فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد10%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 248250 / تحميل: 11115
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

الآيات

( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) )

التّفسير

الوعد بنصر المؤمنين :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن تحاجج أهل النّار وعجزهم عن أن ينصر أحدهم الآخر ، وبعد أن تحدثت الآيات التي سبقتها عن مؤمن آل فرعون وحماية الله له من كيد فرعون وآل فرعون ، عادت هذه المجموعة من الآيات البينات تتحدث عن شمول الحماية والنصر الإلهي لأنبياء الله ورسله وللذين آمنوا ، في هذه الدنيا وفي الآخرة.

إنّها تتحدث عن قانون عام تنطق بمضمونه الآية الكريمة :( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا

٢٨١

وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) .

إنّها الحماية المؤكّدة بأنواع التأكيد ، والتي لا ترتبط بقيد أو شرط ، والتي يستتبعها الفوز والنصر ، النصر في المنطق والبيان ، وفي الحرب والميدان ، وفي إرسال العذاب الإلهي على القوم الظالمين ، وفي الإمداد الغيبي الذي يقوي القلوب ويشد الأرواح ويجذبها إلى بارئها جلّ وعلا.

إنّ الآية تواجهنا باسم جديد ليوم القيامة هو :( يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) .

«أشهاد» جمع «شاهد» أو «شهيد» (مثل ما أنّ أصحاب جمع صاحب ، وأشراف جمع شريف) وهي تعني الذي يشهد على شيء ما.

لقد ذكرت مجموعة من الآراء حول المقصود بالأشهاد ، نستطيع اجمالها بما يلي :

١ ـ الأشهاد هم الملائكة الذين يراقبون أعمال الإنسان.

٢ ـ هم الأنبياء الذين يشهدون على الأمم.

٣ ـ هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون الذين يشهدون على أعمال الناس.

أمّا احتمال أن تدخل أعضاء الإنسان ضمن هذا المعنى ، فهو أمر غير وارد ، بالرغم من شمولية مصطلح «الأشهاد» لأنّ تعبير( يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) لا يتناسب وهذا الاحتمال.

إنّ التعبير يشير إلى معنى لطيف ، حيث يريد أن يقول أنّ :( يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) الذي تنبسط فيه الأمور في محضر الله تبارك وتعالى ، وتنكشف السرائر والأسرار لكافة الخلائق ، هو يوم تكون الفضيحة فيه أفظع ما تكون ، ويكون الإنتصار فيه أروع ما يكون إنّه اليوم الذي ينصر الله فيه الأنبياء والمؤمنين ويزيد في كرامتهم.

إنّ يوم الأشهاد يوم افتضاح الكافرين وسوء عاقبة الظالمين ، هو :( يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) .

٢٨٢

فمن جهة هو يوم لا تنفع المعذرة فيه ، ولا يحول شيء دون افتضاح الظالمين أمام الأشهاد.

ومن جهة اخرى هو يوم تشمل اللعنة الإلهية فيه الظالمين ، واللعنة هنا البعد عن الرحمة.

ومن جهة ثالثة هو يوم ينزل فيه العذاب الجسماني على الظالمين ، ويوضعون في أسوأ مكان من نار جهنم.

سؤال :

إنّ الآية تفتح المجال واسعا للسؤال التالي ، : إذا كان الله (تبارك وتعالى) قد وعد حتما بانتصار الأنبياء والمؤمنين ، فلما ذا نشاهد ، ـ على طول التأريخ ـ مقتل مجموعة من الأنبياء والمؤمنين على أيدي الكفار؟ ولماذا ينزل بهم الضيق والشدة من قبل أعداء الله ، ثمّ لماذا تلحق بهم الهزيمة العسكرية؟ وهل يكون ذلك نقضا للوعد الإلهي الذي تتحدث عنه الآية الكريمة؟

الجواب على كلّ هذه الأسئلة المتشعبة يتضح من خلال ملاحظة واحدة هي : إن أكثر الناس ضحية المقاييس المحدودة فى تقييم مفهوم النصر ، إذ يعتبرون الإنتصار يتمثل فقط في قدرة الإنسان على دحر عدوه ، أو السيطرة على الحكم لفترة وجيزة!

إنّ مثل هؤلاء لا يرون أي اعتبار لانتصار الهدف وتقدم الغاية ، أو تفوق وانتشار المذهب والفكرة ، هؤلاء لا ينظرون إلى قيمة المجاهد الشهيد الذي يتحول إلى نموذج وقدوة في حياة الناس وعلى مدى الأجيال. ولا ينظرون إلى القيمة الكبرى التي يستبطنها مفهوم العزة والكرامة والرفعة التي ينادي بها أحرار البشر والقرب من الله تعالى ونيل رضاه.

وبديهي إنّ الانحباس في إطار هذا التقييم المحدود يجعل من العسير الجواب

٢٨٣

على ذلك الاشكال ، أما الانطلاق إلى أفق المعاني الواسعة الوضّاءة لمفهوم النصر الإلهي والأخذ بنظر الاعتبار القيم الواقعية للنصر سيؤدي بنا الى معرفة المعنى العميق للآية.

ثمّة كلام لطيف لسيّد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن» يناسب هذا المقام ، إذ يورد فيه ذكرى بطل كربلاء الإمام الحسينعليه‌السلام كمثال على المعنى الواسع لمفهوم النصر فيقول : «... والحسين ـ رضوان الله عليه وهو يستشهد في تلك الصورة العظيمة من جانب ، المفجعة من جانب ، أكانت هذه نصرا أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة وبالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأمّا في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصرا. فما من شهيد في الأرض تهتز له الجوانح بالحب والعطف وتهفوا له القلوب وتجيش بالغير والفداء كالحسين رضوان الله عليه ، يستوي في هذا المتشيعون وغير المتشيعين من المسلمين وكثير من غير المسلمين»(١) .

وينبغي أن نضيف إلى هذا الكلام أن شيعة أهل البيتعليهم‌السلام يشاهدون كل يوم بأعينهم آثار الخير من حياة سيّد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ويلمسون آثار استشهاده واستشهاد صحبه البررة من أهل بيته وأصحابه ؛ إن مجالس العزاء التي تقام للحديث عن مناقب الحسين وصحبه الكرام هي ينبوع الخير لحركة عظيمة ثرّة ما زال عطاؤها لم ولن ينضب!

لقد شاهدنا بأعيننا ومن خلال النموذج الثوري الذي شهدته أرض إيران المسلمة ، كيف استطاع الملايين من أبناء الإسلام أن يتحركوا في أيّام عاشوراء للقضاء على الظلم والطغيان والاستكبار.

لقد شاهدنا بأعيننا كيف استطاع هذا الجيل المضحي الذي تربى في مدرسة أبي الشهداء الحسينعليه‌السلام وتغذى ممّا تدره مجالس عزائه ، أن يحطّم بأيد خالية عرش أقوى السلاطين الجبّارين.

__________________

(١) في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠.

٢٨٤

نعم ، لقد شاهدنا دم الحسين الشهيد وقد سرى في العروق عزة وحركة وانتفاضة ، وغيرت الحسابات السياسية والعسكرية للدول الكبرى.

بعد كلّ ذلك ، ومع كلّ العطاء الثر الهادي الذي استمدته كلّ الأجيال ـ خلال التأريخ ـ من ذكرى الطف وسيّد الشهداء ، ألا يعتبر الحسينعليه‌السلام منتصرا حتى باتت آثار نصره الظافر حاضرة فينا بالرغم من مرور أكثر من ثلاثة عشر قرنا على استشهاده!؟

سؤال آخر

ثمة سؤال آخر يتبلور من المقابلة بين الآية التي بين أيدينا والآية (٣٦) من سورة «المرسلات» إذ نقرأ الآية التي نحن بصددها أنّ اعتذار الظالمين لا يؤثر ولا ينفعهم يوم القيامة ، فيما تنص الآية من سورة المرسلات على أنّه لا يسمح لهم بالاعتذار أصلا ، حيث قوله تعالى :( وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) فكيف يا ترى نوفّق بين الإثنين؟

قبل الإجابة ينبغي الانتباه إلى ملاحظتين :

الأولى : أنّ ليوم القيامة مواقف معينة تختلف شرائطها ، ففي بعضها يتوقف اللسان عن العمل وتنطق الأرجل والأيدي والجوارح ، وتقوم بالشهادة على عمل الإنسان. وفي مواقف اخرى ينطلق اللسان بالنطق والكلام (كما تحكي ذلك الآية ٦٥ من سورة «يس» والآيات السابقة في هذه السورة التي تحدث عن تحاجج أهل النّار).

بناء على هذا ، فلا مانع من عدم السماح لهم بالاعتذار في بعض المواقف ، في حين يسمح لهم في مواقف اخرى ، وإن كان الاعتذار لا يجدي شيئا ولا يغير من المصير.

