فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد10%

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 568

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد
  • البداية
  • السابق
  • 568 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 248252 / تحميل: 11115
الحجم الحجم الحجم
فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

فاطمة الزهراء (عليها السلام) من المهد إلى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

في قوله:(الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) قال: الصافنات الخيل إذا أصفنّ قياماً، عقرها: قطع أعناقها وسوقها، وقوله:(أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخيْرِ...) يقول: الخير المال، والخيل من المال، يقول: فشغلته الخيل عن الصلاة.(1)

تفسير الطبريّ

« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبّي حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » .

قال: وفي هذا الكلام محذوفٌ استغني بدلالة الظاهر عليه من ذِكره، فَلَهِيَ عن الصلاة حتّى فاتته فقال: إنّي أحببتُ حبَّ الخير! ويعني بقوله:« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ) : أي أحببتُ حبّاً للخير، ثمّ أضيف الحبّ إلى الخير، وعَنِي بالخير في هذا الموضع الخيل، والعرب فيما بلغني تسمّي الخيل الخير، والمال أيضاً يسمّونه الخير. فعن قتادة« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ » أي المال والخيل، أو الخير والمال.(2)

وبسنده عن سفيان، عن السُّدِّيّ« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ) قال: الخيل. وأيضاً عن السُّدِّيّ، قال: المال. (3)

وقوله:« عَن ذِكْرِ رَبّي » يقول: إنّي أحببت حبَّ الخير حتّى سهوتُ عن ذكر ربّي وأداء فريضة. وقيل: إنّ ذلك كان صلاة العصر. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال

____________________

(1) تفسير عبد الرزّاق الصنانيّ (ت 211 هـ) 2: 133 / الحديث 2588، وأيضاً تفسير عبد الرزّاق 2: 85،(وَعَشِيّاً) الروم: 18 -: العصر.

(2) تفسير الطبريّ 23: 182.

(3) نفسه.

٢٢١

أهل التأويل. عن قتادة، وعن السدّيّ«عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) عن صلاة العصر.(1)

وأخرج بسنده عن أبي صخر، أنّه سمع أبا معاوية الجبليّ من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصّهباء البكريّ يقول: سألت عليّ بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى، فقال: هي العصر، وهي التي فُتِن بها سليمان بن داود.(2)

وقوله:« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » يقول: حتّى توارت الشمس بالحجاب، يعني تغيّبت في مغيبها. ذُكِر ذلك عن ابن مسعود وعن السّدّيّ.(3)

وفي قوله:« فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسّوقِ وَالْأَعْنَاقِ » : عن قتادة قال: قال الحسن: قال: لا واللهِ لا تشغليني عن عبادة ربيّ آخر ما عليك.

قال قولهما - يعني قتادة والحسن - فيه: فكسف عراقيبها، وضرب أعناقها.(4)

وعن السّدّيّ: فضرب سُوقَها وأعناقها.(5)

الفخر الرازيّ: ذكر وجوهاً لحبّ داود للخيل، منها: أنّ هذه المحبّة الشديدة إنّما حصلت عن ذكر الله وأمره، لا عن الشهوة والهوى، وهذا الوجه أظهر الوجوه.(6)

____________________

(1) تفسير الطبريّ 23: 182.

(2) نفسه 23: 183.

(3) نفسه.

(4) نفسه.

(5) نفسه.

(6) التفسير الكبير، للفخر الرازيّ 26: 204.

٢٢٢

قال: والضمير في قوله:« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » وفي قوله:«رُدُّوهَا» يحتمل أن يكون كلّ واحد منهما عائداً إلى الشمس؛ لأنّه جرى ذكر ما له تعلّقٌ بها، وهو العشيّ.(1)

تفسير السّلميّ: قال أبو سعيد القرشيّ: من غار للهِ وتحرّك له؛ فإنّ الله يشكر له ذلك، ألا ترى سليمان لمّا شغلته الأفراس عن الصلوات حتّى توارت الشمس بالحجاب، قال: ردّوها عَلَيّ فطفق مسحاً بالسّوق والأعناق.

فشكر اللهله صنيعه فقال:« فَسَخّرْنَا لهُ الرّيحَ » ، أبدلَه مركباً أهنى منهم وأنعم.(2)

ابن عطية الأندلسي: ذكر في تفسيره بشأن الآيات فقال: اختلف الناس في قصص هذه الخيل المعروضة، فقال الجمهور: إنّ سليمانعليه‌السلام عرضت عليه آلافٌ من الخيل تركها له أبوه، فأجريت بين يديه عشاءً، فتشاغل بجنسها وجريها ومحبّتها حتّى فاتته صلاة العشاء.(3)

قال: قال قتادة: صلاة العصر، ونحوه عن عليّ بن أبي طالب، فأسف لذلك وقال: رُدّوا علَيّ الخيل. قال الحسن: فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف؛

____________________

(1) نفسه.

(2) تفسير السّلمي محمّد بن الحسين الأزديّ السّلميّ (ت 412 هـ) 2: 186.

(3) إنّ قوله: فاتته صلاة العشاء، غير دقيق، إذ الذي في الآية:(العَشِيَّ) وهو ما بعد الزوال، كما في المعاجم والتفاسير على ما مرّو ما سيأتي. ونسبة قولَه إلى الجمهور! ليس صحيحاً، فقد ذكرنا بعض أقوالهم وسنذكر أخرى وكلّها تقول، «العصر». وقد وجدناه بعد قوله: فاتته صلاة العشاء، يذكر قول قتادة أنّها صلاة العصر! ومثله نسبه إلى الإمام عليّعليه‌السلام .

٢٢٣

عقراً لما كانت سبب فوت الصلاة، فأبدله الله أسرع منها.

قال: والضمير في (توارت) للشّمس، وإن كان لم يَجْرِ لها ذكر صريح لأنّ المعنى يقتضيها وأيضاً فذِكْرُ العشيّ يقتضي لها ذكراً ويتضمّنها، لأنّ العشيّ إنّما هو مقدّرٌ متوهّمٌ بها.(1)

وفي تفسير ابن العربيّ:( بِالْعَشِيِّ ) : من زوال الشّمس إلى الغروب، كما أنّ الغداة من طلوع الشمس إلى الزوال.(2)

الجياد: هي الخيل، وكلّ شيء ليس برديء يقال له جيّد، عرضت الخيل على سليمانعليه‌السلام ، فشغلته عن صلاة العشيّ.

قال المفسّرون: هي العصر.(3)

قال: وكان له ميدان مستدير يسابِقُ بينها فيه، فنظر فيها حتّى غابت الشمس خلف الحجاب، وهو ما كان يحجب بينه وبينها.(4)

وفي قول مَن قال: إنّ الشمس لم يجر لها ذِكر، قال: وهذا فاسد، بل تقدّم عليها دليل، وهو قوله:«بِالْعَشِيِّ» ، كما تقول: سِرتُ بعد العصر حتّى غابت، يعني الشمس، وتركها لدلالة السامع لها عليها بما ذكر ممّا يرتبط بها وتعلّق بذكرها؛

____________________

(1) المحرّر الوجيز: لعبد الحقّ بن غالب بن عطيّة الأندلسيّ (ت 546 هـ).

(2) أحكام القرآن لأبي بكر محمّد بن عبد الله المعروف بابن العربي 4: 50.

(3) نفسه: 51.

(4) نفسه.

٢٢٤

والغداةُ والعشيُّ أمرٌ مرتبط بمسير الشمس، فذُكره ذِكْرٌ لها.(1)

نظم الدّرر:« عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ » ، أي فيما بعد زوال الشمس،«الصَّافِنَاتُ» أي الخيول العربيّة الخالصة التي لا تكاد تتمالك بجميع قوائمها الاعتماد على الأرض؛ اختيالاً بأنفسها وقرباً من الطيران بلطافتها وهمّتها، وإظهاراً لقوّتها ورشاقتها وخفّتها...«الْجِيَادُ) ، التي تجود في جريها بأعظم ممّا تقدر عليه، جمع جواد، فلم تزل تُعرَض عليه حتّى فاتته صلاة آخر النّهار، وكان المفروض على من تقدّمنا ركعتين أول النهار وركعتين آخره، فانتبه في الحال.

ولمّا كان بيان ضخامة ملكه وكثرة هيبته وعزّته مع زيادة أوْبته، لتحصل التأسِية به في حسن ائتماره وانتهائه بقوله: فَقَالَ ولمّا كان اللاّئق بحاله والمعروف من فعاله أنّه لا يُؤثّر على ذكر الله شيئاً، فلا يكاد أحد ممّن شاهد ذلك يظنّ به ذلك - أي التسلية واللّهو - بل يوجّهون له في ذلك وجوهاً ويحملونه على محاملَ تَليق بما يعرفونه من حالٍ من الإقبال على الله والغنا عمّا سواه، أكد قوله تواضعاً للهِ تعالى، ليعتقدوا أنّه بشر يجوز عليهم لو لا عصمةُ الله: إِنِّي، ولمّا كان الحبّ أمراً باطناً لا يظهر في شيء إلاّ بكثرة الاشتغال به، وكان الاشتغال قد يكون لغير الحبّ، فهو غيرُ دالٍّ عليه إلاّ بقرائن، قال اعترافاً أَحْبَبْتُ أي: أوجدت وأظهرت بما ظهر منّي من الاشتغال بالخيل، مقروناً بذلك بأدلّة الودّ حُبَّ الخيْرِ وهو المال، بل خلاصة المال وسبب كلّ خيرٍ دنيويّ وأخرويّ «الخيلُ معقودٌ

____________________

(1) أحكام القرآن 4: 51.

