فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد10%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 248153 / تحميل: 11099
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

الأجيال القادمة، فأنتم مبلّغو الدين الإسلامي إلى الأُمم القادمة، وعليكم هذه المسؤولية العظمى تجاه الإسلام والمسلمين، فيجب عليكم أداء الأمانة سليمة من التلاعب، وتبليغ الأحكام كما أنزلها الله بدون تحريف أو تغيير؛ لأنّكم الوسائط بين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين بقيّة المسلمين فإن أحسنتم الأداء فلكم الأجر الجزيل، وإن خنتم في الأداء والتبليغ فعليكم أوزار كل انحراف يحدث في الدين وفي المسلمين.

(زعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقيّة استخلفها عليكم) هذه الجملات ذكرها أكثر رواة الخطبة، ولكنّها لا تخلو من الاضطراب والغموض، ولعلّ في الكلام سقطاً وحذفاً وقد ذكر شرّاح الخطبة وجوهاً محتملة لهذه الكلمات لا تخلو من تكلّف وتعسّف، ولكنّ النتيجة والمقصود أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عهد إليكم بما يجب عليكم، وترك فيكم بقيّة منه جعلها خليفة له عليكم، ومعنى البقيّة هو ما يخلفه الإنسان في أهله من الآثار واللوازم، والمراد أنّ الرسول ترك فيكم ما يسدّ الحاجة ويكفي الأُمّة الإسلامية مهامّها، وفي بعض النسخ: (وبقيّة استخلَفَنا عليكم، ومعنا كتاب الله) وهذه الجملة تشير إلى الحديث المشهور المعتبر عند المسلمين وهو قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)(١) وهنا تتحدّث السيدة فاطمة الزهراء عن أحد الثقلين وهو القرآن الكريم فقالت: (كتاب الله الناطق) أي المبيّن الموضّح، كالإنسان الذي يتكلّم بكل وضوح.

(والنور الساطع) قد ورد في القرآن الكريم التعبير عن القرآن بالنور

____________________

(١) صحيح مسلم وغيره.

٣٢١

كقوله تعالى: ( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (١) .

(والضياء اللامع) وهو النور المشرق، لا النور الضئيل الخفي.

(بيّنة بصائره) أي واضحة حججه وبراهينه فأدلّة التوحيد والنبوّة والإمامة والبعث في يوم القيامة وغير ذلك من الأدلّة والبراهين تجدها واضحة عند أهلها، وعند كل مَن يعرف منطق القرآن، ويفهم المناسبة بين الدليل والمدلول، والعلّة والمعلول، استمع إلى قوله تعالى:

( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا ) وقوله:( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) وقوله:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) وقوله:( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) وغيرها من الآيات التي هي أدلّة وبراهين وحجج على ما ذكره الله تعالى.

(منكشفة سرائره) في القرآن آيات واضحة الدلالة، ظاهرة المعنى، وآيات تشتمل على معاني دقيقة وأسرار خفيّة كأسرار الكيمياء الغيبيّة، أو الآيات المتشابهات، وهي كلّها منكشفة ومعلومة عند أُولي الألباب، والراسخين في العلم.

(متجلّية ظواهره) ظواهر القرآن واضحة كمال الوضوح.

(مغتبط به أشياعه) أي إنّ أتباع القرآن يبلغون منزلة عند الله بحيث يغبطهم الناس، أي يتمنّى الناس الوصول إلى تلك الدرجات التي نالها

____________________

(١) التغابن: ٧.

٣٢٢

الذين اتبعوا القرآن.

(قائد إلى الرضوان إتّباعه) القرآن يقود إلى رضوان الله تعالى أو اتّباع القرآن يقود إلى الرضوان والنتيجة واحدة.

(مؤدٍّ إلى النجاة استماعه) أي الاستماع إلى القرآن يؤدّي إلى النجاة كما قال تعالى:( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) سيّما إذا كان مع الاستماع تدبّر وتعقّل؛ لأنّ الخوف من الله يحصل باستماع القرآن، وكذلك الرجاء به، وهكذا ينجو الإنسان من عذاب الله تعالى، فكم من كافرٍ أسلم بسبب استماع القرآن؟ وكم من مذنب تاب؟ وكم من منحرف اعتدل، وكم من شاكٍ استقام وتيقّن.

(به تُنال حجج الله المنوَّرة) الحجّة ما يحتج به الإنسان ويمكن الاستدلال والاحتجاج به في القضايا العقلية والأحكام الشرعية، والأمور العرفية.

(وعزائمه المفسَّرة) أي الواجبات التي فسّرها القرآن نفسه، أو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ؛ لأنّ القرآن نزل في بيوتهم، وأهل البيت أدرى بما في البيت، فسّروا أحكام العبادات وكيفيّتها والخصوصيات المتعلّقة بها من الوضوء إلى الغسل إلى الصلاة إلى الصوم والحج والجهاد، وغير ذلك من الواجبات.

(ومحارمه المحذّرة) حذّرّ الله تعالى في القرآن عباده عن ارتكاب المحرّمات، حذَّرهم بالعذاب الأليم في الدنيا أو الآخرة.

(وبيّناته الجالية) أي المحكمات الواضحة التي لا تحتاج إلى تأويل.

(وبراهينه الكافية) وفي نسخة: (وجُمَله الكافية) أي المتشابهات المعلومة عند الراسخين في العلم.

(وفضائله المندوبة) وهي الأمور المستحبّة التي ندب الله تعالى عباده

٣٢٣

إليها أي دعاهم إليها بدون إلزام كصلاة الليل وأمثالها.

(ورُخصه الموهوبة) في القرآن أحكام واجبة كما تقدّم الكلام عنها، ومخيّرة وهي المستحبات التي يتخيّر الإنسان فيها.

(وشرائعه المكتوبة) شرائع: جمع شريعة، وهي ما شرّع الله أي قرّره لعباده من الدين تشبيهاً بمورد الماء، والمكتوبة هي الواجبة المفروضة.

٣٢٤

كَلاَمُهَا حَوْلَ فلسَفَةِ الأحكَام

ثم انتقلتعليها‌السلام إلى ذكر الفلسفة الإسلامية، أو علل الأحكام في الشريعة الإسلامية وما هناك من فوائد وأسرار، وحكَم في التشريع الإسلامي التي هي للوقاية أكثر ممّا هي للعلاج، وقد قيل: (الوقاية خير من العلاج) ، وسيتضح لك ذلك، قالتعليها‌السلام :

(فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك) وفي نسخة: (ففرض الله الإيمان) الآيات الواردة في القرآن الكريم، الآمرة بالإيمان بالله وحده، إنّما هي لغرض التطهير من أرجاس الشرك بالله، فالشرك بمنزلة المكروبات الضارّة، والإيمان تعقيم لها، فالشرك قذارة متعلّقة بالأذهان، ملتصقة بالعقول، قد تلوّثت بها القلوب، والإيمان تطهير عام لإزالة تلك القذارة.

(والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر) المقصود من تشريع الصلاة هو القضاء على رذيلة الكبر؛ لأنّ الصلاة خضوع وخشوع لله وركوع وسجود وتذلّل، وأكثر المصابين بداء الكبرياء هم التاركون للصلاة.

(والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق) وفي نسخة: (والزكاة تزييداً لكم في الرزق) إنّما سُمّيت الزكاة لأنّها تزكّي الإنسان، استمع إلى قوله تعالى:( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ) وقد جعل الله تعالى البركة والنمو في إعطاء الزكاة، فيأذن الله للأرض أن تجود ببركاتها فيكثر الزرع ويمتلئ الضرع، وتتراكم الخيرات، وتتضاعف الثمار.

٣٢٥

(والصيام تثبيتاً للإخلاص) قد يمكن أن يصلّي الإنسان قصد الرياء، ولا يمكن أن يصوم ويطوي نهاره جائعاً عطشاناً، ويتحمّل المشقّة لسبب الإمساك والامتناع عمّا يشتهي بقصد الرياء، فالصوم من أظهر العبادات الخالصة لوجه الله الكريم.

(والحج تشييداً للدين) للحج فوائد ومنافع معنوية لا تتحقّق بغير الحج، فالحج عبارة عن عدد كبير من المسلمين من بلاد بعيدة وأقطار عديدة، من شرق الأرض وغربها وعن كل قطر يسكن فيه مسلم يستطيع الحج، في أيام محدودة وأماكن معينة، على هيئات خاصة وكيفيّات مخصوصة، فيلتقي بعضهم ببعض، ويتعرّف المسلم الأفريقي بالمسلم الآسيوي، ويطلّع المسلم الشرقي على أحوال المسلم الغربي، وما هناك من فوائد تحصل من تلك اللقاءات، أضف إلى ذلك الفوائد التي تعود إلى نفس الإنسان الحاج من الخضوع والتذلّل لله، والتوبة والاستغفار وغير ذلك ممّا يطول الكلام بذكره.