الملاحظة الثانية : إنّ الإنسان يتحدث في بعض الأحيان بكلام لا فائدة منه ،

٢٨٥

ففي مثل هذه الموارد يكون الشخص كمن لم يتكلّم أصلا. بناء على هذا يمكن أن تكون الآية الدالة على عدم السماح لهم بالاعتذار تقع وفق هذا المعنى ، أي أنّ اعتذارهم برغم خروجه من أفواههم ، إلّا أنّه لا فائدة ترجى منه.

تنتقل الآيات الكريمة بعد ذلك للحديث عن أحد الموارد التي انتصر فيها الرسل نتيجة الحماية الإلهية والدعم الربّاني لهم ، فتتحدث عن النّبي الكليمعليه‌السلام :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ ) .

إنّ هداية الله لموسى تنطوي على معاني واسعة إذ تشمل مقام النبوة والوحي ، والكتاب السماوي (التوراة) والمعاجز التي وقعت على يديهعليه‌السلام أثناء تنفيذه لرسالات ربّه وتبليغه إيّاها.

إن استخدام كلمة «ميراث» بالنسبة إلى التوراة يعود إلى أنّ بني إسرائيل توارثوه جيلا بعد جيل ، وكان بإمكانهم الاستفادة منه بدون مشقة ، تماما مثل الميراث الذي يصل إلى الإنسان بدون عناء وتعب ، ولكنّهم فرّطوا بهذا الميراث الإلهي الكبير.

الآية التي بعدها تضيف :( هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ) (١) .

الفرق بين «الهداية» و «الذكرى» أنّ الهداية تكون في مطلع العمل وبدايته ، أما التذكير فهو يشمل تنبيه الإنسان بأمور سمعها مسبقا وآمن بها لكنّه نسيها.

وبعبارة اخرى : إنّ الكتب السماوية تعتبر مشاعل هداية ونور في بداية انطلاقة الإنسان ، وترافقه في أشواط حياته تبث من نورها وهداها عليه.

ولكن الذي يستفيد من مشاعل الهدى هذه هم «أولو الألباب» وأصحاب العقل ، وليس الجهلة والمعاندون المتعصبون.

الآية الاخيرة ـ من المقطع الذي بين أيدينا ـ تنطوي على وصايا وتعليمات

__________________

(١) يمكن أن تكون «هدى وذكرى» مفعولا لأجله أو مصدرا بمعنى الحال ، أي (هاديا ومذكرا لأولى الألباب) لكن البعض احتمل أن تكون بدلا أو خيرا لمبتدأ محذوف ، إلّا أن ذلك غير مناسب كما يبدو.

٢٨٦

مهمّة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي في واقعها تعليمات عامة للجميع ، بالرغم من أنّ المخاطب بها هو شخص الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يقول تعالى :( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ ) .

عليك أن تصبر على عناد القوم ولجاجة الأعداء.

عليك أن تصبر حيال جهل بعض الأصدقاء والمعارف ، وتتحمل أحيانا أذاهم وتخاذلهم.

وعليك أيضا أن تصبر إزاء العواطف النفسية.

إنّ سر انتصارك في جميع الأمور يقوم على أساس الصبر والاستقامة.

ثم اعلم أنّ وعد الله بنصرك وأمتك لا يمكن التخلف عنه ، وإيمانك ـ وإيمانهم ـ بحقانية الوعد الإلهي يجعلك مطمئنا ومستقيما في عملك ، فتهون الصعاب عليك وعلى المؤمنين.

لقد أمر الله تعالى رسوله مرّات عديدة بالصبر ، والأمر بالصبر جاء مطلقا في بعض الموارد ، كما في الآية التي بصددها ، وجاء مقيدا في موارد اخرى ويختص بأمر معين ، كما في الآيتين (٣٩ ـ ٤٠) من سورة «ق» :( فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ ) .

وكذلك يخاطبه تعالى فى الآية (٢٨) من سورة الكهف بقوله تعالى :( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) .

إنّ جميع انتصارات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين الأوائل إنّما تمّت بفضل الصبر والاستقامة واليوم لا بدّ أن نسير على خطى رسول الله ، ونصبر كما صبر الرّسول وأصحابه إذ لولاه لما حالفنا النصر مقابل أعدائنا الألداء.

الفقرة الأخرى من التعليمات الربانية تقول :( وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ) .

واضح أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوم لم يرتكب ذنبا ولا معصية ، لكنّا قد أشرنا

٢٨٧

في غير هذا المكان إلى أنّ أمثال هذه التعابير في القرآن الكريم ، والتي تشمل في خطابها الرّسول الأكرم وسائر الأنبياء ، إنّما تشمل ما نستطيع تسميته بـ «الذنوب النسبية» لأنّ من الأعمال ما هو عبادة وحسنة بالنسبة للناس العاديين ، بينما هي ذنب للرسل والأنبياء لأنّ : (حسنات الأبرار سيئات المقربين).

فالغفلة ـ مثلا ـ لا تليق بمقامهم ، ولو لحظة واحدة. وكذلك الحال بالنسبة لترك الأولى ، إذ أن منزلتهم الرفيعة ومعرفتهم العالية تتوجب أن يحذروا هذه الأمور ويستغفروا منها متى ما صدرت عنهم.

وما ذهب إليه البعض من أنّ المقصود بالذنوب هي ذنوب المجتمع ، أو ذنوب الآخرين التي ارتكبوها بشأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أنّ الاستغفار تعبدي فهو بعيد.

الفقرة الأخيرة في الآية الكريمة تقول :( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ ) .

«العشي» فترة ما بعد الظهر إلى قبل غروب الشمس ، أما «الإبكار» فهو ما بين الطلوعين.

ويمكن أن تطلق لفظتا (العشي والإبكار) على الوقت المعيّن بالعصر والصباح ، حيث يكون الإنسان مهيأ للحمد وتسبيح خالقه تبارك وتعالى بسبب عدم شروعه بعد بعمله اليومي ، أو أنّه قد انتهى منه.

وقد اعتبر البعض أنّ هذا الحمد والتسبيح إشارة إلى صلاة الصبح والعصر ، أو الصلوات اليومية الخمس ، في حين أنّ ظاهر الآية ينطوي على مفهوم أوسع من ذلك الصلوات هي إحدى مصاديقها.

في كلّ الأحوال تعتبر التعليمات الثلاث الآنفة الذكر شاملة بناء الإنسان وإعداده للرقي في ظل اللطف والرعاية الإلهية ، وهي إلى ذلك زاده في سيره للوصول نحو الأهداف الكبيرة.

فهناك أولا ـ وقبل كلّ شيء ـ التحمّل والصبر على الشدائد

٢٨٨

والصعوبات ، ثمّ تطهير النفس من آثار الذنوب. وأخيرا تكليل كلّ ذلك بذكر الله ، حيث تسبيحه وحمده يعني تنزيهه من كلّ عيب ونقص ، وحمده فوق كلّ حسن وكمال.

إنّ الحمد والتسبيح الذي يكون لله تعالى يؤثر في قلب الإنسان ويطهره من جميع العيوب ، ومن سيئات الغفلة واللهو ، ويجعله يتصف باليقظة والكمال.

٢٨٩

الآيات

( إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩) )

التّفسير

ما يستوي الأعمى والبصير!

دعت الآيات السابقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الصبر والاستقامة أمام المعارضين وأكاذيبهم ومخططاتهم الشيطانية ، والآيات التي نحن بصددها تذكر سبب مجادلتهم للحق.

يقول تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي

٢٩٠

صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ) .

«المجادلة» ـ كما أشرنا سابقا ـ تعني العناد في الكلام وإطالته بأحاديث غير منطقية ، وإن كانت تشمل أحيانا في معناها الواسع الحق والباطل.

أما قوله تعالى :( بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ ) فهي للتأكيد على ما يستفاد من معنى المجادلة حيث تعني «سلطان» الدليل والبرهان الذي يكون سببا لهيمنة الإنسان على خصمه.

أما «آتاهم» فهي إشارة إلى الأدلة والبراهين التي أوحى الله بها إلى أنبيائهعليهم‌السلام ، ولا ريب أنّ الوحي هو أفضل الطرق وأكثرها اطمئنانا لإثبات الحقائق.

أما المقصود بـ «آيات الله» التي كانوا يجادلون فيها ، فهي معجزات وآيات القرآن والأحاديث المختصة بالمبدأ والمعاد ، حيث كانوا يعتبرونها سحرا ، أو أنّها علامات الجنون ، أو أساطير الأولين!

