فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد10%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 248122 / تحميل: 11096
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وكنتم على شفا حفرة من النار (١) .

مذقة الشارب (٢) ، ونهزة الطامع(٣) .

وقبسة العجلان (٤) .

وموطئ الأقدام.

تشربون الطرق (٥) ، وتقتاتون القِدَّ والورق(٦) .

أذلّةً خاسئين.

تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم.

فأنقذكم الله تعالى بمحمّدٍصلى‌الله‌عليه‌وآله .

بعد اللتيّا والتي.

بعد أن مُني بِبُهم الرجال (٧) .

وذُؤبان العرب

ومَرَدَة أهل الكتاب (٨) .

____________________

(١) شفا حفرة: جانبها المشرف عليها.

(٢) المـُذقة - بضم الميم - شربة من اللبن الممزوج بالماء.

(٣) النُهزة - بضم النون -: الفرصة.

(٤) قبسة العجلان: الشعلة من النار التي يأخذها الرجل العاجل.

(٥) الطرق - بفتح الطاء وسكون الراء -: الماء الذي خوضته الإبل، وبوّلت فيه.

(٦) تقتاتون: تجعلون قوتكم. القد - بكسر القاف -: قطعة جلد غير مدبوغ، ويحتمل أن يكون بمعنى القديد وهو اللحم المجفّف في الشمس.

(٧) مني - فعل ماضي مجهول -: ابتلي. والبهم - على وزن الغرف - جمع بهمة، وهو الشجاع الذي لا يُهتدى من أين يؤتى.

(٨) مردة - بفتح الميم والراء والدال -: جمع مارد وهو العاتي.

٣٤١

كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله.

أو نَجَم (١) قرن للشيطان.

أو فَغرتْ (٢) فاغرة من المشركين.

قَذف أخاه في لهواتها (٣) .

فلا ينكفئ حتى يطأ صِماخها بأخمصه (٤) .

ويخمد لهبها بسيفه (٥) .

مكدوداً في ذات الله (٦) .

مجتهداً في أمر الله.

قريباً من رسول الله.

سيّداً في أولياء الله.

مُشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً (٧) .

وأنتم في رفاهية من العيش (٨) .

وادعون فاكهون آمنون (٩) .

__________

(١) نجم - فعل ماضي -: طلع. وقرن الشيطان: أتباعه.

(٢) فغر: فتح. فاغرة فاها: أي فاتحة فمها.

(٣) اللهوات - جمع لهاة -: لحمة مشرفة على الحلق في أقصى الفم.

(٤) ينكفئ: يرجع. يطأ: يدوس. ضماخها: أذنها. بأخمصه: بباطن قدمه.

(٥) يخمد: يطفئ. لهبها: اشتعالها.

(٦) المكدود: المتعب.

(٧) شمّر ثوبه: رفعه. مجد - بضم الميم وكسر الجيم -: مجتهد. والكادح: الساعي.

(٨) رفاهية: سعة.

(٩) وادعون: مرتاحون. فاكهون: ناعمون.

٣٤٢

تتربصون بنا الدوائر (١) .

وتتوكّفون الأخبار (٢) .

وتنكصون عند النزال (٣) .

وتفرّون من القتال.

__________

(١) الدوائر: العواقب المذمومة وحوادث الأيام.

(٢) تتوكّفون: تتوقعون بلوغ الأخبار.

(٣) تنكصون: ترجعون وتتأخّرون. والنزال: القتال.

٣٤٣

فاطمة الزهراء تطالب حقّها المغصوب

إلى هنا أنهت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام حديثها عن فلسفة الإسلام، وعن علل الشريعة الإسلامية، ثم عرَّجت على كلامها المقصود وهدفها المنشود، وهو المطالبة بحقّها والتظلّم من السلطة الحاكمة.

وقبل كل شيء وجّهت الخطاب إلى الشعب الحاضر في المسجد، في المؤتمر الإسلامي لأنّهم بايعوا رئيس الدولة، ولم توجّه الخطاب إلى رئيس الدولة لأنّه هو أحد طرفي المحاكمة، وهو المقصود بالمخاصمة والإدانة؛ ولهذا عرّفت نفسها للحاضرين كما هي الأصول المتّبعة في المحاكمات، ولأنّها الطرف الآخر للمحاكمة، ولأنّها تمثّل آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته الطيّبين بل هي ملكة الإسلام، والمحاكمة وقعت بمحضر من المهاجرين والأنصار وغيرهم، وهم يومذاك من الشخصيات الإسلامية البارزة المرموقة ومن الوزن الثقيل.

وموضوع المحاكمة هي الأراضي والمقاطعات التي كانت تحت تصرّف السيدة فاطمة الزهراء منذ سنوات، ثم استولى عليها أبو بكر وصادرها بدون مبرّر شرعي، ولهذا وجّهت السيدة فاطمة الزهراء كلامها إلى الحاضرين في ذلك المؤتمر، فقالت: (أيّها الناس اعلموا أنّي فاطمة) ذكرت اسمها للمستمعين، ذلك الاسم الذي لا يجهله أحد، ذلك الاسم الذي سمعه الناس مراراً وتكراراً من فم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مشفوعاً بالعواطف النبويّة،

٣٤٤

مقروناً بكل تجليل وتعظيم وتقدير.

(وأبي محمّد صلّى الله عليه وآله) وهذا النسب الشريف الأرفع، النسب الذي ليس فوقه نسب، النسب الذي هو مفخرة الكون، ودرّة تاج الوجود، وأشهر من الشمس.

نعم، إنّ فاطمة هي بنت محمّد، سيّد الأنبياء، أشرف الخلائق، أطهر الكائنات، أفضل المخلوقين.

نعم، بنت هذا العظيم تتكلّم وتخطب، وتحتجّ وتتظلّم.

لقد عرّفت نفسها لئلاّ يقول قائل: ما عرفناها، ولماذا ما صرّحت باسمها؟ ولماذا لم تعرّف شخصها؟ ولماذا لم تذكر نسبها؟

وبهذا أتمّت الحجّة، ولم تُبق لذي مقالٍ مقالاً، ذكرت اسمها الصريح ونسبها الواضح تعريضاً وتوبيخاً لهم.

نعم، إنّ فاطمة بنت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله جاءت تطالب بحقوقها وأموالها التي صُودرت وغُصبت منها.

(أقول عوداً وبدءاً) أي أتكلّم آخراً وأوّلاً، وأولاً وآخراً، وأنا على يقين بما أقول وفي نسخة: (عَوداً على بدء) والمعنى واحد.

(ولا أقول ما أقول غلطاً) وهو الخطأ في الكلام من كذب وخديعة ومغالطة.

(ولا أفعل ما أفعل شططاً) لا أتكلم جوراً وظلماً وتجاوزاً عن الحد.

( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم

٣٤٥

بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) افتتحت هذا البحث بذكر أبيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأدمجت كلامها بكلام الله تعالى، حيث يقول: إنّ الرسول من العرب، يشق ويعزّ عليه وقوعكم في الشدّة لأجله، حريص على توفير وسائل السعادة لكم، بالمؤمنين من هذه الأمّة رؤوف رحيم، كلمتان مترادفتان، معناهما العطف واللطف والحنان.

(فإن تعزوه وتعرفوه) أي تنسبوه، وتقولوا فيه إنّه أبو مَن؟ وأخو مَن؟ وفي نسخة: (فإن تعزروه وتوقّروه) أي تعظّموه.

(تجدوه أبي دون نسائكم) نعم، أنا ابنته الوحيدة، وهو أبي، ولا تشاركني نساؤكم في هذا النسب الطاهر الأعلى.