(والعدل تنسيقاً للقلوب) وفي نسخة: (وتنسيكاً للقلوب) لا أعرف لتعليل العدل تعريفاً أحسن وأكمل من هذا التعريف؛ لأنّ تنسيق القلوب تنظيمها كتنسيق خرز السبحة، وتنظيمها بالخيط، فلو انقطع الخيط تفرّقت الخرز وتشتّتت، واختلّ التنظيم وزال التنسيق.

إنّ العدل في المجتمع بمنزلة الخيط في السبحة، فالعدل الفردي والزوجي والعائلي والاجتماعي، والعدل مع الأسرة ومع الناس، يكون سبباً لتنظيم القلوب وانسجامها بل واندماجها، وإذا فُقد العدل فُقد الانسجام، وجاء مكانه التنافر والتباعد والتقاطع، وأخيراً التقاتل.

وليست العدالة من خصائص الحكّام والولاة والقضاة، بل يجب على كل إنسان أن يسير ويعيش تحت ظلال العدالة، ويعاشر زوجته وعائلته

٣٢٦

وأُسرته ومجتمعه بالعدالة إبقاءً لمحبّة القلوب.

(وإطاعتنا نظاماً للملّة) وفي نسخة: (وطاعتنا) كل أُمّة إذا أرادت أن تعيش لا بدَّ لها من اختيار نظام حاكم سائد، والنظام كلمة واسعة النطاق، كثيرة المصداق غزيرة المعاني.

فالحكومات، وتشكيل الوزارات، وتنظيم الدوائر، وسنّ القوانين، وإصدار التعاليم في شتّى المجالات يقال لها: نظام. ولا بدّ - طبعاً - من تنفيذ النظام، والخضوع والانقياد له، ويقال له: التنظيم.

فإذا كان النظام صالحاً انتشر الصلاح في العباد والبلاد، وإذا كان النظام فاسداً ظهر الفساد في البر والبحر.

والأُمّة الإسلامية - التي تعتبر نفسها في طليعة الأُمم الراقية المتحضّرة - لا بدّ وأن يكون لها نظام، وإنّ الله تعالى جعل إطاعة أهل البيتعليهم‌السلام نظاماً للملّة الإسلامية، ومعنى ذلك أنّ الله جعل القيادة العامّة المطلقة العليا، والسلطة لأئمّة أهل البيت الاثني عشرعليهم‌السلام وهم عترة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فقط، لا كل مَن يستلم زمام الحكم، أو يجلس على منصّة القيادة تجب إطاعته وتنفيذ أوامره.

وإنّما جعل الله إطاعة أئمّة أهل البيت نظاماً للمسلمين؛ لأنّ الله تعالى زوَّدهم بالمواهب، ومنحهم الأهليّة، وأحاطوا علماً بكل ما ينفع المجتمع ويضرّه، وبكل ما يُصلح الناس ويفسدهم.

وجعلهم الرسول عِدْل القرآن بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، وإنّكم لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما.

ولقد سبق أن تحدّثت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام عن القرآن وأنّه بقيّة استخلفها عليكم، ثم ذكرت بعض ما يتعلّق بعظمة القرآن، ثم

٣٢٧

انتقلت إلى ذكر فلسفة الإسلام، ثم انتقلت إلى ذكر الثقل الثاني، وهم العترة، وهم أهل البيت، وهم أُولو الأمر الذين أوجب الله إطاعتهم على العباد بقوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) .

فو الله لو أنّ المسلمين فسحوا المجال - من أوّل يوم - لأهل البيت وأطاعوهم لكانت الدنيا روحاً وريحاناً وجنّة نعيم، وكانت السعادة شاملة لجميع طبقات البشر على مرّ القرون، وما كانت تحدث المفاسد والمجازر والمذابح على وجه الأرض، وما كانت الأموال تُسلب، والأعراض تُهتك، والنفوس تزهق ظلماً، وما كان الجهل والأُمّية والتأخير والتفسّخ منتشراً بين الأُمّة الإسلامية، وما كان في الأرض فقر ولا حرمان، ولا اضطهاد ولا جوع.

نحن لا نزال في شرح كلمات السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام وقد طال بنا الكلام هنا؛ لأنّ الموضوع يتطلّب شيئاً من التفصيل مع العلم أنّنا لم نؤدّ حق المقام.

فالبحث عن القيادة الإسلامية، أو الإمامة الصحيحة، بحث واسع يحتاج إلى موسوعة كبرى، وتحليل وتحقيق شاملين كاملين.

(وإمامتنا أماناً للفرقة) وفي نسخة: (لماً للفرقة) إمام على وزن كتاب هو المقتدى، انظر إلى إمام الجماعة كيف يقتدي به المأمومون في أفعال الصلاة من قيام إلى ركوع وسجود وهكذا، فهو مقتدى في أفعال محدودة؛ ولهذا يقال له: إمام صلاة الجماعة، أو إمام الجماعة في الصلاة.

والإمامة الكبرى التي هي الخلافة العظمى، منصب سماوي، ومنزلة تتعيّن من عند الله تعالى؛ لأنّها تالية للنبوّة من حيث العظمة والأهمّيّة، انظر إلى أولياء الله كيف يسألون الله تعالى أن يبلّغهم تلك المنزلة الرفيعة والدرجة السامية.

٣٢٨

فهذا إبراهيم الخليلعليه‌السلام يأتيه النداء من عند الله تعالى:( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) أي المقتدى به في أفعاله وأقواله، وأنّه الذي يقوم بتدبير الأُمّة وسياستها والقيام بأُمورها، وتأديب جُناتها، وتولية ولاتها، وإقامة الحدود على مستحقّيها ومحاربة مَن يكيدها ويعاديها، وليس المقصود من الإمامة - هنا - النبوّة؛ لأنّ إبراهيم كان نبيّاً حينذاك وإنّما أضاف الله له الإمامة إلى النبوّة.

وأنت إذا أمعنت النظر في قوله تعالى:( إِنِّي جَاعِلُكَ ) يتضح لك أنّ تعيين الإمام يجب أن يكون من عند الله، ولا يحق للناس أن يعيّنوا لأنفسهم إماماً حسب آرائهم الشخصية وهواياتهم الفردية.

وإذا تدبّرت بقيّة الآية تنكشف لك حقائق أخرى وهي قوله:( وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) أي لما أخبر الله إبراهيم بالإمامة قال إبراهيم:( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) أي واجعل من ذرّيّتي مَن يوشّح بالإمامة وبهذه الكرامة. قال تعالى:( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال مجاهد: العهد الإمامة. وقد رُوي ذلك عن الإمامين: الباقر والصادقعليهما‌السلام أي لا يكون الظالم إماماً للناس. وهذا يدل على عصمة الأئمّة؛ لأنّ الله سبحانه نفى أن ينال عهده (الذي هو الإمامة) ظالم، ومَن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إمّا لنفسه وإمّا لغيره.

وإذا تأمّلت في هذه الآيات البيّنات يتضح لك أنّ المناصب السماوية والوظائف الإلهيّة ينبغي أن تكون من عند الله تعالى وتعيينه وجعله، تدبّر في قوله تعالى:

( يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ) (١) .

____________________

(١) الأنعام: ٢٦.

٣٢٩

( وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ) (١) .

( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ) (٢) .

( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (٣) .

( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) (٤) .

( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) (٥) .

( وَاجْعَل لي وَزِيراً منْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي ) (٦) .

وغيرها من الآيات التي تتجلّى فيها كلمة: (جعلنا) و(اجعلنا) و(جعلناهم) وما أشبه ذلك.

وهنا تقول الزهراءعليها‌السلام : (وإمامتنا) إنّها تقصد إمامة الأئمّة الاثني عشر، وشخص زوجها العظيم أبا الأئمّة عليّاًعليه‌السلام .

(والجهاد عِزّاً للإسلام) العِزّة لا تحصل إلاّ بالقوّة، وتظهر القوّة باستعمال السلاح واستعراض الجيش، وإظهار المعدّات الحربيّة، وتجلّي البطولات وغير ذلك.

