، السريعة التحوّل إلى النطفة بسبب لطافتها.

٤ - تكوّن النطفة من طعام سماوي لطيف، لا يشبه الأطعمة المادية.

٥ - التوجّه إلى دار خديجة فوراً استعداداً لانتقال النطفة مع تلك المقدّمات.

وقد ذكر هذا الحديث - من علماء العامّة - بتغيير يسير كلٌّ من:

١ - الخوارزمي في مقتل الحسين ص٦٣ و٦٨.

٢ - الذهبي في الاعتدال ج٢ ص٢٦.

٣ - تلخيص المستدرك ج٣ ص١٥٦.

٤ - العسقلاني في لسان الميزان ج٤ ص٣٦.

ثمّ هناك أحاديث كثيرة بهذا المعنى مع اختلافٍ يسير في ألفاظها، واتفاقها حول النقطة الجوهرية، وهي انعقاد نطفة السيدة فاطمة الزهراء من طعام الجنّة، ونذكر من بعض تلك الأحاديث الجملة المرتبطة بالموضوع رعايةً للاختصار، فنقول:

عن الإمام الرضاعليه‌السلام قال: قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : لما عُرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنّة فناولني من رطبها فأكلته، فتحوّل ذلك نطفةً في صلبي فلمّا هبطت واقعت خديجة، فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسيَّة، فكلّما اشتقت إلى رائحة الجنّة شممت رائحة ابنتي فاطمة(١) .

عن الإمام الباقرعليه‌السلام عن جابر بن عبد الله قال: قيل لرسول

____________________

(١) الأمالي للصدوق.

٣٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك لتلثم فاطمة وتلزمها وتدنيها منك... وتفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ جبرئيل أتاني بتفاحة من تفّاح الجنّة فأكلتها فتحوّل ماءً في صلبي، ثمّ واقعت خديجة فحملت بفاطمة؛ وأنا أشمّ منها رائحة الجنّة (١) .

وعن ابن عباس قال: دخلت عائشة على رسول الله وهو يقبِّل فاطمة، فقالت له: أتحبّها يا رسول الله؟ قال: أما والله لو علمت حبِّي لها لازددت لها حباً، إنّه لما عُرج بي إلى السماء الرابعة... إلى أن يقول: فإذا برطب ألين من الزبد، وأطيب من المسك، وأحلى من العسل، فأخذت رطبة فأكلتها فتحوّلت الرطبة نطفة في صلبي، فلمّا أن هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوارء إنسيّة، فإذا اشتقتُ إلى الجنّة شممتُ رائحة فاطمة(٢) .

وقد روى هذا الحديث بألفاظ مختلفة كلٌّ من:

١ - الخطيب البغدادي في تاريخه ج٥ ص٨٧.

٢ - الخوارزمي في مقتل الحسين ص٦٣.

٣ - محمد بن أحمد الدمشقي في ميزان الاعتدال ج١ ص٣٨.

٤ - الزرندي في (نظم درر السمطين).

٥ - العسقلاني في لسان الميزان ج٥ ص١٦٠.

٦ - القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة.

٧ - محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص٣٤.

____________________

(١) علل الشرائع.

(٢) البحار: ج ١٦.

٣٨

وهذه الأحاديث مرويّة عن: عائشة وابن عباس وسعيد بن مالك وعمر بن الخطاب.

٨ - وروى ذلك الشيخ شُعيب المصري في (الروض الفائق ص٢١٤) قال: (روى بعض الرواة الكرام: أنّ خديجة الكبرىرضي‌الله‌عنها تمنَّت يوماً من الأيام على سيّد الأنام أن تنظر إلى بعض فاكهة دار السلام، فأتى جبرئيل إلى المفضّل على الكونين من الجنّة بتفاحتين وقال: يا محمد يقول لك مَن جعل لكل شيء قدراً: كل واحدة وأطعم الأخرى لخديجة الكبرى، وأغشها، فإنّي خالق منكما فاطمة الزهراء. ففعل المختار ما أشار به الأمين وأمر... إلى أن قال: فكان المختار كلّما اشتاق إلى الجنّة ونعيمها قبَّل فاطمة وشمَّ طيب نسيمها، فيقول حين يستنشق نسمتها القدسية: إنّ فاطمة حوراء إنسية).

وهناك روايات متواترة بهذا المضمون، واكتفينا بما ذكرنا.

بقيت هنا كلمة لا بأس بالإشارة إليها، وهي أنّ الأحاديث كما تراها تصرّح بأنّ السيدة خديجة حملت بفاطمةعليها‌السلام بعد المعراج مباشرةً، وكان المعراج على ما هو المذكور في بعض كتب الحديث في السنة الثالثة من المبعث، وفي بعضها: في السنة الثانية وقيل غير ذلك.

