فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد6%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 247392 / تحميل: 11032
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فاطمة الزهراءعليها‌السلام

من المهد إلى اللحد

السيد محمّد كاظم القزويني

طبعة منقّحة ومصحّحة

ممتازة عن الطبعات السابقة بإضافات مهمّة

١

٢

الإهداء

إلى سَيّدنا ومَولانا بقيّة العتْرَة الطَاهِرة الإِمَام المهدي المنْتظرعليه‌السلام . إليْه أهدي هذه الصفحات المشرقة المتلألئة بحياة جدّته الصدّيقة الطّاهرة، ملكة الإسلام فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها). وأنا واثق أنّ هذهِ الخِدْمَة الضئيلة ستقع منه موقع الرضَا والقَبول بإذن الله تعالى.

العراق - كربلاء

محمد كاظم القزويني

٣

٤

المقَدّمة

الحمد لله حمداً كثيراً كما يرضى، وصلّى الله على سيّدنا محمد المصطفى وآله الطاهرين سادات الورى.

وبعد: انقضت سنوات وأنا أُحدِّث نفسي أن أقوم بتأليف كتاب يتضمّن ما تيسَّر من حياة الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء، عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها الصلاة والسلام.

كنت أشعر بضرورة هذا العمل، وكانت رغبتي ملحَّة جداً؛ وذلك لما كنت أجده من النقص الذي يشبه الفراغ في المكتبة العربية والإسلامية بالنسبة لهذه الشخصية.

ولا أقصد - بكلامي هذا - انتقاصَ الكتب والمؤلّفات التي دُوّنت حول ترجمة سيدة نساء العالمين، بل أقصد أنّ تلك المؤلّفات - القديمة منها والحديثة - لا تسد الحاجة، ولا تملأ الفراغ الذي يشعر به كل مَن يريد الإطلاع على حياة السيدة الزهراءعليها‌السلام .

وتلك المؤلّفات لا تفي بالغرض، بل هي دون مقام السيدة فاطمة الزهراء، ولا تؤدِّي ما تستحقّه شخصية عزيزة رسول الله وأحب الناس إليه؛

٥

لأنّ شخصية الصدِّيقة الطاهرة تستوجب التنويه والإشادة بها أكثر وأكثر من هذا.

ولا أدَّعي أنّني أستطيع النهوض بهذا العبء الثقيل واستيفاء الغرض، وتحصيل الغاية كما ينبغي، بل أعترف بالعجز والقصور الملازمين لفكري ولساني وقلمي.

وهكذا انقضت الأيام والأعوام، والهواجس تعاودني بين فترة وأُخرى، وهناك العوائق التي تحول دون تحقيق هذه الأمنية.

وقبل فترة غير بعيدة هبَّت عليَّ عاصفة من الحوادث وخيَّمت على حياتي سحائب الهموم، فنذرت لله تعالى: إن كُشف عنّي الضر والسوء أن أبادر إلى تأليف كتابٍ حول حياة الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراءعليها‌السلام .

فكشف الله عنّي الضرّ برحمته، فله الحمد وله الشكر. وها أنا قد شرعت بتحرير هذه السطور والأوراق، وما أدري أين ينتهي بي المطاف، والله المستعان، وهو خير مستعان، وهو حسبي ونعم الوكيل في المبدأ والمآل وهو خير موفِّق ومعين.

محمد كاظم القزويني

٢٦ جمادى الثانية ١٣٩٢هـ.

كربلاء المقدّسة - العراق

٦

المدْخَل

بسم الله الرّحمن الرّحيم

فاطمة...!

وما أدراك مَن فاطمة؟!

شخصية إنسان تحمل طابع الأُنوثة لتكون آيةً على قدرة الله البالغة واقتداره البديع العجيب، فإنّ الله تعالى خلق محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون آية قدرته في الأنبياء، ثم خلق منه بضعته وابنته فاطمة الزهراء لتكون علامة وآية على قدرة الله في إبداع مخلوق أُنثى تكون كتلة من الفضائل، ومجموعة من المواهب فلقد أعطى الله تعالى فاطمة الزهراء أوفر حظ من العظمة، وأوفى نصيب من الجلالة بحيث لا يمكن لأية أُنثى أن تبلغ تلك المنزلة.

فهي من فصيلة أولياء الله الذين اعترفت لهم السماء بالعظمة قبل أن يعرفهم أهل الأرض، ونزلت في حقّهم آيات محكمات في الذكر الحكيم، تُتلى آناء الليل وأطراف النهار منذ نزولها إلى يومنا هذا، وإلى أن تقوم القيامة.

شخصية كلّما ازداد البشر نضجاً وفهماً للحقائق، واطلاعاً على الأسرار ظهرت عظمة تلك الشخصية بصورة أوسع، وتجلّت معانيها ومزاياها بصُوَر أوضح.

إنّها فاطمة الزهراء، الله يثني عليها، ويرضى لرضاها ويغضب لغضبها.

٧

ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ينوِّه بعظمتها وجلالة قدرها. وأمير المؤمنينعليه‌السلام ينظر إليها بنظر الإكبار والإعظام. وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ينظرون إليها بنظر التقديس والاحترام.

سيدة، باسمها قامت حكومات، وتأسست عروش، وباسمها انهارت عروش وتقوّضت حكومات.

وبحُبّها سوف ترى الناس يدخلون الجنة أفواجاً.

ولأجل الانحراف عنها سيق الذين كفروا إلى جهنّم زُمَراً.

وإنّني أعتقد أنّ الكتاب - بما فيه - يكون عظيم النفع، غزير الفائدة، حلو الحديث، تستأنس به النفس، وتستعذبه الروح إلى غير ذلك ممّا يدركه القارئ ولا يمكن وصفه.

إذ إنّ التحدّث عن حياة السيدة فاطمة الزهراء يشتمل على حوادث كلها عِبَر وحِكَم ودروس، يتعرّف الإنسان بها على حياة أولياء الله وخاصّته، وكيفيّة نظرتهم إلى الحياة، ويطّلع على جانب من التاريخ الإسلامي المتعلّق بحياة السيدة فاطمة الزهراء بالرغم من قِصَر عمرها، وأنّها كانت تعيش في خدرها، لا يطلع أحد على معاشرتها، وسلوكها في البيت إلاّ أُسرتها وذووها.

وبالرغم من أنّ التاريخ ظلمها، ولم يُعِر لحياتها وترجمتها اهتماماً لائقاً بها. فالتحدّث عن عبقرية السيدة فاطمة الزهراء يعتبر تحدّثاً عن المرأة في الإسلام من حيث حفظ كرامتها، والاعتراف باحترامها وشخصيتها. ويشمل التحدّث نموذجاً من المرأة بصفتها بنتاً في دار أبيها، وزوجة في دار بعلها، وأُمًّا ومربيّة في البيت الزوجي.

٨

ولا يخلو الكلام - هنا - عن التحدّث عن المرأة في الإسلام بصفتها إنسانة يُسمح لها بالعمل في الحقل الاجتماعي، ولكن في إطار محدود بحدود الدين والعفّة، والمحافظة على الشرف والكيان. ويتَّضح - ضمناً - أنّ الإسلام لا يحرم المرأة عن العلم والثقافة والأدب والمعرفة ولكن مع رعاية الابتعاد عن التبرّج والاستهتار والاختلاط، وما شابه ذلك ممّا يسبّب الويلات على المرأة المسكينة ويدمِّر كيانها.