وأحسن استعراض للقوّة وإثبات الشخصية هو الجهاد في سبيل الله، فالقوّة والقدرة والإمكانية والتضحية، ومدى تعلّق المسلمين بالمبدأ، والمواهب التي تظهر في جبهات القتال، وتظهر النتيجة بالانتصار والظفر والغلبة على أعداء الدين، واستيلاء الخوف على كل مناوئ للإسلام، والقوي لا يخضع إلاّ للقوّة، لا للإنسانية فقط، ولا للثروة فقط، بل للقوّة، وهكذا تجتمع العِزّة للأُمّة القويّة، وللمبدأ الذي يعتنقه الأقوياء.

(والصبر معونة على استيجاب الأجر) الصبر على المكاره من فقر

__________

(١) الحديد: ٢٦.

(٢) الفرقان: ٣٥.

(٣) الأنبياء: ٧٣.

(٤) البقرة: ١٢٤.

(٥) الفرقان: ٧٤.

(٦) طه: ٢٩ - ٣٠.

٣٣٠

إلى مرض إلى دَين إلى سجن إلى مصيبة، يدل على التسليم لإرادة الله تعالى، والتسليم فضيلة سامية ومنزلة عالية يستعين بها الإنسان الصابر على تحصيل الجزيل، والثواب الأوفى، وبالصبر يتمّ فعل الطاعات وترك السيئات.

(والأمر بالمعروف مصلحة للعامة) فرض الله الأمر بالمعروف على كل مكلف في حدود القدرة والإمكانية بشروط معيّنة مذكورة في محلّها، ويعتبر نوعاً من الجهاد، ومعنى ذلك أنّ كل فرد من أفراد المسلمين يعتبر نفسه مسؤولاً عن الدين مرتبطاً به، غير منفصل عنه، وهو تفسير عملي لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته) لأنّ الإسلام لا يؤمن باللامبالاة وبالانعزال عن المجتمع الديني؛ لأنّ الإسلام يعتبر المسلمين أُسرة واحدة مترابطة، وأُمّة واحدة يربطها رباط الدين والعقيدة.

(وبرّ الوالدين وقاية من السخط) وفي نسخة: (والبرّ بالوالدين وقاية من السخطة) ومعنى ذلك أنّ عقوق الوالدين يُسبب سخط الله وغضبه على العاق لوالديه، إذن يكون الإحسان إليهما سبباً للوقاية من غضب الله تعالى، وبعد إلقاء نظرة على الآيات التي توصي برعاية حقوق الوالدين تتضح لنا أهميّة هذا الجانب الأخلاقي:

( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا... ) (١) .

( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ... ) (٢) .

( وَاعْبُدُوا اللَّـهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا... ) (٣) .

( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ

____________________

(١) العنكبوت: ٨.

(٢) البقرة: ٢١٥.

(٣) النساء: ٣٦.

٣٣١

إِحْسَانًا ) (١) .

( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) (٢) .

( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴿١٤﴾ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ... ) (٣) .

( وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ) (٤) .

بعد الانتباه إلى هذه الآيات ينكشف لنا معنى كلامهاعليها‌السلام : وبرّ الوالدين وقاية من السخط، وهذا البحث يتطلّب مزيداً من الشرح والتفصيل، ولكنّنا اكتفينا بما تيسّر.

(وصلة الأرحام منماة للعدد) وفي نسخة: (وصلة الأرحام منسأة للعمر، ومنماة للعدد) إن للأعمال آثار طبيعية ولا يمكن التخلف عنها، فالذي يصل رحمه - أي أقربائه الذين تجمعه وإياهم رحم من أرحام

____________________

(١) الأنعام: ١٥١.

(٢) الإسراء: ٢٣ و ٢٤.

(٣) لقمان: ١٤ - ١٥.

(٤) الأحقاف: ١٥ - ١٦.

٣٣٢

الأمهات - باللسان أو باليد أو بالمال لا بد وأن يكون طويل العمر، كثير النسل والعدد، كثير المال، ولقد وردت أحاديث كثيرة متواترة جداً حول صلة الرحم، وإنها تزيد في الثروة وتؤخّر الأجل (أجل الموت).

وكذلك قطع الرحم يسبّب قصر العمر وزوال المال.

ولقد شاهدنا في عصرنا الكثير من الناس الذين وصلوا أرحامهم فدرّت عليهم الأيام خيرها وبركاتها، وكثر عددهم ونسلهم مع العلم أنّ مؤهّلات التكاثر لم تكن متوفّرة فيهم.

كما قد رأينا الكثيرين من أبناء زماننا الذين قطعوا أرحامهم أي قطعوا العلاقات الودّيّة - بجميع أنواعها - مع أقربائهم، فكأنّهم قطعوا جذور أعمارهم، وهدموا أُسس حياتهم وبقائهم بأيديهم فانقرضوا بعد أن افتقروا.

(والقصاص حقناً للدماء) لا يوجد في سجلاّت القوانين في العالم كلّه قانون المحافظة على حياة الناس كقانون القصاص؛ ولهذا قال تعالى:( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (١) .

والعجب أنّ القضاء على حياة القاتل يعتبر إبقاءً وحفظاً لحياة الآخرين، إذ إنّ الإنسان إذا عزم على قتل أحد ظلماً إذا علم أنّه سوف يُقتص منه، ويُقتل، فإنّه بالقطع واليقين سيمتنع من الإقدام على الجريمة، ولكنّه إذا علم أنّ جزاءه السجن، وفي السجن الراحة والأكل والشرب، ورجاء شمول العفو، والتخفيف، أو دفع العوض وما شابه ذلك من الرشوة وشفاعة الشافعين لدى السلطة الحاكمة، فعند ذلك تهون عنده الجريمة، ويستسهل الجناية، ويقدم على إراقة الدماء البريئة ظلماً وعدواناً.

____________________

(١) البقرة: ١٧٩.

٣٣٣

إنّ قانون الكفّار السائد في البلاد الإسلامية لا يؤمن بالقصاص من القاتل، ويزعم القانون أنّ القصاص لا يحيي المقتول فلا فائدة في تكرار القتل، فوضعوا السجون والأعمال الشاقّة عقوبة للقاتل، ومع ذلك تجد السجون في العالم مليئة بالمجرمين المرتكبين لجريمة القتل، وتجد جرائم القتل في التزايد والتكاثر في كل زمان وكل مكان.

والعجب أنّ الله تعالى يخاطب العقلاء بقوله:( يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ) ويعقبه بجملة:( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) يخاطب الله تعالى العقلاء الذين يفهمون ويعقلون أنّ القصاص أحسن رادع وأقوى مانع عن القتل، والقصاص أفضل وأحسن من السجن والتعذيب وما شابه ذلك.

ولكنّ القانون الإلهي أصبح مهجوراً متروكاً، والقانون الغربي هو القانون المفضّل على أحكام الله تعالى، وبذلك فلتقرّ عيون المسلمين.

وكيف يرجو المسلمون لأنفسهم السيادة والعزّة والاستقلال وهم أذناب وأتباع لليهود والنصارى في أحكامهم وقوانينهم، بل وحتى في تاريخهم، فالتاريخ الهجري الإسلامي صار نسياً منسيّاً، والتاريخ الميلادي هو المعروف المتّبع في البلاد الإسلامية حكومات وشعوباً.

هذا والكلام طويل يحتاج إلى مجال أوسع وتفصيل أكثر، وبعد ذلك ما الفائدة في بثّ هذه الآلام والمآسي؟ فهل يحصل تغيير في الأنظمة الحكومية والقوانين المستوردة عندهم؟ لا أظن ذلك!!

(والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة) وفي نسخة: (بالنذور) النذر هو المعاهدة مع الله تعالى على فعل من الأفعال، فالوفاء بالنذر يعتبر وفاء بالمعاهدة كما قال تعالى:( وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّـهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا

٣٣٤

عَظِيمًا ) والإنسان يجعل نفسه في معرض المغفرة عن طريق النذر والوفاء بالنذر.

(وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس) أوجب الله تعالى على البائع والمشتري أن يراعيا حقوق الناس، وأن لا يبخسا الناس أشياءهم، وأن يعاملا الناس بالأمانة والعدالة، لا بالظلم والخيانة؛ وذلك بعدم التلاعب في المكيال الذي يكال به الشيء من طعام وغيره، أو الميزان الذي يوزن به الشيء.

(والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس) وفي نسخة: (والانتهاء عن شرب الخمور) لقد ذكرنا حول آية التطهير معاني عديدة للرجس، والخمر تعتبر من أفراد الرجس ومصاديقه كما قال تعالى:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمـَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) وقد كتب الكثير من المسلمين وغيرهم كتباً ومقالات حول أضرار الخمر، والجرائم المتولّدة منها، والويلات التي تتكوّن منها، ونكتفي - هنا - أن نقول: بعد مراجعة معاني الرجس يتضح لك جانب كبير من مضار الخمرة من الناحية الصحيّة والعقلية والاجتماعية وغير ذلك.

(واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة) وفي نسخة: (واجتناب قذف المحصنات) إنّ الإسلام هو الدين الذي يحافظ على كرامات الناس، ويعتبر الإسلام المسّ بالكرامة نوعاً من أنواع الجريمة، وقد جعل لهذه الجريمة عقوبة دنيوية، وعذاباً في الآخرة.

إنّ إسناد الفجور إلى أهل العفّة والشرف من رجال أو نساء ليس بالشيء الهيّن، ولا يسمح الإسلام أن يطلق الإنسان لسانه لهدر كرامة الناس، وهتك أعراضهم ونواميسهم.

وإذا نسب الإنسان نوعاً من أنواع الفجور إلى ما ليس معروفاً

٣٣٥

بالفجور فلا بد من إثبات ذلك بإقامة البينة والشهود، فإن عجز عن ذلك فسوف ينفذ في حقّه قانون العقوبات.

قال تعالى:( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (١) .

وقال أيضاً:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٢) .

وهنا يتضح معنى كلامهاعليها‌السلام : (واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة) أي الذي يجتنب قذف الناس: أي إسناد الفجور إليهم، فهو محجوب عن اللعنة ومعنى اللعنة: البعد عن رحمة الله تعالى.

(وترك السرقة إيجاباً للعفّة) وفي نسخة: (ومجانبة السرقة) إنّ اليد تعتبر ثمينة غالية ما دامت أمينة عفيفة، فإذا سرقت فقد خانت فصارت رخيصة لا كرامة لها؛ لأنّها تجاوزت الحدود.

سأل أبو العلاء المعرّي من السيد المرتضى علم الهدى (رضوان الله عليه):

يدٌ بخمس مئينٍ عسجدٍ أوديت

ما بالها قُطعت في ربع دينار؟

أي أنّ اليد التي ديتُها خمسمائة دينار ذهب، لماذا تُقطع إذا سرقت شيئاً قيمته ربع دينار؟

فأجابه السيد المرتضى قائلاً:

عِزّ الأمانة أغلاها، وأرخصها

ذلُّ الخيانة، فافهم حكمةَ الباري

إذن فالسرقة تسلب العفّة من اليد، أي صاحب اليد، وترك السرقة

____________________

(١) النور: ٤ - ٥.

(٢) النور: ٢٣.

٣٣٦

يوجب بقاء العفّة والأمانة.

وفي كتاب (كشف الغمّة) بعد قولهاعليها‌السلام : (ومجانبة السرقة إيجاباً للعفة) هكذا: (والتنزّه عن أكل أموال الأيتام والاستئثار بفيئهم إجازة من الظلم. والعدل في الأحكام إيناساً للرعية) اليتيم هو الذي فقد أحد أبويه أو كليهما وهو صغير، ويرثهما في التركة، ونظراً لصغر سنّه لا يستطيع المحافظة على أمواله وتدبير أُموره، وهنا يطمع في أمواله ذوو الأطماع لأنّهم استضعفوه، ولم يجدوا فيه القوّة والقدرة على المقاومة، فهناك الظلم الواضح والاعتداء البغيض، ولكنّ الله تعالى قد قدّر مصير هؤلاء الظالمين وجزاءهم في الآخرة، فقال تعالى:( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ) فجعل الله الاجتناب عن أكل أموال اليتامى حفظاً من الوقوع في الظلم الذي هذا جزاؤه وعقابه.

وأمّا جملة: (والاستئثار بفيئهم) فالمقصود من الفيء - هنا -: الغنيمة، أي خمس الغنائم أو ما أفاء الله على رسوله، وقد تقدّم الكلام حول ذلك في مدخل الخطبة والآيات الواردة حول فدك.

(وعدل الحكّام إيناساً للرعيّة) لقد تقدّم في كلامهاعليها‌السلام شيء حول العدل بصورة عامّة كالعدل بين الزوجات وبين الأولاد وبين الناس، وهنا تشير في كلامها إلى عدل الحكام، والمقصود من الحكّام - هنا - السلطة الحاكمة من الملك إلى الوزراء إلى الأُمراء إلى رؤساء الدوائر والمحافظين والقضاة والحاكمين، وأمثالهم من ذوي السلطة والقدرة.

ومن الطبيعي: أنّ أصحاب المناصب الخطيرة يشعرون أو يتصوّرون بهالةٍ من الكبرياء تحيط بهم، وعلى هذا الأساس يرون أنفسهم أجلّ قدراً وأعظم شأناً وأرفع مستوى من غيرهم.

٣٣٧

وأفراد الرعيّة يشعرون بشيء من البعد الواسع والبون الشاسع بينهم وبين الطبقة الحاكمة، فلا يسمح لكل أحد أن يلتقي برئيس الدولة، أو يقابل موظفاً كبيراً، وخاصّة إذا كان صاحب حاجة، وعلى الأخص إذا اعتدى عليه بعض الموظّفين، وهذا يسبّب التنافر بين الحكومة وبين الشعب، وبين جهاز الحكومة والمواطنين.

ولكن إذا سار الحكّام على طريقة العدالة والمحافظة على حقوق الضعفاء؛ تجد أنّ روح الأمل قد تولّدت في نفس المظلوم، بل في نفوس أفراد الرعيّة، وينظر الإنسان من أفراد الشعب إلى جهاز الحكم كما ينظر الولد إلى أبيه، وكما ينظر الطالب إلى المعلّم، وكما ينظر المريض إلى الطبيب والممرّض من حيث المحبّة والتقدير، وبهذا يحصل الاستئناس بين أفراد الشعب وبين الطبقة الحاكمة، ويحصل التعاون والإخاء والأُلفة والمحبّة وهكذا وهلمّ جرّاً.

ولولا رعاية أُسلوب الكتاب لطال بنا الكلام حول هذا الموضوع الذي يشعر به أكثر الناس، وتتلهّف إليه النفوس.

(وحرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبية) لأن الشرك نوع من الكفر، والواجب على العباد أن يعبدوا الله مخلصين له الدين.

ثم أنها ختمت هذا الفصل من كلامها بآيات مناسبة للموضوع، وهي قوله تعالى:( اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنّه( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) .

٣٣٨

خطبة فاطِمَة الزّهْرَاءعليها‌السلام

ثم قالت: أيّها الناس!

اعلموا أنّي فاطمةّ!

وأبي محمّد

أقول عَوداً وبدءاً (١) .

ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً (٢)

( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) (٣) .

فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم (٤) .

وأخا ابن عمّي دون رجالكم.

ولنعم المعزِيُّ إليه (٥) صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فبلّغ بالرسالة، صادعاً بالنذارة (٦) .

مائلاً عن مدرجة المشركين (٧) .

____________________

(١) عوداً وبدءاً: آخراً وأوّلاً.

(٢) شططاً: ظلماً وجوراً.

(٣) التوبة: ١٢٩.

(٤) تعزوه: تنسبوه.

(٥) المعزي إليه: المنسوب إليه.

(٦) صادعاً: مظهراً. النذارة: الإنذار والتخويف.

(٧) مدرجة المشركين: طريقهم ومسلكهم.

٣٣٩

ضارباً ثَبجهم (١) ، آخذاً بأكظامهم(٢) .

داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة.

يكسر الأصنام.

وينكت الهام (٣) .

حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر.

حتى تفرّى الليل عن صبحه (٤) .

وأسفر الحق عن محضه (٥) .

ونطق زعيم الدين.

وخرست شقاشق الشياطين (٦) .

وطاح وشيظ النفاق (٧) .

وانحلّت عُقد الكفر والشقاق (٨) .

وفُهتم بكلمة الإخلاص (٩) .

ونفرٌ من البيض الخِماص (١٠) .

__________

(١) الثبج - بفتح الثاء والباء -: الكاهل، ووسط الشيء.

(٢) الكظم: - بفتح الكاف والظاء -: الفم أو الحلق أو مخرج النفس.

(٣) نكته على هامته: إذا ألقاه على رأسه.

(٤) تفرّى: انشقّ.

(٥) أسفر: إذا انكشف وأضاء. والمحض: الخالص.

(٦) شقاشق - جمع شقشقة - وهي شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير إذا هاج.

(٧) الوشيظ: الأتباع والخدم.