وستأتيك طائفة من الأحاديث من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تصرّح بولادتها بعد المبعث بخمس سنين، ومعنى هذا أنّها بقيت في بطن أُمّها أكثر من عامين، وهذا غير صحيح قطعاً، فكيف يمكن الجمع بين القولين؟

يمكن أن تُحلّ هذه المشكلة بما يلي:

١ - إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عُرج به إلى السماء

٣٩

أكثر من مرّة كما في كتاب الكافي(١) وهذا عندي أحسن الوجوه.

٢ - الأخذ بالقول المروي بولادتها في السنة الثانية أو الثالثة من المبعث (كما سيأتي) وهذا يتفق مع القول بالمعراج في تلك السنة نفسها، وخاصة بعد الالتفات إلى اختلاف الأقوال حول الشهر الذي كان فيه المعراج.

الجنين يتكلّم مع أُمّه

ومن جملة مزايا السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام أنّها كانت تكلّم أُمّها خديجة وهي في بطنها، ولم ينفرد علماء الشيعة بذكر هذه الفضيلة، بل شاركهم كثير من علماء العامّة ومحدّثيهم، فقد روى عبد الرحمان الشافعي في (نزهة المجالس ج٢ ص٢٢٧): (قالت أُمّها خديجةرضي‌الله‌عنها : لما حملتُ بفاطمة كانت حملاً خفيفاً، تكلِّمني من باطني).

وروى الدهلوي في (تجهيز الجيش) عن كتاب (مدح الخلفاء الراشدين): (إنّه لما حملت خديجة بفاطمة كانت تكلّمها ما في بطنها، وكانت تكتمها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل عليها يوماً وجدها تتكلّم وليس معها غيرها، فسألها عمّن كانت تخاطبه فقالت: ما في بطني، فإنّه يتكلّم معي. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبشري يا خديجة، هذه بنت جعلها الله أُمّ أحد عشر من خلفائي يخرجون بعدي وبعد أبيهم).

وذكر شعيب بن سعد المصري في (الروض الفائق ص٢١٤): فلمّا سأله الكفّار أن يريهم انشقاق القمر، وقد بان لخديجة حملها بفاطمة

____________________

(١) الكافي ج ١ / ٤٤٢ باب مولد النبي حديث ١٣.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

غمار الموت بكل رحابة صدر. فكلما ازدحمت عليه المصائب، وتراكمت عليه الآلام، وتزاحمت الجراحات على جسده الشريف كلّما كان وجهه الكريم يتلألأ إشراقاً وبهجة؛ لأنّه - وهو العبد المطيع - كان يقترب من ربه، رب العزة والقدرة.

وهكذا، فإنّ تلك الإرادة هي سرّ خلق الإنسان، فلولا إرادة الصدّيقين، ولولا المشيئة التي امتحن الله (عزّ وجلّ) بها النبيين والصالحين من عباده، لما كان لهذا الخلق من حكمة.

فالله تبارك وتعالى لم يخلق الإنسان لكي يفسد في الأرض ويسفك الدماء كما ظنّت الملائكة؛ فقد كان تعالى يعلم ما لا يعلمون، ويعلم بعلمه الأزلّي أنّ بين أبناء آدم، ومن بين هذا التراب واللحم والأعصاب سوف يسمو اُناس ليرتقوا إلى أعلى علّيين، وليصلوا إلى تلك الدرجة التي قال عنها جبرائيلعليه‌السلام : ولو دنوت أنملة لاحترقت(١) .

الإرادة حكمة الخلق

ولذلك فإنّ هذه الإرادة، الإرادة الإنسانيّة التي تتحدّى الشهوات، وثقل المادة، والحنين إلى التراب، وضغوط الإرهاب، والإعلام المضلّل، هذه الإرادة هي فلسفة وحكمة خلق الإنسان على هذا الكوكب، بل إنّني استطيع أن اُقرّر وبكلِّ ثقة واطمئنان بأنّ هذه الإرادة هي حكمة خلق الكون بأسره.

إنّ الله جلّ وعلا الذي يقول للشيء كن فيكون، ويخلق بين الكاف والنون مجرّات ومنظومات شمسيّة هائلة، لا يقدّر ولا يقيّم الوجود بسبب

____________________

بحار الأنوار ١٨ / ٣٨٢.

١٠١

 ضخامته تلك، بل إنّه تعالى إنّما يقيم ويكرّم شيئاً واحداً هو إرادة الإنسان، حبّ الله، والإيثار، والشهادة، وتسامي الإنسان من أرض الشهوات إلى اُفق الحبّ الإلهي.

كربلاء خلاصة بطولات التاريخ

ومن المعلوم أنّ هناك في تاريخ الأنبياءعليهم‌السلام العديد العديد من التضحيات، والأعمال والإنجازات المتميّزة التي لا يكاد العقل البشري يبلغها، ولكن كل تلك المكارم والتضحيات والإيثار والفداء تجمّعت مرة واحدة في كربلاء خلال فترة زمنية قصيرة.