إنّني أعتقد أن ليس من الممكن أن يوجد في العالم قانون أو نظام أو جهاز يحافظ على حرمة المرأة وكيانها وشرفها أكثر من محافظة الدين الإسلامي لذلك. فالجمعيات والمنظّمات النسائية في البلاد الإسلامية لم تنفع المرأة أبداً بل قد جلبت عليها الشقاء بصورة فظيعة.

وقد قرأت في بعض الصحف أنّ إحدى المنظَّمات النسائية تطالب حكومتها أن تضع قانوناً لمنع تعدّد الزوجات!! إنّ المنظَّمة تعتبر تعدُّد الزوجات ظلماً واعتداءً على المرأة. فهي تطالب بإيقاف الرجل عند حدِّه، لئلاّ يطمع في أكثر من امرأة. إنّ المنظمة جاهلة أو متجاهلة أنّها بعملها هذا تفتح على المرأة أبواب الفساد والشقاء، وتغلق عليها أبواب السعادة الزوجية ولذّة الأُمومة. فإذا خُيِّرت المرأة بين أن تتزوّج برجل متزوّج أو تبقى جليسة بيتها حتى يبيض شعرها كأسنانها، وإلى أن يأتيها الموت وهي واحدة من اثنتين: إما أن تقضي معظم حياتها - بما في ذلك من عنفوان شبابها - بالكبت والضغط والحرمان من ملاذ الحياة.

وإمّا أن تفسح لنفسها المجال، وتطلق لنفسها الحرية الكاملة، فتحضر السهرات، وتشترك في الحفلات وتراقص الرجال و و...

٩

ثم تفتح عينها فإذا بها مفقودة الشرف، مسلوبة العفاف، محطّمة الشخصية، ملوثة الساحة، مشوّهة السمعة، يرغب بها الرجال ما دامت طريّة وشهيّة، فإذا فقدت محاسنها، وذبلت مفاتنها يمجّها كل أحد وينبذها كل رجل.

إذا خيّرت المرأة بين عدم الزواج وحياة العزوبة التي تنتهي بها إلى أحد المصيرين المذكورين، وبين أن تتزوج برجل متزوج، وتتمتع بالسعادة الزوجية تحت ظل العدالة الإسلامية، فهي محفوظة الشرف. سليمة العفاف، نزيهة السمعة، طاهرة الصحيفة والساحة، تنتج أطفالاً، وتكوِّن أسرة، وتصلح أجزاء المجتمع، أيّهما أفضل وأحسن؟؟

هذان طريقان، لا ثالث لهما، فإنّ عدد النساء في العالم أكثر من عدد الرجال، ولو اكتفى كل رجل بامرأة واحدة لبقيت هناك الملايين من النساء بغير أزواج. ثم هناك رجال لا تكفيهم امرأة واحدة، وهناك نساء لا تنسجم غرائزهن مع غرائز أزواجهن من حيث التجاوب والرغبة. أضف إلى هذا كلّه أنّ المرأة في معرض العقم والمرض والسفر إلى غير ذلك ممّا يطول الكلام بذكره، ولا أقصد في كتابي هذا التطرّق إلى هذه المواضيع وإنّما الكلام يجرُّ الكلام، والشيء بالشيء يُذكر.

أعود - والعود أحمد - إلى حديثي عن الصدِّيقة فاطمة الزهراء، فلا عليك أن تعلم أنّ من أعجب الغرائب، وأغرب العجائب أنّ شخصية كشخصية فاطمة الزهراء التي هي في أوج العظمة، وذروة الشرف وقمّة الفضيلة تصبح هدفاً للأقلام المسمومة، والغارات القاسية التي شنّها بعض المسلمين وغيرهم.

ويظهر لك هذا بكل وضوح حينما تراجع كتب الأحاديث الزاخرة

١٠

بفضائل هذه الشخصية، ترى إلى جانبها أحاديث افتعلتها يد الدسِّ والعداء، واختلقتها ألسنة الشحناء والبغضاء من سماسرة الحديث الوضّاعين الكذّابين، الذين كانوا أبواقاً للسلطات الماضية، ينفثون بما يوحي إليهم شياطينهم من زخرف القول والكذب والزور والبهتان، شأن مَن يشتري مرضاة المخلوق بسخط الخالق.

إنّهم كتبوا بأقلام العداء ومحابر النفاق تلبية لمن اشترى منهم دينهم وضمائرهم، وهم غير مبالين بما في تزويرهم - هذا - من حطِّ مقام صاحب الشريعة النبي الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله غير مكترثين بما في كلامهم ذاك من التناقض للأحاديث المتواترة المدوّنة في صحاحهم في فضل السيّدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وكأنّهم يعجبهم المسّ بكرامة الصدِّيقة فاطمة الزهراء إجابة لنداء ضمائرهم، وهم يعلمون أنّها عترة الرسول، وأحبُّ الناس إليه، وعزيزته وحبيبته، وكأنّهم لا يستطيعون التصريح بتدنيس ساحة الرسول الأعظم مباشرة فاختاروا الطريق الملتوي غير المباشر، كل ذلك إشباعاً لرغباتهم الجهنَّمية.

وما أدري ما هي الدوافع إلى هذا الهجوم العنيف القاسي على شخصية فاطمة الزهراء؟

وما هي أسباب هذا العداء العميق العجيب؟

أليست ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقرّة عينه وثمرة فؤاده، وروحه التي بين جنبيه؟

فهل كانت الزهراء خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فدفعتهم الدوافع للمسّ من كرامتها، كما أساءوا إلى زوجها العظيم بنفس تلك الدوافع؟

١١

ثم ما هذا التركيز والإلحاح على محاربة شخصيتها؟

هل لكونها بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

فلماذا لا نجد هذه الظاهرة في حق سائر بنات النبي؟

أم لأنّها زوجة الإمام عليعليه‌السلام ؟

فقد تزوَّج الإمام أمير المؤمنين بعدها بأربع نساء، فلماذا لا نجد هذا التهريج والإرجاف في حقّهن؟ إنّني لا أتصوّر للسيّدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ذنباً سوى أنّها كانت أحبُّ الناس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي المفضلَّة على بقيّة بناته وزوجاته وأنّها كانت المدافعة والمحامية عن حقوق زوجها، وأنّها حضرت في المسجد، وطالبت بحقوقها المغتصبة وأموالها التي جعلها الله ورسوله لها، وأنّها احتجّت على رئيس الدولة يومذاك(١) . وأمثالها من الفضائل والفواضل التي خصّها الله بها دون النساء. فهل هذه ذنوب تبرّر وتبيح للمسلمين أن يذكروها بما لا يناسب قدسيّتها ونزاهتها؟

وقد كان للمستشرقين الأجانب (من اليهود والنصارى) دور مهم في هذا المجال؛ فلقد حاولوا المسّ بكرامة مقدّسات الإسلام والمسلمين، فالتقطوا الأباطيل والأساطير من سقطات القول ونشروها في أوساطهم.

وجاء بعض المسلمين وترجموا تلك الكتب المسمومة وطبعوها ونشروها في البلاد الإسلامية، بدون أي تعليق أو تهذيب أو تنقيح، كأنّ نواياهم تتفق مع المستشرقين حول محتويات تلك الكتب. والأفضل أن ننقل هنا مثالاً لما نحن فيه عن الجزء الثالث من

____________________

(١) سيأتيك التفصيل في شرح خطبتها في مسجد أبيها والرسول.