(٨) الشقاق: الخلاف.

(٩) فُهتم: تلفظتم.

(١٠) البيض - جمع أبيض - والخماص - جمع خميص - وهو الجائع. وفي نسخة: (في نفرٍ).

٣٤٠

ففي هذه الآية نرى ـ لو أمعنا النظر ـ كيف بيّن القرآن الكريم المقدّمات الطبيعية لنزول المطر والثلج من السماء من قبل أن يعرفها العلم الحديث ويطّلع عليها بالوسائل التي يستخدمها لدراسة الظواهر الطبيعية واكتشاف عللها ومقدماتها.

فقبل أن يتوصل العلم الحديث إلى معرفة ذلك ـ بزمن طويل ـ سبق القرآن إلى بيان تلك المقدمات في عبارات هي :

١. يزجي ( يحرك ) سحاباً.

٢. ثم يؤلّف ( ويركب ) بينه.

٣. ثم يجعله ركاماً ( أي كتلة متراكمة متكاثفة ).

٤. فترى الودق ( أي المطر ) يخرج من خلاله.

٥. يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.

وهكذا يصرح الله سبحانه في كل المراحل بتأثير الأسباب والعلل الطبيعية، غاية ما هنالك أنّ تأثير هذه العلل والأسباب بإذن الله ومشيئته بحيث إذا لم يشأ هو سبحانه لتعطلت هذه العلل عن التأثير.

( اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَىٰ الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مِنْ يَشَاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) (١) .

وأية جملة أوضح من قوله:( فَتُثِيرُ سَحَاباً ) أي الرياح، فالرياح في نظر

__________________

(١) الروم: ٤٨.

٣٤١

القرآن هي التي تثير السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر.

إنّ الإمعان في عبارات هذه الآية يهدينا إلى نظرية القرآن ورأيه الصريح حول « تأثير العلل الطبيعية بإذن الله ».

ففي هذه الجمل جاء التصريح :

١. بتأثير الرياح في نزول المطر.

٢. وتأثير الرياح في تحريك السحب.

٣. وانبساط السحب في السماء.

٤. وتجمع السحب ـ فيما بعد ـ على شكل قطع متراكمة.

٥. ثم نزول المطر بعد هذه التفاعلات والمقدمات.

فإذا ينسب القرآن هذه الأفاعيل إلى الله في هذه الآيات عند تعرضه لذكر مراحل تكون المطر ونزوله بأنّه ( هو ) يبسط السحاب في السماء و ( هو ) الذي يجعله كسفاً، فإنّما يقصد ـ من وراء ذلك ـ التنبيه إلى مسألة « التوحيد الافعالي » الذي سنبحثه من وجهة نظر القرآن في هذا الفصل وما بعده.

على أنّ الآيات التي تؤكد دور العلل الطبيعية وتأثيرها المباشر، وتعتبر العالم مجموعة من الأسباب والمسببات التي تعمل بإرادة الله وإذنه وتكون فاعليتها فرعاً من فاعلية الله، أكثر من أن يمكن إدراجها هنا، ولكننا نرى في ما ذكرنا الكفاية لمن تدبّر.

هذا وقال أحمد أمين المصري: إنّ من الدائر على ألسنة الأزهريين :

ومن يقل بالطبع أو بالعلّه

فذاك كفر عند أهل الملّه

٣٤٢

وقال الزبيدي في إتحاف السادة(١) وهو شرح لإحياء العلوم :

ثبت مما تقدم أنّ الإله هو الذي لا يمانعه شيء وإنّ نسبة الأشياء إليه على السوية، وبهذا أبطل قول المجوس وكل من أثبت مؤثراً غير الله من علة أو طبع أو ملك أو أنس أو جن، إذ دلالة التمانع تجري في الجميع ولذلك لم يتوقف علماء ما وراء النهر في تكفير المعتزلة حيث جعلوا التأثير للإنسان.

هذا، وقد تقرب الإمام الأشعري إلى أهل السنّة بنسبته فعل الشر إلى الله تعالى لـمّا تاب عن الاعتزال، فرقى يوم الجمعة كرسياً في المسجد الجامع بالبصرة ونادى بأعلى صوته: « من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن وانّ الله لا يرى بالأبصار وانّ أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة فخرج بفضائحهم ومعايبهم »(٢) .

ولا يخفى أنّ التوحيد الافعالي بهذا المعنى أي سلب العلية والتأثير عن أي موجود سواه استقلالاً وتبعاً وبالمعنى الاسمي والمعنى الحرفي جر الويل بل الويلات على أصحاب هذا الرأي من أهل السنّة فدخلوا في عداد الجبرية وان كانوا لا يقبلون بإطلاق هذا الاسم عليهم.

غير أنّ هذا الرأي الزائف لا ينتج غير الجبر والإلجاء في أفعال الإنسان، ولذا رأينا أنّ الإمام الأشعري قد تاب عن قول: « إنّ أفعال الشر أنا أفعلها »، وذلك حينما دخل في عقيدة السنّة ـ حسب رأيه ـ.

__________________

(١) اتحاف السادة: ٢ / ١٣٥.

(٢) الفهرست لابن النديم: ٢٥٧.

٣٤٣

ما معنى هذه الجملة التي ذكرها الإمام الأشعري في جملة عقائد أصحاب الحديث والسنّة إنّ سيئات العباد يخلقها الله عزّ وجلّ، وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً(١) .

أو ليس هذا موجباً للغوية بعث الأنبياء والرسل، ولغوية الحث على العمل الصالح والزجر عن غير الصالح.

ونرى إمام الحنابلة يمشي على هذا الضوء فيفسر القضاء والقدر على نحو يساوي الجبر والحتم حيث يقول: القدر خيره وشره، حسنه وسيئه من الله قضاء قضاه وقدر قدره لا يعدو واحد منهم مشيئة الله عز وجل والعباد صائرون إلى ما خلقهم له واقعون فيما قدر عليهم لأفعاله وهو عدل منه عزّ ربنا وجل والزناء والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأكل المرء المال الحرام والشرك بالله والمعاصي كلها بقضاء وقدر(٢) .

إنّ تفسير القضاء والقدر بهذا المعنى تشعب عن الفكرة الخاطئة من إنكار العلية والمعلولية في عالم الطبيعة مطلقاً وانّ الظواهر الطبيعية لا مصدر ولا منشأ لها إلّا إرادته سبحانه من دون وساطة علة أو مشاركة سبب، وهو ما عرفت بطلانه في الصفحات السابقة.

وأمّا كشف النقاب عن حقيقة قضائه وقدره سبحانه مع شمولها لعامة الحوادث والظواهر الطبيعية والأفعال الإنسانية، فقد أسهبنا فيه الكلام في بعض أبحاثنا الفلسفية(٣) .

__________________

(١) مقالات الإسلاميين: ١ / ٣٢١.

(٢) طبقات الحنابلة: ١ / ٢٥.

(٣) راجع القضاء والقدر في العلم والفلسفة تأليف شيخنا الأُستاذ وتعريب محمد هادي الغروي طبع في بيروت ١٣٩٩ ه‍.

٣٤٤

وللعلاّمة الحجة السيد مهدي الروحاني مقال مسهب في المقام في كتابه « بحوث مع أهل السنّة والسلفية » فراجعه.

مذهب أئمة أهل البيت

أقول: من جعل القرآن رائده وإمامه، ونظر في آياته مجرّداً عن الميول والأفكار المسبقة، يقف على أنّ كلا المذهبين ( مذهب المعتزلة والأشاعرة ) على جهتي الإفراط والتفريط، فلا تفويض ولا جبر، لا إشراك ولا ثنوية ولا اضطرار والجاء، لا أنّ الممكن مستقل في فعله وتأثيره، ولا هو منعزل عن فعله وأثره بتاتاً.

إنّ كلا الرأيين والمذهبين لا يصدقهما القرآن ولا الدلائل العقلية الواضحة بل إنّ هناك مذهباً ثالثاً أسماه أئمّة أهل البيت بالأمر بين الأمرين وهو الذي يرشدنا إليه التدبر في القرآن وبه يحافظ على التوحيد في الخالقة والفاعلية، وانّه لا خالق مستقل إلّا هو، وعلى مشاركة العلل والأسباب مختارها ومضطرها في الفعل والأثر « فلا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين » وسيوافيك توضيح الفرق بين المذهبين والأمر بين الأمرين بطرح مثال بديع.