ولندرس في هذا المجال القرآن الكريم الذي سجّل تاريخ الأنبياء في أصدق وأوضح مظاهره المشرقة؛ فماذا فعل النبي آدم، وماذا فعل النبي نوح، وماذا فعل النبي إبراهيمعليهم‌السلام ؟ وماذا كانت سيرة النبي موسى والنبي عيسىعليهما‌السلام ؟

لقد فعلوا أشياء كثيرة، ولكنها تجسّدت جميعاً في كربلاء؛ ولذلك فإننا نقف أمام ضريح الإمام الحسينعليه‌السلام لنقول:« السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله » (١) .

وبالطبع فإنّي لا أعلم متى كلّم الله تعالى الحسين الشهيدعليه‌السلام ، ولكنني قرأت في التأريخ أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال عن شهيد من شهداء الإسلام إنّ الله سبحانه كلّمه مجابهة، ولا ريب أن سيّد الشهداء

____________________

(١) مفاتيح الجنان - زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام / ٤٢٨.

١٠٢

وحجة الله أحرى بأن يكلّم مشافهة بعد شهادته؛ ولذلك فقد أضحىعليه‌السلام وريث موسى كليم الله.

ثمّ إنّ السبط الشهيد هو وارث عيسى روح الله، ومن المعلوم أنّ عيسى بن مريمعليه‌السلام لم يكن يمتلك من حطام الدنيا شيئاً، وهذه كانت خصيصة متميّزة في حياته؛ فهو لم يكن يمتلك بيتاً، ولا أثاثاً، ولا زوجةً، ولا أولاداً، ولا أموالا، إلى درجة أنّه لم يكن يمتلك حتّى وطناً؛ ولذلك سمّي بـ (المسيح)؛ لإنه كان يسيح في الأرض، وكان يلتحف السماء، ويفترش التراب، ويأكل مما تنبته الأرض.

أمّا الإمام الحسينعليه‌السلام فقد كان يمتلك كل شيء دون أن يملكه شيء، وهذا هو أعظم الزهد؛ فقد كانعليه‌السلام يمتلك الأموال الطائلة التي جاء بها إلى كربلاء، كما كان يمتلك أفضل الأصحاب، وأحسن الاُخوان، وأفضل الأولاد وأبرّهم، ولكنه أعطى في لحظة واحدة كلَّ ما كان يمتلكه، وقدّمه قرباناً لربّه؛ ولذلك صحّ أن نقف أمام ضريحه المقدّس ونقول:« السلام عليك يا وارث عيسى روح الله » .

الشهادة كرامة عظيمة

والسؤال المهمّ الذي نريد أن نطرحه في هذا المجال هو: كيف بلغ السبط الشهيدعليه‌السلام تلك الدرجة العليا، وما هي التربية التي تلقّاها بحيث أصبح مهيّأًً لهذه الكرامة الإلهية العظيمة؟

للجواب على ذلك نقول: إنّ الشهادة كرامة عظيمة من الله تعالى للإنسان، لا يؤتاها إلاّ مَن هيَّأ في نفسه أسبابها وعواملها. ومن المعلوم أنّ كلمات الإنسان رسول عقله، والتعبير عن شخصيته، ونحن عندما نقرأ

١٠٣

أدعية أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام وخصوصاً قمة أدعيته وذروتها جميعاً المتمثلة في دعاء يوم عرفة، فإننا سنكتشف شخصيته، وندرك أن هذه الشخصية تتلخص في كلمة واحدة، وهي أنّهعليه‌السلام حبيب الله؛ فهوعليه‌السلام يخاطب ربه قائلاً:« ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجدك » (١) .

لقد كانعليه‌السلام يقف الساعات الطوال في صحراء عرفة، ودموعه تجري على خديه دون أن يشعر بالتعب؛ لأنّه كان يقف بين يدي حبيبه، وقد كان هذا هو ديدنه حتّى في اللحظات الأخيرة من حياته الشريفة؛ حيث ازدحم عليه ما يقرب من ثلاثين الفاً كلّهم يريدون سفك دمه، ومع ذلك فإنّه لم يطلب من بارئه أن ينقذه وينجيه، بل كانت كلماته كلمات إنسان عارف بالله تعالى، فكان يقول:« اللَّهمَّ أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيٌّ عن الخلايق، عريض الكبرياء … » (٢) .

ذعر الحكم الاُموي من الإمام الحسين عليه‌السلام

وبعد استشهاد الإمام الحسنعليه‌السلام ، وتفاقم الانحرافات التي بدت من معاوية، كان الأخير يحاول أن يستميل أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام ويشتري رضاه أو سكوته على الأقل، ولكن الحسينعليه‌السلام كان كزبر الحديد أمامه لا يلين.

وفي هذا المجال يروى أن مروان كان حاكماً من قبل معاوية على المدينة، وأنّه كتب رسالة إلى أميره يقول فيها: أمّا بعد، فقد كثر اختلاف

____________________

(١) مفاتيج الجنان - دعاء الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عرفة / ٢٧٣.