٢٢٥

بنواصيها الخير».(1)

أظهرتُ ذلك بغاية الرّغبة، غافلاً«عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» المحسن إليّ، بهذه الخيل التي شغلتني، فلم أذكره بالصّلاة التي كانت وظيفة الوقت؛ وإن كان غرضي لها لكونه في طاعته ذكراً له. ولم يزل ذلك بي«حَتَّى تَوَارَتْ» أي الشمس المفهومة من «العَشِيّ»،«بِالْحِجَابِ» وهي الأرض التي حالت بيننا وبينها، فصارت وراءها حقيقةً.(2)

ولما اشتدّ تشّوف السامع إلى الفعل الذي أوجب له الوصف بأوّاب، بعد سماع قوله في لومه نفسه ليجمع بين معرفة القول والفعل...، فَطَفِقَ أي: أخذ يفعل ظافراً بمراده، لازماً له مصمّماً عليه واصلاً له معتمداً على الله في التقوية على العدوّ، لا على الأسباب التي من أعظمها الخيل، مفارقاً ما كان سبب ذهوله عن الذّكر، مُعْرِضاً عمّا يمكن أن يتعلّق به القلب، متقرّباً به إلى الله تعالى كما يتُقرّب في هذه الملّة - أي ملّة الإسلام - بالضحايا.

مَسْحاً: أي يوقع المسح فيها بالسيف إيقاعاً عظيماً.(3)

المفردات: العشيّ: من زوال الشمس إلى الصباح والعشاء: من صلاة المغرب

____________________

(1) أخرجه البخاريّ برقم 2849 و 3624، ومسلم 1871، والنّسائيّ 221، والبيهقيّ 6: 329، والبغويّ 2644.

(2) نظم الدّرر في تناسب الآيات والسّور: لإبراهيم بن عمر البقاعيّ (ت 885 هـ) 6: 383.

(3) نفسه 6: 384.

٢٢٦

إلى العتمة.(1)

تاريخ دمشق: قال الحسن:« إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ » كانت خيلاً بلقاً جياداً، وكانت أحبّ الخيل إليه البلق فعرضت عليه، فجعل ينظر إليها« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعني الشمس، فغفل عن صلاة العصر.

وعن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، أنّه سئل عن صلاة الوسطى فقال: هي التي غفل عنها نبيّ الله سليمان بن داود حتّى تورات بالحجاب. يعني العصر.(2)

الكشّاف: ذكر الزمخشري في تفسيره القصّة، نختصرها:

إنّ سليمان قعد يوماً - بعدما صلّى الأولى - على كرسيّه واستعرضها، فلم نزل تُعرَض عليه حتّى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن وردٍ من الذكر كان له وقتَ العشيّ، وتهيّبوه فلم يُعلموه، فاغتمّ لما فاته، فاستردّها عقرها ومُقرّباً للهِ. وقيل: لما عقرها أبدله الله خيراً منها، وهي الريح تجري بأمره.(3)

قال: والتواري بالحجاب: مجاز في غروب الشمس عن تواري الملك، أو المخبأة بحجابها. والذي دلّ على أنّ الضمير للشمس مرور ذكر العشيّ، ولابدّ للمضمر من جري ذكرٍ أو دليل ذكر.(4)

____________________

(1) المفردات في غريب القرآن للحسين بن محمّد المعروف بالراغب الأصفهانيّ (ت 502 هـ): 338.

(2) مختصر تاريخ دمشق 10: 125.

(3) تفسير الكشّاف لمحمود بن عمر الزمخشريّ (ت 538 هـ) 91: 4 - 92.

(4) نفسه 4: 93.

٢٢٧

ابن كثير: ذكر غير واحد من السّلف والمفسّرين أنّه اشتغل بعرضها حتّى فات وقت صلاة العصر، والذي يُقطع به أنّه لم يتركها عمداً بل نسياناً، كما شُغِل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن صلاة العصر يوم الخَنْدق حتّى صلاّها بعد الغروب.

ويُحتمل أنّه كان سائغاً في ملّتهم تأخير الصلاة لضرر الغزو والقتال، والخيل تُراد للقتال.(1)

النهاية(2) : في حديث الصلاة «حين توارت بالحجاب» الحجاب هاهنا: الأفق، يريد حين غابت الشمس في الأفق واستترت به. ومنه قوله تعالى:« حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ » .

الثعالبيّ: ذكر الثعالبيّ في تفسيره، قال: اختلف المتأوّلون في قصص هذه الخيل المعروضة على سليمانعليه‌السلام ؛ فقال الجمهور: إنّ سليمان عُرضت عليه آلاف الخيل تركها له أبوه... فتشاغل بجريها ومحبّتها حتّى فاته وقتُ صلاة العشيّ، فأسف لذلك... فطفق يمسحُ سوقها وأعناقها بالسيف. قال الثعالبيّ وغيره: وجعل ينحرها تقرّباً إلى الله تعالى حيث اشتغل بها عن طاعته، وكان ذلك مباحاً لهم كما أبيح لنا بهيمةُ الأنعام؛ فرُوي أنّ الله تعالى أبدله منها أسرع منها، وهي الريح.

والضمير في«تَوَارَتْ» للشمس، وإن كان لم يتقدّم لها ذكر؛ لأنّ المعنى

____________________

(1) تفسير القرآن العظيم: لابن كثير (ت 774 هـ) 7: 56.

(2) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الجزريّ (ت 606 هـ) 1: 340.

٢٢٨

يقتضيها، وأيضاً فذكر العشيّ يتضمّنها.(1)

ابن وَهبْ: قال عبد الله بن وهب: سألت اللّيث عن قول الله:« بِالْغُدُوّ والآصَالِ » (2) ، فقال: الآصالُ العشيّ. (3)

ولا يخفى: أنّ الأصيل هو الوقت بين العصر والمغرب، فهو العشيّ.

هود الهُوّاريّ: ذكر في تفسيره:« فَقَالَ إِنّي أَحْبَبْتُ حُبّ الْخَيْرِ) أي: حبّ المال، يعني الخيل، وهي في قراءة عبد الله بن مسعود «حب الخيل»،« عَن ذِكْرِ رَبّي حَتّى‏ تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) أي غابت، يعني الشمس« بِالْحِجَابِ) ففاتته صلاة العصر.(4)

القرطبيّ:« تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعني الشمس، كنايةً عن غير مذكور، وتركُها لدلالة السامع عليها بما ذكر ممّا يرتبط بها.(5)

مجمع البحرين:« تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) يعني الشمس، أضمرها ولم يجر لها ذكر، والعرب تقول ذلك إذا كان في الكلام ما يدلّ على المـُضمر. (6)

الجصّاص: ذكر الآيات ثمّ قال عن ابن مسعود: حتى توارت الشمس

____________________

(1) تفسير الثعالبيّ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» لعبد الرحمان بن محمّد الثعالبيّ المالكيّ (ت 875 هـ) 5: 66.

(2) الأعراف: 205، الرعد: 15، النور: 36.

(3) الجامع: عبد الله بن وَهْب المصريّ (ت 197 هـ) 2: 165.

(4) تفسير كتاب الله العزيز: هود بن مُحَكَّم الهوّاريّ (ت منتصف القرن الثالث الهجريّ) 4: 16.

(5) الجامع لأحكام القرآن لمحمّد بن أحمد القرطبيّ الأنصاريّ 15: 195.

(6) مجمع البحرين لفخر الدين الطريحيّ (ت 1085 هـ) ج 1: ص 434.

٢٢٩

بالحجاب.(1)

الصدوق: ذكر روايةً عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، هي: إنّ سليمان بن داودعليهما‌السلام عُرِض عليه ذات يوم بالعشيّ الخيل، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارث الشمس بالحجاب، فقال للملائكة: ردّوا الشمس عَلَيّ حتّى أصلّي صلاتي في وقتها. فرَدُّوها، فقام فمسح ساقيه وعنقه، وأمر أصحابه الذين فاتتهم الصلاة معه بمثل ذلك وكان ذلك وضوءهم للصلاة، ثمّ قال فصلّى، فلمّا فرغ غابت الشمس وطلعت النجوم. وذلك قول الله عزّ وجلّ:« وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنّهُ أَوّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيّ ...» (2) .

الطّبرسيّ: «المراد بالخير الخيل هنا، فإنّ العرب تُسمّي الخيل الخير ن عن قتادة والسدّيّ. فالمعنى آثرتُ حبَّ الخيل عن ذكر ربّي، وقيل: إنّ هذه الخيل كانت شَغَلَتْه عن صلاة العصر حتّى فات وقتها. عن عليّعليه‌السلام ، وقتادة والسدّي. وفي روايات أصحابنا أنّه فاته أوّل الوقت».(3)

وقوله تعالى:« رُدّوهَا عَلَيّ) ، قال: قيل: معناه أنّه سأل اللهَ تعالى أن يَرُدّ الشمس عليه، فردّها عليه حتّى صلّى العصر. فالهاء في ردّوها كناية عن الشمس. عن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .(4)

____________________

(1) أحكام القرآن للجصّاص أحمد بن عليّ الرازيّ (ت 370)، 3: 502.

(2) من لا يحضره الفقيه للصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القميّ (ت 381 هـ 1: 129).

(3) مجمع البيان للفضل بن الحسن الطبرسيّ (ت 548 هـ) 8: 740.

(4) مجمع البيان 8: 741.

٢٣٠

وفي رواية عن ابن عبّاس: سألتُ عليّاًعليه‌السلام عن هذه الآية فقال: ما بلغك فيها يا ابن عبّاس؟ قلت: سمعتُ كعباً يقول: اشتغل سليمانُ بعرض الأفراس حتى فاتته الصّلاة، فقال ردّوها علَيَّ، يعني الأفراس، كانت أربعة عشر، فأمر بضرب سوقها وأعناقها، فقتلها، فسلبه الله مُلكه أربعة عشر يوماً؛ لأنّه ظلم الخيل بقتلها!