(وأخا ابن عمّي دون رجالكم) نعم، إنّه أخو زوجي، ولم يشارك أحد من رجالكم أبي في الأخوّة، وليس المقصود - هنا - أخوّة النسب، بل الأخوّة التي حصلت يوم المؤاخاة حينما آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين أصحابه، آخى بينه وبين عليّ وكان الرسول ينوّه بهذه الأخوّة في شتّى المناسبات ومختلف المجالات، ويركّز على كلمة: (أخي) كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ادعوا لي أخي. وأين أخي؟ وأنت أخي. وإنّه أخي في الدنيا والآخرة.

وكان عليّعليه‌السلام يعتزّ بهذه الأخوّة والمؤاخاة، ويذكرها نظماً ونثراً، ومنه قولهعليه‌السلام :

أنا أخو المصطفى لا شكّ في نسبي

معه ربيت، وسبطاه هما ولدي

وقوله:

محمّد النبي أخي وصنوي

وحمزة سيّد الشهداء عمّي

وقوله:

ومن حين آخى بين من كان

حاضراً دعاني وآخاني وبيّن من فضلي

٣٤٦

وقوله: أنا عبد الله وأخو رسول الله، وأنا الصدّيق الأكبر والفاروق الأعظم لا يقوله غيري إلاّ كذّاب(١) .

(ولنعم المعزيّ إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم) نِعم المنسوب إليه والمنتمي إليه، أنّه أشرف مَن ينتسب إليه، وأطهر مَن ينتمي إليه؛ لأنّه علة الإيجاد، وبيُمنه رُزق الورى.

(فبلّغ الرسالة صادعاً بالنذارة) بلّغ الرسول كل ما أُمر بتبليغه مظهراً بالإنذار والتخويف بعذاب الآخرة.

(مائلاً عن مدرجة المشركين) وفي نسخة: (ناكباً عن سنن مدرجة المشركين) أي عدل عن طريقة المشركين ومسلكهم.

(ضارباً ثبجهم) أي كان الرسول ضارباً كواهل المشركين وظهورهم، والمقصود جهاد الكفّار والمشركين.

(آخذاً بأكظامهم) أي ممسكاً على أفواههم، أو مخارج أنفاسهم، وهي كناية عن إيقافهم عند حدّهم، وإحباط مؤامراتهم، وتفنيد أباطيلهم.

(داعياً إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة) .

كان يدعو إلى الله، لا إلى الدنيا، إلى سبيل ربّه، لا سبيل غيره، ويراعي في دعوته مستويات الناس، فيدعو بالحكمة وهي المقالة الموضّحة للحق والمزيحة للشبهة، هذا بالنسبة للطبقة الواعية المثقّفة، ويدعو بالموعظة الحسنة وهي الخطابات المقنعة للنفوس، والعبر النافعة للحياة، وهذا بالنسبة للطبقة العامة.

ويجادلهم بالتي هي أحسن، وهي أحسن طرق المجادلة والتفاهم، وإقامة الأدلّة والبراهين بالنسبة للمعاندين.

(يكسر الأصنام) التي كان المشركون يعبدونها ويعتبرونها آلهة من دون الله.

__________

(١) راجع كتابنا (علي من المهد إلى اللحد) للمزيد من المعلومات حول البحث.

٣٤٧

(وينكت الهام) وفي نسخة: (ينكس الهام) إشارة إلى قتال رؤساء الكفر وأقطاب الشرك وقمعهم وإذلالهم، وهم الذين كانوا يؤجّجون نيران الحروب، ويثيرون الفتن أمثال: شيبة وعتبة وأبي جهل ونظرائهم، أو إذلال المفسدين والمشاغبين، وفي نسخة: (ينكث الهام) أي يلقي الرجل على رأسه.

(حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر) أي استمرّ الكفاح والجهاد سنوات عديدة، تتكوّن خلالها الحروب والغزوات والاضطرابات حتى قضى الرسول على أصول الفتن وجراثيم الفساد فانكسرت شوكة الكفّار، وضعفت معنوياتهم، وأخيراً حتى انهزم الجمع، أي جماعة الكفّار وأدبروا فارّين.

(حتى تفرّى الليل عن صبحه) حتى انجلت ظلمات الكفر السوداء، وتجلّى صبح الإسلام الأبيض الناصع.

(وأسفر الحق عن محضه) أي ارتفعت الحواجز الباطلة التي حجبت الحق عن الظهور فأضاء الحق الخالص، الذي لا يشوبه شيء من الباطل، وكلّها كنايات عن تجمّع القوى الدينية.

(ونطق زعيم الدين) تكلّم رئيس الدين فيما يتعلّق بأُمور الدين وأُمور المسلمين بكل حريّة وصراحة.

(وخرست شقاشق الشياطين) قد ذكرنا في شرح ألفاظ الخطبة أنّ الشقاشق - جمع شقشقة - شيء يشبه الرئة يخرج من فم البعير عند هيجانه، والمقصود من (خرست شقاشق الشياطين) هو تبخّر نشاطات المفسدين، واختناق أصواتهم.

(وطاح وشيظ النفاق) المقصود سقوط المنافقين عن الاعتبار، وفشل مساعيهم.

٣٤٨

(وانحلّت عُقَد الكفر والشقاق) أي فشلت المحاولات والمحالفات والاتفاقيات التي قام بها الكفّار والمخالفون ضد الإسلام والمسلمين كما في غزوة الأحزاب.

(وفُهتم بكلمة الإخلاص) وتلفّظتم بكلمة: (لا إله إلاّ الله ) بألسنتكم.

(في نفرٍ من البيض الخماص) أي بيض الوجوه من النور، الضامري البطون من التجوّع بسبب الصوم. أو الزهد.

ويمكن أن يكون المقصود من هذين الوصفين أُناساً معيّنين، وهم الصفوة من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أهل البيتعليهم‌السلام .

(وكنتم على شفا حفرة من النار) بسبب الكفر والشرك بالله العظيم.

ثم أشارتعليها‌السلام إلى الحياة الاجتماعية التي كان الناس يعيشونها في ذلك الوقت وهي الفوضوية واختلال النظام، والهرج الذي كان مستولياً على كافّة جوانب الحياة، فقالت: (مذقة الشارب) إذا مرّ الإنسان الظمآن من مكان، ووجد ماءً ليس له مالك، أو له مالك ولكنّه لا يستطيع الدفاع والمقاومة فيطمع ذلك الإنسان أن يشرب من ذلك الماء ويبرّد غليله.

(ونهزة الطامع) وهكذا إذا مر الإنسان من مكان ووجد هناك طعاماً لا مالك له، أو مالكه ضعيف فترى الجائع يطمع في ذلك الطعام، فينتهز الفرصة ويستوفي نصيبه من ذلك الطعام.

(وقبسة العجلان) هي الشعلة أو الجذوة من النار يأخذها الرجل المسرع إذا احتاج إليها.

(وموطئ الأقدام) وكنتم أذلاّء، مستضعفين تدوسكم الأقوياء بأقدامها.

(تشربون الطرق) الماء الذي كنتم تشربونه هو الماء المتجمّع في

٣٤٩

المستنقعات والحفائر تدخلها الحيوانات، وتبول فيها الإبل، مع العلم أنّ النفوس الشريفة تستقذر هذا الماء وتمجّه، ولا ترضى به، ولكنّه الجهل، ولكنّه الإحساس بالنقص، والخضوع للمذلّة والهوان، كأنّهم لم يعرفوا حفر الآبار، أو تفجير العيون، أو إيجاد القنوات تحت الأرض ولا تسأل عن مضاعفات هذه المياه وتلوّثها بأنواع الجراثيم والميكروبات.

هذا ولا تزال الحياة بهذه الصفة موجودة في بعض البلاد الإسلامية المتأخّرة عن ركب الحضارة، كما نقرأ ذلك في بعض الصحف والمجلاّت.

(وتقتاتون القدّ والورق) أي كان قوتكم وطعامكم من القد وهو اللحم أو الجلد اليابس وأوراق الأشجار، فالأراضي الواسعة الشاسعة قاحلة جرداء، لا ضرع فيها ولا زرع ومفهوم الزراعة غير موجود عندكم.