* * *

ويمكن تلخيص التوحيد الافعالي في فصلين :

١. انّه ليس في عالم الوجود إلّا خالق أصيل ومستقل واحد، وأمّا تأثير العلل الأُخرى وفاعليتها فليست إلّا في طول خالقية الله وعلّيته وفاعليته، ومتحقّقة بإذنه.

٣٤٥

٢. انّه لا مدبر للعالم إلّا « الله » ولا تدبير لغيره إلّا بإذنه سبحانه وأمره.

وأمّا القسم الأوّل فهو « التوحيد في الخالقية ».

والقسم الثاني فهو « التوحيد في التدبير والربوبية ».

وسيوافيك انّ « الرب » ليس بمعنى: الخالق، بل بمعنى المدبر الذي وكل إليه أمر إصلاح فرد أو جماعة(١) .

التوحيد في الخالقية

من مراجعة القرآن الكريم يتضح أنّ هذا الكتاب السماوي لا يعرف خالقاً مستقلاً أصيلاً إلّا الله، وأمّا خالقية ما سواه فهي في طول خالقيته وليس له استقلال في الخلق والإيجاد، وإليك فيما يلي طائفة من الآيات التي تشهد بهذا الأمر :

( قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (٢) .

( اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيءٍ وَكِيلٌ ) (٣) .

( ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالُقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إلّا هُوَ ) (٤) .

__________________

(١) قد فسر الوهابيون « الرب » بالخالق واعتبروا التوحيد في الربوبية والتوحيد في الخالقية قسماً واحداً، في حين أنّ الربوبية لا تعني الخالقية، بل تعني إدارة فرد أو جماعة وتدبير أُمورهم وسيأتي توضيح هذا القسم في المستقبل.

(٢) الرعد: ١٦.

(٣) الزمر: ٦٢.

(٤) غافر: ٦٢.

٣٤٦

( ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلهَ إلّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْء فَاعْبُدُوهُ ) (١) .

( هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَىٰ ) (٢) .

( أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (٣) .

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ) (٤) .

( أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ) (٥) .

ولا يمكن أن تكون هناك عبارات أوضح من هذه العبارات في إفادة المقصود وهو: أنّ كل الأشياء ـ بذاتها وآثارها ـ معلولة لله ومخلوقة له سبحانه.

فهو الذي خلق الشمس والقمر والنار، وهو الذي أعطاها النور والضوء والحرارة، وأقام ارتباطاً وثيقاً بين هذه الآثار وتلك الأشياء.

وبالتالي فهو الذي أعطى للأسباب سببيّتها وللعلل علّيتها.

إنّ القرآن يرى ـ بحكم نظرته الواقعية ـ بأنّ كل ما في هذه الحياة من سماء وكواكب وأرض وجبال وصحراء وبحر، وعناصر ومعادن، وسحاب ورعد وبرق وصاعقة، ومطر وبرد، ونبات وشجر، وحجر وحيوان وإنسان، وغيرها من الموجودات غير مستقلة في التأثير، وإنّ كل ما ينتسب إليها من الآثار ليست لذوات هذه الأسباب، وانّما ينتهي تأثير هذه المؤثرات إلى الله سبحانه.

__________________

(١) الأنعام: ١٠٢.

(٢) الحشر: ٢٤.

(٣) الأنعام: ١٠١.

(٤) فاطر: ٣.

(٥) الأعراف: ٥٤.

٣٤٧

فجميع هذه الأسباب والمسببات رغم ارتباطها بعضها ببعض ـ بحكم العلية ـ فهي مخلوقة لله جميعاً، فإليه تنتهي العلية وإليه تؤول السببية وهو معطيها للأشياء.

ولا شك أنّ البشر هو أيضاً ذو آثار وأفعال، كالأكل والشرب والقيام والقعود وغيرها من الأفعال، وكلّها مرتبطة بالإنسان نفسه، فهي أفعاله الاختيارية التي يتعلّق بها الأمر والنهي.

ولكنّه ليس مستقلاً في فعله وأثره، فكما أنّ فعله يعد فعلاً له ومرتبطاً به، فهكذا يعد فعله فعلاً لله سبحانه ومرتبطاً به بحكم كون وجوده وما أُعطي من القوى والطاقات مستندة إلى الله سبحانه، وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون فعل العبد مرتبطاً بالعبد ومنقطعاً عن الله، إذ كيف يكون ذات الشيء مرتبطاً ويكون فعله منقطعاً، فإنّ غير المستقل بالذات غير مستقل في الفعل، والمستقل في الذات مستقل في الفعل أيضاً.

وبعبارة أُخرى: انّ المراد من كون أفعال العباد مخلوقة لله ليس هو كونها فعلاً له سبحانه بلا مشاركة العبد، بل المراد هو عدم استقلال العبد والعلل كلها في مقام الإنشاء والإيجاد وإلاّ لزم أن يكون في صفحة الوجود فاعلون مستقلون في الفعل والإيجاد وهو بمنزلة الشرك.

وبذلك يرتفع الاستيحاش عن القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة لله، إذ ليس المراد انّه سبحانه فاعل دونهم كما ليس المراد أنّها أفعال لهم دونه سبحانه، بل هي أفعال له تعالى من جهة وأفعال لهم من جانب آخر.

وقد أوضحه بعض المحقّقين بالمثال التالي الذي يوضح موقف كل من مذهبي الجبر والتفويض وما هو الحق من الأمر بين الأمرين، فلنفرض أنّ إنساناً

٣٤٨

أعطى لأحد سيفاً مع علمه بأنّه يقتل به نفساً، فالقتل إذا صدر منه لا يكون مستنداً إلى المعطي بوجه، فإنّه حين صدوره يكون أجنبياً عنه بالكلية غاية الأمر أنّه هيّأ بإعطائه السيف مقدمة إعدادية من مقدمات القتل، وهذا واقع التفويض.

كما أنّه لو شد آلة جارحة بيد الإنسان المرتعش بغير اختيار، فأصابت الآلة من جهة الارتعاش نفساً فجرحته، فالجرح لا يكون صادراً من ذاك الإنسان المرتعش، بإرادته واختياره، بل هو مقهور عليه في صدوره منه، وهذا واقع الجبر وحقيقته.

وإذا فرضنا أنّ يد الإنسان مشلولة لا يتمكّن من تحريكها إلّا مع إيصال الحرارة إليها بالقوة الكهربائية، فأوصل رجل القوة إليها بواسطة سلك يكون أحد طرفيه بيد المولى، فاختار ذلك الإنسان قتل نفس والموصل يعلم بذلك، فالفعل بما انّه صادر من الإنسان المشلول باختياره يعد فعلاً له، وبما أنّ السلك بيد الموصل وهو الذي يعطي القوة للعبد آناً فآناً فالفعل مستند إليه، وكل من الإسنادين حقيقي من دون أن يكون هناك تكلّف أو عناية، وهذا هو واقع الأمر بين الأمرين، فالأفعال الصادرة من المخلوقين بما أنَّها تصدر منهم بالإرادة والاختيار، فهم مختارون في أفعالهم ; وبما أنّ فيض الوجود والقدرة والشعور من مبادئ الفعل يجري عليهم من قبل الله تعالى آناً فآناً، فأفعالهم منتسبة إلى خالقهم(١) .

إنّ هناك طائفة من الآيات القرآنية تبيّن هذه الحقيقة بنحو آخر وهو أنّه ليس الله تعالى خلق الأشياء فقط، بل هو الذي قدر تأثير كل شيء وخلق له

__________________

(١) أجود التقريرات: ١ / ٩٠.

٣٤٩

« حدوداً » خاصة، وغايات معينة مثل قوله تعالى :

( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (١) .

( رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) (٢) .

( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ *وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) (٣) .

هذه الآيات وما قبلها تبيّن « التوحيد الخالقي » بوضوح ولا تعترف بخالق أصيل ومستقل إلّا الله، كما أنّها لا تعترف بمقدّر أصيل للأشياء وهاد واقعي لها غيره سبحانه.

ما هو معنى الخالقية ؟

ماذا يراد من أنّ الله سبحانه هو الخالق الوحيد وانّ الذوات والأشياء وما يتبعها من الأفعال والآثار حتى الإنسان وما يصدر منه، مخلوقات لله سبحانه بلا مجاز ولا شائبة عناية ؟

إنّ الوقوف على تلك الحقيقة القرآنية يتوقف على تحليل معنى الخلق لغة واستعمالاً.