فقال عليّعليه‌السلام : كذب كعب، لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم؛ لأنّه أراد جهاد العدوّ، حتّى توارت الشمس بالحجاب، فقال بأمر الله تعالى للملائكة الموكّلين بالشمس: رُدّوها علَيِّ فرُدّت، فصلّى العصر في وقتها، وإنّ أنبياء الله لا يَظلمون ولا يأمرون بالظّلم؛ لأنّهم معصومون مطهّرون».(1)

ابن شهر آشوب: ذكر في مناقبه: عن ابن عبّاس بطرق كثيرة أنّه لم تُردَّ الشمس إلاّ لسليمان وصيّ داود وليوشع وصيّ موسى، ولعليّ بن أبي طالب وصيّ محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.(2)

الكلينيّ: بسنده عن أبي جعفر «الباقر»عليه‌السلام في قول عزّ وجلّ:« إِنّ الصّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً » (3) قال: يعني مفروضاً. وليس يعني وقت فوتها إذا جاز ذلك الوقت ثمّ صلاّها، فلم تكن صلاته هذه مؤدّاةً، ولو كان ذلك كذلك

____________________

(1) مجمع البيان 8: 741. وانظر: تفسير الصافي للفيض الكاشانيّ 4: 299، والميزان للطباطبائي 17: 206، وكنز الدقائق للمشهديّ 11: 233.

(2) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب محمّد بن عليّ المازندرانيّ (ت 588 هـ) المطبعة الحيدريّة، النجف الأشرف، 2: 146. وانظر: من لا يحضره الفقيه للصدوق 1: 29، رواية 9 - 12.

(3) النساء: 103.

٢٣١

لهلك سليمان بن داودعليهما‌السلام حين صلاّها لغير وقتها، ولكنّه متى ذكرها صلاّها.(1)

القمّيّ: ذكر في تفسيره: أنّ سليمانعليه‌السلام كان يحبّ الخيل ويستعرضها، فعرضت عليه يوماً، إلى أن غابت الشمس وفاتته صلاة العصر، فاغتمّ من ذلك غمّاً شديداً، فدعا الله أنّ يردّ عليه الشمس حتّى يصلّي العصر...».(2)

ابن أبي جامع العامليّ: ذكر في تفسيره:«رُدُّوهَا» أي الشمس عَلَيَّ أيّها الملائكة الموكّلون بها. طلب منهم ردّها بأمر الله إيّاه بذلك، فردّت، فصلّى. كما ردّت ليوشع وعليّعليه‌السلام .(3)

السيّد عبد الله شبّر: حَتَّى«تَوَارَتْ» أي الشمس، بدلالة العشيّ عليها، بِالْحِجَابِ بحجاب الأفق، أي غربت، أو حتّى غابت الخيل عن بصره حين أجريت رُدُّوهَا أي الشمس عَلَيَّ أيّها الملائكة الموكّلون بها، فردّت فصلّى، كما ردت ليوشع وعليّ عليهما‌السلام . (4)

العلاّمة الطباطبائيّ: «إنّي شغلني حبّ الخيل، حين عُرض علَيّ، عن الصلاة حتّى فات وقتها بغروب الشمس. وإنّما كان يحبّ الخيل في الله ليتهيّأ به للجهاد في سبيل الله، فكان الحضور للعرض عبادةً منه، فشغلته عبادةٌ عن عبادة، غير

____________________

(1) الكافي لمحمد بن يعقوب الكلينيّ الرازيّ (ت 328 هـ) 3: 294.

(2) تفسير القمّيّ لعلي بن إبراهيم القمّيّ (القرن الثالث والرابع الهجريّ) 2: 234.

(3) الوجيز في تفسير القرآن العزيز لعليّ بن الحسين بن أبي جامع العامليّ (1070 - 1135 هـ) 3: 101.

(4) تفسير القرآن الكريم لعبد الله شبّر (ت 1242 هـ): 429.

٢٣٢

أنّه يعدّ الصلاة أهمّ».(1)

ثمّ ذكر الرواية التي ذكرها الطّبرسيّ في دعاء سليمانعليه‌السلام واستجابة الله تعالى له، فردّ عليه الشمس حتّى صلّى.

الفيض الكاشانيّ:«رُدُّوهَا عَلَيَّ) الضمير للشمس... في «الفقيه» عن الصادقعليه‌السلام قال: إنّ سليمان بن داودعليهما‌السلام عرض عليه ذات يوم بالعشيّ الخيل، فاشتغل بالنظر إليها حتّى توارت الشمس بالحجاب. فقال للملائكة: ردّوا الشمس علَيّ حتّى أصلّي صلاتي في وقتها...، تمام الرواية التي ذكرها الصدوق عن الإمام الصادقعليه‌السلام .(2)

ظهور الضمير في الشمس

إضافة إلي ما ذكرنا من مصادر معتبرةٍ مُعتدّ بها، قد ذَكَرت أنّ الضمير في تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ عائد إلى الشمس.

نذكر مصادر أخرى ذكرت ذلك، على نحو الإيجاز:

تنزيه الأنبياء: ذكر الشريف المرتضى عن الجبائيّ: أنّها الشمس... وفاتته صلاةٌ مستحبّة.(3)

____________________

(1) الميزان في تفسير القرآن لمحمد حسين الطباطبائيّ (1321 - 1402 هـ) 17: 203.

(2) تفسير الصافي للفيض الكاشانيّ (ت 1091 هـ) 4: 298.

(3) تنزيه الأنبياء للشريف المرتضى: 135.

٢٣٣

غريب الحديث: تَوَارَتْ الشمس.(1)

وابن عساكر: عن الحسن: يعني الشمس. وأيضا: قول جمهور أهل العلم: الشمس. (تاريخ مدينة دمشق 22: 241، 42: 506). وكذلك في: «عصمة الأنبياء؛ للفخر الرازيّ: 83، زاد المعاد لابن الجوزيّ 6: 335. تأويل الآيات لعليّ الحسينيّ (ت 965 هـ) 2: 552. لسان العرب لابن منظور 1: 299. البرهان في علوم القرآن لمحمّد بن عبد الله الزركشيّ (ت 794 هـ) 4: 26.

النتيجة:

1 - أنّ الشمس ردّت ليوشع وسليمان وعليّعليهم‌السلام .

2 - بطل الإشكال الذي ذكره ابن تيميه في أنّ الشمس لو ردت حقيقة لعليّ، لم تكن له فضيلة! لأنّه يكون قد أدّى صلاته في غير وقتها! فهو إمّا مقصّر والمقصّر عليه أن يتوب؛ وإمّا غير مقصّر فلا ذنب عليه ولا حاجة لردّ الشمس.

وجوابه: لقد أدّاهاعليه‌السلام في وقتها بدليل رجوع الشمس إلى وقت العصر. ولو لم يكن لرجوعها فضيلة، لما دعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فاستجاب الله تعالى له فردّها، ولما دعا سليمانعليه‌السلام فردّها سبحانه عليه.

وليس تقصير في البين، لا من سليمان النبيّ، ولا من عليّ الوصيّعليهما‌السلام فكلاهما كان في عبادة شغلته عن عبادة، مع الموقع المهمّ للصلاة في العبادات.

____________________

(1) غريب الحديث لابن سلام (ت 224) 3: 79.

٢٣٤

كرامات أعظم من ردّ الشمس

كبر على ابن الجوزيّ ردّ الشمس زيادةً في إعجاز رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكرامة لوليّه عليه السلام، فيها ذكر كرامات لغيرهما تبزّ عين الشمس، ويكون ردّ الشمس لا شيء إزاءها! فشايعه ابن تيميه على الأولى ولم ينكر عليه الثانية.

وقبل ذكر أمثلة من تلك الكرامات العظيمة، نقول: أثبتنا قوّة ووثاقة سند حديث ردّ الشمس؛ فيما جرّد أبو الفرج أخباره تلك من الأسانيد وألقى كثيراً منها على لسان رجل مجهولٍ أو امرأة نكِرة، وكثير منها أحلامٌ ومنامات. وآن الأوان لأن نجول في تلك الأخبار ونقتطف بعضاً من بحرها!

الله عزّ وجلّ يزور أحمد

روى ابن الجوزيّ، قال: حدّثني أبو بكر بن مكارم بن أبي يعلى الحربيّ وكان شيخاً صالحاً، قال: قد جاء في بعض السنين مطر كثير جدّاً قبل دخول رمضان بأيّام، فنمتُ ليلة فيرمضان فأريت في منامي كأنّي قد جئت على عادتي إلى قبر الإمام أحمد بن حنبل أزوره، فرأيت قبره قد التصق بالأرض مقدار سافٍ أو سافَين فقلتُ: إنّما تمّم هذا على قبر الإمام أحمد من كثرة الغيث، فسمعته من القبر وهو يقول: لا، بل هذا من هيبة الحقّ عزّ وجلّ، قد زارني فسألته عن سرّ زيارته إيّاي في كلّ عام، فقام عزّ وجلّ: يا أحمد! لأنّك نصرت

٢٣٥

كلامي فهو يُنشَر ويتلى في المحاريب.(1)

فأيّ شأن يبقى لردّ الشمس، والله - تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً - يزور أحمد في قبره؟! إلاّ أنّ البعض يثير إشكالاً على أبي الفرج! فيقول: مَن هو هذا الرجل الصالح الذي روى لك منامَه هذا فجعلتهَ حقيقةً في مناقب أحمد، وهل يرقى إلى رواة وسند حديث ردّ الشمس؟!