(أذّلة خاسئين) الخاسئ هو المنبوذ المطرود الذي لا يُترك أن يدنو من الناس لحقارته.

(تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم) إنّ التفسّخ والانحلال يؤدّي إلى اختلال الحياة الاجتماعية وإلى الفوضوية وفقدان الأمن والأمان، وسلب القرار والاستقرار والطمأنينة في النفوس، فالقوي يطمع في الضعيف، والكثير يأكل القليل، والغني يستعبد الفقير، فلا يخاف أحد من القانون، ولا يهاب العقاب، ولا يخشى السلطة.

ونحن نرى أنّ حوادث الاختطاف والاغتصاب والاعتداء إنّما تكثر في البلاد التي لا يطبّق فيها القانون على الجميع. ولا ينفذ إلاّ في حق الفقير الضعيف فالدماء تراق والأعراض تُهتك، والأموال تسلب، والكرامات تُهدر، وهكذا وهلمّ جرّاً.

وقد اقتبست السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام هذه الآية من

٣٥٠

القرآن(١) وأدمجتها في حديثها عن العهد الجاهلي.

(فأنقذكم الله بأبي محمّد صلّى الله عليه وآله) إنّه المنقذ الأعظم والمصلح الأكبر الذي أنقذ العباد من تلك الحياة التي كانت تشبه الجحيم، وأصلح البلاد من تلك المفاسد والويلات والمصائب وأحدث انقلاباً في العقائد والنفوس والأخلاق والعادات.

ولم تتحقق أهدافه إلاّ:

(بعد اللتيّا والتي) هذه الكلمة صارت مثلاً في هذه المناسبة، أي استطاع الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يطهّر المجتمع، وينقذ الناس من مصائب الجاهلية بعد شقّ الأنفس، بعد أن تحمّل المشاكل وأنواع الأذى، بعد الضغط والكبت والاضطهاد.

(وبعد أن مُني بِبُهم الرجال) استطاع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إنقاذ الناس بعد أن ابتُلي بالرجال الأقوياء، والأبطال الشجعان الذين أجّجوا نيران الحروب، وحاربوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بكل ما يملكون من حول وقوّة وهم أكثر عدداً من المسلمين، وأكثر عدّة وعتاداً.

(وذُؤبان العرب) إنّ الإنسان إذا تجرّد عن الإنسانية والأخلاق والفضيلة ينزل إلى مرتبة الحيوانات، فإذا فقد الفهم والعلم فإنّه يُشبَّه بالحمار، وإذا فقد العاطفة والرأفة فإنّه يُشبَّه بالسباع والحيوانات المفترسة، فيصح أن يقال في حقّه: إنّه ذئب.

وهكذا أُولئك السفّاكون الذين كانوا يستأنسون بالمذابح والمجازر التي كانوا هم السبب في تكوينها، أُولئك الذين كانت هواياتهم إثارة الفتن

____________________

(١) وهي قوله تعالى: ( وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ ) .

٣٥١

وإيجاد الاضطرابات، أمثال أبي جهل وأبي سفيان ومن يدور في فلكهما.

وقيل: المقصود من الذؤبان - هنا - اللصوص والصعاليك، أي السفلة من الناس الساقطين.

ابتُلي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بهؤلاء المفسدين، بدءاً من غزوة بدر إلى غزوة أُحد إلى الخندق إلى حنين وغيرها، تجد هؤلاء المفسدين كانوا في طليعة أسباب الفتنة والاضطرابات والمشاغبات، وحتى الحروب التي خاضها المسلمون مع اليهود كان هؤلاء هم السبب في إثارتها.

(ومردة أهل الكتاب) إشارة إلى الحروب التي شبّ اليهود والنصارى نيرانها، أمثال: بني النضير، وبني قريظة وبني قينقاع، وبني الأصفر في مؤتة.

إنّ أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى لو كانوا يتّبعون الكتاب السماوي الذي أنزل عليهم لما حاربوا الرسول؛ بل كانوا يسلمون على يديه في المرحلة الأُولى؛ لأنّ أوصاف الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مذكورة في كتبهم، وكان من السهل عليهم المقارنة بين تلك الصفات والعلائم وبين الرسول، وعند ذلك كانوا يجدون تلك الصفات تنطبق على الرسول مائة بالمائة، ولكن مردة أهل الكتاب وهم العتاة المتجبّرون الذين منعهم الكبرياء من الخضوع للحق استمرّوا على عتّوهم وعنادهم وجحودهم.

(كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله) كانوا يحيكون المؤامرات ضد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ويجمعون الجيوش والعساكر ويحضّون القبائل والعشائر على محاربة الرسول، فكانت المساعي فاشلة، وكان الانتصار والغلبة والظفر حليفاً للرسول.

ولو استعرضنا تاريخ حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله منذ

٣٥٢

البعثة حتى الوفاة؛ لظهر لنا جانب كبير من إحباط المؤامرات والفشل الذريع الذي أحاط بأعداء الرسول.

(أو نَجَم قرن للشيطان) لو انكسر قرن الحيوان نبت له قرن آخر، وتقول السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام : إذا نهض أحد المفسدين للقيام بالأعمال الشيطانية، وهي المعاكسات والمقاومات التي كانت المشركون يقومون بها ضدّ رسول الله.

وهذه الجملة عطف على جملة: (كلّما أوقدوا) أي كلّما نجم قرن للشيطان أو (فغرت فاغرة) أو فتحت حيّة الكفر فمها لتلسع وتلدغ المجتمع الإسلامي.

(قذف أخاه في لهواتها) أي كان الرسول يقضي على تلك النشاطات الجهنّمية، والنعرات الشيطانية يقضي عليها بأخيه عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

كان الرسول يأمر عليّاً أن يردّ عنه كتائب المشركين وعصابات المنافقين فكان عليّعليه‌السلام يخاطر بحياته، ويغامر بنفسه، ويستقبل أولئك الذئاب المفترسة، كان يقاتلهم وحده، ويخوض غمار الحرب، فيصح التعبير بقولها: (قذف أخاه في لهواتها) في فم الموت بين أنياب السباع تحت سيوف الأعداء، والرماح الشارعة والسهام الجارحة.

(فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه) لا يرجع عليّعليه‌السلام من جبهة القتال حتى يسحق رؤوس الأعداء، ويدوس هامات الرؤساء بباطن قدمه، كالمصارع الذي ينزل إلى ساحة المصارعة فإذا تغلّب على خصمه وصرعه فلا بدّ من أن يلصق المصارع ظهر خصمه أو رأسه على الأرض ليثبت أنّه أنهى المصارعة بأوفى صورة.

كذلك عليّعليه‌السلام كان يهرول نحو الأعداء لا يعرف معنى

٣٥٣

الخوف، وكأنّه مستميت، وكأنّ غريزة الحياة قد سُلبت عنه، وبيده صحيفة يقطر منها الموت، تراها راكعة ساجدة، على الرؤوس، والخواصر وكان يقدّ الأبدان نصفين طولاً أو عرضاً، ويفري ويكسر ويهشم في طرفة عين، وقبل أن تنفجر الدماء من العروق كانت العملية قد انتهت.

(ويخمد لهبها بسيفه) كان يقضي على جراثيم الفساد، ويقلع الأشواك عن طريق المجتمع البشري، ويطفئ لهيب الحروب بسيفه السماوي، ويمهّد الطريق لكلمة:(لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله) .

(مكدوداً في ذات الله) قد أخذ التعب والعناء منه كل مأخذ، كل ذلك لله وفي الله ولوجه الله وفي سبيل الله.

(مجتهداً في أمر الله) المجتهد - في اللغة - الذي يجهد نفسه أي يتعبها، كان عليّعليه‌السلام يبذل ما في وسعه وطاقته وجميع إمكانياته لتحقيق أهدافه السامية، وتحصيل أمنياته، وهي إعلاء كلمة الله.