(٢) مفاتيح الجنان - أعمال اليوم الثالث من شعبان / ١٦٤.

١٠٤

الناس إلى حسين، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً(١) .

وهنا لننظر بتأمل ودقة في جواب معاوية لمروان: اترك حسيناً ما تركك ولم يظهر لك عداوته ويبد صفحته، وأكمن عنه كمون الثرى إنشاء الله، والسّلام(٢) .

وبعد فترة يقترح مروان على معاوية إبعاد الإمامعليه‌السلام عن يثرب، وفرض الإقامة الجبرية عليه في الشام؛ ليقطعه عن الاتّصال بأهل العراق. ولم يرتضِ معاوية ذلك، فرد عليه: وأردت والله أن تستريح منه وتبتليني به(٣) ! فقد كان معاوية يعلم حق العلم أنّ الحسينعليه‌السلام إذا جاء إلى الشام فإنّ هذا البلد سينقلب عليه.

ثم يبعث معاوية برسالة إلى الإمام الحسينعليه‌السلام مضمّناً تلك الرسالة بعض التهديدات، فيقول: فقد اُنهيت إليّ عنك اُمور إن كانت حقاً فإنّي لم أظنها بك رغبة عنها، وإن كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها … فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك؛ فانك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّقِ الله يا حسين في شق عصا الاُمّة، وأن تردهم في فتنة ...(٤) .

الردّ الحاسم

ولننظر فيما يلي نظرة تأمّل ودقّة في جواب الإمام الحسينعليه‌السلام على تلك الرسالة التهديدية:« أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنه

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٢٣.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه / ٢٢٤.

١٠٥

انتهت إليك عني اُمور … أمّا ما ذكرت أنه رُقي إليك عني، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون المشاؤون » .

وهنا يوضحعليه‌السلام أنّ جهاز الحكم لا يمكنه أن يكسب ثقة الناس من خلال سياسة الاستخبارات والجاسوسية؛ لأنّ الوشاة والنمّامين يفرّقون قبل أن يوحّدوا. ثمّ ينفيعليه‌السلام أن يكون قد أعدّ العدة لشن حرب عسكرية ظاهرية ضد معاوية؛ لأنّ سياسته وإستراتيجيته كانتا تقومان على أساس تشكيل معارضة قوية ضد الحكم الاُموي، تتفجّر بعد معاوية وتستمر إلى ما شاء الله.

ثم يقولعليه‌السلام مهّدداً هو الآخر معاوية:« … وإني لأخشى الله في ترك ذلك منك » ، أي إن كانت هناك خشية فهي خشيتي من الله تعالى في أن أتركك أنت يا معاوية تتحكم في رقاب المؤمنين،« … ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة » (١) .

جرائم الحزب الاُموي

إنّ هذه الرسالة يكتبها رجل ينبغي أن يكون - حسب زعمهم - مطيعاً لمعاوية بن أبي سفيان الذي سيطر على البلاد الإسلاميّة جميعاً، ولكن لننظر إلى لهجة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام الذي يتحدى الطاغوت الاُموي الجائر، ويستعرض المظالم والجرائم التي ارتكبها بحق المؤمنين الصالحين، وإعلائه في مقابل ذلك لشأن السفلة، وشذّاذ الآفاق، وتسليطهم على رؤوس المسلمين:« ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين، الذين كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون البدع، ويأمرون بالمعروف،

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٢٥.

١٠٦

 وينهون عن المنكر، ولا يخافون في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة؛ جرأة على الله، واستخفافاً بعهده؟!

أوَلست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة؛ فنحل جسمه واصفرّ لونه، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال؟!

أوَلست بمدّعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف، فزعمت أنه ابن أبيك، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الولد للفراش وللعاهر الحجر، فتركت سنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعمداً، وتبعت هواك بغير هدى من الله، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام؛ يقتلهم، ويقطع أيديهم وأرجلهم، ويسمل أعينهم، ويصلبهم على جذوع النخل، كأنك لست من هذه الاُمّة وليسوا منك؟!

أوَلست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زياد أنه على دين عليعليه‌السلام ، فكتبت إليه أن اقتل كلّ مَن كان على دين علي؛ فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودين علي هو دين ابن عمهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين؛ رحلة الشتاء والصيف؟!

وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ودينك، ولاُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واتقِ شقَّ عصا هذه الاُمّة، وأن تردهم إلى فتنة أعظم على هذه الاُمّة من ولايتك عليها » (١) .

الفتنة الكبرى

فمن الفتن الكبرى أن يدير اُمور المسلمين رجل مثل معاوية ويزيد، والطغاة الذين يتحكّمون برقاب المسلمين اليوم.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٢٥ - ٢٢٦.