وكيف سمع أحمد كلام هذا الرجل وهو في قبره، وأنت تروي في مناقبه أنّه قد رُفع إلى الجنّة متوّجاً يُدخِل مَن يشاء ويمنع من يشاء - سيأتي - وإنّ نزول الله - جلّ وعزّ عن ذلك - يعني أنّه سبحانه في جهةٍ ممّا يعني تحديده وتبعيضه، ممّا هو صفة الحوادث المخلوقة.

تتويج أحمد

وذكر أبو الفرج من أحوال أحمد قال: قال زكريّاء بن يحيى السّمسار(2) :

رأيت أحمد بن حنبل في المنام على رأسه تاج مرصّع بالجوهر، وفي رجلَيه نعلان وهو يخطر بهما. فقلت: أبا عبد الله، ماذا فعل الله بك؟ قال: غفرلي، وأدناني من نفسه، وتوّجني بيده هذا التّاج، وقال لي: هذا بقولك: القرآن كلام الله

____________________

(1) مناقب أحمد بن حنبل لأبي الفرج ابن الجوزيّ: 454.

(2) لم أجد له ترجمة في الكتب المعتمدة، وذكره ابن حجر في لسان الميزان 2: 483 / 1945: (زكريا) بن يحيى البديّ، عن عكرمة، قال ابن معين: ليس بثقة، قال ابن المدينيّ عنه: هالك. قال الدوريّ ليس بثقة. قال النسائيّ: ليس بثقة. قال ابن حبّان: يروي عن الأثبات ما لا يشبه أحاديثهم.

٢٣٦

غير مخلوق. قلت: فما هذه الخَطْرة الّتي لم أعرفها لك في دار الدّنيا؟! قال: هذه مِشْية الخُدّام في دار السلام.(1)

لا اعتراض على دخول أحمد الجنّة، ولكنّ الأمر متعلّق بتتويج الله تعالى بيده لأحمد، وتكليمه له؛ ممّا يعني: أنذ له جلّ ثناؤه أبعاضاً، وأنّه يتكلّم بحرفٍ وصوت؛ وهو ما يوافق عقيدة ابن تيميه التي أُدين بها وحُوقق لأجلها.

أحمد قسيم الجنّة

ووفاقاً لمنهجه في ذكر أعظم الكرامات التي مستند أعمّها المنامات، قال قال عليّ بن الموفّق(2) : رأيت كأنّي أدخِلت الجنّة، فإذا أنا بثلاثة نفر: رجل قاعد على مائدة قد وكّل الله به ملكين، فملك يطعمه وملك يسقيه وآخر واقف على باب الجنّة ينظر إلى وجوه قومٍ فيدخلهم الجنّة. وآخر واقف في وسط الجنّة، شاخص ببصره إلى العرش ينظر إلى الربّ. فجئت إلى رضوان فقلت: من هؤلاء؟ فقال: أمّا الأوّل فبُشْرُ الحافي، وأمّا الواقف في وسط الجنّة فمعروف الكرخي، وأمّا الواقف على باب الجنّة فأحمد بن حنبل قد أمره الجبّار أن ينظر إلى وجوه أهل السّنّة، فيأخذ بأيديهم فيُدخلهم الجنّة.(3)

وليس لنا أن نبخس الناس أشياءهم وإن كنت مستندةً إلى منامات، إلاّ

____________________

(1) مناقب أحمد بن حنبل، لأبي الفرج: 436.

(2) لم أجد له ترجمة.

(3) مناقب أحمد، لأبي الفرج: 443.

٢٣٧

أنّه تعترضنا أمور: هل يشقّ على بِشْر أن يأكل ويشرب بنفسه من دون أن يُعنّي الملَكَين؟! وأين صار عالم البرزخ فتجاوزه هؤلاء ودلفوا الجنّة؟ وأليس كون الربّ - سبحانه وتعالى - على عرش بذاته ينظر إليه في علوّه، من صفات الحوادث إذ هو صريح في حلوله جلّ وعزّ، في مكان يحتويه؟!

وأظنّ صاحب الرؤيا أخطأ في تشخيص الرجل الواقف على باب الجنّة! ذلك أنّ قسيم الجنّة كما يرد في الأحاديث هو عليّ بن أبي طالب كما قرّره أحمد بن حنبل نفسه!

قال القاضي ابن أبي يعلى الحنفيّ: سمعت محمّد بن منصور(1) يقول: كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله! ما تقول في هذا الحديث الذي يُروى أنّ عليّاً قال: أنا قسيم النار؟ فقال أحمد: وما تُنكرون من ذا - وفي لفظ: من هذا الحديث؟ - أليس رَوينا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ: «لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق»(2) ؟ قلنا: بلى، قال فأين المؤمن؟ قلنا في الجنّة، قال: وأين

____________________

(1) محمّد بن منصوربن داود الطّوسي، نزيل بغداد. يروي عن أحمد بن حنبل، وإسماعيل بن عُلَيّة... وغيرهما. توفّي سنة ستّ وخمسين ومئتين. تهذيب الكمال للمزّيّ 26: 501 / 5631.

(2) ووفق منهجه، فقد كذبه ابن تيميه - سنأتي عليه في محلّه - ويرد الحديث بألفاظ متقاربة والمعنى واحد، وأسانيده موثّقة ومصادره في منته العلوّ والوثاقة.

الأعمش - سليمان بن مهران الأعمش الكوفيّ أبو محمّد. رأى أنس بن مالك وروى عنه. ذكره ابن حبّان في الثّقات 2: 184 / 1421 - في التّابعين -، وذكره العجليّ قال: ثقة، كوفيّ، يقال: إنّه ظهر له أربعة آلاف حديث. وكان عالماً بالقرآن رأساً فيه، وكان فصيحاً لا يلحن حرفاً، وكان عالماً بالفرائض، ولم يكن في زمانه أكثر حديثاً منه. وكان فيه تشيّع تاريخ الثقات للعجلي 204 =

٢٣٨

____________________

= / 619. وذكره الطوسيّ في أصحاب الصادقعليه‌السلام رجال الطوسيّ: 206 - عن عديّ بن ثابت - عدي بن ثابت الأنصاريّ، عداده في أهل الكوفة، يروي عن البراء بن عازب الثّقات لابن حبّان 2: 417 / 392. وهو عالم الشيعة وصادقهم (الجرح والتعديل للرازي 7: 5، تهذيب التهذيب لابن حجر 7: 165). وذكره ابن شاهين فقال: ثقة، إلاّ أنّه كان يتشيّع (تاريخ أسماء الثّقات 254 / 1016). وقال العجليّ عنه: ثقة ثبت، روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاريّ، ولم يدركه سفيان الثّوريّ، وكان شيخاً عالماً في عداد الشيوخ، روى عن عبد الله بن يزيد الخطميّ من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (تاريخ الثّقات للعجليّ: 330 / 1115) - عن زرّ - زرّ بن حبيش الأسديّ الكوفيّ أبو مريم ز مات سنة ثنتين وثمانين وكان من أعرب الناس و كان عبد الله بن مسعود يسأله عن العربيّة. روى عن: عمر وعليّ وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وحذيفة بن اليمان (تاريخ ابن معين 2: 172، الجرح والتعديل للرازيّ 3 / الترجمة 2817، الاستيعاب 1: 212، الثّقات لابن حبّان وفي (تاريخ الثقات للعجلي 165 / 458): زرّ بن حبيش، من أصحاب عبد الله وعليّ، ثقة. وذكره الطوسيّ في أصحاب عليّعليه‌السلام وقال: وكان فاضلاً (رجال الطوسيّ: 42) - عن عليّ قال: إنّه لعهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إليّ أنّه لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق.

أخرجه: الترمذيّ في (الجامع الصحيح، في المناقب / ح 3737)، والنسائي في (الإيمان 8 / 117)، و (مسند أحمد 1: 84 و 95، وتاريخ الإسلام للذهبيّ 3: 634، وأنساب الأشراف 225 و 226 والشفا للقاضي عياض: 31، ومناقب الإمام علي لابن المغازلي: 137 / الرقم 225 و 226 و أسد الغابة 4: 105.

وأخرجه ابن ماجة في (سننه 1: 42 / 114 بنفس السند ولفظه: «عهد إليّ النبيّ الأمّيّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافق».

وبنفس السند أخرجه ابن أبي شيبة في كتابه المصنّف 7: 494 ومسلم في صحيحه 2: 64 ولفظه: عن عليّ بن أبي طالب قال: والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة، أنّه لعهد النبيّ الأمّي إليّ أنّه لا يحبّني إلاّ مؤمن، ولا يبغضني إلاّ منافق. =

٢٣٩

____________________

= وأخرج ابن مردويه بسده عن أبي موسى الأشعريّ، قال: أشهد أنّ الحقّ مع عليّ، ولكن مالت الدنيا بأهلها! ولقد سمعت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (يا عليّ، أنت مع الحقّ والحقّ بعدي معك، لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق) وإنّا لنحبّه، ولكنّ الدنيا تغرّ بأهلها (فضائل عليّ لابن مردويه: 115 / الحديث 138، والأربعون حديثاً لابن بابويه الرازيّ: 42.

وبسند عن مساور الحِمْيَريّ، عن أمّه، عن أمّ سلمة قالت: سمعت رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: (لا يبغض عليّاً مؤمن، ولا يحبّه منافق) (المصنّف لابن أبي شيبة 7: 503).