(قريباً من رسول الله) ليس المقصود القرب المكاني، بل القرب المعنوي، من حيث قرابة النسب، وانسجام الروح، واندماج النفس واتحاد الاتجاه، ووحدة النفس، فعليّعليه‌السلام نفس الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بنصّ القرآن الكريم بقوله تعالى: ( وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) وهل هناك قرابة أو نسب أقوى من هذا؟

(سيّداً في أولياء الله) وفي نسخة: (سيّد أولياء الله) فيكون المقصود هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(مشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً) هكذا تصف السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام زوجها العظيم، كأنّه يشمّر عن ثيابه نشاطاً واستعداداً للعمل للإسلام ولصالح الإسلام، في سبيل إسعاد المسلمين. وبذل النصح، وهو حب الخير لهم، كان مجدّاً في العمل، ساعياً فيه، لا يمنعه التعب عن

٣٥٤

استمرار العمل.

نعم، كانت حياة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام كلها جهوداً وجهاداً، ونشاطاً وإنتاجاً وإنجازاً، وخدمة للإسلام والمسلمين، فمواقفه في جبهات القتال مشهورة، وأعماله الفدائية في سبيل الإسلام مذكورة، وتفانيه وتضحياته في سبيل الله معروفة.

(وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون) كان عليّعليه‌السلام يستقبل الأخطار والأهوال في الوقت الذي كان المسلمون بعيدين عن تلك الأخطار، مشغولين بأنفسهم يتمتّعون بالراحة، ويتفكّرون في تحصيل الملذّات، وإشباع الرغبات، لا يعرفون معنى الخوف.

أين كان المسلمون ليلة المبيت؟ تلك الليلة التي طوّق المشركون دار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهم يريدون الهجوم عليه ليقتلوه؟

أما بات عليّعليه‌السلام على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يفديه بنفسه وحياته وشبابه؟

أين كان المسلمون يوم أحد حين انهزموا وتركوا الرسول في جبهة القتال، تحمل عليه عصابات الكفر والمشركين؟ وبقي عليّعليه‌السلام يقاوم الأعداء حتى ضرب الرقم القياسي في المواساة والتضحية، حتى هتف جبرئيل بفُتوّته وبسالته يوم هتف بين الأرض والسماء: لا فتى إلا عليّ ولا سيف إلاّ ذو الفقار.

وهكذا يوم حُنين، وهكذا يوم الخندق، وهكذا يوم خيبر. وهكذا هلمّ جراً.

قال عليّعليه‌السلام : (ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تزل فيها الأقدام، وتنكص فيها الأبطال، نجدة أكرمني الله بها...).

(تتربّصون بنا الدوائر) كان بعض أولئك الأفراد مندسّين في صفوف

٣٥٥

المسلمين يتوقّعون هلاك الرسول، وينتظرون نزول المكاره وحلول الكوارث، برسول الله، والدوائر صروف الزمان، والعواقب السيئة، وتحوّل النعمة وزوالها ونزول البلاء.

(وتتوكّفون الأخبار) تتوقّعون وصول الأخبار الدالة على هلاكنا.

(وتنكصون عند النزال، وتفرّون من القتال) ففي يوم أُحد كانت المأساة من فرار المسلمين، ويوم حُنين كانت الفضيحة، ويوم خيبر كان العار منطبعاً على جبهات المنهزمين، ولا تسأل عن يوم الخندق حين استولى الرعب على القلوب، والفزع على النفوس حينما برز عمرو بن عبد ودّ، فكفى الله المؤمنين القتال بعليعليه‌السلام .

هذا ولو أردنا استعراض الأحداث التاريخية بهذا الشأن لطال بنا الكلام وخرج الكتاب عن أسلوبه.

وخلاصة القول: هذا موقف عليّعليه‌السلام تجاه الإسلام والرسول، وهذه مواقف غيره من أولئك الشخصيات التي ظهرت شجاعتهم بعد وفاة الرسول! وبرزت مواهبهم حين خلا لهم الجو، وساعدتهم الظروف على ما يحبّون!.

٣٥٦

خطبة فاطمة الزهراءعليها‌السلام

فلّما اختار الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله دار أنبيائه.

ومأوى أصفيائه.

ظهر فيكم حسكة النفاق (١).

وسمل جلباب الدين (٢).

ونطق كاظم الغاوين (٣).

ونَبَغَ خامل الأقلِّين (٤).

وهدَرَ فنيق المبطلين (٥).

فخطر في عرصاتكم (٦).

وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه (٧) هاتفاً بكم.

فألفاكم لدعوته مستجيبين.

وللغرّة فيه ملاحظين (٨) .

____________________

(١) الحسكة والحسيكة: الشوكة.

(٢) سمل الثوب: صار خَلِقاً. والجلباب: ثوب واسع.

(٣) كاظم الغاوين: الساكت الضال الجاهل.

(٤) ظهر من خفي صوته واسمه من الأذلاّء.

(٥) هدر البعير: ردّد صوته في حنجرته. والفنيق: الفحل من الإبل.

(٦) خطر: إذا حرّك ذنبه.

(٧) المغرز - بكسر الراء -: ما يختفي فيه.

(٨) الغِرة - بكسر الغين -: الانخداع. وملاحظين: ناظرين ومراعين.

٣٥٧

ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً.

وأحمشكم فألفاكم غضابا (١).

فوسمتم غير إبلكم (٢) .

وأوردتم غير شربكم (٣).

هذا والعهد قريب.

والكلم رحيب (٤).

والجرح لما يندمل (٥) .

والرسول لما يُقبَر (٦) .

ابتداراً زعمتم خوف الفتنة (٧) .

( أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) .

فهيهات منكم!

وكيف بكم؟

وأنَّى تؤفكون (٨) .

وكتاب الله بين أظهركم

أُموره ظاهرة.

____________________

(١) أحمشكم: أغضبكم.

(٢) الوسم: الكي، وسمه: كواه.

(٣) الشرب - بكسر الشين -: النصيب من الماء.

(٤) الكلم: الجرح. ورحيب: واسع.

(٥) اندمل: تراجع إلى البراء.

(٦) يقبر: يدفن.

(٧) ابتداراً: معاجلةً.

(٨) تؤفكون: أي تصرفون.

٣٥٨

وأحكامه زاهرة.

وأعلامه باهرة.

وزواجره لائحة.

وأوامره واضحة.

وقد خلَّفتموه وراء ظهوركم.

أرَغبةً عنه تريدون؟

أم بغيره تحكمون؟

بئس للظالمين بدلاً.

( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)

ثمّ لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها (١).

ويسلس قيادها (٢) .

ثم أخذتم تورون وقدتها، وتُهيّجون جمرتها (٣) .

وتستجيبون لهتاف الشيطان الغويّ.

وإطفاء أنوار الدين الجلي.

وإخماد سنن النبيّ الصفي.

تسرّون حسواً في ارتغاء (٤) .

وتمشون لأهله ووُلده في الخَمَر والضرَّاء (٥) .

__________

(١) ريث: قدر.

(٢) يسلس: يسهل.

(٣) تورون: تخرجون نارها. تهيّجون: تثيرون.

(٤) يأتي المعنى في شرح الخطبة.

(٥) الخمر - بفتح الخاء والميم -: ما يسترك من الشجر وغيره.

٣٥٩

ونصبر منكم على مثل حزّ المدى (١) .

ووخز السنان في الحشى (٢) .

وأنتم - الآن - تزعمون أن لا إرث لنا.

( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) .

أفلا تعلمون؟ بلى تجلّى لكم كالشمس الضاحية أنّي ابنته.

أيّها المسلمون! أأُغلب على إرثيه.

____________________

(١) المدى - بضم الميم -: جمع مدية وهي الشفرة.