من ذلك يتبيّن أن ليس لهؤلاء من دليل حي ومنطقي في المجادلة سوى التعالي والغرور والتكبر عن الانصياع إلى الحق ، لذلك كانوا يرون أنّ أفكار الآخرين وعقائدهم باطلة وأن عقائدهم وأفكارهم حقّة!

تشير كلمة (إن) إلى أنّ السبب الوحيد لعنادهم في هذه الموارد هو الغرور والتكبّر ، وإلّا كيف يصرّ الإنسان على كلامه وموقفه دون دليل أو برهان.

«الصدور» تشير هنا إلى القلوب ، والمقصود بالقلب هو الفكر والروح ، حيث ورد هذا المعنى مرّات عدّة في آيات الكتاب المبين.

أمّا كلمة (كبر) في الآية فقد فسّرها بعض المفسّرين بالحسد.

وبذلك اعتبر هؤلاء أن سبب مجادلتهم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو حسدهم له ولمنزلته ومقامه المعنوي الظاهري.

لكن «كبر» لا تعني في اللغة المعنى الآنف الذكر ، لكنّه يمكن أن يلازمها ، لأنّ

٢٩١

من يتكبّر يحسد ، إذ لا يرى المتكبّر المواهب إلّا لنفسه ، ويتألم إذا انصرفت لغيره حسدا منه وجهلا.

ثم تضيف الآية :( ما هُمْ بِبالِغِيهِ ) .

إنّ هدفهم أن يروا أنفسهم كبارا ، يفاخرون بذلك ويفتخرون على غيرهم ، لكنّهم لن يحصدوا سوى الذلة والخسران ، ولن يصلوا بطريق التكبر والغرور والعلو والمجادلة بالباطل إلى ما يبتغونه(١) .

في نهاية الآية تعليمات قيمة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يستعيذ بالله من شر هؤلاء المتكبرين المغرورين الذين لا منطق لهم ، حيث يقول تعالى :( فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .

فهو ـ تعالى ـ يسمع أحاديثهم الباطلة الواهية ، وينظر إلى مؤامراتهم وأعمالهم القبيحة وخططهم الشريرة.

والاستعاذة بالله لا تنبغي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده وحسب ، وإنّما تجب على كل السائرين في طريق الحق عند ما تتعاظم الحوادث ويستعر الصدام مع المتكبرين عدمي المنطق!

لذلك نرى استعاذة يوسفعليه‌السلام عند ما تواجهه العاصفة الشديدة المتمثلة بشهوة «زليخا» يقول :( مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ ) فكيف أخون عزيز مصر الذي أكرمني وأحسن وفادتي.

وفي آيات سابقة من نفس هذه السورة نقرأ أنّ كليم الله موسىعليه‌السلام قال :( إِنِّي

__________________

(١) ثمة بين المفسرين كلام حول مرجع الضمير في قوله : «بالغيه» أشهره قولان.

الأول : أن يعود الضمير إلى «كبر» وتكون «ما هم ببالغيه» جملة وصفية لـ (كبر) ويكون المعنى هكذا : إنهم لا يصلون إلى مقتضى وهدف تكبرهم (في الواقع حذف هنا المضاف والتقدير «ما هم ببالغي مقتضى كبرهم»).

الثاني : أن يعود الضمير إلى «جدال» الذي يستفاد من جملة «يجادلون» والمعنى أنهم لن يصلوا إلى هدف جدالهم المتمثل بإبطال الحق. ولكن في هذه الحالة لا تستطيع أن نقول : إن الجملة صفة (كبر) بل ينبغي أن نعطفها على ما سبقها مع حذف العاطف.

٢٩٢

عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ ) (١) .

إنّ قضية المعاد وعودة الروح للإنسان بعد موته ، تعتبر من أكثر القضايا التي يجادل فيها الكفار ، ويعاندون بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك تنتقل الآية التالية إلى التذكير بهذه القضية ، وإعادة طرحها وفق منطق قرآني آخر ، إذ يقول تعالى :( لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

إنّ خالق هذه المجرّات العظيمة ومدبّرها يستطيع ـ بصورة أولى ـ أن يحيي الموتى ، وإلّا كيف يتسق القول بخلقه السماوات والأرض وعجزه من إعادة الإنسان إلى الحياة بعد الموت؟

إنّ هذا المنطق يعبّر عن جهل هؤلاء الذين لا يستطيعون إدراك هذه الحقائق الكبرى!

أغلب المفسّرين اعتبر هذه الآية ردّا على مجادلة المشركين بشأن قضية المعاد ، بينما احتمل البعض أنّها رد على كبر المتكبرين والمغرورين الذين كانوا يتصورون أن ذواتهم وأفكارهم عظيمة غير قابلة للردّ أو النقض ، في حين آنها تافهة بالقياس إلى عظمة عالم الوجود(٢) .

هذا المعنى غير مستبعد ، ولكن إذا أخذنا بنظر الإعتبار الآيات التي بعدها يكون المعنى الأوّل أفضل.

لقد تضمنت الآية الكريمة سببا آخر من أسباب المجادلة متمثلا بـ «الجهل» في حين طرحت الآيات السابقة عامل «الكبر». والعاملان يرتبطان مع بعضهما ، لأن أصل وأساس «الكبر» هو «الجهل» وعدم معرفة الإنسان لحدوده وقدره ، ولعدم تقديره لحجم علمه ومعرفته.

الآية التي بعدها ، وفي إطار مقارنة واضحة تكشف عن الفرق بين حال

__________________

(١) المؤمن ـ ٢٧.

(٢) يلاحظ الرأي الأوّل في مجمع البيان ، تفسير الفخر الرازي ، الكشاف ، روح المعاني ، الصافي وروح البيان.

٢٩٣

المتكبرين الجهلة إزاء المؤمنين الواعين ، حيث يقول :( وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ ) (١) .

إلّا أنكم بسبب جهلكم وتكبركم :( قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ ) (٢) .

إنّ المبصرين يرون صغر أنفسهم إزاء عظمة العالم المحيط بهم ، وبذلك فهم يعرفون قدر أنفسهم ومعرفتهم وموقعهم ، إلّا أنّ الأعمى لا يدرك موقعه أو حجمه في الزمان والمكان وفي عموم الوجود المحيط به. لذلك فهو يخطئ دائما في تقييم أبعاد وجوده ، ويصاب بالكبر والغرور والوهم الذي يدفعه إلى ما هو قبيح وسيّء.

ونستفيد أيضا من خلال ارتباط الجملتين ببعضهما البعض أنّ الإيمان والعمل الصالح ينوّر بصائر القلب والفكر بنور المعرفة والتواضع والاستقرار ، بعكس الكفر والعمل الطالح الذي يجعل الإنسان أعمى فاقدا لبصيرته ، مشوّها في رؤيته للأشياء والمقاييس.

الآية الأخيرة في المجموعة القرآنية التي بين أيدينا تتعرض إلى وقوع القيامة وقيام الساعة حيث يقول تعالى :( إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) .

«إن» و «اللام» في (لاتية) وجملة (لا ريب فيها) كلها للتأكيد المكرّر الذي يستهدف تأكيد المضمون والمعنى المراد ، وهو قيام القيامة.

لقد عالجت الرؤية القرآنية قضية القيامة في أكثر من مكان ومورد ، بمختلف الأدلة ووسائل الإقناع ، ذلك نرى بعض الآيات تذكر قيام الساعة والقيامة بدون مقدمات أو دليل ، مكتفية بما ورد من أدلة ومقدمات في أماكن اخرى من الكتاب

__________________

(١) النظرة الأولية في الآية قد لا توجب معنى لـ «لا النافية» في قوله تعالى :( وَلَا الْمُسِيءُ ) ولكن تأكيد النفي من ناحية ، وتجلية المقصود من الجملة من ناحية ثانية ، أوجب تكرار النفي ، مضافا إلى أن طول الجملة قد يؤدي إلى نسيان الإنسان للنفي الأول ، الأمر الذي يوجب التكرار.

(٢) «ما» في قوله تعالى :( قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ ) زائدة ، وهي للتأكيد.

٢٩٤

المبين.

«الساعة» كما يقول «الراغب» في «المفردات» هي بمعنى : أجزاء من أجزاء الزمان.

إنّ الإشارة التي يطويها هذا الاستخدام لكلمة (الساعة) يشير إلى السرعة الّتي يتم فيها محاسبة الناس هناك.

لقد استخدمت الكلمة عشرات المرّات في القرآن الكريم ، لتدل بشكل عام على المعنى الآنف الذكر ، لكنّها نعني في بعض الأحيان نفس القيامة ، فيما تعني في أحيان اخرى الإشارة إلى انتهاء العالم ومقدمات البعث والنشور. وبسبب من الارتباط القائم بين الحدثين والقضيتين ، وأنّ كلاهما يحدث بشكل مفاجئ ، لذا تمّ استخدام كلمة «الساعة». (يمكن للقارىء الكريم أن يعود إلى بحث مفصل حول «الساعة» في تفسير سورة الروم).