١٠٧

ثمَّ يقولعليه‌السلام :« … ولا أعظم لنفسي ولديني ولاُمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من أن اُجاهرك؛ فإن فعلت فإنّه قربة إلى الله، وإن تركته فإني استغفر الله لديني، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري » (١) . فليس الاحتياط في ترك السلاطين؛ فمن حارب السلطان ضَمِنَ الجنّة، ومن ترك محاربته فلقد يمتلك عذراً عند الله تعالى، وقد لا يمتلكلا.

يقولعليه‌السلام مستمراً في لهجته التهديدية:« … وقلت فيما قلت: إنّي إن أنكرتك تنكرني، وإن أكدك تكدني؛ فكدني ما بدا لك … » (٢) .

 فلنتأمل هذا التحدي الذي صدر من رجل هو في الظاهر من عامة الناس، يخاطب طاغوت زمانه:« فكدني ما بدا لك؛ فإني أرجو أن لا يضرني كيدك، وأن لا يكون على أحد أضرّ منه على نفسك؛ لأنّك قد ركبت جهلك، وتحرّصت على نقض عهدك. ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان، والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقُتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا وتعظيمهم حقّنا …

فابشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ احصاها. وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنة، وقتلك أولياءه على التهم، ونفيك إياهم من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث، يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلاّ قد خسرت

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٢٦.

(٢) المصدر نفسه.

١٠٨

نفسك، وتبرت دينك، وغششت رعيتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقي، والسلام » (١) .

الإعداد للثورة

ولعل هذه المرحلة كانت في اُخريات أيام معاوية؛ حيث جمع الحسينعليه‌السلام في مكة المكرمة وفي أيام الحج كلَّ مَن كان يمتّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بصلة من بقية الأصحاب، ولعل سبعين رجلاً منهم كان قد حضر، بالإضافة إلى التابعين الذين قدم منهم ما يقرب من أربعمئة رجل، بالإضافة إلى المؤمنين الصالحين الذين دعاهم الحسينعليه‌السلام للاجتماع في مكة؛ حيث أقام معهم مؤتمراً سياسياً بيّن لهم فيه الوضع الخطير الذي يسود الاُمّة، ثم أمرهم أن يبلغوا المسلمين، ويعدّوهم للثورة.

وقد هيّأ الإمام الحسينعليه‌السلام كلَّ تلك المقدمات في عصر معاوية، وكان من ضمن ما قالهعليه‌السلام في الأصحاب والتابعين:« أما بعد، فإنّ هذا الطاغية - يعني معاوية -قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم، وعلمتم وشهدتم، وإني اُريد أن أسألكم عن شيء؛ فإن صدقت فصدّقوني، وإن كذبت فكذّبوني.

 اسمعوا مقالتي، واكتبوا قولي، ثمَّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم؛ فمن أمنتم من الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقّنا؛ فإني أتخوف أن يدرس هذا الأمر ويغلب، والله متم نوره ولو كره الكافرون » (٢) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٢٦ - ٢٢٧.

(٢) المصدر نفسه / ٢٢٨ - ٢٢٩.

١٠٩

ثمَّ بيّنعليه‌السلام في حديث طويل فضائل أهل البيتعليهم‌السلام ، والطريق الإسلامي القويم، وأعلن عن منشور ثورته. وهكذا فإنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان قد بدأ - في الواقع - ثورته ضد الحزب الاُموي منذ أيام معاوية، ولكنّ حركته كانت حركة سرية، ثم تحوّلت إلى حركة علنية بعد موت معاوية.

ونحن إذا درسنا التاريخ بعمق ودقة نجد أن نهضة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام هي التي أسقطت، لا الحزب الاُموي فحسب بل تلك القيم الجاهليّة التي كان الاُمويّون يحاولون زرعها في الأمّة؛ أي إنّ الحسينعليه‌السلام نجح في محاربة الردّة الجاهليّة الاُموية، والدليل على نجاحه هو تلك الثورات والانتفاضات التي توالت بعد عصرهعليه‌السلام ، وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا.

١١٠

سر عظمة الإمام الحسينعليه‌السلام

ترى لماذا كتب الله (عزّ وجلّ) عن يمين العرش بأنّ الحسينعليه‌السلام (مصباح هدى وسفينة نجاة) (١) ؟ وكيف جعل السبط الشهيد بمثابة سفينة نوح مَن ركبها نجا ومَن تخلف عنها هلك؟ ولماذا هذه الكرامة البالغة لشخص أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام عند الله، وأنه - كما جاء في الحديث -:« إنّ الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض » (٢) ، أي إنّ أهل السماء أعرف بالحسين وكرامته من أهل الأرض، مع أنّنا نجد أنّ كرامته عند أهل الأرض ليست بالقليلة؟

في كلِّ عام يحلّ علينا موسم محرّم، موسم الحزن الثائر، فنجد الدنيا وكأنها قد انقلبت؛ فالشوارع تتجلّل بالسواد، والناس يفرضون على أنفسهم لباس الحزن، والإذاعات ومحطات التلفاز تبثّ برامج خاصة بهذه المناسبة؛ فهذا الموسم هو نسمة جديدة تهب على قلوب العالمين ليس في المناطق التي يسكنها أتباع أهل البيتعليهم‌السلام فحسب، وإنما في سائر مناطق العالم.