إنّ لفظة « الخلق » تارة يراد منها « التقدير » وأُخرى الإبداع والإيجاد، والميزان في ذلك هو إنّه إذا قيل: خلق هذا من ذاك وذكرت معه المادة القابلة للصياغة والتصوير والنحت والتكوين يراد منه التقدير، قال سبحانه حاكياً عن سيدنا المسيحعليه‌السلام :

( أَنِّي أخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهِيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً

__________________

(١) الفرقان: ٢.

(٢) طه: ٥٠.

(٣) الأعلى: ٢ ـ ٣.

٣٥٠

بِإِذْنِ اللهِ ) (١) .

يقال: خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته، ويقال أيضاً: خلق العود: سوّاه(٢) .

وأمّا إذا تعلّق الخلق بالشيء ونسب إليه من دون أن تقترن بمادة خاصة، فيراد منه الإبداع والإيجاد من كتم العدم، كقوله سبحانه :

( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (٣) .

نعم دلت البراهين الفلسفية على أنّ « الخلق » لا ينفك عن الإيجاد والإبداع حتى في القسم الأوّل، فإنّ المادة وإن كانت موجودة لكن الصورة ـ لا شك ـ إنّها أبداعية قطعاً، كقوله سبحانه :

( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) (٤) .

ولعلّه لذلك اكتفى ابن فارس في مقاييسه في توضيح معنى الخلق بالمورد الأوّل أي التقدير ولم يذكر المورد الثاني اعتماداً بأنّ التقدير لا ينفك عن الإيجاد والإبداع كما أنّ الإيجاد لا ينفك عن التقدير، كما صرح بقوله:( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (٥) .

__________________

(١) آل عمران: ٤٩.

(٢) المقاييس لابن فارس: ٢ / ٢١٤، والقاموس المحيط: مادة خلق.

(٣) الفرقان: ٢.

(٤) غافر: ٦٧.

(٥) الفرقان: ٢.

٣٥١

ثمّ إنّه وقع النزاع في صحة استعمال لفظ الخلق في الأفعال، لغة، وانّه هل يتعلّق الخلق بالأفعال كتعلّقه بالذوات، أو أنّه لا يتعلّق إلّا بالذوات، وأمّا الأفعال والأحداث فيتعلّق بها الإيجاد، والإنسان موجد لفعله لا خالق له، فيقال: أوجد فعله ولا يقال: خلقه.

وربما يستدل على صحة تعلّقه بالفعل والعمل بقوله تعالى :

( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ *فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزفُّونَ *قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ *واللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (١) .

والشاهد هو قوله:( خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) غير انّه يمكن أن يقال: انّ المراد من الموصول في قوله:( وَمَا تَعْمَلُونَ ) هو الأصنام التي كانوا يعملونها وينحتونها بقرينة ما سبقها من الآيات، أعني قوله:( فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ ) والمقصود انّ الله خلقكم وخلق الأصنام التي تصنعونها، ويكون وزان الآية وزان قوله سبحانه:( يَعمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَان كَالْجَوَابِ ) (٢) .

وبذلك يسقط الاستدلال بالآية.

وربما يستدل على نفي صحة اسناد الخلق إلى غيره سبحانه بقوله تعالى :

( أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) (٣) .(٤)

فإنّ الظاهر من قوله( لا يَخْلُقُ شَيْئاً ) انّ كل معبود سواه لا يخلق شيئاً ولا

__________________

(١) الصافات: ٩٣ ـ ٩٦.

(٢) سبأ: ١٣.

(٣) الأعراف: ١٩١.

(٤) ومثله الآية ٢٠ من سورة النحل والآية ٣ من سورة الفرقان.

٣٥٢

يقال لفعله انّه مخلوق ولا لنفسه انّه خالق.

غير أنّ الإجابة عن هذا الاستدلال أيضاً واضحة، فإنّ المراد بعد الغض عن احتمال كون المراد الأصنام المنحوتة لا كل موجود سواه، نفي الخالقية اللائقة لساحته سبحانه، وهي الخالقية المستقلة غير المعتمدة على شيء ومن المعلوم أنّ الخالقية بهذا المعنى لا يقدر عليها أحد.

إذا وقفت على استدلال الطرفين من حيث صدق الخلق على الفعل وعدم صدقه، فهلمّ معنا نوقفك على الحقيقة وانّه هل يجوز استعمال لفظ الخلق في مورد الأعمال وعدمه ؟

فنقول: أمّا أوّلاً: لا شك أنّ الخلق يتعلّق بالفعل كما يتعلّق بالذات، كما في قوله سبحانه :

( إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ) (١) .

فإنّ قوله سبحانه:( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) بمعنى تقولون: كذباً، فليس الكذب والصدق إلّا من أفعال البشر.

وفي الحديث :

« خلقت الخير وأجريته على يدي من أحب وخلقت الشر وأجريته على يدي من أُريد ».

قال الطريحي في تفسير الحديث: المراد بخلق الخير والشر خلق تقدير لا خلق تكوين، ومعنى التقدير نقوش في اللوح المحفوظ، ومعنى خلق التكوين

__________________

(١) العنكبوت: ١٧.

٣٥٣

وجود الخير والشر في الخارج، وهو من أفعالنا وقد ورد في الحديث يا خالق الخير والشر(١) .

وثانياً: سلمنا أنّ الخلق لا يتعلّق بالفعل غير أنّ عمومية المتعلّق في الآيات الواردة في هذا الفصل التي تخص الخالقية بالله سبحانه كقوله:( خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) وقوله:( قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ ) أو قوله:( هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرِ الله ) تكون قرينة على أنّ المراد من الخلق في الآيات هو مطلق الإيجاد والإبداع، سواء تعلّق بالذات أو بالفعل، فيستدل بعموم المتعلّق ( كل شيء ) مثلاً على إلغاء الخصوصية المتوهمة في لفظ الخلق من أنّه لا يتعلّق إلّا بالذوات دون الأفعال.

إنّ عناية القرآن بطرح متعلّق الخلق بشكل عام عناية لا يرى مثلها في غيره تكون قرينة على أنّ المراد هو نفي وجود أي مؤثر أو موجود مستقل في صفحة الوجود دون الله، وقد ذكر علماء المعاني، انّ خصوصية الفعل ربّما يسري إلى المتعلّق فيخرجه عن السعة، فإذا قال القائل: لا تضرب أحداً، ينصرف لفظ الأحد بقرينة « لا تضرب » إلى الحي وإن كانت تلك اللفظة عامة تشمل الحي الميت.

وقد يعكس فتكون سعة المتعلّق قرينة على شمول الفعل وعموميته، كما لا يخفى مثلاً أنّ قوله سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ) (٢) وإن كان خاصاً من جهة الموصول والصلة بالعاقل فلا يشمل إلّا دعوة العقلاء، إلّا أنّ قوله من دون الله قرينة على أنّ الممنوع هو دعوة مطلق غير الله عاقلاً كان أو غيره ،

__________________

(١) مجمع البحرين مادة خلق، ولا يخفى أنّه كما تكون ذوات الأشياء خيراً وشراً كذلك تكون الأفعال خيراً وشراً، بل نسبة الخير والشر إلى الذوات كصحة البدن والمال إنّما هي باعتبار كونها مبدأ للخير والشر.

(٢) الحج: ٧٣.

٣٥٤

وبذلك يظهر أنّ للعموم الحاكم على المتعلّق في الآيات، أعني قوله تعالى:( كُلَّ شَيْءٍ ) ، وإضرابه دليلاً على أنّ المقصود حصر مطلق الخلق المتعلّق بالذوات والأفعال بالله سبحانه.

ثالثاً: انّ المقصود من التوحيد في الخالقية هو التوحيد في التأثير والإيجاد سواء أصح إطلاق الخلق عليه أم لا.(١) والمراد أنّ كل موجود ممكن غير مستقل في ذاته غير مستقل في فعله وتأثيره أيضاً، لأنّ غير المستقل في الذات والقوى والطاقات غير مستقل في أعمال هذه القوى والاستفادة من هذه الطاقات، إلّا أنّ كون الفاعل غير مستقل ليس بمعنى كونه مجبوراً ومضطراً في أعمال هذه القوى والطاقات، بل هو مخير في أعمالها على أي نحو شاء.

وتظهر حقيقة هذا المعنى بالتدبّر في الآيات التي تصف الله تبارك وتعالى بالقيومية كما في قوله سبحانه:( اللهُ لاَ إِله إلّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ) (٢) .(٣)

فإنّ معنى القيومية ليس إلّا قيام ما سواه ـ من ذات وفعل ومؤثر وأثر ـ به سبحانه ومعه كيف يمكن أن نصف الموجودات الإمكانية بالاستقلال في الفاعلية والتأثير.