شريك - مضت ترجمته - عن قيس بن مسلم: (قيس بن مسلم، كوفيّ، ثقة روى عن مرّة الهمدانيّ، وكان يميل مع عليّ بعض الميل، وقد شهد مع عليّ تلك المشاهد (تاريخ الثقات للعجلي 394 / 1401) عن أبي عبد الله الجدليّ: (أبو عبد الله الجدليّ الكوفيّ، اسمه: عبد بن عبد، وقيل: عبد الرحمان بن عبد. روى عن خزيمة بن ثابت، وسلمان الفارسيّ، وسليمان بن صُرَد الخزاعيّ، وأمّ سلمة، وعائشة... وغيرهم. روى عنه: إبراهيم النخعيّ وعامر الشّعبي، وعطاء بن السائب، وأبو إسحاق السبيعيّ وغيرهم. روى له: أبو داود، والتّرمذيّ، والنّسائي في الخصائص، وابن ماجة في السنن قيل لأحمد بن حنبل: أبو عبد الله الجدليّ معروف؟ قال: نعم، ووثّقه. روى له: أبو داود، والترمذيّ، والنّسائي في الخصائص وابن ماجة في السنن. ووثّقه يحيى بن معين (تهذيب الكامل للمزّيّ 34 / 2460). عن أبي ذرّ قال: ماكنّا نعرف المنافقين إلاّ بتكذيبهم اللهَ ورسولَه، والتخلّف عن الصلوات، والبغض لعليّ بن أبي طالب (المستدرك على الصحيحين 3: 139 / 4643).

وبسند عن جعفر بن سليمان: (جعفر بن سليمان الضبعيّ، بصريّ ثقة، وكان يتشيّع (تاريخ الثقات للعجلي 97 / 212)، اتّفقوا على أنّه صدوق، ولم يطعن فيه أحد في الحديث، وقالوا: ثقة (تاريخ البخاريّ الكبير 1: 2: 192). قال ابن معين: ثقة (تاريخ ابن معين 2: 104 / 3533). عن أبي هارون العبديّ: (أبو هارون العبدي، اسمه: عمارة بن جُوَين العبديّ البصريّ. روى عن: عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وأبي سعيد الخدريّ. روى عنه جعفر بن سليمان الضبعيّ، وسفيان الثّوريّ، =

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

عيَادَةُ النِّساء لِفَاطمِة الزهْراءعليها‌السلام

لا نعلم - بالضبط - السبب الحقيقي والدافع الأصلي الذي دعا بنساء المهاجرين والأنصار لعيادة السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، فهل كان هذا بإيعاز من رجالهن؟ فما الذي دعا أولئك الرجال لإرسال نسائهم إلى دار السيدة فاطمة؟

أو هل حصل الوعي عند النساء وشعرن بالتقصير بل الخذلان لبنت رسول الله، فانتشر هذا الشعور بين النساء فأنتج ذلك حضورهن للعيادة، للمجاملة أو إرضاء لضمائرهن المتألّمة لما حدث وجرى على سيدة النساء؟

أو كانت هناك أسباب سياسية فرضت عليهنّ ذلك؛ فحضرن لتلطيف الجوّ وتخفيف توتّر العلاقات بين السيدة فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبين السلطة الحاكمة في ذلك اليوم؟

خاصة وأنّ الموقف الاعتزالي الذي اختارته السيدة فاطمة لنفسها، وانسحابها عن ذلك المجتمع لم يكن خالياً عن التأثير، بل كان جالباً لانتباه الناس، وبالأخص حين حمل الإمام أمير المؤمنين السيدة فاطمة يطوف بها على بيوت المهاجرين والأنصار، تستنجد بهم وتستنهضهم فلم تجد منهم الإسعاف بل وجدت منهم التخاذل، وقد مرّت عليك نتيجة الحوار الذي جرى بين السيدة فاطمة الزهراء وبين معاذ بن جبل، وعرفت موقف ابنه من ذلك الردّ السيئ.

وعلى كل تقدير فلا يعلم - أيضاً - عدد النساء اللاتي حضرن عند السيدة فاطمة الزهراء وهي طريحة الفراش، ولكنّ المستفاد أنّ العدد لم يكن قليلاً

٤٤١

بل كان العدد كثيراً يعبأ به.

فانتهزت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام الفرصة، واستغلّت اجتماع النساء عندها لأن تضع النقاط على الحروف، وتكتب في سجلّ التاريخ الأعمال البشعة التي قام بها بعض المسلمين تجاه عترة نبيّهم وذرّيّته الطاهرة.

والنساء يشكلّن نصف المجتمع أو أكثر من النصف، وكل امرأة مرتبطة برجلٍ من زوج أو أب أو أخ أو ابن، فهي بإمكانها أن تقوم بدورٍ فعّال في المجتمع وخاصة في حقل الدعاية والإعلام والنشر.

فلماذا تسكت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام في هذا الاجتماع؟ ولماذا لا تذكر استياءها من أولئك المتطرّفين؟

(قلن لها: كيف أصبحتِ من علتّكِ يا ابنة رسول الله؟) هكذا جرت العادة والآداب أنّ العائد يسأل المريض عن صحّته وعلّته، فيجيبه المريض عمّا يشعر به من المرض والألم، ولكنّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام لم تجبهن عن مرضها وتدهور صحّتها، بل أجابتهن عن آلامها النفسية، ومصائبها الشخصية، فالتحدّث عن هذه الأمور أولى وأوجب من التحدّث عن أحوالها الصحيّة لأنّ تلك المصائب هي التي جرَّت العلّة والمرض إلى السيدة فاطمة وسلبتها العافية والصحّة، فالتحدّث عن السبب أولى من التحدّث عن المسبّب، والإخبار عن العلّة أفضل من الإخبار عن المعلول.

وهنا أجابت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام على أسئلة النسوة كما تقتضي الحال.

لا تتعجّب إن كانت السيدة فاطمة ما نسيت أُصول الفصاحة والبلاغة والأدب الرفيع والمستوى الأعلى بسبب انحراف صحّتها بل قالت:

٤٤٢

فاطِمةُ الزهْرَاءُ تَضَعُ النقَاطَ عَلَى الحرُوف

(أصبحتُ - والله - عائفة لدنياكن) نعم، إنّها تبدي تنفّرها عن الحياة الدنيا، وكراهتها لذلك المجتمع الذي لا يؤمن بالقيم.

(قالية لرجالكن) ويحقّ لها أن تبدي اشمئزازها وغضبها على رجال المدينة، الذين كان موقفهم تجاه السيدة فاطمة الزهراء موقفاً غير طيّب، فلقد مرَّ عليك أنّهم أبدوا انزعاجهم من بكاء السيدة فاطمة الزهراء على فقد أبيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يتجاوبوا معها في إسعافها والوقوف معها.

(لفظتهم بعد أن عجمتهم) أي رميتهم من فمي بعد أن عضضتهم، كما يرمي أحدنا اللقمة من فمه ويشمئز منها.

(وشنئتهم بعد أن سبرتهم) أي أبغضتهم ومللتهم بعد أن اختبرتهم، وكرهتهم بقلبي بسبب سوء تصرّفاتهم.

(فقبحاً لفلول الحد) شبّهت السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام رجال أهل المدينة بالسيف الذي انثلم حدّه فلا يقطع، إشارة إلى قعودهم عن نصرتها، وخذلانهم إيّاها، فكأنّهاعليها‌السلام تستقبح فيهم سكوتهم عمّا جرى على بنت نبيّهم من الظلم والاضطهاد.

(واللعب بعد الجد) والمقصود: عدم المبالاة بالحق بعد اهتمامهم بذلك، فإنّهم كانوا جادّين في نصرة الإسلام، ولكن الآن صاروا وكأنّهم يلعبون ألعاباً سياسية.

٤٤٣

(وقرع الصفاة) والمراد: التذلل والانقياد لكل مَن قادهم:

(وصدع القناة) وفي نسخة: (خور القناة) إشارة إلى استرخاء الرمح بسبب انشقاقه، وينبغي أن يكون الرمح صلباً حتى يمكن الطعن به، وإذا كان الرمح رخواً لا يمكن أن يُطعن به.

(وخطل الآراء) وفي نسخة: (أفول الرأي) وفي نسخة أخرى: (خطل القول) وعلى كل تقدير فهو إشارة إلى انحراف آرائهم وفسادها، وشذوذ مواقفهم السلبية، والإيجابية.

أما مواقفهم السلبية فهي تجاه أهل بيت نبيهمعليهم‌السلام وعدولهم عن أهل البيت إلى غيرهم، وأما الإيجابية فاعترافهم بالسلطة المناوئة لآل الرسول.

(وزلل الأهواء) ما أقبح تلك الرغبات المنحرفة التي لعبت بمقدرات المسلمين على مرّ التاريخ وعلى مرّ القرون، وتلك العثرات المنبعثة عن اتباع الأهواء الضالة المضلة، ومن مشتهيات الأنفس.

( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ) هذه الآية من سورة المائدة آية (٨٠) وقبلها:( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً منْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ) .

إنّهاعليها‌السلام أدمجت هذه الآية في حديثها للمناسبة بين الموردين، ويظهر وجه المناسبة بالمقارنة بين الآيات وبين موقف أولئك المتخاذلين.

(لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها) إنّهاعليها‌السلام تلقي المسؤولية -

٤٤٤

مسؤولية الأجيال كلّها على أعناق أولئك الأفراد، إذ إنّها لما حضرت في المسجد وخطبت، وأتمّت الحجّة على الحاضرين واستنجدت بالمهاجرين والأنصار فثبت التكليف الشرعي في حقّهم، وحيث إنّهم لم ينصروها فهم مسؤولون عن مضاعفات ذلك الخذلان أمام الله وأمام التاريخ.

(وحمَّلتهم أوقتها) أي حمّلتهم ثقل المسؤولية وشومها.

(وشننت عليهم عارها) شننت الماء على التراب: أرسلته وصببته بصورة متفرّقة، وفي نسخة: (سننت) أي صببت بصورة متصلة غير متفرّقة، وعلى كل تقدير فالمعنى، أنّ عليهم سبّة التاريخ وعاره للأبد بسبب ذلك الجفاء الذي أبدوه تجاه أهل البيت.