فلماذا أعطى الله سبحانه هذه الكرامة لأبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ؟

____________________

(١) بحار الأنوار ٩١ / ١٨٤، ح١.

(٢) المصدر نفسه.

١١١

نظرات في عظمة الإمام الحسين عليه‌السلام

البعض من الناس عندما يقفون إزاء عظمة عاشوراء، وملحمة كربلاء، فإنّهم يعبّرون عن إعجابهم بالحسينعليه‌السلام ، وبتلك الثورة الناهضة التي ما تزال حيّة في أفئدة الجماهير؛ فهم يقدّرونهعليه‌السلام لأنه كان حراً لم تستعبده السلطة، ولأنه دافع عن حريته، ودعا الناس إلى التحرر.

كل ذلك صحيح، ولكنه ليس كل القضية بل هو جزء بسيط منها؛ فالأحرار كثيرون، وكثير من الناس عاشوا وماتوا أحراراً، في حين أنّنا لا نقدّسهم ولا نقدّرهم كما نقدّس ونقدّر أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام .

والبعض الآخر يرى أنّهعليه‌السلام ناضل وجاهد من أجل إقامة حكم الله في الأرض، وثار من أجل إقامة العدل، وإحياء الدين، وبث روح القيم القرآنية في الاُمّة. وهذا صحيح أيضاً، ولكنه هو الآخر لا يمثل كل القضية؛ فكثيرون هم اُولئك الذين ثاروا من أجل إقامة حكم الله تعالى، وقُتلوا في هذا الطريق، والبعض منهم استطاع أن يحقق هدفه؛ فأقام حكم الله في قطعة معينة من الأرض.

والبعض الآخر يرى أنّ سرّ بقاء ملحمة كربلاء في أنّها كانت ملحمة مأساوية لم ولن تقع في التاريخ ملحمة أشد فظاعة وإيلاماً وحزناً منها، حتّى مضى هذا المثل في التاريخ(لا يوم كيومك يا أبا عبد الله) .

فيوم الحسينعليه‌السلام أعظم من كل يوم؛ فقد اقرح الجفون، وأسبل الدموع، ولكن ليس هذا هو سرّ عظمة أبي عبد اللهعليه‌السلام ؛ فالمآسي في التاريخ كثيرة، والذين قُتلوا ودُمّروا وقُتلت عوائلهم كثيرون؛ من مثل الحسين شهيد فخ، وزيد بن علي اللَّذين تعرّضا للإبادة هما

١١٢

وعوائلهما بشكل فظيع، ومع ذلك فإنّنا لا نجد كلَّ الناس يهتمون بهذه الأحداث، بل لعل أكثرهم لا يعرفون عنها شيئاً.

الخلوص والصفاء

وبناءً على ذلك فإنّ عظمة الحسينعليه‌السلام لا تكمن فقط في أنّ شخصيته كانت شخصيّةً ثائرة حرّة، أو لأنّها تعرضت للإبادة بشكل فظيع. إذاً، فما هو سرّ هذه العظمة؟

للإجابة على هذا السؤال نقول: لا بدّ أن نعلم بأنّ الله سبحانه هو خالق الكون، ومليك السماوات والأرض، وبيده الأمر، وأنّه يرفع مَن يشاء ويضع مَن يشاء، وأنّ مَن تمسّك بحبله رفعه، ومَن ترك حبله وضعه.

ومن المعلوم أنّ الحسينعليه‌السلام تمسك بحبل الله فرفعه، وأخلص العمل له فأخلص الله له ودّ المؤمنين، وجعل له في قلب كلِّ مسلم حرارة. وقديماً عندما خلق الله (تقدّست أسماؤه) آدمعليه‌السلام وأسكنه الجنّة، رأى آدم ما رأى حول العرش من الأنوار، ثمّ علّمه جبرائيل تلك الأسماء والكلمات، ونطق بها، وأقسم على الله (عزّ وجلّ) بتلك الكلمات والأنوار الخمسة فلما ذكر الحسينعليه‌السلام سالت دموعه وانخشع قلبه، وقال: يا أخي جبرئيل، في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي!

قال جبرئيلعليه‌السلام : ولدك هذا يُصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب.

فقال: يا أخي، وما هي؟

قال: يُقتل عطشانَ غريباً، وحيداً فريداً، ليس له ناصرٌ ولا معين … فبكى آدم وجبرئيل بكاء الثكلى(١) .

وهكذا فإنّ قيمة الإمامعليه‌السلام تكمن في أنّه كان مخلصاً صفياً، فهوعليه‌السلام

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ / ٢٤٥.