١٢

كتاب الغدير ص١٠ للمرحوم شيخنا الأميني مع رعاية الاختصار:

كتب مستشرق نصراني يسمىّ (إميل درمنغم) كتاباً سمّاه (حياة محمد) والكتاب كلّه كذب وزور وضلال ودسٍّ ودجل، وتهجّم على الإسلام والقرآن والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد ترجم الكتاب أستاذ فلسطيني يُسمّى (محمد عادل زعيتر) ولم يعلّق على خرافات الكتاب وأساطيره وأكاذيبه، وهو يزعم أنّه يراعي أمانة النقل، وليت شعري هل التعليق على الباطل ينافي أمانة النقل؟

ومن جملة أباطيل الكتاب وأضاليله قوله:

(كانت فاطمة عابسة، دون رقية جمالاً، ودون زينب ذكاء، ولم تدر فاطمة حينما أخبرها أبوها من وراء الستر: أنّ علي بن أبي طالب ذكر اسمها، وكانت فاطمة تعدُّ عليّاً ذميماً محدوداً مع عظيم شجاعته، وما كان أكثر رغبة فيها من رغبتها مع ذلك.

وكان علي غير بهيِّ الوجه لعينيه الكبيرتين الفاترتين وانخفاض قصبة أنفه، وكبر بطنه وصلعه، وذلك كلّه إلى أنّ عليّاً كان شجاعاً تقياً صادقاً وفياً مخلصاً صالحاً مع توان وتردُّد!

وكان علي ينهت فيستقي الماء لنخيل أحد اليهود في مقابل حفنة تمر، فكان إذا عاد بها قال لزوجته عابساً: كلي وأطعمي الأولاد!

وكان علي يحرد بعد كل منافرة، ويذهب لينام في المسجد، وكان حموه يربِّته على كتفه ويعظه ويوفق بينه وبين فاطمة إلى حين، وممّا حدث أن رأى النبي ابنته ذات مرة، وهي تبكي من لكم علي لها!!

إنّ محمداً مع امتداحه قدم علي في الإسلام إرضاءً لابنته كان قليل الالتفات إليه، وكان صهرا النبي الأمويان: عثمان الكريم وأبو العاصي أكثر

١٣

مداراة للنبي من علي، وكان علي يألم من عدم عمل النبي على سعادة ابنته، ومن عدّ النبي له غير قوّام بجليل الأعمال.

والنبي وإن كان يفوّض إليه ضرب الرقاب كان يتجنب تسليم قيادة إليه...

وأسوأ من ذلك ما كان يقع عند مصاقبة علي وفاطمة لعدَّواتهما أزواج النبي وتنازع الفريقين، فكانت فاطمة تعتب على أبيها متحسّرة، لأنّه كان لا ينحاز إلى بناته... إلى غير ذلك من جنايات تاريخية سوداء سوَّد بها الرجل صحيفة كتابه.

وهنا يجب شيخنا الأميني (رضوان الله عليه) على مفتريات هذا النصراني: (أنا لا ألوم المؤلّف - جدع الله مسامعه - وإن جاء بأذني عناق(١) إذ هو من قوم حناق على الإسلام، وهو مع ذلك جرف منهال وسحب منجال(٢)، ينمُّ كتابه عن عجزه وبجره، وإنّما العتب كل العتب على المترجم الجاني على الإسلام والشرق والعرب - وهو يحسب نفسه منهم - نعم، جدب السوء يلتجئ إلى نجعة سوء(٣) ، والجنس إلى الجنس يميل.

كل ما في الكتاب من تلكم الأقوال المختلفة والنسب المفتعلة إن هي إلاّ كلم الطائش، تخالف التاريخ الصحيح، وتضاد ما أصفقت عليه الأُمّة الإسلامية وما أخبر به نبيها الأقدس.

هل تناسب تقوّلاته في فاطمة مع قول أبيها (صلى الله عليه وآله

____________________

(١) أي جاء بالكذب والباطل.

(٢) مثل يضرب، يراد أنه لا يطمع في خيره.

(٣) يعي أن الأمور تتشاكل في الجودة والرداءة.

١٤

وسلّم): فاطمة حوراء إنسيّة، كلّما اشتقت إلى الجنّة قبلّتها(١)؟

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ابنتي فاطمة حوراء آدميّة(٢) ؟

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فاطمة هي الزهرة(٣) ؟

أو قول أم أنس بن مالك؟: كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر، أو الشمس كفر غماماً، إذا خرج من السحاب، بيضاء مشربة حمرة، لها شعر أسود، من أشد الناس برسول الله شبهاً، والله كما قال الشاعر:

بيضاء تسحب من قيامٍ شعرها

وتغيب فيه وهو جثلٌ أسحمُ(٤)

فكأنّها فيه نهارٌ مشرقٌ

وكأنّه ليلٌ عليها مظلمـُ(٥)

ولقبها الزهراء المتسالم عليه يكشف عن جلية الحال.

وهل يساعد تلك التحكُّمات في ذكاء فاطمة وخُلقها قولُ أُم المؤمنين خديجةرضي‌الله‌عنها : كانت فاطمة تُحدِّث في بطن أُمِّها، ولما وُلدت وقعت حين وقعت على الأرض ساجدة، رافعة إصبعها(٦) ؟!

أو يلائمها قول عائشة: ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاًّ وهدياً وحديثاً برسول الله في قيامه وقعوده من فاطمة الزهراء، كانت إذا دخلت على رسول الله قام إليها فقبَّلها ورحّب بها، وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه(٧) ؟!

وفي لفظ البيهقي في (السنن: ج٧ ص١٠١): ما رأيت أحداً أشبه كلاماً

____________________

(١) تاريخ الخطيب البغدادي: ج٥ ص٨٦.

(٢) الصواعق: ص٩٦ إسعاف الراغبين ص١٧٣.

(٣) نزهة المجالس: ج٢ ص٢٢٢.

(٤) جثل الشعر: كثر والتف واسود. والأسحم: الأسود.

(٥) مستدرك الحاكم: ج٣ ص١٦١.

(٦) سيرة الملا، ذخائر العقبى.

(٧) الترمذي، وابن عبد ربه في العقد الفريد: ج٢ ص٣.

١٥

وحديثاً من فاطمة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ... الحديث.

وهل توافق مخاريقه في الإمام علي (صلوات الله عليه) وعدم بهاء وجهه وعدُّ فاطمة له دميماً، وكونه عابساً مع ما جاء في جماله البهي: أنّه كان حسن الوجه كأنّه قمر ليلة البدر، وكأنّ عنقه إبريق فضّة(١) ضحوك السن(٢) فإن تبسّم فعن اللؤلؤ المنظوم(٣) .

وأين هي من قول أبي الأسود الدؤلي من أبيات له:

إذا استقبلت وجه أبي ترابٍ

رأيت البدر حار الناظرينا(٤)

نعم،

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله

فالناس أعداءٌ له وخصومُ

كضرائر الحسناء قلن لوجهها

حسداً وبغضاً: إنّه لدميمُ

أو يخبرك ضميرك الحرُّ في علي ما سلقه الرجل به من (التواني والتردّد)؟ وعلي ذلك المقتحم في الأهوال والضارب في الأوساط والأعراض في المغازي والحروب؟

وهو الذي كشف الكُرب عن وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في كل نازلة وكارثة، منذ صدع بالدين الحنيف إلى أن بات على فراشه، وفداه بنفسه، إلى أن سكن مقرّه الأخير.