(فجدعاً وعقراً وسحقاً للقوم الظالمين) وفي نسخة أخرى: (فجدعاً وعقراً وبُعداً) هذه كلمات دعاء عليهم بسبب ظلمهم لآل الرسول؛ والظلم: وضع الشيء في غير ما وضُع له، والظلم على درجات ومراتب، فهناك الظلم بالنملة، وهناك الظلم بالأُمّة الإسلامية عبر التاريخ، والظلم بأولياء الله الذين يرضى الله لرضاهم، ويغضب لغضبهم.

ويستحق الظالمون أن يُدعى عليهم بالجدع والعقر والبُعد، فيقال: جدعهم الله جدعاً وعقرهم الله عقراً، ومعناهما: قطع الله أيديهم وآذانهم وشفاههم وجرح الله أبدانهم.

(ويحهم) ويح: كلمة تستعمل في مقام التعجّب، وقد يكون معناها الويل.

(أنَّى زحزحوها عن رواسي الرسالة؟) وفي نسخة: (زعزعوها) تتعجّبعليها‌السلام من سوء اختيارهم، أي كيف نحّوا خلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن مواضعها الثابتة التي هي بمنزلة الجبال

٤٤٥

لحركة الأرض وسيرها بصورة منظمة وحفظها من الاضطراب؟!

(وقواعد النبوّة) القواعد: جمع قاعدة وهي - هنا - الأساس للبناء، فكما أنّ البناء إذا بُني على غير أساس ينهدم فكذلك الخلافة، إذا وُضعت في غير موضعها اللائق بها تنهار معنوياً، ويختل نظامها، وتضطرب أركانها.

(ومهبط الروح الأمين) كان جبرئيل يهبط في بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبيوت أهل بيته، وبيت فاطمة مهبط الروح الأمين.

(والطبين بأمر الدنيا والدين) الفطن الحاذق بأمور الدنيا المتعلّقة بالحياة، وكذلك القضايا المتعلّقة بالدين في جميع المجالات وشتّى الأحكام، وتقصد بذلك أهل بيت الرسولعليهم‌السلام وتخصّ زوجها الحكيم العظيم الإِمام أمير المؤمنينعليه‌السلام .

(ألا: ذلك هو الخسران المبين) أي والله، خسران واضح خسرته الأُمّة الإِسلامية في جميع مجالات حياتها من الحياة الفردية والزوجية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية والصحيّة والسياسية والعمرانية والدينية والدنيوية والأُخروية.

كل ذلك حين سلبت الأمّةُ السلطةَ والقدرةَ من أهل بيت الرسول، وتصرّف في القيادة الإِسلامية أفراد كانوا هم والإِسلام على طرفي نقيض، إذ كان الإِسلام شيئاً آخر.

فكانت إراقة الدماء البريئة أسهل وأهون عندهم من إراقة الماء.

والتلاعب بالأحكام الإِلهيّة والقوانين الإِسلامية كالتلاعب بالكرة وغيرها من الألاعيب.

إنّ المآسي التي شملت الأُمّة الإِسلامية - عبر التاريخ - ممّا تقشعرّ منها

٤٤٦

الجلود، وتضطرب منها القلوب، كل ذلك من جرّاء القيادة غير الرشيدة التي تسلّمها أفراد من هذه الأُمّة.

وليس في هذا الكتاب مجال لاستعراض تلك المجازر الجماعية، والمذابح المؤلمة التي قام بها بعض حكّام المسلمين على مرّ التاريخ الإِسلامي.

فقد ستروا الكرة الأرضية بقشرة من المقابر التي ضمّت الآلاف المؤلّفة من النفوس البريئة، التي كانت ضحايا لأَهواءِ أفراد، وفداءً لكراسيّهم ومناصبهم وملذّاتهم، وأمّا الكبت والاضطهاد والحرمان والجوع والبؤس الذي ساد العباد والبلاد فحدّث ولا حرج.

نعم، هذا هو الخسران المبين، ولا يزال الحبل ممدوداً حتى اليوم وبعد اليوم.

(وما الذي نقموا من أبي الحسن؟) أي: أيّ شيء عابوه من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حتى نحوّه عن السلطة، وقدّموا غيره عليه؟

أنقصاً في العلم؟

أو جهلاً في الفتيا؟

أو سوءاً في الخلق؟

أو عاراً في الحسب؟

أو ضعفاً في الدين؟

أو عدم كفاءة في الأمور؟

أو جبناً في النفس؟

أو خِسّةً في النسب؟

أو قلّة في الشرف؟

أو بخلاً بالمال؟

أو أي عيب في مؤهّلاته وكفاءاته؟

٤٤٧

كل ذلك لم يكن، بل كان عليعليه‌السلام : أعلم هذه الأمّة جمعاء، وهو باب مدينة علم الرسول، وأقضاهم في الفتوى.

وأشبه الناس خلقاً بالرسول الذي كان على خُلُق عظيم.

وابن شيخ الأَباطح: أبي طالب، مؤمن قريش.

وأعبد الناس في هذه الأمّة.

وأشجعهم نفساً، وأقواهم قلباً، وأكثرهم جهاداً.

وكتلة من الفضائل.

وفي أوج الشرف والعظمة.

وأسخاهم كفّاً، وأبذلهم للمال.

إذن فما هو السبب في صرف الخلافة عنه إلى غيره؟

إنّ السيدة فاطمةعليها‌السلام تجيب على هذا السؤال، وتقول:

(نقموا منه - والله - نكير سيفه) أي عابوا شدّة سيفه، والمقصود: أنّ عليّاً كان قد قتل في الحروب والغزوات رجالات هؤلاء وأسلافهم، وحطّم شخصيّاتهم، فكانوا يكرهونه بسبب سيفه الخاطف للأرواح.

(وقلة مبالاته بحتفه) أي عدم اهتمامه واكتراثه بالموت، فالمجاهد الذي ينزل إلى جبهة القتال ينبغي أن يكون قليل المبالاة بالموت، فكما أنّه يَقتل كذلك يُقتل، وكان عليعليه‌السلام يقول: والله لا يبالي ابن أبي طالب أوقَع على الموت أو وقع الموت عليه.

(وشدِّة وطأتهُ ونكال وقعته) يقال: فلان شديد الوطأة أي شديد الأخذ وشديد القبض، والمقصود قوّة العضلات ومعرفة القتال، ونكال الوقعة أي كان يصنع صنيعاً يحذّر غيره ويجعله عبرة له، أي كانت ضربته وصدمته للأعداء نكالاً أي يورث الحذر والعبرة للآخرين.

(وتنمّره في ذات الله عزّ وجل) النمر شديد الغضب، إذا غضب

٤٤٨

لنفسه لم يبال: قلّ الناس أم كثروا، ولا يردّه شيء، ولا يحول دون هدفه حائل ولا يمنعه مانع، والرجل الشجاع الذي يجاهد بلا مبالاة ولا خوف، بل بكل غضب وشجاعة يقال في حقّه: تنمّر، أي صار شبيهاً بالنمر في الاقتحام.

لقد تلخّص من كلامهاعليها‌السلام أنّ سبب انحراف الناس عن عليعليه‌السلام كان لأغراض شخصية، وأمراض نفسية متأصّلة في قلوبهم.

فلقد قتل عليعليه‌السلام يوم بدر وأُحد وحنين والخندق وغيرها عدداً كبيراً لا يُستهان به من أقطاب الشرك، ورجالات الكفر، وشخصيّات الجاهلية، أمثال: عتبة وشيبة والوليد وعمرو بن عبد ودّ وعقبة بن الوليد وغيرهم، وأكثر قبائل العرب كانت موتورة بسيف عليعليه‌السلام .

وحتى، وبعد أن أسلمت تلك القبائل كانت رواسب الحقد والعداء كامنة في نفوسهم.

والنجاح الكبير الذي أحرزه عليعليه‌السلام في جميع المجالات من الطبيعي أن يهيّج الحسد في القلوب، والتقدّم الباهر الذي كان من نصيب عليعليه‌السلام في شتّى الميادين كان في قمّة فضائله.

فالآيات القرآنية التي نزلت في حقّه.

والأحاديث النبوية التي شملته دون غيره.

والموفّقيّة التي حازها عليعليه‌السلام وحده.

وخصائصه التي امتاز بها عن غيره من العالمين.

كان لها أسوأ الأثر في النفوس المريضة.

وكانت تلك الرواسب والآثار كامنة في الصدور، كأنّها نار تحت رماد حتى توفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلا الجو،

٤٤٩

وارتفع المانع فعند ذلك زال الرماد، وظهرت النار، وجعلت تلتهب وتشتعل.

بالله عليك انظر:

لقد مرّ عليك أنّ جماعة من الصحابة خطبوا السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام من أبيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرفضهم النبي، وحينما خطبها علي من الرسول وإذا به يجد الترحيب والتجاوب على أحسن ما يمكن.

أليس هذا ممّا يهيج الحسد في النفوس؟

ويأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر أن يذهب إلى مكّة بسورة البراءة ليقرأها على أهل مكّة، ويخرج أبو بكر بالسورة متوجّهاً نحو مكّة، فينزل جبرئيل على الرسول قائلاً: إنّ ربّك يأمرك أن تبلّغ هذه السورة بنفسك، أو يُبلّغها رجل منك. فيأمر النبي عليّاً أن يتوجّه نحو مكّة، ويتولّى قراءة السورة على أهل مكّة، ويأمر أبا بكر بالرجوع.