(٢) الوخز: الطعن. والسنان: رأس الرمح.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

إنَّ ناساً كهؤلاء لا يُستعان بهم في سبيل الله

كان أبو جعفر (محمد بن القاسم العلوي) مِن أبناء رسول الله، ويصل نسبه مِن جانب أبويه في ثلاثة أظهر إلى الإمام السجاد (عليه السلام).

كان عالماً فقيهاً مؤمناً حُرَّاً شجاعاً، وكان يسكن الكوفة ويواصل نشاطه ضِدَّ حكومة المُعتصم العباسي الظالمة، وعندما عزمت سُلطات الحُكم على القضاء عليه، اضطرَّ إلى ترك الكوفة إلى أرض خراسان الواسعة.

هناك ظلَّ زماناً ينتقل مِن مدينة إلى أُخرى، حتَّى انتهى به الأمر إلى المقام في مدينة (مرو) حيث راح يُحرِّض الناس على حُكم المُعتصم، فتجمَّع حوله الناس المظلومون والمحرومون، وبايعه في فترة قصيرة أربعون ألف شخصٍ.

وفي إحدى الليالي جمع الجُند ليتحدَّث إليهم عن الانتفاضة، وليعدهم لمواجهة جنود المُعتصم، وقبل أنْ يُباشر الكلام ويشرح برنامجه للجند طرق سمعه صوت رجل يبكي، فعجب لذلك وسأل عن الباكي والسبب.

فظهر بعد التحقيق أنَّ أحد الجنود قد انتزع مِن أحدهم بساطه بالقوَّة، فأخذ هذا يبكي بصوت مُرتفع، فاستدعى محمد بن القاسم الجندي، وسأله عمَّا دفعه إلى القيام بذلك الأمر القبيح؟

فقال الجندي: لقد بايعناك لكي نتمكَّن مِن أخذ ما نشاء مِن أموال الناس، وأنْ نفعل ما نُريد!

فأمر محمد بإرجاع البساط إلى صاحبه، وحلَّ الجُند قائلاً: إنَّ ناساً كهؤلاء لا يُمكن أنْ يُستعان بهم في سبيل دين الله (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٨١

صلَّى فأعجبني وصام فرامني

قد يسعى أشخاص خبُثت قلوبهم لنيل السُّمعة الحسنة، مِن أجل الوصول إلى أهدافهم غير المشروعة عن طريق إلقاء شباك الغِشِّ والرياء، ولبس لبوس المُتديِّنين الصادقين، والتظاهر بالتعبُّد الكاذب الخادع؛ ليتمكَّنوا مِن اجتلاب ثقة الناس واطمئنانهم؛ فيكون ذلك وسيلة لهم للاعتداء على أموال الناس وحقوقهم.

يُقال: إنَّ إعرابيَّاً دخل المسجد، فرأى رجلاً يُصلِّي بخشوع وخضوع فأعجبه ذلك فقال له: نِعْمَ ما تُصلِّي!

قال: وأنا صائم، فإنَّ صلاة الصائم بضعف صلاة المُفطر!

فقال له الأعرابي: احفَظ عليَّ ناقتي هذه، فإنَّ لي حاجة حتى أقضيها.

فخرج الأعرابي لحاجته فركب المُصلِّي الناقة وخرج، فلمَّا قضى الأعرابي حاجته رجع فلم يجد الرجل ولا الناقة، وطلبه فلم يقدر عليه فخرج وهو يقول:

صلَّى فأعجبني وصام فرامني * نَحِّ القلوص عن المُصلِّي الصائم (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٨٢

جزاء مَن استودِع ثمَّ جَحد

حُكي أنَّه قَدِم رجل إلى بغداد ومعه عِقد يُساوي ألف دينار فأراد بيعه فلم يتَّفق، فجاء إلى عطَّار موصوف بالخير والديانة فأودع العِقد عنده، وحَجَّ وأتى بهديَّة للعطَّار وسلَّم عليه، فقال العطَّار له: مَن أنت؟ ومَن يعرفك؟

فقال: أنا صاحب العقد!

فلمَّا كلَّمه رفسه وألقاه عن دُكَّانه فاجتمع الناس وقالوا:

ويلك! هذا الرجل صالح، فما وجدت مَن تُكذِّب عليه إلاَّ هذا!

تحيَّر الحاجُّ وتردَّد إليه فما زاده إلاَّ شتماً وضرباً، فقيل له: لو ذهبت إلى عضد الدولة لحصل لك مِن فراسته خير.

فكتب قصَّته وجعلها على قَصبة وعرضها عليه، فقال عضد الدولة له: ما شأنك؟

فقصَّ عليه فقال عضد الدولة: اذهب غداً واجلس في دُكَّان العطَّار ثلاثة أيَّام، حتَّى أمرَّ عليك في اليوم الرابع، فأُسلِّم عليك فلا ترُدَّ عليَّ إلاَّ السلام، فإذا انصرفت أعد عليه ذِكر العِقد، ثمَّ أعلمني بما يقول لك.

ففعل الحاجُّ ذلك، فلمَّا كان في اليوم الرابع جاء عضد الدولة في موكبه العظيم، فلمَّا رأى الحاجُّ وقف وقال: السلام عليكم.

فقال الحاجُّ: وعليكم السلام، ولم يتحرَّك.

فقال: يا أخي، تَقدِم مِن العراق ولا تأتينا ولا تعرض علينا حوائجك؟

فقال له: ما اتَّفق هذا. ولم يزده على ذلك شيئاً.

هذا والعسكر واقف بكماله؛ فانذهل العطَّار وأيقن بالموت، فلمَّا انصرف عضد

٣٨٣

الدولة التفت العطَّار إلى الحاجِّ، وقال له: يا أخي، متى أودعتني هذا العِقد؟ وفي أيِّ شيء هو ملفوف؟ ذكِّرني لعلِّي أتذكَّر؟

فقال: مِن صفته كذا وكذا.

قام العطَّار وفتَّش ثمَّ فتح جُراباً وأخرج منه العِقد وقال:

الله أعلم أنَّني كنت ناسياً، ولو لم تُذكِّرني ما تذكَّرت.

فأخذ الحاجُّ العِقد ومضى إلى عضد الدولة فأعلمه، فعلَّقه في عُنق العطَّار وصلبه على باب دُكَّانه ونودي عليه هذا جزاء مَن استودِع ثمَّ جَحَد.

ثمَّ أخذ الحاجُّ العِقد ومضى إلى بلاده (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٨٤

الله أحقُّ أنْ يُجار عائذه مِن محمَّد

استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل مِن بني فهد، وهو يضرب عبداً له والعبد يقول: أعوذ بالله فلم يُقلِع الرجل عنه، فلمَّا أبصر العبد برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قال: أعوذ بمحمد فأقلع عن ضربه.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

(يتعوَّذ بالله فلا تُعيذه! ويتعوَّذ بمحمَّدٍ فتُعيذه! والله أحقُّ أنْ يُجار عائذه مِن محمد).

فقال الرجل: هو حُرٌّ لوجه الله.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (والذي بعثني بالحقِّ نبيَّاً، لو لم تفعل لواقع وجهك حَرُّ النار).

٣٨٥

يُنقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قصَّ على أصحابه الحكاية التالية:

(كان لمسلم صديق غير مسلم يسكن في جواره، وكان المسلم لا يفتأ يُحدِّثه عن دين الإسلام الإلهي، ويُرغِّبه في اعتناق الإسلام حتَّى استجاب جاره له واعتنق الإسلام، فما كان مِن المسلم في اليوم التالي إلاَّ أنْ نهض عند طلوع الفجر إلى المسجد لأداء صلاة الصبح جماعة.

انتهت الصلاة وتفرَّق الناس تدريجيَّاً، فاقترح المسلم على صاحبه أنْ يَبقيا في المسجد، يذكران الله حتَّى طلوع الشمس.

وطلعت الشمس فاقترح عليه أنْ ينويا الصوم لذلك اليوم، ويبقيا في المسجد حتَّى الظهر ليُعلِّمه القرآن، وحان الظهر فصلَّيا الظهر، ومِن ثمَّ صلَّيا العصر جماعة.