١١٣

لو كان يمتلك ألف ابن مثل عليّ الأكبر، وكان عليه أن يضحّي بهم في لحظة واحدة لما تردّد في فعل ذلك؛ لأنه جرّد نفسه عن أهوائه رغم أنهعليه‌السلام كان يحب عليّ الأكبر حباً لا حدّ له، حباً لا يمكن أن يضمره أي أبٍ لابنه؛ لأنّ علياً الأكبر كان أشبه الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خَلقاً وخُلقاً، ومع ذلك فإنّ حب الحسينعليه‌السلام لله تعالى كان أشدّ كما يقول سبحانه:( وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ ) (البقرة/١٦٥).

ونحن إذا رأينا اليوم أنّ الناس يقدّرون أبا عبد اللهعليه‌السلام ، وإذا رأيناهم يحملون إلينا في كل شهر محرم موسماً جديداً وميموناً من ذكراهعليه‌السلام ، فلأن ثورته كانت ثورة ربانية، ولأنه كان أباً للأحرار، وثائراً من أجل الدين، وكان يريد إقامة حكم الله في الأرض، ومع كل ذلك فإنّ هذه المزايا تعّد اُموراً ثانوية.

فالإمام الحسينعليه‌السلام عندما وقف في عرفة وقرأ ذلك الدعاء الخالد الذي هو بحق كنز من كنوز الرحمة، وموسوعة توحيدية كبرى، فإنّه قد جسّد فقرات هذا الدعاء في كربلاء؛ فهو عندما قال وهو متوجّه إلى الله جل جلاله:« إلهي، ماذا فقد من وجدك، وماذا وجد من فقدك » (١) ؟ فإنّه كان يرى أن كل شيء في الوجود، وكل القيم متمثلة في حب الله ومعرفته.

وقد جسّدعليه‌السلام كل ذلك في كربلاء كلما كان يفقد عزيزاً أو ابناً أو أخاً من أعزّ الاُخوان عليه؛ فعلى سبيل المثال فإنّ أبناء واُخوان وأصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام الذين ضرّجوا بدمائهم في كربلاء كان كل واحد منهم يمثّل نجماً في اُفق التوحيد؛ فقد كان بعض أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام أصحاباً للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛

____________________

(١) مفاتيح الجنان - دعاء الإمام الحسينعليه‌السلام في يوم عرفة / ٢٧٣.

١١٤

من مثل حبيب بن مظاهر الذي اُوتي علم المنايا والبلايا، ومن مثل مسلم بن عوسجة الذي كان فقيهاً وعالماً من العلماء العظام. ولقد قُتل هؤلاء الواحد تلو الآخر، ومع ذلك فإنّ وجه أبي عبد اللهعليه‌السلام كان يزداد إشراقاً رغم أنّ قلبه كان يتفطّر ألماً عليهم.

وبعد أن أكملعليه‌السلام مهمته قبض قبضة من تراب كربلاء، ووضع جبهته الشريفة عليه وقال:« صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك يا غياث المستغيثين، ما لي رب سواك، ولا معبود غيرك » (١) .

وفي الحقيقة فإنّ ما نعطيه ويعطيه العاملون لتجديد ذكرى أبي عبد اللهعليه‌السلام لو وضع في كفة، ووضعت كلمة الحسينعليه‌السلام هذه في تلك اللحظة، وفي ذلك الموقف في كفة اُخرى لرجحت كلمة الحسين على أعمالنا جميعاً؛ فلقد أعطىعليه‌السلام كلَّ ما يملك في سبيل الله حتّى الطفل الرضيع، وعائلته التي وضعها في بحر من الأعداء الشرسين المتوحشين، ومع كلِّ ذلك فقد قال:« صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك يا غياث المستغيثين، ما لي رب سواك، ولا معبود غيرك » .

وهكذا فإنّ الذي جعل ذكرى الحسينعليه‌السلام خالدة هو أنّ ما كان لله يبقى، والإمام الحسينعليه‌السلام عمل مخلصاً لوجه الله.

ونحن إذا أردنا أن نرضي الخالق تبارك وتعالى، والحسين، وجدّه واُمّه، وأباه وأخاه، والأئمة من ولده (عليهم الصلاة والسّلام جميعاً) فلا بدّ أن نخلص أعمالنا لوجه الله، وأن نفعل كلَّ ما يمكننا من أجل أن نخلّد ونجدّد ذكرى الثورة الحسينيّة حتّى من خلال التظاهر بالعزاء، والبكاء عليه بصوت عالٍ بحيث يسمعنا الآخرون.

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام - للمقرم / ٣٥٧.