أما سبب القول : بـ( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ) فلا يعود إلى أن قيام القيامة من القضايا المجهولة والمبهمة ، بل ثمّة ميل في الإنسان نحو «الحرية» في الاستفادة غير المشروطة أو المقيدة من ملذات الدنيا وشهواتها ، بالإضافة إلى الأمل الطويل العريض الذي يلازم الإنسان فينساق مع الحياة ، ويغفل عن التفكير بالقيامة ، أو الاستعداد لها.

* * *

ملاحظة

اليهود المغرورون :

لقد ذكر بعض المفسّرين في سبب نزول الآية الأولى ـ من مجموعة الآيات التي بين أيدينا ـ بحثا مفاده أن اليهود كانوا يقولون : سيخرج المسيح الدجال فنعينه على محمّد وأصحابه ونستريح منهم ، ونعيد الملك إلينا (مجمع البيان ـ الجزء

٢٩٥

الثامن ـ صفحة (٨٢٢) طبعة دار المعرفة).

يمكن أن يشمل هذا السبب فيما يتضمّن من ادعاءات اليهود معنيين : الأول : أنّهم أرادوا أن ينتصر المسيح على الدّجال ، من خلال ادعائهم أنّ «المسيح المنتظر» هو منهم وتطبيق الدجّال ، والعياذ بالله ، على النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أو أنّهم كانوا حقا في انتظار الدجّال الذي كانوا يعتبرونه من أنفسهم.

ذلك أنّ المسيح وكما ذكر «الراغب» في «المفردات» وابن منظور في «لسان العرب» تطلق على «عيسى»عليه‌السلام بسبب سيره وسياحته في الأرض ، أو بسبب شفائه للمرضى بأمر الله عند ما كان يمسح بيده عليهم. وكانت تطلق أيضا على «الدجال» لأنّ الدجال له عين واحدة ، بينما كان مكان العين الأخرى ممسوحا.

ويحتمل أن يكون اليهود ينتظرون خروج الدجال ليتعاونوا معه في دحر المسلمين الذين هزموهم مرات عديدة ممّا أثار غضبهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد يكونوا في انتظار المسيح ، كما يستفاد من قاموس الكتاب المقدس حيث يظهر أنّ المسيحيين واليهود ينتظرون خروج المسيح ، لأنّهم يعتقدون بأنّ المسيح سيحارب الدجال ويقضي عليه. لذلك أرادوا تطبيق هذا المعنى على ظهور الإسلام.

وقد استنتج بعض المفسّرين من سبب نزول هذه الآية على أنّها مدنية دون غيرها من آيات السورة المكية. ولكن عدم ثبوت سبب النّزول ، كما أن عدم وضوح مفاد الآية وإبهامها تستوجب ضعف هذا الاستنتاج.

* * *

٢٩٦

الآيات

( وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) )

التّفسير

ادعوني أستجب لكم :

لقد تضمنت الآيات السابقة ألوان الوعيد والتهديد لغير المؤمنين من المتكبرين والمغرورين ، المجموعة التي بين أيدينا من الآيات الكريمة تفيض حبّا إليها ولطفا ، وتنتجس بالرحمة الشاملة للتائبين.

يقول تعالى أولا :( وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) .

لقد فسّر الكثير من المفسّرين «الدعاء» بمعناه المعروف ، وما يؤكّد ذلك هو جملة «استجب لكم» بالإضافة إلى ما تفيده الروايات العديدة الواردة بخصوص

٢٩٧

هذه الآية وثواب الدعاء ، والتي سنشير إلى بعض منها فيما بعد.

ولكن بعض المفسّرين تبع (ابن عباس) في رأيه بأن الدعاء هنا بمعنى التوحيد وعبادة الخالق جلّ وعلا ، أي «اعبدوني واعترفوا بوحدانيتي» إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأظهر.

ونستفيد من الآية أعلاه مجموعة ملاحظات هي :

١ ـ أنّ الله يحب الدعاء ويريده ويأمر به.

٢ ـ لقد وعد الله بإجابة الدعاء ، لكن هذا الوعد مشروط وليس مطلقا. فالدعاء واجب الإجابة هو ما اجتمعت فيه الشروط اللازمة للدعاء والداعي وموضوع الدعاء.

وفي هذا الإطار شرحنا ما يتعلق بهذا الموضوع في تفسير الآية (١٨٦) من سورة البقرة.

٣ ـ الدعاء في نفسه نوع من العبادة ، لأنّ الآية أطلقت في نهايتها صفة العبادة على الدعاء.

تتضمّن الآية في نهايتها تهديدا قويا للذين يستنكفون عن الدعاء ، حث يقول تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) (١) .

* * *

أهمية الدعاء وشروط الاستجابة

ثمّة تأكيد كبير على أهمية الدعاء في الروايات المنقولة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام :

١ ـ في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «الدعاء هو العبادة»(٢) .

__________________

(١) داخر من «دخور» وتعني الذلة ، وهذه الذلة هي عقوبة ذلك التكبّر والاستعلاء.

(٢) مجمع البيان ، المجلد الثامن ، صفحة ٥٢٨.

٢٩٨

٢ ـ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه سئل : ما تقول في رجلين دخلا المسجد جميعا ، كان أحدهما أكثر صلاة ، والآخر دعاء فأيهما أفضل؟ قال «كلّ حسن».

لكن السائل عاد وسأل الإمامعليه‌السلام : قد علمت ، ولكن أيهما أفضل؟ أجاب الإمامعليه‌السلام : «أكثرهما دعاء ، أما تسمع قول الله تعالى :( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ ) . ثمّ أضاف بعد ذلك : «هي العبادة الكبرى»(١) .

٣ ـ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه أجاب عن أفضل العبادات بقوله : «ما من شيء أفضل عند الله من أن يسأل ويطلب ممّا عنده ، وما أحد أبغض إلى اللهعزوجل ممن يستكبر عن عبادته ، ولا يسأل ما عنده»(٢) .

٤ ـ في حديث آخر عن الإمام جعفر الصادق أنّهعليه‌السلام قال : «إنّ عند اللهعزوجل منزلة لا تنال إلّا بمسألة ، ولو أنّ عبدا سدّ فاه ولم يسأل لم يعط شيئاه فاسأل تعط ، إنّه ليس من باب يقرع إلا يوشك أن يفتح لصاحبه»(٣) .

٥ ـ لقد ورد في بعض الرّوايات أنّ الدعاء أفضل حتى من تلاوة القرآن ، كما أشار إلى ذلك الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفيداه من أئمة المسلمين الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام ، حيث قالوا : «الدعاء أفضل من قراءة القرآن»(٤) . وفي نطاق تحليل قصير نستطيع أن ندرك عمق مفاد هذه الأحاديث ، فالدعاء يقول الإنسان من جانب إلى معرفة الله تبارك وتعالى ، وهذه المعرفة هي أفضل رصيد للإنسان في وجوده.

ومن جانب آخر يدفع الدعاء الإنسان إلى الإحساس العميق بالفقر والخضوع

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الثامن ، صفحة ٥٢٩.

(٢) الكافي ، مجلد ٢ ، باب : فضل الدعاء والحث عليه. صفحة ٣٣٨.

(٣) الكافي ، المجلد الثّاني ، (باب فضل الدعاء والحث عليه) ص : ٣٣٨.

(٤) مكارم الأخلاق ، طبقا للميزان ، المجلد ٢ ، ص ٣٤.

٢٩٩

تجاه خالقه جلّ وعلا ويبعده عن التعالي والغرور اللذين يعدّان الأرضيه المناسبة للمجادلة في آيات الله والانحراف عن جادة الصواب والوقوع في المهالك.

من جانب ثالث يعمق الدعاء لدى الإنسان الشعور بأنّه جلّ وعلا منبع النعم ومصدره ويدفعه إلى العشق والارتباط العاطفي مع الله جلّ جلاله.

ومن جانب رابع يشعر الإنسان بالحاجة الى الله تعالى وانه رهين نعمته ، ولذلك فهو موظف بطاعته وتنفيذ أوامره ، ويرهف إحساسه بالعبودية لله تعالى.

وخامس بما أنّه يعلم أنّه للإجابة شروطها ، ومن شروطها خلوص النية ، وصفاء القلب ، والتوبة من الذنوب ، وقضاء حوائج المحتاجين ، والسعي في مسائل الناس من الأقرباء والأصدقاء وغيرهم ، فلذلك يهتم ببناء الذات وإصلاح النفس وتربيتها.