وإذ همَّ الجار بالخروج مِن المسجد، اقترح عليه صاحبه أنَّ مِن الأفضل له أنْ يبقى في المسجد حتَّى أداء صلاتي المغرب والعشاء، وقام الجار الحديث الإسلام مُتعباً وقد فقد صبره، فيمَّم شطر بيته مع جاره المسلم، وفي فجر اليوم التالي نهض الجار المسلم عازماً تَكرار برنامج اليوم السابق، فجاء يطرق باب جاره ليَصحبه إلى المسجد، فخرج إليه الرجل وقال له:

اتركني وشأني؛ إنَّ دينك هذا صعب لا طاقة لي به) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٨٦

رحم الله امرءاً عَرف قدره فوقف عنده

بن الهيثم مِن أشهر عُلماء القَرن الرابع الهجري، اختصَّ بالهندسة والرياضيَّات، وكان له إلمام بالعلوم العقليَّة والفلسفيَّة، وقد خلَّف مؤلَّفات ورسائل عديدة. كان يعيش في البصرة، ولكنَّ صدى شُهرته كان قد عمَّ الأرجاء، وكان حديث المحافل العلميَّة في كلِّ مكان.

كان حاكم مصر يومئذ رجلاً مُتعلِّماً ومُحبَّاً للعلوم، وكان يودُّ لو يجتمع بابن الهيثم عن قُرب ليستفيد مِن علمه. ولكنَّه لم يُوفَّق لذلك، وسمع يوماً أنَّ ابن الهيثم قال: لو كنت في مصر لبنيت سدَّاً على النيل لمنع إضراره بالناس عند طُغيانه ونقصانه، ففرح حاكم مصر بذلك وازداد تلهفُّاً لرؤية ابن الهيثم، فأرسل له سِرَّاً مصاريف سفره ورغَّب إليه أنْ يُسافر إلى مصر.

رحل ابن الهيثم مِن البصرة إلى مصر، وعند وصوله استقبله الحاكم خارج المدينة وأنزله بكلِّ احترام في الدار التي خصَّصها لسُكناه، وبعد بِضعة أيَّام مِن الاستراحة مِن وَعْثاء السفر جاء الحاكم لزيارته وذكَّره بوعده ببناء سَدٍّ على نهر النيل، فأعرب ابن الهيثم عن استعداده للوفاء بوعده، فتُقرِّر يوم مُعيَّن للسفر إلى حيث توجَد منطقة شلاَّل مُرتفع تصلح لإقامة السَّدِّ فيه.

وحلَّ اليوم الموعود وتوجَّه ابن الهيثم مع الحاكم، وعدد مِن المعمارين والعمَّال المَهرة، وجعلوا طريقهم على الأهرامات العجيبة والآثار العظيمة، التي شيَّدها المصريُّون القُدامى وفق حسابات هندسيَّة دقيقة، لكي يشهدها ابن الهيثم الذي بُهت لما رآه مِن الأعمال المُدهشة الرائعة، فاستقلَّ علمه وضعف أمله في استطاعته بناء سَدٍّ على النيل؛ إذ لو كان هذا مُمكناً عمليَّاً لما توانى عنه العلماء والمُهندسون المصريُّون في قديم الزمان. وعند وصولهم إلى حيث شلاَّل الماء في النيل راح

٣٨٧

ابن الهيثم يتفقَّد جوانب النيل وسواحله، ثمَّ اعترف بعجزه عن بناء السَّدِّ، واعتذر عن بنائه واعتذر عن الوعد الذي قطعه وعاد مع الآخرين إلى القاهرة.

رأى حاكم مصر أنْ لا يُفلت فرصة وجود هذا العالم الكبير في بلده، فطلب إليه أنْ يبقى في مصر؛ ليعمل عنده في ديوان المكاتيب. ولكنَّ ابن الهيثم - الذي كان قد عرف طراز تفكير حاكم مصر ونفسيَّته - أصابه القلق لهذا الطلب؛ لأنَّه عرف في هذا الحاكم إنساناً حادَّ الطبع، سيِّء الأخلاق، مُتلوِّناً فظَّاً، يحب إراقة الدماء يغضب لأدنى حدث، ويُصدر أمره لأتفه سبب بقتل الناس الأبرياء، فمِن البديهي أنْ تكون الحياة مع مثل هذا الشخص محفوفة بالخطر المُحتَّم، ولكنَّه لخوفه اضطرَّ إلى إجابة الحاكم إلى ما يُريد، فاستوطن مصر وعمل في ديوان مكاتيب الحاكم.

مضت فترة على هذا المنوال، حيث كان ابن الهيثم يحضر في مَقرِّ عمله كلَّ يوم، ولكنْ لم يُفارقه القلق والخوف، ولم يغفل عن التفكير في طريقة ينجو بها بنفسه ويتحرَّر مِن هذا الهمِّ الدائم.

وأخيراً واتته الحيلة فتظاهر بالجنون، وإذ وصل خبر جنونه إلى الحاكم أمر بحَجره في بيته ووضع عليه مَن يُعنى به، وعهد بأمواله وأثاثه إلى مَن يوثَق بهم، وظلَّ ابن الهيثم في التظاهر بالجنون إلى أنْ مات الحاكم، وبعد أيَّام مِن موته استعاد ابن الهيثم عقله، وترك داره واختار سكناً بالقرب مِن الجامع الأزهر، واستعاد أمواله وانصرف مُطمئنَّ البال إلى التأليف والتصنيف، ولمَّا كان ذا خطٍّ جميل فقد انهمك في استنساخ بعض الكُتب العلميَّة يبيعها لإمرار معاشه.

حاكم مصر هذا لم يكن إنساناً مِن عامَّة الناس جاهلاً، بلْ كان مِن أهل العلم والمعرفة، مُؤهَّلاً للرئاسة وإدارة البلاد، ولكنَّه كان يفتقر إلى سلامة التفكير وصلاح الأخلاق، وكان يستعمل سلطته في أُمور غير مشروعة، ولهذا عاش الناس تحت حكمه عُرضة للخطر والإحساس بفُقدان الأمن؛ بحيث إنَّ عالماً مِثل ابن الهيثم اضطرَّ إلى التظاهر بالجنون للمُحافظة على حياته والخلاص مِن شَرِّه (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٨٨

قد أخطأتَ بهذا خمس عشرة خطيئة

صار المأمون إلى دمشق سنة... وكان بشر بن الوليد الكندي قاضي المأمون ببغداد فضرب رجلاً قرف (1) بأنَّه شتم أبا بكر وعمر وأطافه على جَمل.

فلمَّا قَدِم المأمون مِن رحلة الشام، وسمع بما فعل بشر أحضر الفقهاء فقال: إنِّي نظرت في قضيَّتك يا بشر، فوجدتك قد أخطأت بهذا خمس عشرة خطيئة، ثمَّ أقبل على الفقهاء فقال: أفيكم مَن وقف على هذا؟

قالوا: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟

فقال: يا بشر، بم أقمت الحَدَّ على هذا الرجل؟

قال: بشتم أبي بكر وعمر.

قال: حضرك خصومه؟

قال: لا.

قال: فوكَّلوك؟

قال: لا.

قال: فللحاكم أنْ يُقيم حَدَّ القرفة بغير حضور خصم؟

قال: لا.

قال: وكنت تأمن أنْ يهب بعض القوم حصَّته فيبطل الحَدُّ؟

قال: لا.

قال: فأُمُّهما كافرتان أو مُسلمتان؟

قال: بلْ كافرتان.

قال: فيُقام في الكافرة حَدُّ المسلمة؟

قال: لا.

____________________

(1) قرفه بكذا نسبه إليه وعابه به.

٣٨٩

قال: فهبك فعلت هذا بما يجب لأبي بكر وعمر مِن الحقِّ، أفشهد عندك شاهدا عدلٍ؟

قال: قد زكي أحدهما.