أليس علي هو ذلك المناضل الوحيد الذي نزل فيه قوله تعالى:

( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ؟

____________________

(١) الاستيعاب: ج٢ ص٤٦٩.

(٢) تهذيب الأسماء واللغات.

(٣) حلية الأولياء: ج١ ص٨٤.

(٤) تذكرة السبط ص١٠٤.

١٦

وقوله تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ ) ؟(١) .

فمتى خلى علي عن مقارعة الرجال، والذبِّ عن قدس صاحب الرسالة حتى يصحّ أن يُعزى إليه توانٍ أو تردّد في أمر من أمور الدين؟!.

غير أنّ القول الباطل لا حدَّ له ولا أمد.

وهل يتصوّر في أمير المؤمنين تلك العِشرة السيئة مع حليلته الطاهرة؟! والنبي يقول له: أشبهتَ خَلقي وخُلقي وأنت من شجرتي التي أنا منها(٢) .

وكيف يراه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل أمته وأعظمهم حلماً وأحسنهم خلقاً ويقول: علي خير أُمُّتي، وأعلمهم علماً، وأفضلهم حلماً؟(٣) .

ويقول لفاطمة: إنّي زوَّجتك أقدم أُمَّتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً؟(٤) .

ويقول لها: زوَّجتك أقدمهم سلماً، وأحسنهم خُلقاً؟(٥) .

يقول هذه كلها وعشرته تلك كما كانت بمرأى منه ومسمع؟ أفك الدجَّالون، كان عليعليه‌السلام كما أخبر به النبي الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) سورة البقرة: ٢٠٣.

(٢) تاريخ بغداد للخطيب ج٢١ ص١٧١.

(٣) الطبري، الخطيب، الدولابي كما في كنز العمال: ج٦ ص١٥٣.

(٤) مسند أحمد: ج٥ ص٢٦ الرياض النضرة: ج٢ ص١٩٤.

(٥) الرياض النضرة: ج٢ ص١٨٢.

١٧

وهل يقبل شعورك ما قذف به الرجل (فضَّ الله فاه) علياً بلكْم فاطمة بضعة المصطفى؟! وعلي ذاك المقتص أثر الرسول، وملأ مسامعه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة: إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو آخذ بيدها: مَن عرف هذه فقد عرفها، ومَن لم يعرفها، فهي بضعة منّي، هي قلبي وروحي التي بين جنبيَّ، فمَن آذاها فقد آذاني(٢) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فاطمة بضعة منّي، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها(٣) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فاطمة بضعة منّي، فمَن أغضبها فقد أغضبني(٤) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فاطمة بضعة منّي، يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها(٥) .

____________________

(١) مستدرك الحاكم:ج٣ ص١٥٤، تذكرة السبط ١٧٥ مقتل الخوارزمي ج١ ص٥٢، كفاية الطالب ص٢١٩، كنز العمال ج٧ ص١١١، الصواعق ص١٠٥ وغيرها.

(٢) الفصول المهمّة ١٥٠ نزهة المجالس ج٢ ص٢٢٨ نور الأبصار ص٤٥.

(٣) صحاح البخاري ومسلم والترمذي، مسند أحمد ج٤ ص٣٢٨ الخصائص للنسائي ص٣٥.

(٤) صحيح البخاري، خصائص النسائي ص٣٥.

(٥) مسند أحمد ج٤ ص٣٢٣ الصواعق المحرقة ١١٣.

١٨

وهل يقتصر امتداح النبي عليّاً بمدح إسلامه؟! حتى يتفلسف في سرِّه، ويكون ذلك إرضاءً لابنته، على أنّ امتداحه بذلك لو كان لتلك المزعمة لكان يقتصرصلى‌الله‌عليه‌وآله على قوله لفاطمة في ذلك، وكان يتأتى الغرض به، فلماذا كان يأخذصلى‌الله‌عليه‌وآله بيد علي في الملأ الصحابي، تارة ويقول: إنّ هذا أوّل مَن آمن بي، وهذا أوّل مَن يصافحني يوم القيامة؟

ولماذا كان يخاطب أصحابه أخرى بقوله: أوَّلكم وارداً عليَّ الحوض أوَّلكم إسلاماً: علي بن أبي طالب؟

وكيف خفي هذا السرُّ المختلق على الصحابة الحضور والتابعين لهم بإحسان، فطفقوا يمدحونه بهذه الإثارة كما يروى عن: سلمان الفارسي، أنس بن مالك، زيد بن أرقم، عبد الله بن عباس، عبد الله بن حجل، هاشم بن عتبة، مالك الأشتر، عبد الله بن هاشم، محمد بن أبي بكر، عمرو بن الحمق، أبو عمر عدي بن حاتم، أبو رافع، بريدة، جندب بن زهير، أم الخير بنت الحراش(١) ؟

وهل القول بقلِّة التفات النبي إلى علي يساعده القرآن الناطق بأنّه نفس النبي الطاهر؟! أو جعل مودّته أجر رسالته؟!.

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث الطير المشوي، المروي في الصحاح والمسانيد: اللّهمّ ائتني بأحبِّ خلقك إليك ليأكل معي.

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعائشة: إنّ عليّاً أحبُّ الرجال إليَّ، وأكرمهم عليَّ، فاعرفي له حقّه، وأكرمي مثواه(٢) .

____________________

(١) أكثر المصادر التاريخية.

(٢) الرياض النضرة ج٢ ص١٦١ ذخائر العقبى ٦٢.

١٩

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أحبُّ الناس إليَّ من الرجال علي(١) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : علي خير مَن أتركه بعدي(٢) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : خير رجالكم علي بن أبي طالب، وخير نسائكم فاطمة بنت محمد(٣) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : علي خير البشر، فمَن أبى فقد كفر!(٤).

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن لم يقل علي خير الناس فقد كفر(٥) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : في حديث الراية المتّفق عليه: لأعطيَّن الراية غداً رجلاً يحبّه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله.

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : علي منّي بمنزلة رأسي من بدني أو جسدي(٦) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : علي منّي بمنزلتي من ربّي(٧) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : علي أحبَّهم إليَّ، وأحبَّهم إلى الله(٨).

____________________

(١) وفي لفظ: أحب أهلي.

(٢) مواقف الأيجي ج٣ ص٢٧٦ مجمع الزوائد ج٩ ص١١٣.

(٣) تاريخ بغداد للخطيب ج٤ ص٣٩٢.

(٤) تاريخ بغداد، كنوز الحقائق، هامش الجامع الصغير، ص١٦ كنز العمال ج٦ ص١٥٩.

(٥) تاريخ بغداد ج٣ ص١٩٢ كنز العمال ج٦ ص١٥٩.

(٦) تاريخ بغداد ج٧ ص١٢ الصواعق ٧٥، الجامع الصغير للسيوطي، نور الأبصار: ص٨٠.

(٧) السيرة الحلبية ج٣ ص٣٩١ الرياض النضرة ج٢ ص١٦٣.

(٨) تاريخ بغداد ج١ ص١٦٠.

٢٠

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي: أنا منك وأنت منّي، أو: أنت منّي وأنا منك(1) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : علي منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمنٍ من بعدي(2) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث البعث بسورة البراءة المـُجمَع على صحّته: لا يذهب بها إلاّ رجل منّي وأنا منه(3) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لحمك لحمي ودمك دمي والحق معك(4) .

أو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من نبي إلاَّ وبه نظير في أُمته، وعلي نظيري(5) .