وسادس يركّز الدعاء في نفس الإنسان الداعي عوامل المنعة والإرادة والثقة ، ويجعله أبعد الناس عن اليأس والقنوط أو التسليم للعجز (وقد تحدثنا عن الدعاء وفلسفته وشرائطه ذيل الآيات ٧٧ من سورة الفرقان).

ثمّة ملاحظة مهمّة هنا ، هي أن الدعاء لا يلغي بذل الوسع والجهد من قبل الإنسان ، وإنّما حسبما تفيد الروايات والأحاديث في هذا الشأن ـ على الإنسان أن يسعى ويبذل ويجهد ، ويترك الباقي على الله تعالى. لذا لو جعل الإنسان الدعاء بديلا عن العمل والجهد فسوف لا يجاب إلى مطلبه حتما.

لذلك نقرأ في حديث عن الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «أربعة لا تستجاب لهم دعوة : رجل جالس في بيته يقول : اللهم ارزقني ، فيقال له : ألم آمرك بالطلب؟. ورجل كانت له امرأة فدعا عليها ، فيقال له : ألم أجعل أمرها إليك؟ ورجل كان له مال فأفسده ، فيقول : اللهم ارزقني ، فيقال له : ألم آمرك بالاقتصاد؟ ألم آمرك بالإصلاح؟ ورجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة ، فيقال له : ألم آمرك

٣٠٠

وأنار في التفكير معقولها.

الممتنع من الأبصار رؤيته.

ومن الألسن صفته.

ومن الأوهام كيفيته.

ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها (١) .

وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها (٢) .

كوَّنها بقدرته، وذرأها بمشيئته (٣) .

من غير حاجة منه إلى تكوينها.

ولا فائدة في تصويرها.

إلاّ تثبيتاً لحكمته وتنبيهاً على طاعته.

وإظهاراً لقدرته، وتعبّداً لبريته.

وإعزازاً لدعوته.

ثم جعل الثواب على طاعته.

ووضع العقاب على معصيته.

ذيادة لعباده من نقمته (٤) .

وحياشةً لهم إلى جنّته (٥) .

وأشهد أنّ أبي محمّداً عبده ورسوله.

اختاره وانتجبه قبل أن اجتبله (٦) .

____________________

(١) ابتدع: احدث.

(٢) الاحتذاء: الاقتداء. وحذو النعل بالنعل أي قطع النعل على مثال النعل وقدرها.

(٣) ذرأها: خلقها.

(٤) ذيادة: منعاً.

(٥) حياشة لهم: سَوقهم.

(٦) اجتبله: فطره.

٣٠١

واصطفاه قبل أن ابتعثه.

إذ الخلائق بالغيب مكنونة.

وبستر الأهاويل مصونة.

وبنهاية العدم مقرونة

علماً من الله تعالى بمآئل الأُمور (١) .

وإحاطة بحوادث الدهور.

ومعرفة بمواقع المقدور.

ابتعثه الله إتماماً لأمره.

وعزيمةً على إمضاء حكمه.

وإنفاذاً لمقادير حتمه.

فرأى الأُمم فِرَقاً في أديانها.

عُكَّفاً على نيرانها.

وعابدة لأوثانها.

منكرة لله مع عرفانها.

فأنار الله بمحمّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله ظُلمـَها (٢) .

وكشف عن القلوب بُهمها (٣) .

وجلى عن الأبصار غُمَمها (٤) .

وقام في الناس بالهداية.

وأنقذهم من الغواية.

____________________

(١) المآئل: جمع مآل - أي المرجع.

(٢) ظُلم: جمع ظلمة.

(٣) البُهم: جمع بهمة وهي مشكلات الأمور.

(٤) الغمم - جمع غمّة - الشيء الملتبس المستور.

٣٠٢

وبصَّرهم من العماية.

وهداهم إلى الدين القويم.

ودعاهم إلى الصراط المستقيم.

ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار.

ورغبةٍ وإيثار.

فمحمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله من تعب هذه الدار في راحة.

قد حفَّ بالملائكة الأبرار.

ورضوان الربّ الغفَّار.

ومجاورة الملك الجبَّار.

صلّى الله على أبي.

نبيّه، وأمينه على الوحي وصفيّه.

وخيرته من الخلق ورضيّه.

والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.

٣٠٣

شرح الخطبة

(الحمد لله على ما أنعم) إنّ شكر المنعم واجب شرعاً وعقلاً وعرفاً، يستحق الحمد على ما أنعم من النعم الظاهرية كالحياة والصحّة ونحوها.

(وله الشكر على ما ألهم) من النعم الباطنية، كالعلم والمعرفة، والغرائز التي ألهم الإنسان وغير الإنسان إيّاها، فإنّ الإلهام إلقاء في القلب والنفس كالتلقين، وهو تعليم على وجه لا سبيل لأحد للوقوف عليه.

(والثناء بما قدّم) لله تعالى نعم قد أخّرها إلى الدار الآخرة، وهي الجنّة ونعيمها وغير ذلك، ولله تعالى نعم قد قدّمها في هذه الدنيا، قدّمها على بقيّة النعم، وإليك بعض التفصيل:

(من عموم نعم ابتداها) النعم العامّة التي ابتداها الله تعالى: كالماء والهواء والتراب والنار، وقبلها نعمة الإيجاد والخلق، والنعم الابتدائية كالجاذبية في الأرض، والمسافة المعيّنة المحدودة بين الأرض والقمر، وبين الأرض والشمس، والغطاء الجوّي المحيط بالكرة الأرضية المسمّى بالطبقة النتروجينية، وغير ذلك ممّا علم به البشر وما لم يعلمه، ابتداها الله قبل أن يستحقّها البشر.

(وسبوغ آلاء أسداها) الآلاء السابغة أي النعم الشاملة الكاملة التامّة، وأسداها: أعطاها، كنعمة الأعضاء والجوارح والمشاعر والمدارك التي يشعر ويدرك بها الإنسان وغير الإنسان.

(وتمام منن والاها) المنن: جمع منّة، وهي النعمة والعطيّة والإحسان،

٣٠٤

وليس المقصود - هنا - المنّة بمعنى المنّ وهو عدّ الإحسان الذي نهى الله تعالى عنه بقوله:( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) وقال:( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذى ) ووالاها من الموالاة وهي المتابعة في الإعطاء، أي نعمة بعد نعمة، فالنعم الإلهيّة متواصلة متواترة.

(جمّ عن الإحصاء عددُها) أي: كثرت نعم الله سبحانه، فعجز الناس عن إحصائها وعدّها، كما قال سبحانه:( وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّـهِ لَا تُحْصُوهَا ) .

(ونأى عن الجزاء أمَدها) الأمد: الغاية ومنتهى الشيء، فلعلّ المعنى: أنّ الإنسان لا يستطيع أن يجازي ربَّه على نعمه وأياديه.

(وتفاوت عن الإدراك أبدها) كذلك لا يمكن للإنسان أن يدرك النعم الإلهيّة.

(وندبَهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها) إنّ الشكر يوجب زيادة النعمة ودوامها واتّصالها، كما قال سبحانه:( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) .

(واستحمد إلى الخلائق بإجزالها) كذلك الحمد يوجب المزيد من الخيرات والبركات الإلهيّة.

(وثنى بالندب إلى أمثالها) أي: إنّه تعالى نَدب عباده ودعاهم إلى الاستزادة من موجبات الخير والرحمة، كالإنفاق في سبيل الله والعطف.

(وأشهد أن لا إله إلاّ الله، وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها) المقصود أنّ كلمة: (لا إله إلاّ الله) يعود معناها إلى الإخلاص، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : (وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه) فقد قيل: إنّ المقصود من الإخلاص هو جعله خالصاً من النقائص كالجسم والعرض، وما شاكلهما من النقائص، وكمال الإخلاص له نفي الصفات، أي الصفات الزائدة على ذاته؛ لأنّ كل موجود متصف بصفته، وصفته غير ذاته، فالإنسان غير العلم، والعلم

٣٠٥

غير الإنسان، ولكنّ الله تعالى علمه عين ذاته، وبقيّة صفاته كلّها عين ذاته، ولهذا الموضوع بحث مفصّل عند العلماء مذكور في الكتب الكلامية.

(وضمّن القلوب موصولها) أي إنّ الله تعالى ألزم القلوب المعنى الذي تصل إليه كلمة (لا إله إلاّ الله) وهو معنى التوحيد الفطري، أي جعل القلوب على هذه الفطرة، قال تعالى: ( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ) والفطرة: الملّة، وهي الدين الإسلام والتوحيد، وهي التي خلق الناس عليها ولها وبها، ومعنى ذلك أنّ الله تعالى خلقهم وركّبهم وصوّرهم على وجه يدل على أنّ لهم صانعاً قادراً عالماً حياً قديماً واحداً، لا يشبه شيئاً، ولا يشبهه شيء.