قال: فيقام الحَدُّ بغير شاهدين عدلين؟

قال: لا.

قال: ثمَّ أقمت الحَدَّ في رمضان، فالحدود تُقام في شهر رمضان؟

قال: لا.

قال: ثمَّ جلدته وهو قائم، فالمحدود يُقام؟

قال: لا.

قال: ثمَّ شبحته بين العقابين فالمحدود يُشبح؟

قال: ثمَّ جلدته عُرياناً فالمحدود يُعرى؟

قال: لا.

قال: ثمَّ حملته على جمل فأطفته فالمحدود يُطاف به؟

قال: لا.

قال: ثمَّ حبسته بعد أنْ أقمت عليه الحَدَّ، فالمحدود يُحبس بعد الحَدِّ؟

قال: لا.

قال: لا يراني الله أبوء بإثمك وأُشاركك في جُرمك، خذوا عنه ثيابه وأحضروا المحدود ليأخذ حَقَّه منه.

فقال له مَن حضر مَن الفُقهاء: الحمد لله الذي جعلك عاملاً بحقوقه، عارفاً بأحكامه تقول الحَقَّ وتعمل به، وتأمر بالعدل وتؤدَّب مَن رغب عنه، إنَّ هذا - يا أمير المؤمنين - حاكم اجتهد فأخطأ، فلا تفضح به الحُكَّام وتهتك به القضاء، فأمر به فحُبس في داره حتَّى مات (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٩٠

الدنيا يومان: يومٌ لك ويومٌ عليك

وصل البرامكة على عهد هارون الرشيد إلى أوَجِّ العظمة والسُّلطة، كان جعفر البرمكي رئيس الحكومة، وللبرامكة الآخرين مقامات عالية فيها، وظلُّوا يحكمون البلاد الإسلاميَّة الواسعة سنين طوالاً، كان خلالها جميع أفراد هذه العائلة مِن الرجال والنساء، والشباب والشيوخ، والكبار والصغار مُتنعِّمين بكلِّ النعم ووسائل الراحة والسلطة.

ولكنَّهم في النهاية واجهوا تغيُّراً، فقُتل فريق منهم، وفَقَد الذين بقوا أحياءً كلَّ شيء وزالت دولتهم.

يقول محمد بن عبد الرحمان الهاشمي: زرت أُمِّي في عيد الأضحى، فرأيت امرأة رثَّة الثياب تجلس إليها تُحادثها، فسألتني أُمِّي أتعرف هذه المرأة؟

فقلت: لا.

قالت: هذه عبادة أُمُّ جعفر البرمكي!

اقتربت منها وحادثتها وأنا في عَجب مِن أمرها، وسألتها عمَّا مَرَّ بها مِن عجائب حوادث الزمان، فقالت:

يا ولدي، مَرَّ عليَّ عيد مثل هذا وأربع جوارٍ يخدمنني، وكنت أقول: إنَّ ولدي جعفراً لم يؤدِّ حَقِّي في الجواري اللواتي أوقفهنَّ على خدمتي، واليوم أيضاً يوم عيد يَمرُّ عليَّ، وأنا أتمنَّى جِلدَي شاةٍ أفترش واحداً وأتغطَّى بآخر.

يقول محمد الهاشمي: فدفعت لها خمسمئة درهم، ففرحت فرحاً شديداً كاد أنْ يُهلكها (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٩١

ألا كلُّ شيء ما خلا الله هالك

أرسل مُعاوية عبد الرحمان بن زياد عاملاً له على خراسان، فجمع خلال حُكمه أموالاً طائلة، فقال يوماً لكاتبه: ويلك! لست أدري كيف يغشاني النوم وعندي كلُّ هذه الأموال؟! فسأله الكاتب: كمْ هي؟

فقال: عددت ما عندي فعلمت أنِّي إذا صرفت كلَّ يوم ألف درهم كفاني مِئة سنة، فقال الكاتب: أيُّها الأمير أنام الله عينيك، لا أعجب مِن أنَّك تنام ولك هذه الأموال، بلْ أعجب إذا غمضت عيناك بعد أنْ تذهب منك.

ثمَّ لم يلبث طويلاً حتَّى ذهب كلُّ ذلك المال؛ فقد استدان بعضهم بعضه ولم يُعيدوه، وأنكر بعضٌ آخر أنَّه استأمنهم على البعض الآخر، وسرق خَدَمه وحَشمه ما لم يسرقه الآخرون، حتَّى بلغ به الأمر إلى أنَّه باع ما عنده مِن أدوات فضِّيَّة، وكان يركب حماراً صغيراً فتخطُّ رُجلاه الأرض، رآه يوماً مالك بن دينار وسأله: أين الأموال التي كنت تذكرها كثيراً؟

فأجابه: يا أبا يحيى، كلُّ شيء سوى ذات الله تعالى إلى فناء (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٩٢

لاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ

عندما أُحضر الإمام زين العابدين مع سبابا أهل البيت (عليهم السلام) إلى مجلس يزيد جرى كلام بينه وبين يزيد، كان منه أنَّ يزيد قال:

يا علي بن الحسين: ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ... ) (الشورى: 30).

فقال علي بن الحسين (عليه السلام): كلاَّ! ما هذه فينا نزلت، إنَّما نزلت فينا: ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لكَيلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (الحديد: 22 - 23) فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا مِن الدنيا ولا نفرح بما أتانا منها.

كان يزيد يُريد أنْ يعزو حادثة كربلاء الدمويَّة، وما أصاب أهل البيت فيها إلى أعمالهم، وأنَّه بريءٌ مِن دمهم بحسب مفهوم الآية التي قرأها، ولكنَّ الإمام ردَّ فِريته ودحضها (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٩٣

أحبُّكما إليَّ أحسنكما خُلقاً

روي أنَّ يحيى بن زكريَّا (عليه السلام) لقي عيسى ابن مريم، فتبسَّم عيسى في وجهه.

فقال يحيى: (ما لي أراك لاهياً كأنَّك آمن؟!).

فقال عيسى: (ما لي أراك عبساً كأنَّك آيس).

فقالا: (لا نبرح حتَّى ينزل علينا وحي!).

فأوحى الله تعالى إليهما: (أحبُّكما إليَّ أحسنكما خُلقاً).

وعن الإمام علي (عليه السلام) قال: (بُشر المؤمن في وجهه وحزنه في قلبه) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٩٤

الله أكرم مِن أنْ يسلب امرءاً كريمتيه ثمَّ يعذبه

جاء رجل كفيف البصر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقال: يا رسول الله، أدعُ الله أنْ يكشف بصري.

قال: (إنْ أحببت أنْ أدعو فعسى أنْ يكشف بصرك، وإنْ شئت تلقاه ولا حساب عليك).

فقال: ألقاه ولا حساب عليَّ.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الله أكرم مِن أنْ يسلب امرءاً كريمتيه ثمَّ يُعذِّبه) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٩٥

الله يَهب ويأخذ

كانت أُمُّ سليم مِن المؤمنات على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك كان زوجها أبو طلحة مِن المسلمين الصادقين ومِن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، شارك في غزوات بدر وأُحد والخندق وغيرها.

وكان يسكن المدينة أيَّام السِّلم يقضي جانباً مِن وقته في العبادة، وفي تعلُّم المعارف الإسلاميَّة، ويقضي الجانب الآخر لكسب المعاش على قطعة أرض صغيرة.

أنجب هذان الزوجان ولداً، ولكنَّه أُصيب وهو صبيٌّ بمرض ألزمه الفراش، وانهمكت الأُمُّ في العناية به وتمريضه. وكان الأب عند عودته مِن العمل يعود ابنه المريض، ثم َّينصرف إلى حجرته لتناول طعامه والإخلاد إلى الراحة.