أليس هذا الأمر يهيج الحسد في القلوب؟

وهكذا وهلمّ جرّاً، سِر مع عليعليه‌السلام عبر تاريخ حياته تجده المقدَّم على غيره في كافّة المجالات، ويمطره جبرئيل بآيات من الذكر الحكيم تقديراً لبطولاته، وتنويهاً لإنجازاته، وتقبّلاً لصدقاته، ومدحاً لخدماته.

والمسلمون يقرأون تلك الآيات آناء الليل وأطراف النهار راضين أو مرغمين.

ومن العجيب: أنّ علياً كان يخوض غمار الحروب بأمر الرسول، ولأجل التحفّظ على حياة الرسول، الرسول الذي كان الإسلام متمثّلاً ومتجسّداً فيه وقائماً به، فكيف كان الناس يكرهون عليّاً وهو الجندي ولا يكرهون الرسول وهو القائد للجيش؟‍‍‍‍‍!

٤٥٠

في البحار عن أبي زيد النحوي قال: سألت الخليل بن أحمد العروضي فقلت: لِمَ هجر الناس عليّاًعليه‌السلام وقُرباه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قرباه، وموضعه من المسلمين موضعه، وعناؤه في الإسلام عناؤه؟؟

فقال: بَهَر - والله - نورُه أنوارهم، وغلبهم على صفو كل منهل، والناس إلى أشكالهم أميَل، أما سمعت الأول يقول:

وكل شكلٍ لشكله ألفُ

أما ترى الفيل يألف الفيلا

وأنشدنا الرياشي عن العباس بن الأحنف:

وقائلٍ كيف تهاجرتما؟

فقلت قولاً فيه إنصافُ:

لم يك من شكلي فهاجرته

والناس أشكال وأُلاّفُ

وقال ابن عمر لعليعليه‌السلام : كيف تحبّك قريش وقد قتلت في يوم بدر وأُحد من ساداتهم سبعين سيّداً، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاههم؟ فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :

ما تركت بدر لنا مذيقا

ولا لنا من خلقنا طريقا

ومن الواضح أنّ الأمور ليست عيوباً ونقائص حتى يكره الناس عليّاً بسببها ومعنى كلام الزهراءعليها‌السلام : (نقموا منه - والله - نكير سيفه) من باب قول الشاعر:

ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم

بهنَّ فلول من قراع الكتائبِ

والمقصود: أنّهم عابوا عليّاً على فضائله ومناقبه، وعلى إنجازاته وخدماته وعلى شجاعته وتضحياته، وجهاده وبطولاته، وليست هذه عيوباً حتى يُعاب علي عليها.

هذا ومن المؤسف أنّ الموضوع يناسب الشرح والتفصيل أكثر من

٤٥١

هذا، ولكن رعاية لأسلوب الكتاب نُرجئ البحث إلى فرصة أُخرى أو كتاب آخر.

(والله لو تكافوّا عن ذمام نبذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليه لاعتلقه)

شبّهت السيدة فاطمةعليها‌السلام المجتمع الإِسلامي أو الأمّة الإسلامية بالقافلة، وشبّهت الخلافة والقيادة الإِسلامية بالزمام وهو المقود، أي الحبل الذي يقاد به البعير، وشبّهت عليّاًعليه‌السلام بالدليل الذي يتقدّم القافلة، ويأخذ بزمام البعير ليقود المسيرة.

ولم تنس السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام أن تقول: (نبذه رسول الله إليه) أي إنّ القيادة الإِسلامية إنّما صارت لعليعليه‌السلام بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين قام في الناس رافعاً صوته: (مَن كنت مولاه فعليّ مولاه).

وبعد هذا تقسم بالله قائلة: (والله) فالمسألة مهمّة وعظيمة جدّاً جدّاً وتستحق أن يقسم الإِنسان بالله لأجلها.

(لو تكافّوا) أي كفّوا أيديهم، أي منع بعضهم بعضاً، بحيث لو أراد أحدهم تناوله منعه الآخرون (لاعتلقه) أي اعتلق عليعليه‌السلام الزمام، أي قام بالواجب كما ينبغي وقاد المسيرة على أحسن ما يتصوّر، وأفضل ما يرام.

ثم وصفتعليها‌السلام نتائج تلك القيادة الرشيدة لو كان يفسح لها المجال، وذكرت الفوائد والمنافع والخيرات والبركات التي كانت تعمّ الأمّة الإِسلامية على مرّ القرون والأجيال فقالت:

(ثم لسارَ بِهم سيراً سجحاً) أي سار القائد بالمسيرة سيراً ليّناً سهلاً، بكل هدوء وطمأنينة، فإنّ البعير إذا سار بالراكب سيراً عنيفاً فلا بدَّ وأنّ

٤٥٢

الراكب يتأذّى من الحركة العنيفة، وتتحطّم أعصابه لما في ذلك من الإزعاج والقلق.

ثم البعير نفسه يتألّم حينما يجاذبه الراكب الحبل الذي قد دخل في ثقب أنفه وربّما يجرح أنفه أيضاً، فيتأذّى الراكب والمركوب، ولكنّ السيدة فاطمة تقول:

(لا يكلم خشاشه، ولا يتعتع راكبه) وفي نسخة: (ولا يكلّ سائره ولا يملّ راكبه) أي الحبل أو الخشب الذي جعل في أنف البعير ويقال له (الخشاش) لا يجرح أنف البعير، ولا ينزعج راكب البعير، والمقصود: سلامة الراكب عن كل مشقّة حال السير.

(ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً) وفي نسخة: (منهلاً رويّاً) إنّ الدليل الذي يتقدّم القافلة لا بد وأن ينزل بهم منزلاً حسناً، ومكاناً لائقاً للراحة، على شاطئ نهرٍ أو عين ماء، ليأخذوا حاجتهم من الماء، ويسقوا دوابهم وغير ذلك.

تقول السيدة فاطمةعليها‌السلام : كان عليعليه‌السلام يقود المسيرة إلى منهل نمير، والمنهل: المورد أي محل ورود الإِبل، والنمير: العذب، النابع من عين لا ينقطع ماؤها، والفضفاض: الواسع.

(تطفح ضفّتاه، ولا يترنّق جانباه) النهر إذا كان ممتلئاً يفيض جانباه وإذا كان عذباً لا يتكدّر جانباه بالطين كما هو المشاهد من تكدّر الماء بالطين على جوانب النهر، بل وحتى البحر.

فالكثرة والسعة في المجرى والعذوبة والنظافة وعدم التلوّث بالطين وغيره من صفات ذلك الماء.

وكلّها إشارات وكنايات إلى الحياة السعيدة التي كان الناس يعيشونها لو كان الأمر بيد الإِمام أمير المؤمنين، فالخيرات كانت تشمل أهل الأرض،

٤٥٣

والعدل يسود المجتمع، والسلامة كانت تعمّ الجميع، والرفاهية والاستقرار والطمأنينة والأمان والحرية - بمعناها المعقول - والسعادة في الدنيا، والنعيم في الآخرة كان من نصيب الجميع.

(ولأصدرهم بطاناً) وكانت نتيجة ذلك الورود هو الصدور من المنهل، والخروج من ذلك المورد بالشبع والارتواء، فلا جوع ولا حرمان، ولا فقر ولا مسكنة.

(ونصح لهم سرّاً وإعلاناً) النصح: حُب الخير، وعدم الغش، والمعنى: أنّ عليّاً كان يسعى في إسعادهم وجلب الخير لهم بصورة سرّية وعلنيّة، أي ما كان يطلب من وراء تلك القيادة إلاَّ الخير للناس لا لنفسه.

(ولم يكن يحلَّى من الغنى بطائل، ولا يحظى من الدنيا بنائل، غير ريّ الناهل وشبعة الكافل) وهنا تذكر السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام موقف زوجها من تلك القيادة والزعامة العامّة.

وقبل كل شيء: ينبغي أن لا ننسى أنّ في العالم أفراداً يحبّون القيادة والرئاسة لأنفسهم، أي يحبّون أن يحكموا على الناس، ويتصرّفوا كما يشاءون وكما يريدون، ويحبّون الرئاسة؛ لأنّها وسيلة تحقيق أهدافهم وأُمنياتهم الشخصية فهم يتنعّمون من وراء تلك الرئاسة بشتّى أنواع النعم، ويختارون لأنفسهم أفضل حياة.

وهناك أفراد - وقليل ما هم - يحبّون الرئاسة والقيادة ليخدموا الناس، ويصلحوا المجتمع، ويجلبوا الخير والسعادة للشعوب، ليعيش الناس آمنين مطمئنين، ولتكون لهم حياة مشفوعة بالراحة والخير والنعيم.

إنّ هذه الطائفة من أولياء الله لا يشعرون بالنقص في أنفسهم كي يكمّلوا أو يستروا ذلك النقص بالفخفخة والجبروت، بل إنّهم يشعرون بالكمال في أنفسهم، فهم في غنى عن الناس، والناس بحاجة إليهم، إن

٤٥٤

هؤلاء لو حكموا لنفعوا الناس وأصلحوهم، وأمنّوا حياتهم من جميع نواحيها.

وفي الوقت نفسه لا يستفيدون ولا ينتفعون من حطام الدنيا، ولا تطيب نفوسهم أن يتنعّموا بأموال الفقراء، ويبنوا قصورهم على عظام الضعفاء، إنّهم يحملون نفوساً أبيّة وأنوفاً حميّة، وأرواحاً طيّبة تستنكف التنازل إلى هذا المستوى السافل.

بعد هذا يتضح لنا كلام السيدة فاطمةعليها‌السلام حول موقف زوجها تجاه القيادة لو كان يفسح له المجال، ولا يغلق عليه الطريق.

تقول: (ولم لم يكن يحلّى من الغنى بطائل) أي لو كان علي جالساً على منصّة الحكم ما كان يستفيد من أموال الناس لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من بيوت الأموال لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من أموال الناس وكنوز الثروة خيراً.