(وأنار في الفكر معقولها) أي بسبب التفكير والتعقّل أوضح الله المعنى الذي يوصل إليه بعد التدبّر والتعمّق، أي معنى كلمة التوحيد، والمقصود منه التوحيد النظري، وقد مضى الكلام عن التوحيد الفطري، ومعنى التوحيد النظري: التفكّر في الدلائل والبيّنات، والنظر في الآيات في الآفاق وفي أنفسهم.

(الممتنع عن الأبصار رؤيته) حيث إنّ الله تعالى ليس بجسم، ولا جوهر ولا عرض، والعين لا تدرك ولا ترى إلاّ الأجسام والأعراض، وهي الأمور التي تعرض الجسم، كالألوان والطول والعرض وما شابه ذلك، وحيث إنّ الإدراك بالبصر إنّما يتحقّق بانعكاس صورة المرئي في عدسة العين، أو اتصال أشعّة العين إلى ذلك الشيء المرئي، وحيث إنّ الله تعالى ليس بجسم فلا يمكن انعكاسه في العين؛ ولهذا من المستحيل أن تدركه العيون ولا يمكن لأي موجود أن يرى الله تعالى ويدركه بالعين، كما قال تعالى:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) وليس هذا الامتناع خاصّاً بالرؤية، بل بجميع الحواس الظاهرة كالسامعة والشامّة والذائقة واللامسة.

٣٠٦

ومن المؤسف جداً أنّ بعض طوائف المسلمين يعتقدون أنّ الله تعالى جسم، ويصرّحون بهذا الاعتقاد الفاسد الساقط عبر الإذاعات، رافعين أصواتهم: إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا وهو راكب على حمار!!

وليس هذا ببعيد من طائفةٍ أُصول دينهم وفروعه محمول على أكتاف رجل يصفونه بالكذب والتزوير والتلاعب، واختلاق الروايات وإسنادها إلى رسول الله وغيره، ويكتبون أنّ عمر بن الخطاب ضربه بالدرّة ومنعه عن الحديث لكثرة الأكاذيب التي كان يختلقها ويصوغها في بوتقة الدجل والتزوير.

وسمعت أيضاً من بعض مدّعي العلم - عبر الإذاعة -: أنّ الرسول رأى ربّه ليلة المعراج رؤية عين.

يا للكفر، يا للإلحاد، يا للزندقة، يا للجهل.

القرآن يقول:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) ، والجهّال يقولون: تدركه الأبصار، يتركون كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ويأخذون بقول مخلوق إن لم نقل إنّه كذّاب فهو جاهل يخطئ ويصيب.

وإذا كان بعض المسلمين يجهلون أو ينحرفون عن التوحيد الذي هو أصل الدين، فكيف بالنبوّة والإمامة والمعاد؟ وكيف بفروع الدين والأحكام الفقهية والأمور الدينية والقضايا الشرعية؟

(ومن الألسن صفته) أي لا يمكن وصف الله تعالى كما لا يمكن رؤيته، وكيف يستطيع الإنسان أن يصف شيئاً لم يره، ولم يحط به إحاطة، كما قال عليعليه‌السلام : (ليس لصفته حد محدود، ولا نعت

٣٠٧

موجود) لأنّ صفاته عين ذاته، فكما أنّه لا يمكن إدراك ذاته كذلك لا يمكن إدراك صفاته التي هي عين ذاته.

(ومن الأوهام كيفيّته) إنّ الله تعالى جعل للإنسان قوى باطنية، وهي الحواس الخمس الباطنية، وهي الذاكرة والحافظة والواهمة والمفكّرة والحسّ المشترك، والواهمة هي القوّة التي تدرك بها الأشياء الجزئية، كأن يتصوّر الإنسان امرأة جميلة، أو قصراً شاهقاً، أو حديقة غنّاء، أو ما شابه، وكل ما تصوّره الإنسان أو توهّمه فهو مخلوق، ولا يستطيع الإنسان أن يتصوّر الخالق تصوّراً صحيحاً حقيقياً، أي لا يستطيع أن يعلم كيف هو؟ وهو تعالى لا يكيّف بكيف؟ أي لا يمكن تصوّر الكيفيّة في ذاته.

(ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها) أي خلق الله الكائنات لا من مادّة، أي أوجدها وما كانت موجودة.

ويقول المادّيّون: لا يمكن أن يوجد شيء إلاّ من مادة، والمادة أصل الأشياء.

فإذا سألتهم: وما المادّة؟ من أي شيء وُجدت؟ وأين وُجدت؟ ومَن أوجدها؟ تراهم يسكتون ولا يحيرون جواباً، لأنّهم إذا قالوا: إنّ المادّة وجدت من غير مادّة. قلنا لهم: فما المانع أن توجد الموجودات الأخرى من غير مادّة؟ وإذا قالوا: إنّ المادّة وُجدت من مادّة أخرى نسألهم: المادّة الأخرى من أي شيء وُجدت؟ وهكذا، وهلمّ جراً.

فالاعتقاد بأنّ الله تعالى خلق الأشياء لا من شيء أفضل وأسلم من نظريات الماديّين.

(وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها) أوجد الله تعالى الأشياء لا من مادّة ولا من شيء بلا اقتداء بأحد في تصويرها.

٣٠٨

انظر إلى الاختراعات الحديثة، إنّما اقتدى مخترعوها بأشياء أخرى، صنعوا الطائرة حينما نظروا إلى الطيور وكيفيّة طيرانها، وكيف تلصق رجليها إلى بطنها وقت الطيران، وترسل رجليها حين الهبوط، وصنعوا الغواصة حينما نظروا إلى السمكة تغوص في الماء متى شاءت، وتطفو على الماء متى أرادت.

وهكذا التطوّرات في المصانع والمعامل كلّها من احتذاء أمثالها، والاقتداء بأشباهها، ولكنّ الله تعالى أوجد الكائنات بلا احتذاء ولا اقتداء ولا اتباع بموجودات أخرى مماثلة ومشابهة لتلك الكائنات.

(كوّنها بقدرته) أوجد الله تعالى الأشياء بقدرته الجامعة الكاملة، بدون مشاركة من أحد، بقدرته وقوّته وتمكّنه على الإيجاد والتكوين، لا باستعمال الأدوات والآلات.

(وذرأها بمشيئته) أي خلقها بإرادته دون قوله: وحسب إرادته في الكيفيّة والصورة والشكل والهيئة والعدد، وبقيّة الخصوصيات، خلقها بمشيئته بلا إجبار، وبإرادته التي إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون.

وقد جاء في دعاء الإمام زين العابدينعليه‌السلام : (... ومضت على إرادتك الأشياء، فهي بمشيّتك - دون قولك - مؤتمرة، وبإرادتك - دون نهيك - منزجرة...).

(من غير حاجة منه إلى تكوينها) أي إنّ الله تعالى خلق الكائنات بلا حاجة منه إلى إيجادها وتكوينها، مثل: أن يستأنس بهم، أو يستعين بهم في الأمور، فله تعالى الكمال الكامل بجميع معنى الكلمة، ولا طريق للاحتياج إلى ذاته المقدسة.

(ولا فائدة له في تصويرها) أي لم تكن لله تعالى فائدة في إحداث

٣٠٩

تلك الصور والأشكال والهيئات، فإذا نفينا الحاجة والفائدة في التكوين والتصوير، ينبغي أن نعلم السبب في ذلك؛ لأنّ الفعل بلا سبب لغو، وتعالى الله عن ذلك.

(إلا تثبيتاً لحكمته) وفي نسخة (تبييناً) وعلى كل تقدير، فالمعنى أنّ المقصود من الإنشاء والتكوين والإيجاد هو إظهار الحكمة الإلهيّة، وهو تعالى يعلم تلك الحكمة البالغة التي اقتضت إيجاد الكائنات، ولعلّ من تلك الحكمة أنّ الله تعالى خلق الكائنات لكي يُعرّف.

(وتنبيهاً على طاعته) أي خلق الخلائق كي ينبّههم على وجوب طاعته، والانقياد لأوامره؛ لقوله تعالى:( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون ) والإطاعة والعبادة إنّما تحصل بعد المعرفة، وما قيمة العبادة بغير معرفة؟ وما قيمة المعرفة بدون إطاعة وعبادة؟

(وإظهاراً لقدرته) قدرة الله تعالى كانت موجودة، وإنّما أراد إظهار شيء من قدرته فخلق الجمادات والنباتات والحيوانات والإنسان، وأودع في كل واحد من هذه الموجودات آيات من القدرة، فخلق الكواكب والمجرّات، والأفلاك والسماوات، وخلق الكريّات الحمر والبيض في الدم، وخلق الذرّة وجعل لها قوائم، إلى غير ذلك ممّا يطول الكلام بذكره.