١١٥

مأساة تستدر الدموع

وفي هذا المجال روى لي أحد الخطباء قصة طريفة يقول فيها: كنّا نقيم مجالس العزاء على الحسينعليه‌السلام في بلد أجنبي، في صالة نستأجرها كلّ عام، فسألني أحد الأشخاص المسيحيين قائلاً: إنّكم تأتون إلى هذه الصالة وتستأجرونها سنوياً لتبكوا، في حين أنّ الآخرين يستأجرونها لإقامة مجالس الأعراس والأفراح، فلماذا تفعلون ذلك؟!

فقلت له: لأننا في عزاء.

فقال: عزاء مَن؟

فقلت: عزاء سيّدنا وإمامنا وقائدنا.

فقال لي: متى اُصيب، وكيف؟

فقلت: قبل ألف وأربعمئة عام.

فتعجّب من ذلك، وأصابته الدهشة لأننا ما زلنا نبكي على رجل مات قبل مئات السنين. فقلت له: إنّ مقتله لم يكن عادياً؛ فلقد قُتل مظلوماً، وبشكل مأساوي بعد أن دعاه الناس، ووعدوه بالنصرة، فإذا بهم يخذلونه، ويسلمونه للأعداء، ويحيطون به في صحراء قاحلة حيث لا ماء ولا طعام، وحتّى طفله الرضيع لم يسقوه شربة من الماء، بل رموه بدلاً من ذلك بسهم قاتل.

يقول الخطيب: وبعد أن شرحت للرجل المسيحي سبب بكائنا على الإمام الحسينعليه‌السلام إذا به يجهش بالبكاء، وتتقاطر دموعه، ويظهر تعاطفه معنا، ثمّ طلب منّا أن نسمح له بأن يشاركنا في العزاء على أبي عبد اللهعليه‌السلام .

وهكذا فإنّ سر خلود الثورة الحسينيّة يكمن في أنها كانت ثورة ربّانية خالصة لوجه الله الكريم، وأنها كانت من الأحداث التي قدّر الله لها أن تحدث منذ الأزل؛ فقد كانت مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالمشيئة الإلهية.

وأمّا بالنسبة للعوامل الاُخرى التي تُذكر في تفسير سر خلود ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام فهي أسباب ثانوية تتفرّع من السبب الرئيس الذي ذكرناه.

١١٦

الفصل الثالث

على هدى الإمام الحسينعليه‌السلام

١١٧

١١٨

كربلاء البداية لا النهاية

( وإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا اُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَآ إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي َقالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وإِلهَ ءَابآئِكَ إبراهيم َوإِسْمَاعِيلَ وإِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (البقرة/١٢٧ - ١٣٣).

هل كانت فاجعة الطف الأليمة نهاية أم بداية؟

كثير من الناس يزعمون أنّ هذه الفاجعة كانت نهاية؛ لأنّ أهل البيتعليهم‌السلام ، وفي طليعتهم حجة الله الإمام الحسين بن علي سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد قُتلوا بتلك الطريقة المأساوية الأليمة التي لم ولن يأتي

١١٩

الزمان بمثلها؛ ولذلك يبنون كلَّ حياتهم على هذا الأساس. فلأن الإمام الحسينعليه‌السلام قد قُتل واستشهد، وسُبيت عياله وحريمه، إذن لا يمكن لأحد أن يقوم بالسيف ويطالب بالحق؛ لأنّ الإمام الحسين (سلام الله عليه) لم يستطع أن يقيم دولة الإسلام، فلن تقوم للإسلام دولة أبد الدهر.

وهكذا تتسلسل في خيالاتهم حلقات الهزيمة والانطواء، ويكتفون بأن يُخلّدوا هذه الذكرى بأية طريقة ممكنة، لا لكي يتّخذوا منها منطلقاً، وإنّما لكي يتّخذوا منها مبرّراً وعُذراً وتعلّلاً لكيلا يتحركوا ولا يعملوا شيئاً؛ فالإمام الحسين قُتل ونحن نبكي عليه ونلطم، ونقيم الشعائر المختلفة من أجل إحياء ذكراه وحسب، وكفى الله المؤمنين القتال!

تكامل مسيرة التاريخ

ولكن الحقيقة هي على العكس من ذلك، ففاجعة الطفِّ كانت البداية؛ فمنذ القطرة الأخيرة التي اُريقت من دم أبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه) بدأت شجرة الإسلام بالحياة من جديد، وكان ذلك اليوم بداية الربيع؛ حيث إنّ عشرات الملايين من البشر اهتدوا بأبي عبد الله الحسين (سلام الله عليه)، وبدأت مسيرة التاريخ تتكامل وتتكامل، وتتحقق كلمة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث قال:« حسينٌ منّي وأنا من حسين » (١) .

فالبداية كانت في تلك اللحظة التي وقفت فيها الصدّيقة الصغرى زينب الكبرى (سلام الله عليها) في يوم الحادي عشر من شهر محرم سنة إحدى وستين للهجرة، على مصرع أخيها الحسينعليه‌السلام ، وألقت

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام - القرشي ٢ / ٢٦٥.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568