سؤال في المقام

إذا كان المشركون لا يشكّون في موضوع « التوحيد في الخالقية »، فلماذا نجد

__________________

(١) نعم عند ذاك لا تصلح الآيات الحاصرة للخلق بالله سبحانه للاستدلال في المقام إلّا بضرب من التأويل، ولابد من الاستدلال بالآيات التي تحصر القيومية بالله سبحانه وغيرها من الآيات.

(٢) البقرة: ٢٥٥، وآل عمران: ٢.

(٣) وقوله سبحانه:( وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ ) ( طه: ١١١ ).

٣٥٥

القرآن ينهض لذم المشركين، ويذكرهم بأنّ معبوداتهم لم تخلق شيئاً ؟ كقوله :

( هٰذَاخَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين ) (١) .

( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لإنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً ) (٢) .

( أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (٣) .

( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ ) (٤) .

( اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٥) .

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الأرضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمٰوَاتِ ) (٦) .

الجواب: انّ الهدف من التذكير بخالقية الله وحده وسلب الخالقية من غيره ليس لأنّ المشركين كانوا يعتبرون الأوثان خالقة، إنّما الهدف من طرح « حصر الخالقية بالله ونفيها من الأصنام » هو في الحقيقة « ردع » المشركين من عبادة غير الله

__________________

(١) لقمان: ١١.

(٢) الفرقان: ٣.

(٣) الرعد: ١٦.

(٤) الحج: ٧٣.

(٥) الروم: ٤٠.

(٦) فاطر: ٤٠.

٣٥٦

تعالى، ذلك لأنّ العبادة إنّما يستحقها من يكون متصفاً بالكمال ومنزّهاً عن أية نقيصة أو عائبة، وأي كمال أعلى من الاتصاف بالخالقية التي أسبغ صاحبها لباس الوجود على كل شيء مما سواه ؟

وبعبارة أُخرى فإنّ العبادة من مقتضيات المالكية والمملوكية، الناشئتين من الخالقية والمخلوقية، وإذ يعترف المشركون بأنّ الله هو الخالق دون سواه، فلماذا يعبدون غيره ؟ ولماذا لا يجتنبون عن عبادة من سواه ؟

وعلى هذا الأساس فإنّ إصرار القرآن الكريم ليس لأنّ المشركين كانوا يشكون في « التوحيد الخالقي » وغافلين عن هذه الحقيقة الساطعة الثابتة، بل لأنّهم كانوا غافلين عن لوازم التوحيد الخالقي، وهو: التوحيد في العبادة، فأراد الله بالتذكير بهذه الحقيقة أنّ يلفت نظرهم إلى لازمه وهو « التوحيد في العبادة ».

هذا وقد نقلنا لك فيما مضى بعض هذه الآيات(١) .

وقد ذكرت هذه الحقيقة ( أي حصر الخالقية في الله تعالى ) في آيات أُخرى بعبارة( الخَلاَّقُ العَلِيمُ ) ، مثل قوله :

( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ ) (٢) .

( أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمٰوَاتِ والأرضِ بِقَادِر عَلَىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَىٰ وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ ) (٣) .

__________________

(١) راجع الآيات التالية: الأنعام: ١٠٢، فاطر: ٣، الزمر: ٦٢، غافر: ٦٢، الحشر: ٢٤ وغيرها.

(٢) الحجر: ٨٦.

(٣) يس: ٨١.

٣٥٧

وصفوة القول: إنّ السبب وراء طرح « حصر الخالقية في الله » ونفيها عمّا سواه، وكذا التنديد بالأوثان والأصنام بأنّها لا تقدر على خلق ذبابة،(١) وغير ذلك هو تنبيه الضمائر الغافلة عن عبادة الله وحده، لأنّه مع اعتراف المشركين بانحصار الخالقية في الله ونفيها عن المعبودات الأُخرى ( المصطنعة ) ينبغي أن يعبدوا الله وحده، الذي خلق كل شيء وأخرج جميع الموجودات من العدم إلى حيز الوجود والتحقّق لا أن يعبدوا ما سواه، من الأوثان والأصنام العاجزة عن فعل أو خلق شيء حتى ذبابة أو دفعها عن نفسها، وهذا هو ما تريد هذه الآيات التنبيه إليه.

سؤال

إذا لم يكن في الوجود من خالق غير الله، فكيف يصف القرآن عيسى المسيحعليه‌السلام بأنّه يخلق أيضاً حيث يقول حاكياً عنه :

( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (٢) ؟

ثم كيف يصف الله نفسه ـ بعد أن يذكر مراحل خلقه للإنسان ـ بأنّه( أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) ، وفي ذلك اعتراف ضمني بوجود « خالقين » آخرين إلى جانب الله، إذ يقول :

( فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ ) (٣) ؟

__________________

(١) الحج: ٧٣( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً ) .

(٢) آل عمران: ٤٩.

(٣) المؤمنون: ١٤.

٣٥٨

إنّ الجواب: يتضح من التوجه إلى « استقلال » الله في التأثير والفعل، و « عدم استقلال » غيره في مقام الذات والفعل.

فالخالقية المنحصرة في الله غير قابلة لاتصاف الغير بها، ولا قابلة لإثباتها للغير، إذ هو مستقل أصيل في خلقه بمعنى أنّه لا يعتمد على شيء ولا يستعين بأحد ولا يحتاج لأذن آذن، ومن المعلوم أنّ القرآن الكريم لم يصف أحداً بمثل هذه الخالقية دون الله تعالى.

أمّا الخلق والخالقية التي يكون المتصف بها معتمداً على الله، ومحتاجاً إلى قدرته وإرادته وعونه، فهي يمكن أن تثبت للمخلوقين، إذ لا مشاركة حينئذ مع الله في الصفة الثابتة له المذكورة سابقاً.

فكل شيء من أشياء هذا الوجود يكون خالقاً في حد نفسه عندما يكون مؤثراً لأثر وسبباً لمسبب، ولا ريب أنّ إثبات هذا النوع من الخالقية لغير الله لا ينافي « التوحيد الخالقي » على النحو الذي مر تفسيره وبيانه.

وربما يجاب عن هذا السؤال بأنّ لفظة « الخلق » تطلق ويراد منها الإيجاد من العدم تارة وأُخرى التقدير، والمراد من قوله سبحانه:( أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) هو المعنى الثاني، أي أقدر لكم من الطين كهيئة الطير.

غير انّ هذا الجواب لا يخالف مع ما اخترناه في هذا الفصل، فانّ التقدير وإن كان فعلاً للمسيح، إلّا أنّه بما هو ظاهرة كونية يحتاج إلى فاعل، وليس الفاعل القريب إلّا المسيحعليه‌السلام ، ولكنه ليس مستقلاً في فعله هذا، كما هو ليس مستقلاً في ذاته وإلاّ تلزم الثنوية في الفاعلية المستقلة، على ما أوضحنا برهانه فالتقدير مع كونه فعلاً له، فعل لله سبحانه، ونعم ما قاله الحكيم السبزواري في منظومته

٣٥٩

الفلسفية :

وكيف فعلنا إلينا فوضا

وإنّ ذا تفويض ذاتنا اقتضى

لكن كما الوجود منسوب لنا

فالفعل فعل الله وهو فعلنا(١)

سؤال آخر

إنّ حصر الخالقية في الله سبحانه ربما يستشم منه القول بالجبر ويكون المسؤول عن فعل العبد هو خالق الفعل والمفروض إنّه لا خالق سوى الله ؟

الجواب

إنّ هذا الإشكال ـ في الحقيقة ـ إنّما يتجه ويصح إذا قلنا بأحد الأصلين التاليين، وهما :

١. إنكار علّية أية ظاهرة من الظواهر الطبيعية، وإحلال خالقيته سبحانه مكان العلل الطبيعية، كما هو الظاهر من كل من أنكر قانون العلية في الأشياء وأراح نفسه بعادة الله.

٢. أن نعترف بعلية الموجودات الأُخرى ومشاركتها المباشرة في الآثار والأفعال، ولكن نعتقد بوجود نوع واحد من العلة في العالم فقط وهو العلة المضطرة المسيرة، لا أكثر.

فمع قبول أحد هذين الأصلين يتوجه الإشكال المذكور على ما قلناه ويتجه ولكن إذا أنكرنا كلا الأصلين المذكورين اتضح جواب الإشكال.

فبالنسبة للأصل الأوّل بحثنا فيما سبق وأوضحنا كيف أنّ البراهين الفلسفية

__________________

(١) شرح المنظومة: ١٧٥.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568