أو ما صحّحه الحاكم وأخرجه الطبراني عن أم سلمة قالت: كان رسول الله إذا أُغضب لم يجترئ أحد أن يكلَّمه غير علي(6).

أو قول عائشة: والله ما رأيت أحداً أحبُّ إلى رسول الله من علي ولا في الأرض امرأة كانت أحبُّ إليه من امرأته(7).

أو قول بريدة وأُبي: أحب الناس إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من النساء فاطمة، ومن الرجال علي(8) .

____________________

(1) مسند أحمد ج5 ص204، الخصائص للنسائي 36و51.

(2) مسند أحمد ج5 ص356.

(3) الخصائص للنسائي 8 وغيره.

(4) المحاسن والمساوئ ج1 ص31، مناقب الخوارزمي 76، 83، 87.

(5) الرياض النضرة ج2 ص164.

(6) الصواعق 73، تاريخ الخلفاء للسيوطي 116.

(7) مستدرك الحاكم ج3 ص154، الخصائص للنسائي 29.

(8) الخصائص للنسائي 29، مستدرك الحاكم ج3 ص155.

٢١

أو حديث جميع بن عمير، قال: دخلت مع عمّتي على عائشة فسألت: أي الناس أحب إلى رسول الله؟! قالت: فاطمة. فقيل: من الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علمت صوَّاماً قوَّاماً(1) .

وكيف كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقدِّم الغير على علي في الالتفات إليه؟! وهو أوّل رجل اختاره الله بعده من أهل الأرض لما اطَّلع عليهم، كما أخبر بهصلى‌الله‌عليه‌وآله لفاطمة بقوله: إنّ الله اطّلع على أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبيّاً، ثم اطّلع الثانية فاختار بعلك فأوحى إليَّ فأنكحته واتخذته وصيّاً(2) .

وبقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوك والآخر زوجك(3).

إلى آخر ما ذكره شيخنا الأميني (عليه الرحمة) في سرد الأحاديث الصحيحة في تزييف أباطيل ذلك الكتاب التائه.

هذا، والتهجُّمات القاسية ضدَّ آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كثيرة جدّاً، وسنشير أيضاً إلى بعضها في المستقبل بمناسبة المقام إن شاء الله.

وقبل الخوض في صميم البحث لا بأس بذكر مقدّمة كمدخل في الموضوع.

____________________

(1) جامع الترمذي 2 ص 227 وجمع آخر.

(3) الطبراني، كنز العمال ج6 ص153، مجمع الزوائد ج9 ص165.

(4) مواقف الإيجي ص8.

٢٢

وحيث إنّ التحدّث في هذا الكتاب إنّما هو عن شخصية فوق المستويات التي عرفها البشر؛ فلابدَّ من تمهيد أمور لعلّها تعتبر من (الماورائيات) فلا بأس، فالشخصية المترجمة عبقرية ماورائية، وسيتَّضح لك صدق هذا القول وصحّة هذا الكلام.

٢٣

قانون الوراثة

من الأمور الثابتة قديماً وحديثاً أنّ صفات الأبوين تنتقل إلى الطفل، وترتكز فيه منذ تكوُّنه في صلب أبيه إلى انتقاله إلى بطن أُمّه، ونشوّه ونُموِّه، وبعد الولادة والنموّ تظهر الصفات تدريجياً. بل وحتى الرضاع له تأثير عجيب في صفات الطفل المرتضع وفي الحديث عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : (لا تسترضعوا الحمقاء فإنّ الرضاع يعدي) وقد كتب الكثيرون حول هذا القانون تفاصيل كثيرة.

على ضوء هذا القانون ينبغي أن أذكر شيئاً من ترجمة حياة والديّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام كي نستنتج منها بعض جوانب العظمة التي أحاطت بالسيدة فاطمة من ناحية الوراثة، ولكنّ البحث سيطول، وينتقل الكتاب عن موضوعه إلى موضوع آخر، إلاَّ أنّنا نلخّص الكلام في هذه الجُمل الموجزة فنقول: سيّد الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أطهر كائن وأشرف مخلوق، وأفضل موجود في العالم كلّه، لأجله خلق الله الكائنات، ولا يوجد في الكون شرف أو فضيلة أو مكرمة إلاَّ وأوفى نصيبٍ ممكنٍ منها متوفّر في الرسول العظيم.

هذه عصارة الخلاصة ممّا يمكن أن يقال في حق الرسول، وليس في هذا التعبير شيء من الغلوّ والمبالغة، بل هو كقولنا: الشمس مشرقة، والعسل حلو.

هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد انحدرت الزهراء

٢٤

من صلبه.

وأمّا السيّدة خديجة، فكانت امرأة بيضاء، طويلة حسناء، شريفة في قومها، عاقلة في أمورها، لها نصيب وافر من الذكاء، وبصيرة في الأمور، تعتمد على نفسها وشخصها، تدير عجلة التجارة بفكرها الوقَّاد، وتعرف مبادئ الاقتصاد والتصدير والاستيراد.

هذا بصفتها إنسان أو بصفتها امرأة.

وأمَّا بصفتها زوجة فقد بذلت تلك الآلاف المؤلّفة من أموالها لزوجها الرسول يتصرّف فيها حسب رأيه، وكان لأموال خديجة كل التأثير في تقوية الإسلام يومذاك؛ إذ كان الدين الإسلامي في دور التكوين، وكان بأمس الحاجة إلى المال، فقيّض الله للإسلام أموال خديجة، وبالفعل تحقّق الهدف.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما نفعني مالٌ قط مثل ما نفعني مال خديجة) وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يفك من مالها الغارم والعاني، ويحمل الكَلَّ، ويعطي في النائبة ويرفد فقراء أصحابه إذ كان بمكّة، ويحمل من أراد منهم الهجرة، وكان ينفق منه ما شاء في حياتها، ثم ورثها هو وولدها بعد مماتها(1) .

وبهذا يتضح كلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما قام ولا استقام الدين إلاّ بسيف علي ومال خديجة).

وكانت معاشرتها للرسول في حياتها الزوجية تستحق كل تقدير

____________________

(1) الأمالي للطوسي ج 2 ص 82.

٢٥

وتعظيم، ولهذا كان الرسول إذا ذكرها أو ذُكرت عنده بعد وفاتها ترحَّم عليها، وانكسر قلبه عليها وربّما جرت عبرته على خدّه حزناً عليها.

وذات يوم ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة فقالت عائشة: عجوز كذا وكذا قد أبدلك الله خيراً منها!! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما أبدلني منها، لقد آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدَّقتني حين كذّبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولدها، وحرمني ولد غيرها(1) .

____________________

(1) الاستيعاب.

٢٦

زواج الرّسُول الأعْظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

تزوّج الرسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله بالسيدة خديجة الكبرى وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي بنت أربعين سنة، وقيل: ستة وعشرين سنة(1) وقيل: ثمانية وعشرين سنة(2) .

ويقال إنّها كانت قد تزوّجت قبل الرسول بزوجين متعاقبين، وقيل: بل كانت عذراء يوم تزوّجها الرسول(3) ولكنّه غير مشهور.

لم يكن زواج الرسول بالسيدة خديجة يشبه الزواج المتعارف بين الناس، بل يعتبر هو الزواج الوحيد من نوعه، إذ لم يكن ذلك القِران الميمون نتيجة حُبٍ وغرام، بل لم يكن هناك دافع مادِّي أو ما يشبهه من الأغراض التي كثيراً تحدث في زواج العظماء من جوانب السياسة.