وملخّص القول: إنّ كل موجود من الموجودات تتجلّى وتظهر فيه قدرة الله على الإبداع.

(وتعبّداً لبريته) خلق الله الموجودات كي ينقادوا لأوامره، وينزجروا عن نواهيه، والعبادة هي الانقياد والطاعة.

(وإعزازاً لدعوته) أي خلق الله الأشياء لتكون تقوية للبراهين والحجج التي يستدلّ بها الداعون إلى الله تعالى من الأنبياء وغيرهم.

٣١٠

(ثم جعل الثواب على طاعته) الإنسان لا يندفع نحو العمل إلاّ بدافعين: دافع الرغبة وهو الطمع لجلب الخير، ودافع الرهبة وهو الخوف من المكروه، فالتاجر يتّجر طلباً للمنافع وخوفاً من الفقر، والطالب يتعلّم ويدرس طلباً للثقافة أو الوظفيفة، وهرباً من الجهل الذي يحول بينه وبني الصعود إلى مدارج الكمال.

والإنسان لا ينقاد ولا يطمع إلاّ طمعاً في الأجر والثواب، وخوفاً من العذاب والعقاب، وانطلاقاً من هذه الحكمة جعل الله الثواب - وهو الأجر مع التقدير والاحترام - جزاء لطاعة والانقياد.

(ووضع العقاب على معصيته) أي جعل قانون العقوبة للعاصين، المخالفين لأوامره المتجاوزين لأحكامه، لماذا؟

(ذيادةً لعباده من نقمته) وضع الله تعالى قانون العقوبة لأجل ردع العباد ومنعهم عن ارتكاب الأعمال التي توجب نقمته أي عقوبته.

(وحياشةً لهم إلى جنّته) أي جعل الثواب والعقاب لمنع العباد عن المعاصي، وسوقهم إلى طريق الجنّة، أي الأعمال التي يستحق الإنسان بها الجنّة، وقد مرّ معنى الحياشة في شرح الكلمات.

(وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله) أقرّت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام بالشهادتين بعد أن شرحت كلامها شرحاً كافياً حول التوحيد، فانتقلت إلى ذكر النبوّة وما يدور في هذا الفلك، فاعترفت لأبيها - أولاً - بالعبودية الكاملة أي الانقياد والخضوع لله تعالى، وهي درجة يبلغها الإنسان باختياره مع العلم أنّ النبوّة مرتبة تحصل للنبي بغير سعي منه.

٣١١

ثم اعترفت له بالرسالة، أي إنّه نبي مرسل من عند الله تعالى إلى الخلائق بشريعة سماوية.

ومن المؤسف أنّ كلمة (الرسالة) صارت تُستعمل - في زماننا - في كل مبدأ حق أو باطل، وفي كل فكرة صحيحة أو سقيمة.

(اختاره وانتجبه قبل أن أرسله) انتقاه الله من أهل العالم كما ينتقي أحدنا الفرد الكامل الممتاز من أفراد عديدة، فالفاكهة الواحدة نختارها من مئات أمثالها بعد أن نرى فيها المزايا المتوفّرة المستجمعة فيها، المفقودة في غيرها، من حيث الحجم واللون والنضج والطعم والنوع وما شابه ذلك.

وهكذا اختار الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يرسله، أي إنّ أهليّة الرسول - واستحقاقه لهذا المنصب الخطير وهو النبوّة - كانت ثابتة ومعلومة عند الله تعالى قبل أن ينزل الرسول إلى ساحة العمل والجهاد والدعوة إلى الله، وما كانت - هناك - حاجة للاختبار والامتحان حتى تظهر مواهبه واستعداده وتقبّله للمسؤولية، بل كان الله يعلم كفاءة الرسول لهذا العبء الثقيل.

(وسمّاه قبل أن اجتبله) أي سمّاه الله محمّداً قبل أن يخلقه أو سمّاه (كالخطيبة) يقال في حقّها: (سمّيت لفلان) أي تقرّر تزويجها من فلان، فالمعنى - ولا مناقشة في الأمثال - أنّ الله تعالى قد قرّر في سابق علمه أن يكون محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله رسول الله، أو سمّاه الله لأنبيائه قبل أن يخلقه.

(واصطفاه قبل أن ابتعثه) أي اختاره الله تعالى قبل أن يرسله نبيّاً.

(إذ الخلائق بالغيب مكنونة) إنّ الله تعالى اصطفى محمّداً واختاره واجتبله في الوقت الذي كانت الخلائق، وهم الناس غير موجودين، بل كانوا في الغيب مختفين مستورين، أي كانوا في علم غيب الله، وما كان

٣١٢

لهم وجود في الخارج بحيث ما كان يمكن إدراكهم.

(وبستر الأهاويل مصونة) هذه الجملة تفسير لما قبلها، والأهاويل: جمع أهوال وهي جمع هول، وهو الخوف والأمر الشديد والمقصود: وحشة ظلمات الغيب.

(وبنهاية العدم مقرونة) نهاية الشيء حدوده وآخره، والمقصود أنّ الخلائق كانت بعيدة عن الوجود أي كانت معدومة.

(علماً من الله بمآئل الأمور) من ذلك الوقت اختار الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بسب علمه بعواقب الأمور وما ترجع إليه الأمور، كان الله يعلم عواقب البشر، وعواقب حالاتهم وشؤونهم، وعواقب رسالة النبي وبعثته، ومواهبه وكفاءته للرسالة بسبب اتصافه بالأخلاق الحميدة والصفات الجميلة؛ ولهذا اختاره للرسالة من ذلك الوقت.

وقد صرّحت أحاديث كثيرة جداً مرويّة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ أوّل ما خلق الله نور محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهكذا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله خلق نوري ونور علي قبل أن يخلق آدم، أو: قبل أن يخلق السماوات والأرض باثنتي عشر ألف سنة، أو: أربعة وعشرين ألف سنة. وغيرها من الروايات الواردة في الكتب المعتبرة.

(وإحاطة بحوادث الأمور) وبسبب إدراكه تعالى جميع ما يدرك من الوقائع التي تحدث وتتجدّد على مرّ الأعوام والقرون.

(ومعرفة بمواقع المقدور) وبسبب معرفته بأزمنة الأمور وأمكنتها التي قضاها، والمصالح التي رآها تعالى.

٣١٣

(ابتعثه الله إتماماً لأمره) بعث الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إتماماً للحكمة التي خلق الله الأشياء لأجلها، ولعلّ المقصود هو ختم النبوّة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(وعزيمة على إمضاء حكمه) وإرادة قويّة أكيدة لإنفاذ حكمه وقضائه، وتقديره في خلقه.

(وإنفاذاً لمقادير حتمه) وإجراء لمقدوراته الواجبة التي لا يمكن إسقاطها، وهي المقادير المحتومة التي لا تتغيّر ولا تتبدّل.

وهنا تتحدّث السيدة فاطمة الزهراء عن الحياة الدينية والتفسّخ العقائدي في ذلك العهد:

(فرأى الأُمم فرقاً في أديانها) رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أهل الأرض على أديان متفرّقة، من يهود ونصارى ومجوس، وصابئة وملاحدة وزنادقة.

(عُكّفاً على نيرانها) ملازمة على عبادة النار، ومواظبة عليها، وهم المجوس الذين كانوا يقدّسون النار إلى حدّ العبادة، بل ويبنون بيوتاً للنار، ويحافظون على إبقائها كي لا تنطفئ.

(عابدة لأوثانها) جمع وثن وهم الصنم المصنوع من خشب أو حجارة أو غيرها من التماثيل في كنائسهم وبيعهم، ينحنون أمامها، ويركعون ويسجدون لها بقصد العبادة.

(منكرة لله مع عرفانها) جاحدة لله تعالى مع معرفتهم به تعالى كما قال عزّ وجلّ:( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها ) والمقصود أنّهم كانوا يعرفون الخالق والصانع بالفطرة والوجدان والعقل؛ إذ إنّهم كانوا يعلمون أنّ كل مصنوع لابدّ له من صانع، ويعلمون أنّ الكائنات مخلوقة ولم يدّع أحد من المخلوقين أنّه خلق الشمس والقمر والسماء والأرض، فلابدّ من

٣١٤

الاعتقاد بوجود صانع لها.

(فأنار الله بمحمّدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله ظلمها) أزال الله تعالى - بجهود الرسول وجهاده - تلك الظلمات، ظلمات تلك الأُمم، ظلمات الكفر والشرك والجهل، أي إنّ الأدلّة والبراهين التي احتجّ بها الرسول كانت كفيلة للقضاء على تلك النظريات، التي تأسّست عليها عبادة النيران والأوثان، وليس المقصود أنّ الرسول قضى على جميع الأديان الباطلة والعقائد الفاسدة بمعنى إزالتها عن الوجود، بل أثبت أنّ الإسلام هو الحق وغيره باطل.