في عصر يوم مِن الأيَّام توفِّي الفتى أثناء غياب الأبِّ، فغطَّت الأُمُّ المؤمنة جسد ابنها دون أنْ تظهر الجزع عليه؛ ولكيلا تُزعج زوجها عند رجوعه ليلاً قرَّرت أنْ تُخفي عنه خبر موته في تلك الليلة، لذلك فإنَّه عندما دخل الدار وأراد عيادة ابنه حسب مألوفه منعته أُمُّ سليم مِن ذلك، قائلة اتركه نائماً براحة وسكون، وكان في لهجتها ما يشعر بأنَّ المرض قد خفَّ عنه، فاطمأنَّ قلبُه بعض الشيء خاصَّة وأنَّها هي أيضاً كانت هادئة مُطمئنَّة بحيث إنَّهما ناما سويَّة في تلك الليلة.

عند الصباح خاطبت أبا طلحة قائلة:

إذا أعار أحد شيئاً لجاره فاستعمله هذا بعض الوقت، فماذا عساك تقول إذا جاء صاحب الشيء يطلب حاجته فيأخذ المُستعير بالبُكاء والعويل لذهاب الشيء مِن يديه؟

قال أبو طلحة: هذا إنسان به جُنَّة؟

٣٩٦

فقالت أُمُّ سليم: إذنْ، علينا أنْ لا نكون مِمَّن بهم جُنَّة، فقد أخذ الله أمانته وتوفِّي ابننا، فاصبر على المُصيبة وأسلم لقضاء الله وهيَّئ الجنازة للدفن.

فأتى أبو طلحة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره الخبر، فتعجَّب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مِن أمرها ودعا لها، وقال: اللَّهمَّ بارك لهما في ليلتهما.

وحملت أُمُّ سليم مِن ليلتها ووُلِدَ لها ولد أسمته عبد الله، وربَّياه تربية دينيَّة سليمة، فعاش طاهراً ومات طاهراً، وكان عبيد الله بن أبي طلحة مِن أصحاب الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٩٧

وكان الإنسان عَجولاً

كان (الحارث بن كلدة) مِن مشاهير الأطبَّاء في القَرن الأوَّل الهجري، وكانت له زوجة تُدعى (فارعة)، دخل فجر أحد الأيَّام عليها غرفتها فوجدها تسوُّك أسنانها، فاشمأزَّت منها نفسه، فطلَّقها هادماً بذلك حياته العائليَّة الحميمة.

وعندما سألته فارعة عن السبب الذي دعاه لتطليقها؟

قال لها: دخلت عليك فجراً فوجدتك تستاكين وكان هذا يعني أنَّك: إمَّا أنْ تكوني قد أكلت شيئاً لتوُّك، وامرأة بهذا النعم لا تليق بي، وإمَّا أنَّك بعد تناول طعامك في الليلة السابقة لم تستاكي فبقي شيء مِن الطعام بين أسنانك فأردت تنظيفها حينذاك، وامرأة على هذا القدر مِن الإهمال للأمور الصحيَّة لا تليق بي أيضاً كزوجة.

فردَّت عليه فارعة بهدوء وبرود قائلة: إنَّ سواكي أسناني فجر ذلك اليوم لم يكن لأيٍّ مِن السببين اللذين ذكرتهما، بلْ كنت أستخرج مِن بين أسناني ذرَّة مِن خيط السواك أحسست بها حينذاك.

لا شكَّ في أنَّ مقالة فارعة قد أخجلت زوجها أشدَّ الخَجل، بعد أنْ أدرك الخطأ الذي ارتكبه، فطلَّقها قبل أنْ يتثبَّت مِن حقيقة الأمر بتسرُّع وعَجلة، حارماً نفسه مِن دِفء الحياة العائليَّة.

وقد ندم على ما فعل، ولكنَّ القضاء كان قد حَلَّ أمام فارعة، فقد تركت زوجها العجول قصير النظر دون أنْ تأسَّف له وتزوَّجت غيره (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٩٨

التدبُّر قبل العمل يؤمنك مِن الندم

انتصر (معن بن زائدة) في الحرب الضروب التي وقعت على حدود مدينة كابل، فغنم الكثير وأسرَ العديد، وعسكر في (رخج) على مشارف كابل، حيث أنزل الجنود الأحمال وأراحوا الجياد مِن سروجها، وفجأة شاهدوا غباراً كثيفاً يرتفع إلى عنان السماء، فظنَّ معن أنَّ جيشاً مِن الأعداء يتقدَّم، فأمر بقتل جميع الأسرى فقتل بهذا الأمر نحو أربعة آلاف أسيراً.

يقول فرج بن زياد: إنَّني وأبي كنَّا مِن بين الأسرى، فأخفاني أبي تحت بعض أحداج الإبل. وقف أمامي قائلاً: إذا قتلت فقد أنجو أنا، ثمَّ لم يمض وقت طويل حتَّى تبيَّن أنَّ الغبار كان بسبب قطيع كبير مِن الحمر الوحشية، وهكذا قُتِل آلاف مِن الناس بسبب قرار مُتسرَّع غير مدروس، فذهب هؤلاء ضحايا العجلة الخرقاء.

قد تؤدِّي العَجلة - أحياناً - إلى إحاطة العقل بظلام كثيف، وتحويل الإنسان إلى كائن أعمى وأصمّ، بحيث لا يعود يُميِّز ما هو خير له مِمَّا هو شَرٌّ له.

عن الإمام علي (عليه السلام) أنَّه قال: (التدبير قبل العمل يؤمنك مِن الندم) (1) .

____________________

(1) الأخلاق، ج2.

٣٩٩

بشِّر القاتل بالقتل ولو بعد حينٍ

كان (عبد الله الأفطس) مِن أحفاد الإمام السجَّاد (عليه السلام) رجلاً مؤمناً مُجاهداً ثوريَّاً، بذل جهوداً عظيمة لإنقاذ المُجتمع الإسلامي مِن نِير حُكم طُغاة بني العباس، فأمر هارون الرشيد بالقبض عليه وإرساله مخفوراً إلى بغداد، حيث ألقاه في السجن، وإذ طال أمدُ سجنه أخذ يزداد سَخطاً وغضباً، لما لحقه مِن الظلم والجور، فكتب رسالة إلى هارون الرشيد أسمعه فيها صرخات تظلمه في ألفاظ مِن الشتيمة والسُّباب.

فقرأ هارون الرسالة وقال: عبد الله الأفطس قد ضاق ذرعاً بالسجن، وبما يُعاني منه فيه مِن عذاب وتألُّم، فكتب إليَّ هذه الرسالة ليُثير غضبي فآمر بقتله وأُريحه مِن عذاب السجن، ولكنِّي لن أفعل ذلك أبداً، ثمَّ أحضر وزيره جعفراً البرمكي وأمره أنْ يقوم بنفسه بمُراقبة عبد الله وينقله إلى سجن آخر أوسع وأفضل.

صادف اليوم التالي عيد النوروز، وعندما جيء بعبد الله أمام جعفر البرمكي أخذ يُكرِّر ما كان قد كتبه في رسالته، مِن السُّباب والشتائم لهارون الرشيد ولحُكمه وحُكومته الجبَّارة، فغضب جعفر عند سماع تلك الشتائم فأمر فوراً بضرب عُنقه، فاحتزَّ رأسه وغسله ووضعه في طبق وأرسله إلى قصر الخليفة هارون مع سائر الهدايا، التي كان قد أعدَّها لتقديمها إليه بمُناسبة عيد النوروز، وإذ رفع هارون الغِطاء عن الطَّبق أثناء استعراضه الهدايا رأى رأس عبد الله الأفطس، فصرخ طالباً جعفراً البرمكي، وعند حضوره صاح في وجهه غاضباً: ويلك! لماذا قتلت عبد الله؟! كيف ترتكب هذا الخطأ الكبير؟!

فأجابه: لأنَّه شتم أمير المؤمنين.

فقال هارون: إنَّ قتل عبد الله مِن دون إذني أقبح بكثير مِن شتائم عبد الله!

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568