بل لم يكن هناك تناسب بين الرسول وبين السيدة خديجة من حيث الحياة الاقتصادية، فالرسول العظيم كان يعيش تحت كفالة عمِّه الفقير أبي طالب.

والسيدة خديجة هي أثرى وأغنى امرأة في مكّة، فهناك بون شاسع في مستوى المعيشة بين هذا وتلك.

____________________

(1) جنات الخلود.

(2) بحار الأنوار ج6.

(3) البلاذري، وأبو القاسم في كتابيهما، والمرتضى في الشافي. وأبو جعفر في التلخيص، وابن شهرآشوب في المناقب.

٢٧

ولكن السيدة خديجة كانت قد علمت أو سمعت أنّ للرسول مستقبلاً متلألئاً واسع النطاق، ولعلَّ غلامها ميسرة هو الذي حدَّثها بما جرى للرسول في أثناء رحلته إلى الشام قصد التجارة بأموال خديجة، أو بلغها كلام راهب دير بُصرى قرب الشام في حق الرسول.

فهنا اقترحت السيدة خديجة قضية الزواج، وفاتحت الرسول، وطلبت منه أن يطلب يدها من والدها خويلد أو عمّها (على قولٍ).

لكنّ الرسول كان يفضِّل أن يتزوَّج بامرأة فقيرة تنسجم حياتها مع حياة الرسول، واعتذر من خديجة، وامتنع من تلبية طلبها لهذا السبب.

لكنّ السيدة خديجة العاقلة اللبيبة الفاضلة أجابته بأنّها تهب نفسها للنبي فهل يصعب عليها أن تبذل أموالها له، وتجعلها تحت تصرُّف الرسول؟

وطلبت من الرسول أن يرسل أعمامه إلى أبيها خويلد ليخطبوها.

فوجئ أعمام الرسول بهذا النبأ الوحيد من نوعه، واستولت الدهشة على عمّات الرسول حينما سمعن منه الخبر، إنّه لعجيب!!.

سيّدة تملك الآلاف من الأموال، ويعيش العشرات والمئات من العملاء والأجراء من بركات أموالها وتجارتها القائمة صيفاً وشتاءً، بين اليمن ومكّة وبين مكّة والشام.

سيدّة خطبها الأُمراء والأشراف فرفضتهم، سيّدة هكذا تقدِّم نفسها هبةً لشاب فقير يعيش تحت كفالة عمِّه الفقير أبي طالب.

٢٨

فيا ترى هل صدقت خديجة في تقديم نفسها للرسول؟ وهل لهذا الخبر نصيب من الحقيقة؟ قامت صفية بنت عبد المطلب (عمّة النبي) وتوجّهت إلى دار خديجة للتحقيق عن الخبر، وإذا بها تجد الترحيب والاستعداد بجميع معنى الكلمة.

٢٩

السَيّدة خَديجة على أبواب السعادة

رجعت صفية إلى إخوتها (أعمام النبي) وأخبرتهم بصدق الخبر، واستولت الفرحة على أعمام النبي، فرحة ممزوجة بالتعجّب والدهشة والذهول.

فإنّ خديجة خطبها الأمراء وأشراف العرب فرفضت ولم توافق، إذ إنّها لم ترهم لها أكفاءً، فما الذي دعاها إلى انتخاب هذا الزوج الفقير الذي لا يملك من حطام الدنيا تبراً، ولا من الأرض البسيطة شبراً؟ يا للعجب العجاب!.

قام أعمام النبي وقصدوا دار خديجة، وخطبوها من أبيها خويلد أو عمِّها، فامتنع ثم وافق بعد ذلك. ثم لابدَّ من تقديم مبلغ من المال صداقاً يليق بمقام خديجة، فكيف يمكن تحصيل هذا المال؟ ومن أين؟ ومَن الذي يتبرع بالصداق؟

وإذا بالسيدة خديجة تباغتهم مرّةً أُخرى، وتدفع إلى الرسول أربعة آلاف دينار هدية، وتطلب منه أن يجعل ذلك المبلغ صداقاً لها ويقدِّمه إلى أبيها خويلد.

وفي رواية: أنّ أبا طالب هو الذي دفع الصداق من ماله.

إن كانت السيدة خديجة تؤمن بالقيَم، وتضحّي بالمادة في سبيل تحصيل الشرف فإنّ أباها خويلد لم يكن يحمل هذه الفكرة، وكثيراً ما تجد التفاوت الكثير بين ثقافة الأب وابنه أو ابنته.

٣٠

وهذا الاختلاف في التفكير موجود بين طبقات الناس، وحتى بين الأخ وأخيه، والرجل وزوجته، والأب وما ولد.

كانت هذه المبادرة نادرة عجيبة جداً، فلم يعهد أحد في العرب أنّ المرأة تقدِّم الصداق لزوجها، فلا عجب إذا هاج الحسد بأبي جهل وقال: (يا قوم رأينا الرجال يمهرون النساء، وما رأينا النساء يمهرن الرجال).

فيجيبه أبو طالب مغضباً: (ما لك؟ يا لكع الرجال! مثل مُحمد يُحمل إليه ويُعطى، ومثلك يُهدي ولا يُقبل منه) أو قال: (إذا كانوا مثل ابن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوَّجوا إلاَّ بالمهر الغالي).

وتمَّ الزواج المبارك الميمون على أحسن ما يرام، وانتقل الرسول إلى دار السيدة خديجة، فكانت خديجة تشعر أنّها في أسعد أيام حياتها إذ إنّها وصلت إلى أغلى أمانيها وأحلى أحلامها.

وأنجبت السيدة خديجة أولاداً ماتوا كلّهم في أيام الصغر، وأنجبت بنات أربع: زينب وأُمّ كلثوم ورقية وفاطمة الزهراء، وكانت فاطمة أصغرهنَّ سنّاً وأجلَّهنَّ شأْناً وأعظمهنَّ قدراً. وهناك اختلاف بين المؤرّخين والمحدّثين حول البنتين الأوليين، فقيل: إنّهما ليستا من بنات النبي، والصحيح أنّهما من بناته وصلبه. وسيأتي الكلام حول ذلك في المستقبل بالمناسبة بإذن الله(1) .

____________________

(1) التقطنا تفاصيل زواج السيدة خديجة من بحار الأنوار ج 16.

٣١

كَلِمَة خَاطِفَة حَوْلَ (المـَاوَرَائيّات)

هذه هي السيدة خديجة الكبرى، وهذا بعض مناقبها وفضائلها التي تُعتبر كل فضيلة منها مثالاً رائعاً للإنسان الكامل، وهذه السيدة هي التي أنجبت السيدة فاطمة الزهراء، وأرضعتها اللبن الممزوج بالمواهب والفضائل.

وفاطمة الزهراء سليلة أبوين هذا بعض ما يتعلّق بحياتهما ومحاسنهما، وهذه نظرة خاطفة أو صورة مصغّرة يمكن لنا أن ننظر منها إلى عبقرية سيّدتنا فاطمة الزهراء؛ وبذلك تظهر لنا زاوية من حياتها على ضوء الوراثة.

وهناك حقائق ثابتة لا يمكن إنكارها، وقد صرّحت بذلك أحاديث شريفة كثيرة متواترة عن الرسول الأقدس وأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام لم يكتشفها العلم الحديث، ولم تصل إليها الاكتشافات الحديثة بالرغم من سعتها وانتشارها، وبالرغم من وصولها إلى الذرّة فما فوقها وإلى الكواكب فما دونها.