(وكشف عن القلوب بهمها) كشف الله - بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله - عن القلوب مشكلاتها، والأمور المخفيّة المستورة عنها، كالاعتقاد بالتوحيد والحشر والنشر في القيامة؛ إذ كانت تلك الأمور من المشاكل الغامضة عندهم، ولكنّها انحلّت وانكشفت ببركة الرسول.

(وجلى عن الأبصار غممها) وكشف وأوضح عن العيون الظلمة المبهمة المستولية عليها، والمقصود من الظلمة - هنا - الانحرافات العقائدية التي كانت كالظلمة على أعينهم؛ ولهذا ما كانوا يبصرون الحقائق بسبب تلك الظلمة.

(وقام في الناس بالهداية) قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بإراءة الطريق للناس، ونصب لهم العلامات الدالّة على الحق والحقيقة، على التوحيد والنبوّة والمعاد.

(وأنقذهم من الغواية) أنقذهم من الضلالة التي كانوا يعيشون فيها، ويموتون عليها، الضلالة في العقائد، في الأخلاق، في الآداب والسلوك، في العادات والتقاليد فكأنّهم مغرقون في البحر، فأنقذهم الرسول من الغرق، وأسعفهم من الهلاك.

(وبصّرهم من العماية) جعلهم أصحاب بصر وبصيرة، فالأعمى - لغةً - هو الذي لا يرى شيئاً، والأعمى - مجازاً - هو الذي لا يدرك الحقائق كما هي، فإذا تعلّم صار بصيراً.

٣١٥

(وهداهم إلى الدين القويم) للهداية معاني عديدة، منها: إراءة الطريق لمـَن لا يعرف الطريق، ومنها الإيصال إلى المطلوب، ولقد قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالهداية بكلا المعنيين: أراهم طريق السعادة وأوصلهم إلى سعادة الدنيا والآخرة.

(ودعاهم إلى الصراط المستقيم) أي الطريق الذي لا اعوجاج فيه، وهو الإسلام.

(ثمّ قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار) أي توفّاه الله وأخذه إلى عالم الآخرة بسبب الرأفة لا الغضب والسخط، وباختيار منه لا بإجبار وإكراه أو باختيار من الله تعالى له الآخرة وإرادة منه تعالى، وفضّل له الآخرة على الدنيا كما قال عزّ وجلّ:( وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولى ) .

(فمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من تعب هذه الدار في راحة) من مشاكلها ونوائبها، وما كان يرى فيها من أنواع الأذى والمخالفة، فإنّ الموت راحة لأولياء الله، وإنّ حياة الأنبياء حياة متعبة؛ لأنّها جهود وجهاد، ومشقّة وعناء.

(قد حُفّ بالملائكة الأبرار) الذين حفّوا به والتفّوا حوله، ورافقوا روحه الطاهرة إلى الرفيق الأعلى إلى أعلى علّيّين.

(ورضوان الربّ الغفّار) الذي شمله في ذلك العالم بصورة أوسع؛ لأنّ الدنيا تضيق عن ظهور جميع آثار رضا الله، ولكنّ الآخرة واسعة المجال.

(ومجاورة الملك الجبار) فهو في حفظ الله وذماره وقريب من ثوابه وألطافه.

(صلّى الله على أبي، نبيّه وأمينه على الوحي وصفيّه) الأمين الذي أُؤتمن على الوحي والرسالة وصفيّه الذي اصطفاه من خلقه.

(والسلام عليه ورحمة الله وبركاته) وفي نسخة: (فمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في راحةٍ من تعب هذه الدار، موضوعاً عنه أعباء الأوزار، محفوفاً بالملائكة الأبرار).

٣١٦

خطبة فاطمة الزهراءعليها‌السلام

ثم التفَتت إلى أهل المجلس وقالت:

أنتم - عباد الله - نصب أمره ونهيه (١) .

وحَمَلة دينه ووحيه.

وأُمناءُ الله على أنفسكم (٢) .

وبلغاؤه إلى الأُمم (٣) .

زعيم حقّ له فيكم.

وعهد قدّمه إليكم.

وبقيّة استخلفها عليكم.

كتاب الله الناطق.

والقرآن الصادق.

والنور الساطع (٤) .

والضياء اللامع (٥) .

بيّنة بصائره، منكشفة سرائره (٦) .

____________________

(١) منصوبون لأوامره ونواهيه.

(٢) أمناء: جمع أمين.

(٣) البلغاء - جمع بليغ، والمقصود - هنا - المبلّغ.

(٤) الساطع: المرتفع.

(٥) اللامع: المضيء.

(٦) البصائر: جمع بصيرة، والمراد - هنا -: الحجج والبراهين. والسرائر: جمع سريرة، والمقصود - هنا -: الأسرار الخفيّة واللطائف الدقيقة.

٣١٧

متجلّية ظواهره (١) .

مغتبط به أشياعه (٢) .

قائد إلى الرضوان إتّباعه.

مؤدٍّ إلى النجاة استماعه.

به تُنال حجج الله المنوّرة.

وعزائمه المفسّرة (٣) .

ومحارمه المحذّرة.

وبيّناته الجالية (٤) .

وبراهينه الكافية.

وفضائله المندوبة (٥) .

ورُخَصُه الموهوبة.

وشرائعه المكتوبة (٦) .

فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك.

والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر.

والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق.

والصيام تثبيتاً للإخلاص.

والحج تشييداً للدين.

____________________

(١) متجلّية: منكشفة.

(٢) الغبطة: أن تتمنّى مثل حال المغبوط إذا كان بحالة حسنة.

(٣) العزائم: جمع عزيمة: الفريضة التي افترضها الله.

(٤) الجالية: الواضحة.

(٥) المندوبة: المدعو إليها.

(٦) المكتوبة - هنا -: الواجبة.

٣١٨

والعدل تنسيقاً للقلوب (١) .

وإطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً للفرقة.

والجهاد عزّاً للإسلام.

والصبر معونة على استيجاب الأجر.

والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة.

وبرَّ الوالدين وقايةً من السخط.

وصِلَة الأرحام منماةً للعدد (٢) .

والقصاص حقناً (٣) للدماء.

والوفاء بالنذر تعريضاً (٤) للمغفرة.

وتوفية المكاييل (٥) والموازين تغييراً للبخس.

والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس.

واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة.

وترك السرقة إيجاباً للعفّة.

وحرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة.

فاتقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون.

وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه.

فإنّه إنّما يخشى الله من عباده العلماء.

__________

(١) التنسيق: التنظيم.

(٢) منماة - على وزن مسجاة -: اسم آلة النموّ، ولعلّها مصدر ميمي للنموّ.

(٣) حقناً: حفظاً.

(٤) تعريضاً: إذا جعلته في عرضة الشيء.

(٥) المكاييل: جمع مكيال: وهو ما يكال به. والموازين: جمع ميزان. والبخس: النقص.

٣١٩

خطابهاعليها‌السلام إلى الحاضرين في المسجد

ثم انتقلتعليها‌السلام من ذكر النبوّة إلى ذكر ما تركه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الثقلين: الكتاب والعترة الذين يقومان مقام النبي فقالت: وهي مخاطبة للحاضرين في المسجد النبوي حينذاك:

(أنتم - عباد الله - نصب أمره ونهيه) كلمة: (عباد الله) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، والمعنى: أخصّ بالخطاب عباد الله أنتم نصب أمره ونهيه، أي أنتم منصوبون لأوامره الله تعالى ونواهيه؛ لأنّكم كنتم موجودين عند ورود الأوامر والنواهي، والخطاب موجّه إليكم.

(وحَملة دينه ووحيه) أي الحاملون لأحكام الدين لمشاهدتكم سيرة الرسول والأحكام التي كانصلى‌الله‌عليه‌وآله يصدّرها، وأنتم الحاملون لآيات القرآن حينما كان جبرئيل ينزل بها على الرسول يعلّمكم إيّاها.

(وأُمناؤ الله على أنفسكم) أنتم الذين ائتمنكم الله على دينه حتى تتلقّوا الأحكام من الرسول ثم تلقوها إلى الأفراد الذين لم يتعلّموا تلك الأحكام.

(وبلغاؤه إلى الأُمم) لا شك أنّ العلوم تنتقل من جيل إلى جيل على مرّ القرون، وحيث إنّكم عاصرتم الرسول وسمعتم أحاديثه وتعلَّمتم سُنّته؛ يجب عليكم أن تبلّغوا تلك الأوامر والتعاليم والأحاديث والسنن إلى

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568