(ولا يحظى من الدنيا بنائل) ما كان ينال من ثروات الدنيا بالعطاء سوى مقدار إرواء نفسه من العطش، وإشباع عائلته من الجوع.

احفظ هذه الجملة وانظر إلى حياة الحكّام والسلاطين في العالم، تجدهم يسكنون أفخم المساكن، ويلبسون أفخر الملابس، ويأكلون ألذَّ المآكل، ويركبون أحسن المراكب، ويؤثثون بيوتهم بأغلى الأثاث، ويعيشون أفضل المعيشة.

ولا تسأل عن الذخائر التي يدّخرونها ليوم ما؟!

كل ذلك من بيت المال، وكل ذلك من أموال الدولة وأموال الشعب!!

نعم، إنّ السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام هكذا تعرّف زوجها، والتاريخ الصحيح يصدّق كلامها والواقع يؤيّد ادعائها.

فلقد حكم الإِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام أربع

٤٥٥

سنوات وشهوراً، فكانت حياته هكذا مائة بالمائة،

فلقد كتبعليه‌السلام إلى عثمان بن حنيف كتاباً يقول فيه: (ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بِقُرصيه... فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضكم شبراً؛ بلى، كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّتها الخضراء، فشحّت عليها نفوس قوم وسختْ عنها نفوس قوم آخرين...) إلى آخر كلامهعليه‌السلام .

وهنا سؤال لابد من الإجابة عليه وهو: إذا كان الإمام عليعليه‌السلام بهذه الأوصاف التي ذكرتها الزهراءعليها‌السلام ووصفته بها... فلماذا - حينما حكم على الناس، وتسلّم القيادة وجلس على منصّة الخلافة - حدثت الاضطرابات الداخلية، والحروب الأهلية الدامية، والمشاكل والمصائب والمذابح التي شملت الأُمّة الإِسلامية في عهده؟؟

نجيب على هذا بما يلي:

لا شك أنّ المجتمع الإسلامي في عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مجتمعاً صالحاً من جميع النواحي، ولكن الذين حكموا المجتمع بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله خلال ربع قرن قد غيّروا وبدّلوا وتصرّفوا تصرّفات غير مُرْضية.

ولو ألقيت نظرة إمعان على تاريخ الحكّام الذين تسلّموا السلطة بعد الرسول مباشرة خلال خمسة وعشرين عاماً؛ لرأيت كمّيّة وافرة من الأوامر والفتاوى والأحكام المضادّة للشريعة الإِسلامية من الكتاب والسنّة، من تغيير الوضوء والأذان وكيفيّة الصلاة وعدد ركعاتها إلى الحج إلى الجهاد إلى النكاح وإلى الطلاق وهكذا وهلَّم جرَّا.

ولو أردنا أن نذكر الشواهد والأمثلة لهذه المواضيع لطال بنا الكلام،

٤٥٦

ولكنّنا نكتفي - هنا - بمثال واحد كنموذج. ولك أن تقتبس من هذا المثال بقيّة الأمثلة:

مجزرة خالد بن الوليد

خرج خالد بن الوليد بجيشه إلى بعض قبائل المسلمين. وكان في تلك القبيلة رجل من المسلمين اسمه: مالك بن نويرة، قد أسلم على يد النبي وشهد له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالجنّة وشهد عمر بن الخطاب بإسلامه فقتله خالد بن الوليد بغير ذنب سوى ذنب واحد، وهو أنّ زوجته كانت من أجمل نساء قومها وقد رآها خالد بن الوليد وطمع فيها، ولم يجد طريقة للاستيلاء عليها سوى قتل زوجها المسكين فقتله خالد، وفي نفس الليلة زنى بزوجته.

وحينما رجع خالد إلى المدينة لم يجد أيّ عقاب أو عتاب من رئيس الدولة يومذاك هذا هو المتفق عليه بين المؤرخين بلا استثناء، مع العلم أنّ الإِسلام لم يسمح بنكاح المعتدّة ما دامت في العدّة، والرجل لم يتزوج بها.

هذه المأساة التي تجدها في أكثر التواريخ، أتعلم كم تشتمل هذه الفاجعة من إهدار الدماء البريئة وهتك الأعراض، وارتكاب الجرائم، والتلاعب بكرامات الناس ومقدّراتهم؟

وكم تتبدّل نظرة الناس إلى الدين وإلى الدولة الإِسلامية؟

وقد مرَّ عليك موقف هؤلاء اتجاه بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحيدة العزيزة واتجاه زوجها العظيم، وولديها الحسن والحسينعليهم‌السلام ؟

٤٥٧

القيادة الإسلامية المفكَّكة

إنّ الإسلام والقيادة الإسلامية وصلت إلى يد عليعليه‌السلام وهي مفكّكة العرى محطّمة الجوانب، مشوّهة السمعة.

ولمّا أراد الإِمام علي أن يصلح تلك المفاسد، وأن يعيد الإِسلام إلى طريقه السوي ويلبسه حلّة القداسة والجمال، وإذا به يجد أصحاب المطامع يقومون ضدّه، ويشهرون سيوفهم في وجهه، فتكوّنت الحروب الداخلية وقامت المجازر على قدمٍ وساق.

واعلم أنّ الذين أقاموا الحروب الداخلية ووضعوا نواتها الأساسية هم أربعة فقط: طلحة والزبير وعائشة ومعاوية.

وكان الزبير وطلحة يهدفان الوصول إلى الحكم من خلال إثارة الاضطرابات في حكومة خليفة رسول الله، وقد اتخذا عائشة ذريعة لذلك.

أمّا معاوية، فكان يهدف المحافظة على كرسيّه في الشام، كما صرّح هو بذلك فيما بعد.

وقد ذكرنا الشيء اليسير من تلك المآسي في الجزء الأوّل والثاني والثالث من شرح نهج البلاغة.

وأنت إذا راجعت وقارنت فسوف تنكشف لك أمور، وتتضح لك أسرار.

نحن لا زلنا في شرح الخطبة:

(ولبان لهم الزاهد من الراغب) إنّ السيدة فاطمةعليها‌السلام لا تزال توالي حديثها عن زوجها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وإنّه لو كان يستلم القيادة كان يقنع من الدنيا بالشيء اليسير اليسير، وذلك بمقدار

٤٥٨

إرواء عطشه وإشباع عائلته، وعند ذلك كان يظهر للناس الزاهد الحقيقي الذي لا يطمع في أموال الناس، كما يظهر الراغب الطامع الذي كان يخضم مال الله خضم الإِبل نبتة الربيع وأمثاله.

(والصادق من الكاذب) وظهر لهم الصادق الذي يصدق في أقواله وأفعاله من الكاذب الذي يكذب في ادعاءاته وتصرّفاته، وتكذّب أفعاله أقواله وشعاراته.

ثم إنّهاعليها‌السلام ختمت هذه المقطوعة من حديثها بالآية الكريمة، وطبّقتها على هذه الأمّة، فقالت:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ منَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) (١) .

ما أنسب هذه الآية بهذا المقام وما أجمل هذا التشبيه في هذا الكلام؟

وتقصد السيدة فاطمة أنّ الناس لو كانوا يقبلون كلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في تعيين علي بالخلافة وكانوا ينقادون له لكانت الدنيا لهم روحاً وريحاناً وجنّة نعيم، ولكنّهم خالفوه واختاروا غيره، وبعملهم هذا كذَّبوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تكذيباً عملياً، فسوف يشاهدون الويلات تنصبُّ عليهم.

وأردفت هذه الآية بمثلها، فقالت:( وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ) (٢) .

وسيأتيك القول بالتفصيل عن الويلات والمآسي التي انصبَّت على الأُمّة الإِسلامية من جرّاء تلك القيادة الشاذّة ومضاعفاتها.

(ألا: هلمّ واستمع) وفي نسخة: (هلممن واستمعن) فعلى النسخة

____________________

(١) الأعراف: ٩٦.

(٢) الزمر: ٥١.

٤٥٩

الأُولى يكون الخطاب عاماً للجميع، وعلى النسخة الثانية يكون الخطاب خاصاً بالنساء اللاتي حضرن عيادتها.

(وما عشت أراك الدهر عجباً) أي كلما عشتَ أو مدة عيشك في الدنيا رأيت العجائب التي لا بالبال ولا بالخاطر.

(وإن تعجب فعجب قولهم) هذه الجملة من آية في سورة الرعد وهي: (وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد) اقتبست السيدة فاطمةعليها‌السلام هذه الجملة من الآية وأدمجتها في حديثها، والمقصود أن الناس يتعجبون من بعض الأمور وليست بعجيبة، ولا تستحق التعجب، وهناك أمور وقضايا عجيبة ينبغي أن يتعجب منها، لأنها أمور لا تنسجم مع الشرع ولا مع العقل ولا الوجدان ولا الضمير، ولا تدخل تحت أي مقياس من المقاييس الصحيحة.

والأمر العجيب هو ما يلي:

(ليت شعري إلى أي سناد استندوا؟

وعلى أيّ عماد اعتمدوا؟

وبأيّة عروة تمسّكوا؟

وعلى أيّة ذريّة أقدموا واحتنكوا؟)

إنّ الناس كانوا يستندون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وينقادون له، ويعتمدون على أقواله، ويطيعون أوامره؛ لأنّه مرسل من عند الله، ومتصل بالعالم الأعلى، قد توفّرت فيه الأهلية بجميع معنى الكلمة، فلا عجب في ذلك إذا خضع له الناس، وقدَّموه على كل شيء، ولكنّ العجب كل العجب أنّ بعض الناس بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تنازلوا إلى مستوى نازل جدّاً فسلّموا القيادة إلى أفراد لا توجد فيهم المؤهّلات.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568