تلك الحقائق لا مجال للآلات والمجاهر أن تغزوها وتحيط بها علماً، ولا طريق لعدسات المصوِّرين أن تلتقطها ولو بالأشعة البنفسجية وما فوق البنفسجية.

وتفشل دون إدراكها مقاييس الطبيعة والمنطق، فالحقيقة فوق إدراك المادة والموازين المنطقية، فلا تدرك بالحواس الخمس: (الباصرة، السامعة، الذائقة، الشامّة، اللامسة) بل هي من أسرار الله المـُودَعة في الكائنات، وإن شئت أن تسمّيها بـ (الماورائيات ) فلك ذلك.

٣٢

وقبل عرض تلك الحقائق لابدّ من تمهيد مقدّمة موجزة فنقول: إنّ النطفة التي تنعقد في الرحم ويتكوّن منها الجنين، تتكوّن من الدم، والدم يستخلص من الطعام بعد إنهاء عمليات الهضم والنضج والطبخ في المختبرات التي يحتويها الجسم، فلا شك أنّ النطفة المتكوّنة من الدم المستخلص من لحم الخنزير أو الخمر - مثلاً - تختلف عن النطفة المتكوّنة من الدم المستخلص من لحم الغنم أو ما أشبه ذلك؛ لأنّ نوعيّة هذا اللحم تختلف اختلافاً كبيراً عن نوعيّة ذاك، فكذلك تختلف منتجات كل واحد منهما.

وللطعام تأثير خاص في روح الإنسان ونفسه، فهناك أطعمة مفرِّحة للقلب، مهدئة للأعصاب، تخفّف عن توتّرها، وهناك أطعمة مفعولها عكس ذلك.

وللطعام الحلال والطاهر تأثير في نفس الإنسان وروحه، بعكس الطعام النجس كالخمر أو الحرام كالمسروق والمغصوب.

ونفس التأثير يظهر في النطفة التي تنعقد من الطعام الحلال أو الحرام، أو الطاهر أو النجس، ولو أردنا استعراض الشواهد وإقامة الأدلة والبراهين على ذلك لطال بنا الكلام وخرج الكتاب عن أسلوبه وموضوعه المقصود.

وعلى هذا الغرار فللطعام الذي يأكله الأبوان كل التأثير في توجيه الطفل وتسييره نحو الخير والشر؛ إذ من ذلك الطعام تتكوّن النطفة، ثم تنتقل من صلب الرجل إلى رحم زوجته، وتلتصق بجدار الرحم، وتنمو وتكبر حتى تكمل جنيناً تامّاً.

فالطعام من حيث النوعية ومن حيث الحكم الشرعي كالحلال والحرام، والطاهر، له تأثير عجيب مدهش في مصير الطفل، وكيفية تفكيره في الأمور واختيار الحياة الدينية، وتوجيهه نحو الاعتدال

٣٣

والاستقامة أو الانحراف والانجراف.

وكذلك الحالة النفسية الموجودة عند الزوجين عند العملية الجنسيّة لها كل التأثير في مقدّرات الطفل وحالاته ونفسيّاته في المستقبل.

فالخوف والقلق لهما أسوأ الأثر في مستقبل الطفل المسكين، وبالعكس الطمأنينة والهدوء النفسي له أحسن الأثر في الطفل.

كذلك الرغبة الملحّة والشوق الشديد يؤثّر في جمال الطفل وحسنه وذكائه، بينما عدم الرغبة وضعف الشهوة بسبب خلاف ذلك.

وانطلاقاً من هاتين النقطتين: نقطة تأثير الطعام ونقطة تأثير الحالة النفسية ننتقل بالقرّاء إلى طائفة من الأحاديث المتواترة، فقد ذكر شيخنا المجلسي (قدّس سرّه) في السادس من البحار هذا الحديث الشريف:

اعتزال النبي عن خديجة

... هبط جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فناداه: يا محمد! العليّ الأعلى يقرأ عليك السلام، وهو يأمرك أن تعتزل خديجة أربعين صباحاً.

فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان لها محبّاً وبها وامقاً (محبّاً) فأقام النبي أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل، حتى إذا كان في آخر أيامه تلك. بعث إلى خديجة بعمّار بن ياسر وقال: قل لها: يا خديجة لا تظنّي أنّ انقطاعي عنك هجرة ولا قلى، ولكنّ ربّي أمرني بذلك لينفّذ أمره، فلا تظنّي يا خديجة إلاّ خيراً، فإنّ الله عزّ وجلّ ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مراراً.

فإذا جنّك الليل فأجيفي (ردّي) الباب، وخذي مضجعك من

٣٤

فراشك، فإنّي في منزل فاطمة بنت أسد.

فجعلت خديجة تحزن كل يوم مراراً لفقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا كان في كمال الأربعين هبط حبرئيل فقال: يا محمد! العليّ الأعلى يقرئك السلام وهو يأمرك أن تتأهّب لتحيَّته وتحفته.

طعام الجنّة

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جبرئيل وما تحفة ربّ العالمين وما تحيّته؟ فقال جبرئيل: لا علم لي.

فبينما النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطّى بمنديل سندس أو إستبرق، فوضعه بين يدي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأقبل جبرئيلعليه‌السلام وقال: يا محمد، يأمرك ربّك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.

قال علي بن أبي طالبعليه‌السلام : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمـَن يرد من الأقطار، فلمّا كان في تلك الليلة أقعدني النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على باب المنزل وقال: يا بن أبي طالب إنّه طعام محرَّم إلاّ عليَّ.

قال عليعليه‌السلام : فجلست على الباب، وخلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالطعام، وكشف الطبق، فإذا عذق من رطب، وعنقود من عنب، فأكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله منه شبعاً وشرب من الماء رياً، ومدّ يده للغسل، فأفاض الماء عليه حبرئيل، وغسل يده ميكائيل وتمندله إسرافيل، وارتفع فاضل (باقي) الطعام مع الإناء إلى السماء.

ثم قام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ليصلي فأقبل عليه جبرئيل وقال: الصلاة محرَّمة عليك

٣٥

في وقتك حتى تأتي إلى منزل خديجة فتواقعها، فإنّ الله عزّ وجلّ آلى (حلف) على نفسه أن يخلق من صلبك هذه الليلة ذرية طيّبة.

فوثب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى منزل خديجة.

قالت خديجة: وقد كنت قد ألفت الوحدة، فكان إذا جنّني الليل غطّيت رأسي، وسجفت (أرسلت) ستري وغلّقت بابي، وصلّيت وِردي، وأطفأت مصباحي، وآويت إلى فراشي؛ فلمّا كانت تلك الليلة لم أكن نائمة ولا بالمنتبهة إذ جاء النبي فقرع الباب، فناديت: مَن هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلاّ محمد؟

فنادى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة فإنّي محمد. قالت خديجة: فقمت مستبشرة بالنبي، وفتحت الباب، ودخل النبي المنزل، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهّر للصلاة ثم يقوم فيصلّي ركعتين يوجز فيهما، ثم يأوي إلى فراشه.

فلما كانت تلك الليلة لم يدعُ بالإناء ولم يتأهب للصلاة... بل كان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء، وأنبع الماء ما تباعد عنّي النبي حتى أحسست بثقل فاطمة في بطني... إلى آخره(1) .

نستفيد من هذا الحديث أموراً:

1 - إنّ الله تعالى أمر نبيّه أن يعتزل خديجة، وأن ينقطع عن رؤيتها لفترة حتى يزداد بها شوقاً ورغبة.

2 - اشتغاله بالمزيد من العبادة للمزيد من روحانية النفس وسمّوها

____________________

(1) البحار ج16 / 78.

٣٦

وتعاليها بسبب الاتصال بالعالم الأعلى.

3 - إفطاره بالتحفة السماوية الطاهرة، السريعة التحوّل إلى النطفة بسبب لطافتها.

4 - تكوّن النطفة من طعام سماوي لطيف، لا يشبه الأطعمة المادية.

5 - التوجّه إلى دار خديجة فوراً استعداداً لانتقال النطفة مع تلك المقدّمات.

وقد ذكر هذا الحديث - من علماء العامّة - بتغيير يسير كلٌّ من:

1 - الخوارزمي في مقتل الحسين ص63 و68.

2 - الذهبي في الاعتدال ج2 ص26.

3 - تلخيص المستدرك ج3 ص156.

4 - العسقلاني في لسان الميزان ج4 ص36.

ثمّ هناك أحاديث كثيرة بهذا المعنى مع اختلافٍ يسير في ألفاظها، واتفاقها حول النقطة الجوهرية، وهي انعقاد نطفة السيدة فاطمة الزهراء من طعام الجنّة، ونذكر من بعض تلك الأحاديث الجملة المرتبطة بالموضوع رعايةً للاختصار، فنقول:

عن الإمام الرضاعليه‌السلام قال: قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : لما عُرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنّة فناولني من رطبها فأكلته، فتحوّل ذلك نطفةً في صلبي فلمّا هبطت واقعت خديجة، فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسيَّة، فكلّما اشتقت إلى رائحة الجنّة شممت رائحة ابنتي فاطمة(1) .

عن الإمام الباقرعليه‌السلام عن جابر بن عبد الله قال: قيل لرسول

____________________

(1) الأمالي للصدوق.

٣٧

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك لتلثم فاطمة وتلزمها وتدنيها منك... وتفعل بها ما لا تفعله بأحد من بناتك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ جبرئيل أتاني بتفاحة من تفّاح الجنّة فأكلتها فتحوّل ماءً في صلبي، ثمّ واقعت خديجة فحملت بفاطمة؛ وأنا أشمّ منها رائحة الجنّة (1) .

وعن ابن عباس قال: دخلت عائشة على رسول الله وهو يقبِّل فاطمة، فقالت له: أتحبّها يا رسول الله؟ قال: أما والله لو علمت حبِّي لها لازددت لها حباً، إنّه لما عُرج بي إلى السماء الرابعة... إلى أن يقول: فإذا برطب ألين من الزبد، وأطيب من المسك، وأحلى من العسل، فأخذت رطبة فأكلتها فتحوّلت الرطبة نطفة في صلبي، فلمّا أن هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوارء إنسيّة، فإذا اشتقتُ إلى الجنّة شممتُ رائحة فاطمة(2) .

وقد روى هذا الحديث بألفاظ مختلفة كلٌّ من:

1 - الخطيب البغدادي في تاريخه ج5 ص87.

2 - الخوارزمي في مقتل الحسين ص63.

3 - محمد بن أحمد الدمشقي في ميزان الاعتدال ج1 ص38.

4 - الزرندي في (نظم درر السمطين).

5 - العسقلاني في لسان الميزان ج5 ص160.

6 - القندوزي الحنفي في ينابيع المودّة.

7 - محب الدين الطبري في ذخائر العقبى ص34.

____________________

(1) علل الشرائع.

(2) البحار: ج 16.

٣٨

وهذه الأحاديث مرويّة عن: عائشة وابن عباس وسعيد بن مالك وعمر بن الخطاب.

8 - وروى ذلك الشيخ شُعيب المصري في (الروض الفائق ص214) قال: (روى بعض الرواة الكرام: أنّ خديجة الكبرىرضي‌الله‌عنها تمنَّت يوماً من الأيام على سيّد الأنام أن تنظر إلى بعض فاكهة دار السلام، فأتى جبرئيل إلى المفضّل على الكونين من الجنّة بتفاحتين وقال: يا محمد يقول لك مَن جعل لكل شيء قدراً: كل واحدة وأطعم الأخرى لخديجة الكبرى، وأغشها، فإنّي خالق منكما فاطمة الزهراء. ففعل المختار ما أشار به الأمين وأمر... إلى أن قال: فكان المختار كلّما اشتاق إلى الجنّة ونعيمها قبَّل فاطمة وشمَّ طيب نسيمها، فيقول حين يستنشق نسمتها القدسية: إنّ فاطمة حوراء إنسية).

وهناك روايات متواترة بهذا المضمون، واكتفينا بما ذكرنا.

بقيت هنا كلمة لا بأس بالإشارة إليها، وهي أنّ الأحاديث كما تراها تصرّح بأنّ السيدة خديجة حملت بفاطمةعليها‌السلام بعد المعراج مباشرةً، وكان المعراج على ما هو المذكور في بعض كتب الحديث في السنة الثالثة من المبعث، وفي بعضها: في السنة الثانية وقيل غير ذلك.

وستأتيك طائفة من الأحاديث من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تصرّح بولادتها بعد المبعث بخمس سنين، ومعنى هذا أنّها بقيت في بطن أُمّها أكثر من عامين، وهذا غير صحيح قطعاً، فكيف يمكن الجمع بين القولين؟

يمكن أن تُحلّ هذه المشكلة بما يلي:

1 - إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عُرج به إلى السماء

٣٩

أكثر من مرّة كما في كتاب الكافي(1) وهذا عندي أحسن الوجوه.

2 - الأخذ بالقول المروي بولادتها في السنة الثانية أو الثالثة من المبعث (كما سيأتي) وهذا يتفق مع القول بالمعراج في تلك السنة نفسها، وخاصة بعد الالتفات إلى اختلاف الأقوال حول الشهر الذي كان فيه المعراج.

الجنين يتكلّم مع أُمّه

ومن جملة مزايا السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام أنّها كانت تكلّم أُمّها خديجة وهي في بطنها، ولم ينفرد علماء الشيعة بذكر هذه الفضيلة، بل شاركهم كثير من علماء العامّة ومحدّثيهم، فقد روى عبد الرحمان الشافعي في (نزهة المجالس ج2 ص227): (قالت أُمّها خديجةرضي‌الله‌عنها : لما حملتُ بفاطمة كانت حملاً خفيفاً، تكلِّمني من باطني).

وروى الدهلوي في (تجهيز الجيش) عن كتاب (مدح الخلفاء الراشدين): (إنّه لما حملت خديجة بفاطمة كانت تكلّمها ما في بطنها، وكانت تكتمها عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فدخل عليها يوماً وجدها تتكلّم وليس معها غيرها، فسألها عمّن كانت تخاطبه فقالت: ما في بطني، فإنّه يتكلّم معي. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : أبشري يا خديجة، هذه بنت جعلها الله أُمّ أحد عشر من خلفائي يخرجون بعدي وبعد أبيهم).

وذكر شعيب بن سعد المصري في (الروض الفائق ص214): فلمّا سأله الكفّار أن يريهم انشقاق القمر، وقد بان لخديجة حملها بفاطمة

____________________

(1) الكافي ج 1 / 442 باب مولد النبي حديث 13.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568